موسوعة حديث الثقلين الجزء ١

موسوعة حديث الثقلين9%

موسوعة حديث الثقلين مؤلف:
الناشر: ستارة
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 978-600-5213-63-8
الصفحات: 619

الجزء ١ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 619 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 163559 / تحميل: 5099
الحجم الحجم الحجم
موسوعة حديث الثقلين

موسوعة حديث الثقلين الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ستارة
ISBN: ٩٧٨-٦٠٠-٥٢١٣-٦٣-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

٤- النظام الإسلامي

ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الأنظمة الأربعة : فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الأرض ، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة أُخرى وكلٌّ من النظامين يملك كياناً سياسيّاً عظيماً ، يحميه في صراعه مع الآخر ، ويسلِّحه في معركته الجبّارة التي يخوضها أبطاله في سبيل الحصول على قيادة العالم ، وتوحيد النظام الاجتماعي فيه

وأمّا النظام الشيوعي والإسلامي فوجودهما بالفعل فكري خالص غير أنّ النظام الإسلامي مرّ بتجربة من أروع تجارب النُّظُم الاجتماعية وأنجحها ، ثمّ عصفت به العواصف بعد أن خلا الميدان من القادة المبدئيّين أو كاد ، وبقيت التجربة في رحمة أُناس لم ينضج الإسلام في نفوسهم ، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره ، فعجزت عن الصمود والبقاء ، فتقوَّض الكيان الإسلامي ، وبقي نظام الإسلام فكراً في ذهن الأُمّة الإسلامية ، وعقيدةً في قلوب المسلمين ، وأملاً يسعى إلى تحقيقه أبناؤه المجاهدون وأمّا النظام الشيوعي فهو فكرة غير مُجرَّبة حتّى الآن تجربة كاملة ، وإنّما تتّجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم إلى تهيئة جوٍّ اجتماعي له ، بعد أن عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم ، فأعلنت النظام الاشتراكي ، وطبّقته كخطوة إلى الشيوعية الحقيقية

فما هو موضعنا من هذه الأنظمة ؟

وما هي قضيّتنا التي يجب أن ننذر حياتنا لها ، ونقود السفينة إلى شاطئها ؟

٢١

الديمقراطية الرأسمالية

ولنبدأ بالنظام الديمقراطي الرأسمالي ، هذا النظام الذي أطاح بلون من الظلم في الحياة الاقتصادية ، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية ، وبجمود الكنيسة وما إليها في الحياة الفكرية ، وهيّأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة جديدة حلَّت محلّ السابقين ، وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في أسلوب جديد

وقد قامت الديمقراطية الرأسمالية على الإيمان بالفرد إيماناً لا حدّ له ، وبأنّ مصالحه الخاصّة بنفسها تكفل- بصورة طبيعية- مصلحة المجتمع في مختلف الميادين وأنّ فكرة الدولة إنّما تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصّة ، فلا يجوز لها أن تتعدَّى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها

ويتلخّص النظام الديمقراطي الرأسمالي في إعلان الحرّيات الأربع : السياسية ، والاقتصادية ، والفكرية ، والشخصية

فالحرّية السياسية تجعل لكلّ فرد كلاماً مسموعاً ، ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامّة للأُمّة : وضع خططها ، ورسم قوانينها ، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها ؛ وذلك لأنّ النظام الاجتماعي للأمّة ، والجهاز الحاكم فيها ، مسألةٌ تتّصل اتّصالاً مباشراً بحياة كلّ فرد من أفرادها ، وتؤثّر تأثيراً حاسماً في سعادته أو شقائه ، فمن الطبيعي ، حينئذٍ ، أن يكون لكلّ فرد حقّ المشاركة في بناء النظام والحكم

وإذا كانت المسألة الاجتماعية ـ كما قلنا ـ مسألة حياة أو موت ، ومسألة سعادة أو شقاء للمواطنين الذين تسري عليهم القوانين والأنظمة العامّة

٢٢

فمن الطبيعي- أيضاً- أن لا يباح الاضطلاع بمسؤوليّتها لفرد أو لمجموعة خاصّة من الأفراد ـ مهما كانت الظروف ـ ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في نزاهة قصده ورجاحة عقله على الأهواء والأخطاء

فلابدّ إذن من إعلان المساواة التامّة في الحقوق السياسية بين المواطنين كافةً ؛ لأنّهم يتساوون في تحمُّل نتائج المسألة الاجتماعية ، والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعية والتنفيذية وعلى هذا الأساس قام حقّ التصويت ومبدأ الانتخاب العامّ الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم ، بكلّ سلطاته وشُعَبه ، عن أكثرية المواطنين

والحرّية الاقتصادية ترتكز على الإيمان بالاقتصاد الحرّ ، وتقرّر فتح جميع الأبواب ، وتهيئة كلّ الميادين إمام المواطن في المجال الاقتصادي فيباح التملّك للاستهلاك وللإنتاج معاً ، وتباح هذه الملكية التي يتكوّن منها رأس المال من غير حدٍّ وتقييد ، وللجميع على حدٍّ سواء فلكلّ فرد مطلق الحرّية في انتهاج أيّ أُسلوب وسلوك أيّ طريق لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية

وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرّية الاقتصاديّة أنّ قوانين الاقتصاد السياسي ، التي تجري على أُصول عامّة بصورة طبيعية ، كفيلة بسعادة المجتمع ، وحفظ التوازن الاقتصادي فيه ، وأنّ المصلحة الشخصية التي هي الحافظ القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه ، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامّة وأنّ التنافس الذي يقوم في السوق الحرّة ، نتيجةً لتساوي المنتجبين والمتّجرين في حقّهم من الحرّية الاقتصادية ، يكفي وحده لتحقيق روح العدل والإنصاف في شتّى الاتفاقات والمعاملات فالقوانين الطبيعية للاقتصاد تتدخّل ـ مثلاً ـ في حفظ المستوى الطبيعي للثمن ، بصورة تكاد أن تكون آلية ؛ وذلك أنّ

٢٣

الثمن إذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة انخفض الطلب بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم بأنّ ارتفاع الثمن يؤثّر في انخفاض الطلب ، وانخفاض الطلب بدوره يقوم بتخفيض الثمن ، تحقيقاً لقانون طبيعي آخر ، ولا يتركه حتّى ينخفض به إلى مستواه السابق ، ويزول الشذوذ بذلك

والمصلحة الشخصية تفرض على الفرد ـ دائماً ـ التفكير في كيفية إزادة الإنتاج وتحسينه ، مع تقليل مصارفه ونفقاته ؛ وذلك يحقّق مصلحة المجتمع ، في نفس الوقت الذي يعتبر مسألة خاصّة بالفرد أيضاً

والتنافس يقتضي ـ بصورة طبيعية ـ تحديد أثمان البضائع ، وأُجور العمال والمستخدمين بشكل عادل ، لا ظلم فيه ولا إجحاف ؛ لأنّ كلّ بائع أو منتج يخشى من رفع أثمان بضائعه ، أو تخفيض أُجور عمّاله ، بسبب منافسة الآخرين له من البائعين والمنتجبين

والحرّية الفكرية تعني : أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم وأفكارهم ، يفكّرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم ، ويعتقدون ما يصل إليه اجتهادهم ، أو ما توحيه إليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة فالدولة لا تسلب هذه الحرّية عن فرد ، ولا تمنعه عن ممارسة حقّه فيها ، والإعلان عن أفكاره ومعتقداته ، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده

والحرّية الشخصية تعبّر عن تحرُّر الإنسان في سلوكه الخاصّ من مختلف ألوان الضغط والتحديد ، فهو يملك إرادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصّة ، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاصّ من مضاعفات ونتائج ، ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكهم فالحدّ النهائي الذي تقف عنده الحرّية الشخصية لكلّ فرد : حرّية الآخرين فما لم يمسّها الفرد بسوء

٢٤

فلا جناح عليه أن يكيّف حياته باللون الذي يحلو له ، ويتّبع مختلف العادات والتقاليد والشعائر والطقوس التي يستذوقها ؛ لأنّ ذلك مسألة خاصّة تتّصل بكيانه وحاضره ومستقبله وما دام يملك هذا الكيان ، فهو قادر على التصرّف فيه كما يشاء

وليست الحرّية الدينية ـ في رأي الرأسمالية التي تنادي بها ـ إلاّ تعبيراً عن الحرّية الفكرية في جانبها العقائدي ، وعن الحرّية الشخصية في الجانب العملي الذي يتّصل بالشعائر والسلوك

ويُستخلَص من هذا العرض : أنّ الخطّ الفكري العريض لهذا النظام ـ كما ألمحنا إليه ـ هو : أنّ مصالح المجتمع بمصالح الأفراد ، فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الاجتماعي ، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يُسخَّر لخدمة الفرد وحسابه ، والأداة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها

هذه هي الديمقراطية الرأسمالية في ركائزها الأساسية التي قامت من أجلها جملة من الثورات ، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والأُمم ، في ظلّ قادة كانوا حين يعبّرون عن هذا النظام الجديد ويعِدونهم بمحاسنه ، يصفون الجنّة في نعيمها وسعادتها ، وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء وقد أُجريت عليها بعد ذلك عدّة من التعديلات ، غير أنّها لم تمسّ جوهرها بالصميم ، بل بقيت محتفظةً بأهمّ ركائزها وأُسسها

الاتجاه المادّي في الرأسمالية :

ومن الواضح أنّ هذا النظام الاجتماعي نظامٌ مادّيٌّ خالص ، أُخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه وآخرته ، محدوداً بالجانب النفعي من حياته المادّية ،

٢٥

وافتُرِض على هذا الشكل ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح المادّية الطاغية لم يبنَ على فلسفة مادّية للحياة ، وعلى دراسة مفصّلة لها

فالحياة في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام ، فُصِلت عن كلّ علاقة خارجة عن حدود المادّة والمنفعة ، ولكن لم يُهيَّأ لإقامة هذا النظام فهمٌ فلسفيٌّ كامل لعملية الفصل هذه ولا أعني بذلك : أنّ العالم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادّية وأنصار لها ، بل كان فيه إقبال على النزعة المادّية تأثُّراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي(١) ، وبروح الشكّ والتبلبل الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي في طائفة من الأفكار كانت تُعَدُّ من أوضح الحقائق وأكثرها صحّة(٢) ، وبروح

____________________

(١) فإنّ التجربة اكتسبت أهمية كُبرى في الميدان العلمي ، ووفِّقت توفيقاً ـ لم يكن في الحسّبان ـ إلى الكشف عن حقائق كثيرة ، وإزاحة الستار عن أسرار مدهشة ، أتاحت للإنسانية أن تستثمر تلك الأسرار والحقائق في حياتها العملية وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة ، أشاد لها قدسيّةً في العقليّة العامّة ، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقليّة ، وعن كلّ الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحسّ والتجربة ، حتّى صار الحسّ التجريبي في عقيدة كثير من التجْرِيبيين الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم

وسوف نوضِّح في هذا الكتاب : أنّ التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي وأنّ الأساس الأوّل للعلوم والمعارف هو العقل الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحسّ ، كما يدرك الحقائق المحسوسة (المؤلّفقدس‌سره )

(٢) فإنّ جملة من العقائد العامّة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العامّ ، مع أنّها لم تكن قائمةً على أساس من منطق عقلي ، أو دليل فلسفي ، كالإيمان بأنّ الأرض مركز العالم فلمّا انهارت هذه العقائد في ظلّ التجارب الصحيحة ، تزعزع الإيمان العامّ ، وسيطرت موجة من الشكّ على كثير من الأذهان ، فبُعِثت السفسطة اليونانية من جديد متأثّرة بروح الشكّ ، كما تأثّرت في العهد اليوناني بروح الشكّ الذي تولَّد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدّة الجدل بها (المؤلّف قدس‌سره )

٢٦

التمرّدوالسخط على الدين المزعوم الذي كان يجمِّد الأفكار والعقول ، ويتملّق للظلم والجبروت ، وينتصر للفساد الاجتماعي في كلّ معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين(١)

فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادّية في كثير من العقليّات الغربية

كلّ هذا صحيح ، ولكنّ النظام الرأسمالي لم يركّز على فهم فلسفي مادّي للحياة ، وهذا هو التناقض والعجز ، فإنّ المسألة الاجتماعية للحياة تتّصل بواقع الحياة ، ولا تتبلور في شكل صحيح إلاّ إذا أُقيمت على قاعدة مركزية ، تشرح الحياة وواقعها وحدودها ، والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة ، فهو ينطوي على خداع وتضليل ، أو على عجلة وقلّة أناة ، حين تجمّد المسألة الواقعية للحياة ، وتُدرَس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها ، مع أنّ قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية إلى واقع الحياة ، التي تموِّن المجتمع بالمادّة الاجتماعية ـ وهي : العلاقات المتبادلة بين الناس ـ وطريقة فهمه لها ، واكتشاف أسرارها وقيمها فالإنسان في هذا الكوكب إن كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة ، عالمة بأسراره وخفاياه ، بظواهره ودقائقه ، قائمة على تنظيمه وتوجيهه ، فمن الطبيعي أن يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوّة الخالقة ؛ لأنّها أبصر بأمره ، وأعلم

____________________

(١) فإنّ الكنيسة لعبت دوراً هاماً في استغلال الدين استغلالاً شنيعاً ، وجعْلِ اسمه أداةَ مآربها وأغراضها ، وخنق الأنفاس العلمية والاجتماعية ، وأقامت محاكم التفتيش ، وأعطت لها الصلاحيّات الواسعة للتصرّف في المقدَّرات ، حتّى تولّد عن ذلك كلّه التبرّم بالدين والسخط عليه ؛ لأنّ الجريمة ارتكبت باسمه ، مع أنّه في واقعه المصفّى وجوهره الصحيح لا يقلّ عن أُولئك الساخطين والمتبرّمين ضيقاً بتلك الجريمة ، واستفظاعاً لدوافعها ونتائجها (المؤلّف قدس‌سره )

٢٧

بواقعه ، وأنزه قصداً ، وأشدّ اعتدالاً منه

وأيضاً ، فإنّ هذه الحياة المحدودة إن كانت بداية الشوط لحياة خالدة تنبثق عنها ، وتتلوّن بطابعها ، وتتوقّف موازينها على مدى اعتدال الحياة الأُولى ونزاهتها ، فمن الطبيعي أن تنظّم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها ، وتقام على أُسس القِيَم المعنوية والمادّية معاً.

وإذن فمسألة الإيمان بالله وانبثاق الحياة عنه ليست مسألةً فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة ، لتُفصل عن مجالات الحياة ويشرّع لها طرائقها ودساتيرها مع إغفال تلك المسألة وفصلها ، بل هي مسألة تتّصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً

والدليل على مدى اتّصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها : أنّ الفكرة فيها تُقدَّم على أساس الإيمان بعدم وجود شخصية أو مجموعة من الأفراد بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها إلى الدرجة التي تبيح إيكال المسألة الاجتماعية إليها ، والتعويل في إقامة حياة صالحة للأُمّة عليها وهذا الأساس بنفسه لا موضعَ ولا معنىً له إلاّ إذا أُقيم على فلسفة مادّية خالصة ، لا تعترف بإمكان انبثاق النظام إلاّ عن عقل بشري محدود

فالنظام الرأسمالي مادّي بكلّ ما للّفظ من معنىً ، فهو إمّا أن يكون قد استبطن المادّية ، ولم يجرؤ على الإعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها وإمّا أن يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعي بين المسألة الوقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة التي لا بدّ لكلّ نظام اجتماعي أن يرتكز عليها وهو ـ بكلمة ـ نظام مادّي ، وإن لم يكن مقاماً على فلسفة مادّية واضحة الخطوط

٢٨

موضع الأخلاق من الرأسمالية :

وكان من جرّاء هذه المادّية التي زخر النظام بروحها أن أُقصيت الأخلاق من الحسّاب ، ولم يُلحَظ لها وجودٌ في ذلك النظام ، أو بالأحرى تبدّلت مفاهيمها ومقاييسها ، وأُعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى ، والحرّيات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة فنشأ عن ذلك أكثر ما ضجَّ به العالم الحديث من محن وكوارث ، ومآسي ومصائب.

وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية ، قائلين إنّ الهدف الشخصي بنفسه يحقّق المصلحة الاجتماعية ، وإنّ النتائج التي تحقّقها الأخلاق بقيمها الروحية تُحقَّق في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي ، لكن لا عن طريق الأخلاق ، بل عن طريق الدوافع الخاصّة وخدمتها ؛ فإنّ الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقّق بذلك مصلحةً شخصية أيضاً ؛ باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله ، وحين ينقذ حياة شخص تعرَّضت للخطر فقد أفاد نفسه أيضاً ؛ لأنّ حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية ، فيعود عليه نصيب منها ، وإذن ، فالدافع الشخصي والحسّ النفعي يكفيان لتأمين المصالح الاجتماعية وضمانها ، ما دامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصّة ومنافع فردية

وهذا الدفاع أقرب إلى الخيال الواسع منه إلى الاستدلال فتصوّر بنفسك أنّ المقياس العملي في الحياة لكلّ فرد في الأُمّة إذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصّة ، على أوسع نطاق وأبعد مدى ، وكانت الدولة تُوفِّر للفرد حرّياته وتقدِّسه بغير تحفّظ ولا تحديد ، فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد ؟! وكيف يمكن أن يكون اتّصال المصلحة الاجتماعية بالفرد كافياً لتوجيه

٢٩

الأفراد نحو الأعمال التي تدعو إليها القيم الخُلُقية ؟! مع أنّ كثيراً من تلك الأعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع ، وإذا اتّفق أن كان فيها شيء من النفع باعتباره فرداً من المجتمع ، فكثيراً ما يُزاحَم هذا النفع الضئيل ـ الذي لا يُدْرِكه الإنسان إلاّ في نظرة تحليلية ـ بفوات منافع عاجلة أو مصالح فردية تجد في الحرّيات ضماناً لتحقيقها ، فيطيح الفرد في سبيلها بكلّ برنامج الخُلُق والضمير الروحي

مآسي النظام الرأسمالي :

وإذا أردنا أن نستعرض الحلقات المتسلسلة من المآسي الاجتماعية التي انبثقت عن هذا النظام المرتجل- لا على أساس فلسفيٍّ مدروس ـ فسوف يضيق بذلك المجال المحدود لهذا البحث ؛ ولذا نلمّح إليها :

فأوّل تلك الحلقات : تحكُّم الأكثرية في الأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية ؛ فإنّ الحرّية السياسية كانت تعني : أنّ وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حقّ الأكثرية ولنتصوّر أنّ الفئة التي تمثِّل الأكثرية في الأُمّة ملكت زمام الحكم والتشريع ، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية ، وهي عقلية مادّية خالصة في اتّجاهها ونزعاتها ، وأهدافها وأهوائها ، فماذا يكون مصير الفئة الأُخرى ؟! أو ماذا ترتقب للأقلية من حياة في ظلّ قوانين تُشرَّع لحساب الأكثرية ولحفظ مصالحها ؟! وهل يكون من الغريب حينئذٍ إذا شَرَّعت الأكثرية القوانين على ضوء مصالحها خاصّة ، وأهملت مصالح الأقلية ، واتّجهت إلى تحقيق رغباتها اتّجاهاً مجحفاً بحقوق الآخرين ؟! فمن الذين يحفظ لهذه الأقلية كيانها الحيوي ، ويذبُّ عن وجهها الظلمَ ، ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كلّ فرد ، وما دامت الأكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليّتها الاجتماعية ؟! وبطبيعة الحال ، أنّ التحكّم سوف يبقى في ظلّ النظام كما كان

٣٠

في السابق ، وأنّ مظاهر الاستغلال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم ستُحفَظ في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الأجواء الاجتماعية القديمة

وغاية ما في الموضوع من فرق : أنّ الاستهتار بالكرامة الإنسانية كان من قِبَل أفراد بأُمّة ، وأصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثِّل الأكثريّات بالنسبة إلى الأقلِّيات التي تشكّل بمجموعها عدداً هائلاً من البشر

وليت الأمر وقف عند هذا الحدّ ، إذاً لكانت المأساة هيّنة ، ولكان المسرح يحتفل بالضحكات أكثر ممّا يعرض من دموع ، بل إنّ الأمر تفاقم واشتدّ حين برزت المسألة الاقتصادية من هذا النظام بعد ذلك ، فقرّرت الحرّية الاقتصادية على هذا النحو الذي عرضناه سابقاً ، وأجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه مهما كان فاحشاً ، ومهما كان شاذّاً في طريقته وأسبابه ، وضمنت تحقيق ما أعلنت عنه ، في الوقت الذي كان العالم يحتفل بانقلاب صناعي كبير ، والعلم يتمخَّض عن ولادة الآلة التي قلبت وجه الصناعة ، وكسحت الصناعات اليدوية ونحوها ، فانكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب الأقلية من أفراد الأُمّة ، ممّن أتاحت لهم الفرص وسائل الإنتاج الحديث ، وزوَّدتهم الحرّيات الرأسمالية غير المحدودة بضمانات كافية لاستثمارها واستغلالها إلى أبعد حدٍّ ، والقضاء بها على كثير من فئات الأُمّة التي اكتسحت الآلة البخارية صناعتها ، وزعزعت حياتها ، ولم تجد سبيلاً للصمود في وجه التيّار ، ما دام أرباب الصناعات الحديثة مسلّحين بالحرّية الاقتصادية ، وبحقوق الحرّيات المقدَّسة كلّها

وهكذا خلا الميدان إلاّ من تلك الصفوة من أرباب الصناعة والإنتاج ، وتضاءلت الفئة الوسطى ، واقتربت إلى المستوى العامّ المنخفض ، وصارت هذه الأكثرية المحطَّمة تحت رحمة تلك الصفوة التي لا تفكّر ولا تحسب إلاّ على الطريقة الديمقراطية الرأسمالية ومن الطبيعي حينئذٍ أن لا تمدُّ يد العطف

٣١

والمعونة إلى هؤلاء ، لتنتشلهم من الهوَّة ، وتشركهم في مغانمها الضخمة ولماذا تفعل ذلك ؟! ما دام المقياس الخُلُقي هو المنفعة واللذّة ، وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرّية فيما تعمل ، وما دام النظام الديمقراطي الرأسمالي يضيق بالفلسفة المعنوية للحياة ومفاهيمها الخاصّة

فالمسألة ـ إذاً ـ يجب أن تُدرَس بالطريقة التي يوحي بها هذا النظام ، وهي أن يستغلَّ هؤلاء الكبراء حاجة الأكثرية إليهم ، ومقوِّماتهم المعيشية ، فيفرض على القادرين العملُ في ميادينهم ومصانعهم في مدّة لا يمكن الزيادة عليها ، وبأثمان لا تفي إلاّ بالحياة الضرورية لهم هذا هو منطق المنفعة الخالص الذي كان من الطبيعي أن يسلكوه ، وتنقسم الأُمّة بسبب ذلك إلى فئة في قمّة الثراء ، وأكثرية في المهوى السحيق

وهنا يتبلور الحقّ السياسي للأُمّة من جديد بشكل آخر فالمساواة في الحقوق السياسية بين أفراد المواطنين وإن لم تمح من سجلّ النظام ، غير أنّها لم تعد بعد هذه الزعازع إلاّ خيالاً وتفكيراً خالصاً ؛ فإنّ الحرّية الاقتصادية حين تسجِّل ما عرضناه من نتائج ، تنتهي إلى الانقسام الفظيع الذي مرّ في العرض ، وتكون هي المسيطرة على الموقف والماسكة بالزمام ، وتُقهَر الحرّية السياسية أمامها ؛ فإنّ الفئة الرأسمالية بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع ، وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية ، وتمكُّنِها من شراء الأنصار والأعوان ، تهيمن على مقاليد الحكم في الأُمّة ، وتتسلّم السلطة لتسخيرها في مصالحها والسهر على مآربها ، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعاً لسيطرة رأس المال ، بعد أن كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية أنّه من حقّ الأُمّة جمعاء وهكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حُكماً تستأثر به الأقلية ، وسلطاناً يحمي به عدّة من الأفراد كيانهم على حساب الآخرين ، بالعقلية النفعية التي يستوحونها

٣٢

من الثقافة الديمقراطية الرأسمالية

ونصل هنا إلى أفظع حلقات المأساة التي يمثّلها هذا النظام ؛ فإنّ هؤلاء السادة الذين وضع النظامُ الديمقراطي الرأسمالي في أيديهم كلَّ نفوذ ، وزوَّدهم بكلّ قوّة وطاقة ، سوف يمدّون أنظارهم ـ بوحي من عقلية هذا النظام ـ إلى الآفاق ، ويشعرون بوحي من مصالحهم وأغراضهم أنّهم في حاجة إلى مناطق نفوذ جديدة ؛ وذلك لسبيين :

الأوّل : أنّ وفرة الإنتاج تتوقّف على مدى توفّر المواد الأوّلية وكثرتها ، فكلّ من يكون حظّه من تلك المواد أعظم تكون طاقاته الإنتاجية أقوى وأكثر وهذه المواد منتشرة في بلاد الله العريضة وإذا كان من الواجب الحصول عليها ، فاللازم السيطرة على البلاد التي تملك المواد ، لامتصاصها واستغلالها

الثاني : أنّ شِدَّة حركة الإنتاج وقوّتها بدافع من الحرص على كثرة الربح من ناحية ، ومن ناحية أُخرى انخفاض المستوى المعيشي لكثير من المواطنين بدافع من الشره المادّي للفئة الرأسمالية ، ومغالبتها للعامّة على حقوقها بأساليبها النفعية ، التي تجعل المواطنين عاجزين عن شراء المنتجات واستهلاكها ، كلّ ذلك يجعل كبار المنتجين في حاجة ماسّة إلى أسواق جديدة لبيع المنتجات الفائضة فيها ، وإيجاد تلك الأسواق يعني التفكير في بلاد جديدة

وهكذا تُدرَس المسألة بذهنية مادّية خالصة ومن الطبيعي لمثل هذه الذهنية التي لم يرتكز نظامها على القيم الروحية والخُلُقية ، ولم يعترف مذهبها الاجتماعي بغاية إلاّ إسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع والشهوات ، أن ترى في هذين السببين مبرّراً ومسوّغاً منطقيّاً للاعتداء على البلاد الآمنة ، وانتهاك كرامتها ، والسيطرة على مقدّراتها ومواردها الطبيعية الكبرى ، واستغلال ثرواتها لترويج البضائع الفائضة فكلّ ذلك أمر معقول وجائز في عرف المصالح الفردية

٣٣

التي يقوم على أساسها النظام الرأسمالي والاقتصاد الحرّ

وينطلق من هنا عملاق المادّة ، يغزو ويحارب ، ويقيِّد ويكبّل ، ويستعمر ويستثمر ؛ إرضاءً للشهوات وإشباعاً للرغبات فانظر ماذا قاست الإنسانية من ويلات هذا النظام ، باعتباره مادّياً في روحه وصياغته ، وأساليبه وأهدافه ، وإن لم يكن مركّزاً على فلسفة محدَّدة تتّفق مع تلك الروح والصياغة ، وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف كما ألمعنا إليه ؟!!

وقدِّرْ بنفسك نصيب المجتمع الذي يقوم على ركائز هذا النظام ومفاهيمه من السعادة والاستقرار ، هذا المجتمع الذي ينعدم فيه الإيثار والثقة المتبادلة ، والتراحم والتعاطف الحقيقي ، وجميع الاتّجاهات الروحية الخيِّرة ، فيعيش الفرد فيه وهو يشعر بأنّه المسئول عن نفسه وحده ، وأنّه في خطر من قبل كلّ مصلحة من مصالح الآخرين التي قد تصطدم به ، فكأنّه يحيا في صراع دائم ومغالبة مستمرّة ، لا سلاح له فيها إلاّ قواه الخاصّة ، ولا هدف له منها إلاّ مصالحه الخاصّة

٣٤

الاشتراكية والشيوعية

في الاشتراكية مذاهب متعدّدة ، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادّية الجدلية التي هي عبارة عن فلسفة خاصّة للحياة ، وفهم مادّي لها على طريقة ديالكتيكية وقد طبّق المادّيون الديالكتيكيون هذه المادّية الديالكتيكية على التأريخ والاجتماع والاقتصاد ، فصارت عقيدةً فلسفية في شأن العالم ، وطريقة لدرس التأريخ والاجتماع ، ومذهباً في الاقتصاد ، وخطّة في السياسة

وبعبارة أُخرى : أنّها تصوغ الإنسان كلّه في قالب خاصّ ، من حيث لون تفكيره ووجهة نظره إلى الحياة وطريقته العملية فيها ولا ريب في أنّ الفلسفة المادّية وكذلك الطريقة الديالكتيكية ليستا من بدع المذهب الماركسي وابتكاراته ، فقد كانت النزعة المادّية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي ، سافرةً تارة ، ومتواريةً أُخرى وراء السفسطة والإنكار المطلق ، كما أنّ الطريقة الديالكتيكيّة في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الإنساني ، وقد استكملت كلّ خطوطها على يد (هيجل ) الفيلسوف المثالي المعروف وإنّما جاء (كارل ماركس ) إلى هذا المنطق وتلك الفلسفة فتبنّاهما ، وحاول تطبيقها على جميع ميادين الحياة ، فقام بتحقيقين :

أحدهما : أن فسَّر التأريخ تفسيراً مادّياً خالصاً بطريقة ديالكتيكيّة

والآخر : زعم فيه أنّه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة التي يسرقها صاحب المال في عقيدته من العامّل(١) وأشاد على أساس هذين

____________________

(١) شرحنا هذه النظريّات مع دراسة علمية مفصّلة في كتاب (اقتصادنا) (المؤلّف قدس‌سره )

٣٥

التحقيقين إيمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي ، وإقامة المجتمع الشيوعي والمجتمع الاشتراكي الذي اعتبره خطوة للإنسانية إلى تطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملاً

فالميدان الاجتماعي في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات ، وكلّ وضع اجتماعي يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة مادّية خالصة ، منسجمة مع سائر الظواهر والأحوال المادّية ومتأثّرة بها ، غير أنّه في نفس الوقت يحمل نقيضه في صميمه ، وينشب ـ حينئذٍ ـ الصراع بين النقائض في محتواه ، حتّى تتجمَّع المتناقضات ، وتُحدِث تبدّلاً في ذلك الوضع وإنشاءً لوضع جديد ، وهكذا يبقى العراك قائماً حتّى تكون الإنسانية كلّها طبقةً واحدة ، وتتمثَّل مصالح كلّ فرد في مصالح تلك الطبقة الموحّدة في تلك اللحظة يسود الوئام ، ويتحقّق السلام ، وتزول نهائياً جميع الآثار السيّئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي ؛ لأنّها إنّما كانت تتولَّد من تعدّد الطبقة في المجتمع ، وهذا التعدّد إنّما نشأ من انقسام المجتمع إلى منتج وأجير وإذاً فلابدّ من وضع حدٍّ فاصل لهذا الانقسام ، وذلك بإلغاء الملكيّة وتختلف هنا الشيوعية عن الاشتراكية في الخطوط الاقتصادية الرئيسية ؛ وذلك لأنّ الاقتصاد الشيوعي يرتكز :

أوّلاً - على إلغاء المِلْكية الخاصّة ومحوها محواً تاماً من المجتمع ، وتمليك الثروة كلّها للمجموع ، وتسليمها إلى الدولة باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في إدارتها واستثمارها لخير المجموع واعتقاد المذهب الشيوعي بضرورة هذا التأميم المطلق إنّما كان ردّ الفعل الطبيعي لمضاعفات المِلْكية الخاصّة في النظام الديمقراطي الرأسمالي وقد بُرِّر هذا التأميم بأنّ المقصود منه إلغاء الطبقة الرأسمالية ، وتوحيد الشعب في طبقة واحدة ؛ ليُختم بذلك الصراع ، ويُسدّ على الفرد الطريق إلى استغلال شتّى الوسائل والأساليب لتضخيم ثروته ، إشباعاً

٣٦

لجشعه واندفاعاً بدافع الأثرة وراء المصلحة الشخصية

ثانياً - على توزيع السلع المنتجة على حسب الحاجات الاستهلاكية للأفراد ، ويتلخّص في النصّ الآتي : (من كلٍّ حسب قدرته ، ولكلّ حسب حاجته) ؛ وذلك أنّ كلّ فرد له حاجات طبيعية لا يمكنه الحياة بدون توفيرها ، فهو يدفع للمجتمع كلّ جهده ، فيدفع له المجتمع متطلّبات حياته ، ويقوم بمعيشته

ثالثاً ـ على منهاج اقتصادي ترسمه الدولة ، وتوفِّق فيه بين حاجة المجموع والإنتاج : في كمّيته ، وتنويعه ، وتحديده ؛ لئلاً يمنى المجتمع بنفس الأدواء والأزمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي حينما أطلق الحرّيات بغير تحديد

الانحراف عن العملية الشيوعية :

ولكنّ أقطاب الشيوعية الذين نادوا بهذا النظام لم يستطيعوا أن يطبّقوه بخطوطه كلّها حين قبضوا على مقاليد الحكم ، واعتقدوا أنّه لابدّ لتطبيقه من تطوير الإنسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها ، زاعمين أنّ الإنسان سوف يجيء عليه اليوم الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية والفردية ، وتحيا فيه العقلية الجماعية والنوازع الجماعية ، فلا يفكّر إلاّ في المصلحة الاجتماعية ، ولا يندفع إلاّ في سبيلها

ولأجل ذلك كان من الضروري ، في عرف هذا المذهب الاجتماعي ، إقامة نظام اشتراكي قبل ذلك ؛ ليتخلّص فيه الإنسان من طبيعته الحاضرة ، ويكتسب الطبيعة المستعدّة للنظام الشيوعي وهذا النظام الاشتراكي أُجريت فيه تعديلات مهمّة على الجانب الاقتصادي من الشيوعية

٣٧

فالخطّ الأوّل من خطوط الاقتصاد الشيوعي ، وهو : إلغاء الملكية الفردية ، قد بُدِّل إلى حلٍّ وسط ، وهو : تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجية والتجارات الداخلية الكبيرة ، ووضعها جميعاً تحت الانحصار الحكومي وبكلمة أُخرى : إلغاء رأس المال الكبير مع إطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وتركها للأفراد ؛ وذلك لأنّ الخطّ العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانية الذي أشرنا إليه ؛ حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم ، ويتهرَّبون من واجباتهم الاجتماعية ؛ لأنّ المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسدِّ حاجاتهم ، كما أنّ المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد ـ مهما كان شديداً ـ لأكثر من ذلك فعلام إذن يجهد الفرد ويكدح ويجدُّ ما دامت النتيجة في حسابه هي النتيجة في حالي الخمول والنشاط ؟! ولماذا يندفع إلى توفير السعادة لغيره وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته ، ما دام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة ، إلاّ القيمة المادّية الخالصة ؟!!

فاضطرّ زعماء هذا المذهب إلى تجميد التأميم المطلق ، وإلى تعديل الخطّ الثاني من خطوط الاقتصاد الشيوعي أيضاً ، وذلك بجعل فوارق بين الأُجور ؛ لدفع الأعمال إلى النشاط والتكامل في العمل ، معتذرين بأنّها فوارق مؤقّتة سوف تزول حينما يُقضى على العقلية الرأسمالية ، وينشأ الإنسان إنشاءً جديداً وهم لأجل ذلك يجرون التغييرات المستمرّة على طرائقهم الاقتصادية وأساليبهم الاشتراكية ؛ لتدارك فشل كلّ طريقة بطريقة جديدة ولم يوفَّقوا حتّى الآن للتخلّص من جميع الركائز الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي ، فلم تلغ ـ مثلاً ـ القروض الربوية نهائياً ، مع أنّها في الواقع أساس الفساد الاجتماعي في الاقتصاد الرأسمالي

٣٨

ولا يعني هذا كلّه أنّ أولئك الزعماء مقصّرون ، أو أنّهم غير جادّين في مذهبهم وغير مخلصين لعقيدتهم ، وإنّما يعني : أنّهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق ، فوجدوا الطريق مليئاً بالمعاكسات والمناقضات التي تضعها الطبيعة الإنسانية أمام الطريقة الانقلابية للإصلاح الاجتماعي الذي كانوا يبشّرون به ، ففرض عليه الواقع التراجعَ آملين أن تتحقّق المعجزة في وقت قريب أو بعيد

وأمّا من الناحية السياسية ، فالشيوعية تستهدف في نهاية شوطها الطويل إلى محو الدولة من المجتمع حين تتحقّق المعجزة ، وتعمّ العقلية الجماعية كلَّ البشر ، فلا يفكّر الجميع إلاّ في المصلحة المادّية للمجموع وأمّا قبل ذلك ، ما دامت المعجزة غير محقّقة ، وما دام البشر غير موحَّدين في طبقة ، والمجتمع ينقسم إلى قوى رأسمالية وعمّالية ، فاللازم أن يكون الحكم عمّالياً خالصاً ، فهو حكم ديمقراطي في حدود دائرة العمال ، ودكتاتوري بالنسبة إلى العموم وقد علَّلوا ذلك بأنّ الدكتاتورية العمّالية في الحكم ضرورية في كلّ المراحل التي تطويها الإنسانية بالعقلية الفردية ؛ وذلك حمايةً لمصالح الطبقة العامّلة ، وخنقاً لأنفاس الرأسمالية ، ومنعاً لها عن البروز إلى الميدان من جديد.

والواقع : أنّ هذا المذهب الذي تمثَّل في الاشتراكية الماركسية ، ثمّ في الشيوعية الماركسية ، يمتاز على النظام الديمقراطي الرأسمالي بأنّه يرتكز على فلسفة مادّية معيّنة ، تتبنّى فهماً خاصّاً للحياة ، لا يَعترف لها بجميع المثُل والقيم المعنوية ، ويعلِّلها تعليلاً لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة ، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة المادّية المحدودة وهذا على عكس الديمقراطية الرأسمالية ؛ فإنّها وإن كانت نظاماً مادّياً ولكنّها لم تبنَ على أساس فلسفيٍّ محدَّد فالربط الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية آمنت به الشيوعية المادّية ، ولم تؤمن به الديمقراطية الرأسمالية أو لم تحوّل إيضاحه

٣٩

وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقاً بالدرس الفلسفي وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركّز عليها وانبثق عنها ، فإنّ الحكم على كلّ نظام يتوقّف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية في تصوير الحياة وإدراكها

ومن السهل أن ندرك في أوّل نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفَّف أو الكامل ، أنّ طابعه العامّ هو إفناء الفرد في المجتمع ، وجعله آلة مسخَّرة لتحقيق الموازين العامّة التي يفترضها فهو على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحرّ الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخّره لمصالحه ، فكأنّه قد قُدِّر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية ـ في عرف هذين النظامين ـ أن تتصادما وتتصارعا فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في حدّ النظامين الذي أقام تشريعه على أساس الفرد ومنافعه الذاتية ، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوِّه الحياة في جميع شُعَبِها وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق ، فساند المجتمع ، وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء ، فأُصيب الأفراد بمحن قاسية قضت على حرّيتهم ووجودهم الخاصّ ، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير

المؤاخذات على الشيوعية :

والواقع : أنّ النظام الشيوعي وإن عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرّة بمحوه للملكية الفردية ، غير أنّ هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً ، وطريقة تنفيذه شاقّة على النفس لا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطرق والأساليب ، هذا من ناحية ومن ناحية أُخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كلّه ؛ لأنّه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء ، وتعيين النقطة التي انطلق منها الشرّ حتّى اكتسح العالم في ظلّ الأنظمة الرأسمالية ،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

مجرّد معرفة حالهم المذكورة فيه ، دون من كانوا من أصحابهم ( عليهم السلام )(١) .

وقريب منه ما ذكره مصحّح الكتاب المصطفوي(٢) ، كما ذكر أنّه صحّح الكتاب على عدّة نسخ ، منها : نسخة قديمة تاريخ كتابتها ٥٧٧ هـ ، كتبها منصور بن علي بن منصور الخازن ، وجاء في خمسة مواضع من حواشي الكتاب ، هكذا : ( بلغ مقابلة ، بقراءة السيّد نجم الدين محمّد بن أبي هاشم العلوي ، كتبه يحيى بن الحسن بن البطريق ) ، وابن البطريق توفّي سنة ٦٠٠ هـ ، وأُخرى قديمة ـ أيضاً ـ ، قوبلت بنسخة مقروءة على السيّد أحمد بن طاووس الحسني ( قدس سره ) ( ت ٦٧٣ هـ ) ، وتاريخها ٦٠٢ هـ(٣) .

وقال العلاّمة الطهراني ( ت ١٣٨٩ هـ ) ـ بعد أن ذكر تاريخ بدأ إملاء الشيخ الطوسي للاختيار على طلاّبه ، في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من صفر سنة ٤٥٦ هـ ، في المشهد الغروي المقدّس ، وذكر بعض من رتّبه ـ : وأصحّ ما رأيت ، النسخة التي اشتراها سيّدنا العلاّمة الحسن صدر الدين من ورثة العلاّمة ميرزا يحيى بن ميرزا شفيع الإصفهاني ، وهي بخطّ الشيخ نجيب الدين تلميذ صاحب المعالم ، وشاركه أستاذه في كتابة بعض صفحاته ، وقد كتبها على نسخة بخطّ الشهيد الأوّل المنقولة عن نسخة كان عليها تملّك السيّد أبي الفضائل أحمد بن طاووس ، وهي كانت بخطّ علي ابن حمزة بن شهريار الخازن ، وفرغ من كتابتها بالحلّة سنة ٥٦٢(٤) .

____________

١ ـ قاموس الرجال ١ : ٥٩ ، الفصل : الواحد والعشرون.

٢ ـ اختيار معرفة الرجال : ١٨ ، مقدّمة المصحّح.

٣ ـ انظر مقدّمة المصحّح لاختيار معرفة الرجال : ٢٠.

٤ ـ الذريعة ١ : ٣٦٥ [ ١٩١٢ ].

٢٢١
٢٢٢

(١٩) كتاب : تأويل ما نزل من القرآن الكريم

في النبيّ وآله صلّى الله عليهم

لمحمّد بن العبّاس بن الماهيار ( المعروف بابن الجُحام )

( من أعلام القرن الرابع )

الحديث :

قال السيّد شرف الدين علي الحسيني ( القرن العاشر ) في كتابه تأويل الآيات الظاهرة ، تحت آية :( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ) :

الأوّل : وأمّا تأويله ، قال محمّد بن العبّاس ( رحمه الله )(١) : حدَّثنا الحسين بن أحمد ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن هارون بن خارجة ، عن يعقوب بن شعيب ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، في قوله عزّ وجلّ :( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ) ، قال : « الثقلان نحن والقرآن »(٢) .

____________

١ ـ كتاب محمّد بن العبّاس ( ابن الجُحام ) مفقود في العصر الحاضر ، وقد نقلنا هذه الموارد عن كتاب تأويل الآيات الظاهرة للسيّد شرف الدين الاسترابادي ، والذي ذكر تحت الآية ( ٧٣ ) من سورة الإسراء ، في الجزء الأوّل من كتابه أنّه اطلع على الجزء الثاني من كتاب ابن الجُحام ، والذي يبدأ من هذه الآية ، ولم ير الجزء الأوّل.

٢ ـ تأويل الآيات الظاهرة ٢ : ٦٣٧ ح ١٧ ، وعنه البحراني ( ت ١١٠٧ هـ ) في البرهان ٤ : ٢٦٨ ح ١ ، ويظهر منه أنّه نقل عن الكتاب مباشرة ، ولكنّه صرّح في مقدّمة كتابه أنّه ينقل عنه بالواسطة ، وقال في مقدّمة البرهان ( ١ : ٤ ) : وقد كنت أوّلا قد

٢٢٣

الثاني : ويؤيّده ما رواه ـ أيضاً ـ عن محمّد بن همام ، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن السندي بن محمّد ، عن أبان بن عثمان ، عن زرارة ، قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) ، عن قول الله عزّ وجلّ :( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ) ، قال : « كتاب الله ، ونحن »(١) .

الثالث : ويؤيّده ما رواه ـ أيضاً ـ عن عبد الله بن محمّد بن ناجية ، عن مجاهد بن موسى ، عن ابن مالك ، عن حجام ، عن عطيّة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله ، حبل [ الله ] ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض »(٢) .

____________

جمعت في كتاب الهادي كثيراً من تفسير أهل البيت ( عليهم السلام ) ، قبل عثوري على . ، وتفسير الشيخ الثقة محمّد بن العبّاس بن ماهيار المعروف بابن الجُحام ، ما ذكره عنه الشيخ الفاضل شرف الدين النجفي ، وقال في مقدّمة البرهان ( باب ١٦ ) في ذكر الكتب المأخوذ منها الكتاب ( ١ : ٣٠ ) ـ بعد أن ذكر اسم الشيخ ابن الجُحام واسم كتابه ـ : وهذا الكتاب لم أقف عليه ، لكن أنقل عنه ما نقله الشيخ شرف الدين النجفي . ، وغاية المرام ٢ : ٣٤٤ ح ٣٢ ، الباب ٢٩ ، والمجلسي ( ت ١١١١ هـ ) في البحار ٢٤ : ٣٢٤ ح ٣٧ ، وقد رمز المجلسي لكتاب ( تأويل الآيات الظاهرة ) ولمختصره ( كنز جامع الفوائد ) برمز واحد ، وهو ( كنز ) ، لأنّ أحدهما مأخوذ من الآخر.

١ ـ تأويل الآيات الظاهرة ٢ : ٦٣٧ ح ١٨ ، وعنه البحراني ( ت ١١٠٧ هـ ) في البرهان ٤ : ٢٦٧ ح ٢ ، وغاية المرام ٢ : ٣٤٤ ح ٣٢ ، الباب ٢٩ ، والمجلسي في البحار ٢٤ : ٣٢٤ ح ٣٨.

٢ ـ تأويل الآيات الظاهرة ٢ : ٦٣٨ ح ١٩ ، وعنه البحراني ( ت ١١٠٧ هـ ) في البرهان ٤ : ٢٦٧ ح ٣ ، وغاية المرام ٢ : ٣٤٤ ح ٣٣ ، الباب ٢٩ ، وأضاف العبارة التي ذكرها شرف الدين في ذيل الحديث ، وهي : إنّما سمّاهما الثقلين لعظم خطرهما وجلالة قدرهما ، انظر : ما سنذكره في تأويل الآيات الظاهرة ، الحديث الخامس ، وانظر هذه الموارد الثلاثة في ( تأويل ما نزل من القرآن الكريم في النبيّ وآله صلّى الله عليهم ) المجموع من المصادر المختلفة ، من قبل الشيخ فارس تبريزيان الحسّون : ٣٥٣ ح ٣٩٠ ، و ٣٩١ ، و ٣٩٢ ، سورة الرحمن : ٣١.

٢٢٤

محمّد بن العبّاس بن الماهيار ( المعروف بابن الجُحام ) :

قال النجاشي ( ت ٤٥٠ هـ ) : محمّد بن العبّاس بن علي بن مروان بن الماهيار ، أبو عبد الله ، البزّاز ، المعروف بابن الجُحام ، ثقة ثقة ، من أصحابنا ، عين ، سديد ، كثير الحديث(١) .

وقال الشيخ ( ت ٤٦٠ هـ ) : سمع منه التلعكبري سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ، وله منه إجازة(٢) .

ونقل العلاّمة ( ت ٧٢٦ هـ ) عين كلام النجاشي(٣) .

وقال ابن داود ( ت ٧٠٢ هـ ) : ثقة ثقة ، من أصحابنا ، عين من أعيانهم ، كثير الحديث ، سديده(٤) .

كتاب تأويل ما نزل من القرآن الكريم في النبيّ وآله صلّى الله عليهم :

ذكره ضمن كتبه النجاشي ، وقال : له كتاب المقنع في الفقه ، ، كتاب ما نزل من القرآن في أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وقال جماعة من أصحابنا : إنّه كتاب لم يصنّف في معناه مثله ، وقيل : إنّه أَلْف ورقة(٥) ، وذكره الطوسي ،

____________

١ ـ رجال النجاشي : ٣٧٩ [ ١٠٣٠ ].

٢ ـ رجال الطوسي : ٤٤٣ [ ٦٣٢١ ] ، وانظر : فهرست الطوسي : ٤٢٣ [ ٦٥٣ ] ، إيضاح الاشتباه : ٢٨٨ [ ٦٦٥ ] ، تنقيح المقال ٣ : ١٣٥ ، طبقات أعلام الشيعة ( القرن الرابع ) : ٢٧٥ ، أعيان الشيعة ٩ : ٣٧٩.

٣ ـ خلاصة الأقوال : ٢٦٦ [ ٩٤٩ ].

٤ ـ رجال ابن داود : ١٧٥ [ ١٤١٥ ] ، القسم الأوّل.

٥ ـ رجال النجاشي : ٣٧٩ [ ١٠٣٠ ] ، وانظر : خلاصة الأقوال : ٢٦٦ [ ٩٤٩ ] ، طبقات أعلام الشيعة ( القرن الرابع ) : ٢٧٥.

٢٢٥

وقال : له كتب منها : كتاب تأويل ما نزل في النبي وآله ( عليهم السلام )(١) ، وابن شهرآشوب ( ت ٥٨٨ هـ ) ، وقال : له كتاب تأويل ما نزل في النبيّ وآله ( عليهم السلام )(٢) ، وهو نفس العنوان الذي ذكره الطوسي.

وكانت توجد نسخة من الكتاب عند السيّد ابن طاووس ، ( ت ٦٦٤ هـ ) نقل عنها موارد كثيرة في كتبه ، منها اليقين(٣) ، وقال في الباب ( ٩٨ ) منه : في ما نذكره من كتاب ( تأويل ما نزل من القرآن الكريم في النبيّ وآله ( صلى الله عليه وآله ) ) ، من المجلّد الأوّل منه ، تأليف الشيخ العالم محمّد بن العبّاس ابن علي بن مروان ، في تسمية النبي ( صلى الله عليه وآله ) مولانا علياً ( عليه السلام ) أمير المؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين.

إعلم أنّ هذا محمّد بن العبّاس قد تقدّم(٤) ممّا ذكرناه عن أبي العبّاس أحمد بن علي النجاشي أنّه ذكر عنه ( رضي الله عنه ) أنّه ثقة ثقة عين ، وذكر ـ أيضاً ـ أنّ جماعة من أصحابه ذكروا أنّ هذا الكتاب الذي ننقل ونروي عنه لم يصنّف في معناه مثله ، وقيل : إنّه أَلْف ورقة.

وقد روى أحاديثه عن رجال العامّة ، لتكون أبلغ في الحجّة ، وأوضح في المحجّة ، وهو عشرة أجزاء ، والنسخة التي عندنا الآن قالب ونصف الورقة ، مجلّدان ضخمان ، قد نسخت من أصل عليه خطّ أحمد بن الحاجب الخرساني ، فيه إجازة تاريخها في صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة ، وإجازة بخطّ الشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ،

____________

١ ـ فهرست الطوسي : ٤٢٣ [ ٦٥٣ ].

٢ ـ معالم العلماء : ١٤٣ [ ١٠٠٤ ] ، وانظر : الذريعة ٣ : ٣٠٦ [ ١١٣٢ ].

٣ ـ انظر : طبقات أعلام الشيعة ( القرن الرابع ) : ٢٧٥.

٤ ـ جاء في الهامش : لم يتقدّم في هذا الكتاب شيء في ذلك.

٢٢٦

وتاريخها في جمادي الآخرة ، سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.

وهذا الكتاب أرويه بعدّة طرق ، منها : عن الشيخ الفاضل أسعد بن عبد القاهر المعروف جدّه بسفرويه الإصفهاني ، حدَّثني بذلك لمّا ورد إلى بغداد في صفر سنة خمس وثلاثين وستّمائة ، بداري بالجانب الشرقي من بغداد التي أنعم بها علينا الخليفة المستنصر ـ جزاه الله خير الجزاء ـ ، عند المأمونيّة ، في الدرب المعروف بدرب الحوبة ، عن الشيخ العالم أبي الفرج علي ابن العبد أبي الحسين الراوندي ، [ عن أبيه ] ، عن الشيخ أبي جعفر محمّد بن علي بن المحسن الحلبي ، عن السعيد أبي جعفر الطوسي ( رضي الله عنه ).

وأخبرني بذلك الشيخ الصالح حسين بن أحمد السوراوي إجازة في جمادي الآخرة سنة سبع وستّمائة ، عن الشيخ السعيد محمّد بن القاسم الطبري ، عن الشيخ المفيد أبي علي الحسن بن محمّد الطوسي ، عن والده السعيد محمّد بن الحسن الطوسي.

وأخبرني بذلك ـ أيضاً ـ : الشيخ علي بن يحيى الحافظ إجازة تاريخها شهر ربيع الأوّل سنة تسع وستّمائة ، عن الشيخ السعيد عربي بن مسافر العبادي ، عن الشيخ محمّد بن القاسم الطبري ، عن الشيخ المفيد أبي علي الحسن بن محمّد الطوسي ، وغير هؤلاء ـ يطول ذكرهم ـ ، عن السعيد الفاضل في علوم كثيرة من علوم الإسلام والده أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ، قال : أخبرنا بكتب هذا الشيخ العالم أبي عبد الله بن محمّد بن العبّاس بن مروان ورواياته جماعة من أصحابنا ، عن أبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري ، عن أبي عبد الله محمّد بن العبّاس بن مروان ، المذكور(١) .

____________

١ ـ اليقين : ٢٧٩ ، الباب ( ٩٨ ).

٢٢٧

وقد ذكر الشيخ ( ت ٤٦٠ هـ ) هذا الطريق في الفهرست(١) .

وقال النوري ( ت ١٣٢٠ هـ ) ـ عند ذكره لطرق الشيخ ـ : وإلى محمّد ابن العبّاس بن علي بن مروان ، صحيح في الفهرست(٢) .

وكان عند ابن طاووس ( ت ٦٦٤ هـ ) نسخة أُخرى ، ذكرها في سعد السعود(٣) .

والظاهر أنّ إحدى نسختي ابن طاووس أو قسماً منها ، وقع للشيخ حسن بن سليمان الحلّي ( القرن التاسع ) صاحب مختصر البصائر المارّ الذكر(٤) ، قال في مختصر البصائر : يقول عبد الله حسن بن سليمان : وقفت على كتاب فيه تفسير الآيات التي نزلت في محمّد وآله صلوات الله عليه وعليهم ، تأليف محمّد بن العبّاس بن مروان يعرف بابن الجُحام ، وعليه خطّ السيّد رضيّ الدين علي بن طاووس : أنّ النجاشي ذكر عنه أنّه ثقة ثقة ، روى السيّد رضيّ الدين علي هذا الكتاب عن فخار بن معد بطريقه إليه(٥) .

وقال أيضاً : ومن كتاب تأويل ما نزل من القرآن في النبي وآله صلوات الله عليه وعليهم ، تأليف أبي عبد الله محمّد بن العبّاس بن مروان ، وعلى هذا الكتاب خطّ السيّد رضيّ الدين علي بن موسى بن طاووس ، ما صورته : ـ ونقل كلام النجاشي عن خطّ ابن طاووس ـ ، ثمّ قال : رواية علي ابن موسى بن طاووس ، عن فخار بن معد العلوي وغيره ، عن شاذان بن جبرائيل ، عن رجاله(٦) .

____________

١ ـ فهرست الطوسي : ٤٢٣ [ ٦٥٣ ].

٢ ـ خاتمة المستدرك ٦ : ٢٨٧ [ ٦٢٤ ].

٣ ـ سعد السعود : ١٨٠ ، فصل [ ١٨ ].

٤ ـ راجع ما ذكرناه عن مختصر بصائر سعد بن عبد الله الأشعري القمّي.

٥ ـ مختصر البصائر : ٤٢١.

٦ ـ مختصر البصائر : ٤٨١.

٢٢٨

ورأى السيّد شرف الدين ( القرن العاشر ) صاحب تأويل الآيات الطاهرة الذي نقلنا منه روايات حديث الثقلين ، قسماً من الكتاب ، وهو نصفه الثاني ، قال ـ بعد أن نقل كلام النجاشي ، وكلام ابن داود ـ : وهذا كتابه المذكور ، لم أقف عليه كلّه ، بل نصفه من هذه الآية ( أي الآية « ٧٣ » من سورة الإسراء ) إلى آخر القرآن(١) .

وقد روى عنه الأربلي ( ٦٩٣ هـ ) في كشف الغمّة ، رواية واحدة(٢) .

____________

١ ـ تأويل الآيات الظاهرة ١ : ٢٨٤ ح ٢٠ ، سورة الإسراء : ٧٣.

٢ ـ كشف الغمّة ١ : ٩٢ ، وراجع للتفصيل في ترجمة ابن الجُحام وكتابه ، المقدّمة التي ذكرها جامع روايات كتاب ( تأويل ما نزل من القرآن . ) من المصادر ، الشيخ فارس الحسّون.

٢٢٩
٢٣٠

(٢٠) كتاب : مقدّمات علم القرآن

لمحمّد بن بحر الرهني ( القرن الرابع )

الحديث :

الأوّل : قال ابن طاووس ( ت ٦٦٤ هـ ) في سعد السعود :

فصل : في ما نذكره من الجزء الأوّل من مقدّمات علم القرآن(١) ، تصنيف محمّد بن بحر الرهني ، ذكر في أوّل كرّاس منه ما وجده من اختلاف القراءات ، وما معناه :

قال محمّد بن بحر الرهني : حدَّثني القرباني ، قال : حدَّثنا إسحاق بن راهويه ، عن عيسى بن يونس ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن عطيّة بن أبي سعيد(٢) الكوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « إنّي تارك فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله عزّ وجلّ ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لم يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٣) .

الثاني : قال محمّد بن بحر الرهني : وما حدّثنا به المطهّر ، قال : حدَّثنا

____________

١ ـ هذا الكتاب مفقود في الوقت الحاضر ، وينقل عنه ابن طاووس في سعد السعود ، ونحن أوردنا ما ذكره ابن طاووس.

٢ ـ عطيّة بن سعد العوفي ، وما في المتن تصحيف.

٣ ـ سعد السعود : ٤٤٣ ، فصل [ ١٣٨ ].

٢٣١

ابن عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله بن موسى ، عن الركين بن الربيع ، عن القاسم بن حسّان ، عن زيد بن ثابت ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « إنّي تارك فيكم خليفتين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض ».

قال الرهني في الوجهة الأوّلة من القائمة الخامسة ـ ما معناه ـ : كيف يقبل العقل والنقل أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) يجعل القرآن وأهل بيته عوضه ، وخليفتين من بعده في أُمّته ، ولا يكون فيهما كفاية وعوض من غيرها ، ممّا حدث في الأُمّة ، وفي القرآن من الاختلاف؟!(١)

محمّد بن بحر الرهني :

قال النجاشي : ( ت ٤٥٠ هـ ) محمّد بن بحر الرُهني أبو الحسين الشيباني ، ساكن نرماشير من أرض كرمان ، قال بعض أصحابنا : إنّه كان في مذهبه ارتفاع ، وحديثه قريب من السلامة ، ولا أدري من أين قيل ذلك(٢) .

وقال الطوسي ( ت ٤٦٠ هـ ) في الفهرست : محمّد بن بحر الرهني ، من أهل سجستان ، وكان من المتكلّمين ، وكان عالماً بالأخبار وفقيهاً ، إلاّ أنّه متّهم بالغلوّ ، وله نحو من خمسمائة مصنّف ورسالة(٣) .

وقال في الرجال : محمّد بن بحر الرهني ، يرمى بالتفويض(٤) .

وقال في رجال الكشّي ( القرن الرابع ) : حدَّثني أبو الحسن(٥) محمّد ابن بحر الكرماني الدهني(٦) النرما شيري ، قال : وكان من الغلاة الحنقين ،

____________

١ ـ سعد السعود : ٤٤٤ ، فصل [ ١٣٨ ].

٢ ـ رجال النجاشي : ٣٨٤ [ ١٠٤٤ ].

٣ ـ فهرست الطوسي : ٣٩٠ [ ٥٩٩ ].

٤ ـ رجال الطوسي : ٤٤٧ [ ٦٣٥٦ ] ، من لم يرو عن واحد من الأئمّة ( عليهم السلام ).

٥ ـ في غيره أبو الحسين.

٦ ـ في نسخة أُخرى الرهني.

٢٣٢

قال : حدَّثني أبو العبّاس المحاربي الجزري ، ـ ثمّ بعد أن أورد بقيّة الرواية ـ قال : قال الكشّي : محمّد بن بحر هذا ، غال(١) .

وقال العلاّمة ( ت ٧٢٦ هـ ) ـ بعد أن نقل كلام الطوسي والنجاشي ـ : وقال ابن الغضائري ( ت ٤١١ هـ ) : إنّه ضعيف ، في مذهبه ارتفاع ، والذي أراه التوقّف في حديثه(٢) .

وقال أيضاً : محمّد بن يحيى الرهني ـ بالراء ـ يرمى بالتفويض(٣) . وقال في إيضاح الاشتباه : له كتب ، منها كتاب ( القلائد ) ، فيه كلام على مسائل الخلاف بيننا وبين المخالفين ، وجدت بخطّ السيّد السعيد صفيّ الدين محمّد بن معد ، هذا الكتاب عندي وقع إليّ من خراسان ، وهو كتاب جيّد مفيد ، وفيه غرائب ، ورأيت مجلّداً فيه كتاب النكاح ، حسن بالغ في معناه ، ورأيت أجزاء مقطعة ، وعليها خطّه إجازة لبعض من قرأ الكتاب عليه ، يتضمّن الفقه والخلاف والوفاق ، وظاهر الحال أنّ المجلّد الذي يتضمّن النكاح يكون أحد كتب هذا الكتاب الذي الأجزاء المذكورة منه ، ورأيت خطّ المذكور ، وهو خطّ جيّد مليح ، وكتب محمّد بن معد الموسوي(٤) .

وأورد ابن داود نفس كلام من تقدّم عنه ، في موضعين(٥) .

وقال أبو علي الحائري ـ بعد أن نقل الأقوال السابقة ـ : وفي التعليقة :

____________

١ ـ اختيار معرفة الرجال : ١٤٧ ح ٢٣٥.

٢ ـ خلاصة الأقوال : ٣٩٦ [ ١٦٠٠ ] ، القسم الثاني ، وانظر : الرجال لابن الغضائري : ٩٨ [ ١٤٧ ].

٣ ـ خلاصة الأقوال : ٤٠٠ [ ١٦٠٩ ] ، القسم الثاني ، وهي نفس عبارة الشيخ في رجاله ، ولعلّه كان هناك تصحيف في اسمه عند العلاّمة.

٤ ـ إيضاح الاشتباه : ٢٩٠ [ ٦٧١ ].

٥ ـ رجال ابن داود : ٢٧٠ [ ٤٣٢ ] ، القسم الثاني ، و ٢٧٧ [ ٤٩١ ] ، القسم الثاني ، ولم أر وجهاً للتعدّد.

٢٣٣

في عبارة بعض الفضلاء أنّ محمّد بن بحر الرهني من أعاظم علماء العامّة ، ولعلّه سهو ، أو هو غيره ، ومرّ عن النجاشي في فارس بن سليمان أنّه أخذ عن محمّد بن بحر مع مدحه فارساً(١) ، والظاهر منه هنا أنّ نسبة الارتفاع لا أصل لها ، وظاهر الفهرست ـ أيضاً ـ التأمّل ، ولعلّ من نسبه إليه ابن الغضائري ، وفيه ما فيه ، أقول : وكذا نسبة الكشّي أيضاً الغلوّ إليه ، ممّا لا يوثق به لما عرفته مراراً.

ثمّ نقل قول العلاّمة في إيضاح الاشتباه ، وقال : وليت شعري ، إذا كان الرجل بنفسه متكلّماً عالماً فقيهاً ، وحديثه قريباً من السلامة ، وكتبه جيّدة مفيدة حسنة ، فما معنى الغلوّ الذي يرمى به! وليس العجب من ابن الغضائري والكشّي ; لأنّ كافّة علمائنا ( رضي الله عنهم ) عدا الصدوق وأضرابه عند أضرابهما غلاة ، لكن العجب ممّن يتبعهما في الطعن والرمي بالغلوّ ، فما في الوجيزة من أنّه ضعيف(٢) ، ضعيف(٣) .

وقال المامقاني ( ت ١٣٥١ هـ ) ـ بعد أن ذكر الأقوال فيه ـ : وضعّفه في الوجيزة أيضاً ، وعدّه في الحاوي في قسم الضعفاء(٤) ، وأقول : لا شبهة في كون الرجل إماميّاً ، وإذ قد كان إماميّاً ، نقول : إنّ صريح الشيخ ( رحمه الله ) ، أنّ القول بالتفويض والغلوّ بالنسبة إليه ليس محقّقاً ، بل هي تهمة ، والظاهر أنّ منشأ التهمة قول ابن الغضائري ، وقد نبّهنا غير مرّة أنّه لا وثوق بتضعيفات ابن الغضائري ، سيّما إذا كان منشؤها الرمي بالغلوّ ، سيّما والنجاشي أنكر ذلك عليه هنا ، بقوله : وحديثه قريب من السلامة ، ولا أدري من أين قيل ، وإذا لم يثبت غلوّه ، بل كان المظنون حدوثه من روايته

____________

١ ـ انظر : رجال النجاشي : ٣١٠ [ ٨٤٩ ].

٢ ـ الوجيزة ( رجال المجلسي ) : ٢٩٤ [ ١٥٨٠ ].

٣ ـ منتهى المقال ٥ : ٣٧٧ [ ٢٥٠٤ ].

٤ ـ حاوي الأقوال ٤ : ٢٣٠ [ ٢٠٣٣ ].

٢٣٤

في الأئمّة ( عليهم السلام ) بعض ما هو اليوم من ضروريات مذهب الشيعة ، كان ما سمعته من الشيخ ، من كونه عالماً بالأخبار فقيهاً ، وما سمعته من النجاشي من كون حديثه قريباً من السلامة ، مدحاً مدرجاً له في الحسان ، فالأظهر كون الرجل من الحسان ، دون الضعفاء ، والله العالم.

ولقد أجاد الحائري ، حيث قال : ـ ثمّ أورد كلام الحائري المتقدّم ـ ، ثمّ قال : وأقول : ممّا يكذّب نسبة الغلوّ إليه أنّ الصدوق ( رحمه الله ) نقل في إكمال الدين عن كتاب للرجل في تفضيل الأنبياء والأئمّة ( صلوات الله عليهم ) على الملائكة ، فصلا طويلا ختامه أنّ محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) أفضل المخلوقات من الجنّ والإنس والملائكة ، وفيه تصريح بأنّ محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) مخلوق من المخلوقات ، كغيره بنحو لا يشتبه على من طالعه وتصفّحه ، وفيه شهادة على عدم غلوّه نحو ما يقوله الغلاة من القدم والحلول ، فلم يبق إلاّ بمعنى المبالغة في تفضيل الحجج ( عليهم السلام ) على غيرهم ، وعلوّ رتبتهم ، وذلك اليوم من ضروريات المذهب ، فنسبة الغلوّ القادح في الراوي إلى الرجل غلط بحسب الظاهر ، والعلم عند الله تعالى(١) .

وعلى كلّ حال فهو متّهم بالغلوّ ، وتحقيق الحال في تحقيق مرادهم من الغلوّ.

وقال الطهراني ( ت ١٣٨٩ هـ ) : وهو من مشايخ أبي العبّاس ابن نوح السيرافي ، المتوفّى بعد ٤٠٨ ، وهو أحمد بن علي بن العبّاس بن نوح ، من مشايخ النجاشي ، ويروي عنه أبو المفضل الشيباني ( حديث بشر النخّاس ) ، على ما فى ( الغيبة ) للطوسي(٢) ، وفي ( كمال الدين ) أنّه ورد

____________

١ ـ تنقيح المقال ٢ : ٨٥ ، من أبواب الميم ، وانظر : معجم رجال الحديث ١٦ : ١٣١ [ ١٠٣٢٤ ].

٢ ـ الغيبة للطوسي : ٢٠٨ ح ١٨٧.

٢٣٥

كربلاء لزيارة غريب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سنة ٢٨٦ ، ثمّ زار الكاظمين ، يرويه عنه أحمد بن طاهر القمّي(١) .

وكان معمّراً ، كما ذكره ياقوت ( ت ٦٢٦ هـ ) في ( معجم الأُدباء ، ج ٦ ص ٤١٧ ) وذكر كتابه ( نحل العرب ) ، وقال : إنّه يروي فيه عن سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري ، المتوفّى ٣٠١ ، وقد قرأ كتاب سيبويه على محمّد بن أحمد بن كيسان المتوفّى ٢٩٩ أو ٣٢٢(٢) .

وقال في الذريعة : وذكر ( أي ياقوت في معجم الأُدباء ) أنّه كان معمّراً ، وغالياً في التشيّع ، ويروي في كتابه عن سعد بن عبد الله الذي توفّي ( ٣٠١ ) ، أقول : إنّه أدرك بشر النخّاس ، الذي أوصل أمّ الحجّة ( عليه السلام ) إلى سامرّاء ، فحدّث عنه القصّة لأبي المفضّل الشيباني الذي توفّي ( ٣٨٥ ) ، كما رواه الشيباني عنه في غيبة الشيخ الطوسي ، وذكر الصدوق في ( إكمال الدين ) ، أنّه ورد لزيارة الحائر والكاظميّة في ( ٢٨٦ ) ، أقول : وقد بقى إلى أن أدركه الكشّي ، وروى عنه ، كما في ترجمة زرارة ، وبقي ـ أيضاً ـ إلى أن أدركه ابن نوح من مشايخ النجاشي ، كما صرّح به النجاشي في ترجمة الرهني ، وتوفّي ابن نوح بعد ورود الشيخ الطوسي في ( ٤٠٨ ) إلى العراق بسنين ، وكان يروي عن بعض مشايخه في ( ٣٤٢ ) ، ولعلّ روايته عن الرهني كان في حدود هذا التاريخ ، فيكون وفاة الرهني بعد وفاة سميّه المفسّر الإصفهاني المذكور في ( ٥ : ٤٤ )(٣) .

وقال أيضاً : المتوفّى حدود ٣٤٠ ، وقال في ( معجم الأُدباء ٦ : ٤١٧ ) : إنّه كان معمّراً غالياً في التشيّع ، وفي كتابه هذا ذكر العرب في بلاد

____________

١ ـ كمال الدين وتمام النعمة : ٤٤٥ ح ١ ، باب : ٩.

٢ ـ طبقات أعلام الشيعة ( القرن الرابع ) : ٢٤٨.

٣ ـ الذريعة ٨ : ٢٣٨ ( ١٠٠٨ ).

٢٣٦

الإسلام ، وأنّه كان شيعيّاً أو خارجيّاً أو سنيّاً ، فيحسن القول في الشيعة منهم ، ويقع في من عداهم ، ثمّ ذكر بعده قريباً من الكلام السابق(١) .

مقدّمات علم القرآن :

ولم يذكر من ترجمه كتابه هذا ، وإن ذكر الشيخ ( ت ٤٦٠ هـ ) أنّ له نحو من خمسمائة مصنّف ورسالة ، أكثرها ببلاد خراسان(٢) ، ولكن ذكره ابن طاووس ( ت ٦٦٤ هـ ) كما عرفت ، وفي كلامه حجّة ، وهو صاحب المكتبة المعروفة الحاوية على المخطوطات ، بعضها بخطّ مصنّفيها ، حيث إنّ دأبه ، أن يذكر أوصاف النسخ التي نقل منها في كتبه.

وقد قال في سعد السعود : فصل : في ما نذكره من الجزء الأوّل من مقدّمات علم القرآن ، تصنيف محمّد بن بحر الرهني ، في معنى اختلاف القراءات(٣) .

وقال أيضاً : في ما نذكره عن محمّد بن بحر الرهني ، من الجزء الثاني من مقدّمات علم القرآن ، من التفاوت في المصاحف التي بعث بها عثمان إلى الأمصار(٤) .

وفي كلام ابن طاووس كفاية.

____________

١ ـ الذريعة ٢٤ : ٨٣ ( ٤٢٥ ).

٢ ـ فهرست الطوسي : ٣٩٠ [ ٥٩٩ ].

٣ ـ سعد السعود : ٣٧ [ ١٣٨ ] ، فصول الكتاب ، و ٤٤٣ [ ١٣٨ ].

٤ ـ سعد السعود : ٤٧ [ ٢٠٦ ] ، فصول الكتاب ، و ٥٤٤ [ ٢٠٦ ].

٢٣٧
٢٣٨

(٢١) كتاب : الغيبة

لمحمّد بن إبراهيم النعماني

( القرن الرابع ، كان حيّاً سنة ٣٤٢ هـ )

الحديث :

الأوّل : ، بعد وجوب الحجّة عليهم من الله بقوله عزّ وجلّ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) (١) ، ومن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، بقوله في عترته إنّهم الهداة وسفينة النجاة ، وأنّهم أحد الثقلين ، اللذين أعلمنا تخليفه إيّاهما علينا ، والتمسّك بهما ، بقوله « إنّي مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، حبل ممدود بينكم وبين الله ، طرف بيد الله وطرف بأيديكم ، ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا »(٢) .

الثاني والثالث والرابع : ولو لم يدلّنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على حبل الله ، الذي أمرنا الله عزّ وجلّ في كتابه بالاعتصام به وألاّ نتفرّق عنه ، لاتسع للأعداء المعاندين ، التأوّل فيه ، والعدول بتأويله ، وصرفه إلى غير من عنى الله به ، ودلّ عليه رسول الله ( عليه السلام ) ، عناداً وحسداً ، لكنّه قال ( صلى الله عليه وآله ) ، في خطبته المشهورة التي خطبها في مسجد الخيف في حجّة الوداع : « إنّي فرطكم ، وأنّكم واردون عليّ الحوض ، حوضاً عرضه ما بين بصرى إلى

____________

١ ـ آل عمران : ١٠٣.

٢ ـ الغيبة للنعماني : ٢٩ ، مقدّمة المؤلّف.

٢٣٩

صنعاء ، فيه قدحان عدد نجوم السماء ، ألا وإنّي مخلّف فيكم الثقلين ، الثقل الأكبر القرآن ، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي ، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عزّ وجلّ ، ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا ، سبب منه بيد الله ، وسبب بأيديكم(١) ، أنّ اللطيف الخبير قد نبّأني ، أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، كأصبعيَّ هاتين ـ وجمع بين سبّابتيه ـ ، ولا أقول كهاتين ـ وجمع بين سبّابته والوسطى ـ ، فتفضل هذه على هذه ».

أخبرنا بذلك عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الموصلي ، قال : أخبرنا محمّد بن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه(٢) ، عن جدّه ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد بن علي ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي ( عليهم السلام ) ، قال : « خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » ، وذكر الخطبة بطولها ، وفيها هذا الكلام.

وأخبرنا عبد الواحد بن عبد الله ، عن محمّد بن علي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الحسن بن محبوب والحسن بن علي بن فضّال ، عن علي بن عقبة ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، بمثله.

وأخبرنا عبد الواحد ، عن محمّد بن علي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر ( عليه السلام ) ، بمثله(٣) .

____________

١ ـ قال المحقّق في الهامش : وزاد في نسخة ( وفي رواية أُخرى : طرف بيد الله وطرف بأيديكم ).

٢ ـ هو علي بن إبراهيم القمّي ، صاحب التفسير ، وقد أوردنا الحديث عن مقدّمة تفسيره ، راجع الحديث الأوّل.

٣ ـ الغيبة للنعماني : ٤٢ ، باب (٢) ، في ما جاء في تفسير قوله تعالى :( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) ، وعنه في إثبات الهداة ١ : ٦١٨ ح ٦٥٥ ، فصل ٣٧ ، وغاية المرام ٢ : ٣٤٠ ح ٢٢ و ٢٣ و ٢٤ ، باب (٢٩) ، والمجلسي ( ت ١١١١ هـ ) في البحار ٩٢ : ١٠٢ ح ٨٠.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619