في رحاب الزيارة الجامعة

في رحاب الزيارة الجامعة5%

في رحاب الزيارة الجامعة مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-7165-40-4
الصفحات: 698

  • البداية
  • السابق
  • 698 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68092 / تحميل: 5096
الحجم الحجم الحجم
في رحاب الزيارة الجامعة

في رحاب الزيارة الجامعة

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
ISBN: ٩٦٤-٧١٦٥-٤٠-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

.........................................

____________________________________

فقال أبو الدرداء : فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله(١) .

وفي نهج البلغة تلمس بوضوح أسمى آيات تعظيم الله ، ومعاني تجليل الله ، فأمعن النظر من أوّل خطبة منه غلى آخر كلمة فيه ، تدرك أجلّ المعارف في معانيه.

وقد شهد الفريقان بشدّة تعظيمه لله جلّ جلاله ، وعظيم عبادته للمولى عزّ شأنه.

وتلاحظ شهادة عدوّه اللدود معاوية بذلك في حديث ضرار بن ضمرة(٢) . وشهادة ابن أبي الحديد في شرح النهج(٣) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ١١ ب ١٠١ ح ١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ١٤ ح ٦.

(٣) شرح نهج البلاغة : ج ١ ص ٢٧.

٣٠١

وَاَكْبَرْتُمْ (١) شَأْنَهُ ، وَمَجَّدْتُمْ كَرَمَهُ (٢)

____________________________________

(١) ـ الإكبار والتكبير : هو التعظيم والإستعظام.

والشأن : هو الأمر والمقام والمنزلة.

أي أنّكم أهل البيت عظّمتم مقام الله ومنزلته الشامخة ، وأعظمتم أمر الله تعالى فيما يفعله من أفعاله الحكيمة ومقاديره العظيمة.

وذلك أنّهم أعرف الناس بعظمة الله ، وأعلم الناس بمنزلة الله ، فكانوا أكثر الناس تعظيماً لله ، وأكثرهم إكباراً لشأن الله.

وتدلّ عليه الزيارة المطلقة العلويّة المتقدّمة التي ورد فيها : «وأكبرتم شأنه» ونفس سيرتهم وعباداتهم الرائعة المفيدة للتعظيم والإكبار.

وفي نسخة الكفعمي بعد هذه الفقرة : «وهِبتم عظمته».

(٢) ـ المجد في اللغة هو الشرف الواسع ، والرفعة العالية ، والعظمة الكاملة ، والتمجيد هو التعظيم والتشريف.

والكَرَم ضدّ اللؤم ، وفُسّر بالخير الكثير ، والكريم هو الجامع لأنواع الخير والشرف والكرامة. أي أنّكم أهل البيت سلام الله عليكم عظّمتم كرم الله تعالى على خلقه وخيره بعباده.

كما عظّمتم كرامته العلياء التي أكرمكم بها في الدنيا والآخرة فعرفتم قدرها ، وعظّمتم مقدارها ، وشكرتم المنعم بها.

وعظّمتم ذاته الكريمة المشتملة على الصفات المجيدة.

وأدعيتهم الغرّاء تدلّ على تمجيداتهم العلياء هذه.

ويتجلّى ذلك بوضوح في مثل مناجاة أمير المؤمنين عليه السلام ، ودعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة ، ودعاء الإمام السجّاد عليه السلام في الأسحار الذي رواه أبو حمزة الثمالي فلاحظها.

٣٠٢

وَاَدَمْتُمْ ذِكْرَهُ (١)

____________________________________

(١) ـ أدمتم : من الدوام وهو الثبوت والاستمرار.

وفي نسخة العيون (أدمنتم) مأخوذ من الإدمان ، وهي المداومة والمواظبة ، والاستمرار.

وذِكُر الله هو ما يذكّر بالله تعالى من الأذكار الشريفة بالقلب واللسان ، والعبادات المقرّبة كإقامة الصلاة وقراءة القرآن ، فهذه تذكّر الإنسان بالمولى المتعال لساناً وجَناناً.

قال الله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) (١) .

وأهل البيت عليهم السلام أعظم العاملين بهذه الآية الشريفة ، والمديمين للأذكار المنيفة. وتشهد سيرتهم وحياتهم أنّهم بلغوا الدرجة القصوى ، والمكانة العظمى في ذكر الله تعالى بجميع معنى الكلمة.

فأوّلاً : كانوا مستمرّين في ذكر الله تعالى بالقلب واللسان في كلّ حال.

ففي حديث الإمام الصادق عليه السلام قال : «وكان أبي عليه السلام كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله ، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله ، ولقد كان يحدّث القوم [و] ما يشغله ذلك عن ذكر الله ، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول : لا إله إلاّ الله.

وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس ، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا ، ومن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر»(٢) .

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٤١ ـ ٤٢.

(٢) الكافي : ج ٢ ص ٤٩٨ ح ١.

٣٠٣

.........................................

____________________________________

وتلاحظ أنحاء الذكر في سفينة البحار(١) .

وثانياً : كانوا مداومين على عبادة الله المذكّرة بأحسن الوجوه ، وأكثر المقادير في أدوم الأزمان ، بالليل والنهار.

ففي حديث نوف قال : بتُّ ليلة عند أمير المؤمنين عليه السلام فكان يصلّي الليل كلّه ، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن ، قال : فمرّ بي بعد هدءٍ من الليل فقال : «يا نوف أرقد أنت أم رامق؟

قلت : بل رامق ، أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين.

قال : يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة ، اُولئك الذين اتّخذوا الأرض بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيباً ، والقرآن دثاراً ، والدعاء شعاراً ، وقرّضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم.

إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى عيسى بن مريم : قل للملأ من بني إسرائيل : لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأكفّ نقيّة ، وقل لهم : اعلموا أنّي غير مستجيب لأحد منكم دعوة ولأحد من خلقي قِبَله مظلمة» ، الخبر(٢) .

وفي حديث حبّة العرني قال : بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين عليه السلام في بقيّة من الليل ، واضعاً يده على الحائط شبيه الواله ، وهو يقول :( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٣) إلى آخر الآية.

قال : ثمّ جعل يقرأ هذه الآيات ويمرّ شبه الطائر عقله ، فقال لي : أراقد أنت

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ص ٤٨٦ ، معاني الأخبار : ص ١٩٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ١٦ ب ١٠١ ح ٩.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٦٤.

٣٠٤

.........................................

____________________________________

يا حبّة أم رامق؟

قال : قلت ك رامق ، هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن! فأرخى عينيه فبكى. ثمّ قال لي : «يا حبّة إنّ لله موقفاً ولنا بين يديه موقفاً [موقف ـ خ] لا يخفى عليه شيء من أعمالنا ، يا حبّة إنّ الله أقرب إليّ وإليك من حبل الوريد ، يا حبّة إنّه لن يحجبني ولا إيّاك عن الله شيء.

قال : ثمّ قال : أراقد أنت يا نوف؟

قال : قال : لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد ، ولقد أطلت بكائي هذه الليلة.

فقال : يانوف إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من الله تعالى قرّت عيناك غداً بين يدي الله عزّ وجلّ ، يانوف إنّه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية الله غلاّ أطفأت بحاراً من النيران ، يانوف إنّه ليس من رجل أعظم منزلة عند الله من رجل بكى من خشية الله ، وأحبَّ في الله ، وأبغضَ في الله ، يانوف إنّه من أحبّ في الله لم يستأثر على محبّته ، ومن أبغض في الله لم ينل ببغضه خيراً ، عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان ، ثمّ وعظهما وذكّرهما وقال في أواخره : فكونوا من الله على حذر ، فقد أنذرتكما.

ثمّ جعل يمرّ وهو يقول : ليت شعري في غفلاتي أمعرض أنت عنّي أم ناظر إلىّ؟ وليت شعري في طول منامي وقلّة شكري في نعمك علىّ ما حالي؟».

ثالثاً : كانوا موظبين على ذكر الله القرآني ووحيه الرحماني بأتمّ قراءة ، وأحسن كيفية.

٣٠٥

.........................................

____________________________________

ففي حديث إبراهيم بن العبّاس قال : كان الرضا عليه السلام يختم القرآن في كلّ ثلاث ، ويقول : «لو اردت أن أختمه في أقلّ من ثلاث لختمته ، ولكن ما مررت بآية قطّ إلاّ فكّرت فيها وفي أي شيء اُنزلت ، وفي أي وقت ، فلذلك صرت أختم ثلاثة أيّام»(١) .

وفي حديث معاوية بن عمّار ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : الرجل لا يرى أنّه صنع شيئاً في الدعاء والقراءة ، حتّى يرفع صوته.

فقال : «لا بأس إنّه علي بن الحسين عليهما السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، وكان يرفع صوته حتّى يسمعه أهل الدار ، وإنّ أبا جعفر عليه السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، وكان إذا قام من الليل ، وقرأ رفع صوته فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين وغيرهم ، فيقومون فيستمعون إلى قراءته»(٢) .

وذكرهم القرآني الأعلى ثابت حتّى باعتراف غيرنا(٣) .

ولم يسبق لهم نظير في التاريخ أن يقرأ أحد القرآن حتّى بعد وفاته ، كما قرأه سيّد الشهداء الحسين عليه السلام بعد شهادته ممّا تلاحظه في النقل المتظافر(٤) .

فهم عليهم السلام أعظم الذاكرين لله تعالى ، ذكرهم الله تعالى بالسلام وحيّاهم بالتحيّة والإكرام.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٢ ص ٢٠٤ ب ٢٤ ح ١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٢ ص ١٩٤ ب ٢١ ح ٩.

(٣) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد : ج ١ ص ٢٧ ، الإمام الصادق : ج ١ ص ٥٣ ـ ٥٤.

(٤) معالي السبطين : ج ٢ ص ٦٨.

٣٠٦

وَوَكَّدْتُمْ ميثاقَهُ (١)

____________________________________

(١) ـ وكّدتم : من التوكيد بمعنى التأكيد وهي التقوية ، والتوكيد افصح من التأكيد.

والميثاق : هو العهد الموثّق ، مفعالٌ من الوثاق ، وهو في الأصل : الحبل الذي يُقيّد ويُشدّ به ، سمّي به العهد لوثاقته واستحكامه.

وأهل البيت عليهم السلام ممّن اتّصفوا بتقوية عهد الله تعالى ، والتزموا بالوفاء بميثاق الله ، إذ هم أطوع الخلق لله تعالى فكانوا أوفى بميثاقه.

والميثاق هذا فُسّر بمعنيين :

١ / الميثاق الذي أخذه الله تعالى من النبيّين بالدعوة إلى التوحيد ، وتبليغ الرسالة وإعلاء الكلمة ، وهو ما قال الله تعالى :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) (١) ـ(٢) .

وأهل البيت عليهم السلام كانوا في أعلى درجات تأكيد هذا الميثاق ، كما يشهد له جهودهم وجهادهم إلى أن وقعت شهادتهم.

٢ / الميثاق الذي أخذه الله تعالى من بني آدم في عالم الذرّ ، المشار إليه بقوله تعالى :( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ ) (٣) ـ(٤) .

وأهل البيت عليهم السلام أسبق الخلق وأوفاهم بهذا الميثاق.

وقد تقدّم حديث الإمام الصادق عليه السلام : «لمّا أراد الله أن يخلق الخلق نثرهم بين

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٧.

(٢) البرهان : ج ١ ص ٣٧٤ ، وج ٢ ص ٨٣٣.

(٣) سورة الأعراف : الآية ١٧٢.

(٤) البرهان : ج ١ ص ٣٧٥ ، بحار الأنوار : ج ٥ ص ٢٢٥ ، وج ٦٠ ص ١٣١.

٣٠٧

.........................................

____________________________________

يديه ، فقال لهم : مَن ربّكم؟

فأول من نطق رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمّة عليهم السلام فقالوا : أنت ربّنا»(١) .

وقد مضى بيانه في الفقرة الشريفة : «وحججُ الله على أهل الدنيا والآخرة والاُولى». فراجع.

ونُضيف هنا بمناسبة ذكر الميثاق ما أفادته الأحاديث الشريفة : أنّ هذا الميثاق الذي أخذه الله تعالى من عباده في عالم الذرّ ، وأقرّوا له بذلك سجّله الله تعالى وأثبته ، وكتب أسماء عبيده في رَقٍّ ـ وهو الجلد الرقيق الذي يكتب فيه ـ وأودعه في الحجر الأسود.

وكان لهذا الحجر آنذاك عينان ولسانان وشفتان ، لأنّه كان يومئذٍ قبل تبديله إلى هذه الصورة مَلَكاً من ملائكة الله العظام ، فقال له : إفتح فاك ، ففتح فاه ، فألقمه ذلك الرقّ ثمّ قال له : إشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة ، وسيشهد.

ولهذا استحبّ للطائف حول الكعبة المعظّمة ، وللداخل إلى المسجد الحرام إستلام الحجر ، وأن يقول عنده مشيراً إليه مخاطبة له : «أمانتي أدّيتُها وميثاقي تعاهدتُه ، لتشهد لي بالموافاة»(٢) .

ولهذا الحجر المبارك خصوصيات فريدة ، فإنّه أنزله الله من الجنّة على آدم عليه السلام وهو بأرض الهند ، فحمله على عاتقه حتّى وافى به مكة المكرّمة ، فجعله في ركن البيت الشريف(٣) .

واعلم أنّ هذا الحجر موضوع في الزاوية الشرقية من الكعبة المعظّمة في الركن

__________________

(١) كنز الدقائق : ج ٥ ص ٢٣٠.

(٢) علل الشرائع : ص ٤٢٣ ب ١٦١ الأحاديث.

(٣) سفينة البحار : ج ١ ص ٢٢٥.

٣٠٨

.........................................

____________________________________

العراقي في مبدأ الطواف ، وعلى إرتفاع مترٍ ونصف من أرض المسجد الحرام ، ملبّساً بإطارٍ من فضّة.

ويمتاز الحجر الأسود عن أحجار العالم بأنّه حجر كبير ضخامته (٣٠) سنتيمتراً ، وبالرغم من ذلك يساوي وزنه (٢) كيلو غرام فقط.

وهو أخفّ من الماء ولذلك لا يرسب فيه.

وهو ضدّ النار والحرارة ، ولذلك لا يتأثّر بالحرارة ، ولا يحترق بالنار ، بالرغم من إصابة الحريق له عدّة مرّات.

وأكبر خصوصية فيه أنّه (يمينُ الله في أرضه يصافح بها خلقه) كما ورد في الحديث ، فيجدر تعظيمه وتقبيله واستلامه(١) .

كما وأنّه امتاز من بين الأحجار بعد وضعه في ركن البيت الشريف بخصوصية أن أنطقه الله تعالى وتكلّم بلسانٍ عربيّ مبين بإمامة مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام كما تلاحظه في حديثي زرارة(٢) والكابلي(٣) .

__________________

(١) أحكام حج واسرار آن : ص ٩٨.

(٢) الكافي : ج ١ ص ٣٤٨ ح ٥.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤٦ ص ٢٩ ب ٣ ح ٢٠.

٣٠٩

وَاَحْكَمْتُمْ عَقْدَ طاعَتِهِ (١)

____________________________________

(١) ـ أحكمتم من الإحكام بالكسر بمعنى : ضبط الشيء ، وجعله مستحكماً.

والعقد بمعنى المعقود ، وهو أوكد العهود ، وفيه معنى الإستيثاق والشدّ ، مأخوذ من عقد الشيء بغيره : أي وصله به كما يعقد الحبل.

أي أنّ أهل البيت عليهم السلام ضبطوا وأتقنوا وقوّوا ميثاق إطاعة الخلق لله تعالى وعهده الذي أخذه منهم ، بواسطة هدايتهم بالمواعظ الشافية والنصائح الوافية ، وإرشادهم بتحبيب الطاعة لهم ، وتحذيرهم عن وقوع المعصية منهم ، وبترغيبهم إلى الثواب وتجنيبهم عن العقاب.

فكان من تبعهم واهتدى بهداهم مطيعاً لله ، منقاداً لحضرته خاضعاً لجنابه كما هو الملحوظ في الخيرة من أصحابهم الكرام وشيعتهم العظام ، الذين ربّوهم على طاعة الله ، وهذّبوهم على عبادة الله ، وزيّنوهم بترك معصية الله.

وللنموذج من ذلك راجع أحوال كبار أصحابهم وما أكثرهم وأطوعهم من أمثال محمّد بن أبي عمير الأزدي رضوان الله تعالى عليه.

ففي رجال الكشّي : وجدت في كتاب أبي عبد الله الشاذاني بخطّه : سمعت أبا محمّد الفضل بن شاذان يقول : دخلت العراق فرأيت واحداً يعاتب صاحبه ويقول له : أنت رجل عليك عيال ، وتحتاج أن تكتب عليهم ، وما آمن أن يذهب عيناك لطول سجودك ، فلمّا أكثر عليه قال : أكثرتَ علىّ ، ويحك لو ذهبت عين أحد من السجود لذهبت عين ابن أبي عمير ، ما ظنّك برجل سجد سجدة الشكر بعد صلاة الفجر فما يرع رأسه إلاّ زوال الشمس.

وسمعته يقول : أخذ يوماً شيخي بيدي ، وذهب بي إلى ابن أبي عمير فصعدنا في غرفة وحوله مشايخ له يعظّمونه ويبجّلونه ، فقلت لأبي : مَن هذا؟

٣١٠

.........................................

____________________________________

قال : هذا ابن أبي عمير.

قلت : الرجل الصالح العابد؟

قال : نعم.

وسمعته يقول : ضُرب ابن أبي عمير مائه خشبة وعشرين خشبة بأمر هارون لعنه الله ، تولّى ضربه السندي بن شاهك على التشيّع ، وحبس فأدّى مائه وإحدى وعشرين ألفاً حتّى خلّي عنه.

فقلت : وكان متموّلاً؟

قال : نعم كان ربّ خمسمائة ألف درهم(١) .

كما كانوا هم عليهم السلام في أنفسهم المثل الأعلى ن والقدوة العُليا لطاعة الله ، وتطويع الخلق لله ، وقد تقدّم شيء من ذلك في فقرة «المطيعون لله».

ولم يستطع أحد من الناس أن يصل إليهم في قدر الطاعة ، وما زالوا على ذلك حتّى أقاموا الحقّ والدين ، وقطعوا ظهور الشياطين ، وقامت بهم الطاعة والعبادة.

ولذلك ورد في الحديث : «ولولانا ما عُبِدَ الله»(٢) .

وفي نسخة الكفعمي : «وأحكمتم عقد عُرى طاعته».

__________________

(١) رجال الكشّي : ص ٤٩٤.

(٢) الكافي : ج ١ ص ١٩٣ ح ٦.

٣١١

وَنَصَحْتُمْ لَهُ فِى السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ (١)

____________________________________

(١) ـ النُصح ، والإسم منه النصيحة هو : الخلوص وعدم الغشّ.

يُقال : نَصَحَه ونَصَحَ له : إذا فعل فعلاً أو تكلّم بكلامٍ أراد به الخير والصلاح للمنصوح.

وإشتقاقه من نصحت العسل إذا صفّيته ، فالناصح يُصفّي فعله وكلامه من الغشّ ، أو من نصحت الثوب إذا خطته ، فالناصح يصلح خلل أخيه كما يصلح الخيّاط خرق الثوب على ما يستفاد من اللغة.

والسرّ والعلانية هي الخفاء والظهور.

وفُسّرت النصيحة في السرِّ بالنصح في الإعتقاد والنيّة فيما بين الله تعالى وبين أنفسهم.

كما فُسّرت النصيحة في العلانية بالنصح في الأقوال والأفعال فيما بينهم وبين الناس.

والمعنى أنّكم أهل البيت سلام الله عليكم نصحتم لله تعالى عباده ، وأردتم لهم الخير ، وأصلحتم خللهم ، في السرّ والعلانية(١) .

فإنّهم صلوات الله عليهم أرادوا بأقوالهم وأفعالهم الخير والصلاح لجميع عباد الله تعالى صالحهم وطالحهم.

كما تشهد به سيرتهم الطيّبة مع أوليائهم وأعدائهم ، بل مع الخلق كلّهم.

لذلك تظافرت زياراتهم بالشهادة لهم أنّهم نصحوا لله ولرسوله

وما مرّت عليهم فرصة في حياتهم إلاّ وتحرّوا الطريق الأرشد ، والمنهاج الأسعد لخير المخلوقين ، وصلاح العالمين ، وقد جَلَبوا لهم المصالح وجنّبوهم عن المفاسد.

__________________

(١) لاحظ روضة المتّقين : ج ٥ ص ٤٧٤.

٣١٢

.........................................

____________________________________

فأهل البيت عليهم السلام اتّصفوا بالنصيحة بالنحو الأكمل والنهج الأفضل.

ولم يكتفوا بنصيحة العباد بأنفسهم ، بل أمروا المؤمنين بالنصح فيما بينهم ، وأوجبوا عليهم النصيحة لهم ، وجعلوها من أفضل الأعمال.

ففي حديث سفيان بن عيينة قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : «عليكم بالنصح لله في خلقه ، فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(١) .

وقد ضمنوا الجنّة لمن نصح لله ولرسوله ولكتابه ولدينه وللمسلمين ، على ما في حديث تميم الداري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «من يضمن لي خمساً أضمن له الجنّة.

قيل : وما هي يا رسول الله؟

قال : النصيحة لله عزّ وجلّ ، والنصيحة لرسوله ، والنصيحة لكتاب الله ، والنصيحة لدين الله ، والنصيحة لجماعة المسلمين»(٢) .

وقد فسّر العلاّمة المجلسي أعلى الله مقامه هذه النصائح بقوله :

(المراد بنصيحة المؤمن : إرشاده إلى مصالح دينه ودنياه ، وتعليمه إذا كان جاهلاً ، وتنبيهه إذا كان غافلاً ، والذبّ عنه عن أعراضه إذا كان ضعيفاً ، وتوقيره في صغره وكبره ، وترك حسده وغشّه ، ودفع الضرر عنه ، وجلب النفع إليه ، ولو لم يقبل النصيحة سلك به طريق الرفق حتّى يقبلها ، ولو كانت متعلّقة بأمر الدين سلك به طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه المشروع

ومعنى نصيحة الله : صحّة الإعتقاد في وحدانيّته ، وإخلاص النيّة في عبادته.

والنصيحة لكتاب الله هو : التصديق والعمل بما فيه.

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ص ٢٠٨ ح ٦.

(٢) الخصال : ج ١ ص ١٩٤ ح ٦٠.

٣١٣

.........................................

____________________________________

ونصيحة رسوله صلى الله عليه وآله : التصديق بنبوّته ورسالته ، والإنقياد لما أمر به ونهى عنه.

ونصيحة الأئمّة عليهم السلام : أن يطيعهم في الحقّ ، ولا يرى الخروج عليهم

ونصيحة عامّة المسلمين : إرشادهم إلى مصالحهم)(١) .

__________________

(١) مرآة العقول : ج ٩ ص ١٤٢ ـ ١٤٤.

٣١٤

وَدَعَوْتُمْ اِلى سَبيلِهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (١)

____________________________________

(١) ـ إشارة إلى أنّ أهل البيت عليهم السلام هم المصداق الكامل العامل بقوله تعالى :( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (١) .

بمعنى أنّكم أهل البيت عليكم سلام الله دعوتم الخلق ، وهديتم المخلوق إلى سبيل الله لقويم ، وصراطه المستقيم ، ودينه العظيم ، بلسان الحكمة والموعظة الحسنة.

فما هي الحكمة وما هي الموعظة الحسنة؟

أمّا الحكمة فقد جاء تعريفها بالعلوم الحقيقيّة الإلهية(٢) .

وفُسّرت هنا بالقرآن الكريم(٣) .

وسُمّي القرآن حكمة لأنّه يتضمّن الأمر بالأفعال الحسنة والنهي عن الأفعال القبيحة ، وأصل الحكمة المنع عن القبيح والفساد كما اُفيد.

وأهل البيت سلام الله عليهم دَعَوا الخلق إلى دين الله تعالى بالقرآن الكريم وبما أخذوه من كلام الله الحكيم ، فكلّموا كلّ واحدٍ بغرر الحكم على ما يوافق عقله وبمقدار فهمه وبقدر إدراكه ، فإنّهم سلام الله عليهم كانوا كرسول الله صلى الله عليه وآله يكلّمون الناس على قدر عقولهم ، كما في حديث الإمام الصادق عليه السلام(٤) .

وأمّا الموعظة الحسنة فمعناه : الوعظ الحسن ، وهو الصَّرف عن القبيح ، على وجه الترغيب في تركه ، والتزهيد في فعله ، ومن ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع(٥) .

__________________

(١) سورة النحل : الآية ١٢٥.

(٢) الأنوار اللامعة : ص ٧٧.

(٣) تفسير البرهان : ج ١ ص ٥٨٥.

(٤) الكافي : ج ١ ص ٢٣ ح ١٥.

(٥) مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٩٣.

٣١٥

.........................................

____________________________________

فالوعظ ، والاسم منه الموعظة هو التذكير بالعواقب ، كالوصيّة بالتقوى ، والحثّ على الطاعات ، والتحذير عن المعاصي والإغترار بالدنيا وزخارفها ، ونحو ذلك(١) .

فيكون الوعظ بالزجر المقترن بالتخويف ، وبالتذكير بالخير فيما يرقّ له القلب(٢) .

وعليه فتكون الموعظة الحسنة في محصّل معناها عبارة عن الوعظ بما يكون حسناً في نفسه ، ومؤثراً في غيره ، بحيث يكون جاذباً للقلوب ، ومقرّباً للمطلوب.

وجاء في الآية الشريفة بعد الأمر بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة الأمر بالجدال بالتي هي أحسن.

وقد فُسّرت في حديث الإمام العسكري عليه السلام بالحجج الإلهية.

مثل التي بيّنها الله تعالى لنبيّه الأكرم في جواب من قال :( قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) ؟

فقال الله تعالى في ردّه :( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) (٣) كما في حديث التفسير(٤) .

وأهل البيت عليهم السلام هم المثل الأعلى للدعوة إلى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.

ومن لاحظ سيرتهم ومواعظهم الحسان أيقن بذلك غاية الإيقان.

__________________

(١) مجمع البحرين : مادّة وعظ ص ٣٦٩.

(٢) المفردات : ص ٥٢٧.

(٣) سورة يس : الآيات ٧٨ ـ ٨٠.

(٤) تفسير البرهان : ج ١ ص ٥٨٥.

٣١٦

.........................................

____________________________________

والدليل الوجداني ظاهرٌ بالتدبّر في مواعظهم عليهم السلام المرويّة وإرشاداتهم العالية(١) .

وأخصّ بالذكر مواعظ الإمام الصادق عليه السلام في رسالته المباركة إلى أصحابه ، التي رواها ثقة الإسلام الكليني في أوّل حديث من الروضة وهي موعظة جليلة الشأن ، بليغة المتن ، مفصّلة مستوفية ، يأتي مقدار منها في فقرة «وسننتم سنّته» فراجع(٢) .

__________________

(١) بحار الأنوار : كتاب الروضة ج ٧٨ أبواب مواعظ الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجميعن.

(٢) روضة الكافي : ج ٨ ص ٢.

٣١٧

وَبَذَلْتُمْ اَنْفُسَكُمْ فى مَرْضاتِهِ (١)

____________________________________

(١) ـ البذل في اللغة هو العطاء ضدّ المنع.

والمرضاة : مصدر ميمي من الرضا.

أي أنّكم أهل البيت سلام الله عليكم فديتم بأرواحكم الشريفة في سبيل ما يُرضي الله تعالى من المداومة على أوفر العبادات ، والإلتزام بأعظم الطاعات وإعلاء كلمة الله في جميع المجالات ، حتّى تحملّتم ما تحمّلتم من المشاقّ ، وأصابكم ما أصابكم من المحن ولاقيتم ما لاقيتم من المصائب ، إلى درجة الشهادة في سبيل الله وتحصيل مرضاته ، حتّى لم يكن منكم إلاّ مسموم أو مقتول ، كما في حديث جُنادة عن الإمام المجتبى عليه السلام أنّه عهد إلينا من رسول الله صلى الله عليه وآله(١) .

وفي خطبته عليه السلام :

«لقد حدّثني حبيبي جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله أنّ الأمر يملكه إثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته ، ما منّا إلاّ مقتول أو مسموم»(٢) .

ودراسة حياتهم المليئة بهذه المفاخر كفيلة بمعرفة غاية جهدهم ، في عبادتهم وجهادهم ، والإطّلاع على مدى محنهم ومصائبهم موصلٌ إلى العلم ببذل أنفسهم في سبيل مرضاة ربّهم.

وللنموذج تلاحظ بذل نفسهم في العبادة في مثل حديث عبادة الإمام السجّاد عليه السلام الذي رواه شيخ الطائفة الطوسي جاء فيه :

أنّ فاطمة بنت علي بن أبي طالب عليه السلام لمّا نظرت إلى ما يفعل ابن أخيها علي ابن الحسين عليهما السلام بنفسه من الدأب في العبادة ، أتت جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٧ ص ٢١٧ ب ٩ ح ١٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٧ ص ٢١٧ ب ٩ ح ١٩.

٣١٨

.........................................

____________________________________

الأنصاري ، فقالت له : يا صاحب رسول الله ، إنّ لنا عليكم حقوقاً ، ومن حقّنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه إجتهاداً أن تذكّروه الله ، وتدعوه إلى البُقيا على نفسه.

وهذا علي بن الحسين بقيّة أبيه الحسين عليهما السلام ، قد انخرم أنفه ، وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه دأباً منه لنفسه في العبادة.

فأتى جابر بن عبد الله باب علي بن الحسين عليهما السلام ، وبالباب أبو جعفر محمّد ابن علي عليهما السلام في اُغيلمة من بني هاشم قد اجتمعوا هناك ، فنظر جابر إليه مقبلاً ، فقال : هذه مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسجيّته ، فمن أنت يا غلام؟

قال : فقال : أنا محمّد بن علي بن الحسين ، فبكى جابر بن عبد الله ٢. ثمّ قال : أنت والله الباقر عن العلم حقّاً ، اُدنُ منّي بأبي أنت واُمّي ، فدنا منه فحلّ جابر ازاره ووضع يده في صدره فقبّله ، وجعل عليه خدّه ووجهه ، وقال له : اُقرئك عن جدّك رسول الله صلى الله عليه وآله السلام ، وقد أمرني أن أفعل بك ما فعلت ، وقال لي : يوشك أن تعيش وتبقى حتّى تلقى من ولدي من إسمه محمّد يبقر العلم بقراً. وقال لي : إنّك تبقى حتّى تعمى ثمّ يكشف لك عن بصرك.

ثمّ قال لي : ائذن لي على أبيك ، فدخل أبو جعفر على أبيه عليهما السلام فأخبره الخبر ، وقال : إنّ شيخاً بالباب ، وقد فعل بي كيت وكيت.

فقال : يابني ذلك جابر بن عبد الله. ثمّ قال : أمن بين ولدان أهلك قال لك ما قال وفعل بك ما فعل؟ قال : نعم [قال :] إنّا الله ، إنّه لم يقصدك فيه بسوء ، ولقد أشاط بدمك.

ثمّ أذن لجابر ، فدخل عليه فوجده في محرابه قد أنضته العبادة ، فنهض علي عليه السلام فسأله عن حاله سؤالاً حفيّاً ، ثمّ أجلسه بجنبه.

فأقبل جابر عليه يقول : يابن رسول الله ، أما علمت أنّ الله تعالى إنّما خلق

٣١٩

.........................................

____________________________________

الجنّة لكم ولمن أحبّكم ، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم ، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟

قال له علي بن الحسين عليهما السلام : يا صاحب رسول الله ، أما علمت أنّ جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فلم يدع الإجتهاد له ، وتعبّد ـ بأبي هو واُمّي ـ حتّى انتفخ الساق وورم القدم ، وقيل له : أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر!

قال : أفلا أكون عبداً شكوراً.

فلمّا نظر جابر إلى علي بن الحسين عليهما السلام وليس يغني فيه من قول يستميله من الجهد والتعب إلى القصد ، قال له : يابن رسول الله ، البُقيا على نفسك ، فإنّك لمن اُسرة بهم يُستدفع البلاء ، وتستكشف اللأواء ، وبهم تُستمطر السماء.

فقال : يا جابر ، لا أزال على منهاج أبويّ مؤتسيّاً بهما صلوات الله عليهما حتّى ألقاهما ، فأقبل جابر على من حضر فقال لهم : والله ما أرى في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلاّ يوسف بن يعقوب عليهما السلام ، والله لذرّية علي بن الحسين عليهما السلام أفضل من ذرّية يوسف بن يعقوب ، إنّ منهم لمن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً(١) .

وتلاحظ بذل النفس في مصائبهم ومحنهم في الأحاديث التي عقد لها شيخ الإسلام المجلسي باباً ، من ذلك : حديث أبان ، عن الإمام الباقر عليه السلام جاء فيه : قال أبان : ثمّ قال لي أبو جعفر الباقر عليه السلام : «ما لقينا أهل البيت من ظلم قريش وتظاهرهم علينا وقتلهم إيّانا ، وما لقيت شيعتنا ومحبّونا من الناس.

إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قُبض وقد قام بحقّنا وأمر بطاعتنا وفرض ولايتنا ومودّتنا ،

__________________

(١) أمالي الشيخ الطوسي : ص ٦٣٦ ح ١٣١٤.

٣٢٠

.........................................

____________________________________

وأخبرهم بأناّ أولى الناس بهم من أنفسهم وأمرهم أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب.

فتظاهروا على علي عليه السلام ، فاحتجّ عليهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فيه وما سمعته العامّة. فقالوا : صدقت ، قد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ولكن قد نَسَخَه فقال : «إنّا أهل بيت أكرمنا الله عزّ وجلّ وإصطفانا ولم يرض لنا بالدنيا ، وإنّ الله لا يجمع لنا النبوّة والخلافة»! فشهد بذلك أربعة نفر : عمر وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة ، فشبّهوا على العامّة وصدّقوهم وردّوهم على أدبارهم وأخرجوها من معدنها من حيث جَعَلها الله.

واحتجّوا على الأنصار بحقّنا وحجّتنا فَعَقَدوها لأبي بكر. ثمّ ردّها أبو بكر إلى عمر يكافيه بها. ثمّ جعلها عمر شورى بين ستّة ، فقلّدوها عبد الرحمن. ثمّ جعلها ابن عوف لعثمان على أن يردّها عليه ، فغدر به عثمان وأظهر ابن عوف كفره وجهله وطعن عليه () في حياته وزعم ولده أنّ عثمان سمّه فمات.

ثمّ قام طلحة والزبير فبايعا عليّاً عليه السلام طائعين غير مكرهين. ثمّ نَكَثا وغَدَرا ، ثمّ ذهبا بعائشة معهما إلى البصرة مطالبة بدم عثمان. ثمّ دعا معاوية طغاة أهل الشام

() وفي «د» هكذا : فأظهر ابن عوف خلعه وكفره فذكر لنا أنّ عثمان سمّه ، فمات ابن عوف. روى العلاّمة الأميني في الغدير : ج ٩ ص ٨٦ : أنّه لمّا أحدث عثمان ما أحدث قيل لعبد الرحمن ابن عوف : هذا كلّه فعلك. فقال : ما كنت أظنّ هذا به. لكن لله عليّ أن لا اُكلّمه أبداً. ومات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان ، ودخل عليه عثمان عائداً في مرضه فتحوّل إلى الحائط ولم يكلّمه. مات عبد الرحمن سنة (٣٢).

وروى العلاّمة المجلسي في البحار : ج ٨ ص ٣١٩ الطبع القديم عن الثقفي في تاريخه قال : كثر الكلام بين عبد الرحمن وبين عثمان حتّى قال عبد الرحمن : أما والله لئن بقيت لك لاُخرجنّك من هذا الأمر كما أدخلتك فيه وما غررتني إلاّ بالله.

٣٢١

.........................................

____________________________________

إلى الطلب بدم عثمان ونصب لنا الحرب. ثمّ خالفه أهل حروراء على أن يحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، فلو كانا حكما بما اشترط عليهما لَحَكما أنّ عليّاً عليه السلام أمير المؤمنين في كتاب الله وعلى لسان نبيّه وفي سنّته ، فخالفه أهل النهروان وقاتلوه.

ثمّ بايعوا الحسن بن علي عليه السلام بعد أبيه وعاهدوه ، ثمّ غَدَروا به وأسلموه ووثبوا عليه حتّى طعنوه بخنجر في فخذه وانتهبوا عسكره وعالجوا خلاخيل اُمّهات أولاده. فصالح معاوية وحقن دمه ودم أهل بيته وشيعته ، وهم قليل حقّ قليل ، حين لا يجد أعواناً.

ثمّ بايع الحسين عليه السلام من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً. ثمّ غدروا به ثمّ خرجوا إليه فقاتلوه حتّى قُتل.

ثمّ لم نَزَل أهل البيت ـ منذ قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله ـ نذلّ ونقصي ونحرم ونقتل ونطرد ونخاف على دمائنا وكلّ مَن يحبّنا. ووجد الكاذبون لكذبهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقُضاتهم وعمّالهم في كلّ بلدة ، يحدّثون عدوّنا عن ولاتهم الماضين بالأحاديث الكاذبة الباطلة ، ويروون عنّا ما لم نقل تهجيناً منهم لنا وكذباً منهم علينا وتقرّباً إلى ولاتهم وقضاتهم بالزور والكذب.

وكان عظم ذلك وكثرته في زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام ، فقُتلت الشيعة في كلّ بلدة وقطعت أيديهم وأرجلهم وصلبوا على التهمة والظنّة من ذكر حبّنا والإنقطاع إلينا.

ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان ابن زياد بعد قتل الحسين عليه السلام. ثمّ الحجّاج فقتلهم بكلّ قتلة وبكلّ ظنّه وبكلّ تهمة ، حتّى أنّ الرجل ليقال له : «زنديق» أو «مجوسي» كان ذلك أحبّ إليه من أن يُشار إليه أنّه من «شيعة الحسين

٣٢٢

.........................................

____________________________________

صلوات الله عليه!!»(١) ـ(٢) .

وزيارة جامعة أئمّة المؤمنين التي رواها السيّد ابن طاووس نوّهت عن شيء من مصائبهم ومحنهم صلوات الله عليهم أجمعين ولعن الله أعدائهم إلى يوم الدين ، جاء فيها :

«يا موالي ، فلو عاينكم المصطفى وسهام الاُمّة مغرقة في أكبادكم ، ورماحهم مشرعة في نحوركم ، وسيوفها مولعة في دمائكم ، يشفي ابناء العواهر غليل الفسق من ورعكم ، وغيظ الكفر من إيمانكم ، وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شكّت أكفانه بالسهام ، وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه ، ومكبّل في السجن قد رضّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قطّعت بجرع السمّ أمعاؤه ، وشملكم عباديد تفنيهم العبيد وأبناء العبيد.

فهل المحن يا سادتي غلاّ التي لزمتكم ، والمصائب إلاّ التي عمّتكم ، والفجائع إلاّ التي خصّتكم ، والقوارع إلاّ التي طرقتكم صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم ، وأجسادكم ورحمة الله وبركاته»(٣) .

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس : ج ٢ ص ٦٣٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٧ ص ٢١١ ب ٩ الأحاديث.

(٣) مصباح الزائر : ص ٤٦٤.

٣٢٣

وَصَبَرْتُمْ عَلى ما اَصابَكُمْ فى جَنْبِهِ (١)

____________________________________

(١) ـ أي أنّكم أهل البيت سلام الله عليكم صبرتم على ما أصابكم من المشقّة والتعب والظلم والأذى وسفك الدماء وسبي النساء ونهب الأموال ، في جنب الله وجهته وفي طريقه ومرضاته.

والصبر في اللغة : نقيض الجزع(١) .

وفي الإصطلاح : (حبس النفس على المكروه إمتثالاً لأمر الله تعالى)(٢) .

وفسّ بالإمساك في الضيق وحبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع(٣) .

وفي الشموس بيّن أنّ حقيقة الصبر هو وقار النفس ، ولاءمه عدم الإضطراب عند الإبتلاء(٤) .

وعرّفه المحقّق الطوسي أنّه (حبس النفس عن الجزع عند المكروه ، وهو يمنع الباطن عن الإضطراب ، واللسان عن الشكاية ، والأعضاء عن الحركات غير المعتادة)(٥) .

والصبر يكون في مواطن كثيرة كالصبر على الطاعة ، والصبر على المعصية ، والصبر على المصيبة.

ولقد أشاد الله تعالى بذكر الصبر والصابرين في أكثر من (٧٠) موضع من القرآن الكريم(٦) .

كما مدحه المعصومون عليهم السلام بفائق المدح والثناء في أحاديث كثيرة تلاحظها في

__________________

(١) المحيط في اللغة : ج ٨ ص ١٣٤.

(٢) مجمع البحرين : مادّة صبر ص ٢٧٢.

(٣) المفردات : ص ٣٧٣.

(٤) الشموس الطالعة : ص ٢٩٨.

(٥) سفينة البحار : ج ٢ ص ٤.

(٦) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : مادّة صبر.

٣٢٤

.........................................

____________________________________

كتب الأخبار(١) .

وأهل البيت سلام الله عليهم بلغوا أعلى مراتب الصبر ، وأعلى درجات الصابرين الذي كان جزاؤه معيّة الله تعالى والزلفى عنده عزّ إسمه( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .

ويكفي لذلك دليلاً ومثالاً ، كلام أمير المؤمنين عليه السلام :

«فنظرت فإذا ليس معين إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن الموت ، وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من حرّ الشفار»(٢) .

وتلاحظ صبرهم في أحاديثهم الشريفة الواردة في البحار(٣) .

ولقد عجبت من صبرهم ملائكة السماء كما في زيارة الناحية المقدّسة(٤) .

وقد اعتر بعظيم صبرهم شيعتهم وغير شيعتهم كما تلاحظه في ما تقدّم من حديث ابن دأب(٥) .

وفي نسخة الكفعمي بعد هذه الفقرة : «وصدعتم بأمره ، وتلوتم كتابه ، وحذّرتم بأسه ، وذكّرتم بأيّامه ، وأوفيتم بعهده».

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧١ ص ٥٦ ب ٦٢ الأحاديث.

(٢) نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة ٢٦.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ١ ب ٩٩ ، وج ٢٤ ص ٢١٤ ب ٥٧.

(٤) بحار الأنوار : ج ١٠١ ص ٢٤٠ ب ١٨ ح ٣٨.

(٥) الاختصاص : ص ١٠٨.

٣٢٥

وَاَقَمْتُمُ الصَّلاةَ (١)

____________________________________

(١) ـ الصلاة هي العبادة القربيّة المعروفة التي هي معراج المؤمن ، وقربان كلّ تقيّ ، وقرّة عين الصالحين.

وإقامتها فُسّرت بمعانٍ ثلاثة :

١ / بمعنى تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ وإنحراف في أفعالها ، أخذاً من أقام العُود يعني عود الخيمة : أي قوّمه.

٢ / بمعنى المواظبة على الصلاة وترويجها ، أخذاً من قامت السوق : أي راجت.

٣ / بمعنى التشمير والاستعداد لأدائها من غير فتور ولا توانٍ ولا تهاون ، أخذاً من قام بالأمر : أي جدّ فيه ، وتجلّد ، ولم يتهاون(١) .

ولعلّ جامع المعاني في إقامة الصلاة هي المحافظة عليها ، تلك المحافظة التي أمر بها في قوله عزّ إسمه :( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) (٢) .

والتي هي من صفات المؤمنين المفلحين المبشَّرين بالجنّة في كتاب الله الكريم في قوله تعالى :( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (٣) .

وأهل البيت عليهم السلام هم الذين أقاموا الصلاة حقّ إقامتها بكلّ خضوع وخشوع ، وإخلاص وحضور قلب ، وجاؤوا بها تامّة الأجزاء والشرائط ، وحافظوا على أدائها بكلّ ما هو من شروط قبولها وكمالها ، وواظبوا على إتيانها بكلّ جدٍّ واجتهاد ، واستعدّوا لها أتمّ الإستعداد ، وعلّموها أحسن التعليم ، ومنحوها غاية التعظيم ، والتزموا بها في الشدّة والرخاء ، واعتنوا بها غاية الاعتناء.

__________________

(١) مجمع البحرين : مادّة قَوَمَ ص ٥٣٢.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٣٨.

(٣) سورة المؤمنون : الآية ٩ ـ ١١.

٣٢٦

.........................................

____________________________________

كما تلاحظ ذلك بوضوح في سيرتهم وحياتهم ، وفي سفرهم وإقامتهم ، حتّى في حروبهم وسجونهم.

وغني عن البيان صلاة أمير المؤمنين عليه السلام(١) .

وصلاة الإمام السجّاد عليه السلام(٢) .

وصلاة الإمام الكاظم عليه السلام(٣) .

نقل أحمد بن عبد الله عن أبيه قال : دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي : أشرفْ على هذا البيت وانظر ما ترى؟

فقلت : ثوباً مطروحاً.

فقال : انظر حسناً.

فتأمّلت فقلت : رجل ساجد.

فقال لي : تعرفه؟ هو موسى بن جعفر ، أتفقّده الليل والنهار ، فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على هذه الحالة ، إنّه يصلّي الفجر فيعقّب إلى أن تطلع الشمس ، ثمّ يسجد سجدة ، فلا يزال ساجداً حتّى تزول الشمس ، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة ، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء ، وهو دأبه ، فإذا صلّى العتمة أفطر ، ثمّ يجدّد الوضوء ثمّ يسجد ، فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتّى يطلع الفجر.

وقال بعض عيونه : كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه : «اللهمّ إنّك تعلم أنّني كنت أسألك أن تفرّغني ...»(٤) .

ولقد شهد بسموّ عباداتهم حتّى غير شيعتهم ، كما تقدّم عن أبي الحديد في

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ١١.

(٢) سفينة البحار : ج ٦ ص ٣٨٧.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤٨ ص ١٠٠ ب ٣٩ الأحاديث.

(٤) بحار الأنوار : ج ٤٨ ص ١٠٧ ب ٣٩ ح ٩.

٣٢٧

.........................................

____________________________________

شرحه حيث قال في صلاة أمير المؤمنين عليه السلام :

وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على وِرده أن يُبسط له نطعٌ بين الصفّين ليلة الهرير ، فيصلّي عليه ورْدَه ، والسهام تقع بين يديه وتمرّ على صِماخيه يميناً وشمالاً ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته! ثمّ قال : وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزّته والاستخذاء له ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أي قلب خرجت ، وعلى أي لسان جرت!

وقيل لعلي بن الحسين عليه السلام ـ وكان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدّك؟

قال : «عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله»(١) .

فإقامة الصلاة وإتمام العبادات كانت بأهل بيت العصمة سلام الله عليهم كما في حديث الإمام الرضا عليه السلام :

«بالإمام تمام الصلاة والصيام والحجّ والجهاد ...»(٢) .

وأهل البيت سلام الله عليهم قد أتمّوا الحجّة ، وأوضحوا المحجّة في بيان الحثّ على الصلوات ، والمحافظة عليها في جميع الأوقات ، والترغيب إليها في جميع المناسبات كما تشاهده في أحاديثهم الوافية(٣) .

وقد بيّنوا حدود الصلاة وأبوابها وأحكامها بجميع سننها وآدابها.

وقد فسّر الشهيد الأوّل قدس سره حديث (إنّ للصلاة أربعة آلاف حدّ) بواجباتها ومندوبها ، فجعل أحكام الواجبات ألفاً وصنّف لها كتاب الألفية ، وجعل مندوباتها

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ج ١ ص ٢٧.

(٢) الكافي : ج ١ ص ٢٠٠.

(٣) بحار الأنوار : ج ٨٣ ص ١ ب ٦ الأحاديث.

٣٢٨

.........................................

____________________________________

ثلاثة آلاف وصنّف لها كتاب النفليّة(١) .

فأهل البيت عليهم السلام هم الذين أقاموا الصلاة حقّ إقامتها ، بل علّموا وهذّبوا وأمروا الخلق بالصلاة التامّة الكاملة التي يلزم مراعاتها.

ويحسن التدبّر لذلك في مفصّل حديث حمّاد في هذا الباب قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام يوماً : «تحسن أن تصلّي يا حمّاد؟ قال :

قلت : يا سيّدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة.

قال : فقال عليه السلام : لا عليك قم صلّ.

قال : فقمت بين يديه متوجّهاً إلى القبلة فاستفتحت الصلاة ، وركعت ، وسجدت.

فقال عليه السلام : يا حمّاد لا تحسن أن تصلّي ، ما أقبح بالرجل (منكم) أن يأتي عليه ستّون سنة أو سبعون سنة ، فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة؟!

قال حمّاد : فأصابني في نفسي الذلّ فقلت : جعلت فداك فعلّمني الصلاة.

فقام أبو عبد الله عليه السلام مستقبل القبلة ، منتصباً ، فأرسل يديه جميعاً على فخذيه قد ضمّ أصابعه ، وقرّب بين قدميه حتّى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات ، واستقبل بأصابع رجليه (جميعاً) لم يحرّفهما عن القبلة ، بخشوع واستكانة فقال : الله أكبر ، ثمّ قرأ الحمد بترتيل ، وقل هو الله أحد ، ثمّ صبر هنيئة بقدر ما تنفّس وهو قائم ، ثمّ قال : الله أكبر وهو قائم ، ثمّ ركع وملأ كفّيه من ركبتيه مفرّجات ، وردّ ركبتيه إلى خلفه حتّى استوى ظهره ، حتّى لو صبّت عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره وتردّد ركبتيه إلى خلفه ، ونصب عنقه ، ثمّ استوى قائماً ، فلمّا استمكن من القيام قال :

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ص ٤٣.

٣٢٩

.........................................

____________________________________

سمع الله لمن حمده ، ثمّ كبّر وهو قائم ، ورفع يديه حيال وجهه ، وسجد ، ووضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه وقال : سبحان ربّي الأعلى وبحمده ثلاث مرّات ، ولم يضع شيئاً من بدنه على شيء منه ، وسجد على ثمانية أعظم ك الجبهة ، والكفّين ، وعيني الركبتين ، وأنامل إبهامي الرجلين ، والأنف ، فهذه السبعة فرض ، ووضع الأنف على الأرض سنّة وهو الإرغام ، ثمّ رفع رأسه من السجود فلمّا استوى جالساً قال : الله أكبر ، ثمّ قعد على جانبه الأيسر ، ووضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى ، وقال : استغفر الله ربّي وأتوب إليه ، ثمّ كبّر وهو جالس ، وسجد الثانية وقال : كما قال في الاُولى ، ولم يستعِنْ بشيء من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود ، وكان مجنّحاً ، ولم يضع ذراعيه على الأرض ، فصلّى ركعتين على هذا.

ثمّ قال : يا حمّاد هكذا صلّ ، ولا تلتفت ، ولا تعبث بيديك وأصابعك ، ولا تبزق عن يمينك ولا (عن) يسارك ولا بين يديك»(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٤ ص ٦٧٣ ب ١ ح ١.

٣٣٠

وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ (١)

____________________________________

(١) ـ الإيتاء هو البذل والإعطاء.

والزكاة جاءت لغةً بمعنى الطهارة وبمعنى النماء.

لأنّها إمّا مصدر زكّى بالتشديد بمعنى طَهَّرَ ، ومنه قوله تعالى :( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) (١) أي طهّر نفسه ، أو مصدر زكى بالتخفيف بمعنى نَما ، ومنه قوله تعالى :( ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) (٢) أي أنمى لكم.

والزكاة تناسب كلا المعنيين الطهارة والنمو ، فزكاة المال طهر للمال ، وزكاة الفطرة طهر للأبدان.

وكذلك زكاة المال تطهّر المال من الخبث فتكون بمعنى الطهارة ، وتستجلب البركة في المال فتكون بمعنى النموّ(٣) .

وحكى صاحب الجواهر عن الشهيد الأول قدس سره معنىً ثالثاً للزكاة وهو العمل الصالح فإنّه قد تطلق عليه ، ثمّ أفاد أنّه لعلّ منه قوله تعالى :( وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (٤) ـ(٥) .

فتكون معاني الزكاة في اللغة ثلاثة : الطهارة ، والنماء ، والعمل الصالح.

هذا لغةً وأمّا إصطلاحاً فالمستفاد من تعاريف الفقهاء رضوان الله عليهم أنّ الزكاة : (اسم للصدقة المقدّرة بأصل الشرع ، المتعلّقة بالنصاب ، الثابتة في المال أو في الذمّة).

وأهل البيت سلام الله عليهم آتوا الزكاة ، وأعطوا الصدقات الواجبة والمستحبّة ، بكلّ معنى الكلمة ، وبأكمل ما يمكن ، وبأسخى بذلٍ يتصوّر.

__________________

(١) سورة الشمس : الآية ٩.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٣٢.

(٣) مجمع البحرين : مادّة زكا ص ٤١.

(٤) سورة مريم : الآية ٣١.

(٥) جواهر الكلام : ج ١٥ ص ٢.

٣٣١

.........................................

____________________________________

وقد صنعوا المعروف ، وجادوا بكلّ خير ، وأحسنوا إلى كلّ ذي روح ، لا يريدون في قبال ذلك جزاءً ولا شكوراً ، فبارك الله لهم كثيراً وطهّرهم تطهيراً.

ويشهد بذلك تصفّح سيرتهم الغرّاء ، وحياتهم العلياء ، المليئة بالبذل السخيّ والعطاء الوافي ، لأنحاء الصدقات وأبرّ الخيرات.

فإنّه يظهر ذلك بوضوح في أحوال جميعهم رسول الله وأمير المؤمنين ، وفاطمة سيّدة نساء العالمين ، وأولادهم الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

وقد اتّفق على هذا الفريقان ، واعترف بذلك المؤالف والمخالف.

قال المعتزلي في أمير المؤمنين عليه السلام :

وأمّا السخاء والجود فحالة فيه ظاهرة ، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ، وفيه اُنزل :( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ) (١) .

وروى المفسّرون أنّه لم يكن يملك إلاّ أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سرّاً وبدرهم علانية ، فاُنزل فيه :( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ) (٢) .

وروي عنه أنّه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة ، حتّى مَجَلَت(٣) يده ، ويتصدّق بالاُجرة ، ويشدّ على بطنه حجراً.

وقال الشعبي وقد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخُلُق الذي يحبّه الله : السخاء والجود ، ما قال : «لا» لسائل قطّ.

وقال عدوّه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمِحْقَن

__________________

(١) سورة الإنسان : الآية ٨ ـ ٩.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٧٤.

(٣) مجلت يده : أي ثخن جلده وتعجّر وظهر فيه ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة.

٣٣٢

.........................................

____________________________________

بن أبي محْقَن الضبي لمّا قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك! كيف تقول إنّه أبخل الناس ، لو مَلَك بيتاً من تِبْر وبيتاً من تِبْن لأنفد تبره قبل تبنه.

وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلّي فيها. وهو الذي قال : «يا صفراء ، ويا بيضاء ، غرّي غيري ، وهو الذي لم يخلِّف ميراثاً ، وكانت الدنيا كلّها بيده إلاّ ما كان من الشام»(١) .

وتلاحظ إنفاقهم الزكوات وبذلهم الخيرات ، وشيمتهم السخيّة ، ومكارمهم الزكيّة في أحاديثنا الشريفة في أبواب صدقاتهم وإنفاقاتهم(٢) .

وقد بذلوا كلّ ما لديهم من الله في سبيل الله حتّى نزل فيهم كتاب الله ، فإنّه نزل في أمير المؤمنين عليه السلام قوله تعالى :( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٣) ـ(٤) .

ونزل فيه قوله تعالى :( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٥) .

ونزل فيهم عليهم السلام قوله تعالى :( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٦) ـ (٧).

وسجّل شيخ الإسلام المجلسي المصادر من الفريقين فيما أوقفه أمير المؤمنين عليه السلام من أمواله بخيبر ، ووادي القرى ، وأبي نيزر ، والبغيبغة ، وأرباح ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد المعتزلي : ج ١ ص ٢١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣٦ ص ٥٩ ب ٣٦ ح ١ ـ ٣ ، وج ٤١ ص ٢٤ ب ١٠٣ ، وج ٤٢ ص ٧١ ب ١١٩ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٤ ب ١٩ ح ١ و ٣ و ٥ ، وص ٣١٩ ب ٣٩ ح ٢ و ٣.

(٣) سورة البقرة : الآية ٢٦٥.

(٤) تفسير العياشي : ج ١ ص ١٤٨.

(٥) سورة البقرة : الآية ٢٧٤.

(٦) سورة الحشر : الآية ٩.

(٧) كنز الدقائق : ج ١٣ ص ١٧٥.

٣٣٣

.........................................

____________________________________

واُدينة ، ورغد ، ورزين ، ورياح. ثمّ ما أوقفه من مساجده ، وآباره ، ونخيله ، وأنّه كانت غلّته اربعين ألف دينار ، جعلها صدقة

وإنّه كان يدعو اليتامى فيطعمهم العسل ، حتّى قال بعض أصحابه : لوددت أنّي كنت يتيماً وأنّه كان مثالاً للجود والعطاء حتّى نزل فيه قوله تعالى في سورة الليل :( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ) (١) .

كما تلاحظه في حديث فرات الكوفي بسنده عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام قال : «كان رجل مؤمن على عهد النبي صلى الله عليه وآله في دار حديقة ، وله جار له صِبية ، فكان يتساقط الرطب من النخلة فينشدون صبيته يأكلونه ، فيأتي الموسر فيخرج الرطب من جوف أفواه الصبية.

وشكا الرجل ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فأقبل وحده إلى الرجل فقال : بعني حديقتك هذه بحديقة في الجنّة.

فقال له الموسر : لا أبيعك عاجلاً بآجل!

فبكى النبي صلى الله عليه وآله ورجع نحو المسجد فلقيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له : يا رسول الله ما يكيك لا أبكى الله عينيك؟ فأخبره خبر الرجل الضعيف والحديقة.

فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام حتّى استخرجه من منزله وقال له : بعنى دارك.

قال الموسر : بحائطك الحسنيّ.

فصفق علي يده ، ودار إلى الضعيف فقال له : تحوّل إلى دارك فقد ملّكها الله ربّ العالمين لك.

وأقبل أمير المؤمنين عليه السلام ونزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله فقال له : يا محمّد اقرأ :( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ) (٢) إلى آخر السورة ، فقام النبي صلى الله عليه وآله وقبّل بين عينيه ، ثمّ قال : بأبي أنت قد أنزل الله فيك هذه السورة الكاملة»(٣) .

__________________

(١) سورة الليل : الآية ٥ ـ ٧.

(٢) سورة الليل : الآية ١ ـ ٣ إقرأها إلى آخرها.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ٣٧ ب ١٠٢ ح ١٥.

٣٣٤

وَاَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ (١)

____________________________________

(١) ـ الأمر بالشيء : الدعوة إلى ذلك الشيء ، والحثّ على إتيانه.

والمعروف : اسم جامع لكلّ ما عُرف من طاعة الله تعالى ، والإحسان إلى الناس ، والمندوبات في الشرع ، والأفعال الحسنة الراجحة.

وهو يشمل الواجبات والمستحبّات ، فيكون الأمر بالواجب واجباً والأمر بالمستحبّ مستحبّاً ، كما صرّح به كثير من الفقهاء.

والنهي عن الشيء : الزجر عن ذلك ، والتحذير عن إتيانه.

والمنكر : ضدّ المعروف ، وهو كلّما قبّحه الشارع ، ولذلك ذكروا أنّه يكون فرض النهي عن المنكر في المحرّمات فقط.

لكن أفاد بعض الفقهاء عمومية المنكر وشموله للمحرّمات والمكروهات ، فان كان الشيء محرّماً كان النهي عنه واجباً ، وإن كان مكروهاً كان النهي عنه محبوباً.

وقد وقع شرعاً النهي عن المكروهات أيضاً فيما تلاحظه في حديث مناهي النبي صلى الله عليه وآله(١) .

كما نُهي عن الذنوب وبُيّن آثارها في حديث الإمام السجّاد عليه السلام (٢) واُحصيت الكبائر الأربعين المنهيّة ، في الكتب المفصّلة الفقهية ، مثل مفتاح الكرامة للسيّد العاملي قدس سره فلاحظ(٣) .

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الأساسية في الشريعة المقدّسة.

وقد أمر الله تعالى بهما في قوله تعالى :( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٦ ص ٣٥٩ ب ٦٧ ح ٣٠.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١١ ص ٥١٩ ب ٤١ ح ٨.

(٣) مفتاح الكرامة : ج ٣ ص ٥٩.

٣٣٥

.........................................

____________________________________

وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

وتظافرت بهما السنّة الشريفة كما تجده في الأحاديث(٢) .

وقام عليهما إجماع المسلمين ، وحكم العقل المستقلّ(٣) .

فالأدلّة الأربعة محقّقة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأهل البيت سلام الله عليهم خير من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وهدى بأمر الله ، وبذل كلّ غالٍ ونفيس في سبيل إقامة الحقّ وتشييد العدل.

ففي حديث حمران ، عن الإمام الباقر عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ :( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (٤) .

قال : «هم الأئمّة»(٥) .

وفي حديث أبي حمزة عن الإمام الباقر عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ :( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (٦) .

قال : «نحن هم»(٧) .

فهم عليهم السلام خير من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.

وكانت هذه سيرتهم وسنّتهم في مدى حياتهم.

وقد تجلّت هذه المنقبة بأسمى معانيها في عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام ، حيث

__________________

(١) سورة آل عمران : الاية ١٠٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٠٠ ص ٦٨ ب ١ الأحاديث التسعة والتسعون.

(٣) جواهر الكلام : ج ٢١ ص ٣٥٨.

(٤) سورة الأعراف : الآية ١٨١.

(٥) بحار الأنوار : ج ٢٤ ص ١٤٤ ب ٤٥ ح ٥.

(٦) سورة آل عمران : الآية ١١٠.

(٧) بحار الأنوار : ج ٢٤ ص ١٥٥ ب ٤٦ ح ٨.

٣٣٦

.........................................

____________________________________

كانت شهادته وخروجه إليها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب الإصلاح في دين جدّه صلى الله عليه وآله كما في الوصيّة المروية عنه عليه السلام(١) .

وفي نسخة الكفعمي بعد هذه الفقرة : «وجادلتم بالتي هي أحسن».

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٤ ص ٣٢٩.

٣٣٧

وَجاهَدْتُمْ فِى اللهِ حَقَّ جِهادِهِ (١)

____________________________________

(١) ـ الجهاد بكسر الجيم : مأخوذ في اللغة من الجهد بالفتح بمعنى التعب والمشقّة ، أو من الجُهد بالضمّ بمعنى الوسع والطاقة.

وفي الإصطلاح هو : بذل النفس وما يتوقّف عليه كالمال في محاربة المشركين أو الباغين ، على وجه مخصوص.

وبذل النفس والمال والوُسع في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ، وإقامة شعائر الإيمان.

قال تعالى :( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) (١) .

وذكر في مجمع البيان : أنّ أكثر المفسّرين حملوا الجهاد هيهنا على جميع أعمال الطاعات ، وقالوا : حقّ الجهاد أن يكون بنيّة صادقة خالصة لله تعالى(٢) .

وفي الأنوار فسّر حقّ الجهاد بالجهاد لساناً وجَناناً وأركاناً(٣) .

وأهل البيت سلام الله عليهم أتمّ المصاديق ، وأكمل موردٍ حقيق للجهاد في الله عزّ إسمه ، كما يشهد به حياتهم الغرّاء وسيرتهم العلياء.

وهم المعنيّون بهذه الآية الشريفة كما تلاحظه في حديث الإمام الباقر عليه السلام الوارد في تفسيرها(٤) .

وللنموذج إقرأ جهاد أمير المؤمنين عليه السلام الذي شهد به الفريقان.

ففي ما حكي عن المناقب : اجتمعت الاُمّة أنّ عليّاً كان المجاهد في سبيل الله ، والكاشف للكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله ، المقدّم في سائر الغزوات ، وصاحب الراية وما رُئي أحد عمل في الجهاد ما عمل علي عليه السلام.

__________________

(١) سورة الحجّ : الآية ٧٨.

(٢) مجمع البيان : ج ٧ ص ٩٧.

(٣) الأنوار اللامعة : ص ١٣١.

(٤) تفسير البرهان : ج ٢ ص ٧١٦.

٣٣٨

.........................................

____________________________________

وقال سفيان الثوري : كان علي بن أبي طالب عليه السلام كالجبل بين المسلمين والمشركين ، أعزّ الله به المسلمين ، وأذلّ به المشركين(١) .

وقال ابن أبي الحديد : (وأمّا الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه وعدوّه أنّه سيّد المجاهدين ، وهل الجهاد لأحد من الناس إلاّ له)(٢) .

ولا يخفى على مسلم مدى جهاد سلالته الطيّبة وريحانته الطاهرة الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء الذي أحيا به السنّة وأقام به القرآن كما تلاحظه في زيارة الناحية المباركة(٣) .

وقد واصلوا عليهم السلام جهادهم وجهدهم حتّى تحقّقت الغايات التالية في هذه الزيارة الشريفة ، يعني الفقرات الآتية : «حتّى أعلنتم دعوته ...».

__________________

(١) لاحظ بحار الأنوار : ج ٤١ ص ٦٠ ـ ٦٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد : ج ١ ص ٢٤.

(٣) تحفة الزائر : ص ٢٧٧.

٣٣٩

حَتّى اَعْلَنْتُمْ دَعْوَتَهُ (١) وَبَيَّنْتُمْ فَرائِضَهُ (٢)

____________________________________

(١) ـ العلانية : خلاف السرّ ، والإعلان هو النشر والإظهار.

وأعلنتم دعوته : أي أظهرتم ونشرتم دعوة الله الحقّة بين الناس ، وبعلانية الدعوة حصل للناس العلم والمعرفة ، وتمّ البيان والحجّة.

ودعوة الله التي أعلنوها هي دعوته تعالى خلقه إلى معرفته ومعرفة أوليائه وعبادته ، وسنّته وفرائضه ، وأوامره ونواهيه.

وهي دعوة إلى أسباب السعادة ، ودعوة إلى الجنّة ، ودعوة إلى الحياة الأبدية كما نطق به الكتاب الكريم في قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) (١) ـ(٢) .

وكلّ ما أعلنه أهل البيت عليهم السلام هي دعوة الله تعالى ، إذ هم خلفاء رسول الله فهم الدعاة إلى الله.

وفي نسخة الكفعمي زيادة : «وقمعتم عدوّه ، وأظهرتم دينه».

(٢) ـ التبيين : إظهار الشيء وتمييزه بحيث لا يشتبه بغيره ، من البيان بمعنى الوضوح والإنكشاف.

أي أوضحتم فرائض الله تعالى.

وفرائض الله تعالى هي واجباته المفروضة ، أو أحكامه بنحو عام.

وفي الشموس الطالعة : (إنّ الفرائض هي ما بيّن الله وجوبه في كتابه كالصلاة والصوم والحجّ والجهاد ...)(٣) .

وأهل البيت سلام الله عليهم هم أوصياء النبي الأعظم ، والخلفاء على الدين

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٢٤.

(٢) كنز الدقائق : ج ٥ ص ٣١٥.

(٣) الشموس الطالعة : ص ٣٠٢.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698