مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مناظرات وحوار ليالي بيشاور5%

مناظرات وحوار ليالي بيشاور مؤلف:
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 1199

مناظرات وحوار ليالي بيشاور
  • البداية
  • السابق
  • 1199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 278669 / تحميل: 5487
الحجم الحجم الحجم
مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

العباد» وأكثر علماء الحنفية انتقدوا كثيراً من الأحاديث المـُدرَجة في الصحيحين وقالوا: إنّها من الروايات الضعاف وهي غير صحيحة.

وبعض المحقّقين من علمائكم مثل كمال الدين جعفر بن ثعلب بالغ في بيان فضائح بعض الروايات من الصحيحين، وأقام الأدلّة العقلية والنقلية على خلافها.

فلسنا وحدنا المنتقدين لصحيحَيْ مسلم والبخاري والقائلين بوجود الخرافات فيهما حتّى تهرّج ضدّنا!

الحافظ: بيّنوا لنا من خرافات الصحيحين كما تزعمون حتّى نترك التحكيم في ذلك للحاضرين.

قلت: أنا لا اُحبّ أن أخوض في هذا البحث، ولكن تلبية لطلبكم، ولكي تعرفوا أنّي لا أتكلّم إلّا عن علم وإنصاف، وعن وجدان وبرهان، أذكر بعض تلك الروايات باختصار:

رؤية الله سبحانه

إذا أردتم الاطّلاع على الأخبار التي تتضمّن الكفر في الحلول والاتّحاد وتجسّم الله سبحانه ورؤيته في الدنيا أو في الآخرة على اختلاف عقائدكم، فراجعوا: صحيح البخاري ج ١، باب فضل السجود من كتاب الصلاة، وج ٤ باب الصراط من كتاب الرقاق، وصحيح مسلم ج ١، باب اثبات رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة، ومسند أحمد ج ٢ ص ٢٧٥، وأنقل لكم نموذجين من تلك الأخبار الكفرية:

١٤١

١- عن أبي هريرة: إنّ النار تزفر و تتقيّظ شديداً، فلا تسكن حتّى يضع الربّ قدمه فيها، فتقول: قطّ قطّ، حسبي حسبي.

وعنه: إنّ جماعة سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هل نرى ربّنا يوم القيامة؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم، هل تضارّون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب الى آخرها.

بالله عليكم أنصفوا! أما تكون هذه الكلمات كفراً بالله سبحانه وتعالى.

وقد فتح مسلم باباً في صحيحه كما مرّ ونقل أخباراً عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وسويد بن سعيد وغيرهم في رؤية الله تبارك وتعالى.

وقد ردّ هذه الأخبار كثيرٌ من كبار علمائكم وعَدوُّها من الموضوعات والأكاذيب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، منهم الذهبي في «ميزان الاعتدال» والسيوطي في «اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة» وسبط ابن الجوزي في «الموضوعات» فهؤلاء كلّهم أثبتوا - بأدلّة ذكروها - كذب تلك الأخبار وعدم صحّتها.

وإذا لم تكن هناك أدلّة على بطلانها سوى الآيات القرآنية الصريحة في دلالتها على عدم جواز رؤية الباري عزّ وجلّ لكفى، مثل:( لاَ تُدْرِکُهُ الْأَبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِکُ الْأَبْصَارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) .

وفي قصّة موسى بن عمرانعليه‌السلام وقومه إذ طلبوا منه رؤية الله تعالى وهو يقول لهم: لا يجوز لكم هذا الطلب، ولكنّهم أصرّوا فقال:( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْکَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ) (٢) و( لَنْ ) تأتي في النفي الأبدي.

____________________

١) سورة الأنعام، الآية ١٠٣.

٢) سورة الأعراف، الآية ١٤٣.

١٤٢

قال السيّد عبد الحيّ - وهو إمام جماعة المسجد -: ألم ترووا عن عليّ كرّم الله وجهه أنّه قال: لم أكن أعبد ربّاً لم أره؟!

قلت: حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياء، إنّك ذكرت شطراً من الخبر ولكنّي أذكر لك الخبر كلّه حتّى تأخذ الجواب من نصّ الخبر:

روى ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني قدّس سرّه(١) في كتاب الكافي كتاب التوحيد باب إبطال الرؤية وروى أيضاً الشيخ الكبير حجّة الاسلام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق طاب ثراه(٢) في كتاب التوحيد باب ابطال عقيدة رؤية الله تعالى، رويا عن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام أنّه قال: جاء حَبْرٌ إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟

فقالعليه‌السلام : ويلك! ما كنت أعبد ربّاً لم أره.

قال: وكيف رأيته.

قالعليه‌السلام : ويلك! لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

فكلام أمير المؤمنينعليه‌السلام صريح في نفي رؤيته سبحانه بالبصر، بل يدرك بالبصيرة وبنور الإيمان.

وعندنا دلائل عقلية ونقلية أقامها علماؤنا في الموضوع، وتبعهم بعض علمائكم، مثل: القاضي البيضاوي، وجار الله الزمخشري في

____________________

١) الكافي: ١/٩٨، كتاب التوحيد، الحديث ٦.

٢) التوحيد: ١٠٩، الحديث ٦، الباب ٨.

١٤٣

تفسيريهما، أثبتا أنّ رؤية الله سبحانه لا تمكن عقلاً.

فمن يعتقد برؤية الله سواءً في الدنيا أو في الآخرة، يلزم أن يعتقد بجسميّته عزّ وجلّ، وبأنّه محاط ومظروف، ويلزم أن يكون مادّة حتّى يُرى بالعين المادّية، وهذا كفر كما صرّح العلماء الكرام من الفرقين!!

الأخبار الخرافية

ثمّ إنّي أعجب كثيراً من اعتقادكم بالصحاح الستّة، وبالأخصّ صحيحي البخاري ومسلم على أنّهما كالوحي المنزل، فلو نظرتم فيهما بعين التحقيق والنقد، لا بعين القبول والتسليم، لاعتقدتم بكلامي، ولقبلتم أنّ صحاحكم، وحتّى صحيحي مسلم والبخاري لا تخلو من الخرافات والموهومات، وإليكم بعضها:

١- أخرج البخاري في كتاب الغسل، باب من اغتسل عرياناً، وأخرج مسلم في ج ٢ باب فضائل موسى، وأخرج أحمد في مسنده ج ٢ ص ٣١٥ عن أبي هريرة قال: كانوا بنوا إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر - أي ذو أدرة، وهي: الفتق -.

قال فذهب مرّة ليغتسل فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر، بثوبه، فجعل موسى يجري بأثره ويقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى!!! فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر بعد حتّى نُظر إليه، فأخذ موسى ثوبه فطفق بالحجر

١٤٤

ضرباً!! فوالله إنّ بالحجر نُدَباً ستّة أو سبعة!!

بالله عليكم أنصفوا.. هل يرضى أحدكم أن تنسب إليه هذه النسبة الموهنة الشنيعة؟! التي لو نُسبَت إلى سوقيّ عاميّ لغضب واستشاط! فكيف بنبيّ صاحب كتاب وشريعة، وصاحب حكم ونظام، يخرج في اُمّته وشعبه عرياناً وهم يمنعون النظر إلى سوأته هل العقل يقبل هذا؟!

وهل من المعقول أنّ الحجر يسرق ملابس موسى ويفرّ بها وموسى يركض خلفه، والحجر يفرّ من بين يديه وموسى ينادي الحجر، والحجر أصمّ لا يسمع ولا يبصر؟!!

وهل من المعقول أنّ موسى بن عمران يقوم بعمل جنوني فيضرب الحجر ضرباً مبرّحاً حتّى يئنّ الحجر؟!!

ليت شعري أبيده كان يضرب الحجر؟! فهو المتألّم لا الحجر!!

أم كان يضربه بالسيف، فالسيف ينبو وينكسر!

أم كان الضرب بالسوط، فالسوط يتقطّع!

فما تأثير الضرب بأيّ شكل كان، على الحجر؟!

فكلّ ما في الحديث من المحال الممتنع عقلاً، وهو من الأحاديث المضحكة التي من التزم بها فقد استهزأ بالله ورسله!!

قال السيّد عبد الحيّ: هل حركة الحجر أهمّ أم انقلاب عصا موسى إلى ثعبان وحيّة تسعى؟!! أتنكرون معاجز موسى بن عمران فقد نطق بها القرآن؟!

قلت: نحن لا ننكر معاجز موسى ومعاجز سائر الأنبياءعليه‌السلام ، بل نؤمن بصدور المعاجز من الأنبياء ولكن في محلهها، وهو مقام تحدّيهم

١٤٥

الخصوم في إحقاق الحقّ ودحض الباطل. وموضوع الحجر في غير محلّ الاعجاز، فأيّ إحقاق حقّ ودحض باطل في التشهير بكليم، وإبداء سوأته على رؤوس الأشهاد من قومه؟! بل هو تنقيص من مقامه! ولا سيّما وهم يشاهدونه يركض وراء حجر لا يسمع فيناديه: ثوبي حجر!!، أو يشتدّ ويغضب على حجر لا يشعر ولا يدرك فينهال عليه ضرباً!!

السيّد عبد الحيّ: أيّ حقّ أعلى من إبراء نبيّ الله؟! فالناس عرفوا بذلك أنْ ليس فيه فتق!

قلت: على فرض أنّ موسى كان ذا أدرة، فما تأثير هذا المرض على مقامه ونبوّته؟!

صحيح أنّ الأنبياء يجب أن يكونوا براء من النواقص مثل: العمى والصمم والحول، وأنّ النبيّ لا يولد فلجاً أو مشلولاً أو به زيادة أو نقيصة في أحد أعضائه، أمّا الأمراض العارضة على البشر فلا تعدّ نواقص، فإنّ يعقوب بكى حزناً لفراق يوسف حتّى ابيضّت عيناه، وإنّ أيّوب اُصيب بقروح في بدنه، والنبيّ الأكرم وهو سيّد الأوّلين والآخرين، كسرت ثناياه في جهاده مع الأعداء في اُحد، فهذه الأشياء لا تنقص شيئاً من شأن الأنبياء ولا تُنزل من مقامهم وقدرهم.

والفتق مرض عارض على جسم الإنسان، فما هي أهمّيّته حتّى يبرىء الله عزّ وجلّ كليمه بهذا الشكل الفظيع المهين. عن طريق خرق العادة والمعجزة، ثمّ تنتهي بهتك حرمة النبيّ وكشف سوأته أمام بني اسرائيل؟! وهل بعده يبقى شأن وقدر لموسى عند قومه؟! وهل بعد ذلك سيطيعوه ويحترموه؟!!

١٤٦

ولكي يقتنع السيّد عبد الحيّ ويقرّ بوجود أخبار خرافية في الصحيحين،أنقل رواية اُخرى عن أبي هريرة مضحكة أيضاً، ولا أظنّ أحداً من الحاضرين - بعد استماع هذه الرواية - سيدافع عن أبي هريرة، أو يعتقد بصحّة روايات البخاري ومسلم!

نقل البخاري في ج ١، باب من أحبّ الدفن في الأرض المقدّسة، وج ٢، باب وفاة موسى، ونقل مسلم في ج ٢ باب فضائل موسى عن أبي هريرة، قال: جاء ملك الموت إلى موسىعليه‌السلام ، فقال له أجب ربّك.

قال أبو هريرة: فلطم موسى عينَ ملَكِ الموت ففقأها!!

فرجع الملك إلى الله تعالى، فقال: إنّك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت ففقأ عيني!

قال: فردّ الله إليه عينه وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياة ترد؟! فإنْ كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما توارت بيدك من شعرةٍ فإنّك تعيش بها سنة.

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ج ٢ ص ٣١٥، عن أبي هريرة، ولفظه: إنّ ملك الموت كان يأتي الناس عياناً، فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه.

وأخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه ج ١، في ذكر وفاة موسى ولفظه: إنّ ملك الموت كان يأتي الناس عياناً حتّى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه - إلى أن قال: - إنّ ملك الموت إنّما جاء إلى الناس خفيّاً بعد موت موسى!

١٤٧

وقد علّقتُ فقلتُ : لأنّه يخاف من الجهّال أن يفقوا عَيَنهُ الأخرى.

فضحك جمع من الحاضرين بصوتٍ عالٍ.

ثمّ قلت : بالله عليكم أنصفوا ألم يكن هذا الخبر الذي أضحككم من الخرافات والخزعبلات؟! وإنّي لأتعجّب من رواة هذا الخبر وناقله!!

وأستغرب منكم إذ تصدّقون هذا الخبر وأشباهه، ولا تسمحون لأحد أن يناقشها وينتقدها، حتّى لعلمائكم!!

فإن في هذه الرواية ما لا يجوز على الله تعالى ولا على أنبيائه ولا على ملائكته!!

أيليق بالله العظيم أن يصطفي من عباده، جاهلاً خشناً يبطش بملك من الملائكة المقرّبين وهو مبعوث من عند الله تعالى، فيلطمه لطمة يفقأ بها عينه؟!

أليس هذا العمل عمل المتمرّدين والطاغين الّذين يذمّهم الله العزيز إذ يقول:( وَ إِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ‌ ) (١) ؟!

فكيف يجوز هذا على من اختاره الله الحكيم لرسالته، واصطفاه لوحيه، وآثره بمناجاته، وكلّمه تكليماً(٢) وجعله من اُولي العزم؟!

وكيف يكره الموت هذه الكراهة الحمقاء فيلطم ملك الموت وهو مأمور من قبل الله تعالى، تلك اللطمة النكراء فيفقأ بها عينه مع شرف مقامه ورغبته في القرب من الله تعالى والفوز بلقائه عزّ وجلّ؟!

____________________

١) سورة الشعراء، الآية ١٣٠.

٢) إشارة إلى سورة النساء، الآية ١٦٤، والآية هكذا( وَ کَلَّمَ الله مُوسَى تَکْلِيماً ) .

١٤٨

وما ذنب ملك الموت؟! هل هو إلّا رسول الله إلى موسى؟! فبِمَ استحقّ الضرب بحيث تُفْقَأ عينه؟! وهل جاء إلّا عن الله وهل قال لموسى سوى: أجب ربّك؟!

أيجوز على اُولي العزم من الرسل إيذاء الكرّوبيّين من الملائكة وضربهم حينما يبلّغونهم رسالة ربّهم وأوامره عزّ وجلّ؟!

تعالى الله، وجلّت أنبياؤه وملائكته عن كلّ ذلك وعمّا يقول المخرفون.

إنّ هكذا ظلم فاحش لا يصدر من آدميّ جاهل فكيف بكليم الله!

ثمّ إنّ الهدف والغرض من بعثة الأنبياء وإرسال الرسل: هداية البشر وإصلاحهم، ومنعهم من الفساد والتعدّي والوحشية، فلذلك فإنّ الله سبحانه وكُلَّ أنبيائه ورسله منعوا الإنسان من الظلم حتّى بالنسبة للحيوان، فكيف بالنسبة لَمَلك مقرَّبٍ؟!

فلذا نحن نعتقد ونجزم بأنّ هذا الخبر افتراء على الله وكليمه، وجاعلُ هذا الخبر كذّاب مفترٍ يريد الحطّ من شأن النبيّ موسى ويريد هتك حرمة الأنبياء وتحقيرهم عند الناس.

أنا لا أتعجّب من أبي هريرة وأمثاله، لأنّه كما كتب بعض علمائكم أنّه كان يجلس على مائدة معاوية ويتناول الأطعمة الدسمة اللذيذة، ويجعل الروايات ويضعها على ما يشاء معاوية وأشباهه.

وقد جلده عمر بن الخطّاب لكذبه على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل الأحاديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فضربه بالسوط حتّى أدمى ظهره!!!

ولكن أستغرب وأتعجّب من الّذين له مرتبة علمية بحيث لو أمعنوا ودقّقوا النظر لَميَّزوا بين الصحيح والسقيم، ولكنّهم أغمضوا

١٤٩

أعينهم ونقلوا هذه الأخبار الخرافية في كتبهم، وأخذ الآخرون عنهم ونشروها فيكم، حتّى أنّ جناب الحافظ رشيد يعتقد كما يزعم: أنّ هذه الكتب أصحّ الكتب بعد كلام الله المجيد، وهو لم يطالعها بدقّة علمية، وإلاّ لما كان يبقى على الاعتقاد الذي ورثه من أسلافه عن تقليدٍ أعمى.

وما دامت هذه الأخبار الخرافية توجد في صحاحكم وكتبكم ، فلا يحقّ لكم أن تثيروا أيّ إشكال على كتب الشيعة لوجود الأخبار الغريبة فيها، وهي غالباً قابلة للتأويل والتوجيه!

خبر عن إمامنا الحسينعليه‌السلام (١)

كلّ عالم منصف إذا كان يسلك طريق الاصلاح، إذا وجد هكذا خبر مبهم - وما أكثرها في كتبكم وكتبنا - إنْ كان يمكنه أنْ يؤوّله بالأخبار الصريحة الاُخرى فليفعل، وإنْ لم يمكن ذلك فليطرحه ويسكت عنه، لا أنّه يتّخذه وسيلة لتكفير طائفة كبيرة من المسلمين.

والآن لمـّا لم يوجد تفسير الصافي عندنا في المجلس حتّى تراجع سند الخبر وندقّق فيه النظر، ولربّما شرحه المؤلّف بشكل مقبول.

إذ لو عرف المسلم إمام زمانه فقد توصّل عن طريقه إلى معرفة ربّه كالخبر المشهور: من عرف نفسه فقد عرف ربّه عزّ وجلّ.

أو نقول في تقريب الخبر إلى أذهان الحاضرين: إنّنا لو تصوّرنا

____________________

١) هذا العنوان انتخبه المترجم

١٥٠

اُستاذاً تخرج على يده جمع من العلماء، في مراتب مختلفة من العلم، فإذا أراد أحد أن يعرف مدى عظمة ذلك الاُستاذ، يجب عليه أن ينظر إلى أعظم تلامذته وأعلاهم مرتبة حتّى يصل من خلاله إلى حقيقة الاُستاذ وعظمته العلمية.

كذلك في ما نحن فيه: فإنّ آيات الله كثيرة، بل كلّ شيء هو آية الله تعالى، إلّا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الآية العظمى والحجّة الكبرى، ومن بعده عترته الأبرار الأئمّة الأطهارعليه‌السلام ، فإنّهم محالّ معرفة الله.

وقد ورد عنهم: بنا عُرف الله، وبنا عُبِدَ الله، أي: بسببنا وبواسطتنا عرف الله، وبعدما عرفوه عبدوه.

فهم الطريق إلى الله، والأدلاّء على الله، ومن تمسّك بغيرهم فقد ضلّ ومن يهتد، ولذا جاء في الحديث المتّفق عليه بين الفرقين، والخبر المقبول الصحيح عند الجميع، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:

أيّها الناس! إنّي تارك فيكم الثقلين ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيّ الحوض(١) .

____________________

(حديث الثقلين في كتب العامة)

١) أجمع المسلمون على صدور حديث الثقلين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإليكم بعض مصادر هذا الحديث الشريف من كتب العامة:

١) مسند أحمد: ٥/١٨١ و ١٨٢، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري، وفي ٣/٢٦ عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، وج ٥/١٨٩ عن أبي أحمد الزبيري الحبّال. =

١٥١

. . . . .

____________________

= ٢) صحيح مسلم: ٢/٢٣٧ عن طريق أبي خيثمة النسائي وص ٢٣٨ عن طريق سعيد ابن مسروق الثوري.

٣) صحيح الترمذي ٢/٢٢٠، عن سليمان الأعمش.

٤) المنمّق: ٩، عن محمد بن حبيب البغدادي.

٥) الطبقات الكبرى: ١/١٩٤، عن محمد بن سعد الزهري.

٦) المطالب العالية: حديث رقم ١٨٧٣ عن اسحاق بن مخلّد.

٧) إحياء الميت بفضائل أهل البيت: ١١ و ١٢، الحديث السادس، عن زيد بن أرقم، والحديث السابع عن زيد بن ثابت، والحديث الثامن عن أبي سعيد الخدري، وفي ص ١٩ الحديث الثاني والعشرون عن أبي هريرة، والحديث الثالث والعشرون عن عليعليه‌السلام ، وفي ص ٢٦ الحديث الأربعون عن جابر، وفي ص ٢٧ عن عبدالله بن حنطب وهو الحديث الثالث والأربعون، وفي ص ٣٠ الحديث الخامس والخمسون عن البارودي عن أبي سعيد، والحديث السادس والخمسون عن زيد بن ثابت.

٨) كتاب الإنافة في رتبة الخلافة: ١٠ عبد الله بن حنطب.

٩) البدور السافرة عن اُمور الآخرة: ١٦ عن زيد بن ثابت.

١٠) تفسير الدرّ المنثور: ٢/٦٠ عند تفسير: واعتصموا بحبل الله جميعاً وفي ج ٦/٧ عند تفسير: قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا المودّة في القربى.

١١) الخصائص الكبرى: ٢/٢٦٦ عن زيد بن أرقم.

١٢) الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير - بشرح المنّاوي -: ٢/١٧٤ عن زيد بن ثابت.

١٣) النثير في مختصر نهاية ابن الأثير في مادّة: ثقل.

١٤) نوادر الاُصول: ٦٨، عن طريق نصر بن علي الجهضمي، وص ٦٩ عن جابر ابن عبدالله وعن حذيفة بن اُسيد الغفاري.

١٥) المعجم الصغير: ١/١٣١ عن طريق عبّاد بن يعقوب الروجني الأسدي ، وص ١٣٥ عن أبي سعيد الخدري بطرق عديدة. =

١٥٢

. . . . .

____________________

= ١٦) المعجم الكبير ٥/١٧٠ و ١٧١ عن زيد بن ثابت بطرق عديدة، وج ٥/١٨٥ و ١٨٦ و١٨٧ و١٩٠ و١٩٢ عن زيد بن أرقم بطرق عديدة.

١٧) سنن الدرامي ٢/٤٣١ بسنده عن زيد بن أرقم.

١٨) تذكرة خواصّ الاُمّة: ٣٢٢ عن طريق أبي داود.

١٩) صحيح الترمذي: ٢/٢١٩ بسنده عن جابر بن عبدالله، وعن أبي ذرّ الغفاري، عن أبي سعيد الخدري، وعن زيد بن أرقم، وعن حذيفة ين اُسيد.

٢٠) المسترك على الصحيحين: ٣/١٠٩ عن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، وص ١١٠ عن طريق أبي بكر بن اسحاق ودعلج بن أحمد السجزي.

٢١) الخصائص - للنسائي -: ٩٣ بسنده عن زيد بن أرقم.

٢٢) مسند ابن الجعد: ٢/٩٧٢ عن أبي سعيد الخدري.

٢٣) كنز العمال: ١٥/٩١ عن زيد بن أرقم، وعن أبي سعيد.

٢٤) فرائد السمطين: ٢/٢٦٨ عن زيد بن أرقم، وص ٢٧٢ عن أبي سعيد، وص ٢٧٤ عن حذيفة بن اُسيد الغفاري.

٢٥) لسان العرب: ٤/٥٣٨ مادّة (عترة)، وج ١١ / ٨٨ مادّة (ثقل)، وج ٤/١٣٧ مادّة (حبل).

٢٦) تاج العروس من جواهر القاموس: ٧/٣٤٥ مادّة (ثقل).

٢٧) مجمع البحار - لمحمد طاهر الفتني - مادّة (ثقل).

٢٨) منتهى الأرب: ج ١ / ١٤٣ مادّة (ثقل).

٢٩) المؤتلف والمختلف: ٢/١٠٤٥ عن أبي ذرّ الغفاري، وفي ج/٤ ٢٠٦٠ عن أبي سعيد الخدري.

٣٠) أخرجه أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره عند:( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً ) سورة آل عمران، الآية ١٠٣.

٣١) حلية الأولياء لأبي نعيم: ١/٣٥٥، وأخرجه أيضاً في كتابه «منقبة المطهّرين» بطرق عديدة وأسانيد سديدة، عن أبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم =

١٥٣

. . . . .

____________________

= وأنس بن مالك والبراء بن عازب وجبير بن مطعم.

٣٢) المناقب - للخوارزمي - : ٩٣، عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم.

٣٣) مصابيح السُنّة بشرح القاري: ٥/٥٩٣، عن زيد بن أرقم، وفي ج ٥/٦٠٠ عن جابر.

٣٤) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - بشرح القاري -: ٤٨٥.

٣٥) تاريخ ابن عساكر، ج ٢، من ترجمة عليّعليه‌السلام .

٣٦) تاريخ ابن كثير: ٥/٢٠٨.

٣٧) تفسير ابن كثير: ٥/٤٥٧ عند تفسير آية التطهير، وفي ج ٦/١٩٩ و٢٠٠ عند تفسير آية المودّة.

٣٨) لباب التأويل: ١/٣٢٨ عند تفسير( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً ) .

٣٩) معالم التنزيل: ٦/١٠١ عند تفسير آية المودّة وفي ج ٧ عند تفسير آية( سَنَفْرُغُ لَکُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ) الآية ٣١ من سورة الرحمن.

٤٠) الفخر الرازي في تفسير عند آية( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله ) .

٤١) غرائب القرآن:١/٣٤٩ عند تفسير( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله ) .

٤٢) جامع الأصول لابن الاثير: ١/١٧٨ عن جابر الأنصاري.

٤٣) النهاية - لابن الأثير - في مادّة (ثقل) رواه عن زيد بن أرقم.

٤٤) أسد الغابة: ٣/١٤٧ بترجمة عبدالله بن حنطب. وفي ج ٢/١٢ بترجمة سيّدنا الإمام المجتبىعليه‌السلام عن زيد بن أرقم.

٤٥) مشارق الأنوار - بشرح ابن الملك -: ٣/١٥٧.

٤٦) مطالب السؤول: ٨.

٤٧) كفاية الطالب - للعلامة الكنجي الشافعي - في الباب الأول.

٤٨) تهذيب الأسماء واللغات: ١/٣٤٧.

٤٩) ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى: ١٦.

٥٠) مشكاة المصابيح: ٣/٢٥٥ و ٢٥٨ عن زيد بن أرقم. =

١٥٤

الحافظ: لا ينحصر الدليل على كفركم وشكركم في هذه الرواية حتّى تؤوّلها وتخلص منها، بل في كلّ الأدعية الواردة في كتبكم نجد أثر الكفر والشرك، من قبيل: طلب حاجاتكم من أئمّتكم من غير أن تتوجّهوا إلى الله ربّ العالمين، وهذا أكبر دليل على الكفر والشرك!!

قلت: ما كنت أظنّك أن تتبّع أسلافك إلى هذا الحدّ، فتغمض

____________________

= ٥١) نظم درر السمطين: ٢٣١ عن زيد بن أرقم.

٥٢) المنتقى في سيرة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بطرق عديدة وشرح وافٍ.

٥٣) فيض القدير في شرح الجامع الصغير: ٣/١٥.

٥٤) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ٩/١٦٣.

٥٥) الفصول المهمّة في معرفة الائمة - لابن الصباغ المالكي - : ٢٣.

٥٦) الرسالة العلية في الأحاديث النبوية: ٢٩ و٣٠.

٥٧) المواهب اللدُنّيّة بشرح الزرقاني: ٧/٤ - ٨.

٥٨) الصواعق الحرقة ٢٥ و ٨٦ و ٨٧ و ٨٩ و ٩٠ و ١٣٦، أخرجه بطرق عديدة وألفاظ كثيرة، وقال: رواه عشرون صحابياً.

٥٩) إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون: ٣/٣٣٦.

٦٠) نزل الأبرار بما صح من مناقب أهل البيت الأطهار: ١٢.

٦١) إزالة الخفا عن سيرة المصفى: ٢/٥٤.

٦٢) إسعاف الراغبين: ١١٠.

٦٣) ينابيع المودّة، ج ١ عقد فصلاً خاصّاً بحديث الغدير والثقلين.

٦٤) تتمّة الروض النضير: ٥/٣٤٤.

٦٥) مشكل الآثار: ٢/٣٠٧.

٦٦) الذرّيّة الطاهرة ١٦٨.

هذا قليل من كثير، وكلّه من كتب العامة ليكون أوفع في نفوسهم، وترى فيه الكفاية لمن أراد الهداية. «المترجم»

١٥٥

عينيك، وتتكلّم من غير تحقيق بكلّ ما تكلّموا، فإنّ هذا الكلام في غاية السخافة، وبعيد عن الإنصاف والحقيقة، فاما انك لا تدري ما تقول أو انك لا تعرف معنى الكفر والشرك!!

الحافظ: إنّ كلامي في غاية الوضوح، ولا أظنّه يحتاج إلى توضيح،فإنّه من البديهة أنّ من أقرّ بوجود الله عزّ وجلّ واعتقد أنّه هو الخالق والرازق، وأن لا مؤثّر في الوجود إلّا هو، لا يتوجّه إلى غيره في طلب حاجة، وإذا توجّه فقد أشرك بالله العظيم.

والشيعة كما نشاهدهم ونقرأ كتبهم لا يتوجّهون إلى الله أبداً، بل دائماً يطلبون حوائجهم من أئمّتهم بغير أن يذكروا الله، حتّى نشاهد فقرائهم والسائلين الناس في الأسواق ذِكرهم: يا علي ويا حسين، ولم أسمع من أحدهم حتّى مرّة يقول: يا الله!!وهكذا كلّه دليل على أنّ الشيعة مشركون، فإنّهم لا يذكرون الله تعالى عند حوائجهم ولايطلبون منه قضاءها وإنّما يذكرون غير الله ويطلبون حوائجهم من غيره سبحانه!!

قلت: لا أدري.. هل أنت جاهل بالحقيقة ولا تعرف مذهب الشيعة؟!

أم إنّك تعرف وتحرف، وتسلك طريق اللجاج والعناد؟!

لكن أرجو أن لا تكون كذلك، فإنّ من شرائط العالم العامل:الإنصاف.

وفي الحديث الشريف: إنّ العالم بلا عمل كشجرة بلا ثمر.

ولمـّا نسبت إلينا الشرك في حديثك كراراً والعياذ بالله! وأردت بهذه الدلائل العامّية التافهة أن تثبت كلامك السخيف الواهي، وتكفّر

١٥٦

الشيعة الموحّدين المخلصين في توحيد الله عزّ وجلّ غاية الخلوص، والمؤمنين بما جاء به خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا كان هذا التكرار والإصرار في تكفيرنا بحضورنا فكيف هو في غيابنا؟!

واعلم أنّ أعداء الإسلام الّذين يريدون تضعيف المسلمين وتفريقهم حتّى يستولوا على ثرواتهم الطبيعية ويغصبوا أراضيهم، فهم فرحون بكلامهم هذا،ويتخذوه وسيلة لضرب المسلمين بعضهم ببعض، كما أنّني أجد الآن في هذا المجلس بعضالعوام الحاضرين من أتباعكم قد تأثّروا بكلامكم، فبدؤا ينظرون إلينا نظراً شزراً، حاقدين علينا باعتقادهم أنّنا كفّار فيجب قتلنا ونهب أموالنا!!!

وفي الجانب الآخر، أنظر إلى الشيعة الجالسين، وقد ظهرت على وجوههم علائم الغضب، وهم غير راضين من كلامك هذا، ونسبة الشرك والكفر إليهم، فيعتقدون أنّك مفترٍ كذّاب، وأنّك رجل مُغْرِضِ، وعن الحقّ مُعرِض، لأنّهم متيقّنون ببراءة أنفسهم ممّا قلت فيهم ونسبت إليهم.

والآن لكي تتنوّر أفكار الحاضرين بنور الحقيقة واليقين، ولكي تتبدَّد عن أذهانهم ظلمات الجهل وشبهات المغرضين، أتكلّم للحاضرين باختصار، موجزاً عن الشرك ومعناه، واُقدّم لكم حصيلة تحقيق علمائنا الأعلام، أمثال: العلّامة الحلّي،والمحقّق الطوسي، والعلّامة المجلسي (رضوان الله عليهم)، وهم استخرجوها واستنبطوها من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث المرويّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الهادية (سلام الله عليهم).

نوّاب: إنّ انعقاد هذا المجلس كان لتفهيم العوام وإثبات الحقّ

١٥٧

أمامهم، كما قلت سالفاً، فأرجوكم إن تراعوا جانبهم في حديثكم، وأن تتكلّموا بشكل نفهمه نحن العوام.

قلت: حضرة النوّاب! إنّني دائماً اُراعي هذا الموضوع، لا في هذا المجلس فحسب، بل في جميع مجالسي و محاضراتي و محاوراتي العلمية و الكلامية، فإنّي دائماً أتحدّث بشكل يفهمه الخاصّ والعامّ، لأنّ الغرض من إقامة هذه المجالس وانعقادها -كما قلتم - هو تعليم الجهلاء وتفهيم الغافلين، وهذا لا يتحقّق إلّا بالبيان الواضحوالحديث السهل البسيط الذي يفهمه عامّة الناس، والأنبياء كلّهم كانوا كذلك.

فقد رُوي عن خاتم الأنبياء وسيّدهمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: إنّا معاشر الأنبياء اُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم(١) .

أقسام الشرك

إنّ الحاصل من الآيات القرآنية، والأحاديث المرويّة، والتحقيقات العلمية، أنّ الشرك على قسمين، وغيرهما فروع لهذين، وهما:

الشرك الجلي، أي: الظاهر، والآخر الشرك الخفي، أي المستتر.

«الشرك الجليّ»

أمّا الشرك الظاهري، فهو عبارة عن: اتّخاذ الإنسان شريكاً لله عزّوجلّ، في الذات أو الصفات أو الأفعال أو العبادات.

أ - الشرك في الذات، وهو أن يشرك مع الله سبحانه وتعالى في ذاته أو توحيده،كالثنويّة وهم المجوس، اعتقدوا بمبدأين: النور والظلمة.

وكذلك النصارى فقد اعتقدوا بالأقانيم الثلاثة: الأب

____________________

١) البحار: ٧٧/١٤٠، الحديث ١٩، الباب ٧.

١٥٨

والابن وروح القدس، وقالوا: لكلّ واحد منهم قدرة وتأثيراً مستقلاً عن القسمين الآخرين، ومع هذا فهم جميعاً يشكّلون المبدأ الأوّل والوجود الواجب، أي: الله، فتعالى الله عمّا يقولون علوّاً كبيراً.

والله عزّ وجلّ ردّ هذه العقيدة الباطلة في سوره المائدة، الآية ٧٢، بقوله:( لَقَدْ کَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَ مَا مِنْ إِلٰهٍ إلّا إِلٰهٌ وَاحِدٌ ) وبعبارة اُخرى : فالنصارى يعتقدون: أنّ الألوهية مشتركة بين الأقانيم الثلاثة، وهي: جمع اقنيم - بالسريانية - ومعناها بالعربية: الوجود وقد أثبت فلاسفة الاسلام بطلان هذه النظريةعقلاً، وأنّ الاتّحاد لا يمكن سواءً في ذات الله تبارك وتعالى أو في غير ذاته عزّ وجلّ.

ب - الشرك في الصفات وهو: أن يعتقد بأنّ صفات الباري عزّ وجلّ، كعلمه وحكمته وقدرته وحياته هي أشياء زائدة على ذاته سبحانه، وهي أيضاً قديمةكذاته جلّ وعلا، فحينئذٍ يلزم تعدد القديم وهو شرك، والقائلون بهذا هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري البصري، وكثير من علمائكم التزموا بل اعتقدوا به وكتبوه في كتبهم، مثل: ابن حزم وابن رشد وغيرهما، وهذا هو شرك الصفات لأنهم جعلوا لذات الباري جلّ وعلا قرناء في القدم والأزلية وجعلوا الذات مركّباً.والحال أنّ ذات الباري سبحانه بسيط لا ذات أجزاء، وصفاتُه عينُ ذاته.

ومثاله تقريباً للأذهان - ولا مناقشة في الأمثال -:

هل حلاوة السكّر شيء غير السكّر؟

وهل دهنية السمن شيء غير السمن؟

فالسكّر ذاته حلو، أي: كلّه.

١٥٩

والسمن ذاته دهن، أي: كلّه.

وحيث لا يمكن التفريق بين السكّر وحلاوته، وبين السمن ودهنه،كذلك صفات الله سبحانه، فإنّها عين ذاته، بحيث لا يمكن التفريق بينها وبين ذاته عزّوجلّ، فكلمة: «الله» التي تطلق على ذات الربوبية مستجمعة لجميع صفاته، فالله يعني: عالم، حيٌّ، قادر، حكيم إلى آخر صفاته الجلالية والجماليّة والكماليّة.

ج - الشرك في الأفعال وهو الاعتقاد بأنّ لبعض الأشخاص أثراً استقلالياً في الأفعال الربوبية والتدابير الإلهية كالخلق والرّزق أو يعتقدون أن لبعض الأشياء أثراً استقلالياً في الكون، كالنجوم، أو يعتقدون بأن الله عزّ وجلّ بعدما خلقالخلائق بقدرته، وفوّض تدبير الاُمور وإدارة الكون إلى بعض الأشخاص، كاعتقادالمفوّضة، وقد مرّت روايات أئمّة الشيعة في لعنهم وتكفيرهم، وكاليهود الّذين قال الله تعالى في ذمّهم:( وَ قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ کَيْفَ يَشَاءُ ) (١) .

د - الشرك في العبادات وهو أنّ الإنسان أثناء عبوديته يتوجّه إلى غير الله سبحانه، أو لم تكن نيّته خالصة لله تعالى، كأن يرائي أو يريد جلبانتباه الآخرين إلى نفسه أو ينذر لغير الله عزّ وجلّ..!!

فكلّ عمل تلزم فيه نيّة القربة إلى الله سبحانه، ولكنّ العامل حين العمل إذا نواه لغير الله أو أشرك فيه مع الله غيره، فهو شرك والله عزّ وجلّ يمنع من ذلك في القرآن الكريم إذ يقول:( فَمَنْ کَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَ لاَ يُشْرِکْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٢) .

____________________

١) سور المائدة، الآية ٦٤.

٢) سورة الكهف، الآية ١١٠.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

لينكل به ، وهذا نص كتابه :

« أما بعد : فانظر عبد الله بن هاشم بن عتبة فشدّ يده الى عنقه ثم ابعث به إليّ ».

ولما وصلت رسالة معاوية الى زياد قام فى طلبه وحينما علم بذلك عبد الله هرب واختفى منه ، وعلم به بعض الأوغاد فجاء الى معاوية ليتقرب إليه فأخبره انه قد اختفى عند امراة مخزومية ، فكتب معاوية الى زياد ما يلي :

« أما بعد : فاذا اتاك كتابي هذا فاعمد الى حي بنى مخزوم ففتشه دارا دارا حتى تأتي الى دار فلانة المخزومية فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها ، فاحلق راسه والبسه جبة شعر وقيّده وغل يده الى عنقه واحمله على قتب بغير وطاء ولا غطاء واقدمه إلي ».

وقام زياد ففتش حي بنى مخزوم حتى ظفر بعبد الله فحمله إليه بالكيفية التي ارادها وهو مهان الجانب ، محطم الكيان فوصل الى دمشق في يوم الجمعة وهو يوم القبول الذي اعده معاوية لمقابلة اشراف قريش ووجوه العراقيين ولم يشعر معاوية إلا وابن هاشم قد ادخل عليه فعرفه ولم يعرفه ابن العاص فالتفت معاوية إليه قائلا :

« يا أبا عبد الله ، هل تعرف هذا الفتى؟ » قال : لا.

فقال معاوية هذا الذي يقول أبوه يوم صفين :

إني شريت النفس لما اعتلا

وأكثر اللوم وما أقلا

أعور يبغي أهله محلا

قد عالج الحياة حتى ملا

لا بد أن يفل أو يفلا

أسلهم بذي الكعوب سلا

لا خير عندي في كريم ولى

٣٨١

فبهر ابن العاص وقال متمثلا :

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى

وتبقى حزازات النفوس كما هيا

وتذكر ابن العاص مواقف أبيه يوم صفين فقال لمعاوية :

« دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب فاشخب اوداجه على أثباجه ولا ترده الى أهل العراق ، فانه لا يصبر على النفاق ، وهم أهل غدر وشقاق ، وحزب ابليس ليوم هيجانه ، وإن له هوى سيوديه ، ورأيا سيطغيه ، وبطانة ستقويه ، وجزاء سيئة سيئة مثلها.

فانبرى إليه عبد الله كالأسد الغضبان مسددا له سهاما من القول غير هياب له قائلا :

« يا عمرو ، إن أقتل فرجل اسلمه قومه ، وأدركه يومه ، أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال ونحن ندعوك الى النزال ، وأنت تلوذ بشمال النطاف(1) ، وعقائق الرصاف(2) كالأمة السوداء ، والنعجة القوداء ، لا تدفع يد لامس؟ »

فالتاع ابن العاص ولم يستطع أن يقول شيئا سوى التهديد والتوعيد له قائلا :

« أما والله لقد وقعت في لهازم شدقم(3) للأقران ذي لبد ، ولا أحسبك منفلتا من مخالب أمير المؤمنين ».

فأجابه ابن هاشم غير معتن بتهديده قائلا :

__________________

(1) النطاف : الماء القليل.

(2) العقائق : سهام الاعتذار. والرصاف : الحجارة التي توضع عند مسيل الماء ..

(3) اللهازم : جمع مفرده لهزم وهي الأنياب. والشدقم : الأسد.

٣٨٢

« أما والله يا ابن العاص إنك لبطر فى الرخاء ، جبان عند اللقاء ، غشوم إذا وليت ، هياب إذا لقيت ، تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجرى الشوك ، لا يستعجل في المدة ، ولا يرتجي في الشدة ، أفلا كان هذا منك إذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغارا ، ولم يمزقوا كبارا لهم أيد شداد وألسنة حداد ، يدعمون العوج ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل؟ »

فلم يطق ابن العاص جوابا وبقي يفتش في حقيبة مكره عيبا يوصم به عبد الله فلم يجد شيئا سوى افتعال الكذب فقال :

« أما والله لقد رأيت أباك يومئذ تخفق احشاؤه(1) وتبق أمعاؤه وتضطرب أصلاؤه(2) كأنما انطبق عليه ضمد ».

فانبرى إليه عبد الله مجيبا عن بهتانه وكذبه قائلا له :

« يا عمرو ، إنا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوبا غادرا ، خلوت بأقوام لا يعرفونك ، وجند لا يساومونك ، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ عليك عقلك(3) ، ولتلجلج لسانك ، ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي أثقله حمله ».

والتفت إليهما معاوية فقطع حديثهما قائلا : « إيها عنكما » ثم أمر باطلاق سراح عبد الله ، فاستاء ابن العاص لهذا العفو ، وانبرى الى معاوية يحرضه على الفتك والبطش به ويذكره مواقف أبيه هاشم في أيام صفين وقد نظم ذلك بأبيات من الشعر قال :

__________________

(1) تخفق : أي تضطرب.

(2) الاصلاء : أواسط الظهر.

(3) جحظ عقله : أي نظر الى رأيه فرأى سوء ما ارتأى.

٣٨٣

أمرتك أمرا حازما فعصيتني

وكان من التوفيق قتل ابن هاشم

أليس أبوه يا معاوية الذي

أعان عليا يوم حز الغلاصم

فلم ينثن حتى جرت من دمائنا

بصفين أمثال البحور الخضارم

وهذا ابنه والمرء يشبه شيخه

ويوشك أن تقرع به سن نادم

فأجابه عبد الله :

معاوي إن المرء عمرا أبت له

ضغينة صدر غشها غير نائم

يرى لك قتلي يا ابن هند وإنما

يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم

على انهم لا يقتلون أسيرهم

إذا منعت منه عهود المسالم

وقد كان منا يوم صفين نقرة

عليك جناها هاشم وابن هاشم

قضى ما قضى منها وليس الذي مضى

ولا ما جرى إلا كأضغاث حالم

فان تعف عني تعف عن ذي قرابة

وإن تر قتلي تستحل محارمى

واندفع معاوية قائلا :

أرى العفو عن عليا قريش وسيلة

الى الله فى يوم العضيب القماطر

ولست أرى قتل العداة ابن هاشم

بادراك ثاري في لؤي وعامر

بل العفو عنه بعد ما بان جرمه

وزلت به إحدى الجدود العواثر

فكان أبوه يوم صفين جمرة

علينا فأردته رماح نهابر(1)

لقد روع عبد الله وأفزعه معاوية وهو لم يقترف ذنبا سوى ولائه لأمير المؤمنين (ع) الذي جعله ابن هند من أعظم الموبقات والجرائم ، وصرحت بعض المصادر أنه لم يعفو عنه بل أودعه فى ظلمات السجون.

3 ـ عبد الله بن خليفة الطائي.

وعبد الله بن خليفة الطائي ممن عرف بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 312 ـ 314 ، وشرح ابن أبي الحديد.

٣٨٤

فقد جاء إليه حينما توجه (ع) الى البصرة فقال له :

« الحمد لله الذي ردّ الحق الى أهله ، ووضعه في موضعه ، فان كره ذلك قوم فقد والله كرهوا محمدا (ص) ونابذوه وقاتلوه ، فرد الله كيدهم في نحورهم وجعل دائرة السوء عليهم ، والله لأجاهد معك في كل موطن تحفظا لحق رسول الله (ص) »(1) .

وقد دلّ حديثه على تبصره في دينه ، وعلى طيب عنصره ، وحسن رأيه ، ولعظيم ايمانه ووفور عقله ، كان من المقربين عند الإمام ومن الذين يستشيرهم في مهام اموره(2) .

وفي محنة حجر كان عبد الله في طليعة أصحابه ومن المعارضين للسياسة الأموية ، ومن المشتركين معه في ثورته ، ولما قبض زياد على حجر وأصحابه أمر شرطته أن يأتوه بعبد الله ، ففتشوا عنه فوجدوه ، فناجزهم عبد الله ، وبعد صراع جرى فيما بينهم لم يتمكن عبد الله على انقاذ نفسه منهم فاستولوا عليه ، فاستنجدت اخته النوار بقومها واسرتها فطلبت نصرة أخيها قائلة :

« يا معشر طيء أتسلمون سنانكم ولسانكم عبد الله بن خليفة؟ » فثار الطائيون على الشرطة فضربوهم وناجزوهم حتى انتزعوا منهم عبد الله فرجعت الشرطة الى زياد وأخبرته بالأمر فاستدعا زعيم طيء وعميدها عدي ابن حاتم فقال له :

« ائتني بعبد الله بن خليفة؟ »

وبعد حديث جرى بينهما أجابه ابن حاتم بمنطق الأحرار قائلا :

« لا والله لا أتاك به أبدا ، أجيئك بابن عمي تقتله؟ والله لو كان

__________________

(1) الفوائد المطبوع على هامش التعليقات ص 202.

(2) نفس المصدر.

٣٨٥

تحت قدمي ما رفعتهما عنه ».

فالتاع زياد وأمر به الى السجن ، ولم يبق بالكوفة يماني ولا ربعي إلا أتوا زيادا فكلموه في شأن عدي ، وأخبروه بعظم شأنه وشرفه ، فاضطر زياد الى اطلاق سراحه ، ولكنه شرط عليه أن يغيب ابن عمه عن الكوفة فوافق عدي على ذلك ، وأمر عبد الله أن يغادر الكوفة ويلحق با ( لجبلين ) ، فغادر عبد الله الكوفة ، وقد سرى الألم العاصف في محياه على بعده عن وطنه وعلى فراقه لأصحابه وأهله ، وقد أرسل الى عدي بعد نفيه قصيدة عصماء يرثي بها حجرا وأصحابه ويذكر فيها ما يعانيه من ألم الفراق فيقول في رثاء حجر :

ولاقى بها(1) حجر من الله رحمة

فقد كان أرضى الله حجر وأعذرا

ولا زال تهطال ملث وديمة

على قبر حجر أو ينادى فيحشرا

فيا حجر من للخيل تدمى نحورها

وللملك المغزى إذا ما تغشمرا(2)

ومن صادع بالحق بعدك ناطق

بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا

فنعم أخو الإسلام كنت وانني

لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا

وقد كنت تعطي السيف في الحرب حقه

وتعرف معروفا وتنكر منكرا

ثم يسترسل فى رثاء حجر فيذكر صفاته ومواهبه وملكاته ويبكيه أمر البكاء وينتهي في قصيدته الى وصف محنته وبلواه والى ما يلاقيه من الألم والأسى في غربته فيقول :

فها أنا ذا آوي بأجبال طيء

طريدا فلو شاء الإله لغيرا

نفاني عدوي ظالما عن مهاجري

رضيت بما شاء الإله وقدرا

__________________

(1) الضمير يرجع الى مرج عذراء.

(2) تغشمرا : أي أخذ قهرا وظلما.

٣٨٦

وأسلمني قومى بغير جناية

كأن لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا

وذكر الطبري وابن الأثير بقية قصيدته التي أعرب فيها عن شجونه وأحزانه ، وظل عبد الله منفيا حتى مات بالجبلين قبل موت زياد(1) .

4 ـ صعصعة بن صوحان :

وصعصعة بن صوحان من سادات العرب وفصحائهم النابهين وخطبائهم المفوهين كان من ذوي الفضيلة والدين ، أسلم على عهد رسول الله (ص) وهو صغير ولم يجتمع به لصغر سنه ، ووفد على عمر وكان يقسم أموال الغنائم وكان مقدارها ألف ألف درهم ففضها على المسلمين وبقيت منها فضلة فاختلفت الصحابة فيها فقام فيهم عمر خطيبا فقال في خطابه :

« أيها الناس ، قد بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس ، فما تقولون فيها؟ »

فانبرى إليه صعصعة منكرا عليه تحيره فى هذه المسألة البسيطة قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنما تشاور الناس فيما لم ينزل الله فيه قرآنا ، وأما ما أنزل الله به القرآن ووضعه مواضعه فضعه فى مواضعه التي وضعه الله تعالى ».

فاستحسن عمر رأيه وقال له : « صدقت أنت مني وأنا منك » ثم قسم المال بين المسلمين »(2) .

وكان صعصعة من صفوة أصحاب أمير المؤمنين (ع) ومن الملازمين له ، وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في حقه : « ما كان مع أمير المؤمنين من يعرف حقه إلا صعصعة وأصحابه »(3) . ومرض صعصعة فعاده (ع) فقال له :

__________________

(1) الطبري 6 / 157 ، الكامل 3 / 241.

(2) الاستيعاب 2 / 189.

(3) التعليقات ص 183.

٣٨٧

« يا صعصعة ، لا تتخذ عيادتي لك أبهة على قومك!! »

ـ بلى والله أعدها منّة من الله وفضلا علي.

ـ إنك إن كنت على ما علمتك فأنت خفيف المؤنة حسن المعونة.

ـ وأنت والله يا أمير المؤمنين بالله عليما وبالمؤمنين رءوفا رحيما(1) .

ولحصافة رأيه ، وسداد منطقه كان الإمام (ع) يرسله فى مهامه فقد أرسله مرة الى معاوية ومعه كتاب منه ، فلما انتهى إليه قال معاوية مشيدا بنفسه ومبررا لأعماله :

« الأرض لله وأنا خليفة الله فما آخذ من مال الله فهو لي وما تركت منه كان جائزا لي ».

وثقل على صعصعة هذا الكلام الملتوي فانبرى إليه مجيبا.

تمنيك نفسك ما لا يكو

ن جهلا معاوي لا تأثم

فتألم معاوية وقال منددا به :

« تعلمت الكلام؟ »

ـ العلم بالتعلم ومن لا يعلم يجهل.

ـ ما أحوجك الى أن أذيقك وبال أمرك.

ـ ليس ذلك بيدك ، ذلك بيد الذي لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها.

ـ من يحول بيني وبينك؟

ـ الذي يحول بين المرء وقلبه.

ـ اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير.

ـ اتسع بطن من لا يشبع ، ودعا عليه من لا يجمع(2) .

__________________

(1) التعليقات.

(2) مروج الذهب 2 / 342.

٣٨٨

ودلت هذه المحاورة على قوة جنان صعصعة وانه ليس بالرعديد ولا الهياب ، فقد ردّ على معاوية مقالته بالمثل وقابله بالاستخفاف والاستهانة وهو غير خائف من سلطانه.

وخطب معاوية بعد ما تم له الأمر ، فقام إليه صعصعة فعلق على كل جملة من خطابه ، وفيما يلي خطاب معاوية مع رد صعصعة عليه.

قال معاوية :

ـ لو أن أبا سفيان ، ولد الناس كلهم كانوا أكياسا ..

ـ قد ولد الناس كلهم من هو خير من أبي سفيان آدم ، فمنهم الأحمق والكيّس!!

ـ إن أرضنا قريبة من المحشر.

ـ إن المحشر لا يبعد على مؤمن ، ولا يقرب من كافر.

ـ إن أرضنا أرض مقدسة.

ـ إن الأرض لا يقدسها شيء ، ولا ينجسها ، إنما تقدسها الأعمال.

ـ عباد الله اتخذوا الله وليّا ، واتخذوا خلفاءه جنة تحرزوا بها.

ـ كيف؟! وقد عطلت السنة ، واخفرت الذمة ، فصارت عشواء مطلخمة ، في دهياء مدلهمة ، قد استوعبتها الأحداث ، وتمكنت منها الانكاث.

فثار معاويه وصاح به :

ـ يا صعصعة ، لإن تقع على ضلعك خير لك من استبراء رأيك ، وإبداء ضعفك ، تعرض بالحسن بن علي ، ولقد هممت أن أبعث إليه ، فأجابه صعصعة قائلا :

« أي والله ، وجدتهم أكرمكم جدودا ، وأحياكم حدودا ، وأوفاكم

٣٨٩

عهدا ، ولو بعثت إليه لوجدته في الرأي أديبا ، وفي الأمر صليبا ، وفى الكرم نجيبا ، يلذعك بحرارة لسانه ، ويقرعك بما لا تستطيع إنكاره!! »

ولسع قوله معاوية فراح يهدده قائلا :

ـ لأجفينك عن الوساد ، ولأشردن بك في البلاد.

ـ والله إن فى الأرض لسعة ، وإن فى فراقك لدعة.

ـ والله لأحبسن عطاءك.

ـ إن كان ذلك بيدك فافعل ، إن العطاء وفضائل النعماء في ملكوت من لا تنفذ خزائنه ، ولا يبيد عطاؤه ، ولا يحيف في قضيته.

ـ لقد استقتلت!!

ـ مهلا ، لم أقل جهلا ، ولم أستحل قتلا ، لا تقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ومن قتل مظلوما كان الله لقاتله مقيما ، يرهقه أليما ، ويجرعه حميما ، ويصليه جحيما(1) ...

وانصرف صعصعة وترك معاوية يتميز غيظا وكمدا ، وعمد بعد ذلك الى سجنه مع جماعة من أصحابه ، وبقوا فى سجنه مدة من الزمن فدخل عليهم قائلا لهم :

« نشدتكم بالله إلا ما قلتم حقا وصدقا ، أي الخلفاء رأيتموني؟ ».

فانبرى إليه عبد الله بن الكواء قائلا :

« لو لا انك عزمت علينا ما قلنا ، لأنك جبار عنيد ، لا تراقب الله فى قتل الأخيار ، ولكنا نقول : قد علمنا أنك واسع الدنيا ضيق الآخرة قريب الثرى ، بعيد المرعى ، تجعل الظلمات نورا والنور ظلمات!! »

فقال معاوية له : « إن الله أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابين عن

__________________

(1) تاريخ ابن عساكر 6 / 425.

٣٩٠

بيضته ، التاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله ، والمحلين ما حرم الله ، والمحرمين ما أحل الله ».

فأجابه ابن الكواء : « يا ابن أبي سفيان ، إن لكل كلام جوابا ونحن نخاف جبروتك ، فان كنت تطلق السنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها فى الله لومة لائم ، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على فرجه ».

فقال له معاوية : « لا والله لا يطلق لك لسان ».

وسكت عبد الله فتكلم صعصعة :

« تكلمات يا ابن أبي سفيان فأبلغت ، ولم تقصر عما أردت ، وليس الأمر كما ذكرت ، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ، ودانهم كبرا واستولى بأسباب الباطل كذبا ومكرا!! أما والله مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى وما كنت فيه إلا كما قال القائل : « لا حلي ولا سيري »(1) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله (ص) وإنما أنت طليق ابن طليق أطلقكما رسول الله (ص) فانى تصلح الخلافة لطليق؟ »

وامتلأ قلب معاوية غيظا وكمدا فالتفت إليهم :

« لو لا أني أرجع الى قول أبي طالب حيث يقول :

قابلت جهلهم حلما ومغفرة

والعفو عن قدرة ضرب من الكرم

لقتلتكم »(2) .

وكان صعصعة من جملة الأشخاص الذين طلب لهم الإمام الحسن (ع)

__________________

(1) أصل هذا المثل ( لا حاء ولا ساء ) ومعناه أنه ليس لك فيه أمر ولا نهي ، جاء ذلك في مجمع الأمثال 2 / 158.

(2) مروج الذهب 2 / 341.

٣٩١

من معاوية الأمن وعدم التعرض لهم بسوء ومكروه(1) ولكن معاوية لم يف بذلك فقد روعه وأفزعه وأودعه في سجنه كما روع غيره من زعماء الشيعة ، وصرحت بعض المصادر ان المغيرة نفى صعصعة بأمر معاوية من الكوفة الى الجزيرة أو الى البحرين أو الى جزيرة ابن كافان فمات بها معتقلا منفيا عن وطنه وبلاده وفي رثائه يقول المرزباني(2) :

هلا سألت بني الجارود أي فتى

عند الشفاعة والبان ابن صوحانا

كنا وكانوا كأم أرضعت ولدا

عق ولم نجز بالإحسان إحسانا(3)

5 ـ عدي بن حاتم :

وعدي بن حاتم من أهم الشخصيات الرفيعة الفذة في العراق ، فقد كان قبل الإسلام يتمتع بمجد أصيل وشرف أثيل ، فهو ابن حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، وبالإضافة الى مجده الموروث فقد كان في الإسلام من ابطال العقيدة ، ومن عيون المؤمنين ، ومن رجال الإسلام البارزين ، وقد تقدم في هامش هذا الكتاب شيء موجز عن ترجمته ، والمهم التعرض الى ما لاقاه من الهوان والاستخفاف من قبل ابن هند لأجل ولائه واخلاصه لأمير المؤمنين (ع) فقد دخل يوما على معاوية فقال له متشمتا به :

__________________

(1) رجال الكشي ص 46.

(2) المرزباني : بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاء وفتح الباء الموحدة وهو جد من انتسب إليه من الأعيان جاء ذلك في اللباب 3 / 124 ، وجاء فى وفيات الأعيان 3 / 443 ، أن لفظ المرزبان لفظ فارسي معناه صاحب الحد ، فان مرز معناه الحد وبان معناه صاحب ، وهو في الأصل عندهم اسم لمن كان دون الملك.

(3) الاصابة 2 / 192.

٣٩٢

ـ ما فعلت الطرفات؟(1) .

ـ قتلوا مع علي.

ـ ما أنصفك علي قتل أولادك وأبقى أولاده!!.

ـ ما أنصفك علي إذ قتل وبقيت بعده.

فتألم ابن هند من مقال عدي وقال مهددا له :

« أما إنه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلا دم شريف من أشراف اليمن ـ يعني به عديا ـ ».

فانبرى إليه عدي وهو غير مكترث بتهديده قائلا له :

« والله إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا ، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فترا ، لندنين إليك من الشر شبرا ، وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم(2) لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي ، فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف ».

فراوغ معاوية على عادته وقال :

« هذه كلمات حكم فاكتبوها ».

ثم أقبل عليه يحدثه كأنه لم يخاطبه بشيء(3) ثم قال له :

« صف لي عليا ».

ـ إن رأيت أن تعفيني.

ـ لا أعفيك.

فأخذ عدي في وصف أمير المؤمنين فقال :

__________________

(1) الطرفات : أولاد عدي وهم طريف وطارف وطرفة.

(2) الحيزوم : وسط الظهر.

(3) مروج الذهب 2 / 309.

٣٩٣

« كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول عدلا ، ويحكم فصلا تتفجر الحكمة من جوانبه ، والعلم من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يحاسب نفسه إذا خلا ، ويقلب كفيه على ما مضى ، يعجبه من اللباس القصير ، ومن المعاش الخشن ، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويدنينا إذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا ، وقربه منا لا نكلمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته ، فان تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويتحبب الى المساكين ، لا يخاف القوي ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل فى محرابه وأرخى الليل سرباله ، وغارت نجومه ، ودموعه تتحادر على لحيته ، وهو يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأني الآن أسمعه وهو يقول :

« يا دنيا ، إليّ تعرضت أم إليّ أقبلت؟ غري غيري لا حان حينك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعيشك حقير ، وخطرك يسير ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، وقلة الأنيس ».

فوكفت عينا معاوية ، وجعل ينشفهما بكمه وهو يقول :

« يرحم الله أبا الحسن ، كان كذلك ، فكيف صبرك عنه؟ »

ـ كصبر من ذبح ولدها في حجرها فهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تسكن عبرتها.

ـ فكيف ذكرك له؟

ـ وهل يتركني الدهر أن أنساه؟(1) ،

وقد دل هذا الحديث على ولاء عدي لأمير المؤمنين ومن أجل ولائه

__________________

(1) المحاسن والمساوي 1 / 32.

٣٩٤

واخلاصه فقد روع وأفزع ، وقد تقدم أن زيادا أودعه في السجن حفنة من الأيام من أجل عبد الله بن خليفة الطائي ولم يراع شخصيته الكريمة ، ومكانته الاجتماعية ، وعظم منزلته ، وإنما فعل ذلك به ليقضي على شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام .

6 ـ جارية بن قدامة :

ووفد معاوية بن قدامة السعدي على معاوية ، فقال له معاوية :

ـ أنت الساعي مع علي بن أبي طالب ، والموقد النار في شعلك ، تجوس قرى عربية تسفك دماءهم؟

ـ يا معاوية دع عنك عليا ، فما أبغضنا عليا منذ أحببناه ، ولا غششناه منذ صحبناه.

ـ ويحك يا جارية!! ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية!!

ـ أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية(1) !

ـ لا أمّ لك.

ـ أم ما ولدتني(2) ، إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا.

ـ إنك لتهددني؟

ـ إنك لم تملكنا قسرة ، ولم تفتحنا عنوة ، ولكن أعطيتنا عهودا ومواثيق ، فان وفيت لنا وفينا ، وإن ترغب الى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا ، وأدرعا شدادا ، وأسنّة حدادا ، فان بسطت إلينا

__________________

(1) وفي رواية ابن عبد ربه ( ما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية ) وهي الأنثى من الكلاب.

(2) وفي رواية ابن عبد ربه أمي ولدتني للسيوف.

٣٩٥

فترا من غدر ، زلفنا إليك بباع من ختر.

ـ لا كثر الله في الناس من أمثالك.

وتركه جارية والأسى ملأ اهابه(1) ، لقد لقي جارية هذا الهوان ، والتبكيت من أجل ولائه للعترة الطاهرة التي فرض الله مودتها على جميع المسلمين.

ترويع نساء الشيعة :

ولم يقتصر معاوية فى ارهابه واضطهاده على رجال الشيعة وزعمائهم فقد أخذ يتحرى نساءهم فما ذكرت له امرأة منهم ذات مكانة مهمة إلا وبعث خلفها فقابلها بالاستخفاف والاستهانة ، وأدخل الفزع والخوف فى نفسها ، وإذا وفدت عليه امرأة منهم قابلها بالإذلال ، وأظهر لها ما يكنه في نفسه من الحقد والبغض العارم للإمام أمير المؤمنين ولشيعته وها نحن نقدم الى القارئ الكريم أسماء بعض السيدات اللاتي بعث خلفهن ، واللاتي وفدن عليه مع ما جرى بينهن وبينه من الحديث :

1 ـ الزرقاء بنت عدي :

وكانت الزرقاء بنت عدي بن غالب ممن عرفت بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين (ع) ، وكانت من ربات البلاغة والفصاحة والرأي الصائب وكانت في واقعة صفين تدعو الجماهير الى نصرة أمير المؤمنين (ع) وتحرضهم على قتال عدوه ، ولما فجع الإسلام بقتل أمير المؤمنين وانتهى الأمر الى ابن هند كتب الى عامله بالكوفة أن يحمل إليه الزرقاء بنت عدي فبعث بها إليه ، فلما دخلت عليه رحب بها ثم قال لها :

__________________

(1) تأريخ الخلفاء ص 199.

٣٩٦

« هل تعلمين لم بعثت إليك؟ ».

ـ سبحان الله أنّى لي بعلم ما لم أعلم!! وهل يعلم ما فى القلوب إلا الله.

ـ بعثت إليك أن أسألك ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين الصفين توقدين الحرب ، وتحرضين على القتال ، فما حملك على ذلك؟

ـ يا أمير المؤمنين ، إنه قد مات الرأس ، وبتر الذنب ، والدهر ذو غير ، ومن تفكر أبصار ، والأمر يحدث بعده الأمر!!!

ـ صدقت فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟

ـ ما أحفظه.

ـ ولكني والله أحفظه لله أبوك لقد سمعتك تقولين : أيها الناس إنكم فى فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن المحجة فيا لها من فتنة عمياء صماء تسمع لناعقها ، ولا تسلس لقائدها ، إن المصباح لا يضيء في الشمس وإن الكواكب لا تنير مع القمر ، وإن البغل لا يسبق الفرس وان الزف(1) لا يوازن الحجر ، ولا يقطع الحديد إلا الحديد ، ألا من استرشدنا أرشدناه ومن استخبرنا أخبرناه ، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها ، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار ، فكان قد اندمل شعب الشتات ، والتأمت كلمة العدل ، وغلب الحق باطله ، فلا يعجلن أحد فيقول : كيف العدل وأنى؟ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ألا إن خضاب النساء الحناء ، وخضاب الرجال الدماء ، والصبر خير عواقب الأمور ، إيها الى الحرب غير ناكصين ، ولا متشاكسين فهذا يوم له ما بعده.

وبعد ما تلى معاوية كلامها تأثر منه واندفع وهو مغيظ محنق فقال لها :

__________________

(1) الزف : الصغير من الريش.

٣٩٧

« والله يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه ».

« أحسن الله بشارتك ، وأدام سلامتك ، مثلك من بشر بخير وسر جليسه ».

« وقد سرّك ذلك؟ »

« نعم والله لقد سرني قولك فأنّى لي بتصديق الفعل!؟ »

فتبهر معاوية من اخلاصها لأمير المؤمنين فقال :

« والله لوفاؤكم له بعد موته احبّ إليّ من حبكم له فى حياته ، اذكري حاجتك؟ »

ـ إني قد آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه شيئا أبدا ومثلك أعطى من غير مسألة ، وجاد عن غير طلب.

ـ صدقت.

ثم أقطعها ضيعة وأوصلها وردها الى أهلها(1) .

إنه وإن أكرمها أخيرا ، وأجزل لها العطاء إلا أنه قد روعها وأفزعها أولا وأظهر لها الظفر والغلبة والنصر عليها.

2 ـ أم الخير البارقية :

كانت أم الخير بنت الحريش البارقية من سيدات النساء ومن البليغات البارعات ، وقد عرفت بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين (ع) ، وكانت في واقعة صفين تحرض الجماهير على حرب ابن هند ، وتحفزهم الى الذب عن أمير المؤمنين ونصرته ، وقد تألم معاوية من مواقفها ، وأضمر لها الحقد والعداء ، ولما انحسرت روح الإسلام باستيلائه على زمام الحكم كتب الى واليه على الكوفة يأمره بأن يحمل إليه أم الخير لينتقم منها ، فلما ورد

__________________

(1) بلاغات النساء لطيفور طبع النجف ص 32 صبح الأعشى ، المستطرف.

٣٩٨

الكتاب الى عامله بعثها إليه ، فلما دخلت على معاوية قالت :

« السلام عليك يا أمير المؤمنين ».

ـ وعليك السلام ، وبالرغم والله دعوتنى بهذا الاسم.

ـ مه يا هذا ، فان بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه.

ـ صدقت يا خالة ، وكيف رأيت مسيرك؟

ـ لم أزل في عافية وسلامة حتى أوفدت الى ملك جزل ، وعطاء بذل ، فأنا في عيش أنيق ، عند ملك رفيق.

ـ بحسن نيتي ظفرت بكم وأعنت عليكم.

ـ مه يا هذا ، لك والله من دحض المقال ما تردّى عاقبته.

ـ ليس لهذا أردناك.

ـ إنما أجرى فى ميدانك إذا أجريت شيئا أجريته ، فاسأل عما بدا لك؟

ـ كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟

ـ لم أكن والله رويته قبل ، ولا زورته بعد ، وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة ، فان شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت؟

ـ لا أشاء ذلك!!

ثم التفت الى أصحابه فقال لهم : أيكم حفظ كلام أم الخير؟ فانبرى إليه أحدهم فقال له : أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد فقال له : هاته ، فقال : كأني بها وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية وعلى جمل أرمك(1) وقد احيط حولها وبيدها سوط منتشر الضفر وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول :

« يا أيها الناس ، اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ، إن الله

__________________

(1) جمل أرمك : أي لونه كلون الرماد.

٣٩٩

قد أوضح الحق ، وأبان الدليل ، ونوّر السبيل ، ورفع العلم ، فلم يدعكم فى عمياء مبهمة ، ولا سوداء مدلهمة ، فإلى أين تريدون رحمكم الله! أفرارا عن أمير المؤمنين؟ أم فرارا من الزحف؟ أم رغبة عن الإسلام؟ أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله عز وجل يقول : « ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرون ونبلو أخباركم ».

ثم رفعت رأسها الى السماء وهي تقول : « اللهم قد عيل الصبر ، وضعف اليقين ، وانتشر الرعب ، وبيدك يا رب أزمة القلوب ، فاجمع الكلمة على التقوى ، والّف القلوب على الهدى ، ورد الحق الى أهله ، هلموا رحمكم الله الى الإمام العادل ، والوصي الوفي ، والصديق الأكبر ، إنها احن بدرية ، وأحقاد جاهلية ، وضغائن أحدية ، وثب بها معاوية حين الغافلة ، ليدرك بها ثارات بني عبد شمس ».

ثم قالت : « قاتلوا أئمة الكفر انهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون » صبرا معاشر المهاجرين والأنصار ، قاتلوا على بصيرة من ربكم ، قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة ، فرت من قسورة ، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض ، باعوا الآخرة بالدنيا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا البصيرة بالعمى ، وعما قليل ليصبحن نادمين حين تحل الندامة فيطلبون الاقالة إنه والله من ضل عن الحق وقع فى الباطل ، ومن لم يسكن الجنة نزل النار ، أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها ، واستبطئوا مدة الآخرة فسعوا لها ، والله أيها الناس لو لا أن تبطل الحقوق ، وتعطل الحدود ، ويظهر الظالمون ، وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه ، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ عن ابن عم رسول الله (ص) وزوج ابنته وأبي ابنيه؟ خلق من طينته ، وتفرع من

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793

794

795

796

797

798

799

800

801

802

803

804

805

806

807

808

809

810

811

812

813

814

815

816

817

818

819

820

821

822

823

824

825

826

827

828

829

830

831

832

833

834

835

836

837

838

839

840

841

842

843

844

845

846

847

848

849

850

851

852

853

854

855

856

857

858

859

860

861

862

863

864

865

866

867

868

869

870

871

872

873

874

875

876

877

878

879

880

881

882

883

884

885

886

887

888

889

890

891

892

893

894

895

896

897

898

899

900

901

902

903

904

905

906

907

908

909

910

911

912

913

914

915

916

917

918

919

920

921

922

923

924

925

926

927

928

929

930

931

932

933

934

935

936

937

938

939

940

941

942

943

944

945

946

947

948

949

950

951

952

953

954

955

956

957

958

959

960

961

962

963

964

965

966

967

968

969

970

971

972

973

974

975

976

977

978

979

980

981

982

983

984

985

986

987

988

989

990

991

992

993

994

995

996

997

998

999

1000

1001

1002

1003

1004

1005

1006

1007

1008

1009

1010

1011

1012

1013

1014

1015

1016

1017

1018

1019

1020

1021

1022

1023

1024

1025

1026

1027

1028

1029

1030

1031

1032

1033

1034

1035

1036

1037

1038

1039

1040

1041

1042

1043

1044

1045

1046

1047

1048

1049

1050

1051

1052

1053

1054

1055

1056

1057

1058

1059

1060

1061

1062

1063

1064

1065

1066

1067

1068

1069

1070

1071

1072

1073

1074

1075

1076

1077

1078

1079

1080

1081

1082

1083

1084

1085

1086

1087

1088

1089

1090

1091

1092

1093

1094

1095

1096

1097

1098

1099

1100

1101

1102

1103

1104

1105

1106

1107

1108

1109

1110

1111

1112

1113

1114

1115

1116

1117

1118

1119

1120

1121

1122

1123

1124

1125

1126

1127

1128

1129

1130

1131

1132

1133

1134

1135

1136

1137

1138

1139

1140

1141

1142

1143

1144

1145

1146

1147

1148

1149

1150

1151

1152

1153

1154

1155

1156

1157

1158

1159

1160

1161

1162

1163

1164

1165

1166

1167

1168

1169

1170

1171

1172

1173

1174

1175

1176

1177

1178

1179

1180

1181

1182

1183

1184

1185

1186

1187

1188

1189

1190

1191

1192

1193

1194

1195

1196

1197

1198

1199