آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ١

آلاء الرحمن في تفسير القرآن10%

آلاء الرحمن في تفسير القرآن مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 394

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54981 / تحميل: 6010
الحجم الحجم الحجم
آلاء الرحمن في تفسير القرآن

آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

آلآءُ الرَّحْمنْ

في

تفسير القرآن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وله الحمد وهو المستعان والصّلاة والسّلام على خيرته من خلقه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله سيد المرسلين وآله الطاهرين المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين (وبعد) ففي فجر سعادة البشر وتبلج صبح الهدى ورسالته، أشرق نور القرآن الكريم على العالم من أفق الوحي على الرسول الأمين الصادع بأمر ربّه، فكان باعجازه الباهر حجّة على وحيه وبفضائله الفائقة دليلا على فضله وبسناه الوضاح هاديا إلى أتباعه، يعرّفك في كل باب من أبواب معارفه السامية أنّه تنزيلٌ من ربِّ العالمين. ولكن اختلاط اللسان واختلاف الزمان وتشعب الأهواء وتضارب الآراء أثارت من دون أنواره غباراً وجعلت على البصائر من الجهل غشاوة. وقد أوجب الله على عباده أن ينصروا الحقيقة بالبيان ويجلوا غبار الشكوك بالحجّة ويميطوا غشاوة الجهل بيد العلم الشافي. وقد نهض جماعة لتفسيره والإرشاد إلى منهج فهمه. فآثرت وأنا الأقل محمد جواد البلاغي أن أتطفل في هذا الشأن وأقتحم في هذا الميدان جاريا على ما تقتضيه أصول العلم متنكبا مالا حجّة فيه من نقل الأقوال، متحرّيا للاختصار مهما أمكن، مستعينا بالله ومستمدا من فضله وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلّت وإليه أنيب. وقد سميّت الكتاب (آلاء الرّحمن في تفسير القرآن) وجعلت للمقصود مقدمةً فيها فصول وخاتمة

٢

الفصل الأوّل في إعجازه

المعجز هو الذي يأتي به مدّعي النبوّة بعناية الله الخاصة خارقاً للعادة وخارجاً عن حدود القدرة البشريّة وقوانين العلم والتعلّم ليكون بذلك دليلا على صدق النبي وحجّته في دعواه النبوّة ودعوته.

وجه شهادة المعجز

ودلالته على صدق النبيّ في دعواه ودعوته ليس إلّا أنّ مدّعي النبوّة إذا كان ظاهر الصلاح موصوفا بالأمانة معروفا بصدق اللهجة والاستقامة لا يخالف العقل في دعوته وأساسيَّاتها لم يجز عقلا اظهار المعجز على يده إلّا إذا كان صادقاً في دعوى النبوّة ودعوتها. ألا ترى أنّه لو كان مع صفاته المذكورة كاذبا في دعواه لكان إظهار المعجز على يده وتخصيص الله له بالعناية إغراء للناس بالجهل وتوريطاً لهم في متاهات الضلال. وهذا قبيح ممتنع على جلال الله وقدسه.

توضيح ذلك

هو أنّ الناس بحسب فطرتهم التي لا تدنسها رذائل الأهواء والعصبيّة إذا ظهر لهم صلاح الشخص وصدقه وأمانته واستقامته فيما يعرفونه من أحواله وأطواره توسّموا بباطنه الخير وأنّ باطنه موافق لظاهره في الصلاح. وكلّما زادت خبرتهم بصلاح ظاهره زاد وثوقهم بصلاح باطنه. إلّا أنّه مهما يكن من ذلك فإنّه لا يبلغ بهم مرتبة العلم وثبات الاطمئنان بعصمته عن الكذب في دعواه وتبليغات دعوته فلا ينتظم تصديقهم له ولا يدوم انقيادهم إلى تبليغاته في دعوته. بل لا يزال اختلاج الشكوك يميل بهم يمينا وشمالا. لكن إذا خصته العناية الإلهية بكرامة المعجز وخارق العادة حصل العلم الثابت واطمأنت النفوس السليمة بصدقه وعصمته في دعواه وما يأتي به في دعوته. ويثبت اليقين وينتظم امره بالنظر إلى أنه يمتنع على جلال الله وقدسه في مثل هذه المزلقة أن يظهر المعجز وعنايته الخاصة على يد الكاذب المدلس بصلاح ظاهره. فإن اظهار المعجز حينئذ يكون مساعدةً للمدلس على تدليسه ومشاركةً له في إغوائه وإغراءً للناس في الجهل الضّار المهلك. وذلك لما ذكرناه من مقتضى فطرة الناس السليمة. فالمعجز الشاهد بصدق النبي في دعواه ودعوته هو ما يقوم بما ذكرنا من الفائدة في مثل ما ذكرناه من المقام والوجه

٣

حكمة تنوع المعجز

ولا يخفى أنّ حصول الفائدة المذكورة من تنوّع المعجز المذكور يختلف كثيرا بسبب إ ختلاف الناس في أطوارهم ومعارفهم ومألوفاتهم. فربّ خارق للعادة يعرف بعض الشعوب أنّه خارق للعادة لا يكون إلّا بإرادة إلهيّة خاصة ويكون في بعض الشعوب معرضاً للشك أو الجحود لإعجازه وخرقه للعادة.

كان في عصر موسى النبي (ع) من الرائج بين المصريين صناعة السحر المبتنية على قوانين عادية يجري عليها التعليم والتعلم. فكانوا يعرفون ما هو جار على نواميس هذه الصناعة وما هو خارج عنها وعن حدود القدرة البشرية. ولأجل ذلك اقتضت الحكمة أن يحتجّ عليهم بمعجزة العصا التي ألقاها موسى (ع) أمام أعينهم فصارت ثعبانا تلقف ما يأفكون ويسحرون به الناس من الحبال والعصي ثم رجعت بعد ذلك عصا كحالها الأول ولم يبق لحبالهم وعصيّهم عين ولا أثر فإنّهم بسبب معرفتهم لحدود السحر عرفوا أنّ أمر العصا خارج عن صناعة السحر وعن حدود القدرة البشريّة ولذا آمن السحرة بأن أمرها من الله تعالى

وكانت فلسطين وسوريا في عصر المسيح مستعمرة لليونان وفيها منهم نزلاء كثيرون. فكان للطبّ فيها رواج ظاهر وكان في الفصل الثالث عشر والرابع عشر من سفر اللاويين من التوراة الرائجة تعليم طويل في تطهير القرع والبرص والقوبا بنحو يختص بروحانية الكهنوت ويوهم انه من بركات الكهنة والآثار الرّوحية وإن كان من نحو الحجر الصحي فلأجل ذلك كانت معجزات المسيح بشفاء الأبرص والأعمى والأكمه مما يعرفون انه خارج عن حدود الطب ومزاعم الكهنة وقدرة البشر ومن خارق العادة التي لا يكون إلّا بقدرة الله تعالى

حكمة كون المعجز للعرب هو القرآن

وأما العرب الذين ابتدأت بهم دعوة الإسلام في حكمة سيرها في الإصلاح فقد كانت معارفهم نوعاً منحصرة بالأدب العربي وكانوا خالين من سائر العلوم والصنائع الخاضعة للعلم والتعلم. فلم يكونوا يميزون حدودها العادية بحسب موازين العلم والتعلم وأسرار الطبيعيات المنقادة بقوانينها للباحث والممارس والمتعلم والمجرّب والمكتشف والداخلة تحت سيطرة العلم والتعلم. فلا يعرفون من الأعمال ما هو خارج عن هذه الحدود وخارق للعادة ولا يكون

٤

إلا بإعجاز إلهيّ. فكل عمل معجز من غير الأدب العربي بمجرد مشاهدتهم له أو سماعهم به يسبق إلى أذهانهم ويستحكم في حسبانهم أنّه من السحر أو من مهارة أهل البلاد الأجنبيّة في الصنائع وتقدُّمهم في العلوم وأسرار الطبيعيّات وقوانينها. ولا يذعنون بأنّه معجز إلهي بل يسوقهم شك الجهل إلى الجحود خصوصا إذا كان ذلك يحتجّ به النبي على دعوى ودعوة ثقيلتين على ضلالتهم باهظتين لعاداتهم الوحشيّة وأهواء الجهل.

نعم برعوا بالأدب العربي وبلاغة الكلام التي تقدّموا فيها تقدُّما باهراً حتّى قد زهى في عصر الدعوة روضه الخميل وأينعت حدائقه وفاق مجده وقرَّروا له المواسم وعقدوا المحافل للمفاخرة بالرقيّ فيه. فرقت بينهم صناعته إلى أوج مجدها وزهرت بأجمل مظاهرها وأحاطوا بأطرافها وحدّدوا مقدورها. فعاد المرء منهم جدّ خبير بما هو داخل في حدود القدرة البشريّة وما هو خارج عنها ولا يصدر على لسان بشر ابتداءً إلّا بعناية إلهيّة خاصة خارقة للعادة البشريّة لحكمة إلهيّة شريفة.

ولذا اقتضت الحكمة الإلهيّة «ولله الحكمةُ البالغة» أن يكون القرآن الكريم هو المعجز المعنون والّذي عليه المدار في الحجّة لرسالة خاتم النبييّن وصفوة المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. فانه يكون حجّة على العرب باعجازه ببلاغته وبعجزهم عن الإتيان بمثله أو بسورة من مثله. وبخضوعهم لاعجازه وهم الخبراء في ذلك يكون أيضا حجّة على غيرهم في ذلك. وأنّه هو الذي يدخل في حكمة المعجز والاعجاز في شمول الدّعوة للعرب وابتدائها بهم بحسب سيرها الطبيعي على الحكمة وبه تتمّ فائدة المعجز على وجهها

إمتيازه عن غيره من المعجزات

مضافا إلى أنّه امتاز عن غيره من المعجزات وفاق عليها بأكبر الأمور الجوهرية في شؤون النبوّة والرّسالة ودعوتها «فمن ذلك» أنّه باقٍ مدى السنين ممثّل بصورته ومادّته لكل من يريد أن يطلع عليه ويمارس أمره وينظر في أمره ويعرف كنهه وحقيقته. فهو بادٍ في كل آنٍ ومكان لكل من يطلب الحجّة على النبوة والرسالة ويريد النظر في حقيقة معجزها الشاهد لصدقها. ماثل لكل من يريد النظر في الحقائق ولا تحتاج معرفة حقيقته ووجه اعجازه إلى أساطير النقل ومماراة قال أو قيل. فلا يحتمل أمره: إنّه دبرت دعواه بليل، ولا يستراب من أمره باحتمال التمويه

٥

بل ينادي هو بنفسه في كل زمان ومكان (هذا جناي وخياره فيه) وكله خيار فائق متفوق «ومن ذلك» أنّه بنفسه ولسانه وصريح بيانه قد تكفل بالاثبات لجميع المقدمات التي تنتظم منها الحجّة على الرسالة الخاصة وشهادة اعجازه لها. ولم يوكل أمر ذلك إلى غيره مما يختلج فيه الرّيب وتعرض فيه الشبهات وتطول فيه مسافة الاحتجاج وتكثر صعوباته : فالتفت واعرف ذلك من أمور

(الأول) أنّه تكفّل ببيان دعوى النبي للنبوّة والرّسالة كما في سائر النبوّات

(الثاني) أنّه تكفّل في صراحة بيانه بالشهادة للنبوّة والرّسالة فلم تبق حاجة لدلالة العقل ودفع الشبهات عنها

(الثالث) أنّه تكفّل في صراحته المتكررة ببيانه لكمالات مدّعي رسالته وأطرى بصلاحه وأخلاقه الفائقة كما هو معروف. فمهّد المقدمات اللازمة في البيان وصورة الاحتجاج بأنّه لو كان كاذبا لكان ظهور المعجزة له من الإغراء بالجهل القبيح الممتنع لقبحه على جلال الله وقدسه تعالى شأنه. وإليك فاسمع بعض ما جاء في القرآن في بيان هذه الأمور الثلاثة. ففي سورة الأعراف «١٥٧ :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) وسورة النجم المكّية من الآية الثانية إلى الخامسة( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحى ) وفي سورة الفتح «٢٩ :( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) وفي سورة الأحزاب «٤٠ :( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وفي أوائل سورة القلم المكية( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله تعالى( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) وقوله تعالى( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) وفي سورة الأعراف «١٥٦ :( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) وفي سورة الأحزاب «٤٤ : و ٤٥( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إلى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) (الأمر الرابع) أنّه تكفل بنفسه دفع الموانع عن الرسالة والنبوّة إذ بين مواد الدّعوة وأساسياتها ومعارفها وقوانينها الجارية بأجمعها على المعقول من عرفانيها وأخلاقيها واجتماعيها وسياسيها فلا يوجد فيها ما يخالف المعقول ليكون مانعا عن النبوّة وفي سورة الاسراء المكية «٩ :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) ودونك القرآن الكريم وحقق وتبصر وتنوّر فيما تضمنه من هذه المواد الشريفة( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )

٦

(الأمر الخامس) أنّه زاد على كونه معجزا بنفسه بأن كرّر النداء والمصارحة في الاحتجاج باعجازه وتحدّي الناس وأعلن بالحجة وهتف بهم هتافا مكررا مؤكدا بأن يعارضوه لو لم يكن معجزا ويأتوا بمثله أو بعشر سور أو سورة واحدة من مثله إنْ كان مما تناله قدرة البشر المحدودة وقد نادى بقرار الإنصاف والمماشاة وجعل لهم إنْ أتوا بعشر سور أو سورة من مثله أن تسقط عنهم هذه الدعوة ويستريحوا من ثقلها الباهظ لضلالهم ويدعوا من يستطيعون عقلا أنْ يدعوه من دون الله لو استطاعوا أو وجدوا إلى ذلك من المعقول سبيلا. جعل لهم ذلك من باب المماشاة والمجاراة في الحجّة تعليقا على المستحيل ولهم في ذلك المهلة والأناة ليعدّوا عدّتهم في المظاهرة والتعاون ففي سورة هود المكية «١٦ :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ١٧ :( فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ ) وفي سورة يونس المكية «٣٩ :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) وفي سورة البقرة «٢١ :( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) فيما تدعونهم وتصفونهم به(٢٢) ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي ) وفي سورة الاسراء المكية «٩٠ :( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) هذا وقد مضت لهم عدة أعوام ودعوة الرسالة والإعذار والإنذار والاحتجاج بإعجاز القرآن دائمة عليهم وهم في أشد الضجر من ذلك والكراهية له والخوف من عاقبته. وفي أشد التألم من آثار الدعوة وتقدّمها وظهورها. وفي أشد الرغبة في أهوائهم وعاداتهم الوحشية ورئاساتهم والعكوف على معبوداتهم ومع ذلك لم يستطيعوا أن يعارضوا شيئا من القرآن الكريم ولو بأن يأتوا بسورة من مثله لكي تظهر حجّتهم وتسقط عنهم حجّة الرسول ويستريحوا من عناهم وقلقهم وآلامهم من دعوته التي شتتت جامعتهم الأوثانيّة وهدّدت رئاساتهم الوحشيّة وتشريعاتهم الأهوائيّة وفرّقت بين الأب منهم وبنيه والأخ وأخيه والزوج وزوجه والقريب وقريبه وكدّرت صفائهم ونافرت بين عواطفهم. وقد سامعهم في دعوته إصلاحا وخضوعا لم يكونوا يحتسبونه ولم يجدوا لذلك حيلة إلّا الجحود السخيف والعناد الشديد وقساوة الاضطهاد والاستشفاع بأبي طالب في ترك الرسول لدعوته أو تمرّدهم بالمثابرة الوحشية فاقتحموا فيها الأهوال وتجشّموا المصاعب وقتال الأقارب والاخوان ومقاساة الشدائد وذلة المغلوبيّة. فلما ذا

٧

لم يتظاهروا بأجمعهم عشر سنوات أو اكثر ويأتوا بشيء من مثل القرآن الكريم ولو سورة واحدة ويفاخروا الرسول (ص) ويحاكموه في المواسم والمحافل التي أعدّوها لمثل ذلك فتكون لهم الحجّة والانتصار في الحكومة وقرار النصفة وينادوا بالغلبة ويستريحوا من عناء هذه الدعوة وتهديدها لضلالهم. فلماذا لم يفعلوا ذلك والقرآن والرسول قد دَعَواهم إلى ذلك تعجيزاً وهم هم وينابيع فصاحتهم وبلاغتهم غزيرة، وغرائزهم في الأدب العربي متدفقة، وقرائحهم سيالة، ومواد القرآن في مفرداته وتراكيبه من لغتهم، وأسلوبه من نحو صناعتهم التي لهم فيها الممارسة التامة والمهارة الفائقة والرّقي المعروف ولله الحجّة البالغة.

ولو كان هناك أقلّ قليل من المعارضة والإتيان بسورة واحدة من مثل القرآن لرفعه الضلال ناراً على عَلَمْ. واحتفلت فيه ألوف الألوف من أضداد الإسلام والقرآن. ولسجلّته دواوينهم في أقطار الأرض وأجيال الأمم. وتلقّوه بأحسن ابتهاج. وصالوا به أكبر صولة لأنّه الفيصل السلمي والحجّة الأدبية التي ما فوقها حجّة لهم في الجدل والبرهان. ولكن هل سمعت أنَّ أحداً نبس في ذلك ببنت شفة أو أجري فيه قلم. وإن أمر ذلك بمعزل عن داخلية الإسلام لكي يقال انّه أخفته شوكة المسلمين أو دسائس تواطيهم. بل إنّ بذرته ومغرسه وسوره وحفظه وحياطته ترجع إلى ألوف الألوف في كل جيل من أنصاره أضداد الإسلام والقرآن سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها أو بعد زمان الرسول (ص). ألا ترى أنّه بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في جزيرة العرب بقي في اليمن وسوريا والعراق كثير من اليهود والنصارى وأمثالهم وهم الألوف أو ألوف الألوف من العرب أو من يعرف اللغة العربية ويتكلم بها ويتأدّب بآدابها. وأضف إلى ذلك المنافقين الذين كانوا يكيدون الإسلام جهد وسعهم في عصر الرسول وبعده. فهل يخفي هؤلاء ما هو ضالّتهم المنشودة. وسلاح سطوتهم. وعدّة صولتهم وأقطع حجّة لهم واكبر مدافع عن أديانهم؟ فإنّه لا عطر بعد عرس ولكن ماذا يصنعون بالعدم، وعدم القدرة من المتأخر على الاختلاق.

وممـّـا يشهد لما ذكرناه ويجلو تمثيله لبداهة الاعتبار أنّ اليد الأثيمة غلبت بسنوح الفرصة حتى على المحدّثين والمفسّرين فدّست في كثير من كتب التفسير خرافة الغرانيق وخرافة سبب النزول في آية التمني من سورة الحج كما نجده في اكثر التفاسير. فلوّثت قدس رسول الله (ص) بما شاءت وسنحت به لها الفرصة. وكذا قدس جميع الأنبياء والمرسلين في

٨

حديثهم وتلاوتهم بحيث لا يبقى بهم أدنى وثوق في ذلك(١)

هذا في وجهة الاعجاز الذي تقوم به الحجّة على العرب. وإنّ للقرآن المجيد أيضا وجوها من الإعجاز مما يشترك في معرفتها كل بشر ذي رشد إذا اطلع عليها. وهي عديدة نشير إلى بعض منها في هذا المختصر

إعجازه من وجهة التاريخ

لا نقول بذلك بمحض إخباره عن الحوادث الماضية والأمم الخالية وإن كان رسول الله الذي جاء به لا يقرأ ولا يكتب ولم يدخل مدرسة ولم يمارس تعلما. كما هو المعلوم من تاريخ حياته (ص). فإنّه يمكن أن يقال إنّ هذا الإخبار المذكور ممكن في العادة لنوع البشر وإن كان معرضا للعثرات التي لا تقال. بل نقول إن القرآن الكريم اشترك في تاريخه في بعض القصص مع التوراة الرائجة التي اتفق اليهود والنصارى على انها كتاب الله المنزّل على رسوله موسى فأوردت هذه التوراة تلك القصص وهي مملوءة من الخرافات أو الكفر أو عدم الانتظام الذي تشابه فيه كلام المبتلى بالبرسام : فمن ذلك قصة آدم في نهي الله له عن الأكل من الشجرة وما فيها من الخرافات والكفر بنسبة الكذب والخداع إلى الله جلّ وعلا وسائر شؤون القصّة على ما جاء في الفصل الثالث من سَفْر التكوين : ومن ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر منه من شكّ إبراهيم في وعد الله له بإعطائه الأرض في سوريا ومن ذكر العلامة في ذلك ومن ذلك ما جاء في الفصل الثامن عشر والتاسع عشر في مجيء الملائكة إلى إبراهيم بالبشرى باسحاق وإخباره بأمر هلاك قوم لوط ومن حكاية ذهابهم إلى لوط وخطابهم معه. ومن ذلك ما جاء في الفصل الثالث من سفر الخروج في خطاب الله لموسى من الشجرة وفي أواخره ما حاصله أنّ الله جلّ شأنه افتتح الرسالة لموسى بالتعليم بالكذب ومن ذلك ما جاء في الفصل الثاني والثلاثين في سفر الخروج في أنّ هارون هو الذي عمل العجل ليكون إلها لبني إسرائيل ودعى لعبادته وبنى له رسوم العبادة فانظر إلى هذه القصص في مواردها المذكورة من التوراة الرائجة، والقرآن الكريم أورد القصّة الأولى في سورتي الأعراف وطه ـ والثانية في أواخر سورة البقرة، والثالثة في سورتي هود والذاريات والرابعة، في سور طه والنمل والقصص ـ

__________________

(١) فانظر في الجزء الأوّل من كتاب الهدى في صفحة ١٢٣ ١٢٨ والجزء الاوّل من الرحلة المدرسية في صفحة ٣٧ و ٣٨.

٩

والخامسة في سورتي طه والأعراف فجاءت هذه القصص بكرامة الوحي الإلهي منزّهة عن كل خرافة وكفر وعن كل ما ينافي قدس الله وقدس أنبيائه. جارية على المعقول، منتظمة الحجة، شريفة البيان. وذلك مما يقيم الحجّة ويوجب اليقين بأنه لا يكون إلّا من وحي الله ولا يكون من بشر بما هو بشر مثل رسول الله الذي لم يمارس تعلما في المعارف الإلهية ولم يتخرّج عن مدرسة ولم يتربّ إلّا بين أعراب وحشيين وثنيين على أوحش جانب من الوحشية والوثنية. بل لو مارس جميع التعاليم وتخرج من جميع الكليات لما أمكنه أن يتنزّه وينزه معارفه وكلامه من أمثال هذه الخرافات الكفريّة.

لم يكن في ذلك العصر وما قبله إلّا تعاليم اليهود والنصارى. وأساسها في الديانة مبنيّ على ما أشرنا إليه من خرافات التوراة الرائجة فهم عكوف عليها في عبادتهم ومواسمهم وتعاليمهم ومدارسهم. أو تعاليم الوثنيين ومنهم قومه. تلك التعاليم الجهلية الخاسئة. أو تعاليم المجوس المتشعبة من كلا التعليمين المذكورين فإنّه صلوات الله عليه لو كان أخذ القصص المذكورة من ذات التوراة الرائجة بالإتقان أو من الروحانيين المسيطرين على تعليمها وأراد أن يتقوّل بها على الوحي تزلفا أو مخادعة لهم ليستجيبوا إلى اتباع دعوته لأتى بها على ما في التوراة من الخرافة والكفر. ولو كان أخذها سطحيا من أفواه الرجال كما يأخذ الأميّ من ألسن العامة لزاد عليها أضعاف خرافاتها وكفرها كما تستلزمه وتوجبه أميّته وتربيته وجهل قومه وبلاده ووحشيّتهم ووثنيّتهم لكن (إنْ هو إلّا وحيٌ يوحى) إلى رسول لا تأخذه في تبليغ الحقائق لومة لائم أو مخالفة أمم. فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأوّل من الرحلة المدرسية(١) وعلى هذا النحو يجري الكلام فيما ذكر في العهد القديم الذي يعدّه أهل الكتاب من الوحي الصادق حيث نسب إلى أيّوب أشنع الاعتراض على الله والجزع من قضائه ونسبة الظلم إليه جلّ وعلا وطلب المحاكمة معه حتى أنه صار يوبخ واعظيه والناهين له عن هذه الجرأة ويسفه رأيهم. ونسب الزنا إلى داود بأشنع وجه. ونسب إلى سليمان أنّه تمادى في تأييد الشرك بالله والعبادة الأوثانية وكثر منه بناء المباني لعبادة الأوثان. وقد كثرت مصائب الأناجيل في القدح بقدس المسيح مع صغر حجمها وقلة مكتوبها فنسبت إلى قدسه شرب الخمر وتكرّر الكذب والأحوال المنافية للعفة وانتهاره لوالدته وقدحه في قداستها والقول بتعدد

__________________

(١) صحيفة ٧ ١١ و ٤١ و ٤٢ و ٤٣ ٤٦ و ٤٧ و ٥٨. و ٣٠ ٣٤.

١٠

الآلهة والأرباب وغير ذلك مما سنشير اليه. وجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بوحي قرآنه منزّها لهؤلاء الأنبياء ومبرّءا لهم عن هذه الوصمات الشنيعة فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى(١) وعلى هذا النحو يجري الكلام أيضا فيما ذكر في التوراة والعهد القديم من القصص الخرافية المنافية لجلال الله وقدس أنبيائه وشرفهم وشرف عائلاتهم كما في خرافات إختباء آدم عن الله، وبرج بابل. وشأن لوط مع الخمر وابنتيه والمصارعة مع يعقوب ومخادعة يعقوب لأبيه وتكرر كذبه عليه. وقصة يهوذا مع كنته ثامار وولادة سبط يهوذا الذي منهم داود وسليمان وكثير من الأنبياء. وقصة امنون بن داود وابن عمه مع أخته ثامار وملاعب شمشون. ومشورة الله جل شأنه مع جند السماء في إغواء آخاب ملك إسرائيل(٢) وكثير من ذلك

ولأجل أنّ القرآن الكريم كلام الله القدّوس ووحيه لم يذكر شيئا من ذلك ولو كان من إختلاق رسول الله (ص) كما يزعم الظالمون لامتنع في العادة على البشريّة وأغراضها وتزلفاتها أن لا يذكر شيئا من ذلك مع ما فيها من القعقعة التاريخية. وإنّ البشر الذي يتطلّب قصص العهدين ويذكرها في كلامه وأغراضه لا يفوته ما أشرنا إليه.

إعجازه في وجهة الاحتجاج

نهض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لتعليم البشر وتنوير بصائرهم في عصر الظلمات والجهل والعمى، ولإرشادهم إلى حقائق المعارف التي حجبتها ظلمات الضلال المتراكمة في تلك العصور المظلمة تلك الظلمات التي استولت على ارجاء العالم بحيث لم تدع أن ينقدح من نور الحق للعقول المغلوبة أقل بصيص فجاء (ص) في قرآنه بكثير غزير من الحجج الساطعة على أهمّ المعارف وأشرفها. تلك الحجج الجارية على أحسن نهج وأعمّه نفعا في الاحتجاج والتعليم. جاء بها على أرقى نحو يستلفت العامي إلى نور الغريزة الفطرية فيمثله لشعوره. والى سناء البديهيات فيجلوه لإدراكه. ويجري بمؤدى تلك الحجج مع الفيلاسوف في قوانين المنطق وتنظيم قياساته على أساسيات المعقول. فاحتجّ على وجود الإله ولوازم إلهيته، وعلمه وقدرته وتوحيده.

__________________

(١) صفحة ١٠٠ ١١٠ و ١١٢ ١١٦ و ٢٢٧ ٢٣٢.

(٢) أنظر إلى ذلك في سفر (لتكوين في الاصحاح الثالث. والحادي عشر. والتاسع عشر. والتاسع والعشرين. والثامن والثلاثين. وفي الثالث عشر من صموئيل الثاني. والرابع عشر إلى السابع عشر من سفر القضاة. والثاني والعشرين من الملوك الأول. والثامن عشر من الأيام الثاني

١١

وعلى المعاد الجسماني، وعلى أنَّ القرآن وحي إلهي، وعلى صدق الرسول في دعوته، فلا يكاد يوجد في شيء من هذه الحجج خلل عرفاني أو وهن أدبي أو شائبة اختلاف أو شائنة من تناقض. فإذا فرضت أي بشر يكون في ذلك العصر المظلم ومثلت نشأته وتربيته بين الأعراب الوحشيين الوثنيين في تلك البلاد الماحلة من كل تعليم والقاحلة من كل فضيلة في المعارف وانه لم يتعاط تعلما ولا تأدّبا على معلم ولا قراءة مكتوب ولا دراسة كتاب علمت انه يمتنع عليه في العادة بما هو بشر وبلا وحي إلهي إليه أن يأتي ببيان المعارف الصحيحة والمناقضة للجهل العام في عصره وبيئته وقومه ويحتج عليها بتلك الحجج النيرة القيمة على ذلك المنهاج الممتاز بفضيلته.

وإن شئت أن تزداد بصيرة فيما ذكرناه فانظر إلى ما في الأناجيل مما نسبته إلى احتجاجات المسيح وحاشا قدسه منه ومما ذكرته من الحجج الساقطة الفاسدة على أمور أكثرها ضلال أو غلط كالاحتجاج على تعدد الآلهة وعلى تعدد الأرباب، وعلى المنع من الطلاق. وانظر إلى ما اشتملت عليه من الغلط والتحريف. نعم ذكرت الاحتجاج على القيامة من الأموات ولكن ماذا جاءت به من الغلط والخبط في الحجّة واحوال القيامة. وإن شئت الاطلاع على شيء من ذلك فانظر في الجزء الأوّل من كتاب الهدى صفحة ١١٢ ـ ١١٦ و ١٩٧ و ٢٠٥ والجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة ٧٣ و ٣٢ ـ ٣٩.

إعجازه من وجهة الاستقامة والسلامة من الاختلاف والتناقض

قد خاض القرآن الكريم في فنون المعارف والإصلاح مما يتخصص فيه الممتازون بالرقي في أبواب الفلسفة والسياسة والخطابة والإصلاح من علم اللاهوت أو الأخلاق أو التشريع المدني والتنظيم الإداري أو الفن الحربي. أو البشرى والترغيب بالجزاء أو الإنذار والتهديد بالنكال. أو الحجج والأمثال. أو تذكرة المواعظ والعبر. وجرى من ذلك في الميادين الشريفة بأحسن أسلوب وأقوم منهج وبلغ في جميع ذلك أكرم الغايات وأعلاها في الرقي وهو يكرر بحسب الحكمة كثيرا من قصصه ومقاصده وفي جميع ذلك لم تشنه زلة اختلاف ولا عثرة تناقض ولا وهن اضطراب ولا سقوط حجّة ولا فساد مضمون ولا سخافة بيان. وها هو بارز في جميع العالم لكل من يريد الهدى والفحص والتدبر ينادي بابهة الافتخار وجمال السداد وشوكة الاستظهار( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (١) ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ

__________________

(١) سورة الاسراء : ٩

١٢

لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (١) منتشرا في أبوابه ومقاصده. فهل يمكن في العادة أن يكون كل هذا من بشر قد ذكرنا لك عصره ونشأته وتربيته وبلاده وقومه وجهلهم الوحشي الوثني ولك العبرة بكتب العهدين وهي التي منذ قرون عديدة يصفق لاستحسانها اكثر العالم المفتخر بالعلم والتمدّن وينسبونها بكمال الاحتفال إلى كرامة الوحي ـ فكم وكم يوجد فيها من الوهن والسقوط والاختلاف والتناقض وقد ذكر شيء من ذلك في كتب إظهار الحق والهدى، والرحلة المدرسية. واعتبر أيضا بأنَّ كل واحد من الأناجيل لا يزيد على صحيفة أسبوعيّة وقد كثر فيها الخبط والتناقض والاختلاف إلى حد مهول مدهش وقد ذكر شيء منه في الجزء الاوّل من كتاب الهدى صفحة ١٩٦ ـ ٢٣٤ وأيضا إنّ الأناجيل وكتب العهد الجديد مؤسسة على أنّ كتب العهدين الرائجة هي كتب وحي إلهي صحيحة. إذن فاعتبر بأنه كم وقع الاختلاف والتناقض بين الأناجيل والعهد الجديد وبين العهد القديم وقد ذكر شيء مما ذكرنا في الجزء الأوّل من الرحلة المدرسية صفحة ١٣٢ ـ ١٨٤

إعجازه في وجهة التشريع العادل ونظام المدنيّة

قدّر رسول الله (ص) بشرا عاديا في مثل ما ذكرناه مرارا في عصره ونشأته وتربيته وبلاده وقومه وجهلهم وعاداتهم الوحشية. ثم انظر هل يمكن في العادة لمثل هذا البشر إذا لم يكن موحى إليه أن يأتي من عنده ومن بشريته بمثل ما أتى به في القرآن الكريم من الشريعة الحقوقية العادلة والقوانين القيمة والأنظمة المعقولة الجارية بأجمعها على ما هو الصالح للبشر في المدنية والاجتماع والسياسة والحرب ومقدماتها ونتائجها. وجرت في عنايتها بالإصلاح من إدارة جميع العالم إلى الإدارة العائلية والبيتية والزوجية بل وإلى شؤون الكاتب والشاهد كما في سورة البقرة آية ٢٨٢ فمنعت فيها من مضارة الكاتب والشاهد ونهت عن أن يحملا من أجل الكتابة والشهادة وأدائها ضرر المشقة والعناء وتضييع وقت اكثر من الوقت الطبيعي لمحض الأداء. وفي ذلك عبرة لأولي الألباب. وإليك فانظر ما في القرآن الكريم من الشرائع والقوانين العامة والخاصة واعتبر بكرامتها ومجدها في التشريع الفائق والإصلاح الحميد. ولا تحتاج معرفة مجدها وكرامتها إلى المقايسة والاعتبار بشرائع قطره وقومه تلك الشرائع الجائرة الوحشية الوثنية. نعم تزداد بصيرة إذا نظرت إلى شرائع التوراة الرائجة التي يعتبرها اليهود

__________________

(١) سورة النساء : ٨٤.

١٣

والنصارى في اجيالهم في اكثر من خمسة وعشرين قرنا ويعدونها كتاب وحي إلهي مقدس فانظر فيما فيها من شريعة تقديس هارون وبنيه وتفصيل ثيابهم وأوضاعها. وشريعة امرأة الأخ الميت. وتفلتها وولدها البكر من الأخ الثاني. وشريعة من ادعى زوجها انه لم يجد لها عذرة. وشريعة قتل الأطفال والنساء من البلاد المفتوحة بالحرب فإنك تعرف ان هذه الشرائع لا تكون إلّا من بشر سخيف قاس وتزداد بصيرة بمجد القرآن الشريف في تشريعه وإنه لا يكون إلّا من وحي إلهي وقد أشير إلى شيء مما ذكرنا في أواخر الجزء الثاني من كتاب الهدى صفحة ٢٨٠ ـ ٢٩٢ والجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة ٢٩ و ٧٩ ـ ٨٢ وانظر إلى العهد الجديد والغائه لنظام المدنية والأخذ أمام الظلم والعدوان بحيث ترك العالم بلا نظام راذع ولا شريعة تأديب عادلة فإنك تزداد بصيرة بأن المتقول على الوحي في أمر التشريع لا بد له من أن يسقط سقطة تشوه التاريخ وتئنّ منها الحقائق جزعا. فاعرف اذن اعجاز القرآن في تشريعه الممتاز بفضيلة الوحي الإلهي

اعجازه من وجهة الأخلاق

وإذا نظرت إلى ظلمات العصر والقطر والتربية وشيوع الجهل في الأمة وسوء الأعمال وعدم الدراسة في العلم أو التخرج في الفضيلة على الحكماء الصالحين فإنك ترى هذه الأمور لها اثر كبير في الجهل بالأخلاق الفاضلة والانحراف عن جادتها والخبط في معرفتها وتمييز حدودها. فلا ترد البشر إلى الاستقامة في ذلك تكلفات الفكر المحاط بالجهل العام والجيل المظلم والقطر الوبيء من نزغات الأهواء. ولئن حاول الرجل المريد للصلاح حينئذ شيئا من تهذيب الأخلاق لم يهتد السبيل في قوله وعمله إلّا إلى شيء يشير إليه التداول بين جملة من الناس ولئن تكلف المتفلسف شيئا من التعليم بالأخلاق خبط فيها خبطا غلب فيه الجهل والزلل وتتابعت فيه العثرات.

ومن بين تلك الظلمات المذكورة بزغ القرآن الكريم بأنواره وأتى بما لا تسمح به العادة بأن يأتي به في تلك الظلمات بشر من عند نفسه وتقولا على الوحي فجاء في اجماله وتفصيله مستقصيا للأخلاق الفاضلة على حدودها بالحث على التزين بها بما توجبه الحكمة من البعث والترغيب. ومحصيا للأخلاق الرذيلة بالزجر عن التلوث بها بما يوجبه الإصلاح من الإرهاب والتنفير. واقام لذلك في العالم اشرف مدرسة زاهرة وأعلى فلسفة مرشدة وابلغ خطابة واعظة

١٤

وإليك بعضا من جوامعه في ذلك كقوله تعالى في سورة النحل : ٩٢( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) . ومن سورة الفرقان ما في الآية الرابعة والستين إلى الخامسة والسبعين. ومن سورة المعارج ما في الآية الثالثة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين. ومن سورة الحجرات ما في الآيات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. وغير ذلك مما لا يكاد أن تخلو منه سورة أو يتخطاه تعليم أو يحابى به قوم دون قوم أو يتجاوز بالإفراط إلى التفريط والإخلال بنظام المدنية وراحة الاجتماع ولك العبرة بأن التوراة الرائجة فيها وشل من تعاليم التوراة الحقيقية ولكن لأنها تلفيق واختلاق بشري كدّرت ما فيها من ذلك الوشل وذهبت بصفاء التعليم الإلهي. فأمرت بني إسرائيل بالحكم بالعدل لقريبهم ونهتهم عن الحقد على أبناء شعبهم وعن السعي بالوشاية وعن شهادة الزور على قريبهم وأن يغدر أحدهم بصاحبه. ويا للأسف على شرف هذا الأمر والنهي إذ شوّهت جماله بتخصيص تعليمها لبني إسرائيل وبتخصيص المأمور به والمنهي عنه بالقريب والشعب والصاحب.

ولك العبرة أيضا بأن الأناجيل الرائجة قد أفرطت بتصوفها البارد فنهت عن ردع الظالمين بالانتصاف من الظالم وقطع مادة الفساد بالحدود الشرعية ودفاع الظالمين بل علمت بأن من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الآخر أيضا ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه

فلوثت بافراطها البشري قدس تعاليم المسيح المتلقاة من الوحي الإلهي

اعجازه في وجهة علم الغيب

وقد تكرر في القرآن معجزه في اخباره بالغيب اخبارا يقتضي التكهن والفراسة خلافه من حيث النظر إلى الحال الحاضر وطغيان الشرك وضعف الدعوة الإسلامية وما يجري من النكال والتشريد والجفاء على ملبيها. فمن ذلك قوله في سورة الحجر المكية في الأمر لرسول الله (ص) بالإعلان بالدعوة والبشرى بنجاحها وارغام معانديها ومعارضيها وكان ذلك عند طغيان الشرك واستفحاله وهيجان المشركين على رسول الله «٩٤( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) : ٩٥( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) : ٩٦( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) وقد كفاه الله اشرف كفاية لم تكن تعلق بها الآمال بحسب العادة. وقد بان للمشركين وعلموا

١٥

ما في قوله تعالى في آخر الآية( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) . وقوله في سورة الصف المكية في الحال الذي وصفناه من طغيان الشرك والمشركين «٩( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) فأظهره على الذين أعز اظهار أرغمت به آناف المشركين. ومن الاخبار بالغيب قوله تعالى في سورة الروم( غُلِبَتِ الرُّومُ ٢فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣فِي بِضْعِ سِنِينَ ) فغلبت الروم فارس ودخلت مملكتها قبل مضي عشر سنين وقوله تعالى في سورة تبت في شأن أبي لهب وامرأته( سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) وهو اخبار بأنهما يموتان على الكفر ولا يحظيان بسعادة الإسلام الذي يكفر عنهما آثام الشرك ويحط أوزاره فماتا على الكفر كما اخبر به اخبارا حتميا ولك العبرة في ذلك بأن إنجيل متى ذكر اخبارا واحدا غيبيا للمسيح وهوائه يبقى مدفونا في قلب الأرض ثلاثة أيّام وثلاث ليال. ولكن ما برح إنجيل متى أن كذب في أواخره هذا الإخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الأخر على ان المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب وكفنها ودفنها وقبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت وخرج عن قبره. وعلى ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر إلّا ليلة السبت ونهاره وليلة الأحد وذلك نهار وليلتان

هذا وإني عند مقايستي للقرآن الكريم بما ينسب إلى الوحي الإلهي من كتب الأمم المتدينة ومنهم البراهمة والبوذيون وغيرهم لم يحضر عندي إلّا كتب العهدين فلا ينبغي ان يجعل مقايستي بهما تحاملا على خصوص اليهود والنصارى. ولي العذر في ذلك فإنه لا يصح للإنسان ان تأخذه في خدمة الحق وإيضاح الحقيقة وتأييدها لومة لائم أو يصده عذل عاذل. فإن خدمة الحق نصرة للبشر جميعا والله المستعان

هذا شيء قليل من البيان في الوجهات المذكورة إذ لا يسع هذا المختصر اكثر من ذلك. وهب ان الوساوس تتقحم على الحقائق وتغالط الأذهان بواهيات الشكوك في الاعجاز ببعض آحادها ولكن هل يمكن ذلك بالنظر إلى مجموعها. وهل يسوغ لذي الشعور ان يختلج في ذهنه الشك في اعجاز الكتاب الجامع بفضيلته لهذه الكرامات الباهرة وخروجه عن طوق البشر مطلقا وخصوصا في ذلك العصر وتلك الأحوال وهل يسمح عقله إلّا بأن يقول( إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحى )

١٦

الفصل الثاني في جمعه في مصحف واحد

لم يزل القرآن الكريم بحسب حكمة الوحي والتشريع والمصالح والمقتضيات المتجددة آنا فآنا يتدرج في نزوله نجوما(١) الآية والآيتان والأكثر والسورة. وكلما نزل شيء هفت إليه قلوب المسلمين وانشرحت له صدورهم وهبوا إلى حفظه بأحسن الرغبة والشوق وأكمل الإقبال وأشد الارتياح. فتلقونه بالابتهاج وتلقوه بالاغتنام من تلاوة الرسول العظيم الصادع بأمر الله والمسارع إلى التبليغ والدعوة إلى الله وقرآنه. وتناوله حفظهم بما امتازت به العرب وعرفوا به من قوة الحافظة الفطرية وأثبتوه في قلوبهم كالنقش في الحجر. وكان شعار الإسلام وسمة المسلم حينئذ هو التجمل والتكمل بحفظ ما ينزل من القرآن الكريم. لكي يتبصر بحججه ويتنور بمعارفه وشرائعه وأخلاقه الفاضلة وتاريخه المجيد وحكمته الباهرة وأدبه العربي الفائق المعجز. فاتخذ المسلمون تلاوته لهم حجّة الدعوة. ومعجز البلاغة. ولسان العبادة لله. ولهجة ذكره. وترجمان مناجاته. وأنيس الخلوة. وترويح النفس. ودرسا للكمال. وتمرينا في التهذيب. وسلما للترقي. وتدربا في التمدّن. وآية الموعظة. وشعار الإسلام. ووسام الإيمان والتقدّم في الفضيلة. واستمرّ المسلمون على ذلك حتى صاروا في زمان الرّسول يعدون بالألوف وعشراتها ومئاتها. وكلهم من حملة القرآن وحفاظه(٢) وإن تفاوتوا في ذلك بحسب

__________________

(١) ولا بد من أن تكون كتب الوحي والدعوة والتشريع جارية في كمالها على منهاج هذه الحكمة. ومما يشير إلى ذلك ان التوراة الرائجة تذكر ان نزول التوراة على موسىعليه‌السلام كان من زمان تكليمه من الشجرة متدرجا بحسب الأزمان والحوادث والتاريخ والحكم في التشريع إلى حين وفاته بعد التيه عند عبر الأردن ومتراخيا في اكثر من أربعين سنة. فانظر في شرح هذا المجمل إلى المقدمة الثانية من الجزء الأول من كتاب الهدى صحيفة ٩ إلى ١٢.

(٢) اخرج ابن سعد وابن عساكر عن محمد بن كعب القرضي قال جمع القرآن اي حفظا في زمان النبي (ص) خمسة من الأنصار معاذ بن جبل وعبادة بن الصمت وأبي بن كعب وابو أيوب الانصاري وابو الدرداء. واخرج ابن سعد ويعقوب بن سفيان والطبراني وابن عساكر عن الشعبي قال جمع القرآن على عهد رسول الله (ص) ستة من الأنصار أبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وابو الدرداء وسعد بن عبيد وابو زيد وكان مجمع ابن جارية قد أخذه كله إلّا سورتين أو ثلاثة. واخرج ابن عساكر عن محمد بن كعب القرضي قال كان ممن ختم القرآن ورسول الله حي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود. واخرج عن انس قرأ القرآن على عهد رسول الله (ص) معاذ وأبي وسعد وابو زيد. واخرج الحاكم في الصحيح على شرط البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت قال كنا عند رسول الله (ص) نؤلف القرآن من الرقاع. وفي رواية حول رسول الله نؤلف القرآن «فانظر إلى كنز العمال ومنتخبه اقلا» ولم اذكر هذه الروايات احتجاجا بها للحقيقة المعلومة ولكن لتجبه بالمعارضة بعض الروايات الشاذة الواردة في خلاف ما ذكرناه من حفظ المسلمين في عصر النبي وبعده للقرآن الكريم.

١٧

السابقة والفضيلة هذا ولما كان وحيه لا ينقطع في حياة رسول الله (ص) لم يكن كله مجموعا في مصحف واحد وإن كان ما أوحي منه مجموعا في قلوب المسلمين وكتاباتهم له ولما اختار الله لرسوله دار الكرامة وانقطع الوحي بذلك فلا يرجى للقرآن نزول تتمة رأى المسلمون ان يسجلوه في مصحف جامع فجمعوا مادته على حين اشراف الألوف من حفاظه ورقابة مكتوباته الموجودة عند الرسول وكتاب الوحي وسائر المسلمين جملة وابعاضا وسورا(١) نعم لم يترتب على ترتيب نزوله ولم يقدم منسوخه على ناسخه(٢) فاستمرّ القرآن الكريم على هذا الاحتفال العظيم بين المسلمين جيلا بعد جيل ترى له في كل آن الوفا مؤلفة من المصاحف والوفا من الحفاظ ولا تزال المصاحف ينسخ بعضها على بعض والمسلمون يقرأ بعضهم على بعض ويسمع بعضهم من بعض. تكون ألوف المصاحف رقيبة على الحفاظ ، وألوف الحفاظ رقباء على المصاحف وتكون الألوف من كلا القسمين رقيبة على المتجدد منهما ، نقول الألوف ولكنها مئات الألوف وألوف الألوف. فلم يتفق لأمر تاريخي من التواتر وبداهة البقاء مثل ما اتفق للقرآن الكريم كما وعد الله جلت آلاؤه بقوله في سورة الحجر( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) وقوله في سورة القيامة( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) ولئن سمعت في الروايات الشاذة شيئا في تحريف القرآن وضياع بعضه فلا تقم لتلك الروايات وزنا. وقل ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها للمسلمين وفيما جاءت به في مروياتها الواهية

__________________

(١) ومما يشهد لما ذكرناه ما عن أبي عبيد في فضائله وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه مسندا عن عمر بن عامر الانصاري ان عمر بن الخطاب قرأ «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فرفع الأنصار ولم يدخل واو العطف على «الذين» فقال له زيد بن ثابت «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فقال عمر «الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فقال زيد أمير المؤمنين اعلم فقال عمر ايتوني بابي بن كعب فسأله عن ذلك فقال «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فجعل كل واحد منهما يشير إلى انف صاحبه بإصبعه فقال أبي والله اقرأنيها رسول الله (ص) وأنت تتبع الخبط فقال عمر فنعم إذن فنعم إذن. واخرج أبو عبيد في فضائله وسنيد وابن جرير وابو الشيخ عن محمد بن كعب القرضي. واخرج أبو الشيخ في تفسيره والحاكم في المستدرك مصححا على شرط البخاري ومسلم عن اسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي انه جرى بين عمر وأبي بن كعب في هذه الآية نحو ذلك فانظر في كنز الأعمال ومنتخبه.

(٢) نعم من المعلوم عند الشيعة ان عليا أمير المؤمنين (ع) بعد وفاة رسول الله (ص) لم يرتد برداء إلّا للصلاة حتى جمع القرآن على ترتيب نزوله وتقدم منسوخه على ناسخه. واخرج ابن سعد وابن عبد البر في الاستيعاب عن محمد بن سيرين قال نبئت ان عليا ابطأ عن بيعة أبي بكر فقال أكرهت امارتي فقال آليت بيميني ان لا ارتدي برداء إلّا للصلاة حتى اجمع القرآن قال فزعموا انه كتبه على تنزيله قال محمد فلو أصبت ذلك الكتاب كان فيه علم قال ابن عوف فسألت عكرمة عن ذلك الكتاب فلم يعرفه.

١٨

من الوهن. وما الصقته بكرامة القرآن مما ليس له شبه به واستمع من ذلك لأمور

اضطراب الروايات في جمع القرآن

(الأمر الأول) جاء فيها ان أبا بكر هو الذي أدى رأيه أولا إلى جمع القرآن وهو الذي طلب من زيد بن ثابت جمعه فثقل ذلك عليه فلم يزل أبو بكر يراجعه حتى قبل. وجاء فيها أيضا ان زيدا هو الذي أدى رأيه أولا إلى جمع القرآن وعزم عليه وكلم في ذلك عمر فكلم فيه عمر أبا بكر فاستشار أبو بكر في ذلك المسلمين. وجاء فيها أيضا ان أبا بكر هو الذي جمع القرآن فى أيامه. وجاء فيها ان عمر قتل ولم يجمع القرآن. وجاء فيها ان عثمان هو الذي جمع القرآن في أيامه بأمره. وجاء فيها ان عمر هو الذي أمر زيد بن ثابت وسعيد بن العاص لما أراد جمع القرآن أن يملي زيد ويكتب سعيد. وجاء فيها ان ذلك كان من عثمان في أيامه وبعد قتل عمر. وجاء في ذلك أيضا ان الذي يملي أبيّ بن كعب وزيد يكتبه وسعيد يعربه. وفي رواية أخرى ان سعيدا وعبد الله بن الحرث يعربانه : هذا بعض حال هذه الروايات في تعارضها واضطراباتها ، ومن جملة ما جاء فيها ما مضمونه ان براءة آخر ما نزل من القرآن فما ذا ترى لهذه الرواية من القيمة التاريخية. فانظر إلى الجزء الأول من كنز العمال ومنتخبه اقلا

بعض ما الصق بكرامة القرآن الكريم

(الثاني) في الجزء الخامس من مسند أحمد عن أبيّ بن كعب قال ان رسول الله (ص) قال ان الله أمرني ان اقرأ عليك القرآن قال فقرأ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكِتابِ ) فقرأ فيها «لو ان ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا فلو سأل ثانيا فأعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب وان ذلك الدين القيم عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيرا فلن يكفره». وفي رواية الحاكم في المستدرك ورواية غيره أيضا «ان ذات الدين عند الله الحنيفية لا المشركة» وفي رواية «غير المشركة» إلى آخره وعن جامع الأصول لابن الأثير الجزري «ان الدين عند الله الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية» وذكر في المسند أيضا بعد هذه الرواية عن أبي قال قال لي رسول الله (ص) ان الله أمرني ان اقرأ عليك فقرأ عليّ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً

١٩

مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) إن الدين عند الله الحنيفية لا المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل خيرا فلن يكفره قال شعبة ثم قرأ آيات بعدها ثم قرأ «لو ان لابن آدم واديين من مال لسأل واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب». قال ثم ختمها بما بقي منها انتهى. وهذه الروايات رواها أيضا أبو داود الطيالسي وسعيد بن منصور في سننه والحاكم في مستدركه كما في كنز العمال. وذكر في المسند أيضا عن أبي واقد الليثي قال كنا نأتي النبي (ص) إذا أنزل عليه فيحدّثنا فقال لنا ذات يوم ان اللهعزوجل قال «إنّا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد لأحبّ أن يكون له ثان ولو كان له واديان لأحبّ أن يكون لهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ثم يتوب الله على من تاب انتهى. هب ان المعرفة والصدق لا يطالبان المحدّثين «ولا نقول القصاص» ولا يسألانهم عن هذا الاضطراب الفاحش فيما يزعمون انه من القرآن ولا يسألانهم عن التمييز بين بلاغة القرآن وعلو شأنه فيها وبين انحطاط هذه الفقرات. ولكن أليس للمعرفة أن تسألهم عن الغلط في قولهم «لا المشركة» فهل يوصف الدين بأنه مشركة. وفي قولهم «الحنيفية المسلمة» وهل يوصف الدين أو الحنيفية بأنه مسلمة وقولهم «ان ذات الدين» وفي قولهم «إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة» ما معنى إنزال المال. وما معنى كونه لإقام الصلاة. هذا واستمع لما يأتي ففي الجزء السادس من مسند أحمد مسندا عن مسروق قال قلت لعائشة هل كان رسول الله يقول شيئا إذا دخل البيت قالت كان إذا دخل البيت مثل لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ فمه إلّا التراب وما جعلنا المال إلّا لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ويتوب الله على من تاب. وفي الجزء السادس في اسناده عن جابر قال قال رسول الله (ص) لو ان لابن آدم واديا من مال لتمنى واديين ولو ان له واديين لتمنى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب. وباسناده أيضا قال سئل جابر هل قال رسول الله لو كان لابن آدم واد من نخل تمنى مثله حتى يتمنى أودية ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب انتهى. وهل تجد من الغريب أو الممتنع في العادة أن يكون لابن آدم واد من مال أو من نخل. أو ليس في بني آدم في كل زمان من ملك واديا من ذلك بل اودية. اذن فكيف يصح في الكلام المستقيم أن يقال لو كان لابن آدم. لو ان لابن آدم. أو ليست لو للامتناع. باللعجب من الرواة لهذه الروايات ألم يكونوا عربا أو لهم إلمام باللغة العربية. نعم يرتفع هذا الاعتراض

٢٠

بما رواه أحمد في مسند ابن عباس لو كان لابن آدم واديان من ذهب وكذا ما يأتي من رواية الترمذي عن انس. وايضا إن تمنى الوادي والواديين والثلاث ليس بذنب يحتاج إلى التوبة إذن فما هو وجه المناسبة بتعقيب ذلك بجملة «ويتوب الله على من تاب» وإن شئت ان تستزيد مما في هذه الرواية من التدافع والاضطراب فاستمع إلى ما رواه الحاكم في المستدرك ان أبا موسى الأشعري قال كنا نقرأ سورة نشبهها بالطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير اني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب. وذكر في الدر المنثور انه أخرجه جماعة عن أبي موسى. وأضف إلى ذلك في التدافع والتناقض ما أسنده في الإتقان عن أبي موسى أيضا قال نزلت سورة نحو براءة ثمّ رفعت وحفظ منها ان الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو ان لابن آدم واديين لتمنى إلى آخره. وأسند الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (ص) لو كان لابن آدم واد من ذهب لأحبّ أن يكون له ثان ولا يملأ فاه إلّا التراب ويتوب الله على من تاب. وها أنت ترى روايات عائشة وجابر وانس وابن عباس تجعل حديث الوادي والواديين من قول رسول الله وتمثله. فهي بسوقها تنفي كونه من القرآن الكريم. ومع ذلك فقد نسبت إلى كلام الرسول (ص) ما يأتي فيه بعض من الاعتراضات المتقدمة مما يجب ان ينزّه عنه ودع عنك الاضطراب الذي يدع الرواية مهزلة.

(الأمر الثالث) ومما الصقوه بكرامة القرآن المجيد قولهم في الرواية عن زيد بن ثابت كنا نقرأ آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» وفي الرواية عن ذر عن أبيّ ان سورة الأحزاب كانت تضاهي سورة البقرة أو هي أطول منها وان فيها أو في أواخرها آية للرجم وهي «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» وفي رواية السياري من الشيعة عن أبي عبد الله بزيادة قوله بما قضيا من الشهوة. وفي رواية الموطأ والمستدرك ومسدد وابن سعد عن عمر كما سيأتي «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة» وفي رواية أبي امامة ابن سهل ان خالته قالت لقد أقرأنا رسول الله (ص) آية الرجم «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» ونحو ذلك رواية سعد بن عبد الله وسليمان بن خالد من الشيعة عن أبي عبد الله (ع). ويا للعجب كيف رضي هؤلاء المحدثون لمجد القرآن وكرامته ان يلقى هذا الحكم الشديد على الشيخ والشيخة بدون ان يذكر السبب وهو زناهما اقلا فضلا عن شرط

٢١

الإحصان. وان قضاء الشهوة أعمّ من الجماع والجماع اعمّ من الزنا والزنا يكون كثيرا مع عدم الإحصان. سامحنا من يزعم ان قضاء الشهوة كناية عن الزنابل زد عليه كونه مع الإحصان ولكنا نقول ما وجه دخول الفاء في قوله «فارجموهما» وليس هناك ما يصحح دخولها من شرط أو نحوه لا ظاهر ولا على وجه يصح تقديره وإنّما دخلت الفاء على الخبر في قوله تعالى في سورة النور( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) لأن كلمة اجلدوا بمنزلة الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ. والزنا بمنزلة الشرط. وليس الرجم جزاء للشيخوخة ولا الشيخوخة سببا له. نعم الوجه في دخول الفاء هو الدلالة على كذب الرواية. ولعلّ في رواية سليمان بن خالد سقطا بأن تكون صورة سؤاله هل يقولون في القرآن رجم. وكيف يرضى لمجده وكرامته في هذا الحكم الشديد ان يقيد الأمر بالشيخ والشيخة مع اجماع الأمة على عمومه لكل زان محصن بالغ الرشد من ذكر أو أنثى. وان يطلق الحكم بالرجم مع اجماع الأمة على اشتراط الإحصان فيه. وفوق ذلك يؤكد الإطلاق ويجعله كالنص على العموم بواسطة التعليل بقضاء اللذة والشهوة الذي يشترك فيه المحصن وغير المحصن. فتبصر بما سمعته من التدافع والتهافت والخلل في رواية هذه المهزلة. وأضف إلى ذلك ما رواه في الموطأ والمستدرك ومسدد وابن سعد من أنّ عمر قال قبل موته بأقل من عشرين يوما فيما يزعمونه من آية الرجم لو لا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة» واخرج الحاكم وابن جرير وصحّحه أيضا أنَّ عمر قال لما نزلت أتيت رسول الله (ص) فقلت اكتبها «وفي نسخة كنز العمّال» اكتبنيها فكأنّه كره ذلك. وقال عمر ألا ترى أنّ الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد وان الشاب إذا زنا وقد أحصن رجم. فالمحدّثون يروون أنَّ عمر يذكر أنَّ رسول الله كره أن تكتب آية منزلة وعمر يذكر وجوه الخلل فيها. فيا للعجب منهم. وفي الإتقان أخرج النسائي ان مروان قال لزيد بن ثابت إلّا تكتبها في المصحف قال ألا ترى أنَّ الشابين الثيبين يرجمان وقد ذكرنا ذلك لعمر فقال أنا أكفيكم فقال يا رسول الله أكتب لي آية الرجم قال لا تستطيع انتهى. فزيد بن ثابت يعترض عليها. ولما رأوا التدافع بين قول عمر اكتبها لي وبين قول النبي لا تستطيع قالوا أراد عمر بقوله ذلك ائذن لي بكتابتها وكأنهم لا يعلمون أنَّ عمر عربي لا يعبر عن قوله ائذن لي بكتابتها بقوله أكتبها لي ومع ذلك لم يستطيعوا أن يذكروا وجها مقبولا لقوله (ص) لا تستطيع. وفي رواية في كنز العمال عن ابن الضريس عن عمر قلت لرسول الله اكتبها يا رسول

٢٢

الله قال لا أستطيع. واخرج ابن الضريس عن زيد بن أسلم ان عمر خطب الناس فقال لا تشكوا في الرجم فإنه حق ولقد هممت ان اكتبه في المصحف فسألت أبي بن كعب فقال أليس اتيتني وانا استقرئها رسول الله فدفعت في صدري وقلت كيف تستقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر انتهى. فهذه الرواية تقول ان عمر لم يرض بانزال شيء في الرجم. وليت المحدّثين يفسرون حاصل الجواب من أبي لعمر وحاصل منع عمر لأبي عن استقرائها ، واخرج الترمذي عن سعد بن المسيب عن عمر قال رجم رسول الله (ص) ورجم أبو بكر ورجمت ولو لا اني اكره ان أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف. فعمر يقول ان كتابة الرجم في المصحف زيادة في كتاب الله وهو يكرهها ـ فقابل هذه الروايات الأربع إحداهن بالأخرى واعرف ما جناه المولعون بكثرة الرواية من المحدثين. وإذا نظرت إلى الجزء الثالث من كنز العمال صحيفة : ٩٠ و ٩١ فإنك تزداد بصيرة في الاضطراب والخلل

هذا ومما يصادم هذه الروايات ويكافحها ما روي من أن عليا (ع) لما جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة قال اجلدها بكتاب الله وارجمها بسنة رسوله كما رواه أحمد والبخاري والنسائي وعبد الرزاق في الجامع والطحاوي والحاكم في مستدركه وغيرهم. ورواه الشيعة عن علي (ع) مرسلا فعلي (ع) يشهد بأن الرجم من السنة لا من الكتاب

الأمر الرابع

مما الصقوه بكرامة القرآن المجيد ما رواه في الإتقان والدر المنثور انه اخرج الطبراني والبيهقي وابن الضريس ان من القرآن سورتين «وقد سماها الراغب في المحاضرات سورتي القنوت» ونسبوهما إلى تعليم علي (ع) وقنوت عمر ومصحفي ابن عباس وزيد بن ثابت وقراءة أبي وأبي موسى (والأولى منهما) بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك انتهى. لا نقول لهذا الراوي ان هذا الكلام لا يشبه بلاغة القرآن ولا سوقه فانا نسامحه في معرفة ذلك ولكنا نقول له كيف يصح قوله يفجرك وكيف تتعدى كلمة يفجر وايضا ان الخلع يناسب الأوتان إذن فما ذا يكون المعنى وبماذا يرتفع الغلط (والثانية منهما) بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدان عذابك بالكافرين ملحق انتهى. ولنسامع الراوي أيضا فيما سامحناه فيه في الرواية الأولى

٢٣

ولكنا نقول له ما معنى الجدّ هنا أهو العظمة أو الغنى أو ضد الهزل أو هو حاجة السجع نعم في رواية عبيد نخشى نقمتك وفي رواية عبد الله نخشى عذابك وما هي النكتة في التعبير بقوله ملحق. وما هو وجه المناسبة وصحة التعليل لخوف المؤمن من عذاب الله بأن عذاب الله بالكافرين ملحق بل ان هذه العبارة تناسب التعليل لأن لا يخاف المؤمن من عذاب الله لأن عذابه بالكافرين ملحق.

الأمر الخامس

ومما الصقوه بالقرآن المجيد ما نقله في فصل الخطاب عن كتاب دبستان المذاهب انه نسب إلى الشيعة انهم يقولون ان إحراق المصاحف سبب إتلاف سور من القرآن نزلت في فضل علي (ع) واهل بيته (ع) «منها» هذه السورة وذكر كلاما يضاهي خمسا وعشرين آية في الفواصل قد لفق من فقرات القرآن الكريم على أسلوب آياته. فاسمع ما في ذلك من الغلط فضلا عن ركاكة أسلوبه الملفق فمن الغلط «واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلفه» ماذا اصطفى من الملائكة وماذا جعل مّن المؤمنين وما معنى أولئك في خلقه. ومنه «مثل الذين يوفون بعهدك اني جزيتهم جنات النعيم» ليت شعري ما هو مثلهم. ومنه «ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل» ما معنى هذه الدمدمة وما معنى بما استخلف وما معنى فبغوا هارون ولمن يعود الضمير في بغوا ولمن الأمر بالصبر الجميل. ومن ذلك «ولقد اتينا بك الحكم كالذي من قبلك من المرسلين وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون» ما معنى اتينا بك الحكم ولمن يرجع الضمير الذي في منهم ولعلهم. هل المرجع للضمير هو في قلب الشاغر. وما هو وجه المناسبة في لعلهم يرجعون. ومن ذلك «وان عليا قانت في الليل ساجد يحذر الآخرة ويرجو ثواب وبه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون» قل ما محل قوله هل يستوي الذين ظلموا وما هي المناسبة له في قوله وهم بعذابي يعلمون. ولعل هذا الملفق تختلج في ذهنه الآيتان الحادية عشرة والثانية عشرة من سورة الزمر وفي آخرها( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) فأراد الملفق أن يلفق منهما شيئا بعدم معرفته فقال في آخر ما لفق هل يستوي الذين ظلموا ولم يفهم انه جيء بالاستفهام الانكاري في الآيتين لأنّه ذكر فيهما الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيله والقانت آناء الليل يرجو رحمة ربه فهما لا يستويان ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. هذا بعض الكلام في هذه المهزلة.

٢٤

وان صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدين في التتبع للشواذ وانه ليعدّ أمثال هذا المنقول في دبستان المذاهب ضالته المنشودة ومع ذلك قال انه لم يجد لهذا المنقول أثر في كتب الشيعة. فيا للعجب من صاحب دبستان المذاهب من اين جاء بنسبة هذه الدعوى إلى الشيعة. وفي أي كتاب لهم وجدها أفهكذا يكون النقل في الكتب ولكن لا عجب (شنشنة أعرفها من أخزم) فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا النقل الكاذب كما في كتاب الملل للشهرستاني ومقدمة ابن خلدون وغير ذلك مما كتبه بعض الناس في هذه السنين والله المستعان

قول الإمامية بعدم النقيصة في القرآن

ولا يخفى ان شيخ المحدّثين والمعروف بالاعتناء بما يروى وهو الصدوق طاب ثراه قال في كتاب الاعتقاد. اعتقادنا ان القرآن الذي أنزله الله على نبيه (ص) هو ما بين الدفتين وليس بأكثر من ذلك ومن نسب إلينا انا نقول انه اكثر من ذلك فهو كاذب انتهى. وحمل الروايات الواردة في النقصان على وجوه أخر. وفي أواخر فصل الخطاب من كتاب المقالات للشيخ المفيدقدس‌سره إنه قال جماعة من أهل الإمامة انه (أي القرآن) لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين (ع) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله. وعن السيد المرتضى قدس سرّه قوله بعدم النقيصة وان من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من اصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها. وفي أول التبيان الشيخ الطوسي (قده) أما الكلام في زيادته ونقصه فمما لا يليق به أيضا لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها. والنقصان فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى وهو الظاهر في الروايات غير انه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا والأولى الاعراض عنها انتهى. وتبعه على ذلك في مجمع البيان وفي كشف الغطاء في كتاب القرآن المبحث الثامن في نقصه لا ريب انه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان كما دل عليه صريح القرآن واجماع العلماء في كل زمان ولا عبرة بالنادر وما ورد من اخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظاهرها إلى ان قال فلا بد من تأويلها بأحد وجوه. وعن السيد القاضي نور الله في كتابه مصائب النواصب ما نسب إلى الشيعة الإمامية من

٢٥

وقوع التغيير في القرآن ليس مما قال به جمهور الإمامية إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم. وعن الشيخ البهائي وايضا اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه والصحيح ان القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادة كان أو نقصانا ويدل عليه قوله تعالى( وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم امير المؤمنينعليه‌السلام منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك في عليّ وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء. وعن المقدس البغدادي في شرح الوافية وانما الكلام في النقيصة والمعروف بين أصحابنا حتى حكي عليه الإجماع عدم النقيصة ايضا. وعنه أيضا عن الشيخ علي بن عبد العالي انه صنف في نفي النقيصة رسالة مستقلة وذكر كلام الصدوق المتقدم ثمّ اعترض بما يدل على النقيصة من الأحاديث وأجاب بأن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنة المتواترة أو الإجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه هذا وان المحدث المعاصر جهد في كتاب فصل الخطاب في جمع الروايات التي استدل بها على النقيصة وكثر أعداد مسانيدها باعداد المراسيل عن الأئمةعليهم‌السلام في الكتب كمراسيل العياشي وفرات وغيرها مع ان المتتبع المحقق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد. وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها. ومنها ما هو مختلف باختلاف يئول به إلى التنافي والتعارض وهذا المختصر لا يسع بيان النحوين الأخيرين. هذا مع ان القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة انفار وقد وصف علماء الرجال كلا منهم اما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية. واما بأنه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء. واما بأنه كذاب متهم لا أستحل ان اروي من تفسيره حديثا واحدا وانه معروف بالوقف وأشدّ الناس عداوة للرضاعليه‌السلام . واما بأنه كان غاليا كذابا. واما بأنه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعوّل عليه ومن الكذابين. واما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلوّ. ومن الواضح ان أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئا. ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير لوجب من دلالة الروايات المتعددة ان ننزلها على ان مضامينها تفسير للآيات أو تأويل أو بيان لما يعلم يقينا شمول عموماتها له لأنّه أظهر الافراد وأحقها بحكم العام. أو ما كان مرادا بخصوصه وبالنص عليه في ضمن العموم عند التنزيل. أو ما كان هو المورد للنزول. أو ما كان هو المراد من اللفظ المبهم. وعلى احد الوجوه الثلاثة الأخيرة يحمل ما ورد

٢٦

فيها انه تنزيل وانه نزل به جبريل كما يشهد به نفس الجمع بين الروايات. كما يحمل التحريف فيها على تحريف المعنى ويشهد لذلك مكاتبة أبي جعفرعليه‌السلام لسعد الخير كما في روضة الكافي ففيها وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده. وكما يحمل ما فيها من انه كان في مصحف امير المؤمنينعليه‌السلام أو ابن مسعود وينزل على انه كان فيه بعنوان التفسير والتأويل. ومما يشهد لذلك قول امير المؤمنين (ع) للزنديق كما في نهج البلاغة وغيره ولقد جئتهم بالكتاب كملا مشتملا على التنزيل والتأويل. ومما أشرنا إليه من الروايات ان المحدث المعاصر أورد في روايات سورة المعارج اربع روايات ذكرت ان كلمة (بولاية علي) مثبتة في مصحف فاطمة وهكذا هي في مصحف فاطمة (ع) ولا يخفى ان مصحفهاعليها‌السلام انما هو كتاب تحديث بأسرار العلم كما يعرف ذلك من عدة روايات في اصول الكافي في باب الصحيفة والمصحف والجامعة وفيها قول الصادق (ع) ما فيه من قرآنكم حرف واحد. وما أزعم ان فيه قرآنا كما في الصحيح والحسن (ومنها) ما في الكافي في باب ان الأئمةعليهم‌السلام شهداء على الناس في صحيحة بريد عن أبي جعفر (ع) وروايته عن أبي عبد الله (ع) من قولهما (ع) في قوله تعالى( جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) نحن الأمة الوسطى. وفي شرحه عن امير المؤمنينعليه‌السلام ونحن الذين قال الله( جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) . إذن فما روي مرسلا في تفسيري النعماني وسعد من أن الآية أئمة وسطا لا بد من حمله على التفسير وان التحريف إنما هو للمعنى (ومنها) كما رواه في الكافي في باب ان الأئمة هم الهداة عن الفضيل سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله تعالى( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال كل إمام هو هاد للقرن الذي هو فيهم. ورواية بريد عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال رسول الله (ص) المنذر ولكل زمان منا هاد يهديهم إلى ما جاء به النبي (ص) والهداة من بعده عليّ (ع) ثمّ الأوصياء واحدا بعد واحد. ونحوها رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) ورواية عبد الرحيم القصير عن أبي جعفرعليه‌السلام ان رسول الله (ص) المنذر وعليّ الهادي وبمضمونها جاءت روايات الجمهور مسندة عن طريق أبي هريرة وأبي برزة وابن عباس وطريق امير المؤمنين (ع) وصحّحه الحاكم في مستدركه. وإذا أحطت خبرا بهذا فهل يروق لك التجاء فصل الخطاب في تلفيقه وتكثيره إلى النقل عن بعض التفاسير المتأخرة وعن الداماد في حاشية القبسات من قوله ان الأحاديث من طرقنا وطرقهم متضافرة بأنه كان التنزيل انما أنت منذر لعباد وعليّ

٢٧

لكل قوم هاد انتهى. هذا الشعر الذي ينشده المداحون ولا يرضى العارف باللغة العربية ان ينسب إليه نظمه ولا أظنك تجد من طرقنا وطرق أهل السنة غير ما سمعته أولا وهو غير ما نقله فاعتبر (ومنها) رواية الكافي عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال قولهعزوجل ( رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) يعنون بولاية علي (ع) وهذا صريح في كونه تفسيرا فهي حاكمة ببيانها على ضعيفتي أبي بصير في ظهورهما بأن لفظ «بولاية علي» محذوف من الآية ويسري البيان من رواية أبي حمزة إلى أمثال ذلك (ومنها) رواية عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (ع) في قوله تعالى في سورة البقرة( مَتاعاً إلى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ) . مخرجات. ولا أظن إلّا أنّك تقول إنَّ إلحاق الإمام (ع) لكلمة مخرجات إنّما هو تفسير للمراد من كلمة. إخراج. لا بيان للنقيصة من القرآن الكريم ولكن فصل الخطاب أورده بعنوان البيان للنقيصة فاعتبر (ومنها) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) كما في الكافي في أول باب منع الزكاة وفيها ثمّ قال (ع) هو قول اللهعزوجل ( سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) يعني ما بخلوا به من الزكاة فالرواية كالصريحة بأن لفظ «من الزكاة» إنما هو تفسير من الإمام لا من القرآن فهي حاكمة ببيانها على مرسلة ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (ع) في قول اللهعزوجل .( سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ ) . من الزكاة( يَوْمَ الْقِيامَةِ ) وصارفة لها عن كونها بيانا للنقيصة. (ومنها) صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) كما في الكافي في باب نص الله ورسوله على الأئمة واحدا بعد واحد. وفيها : فقلت له ان الناس يقولون فما له لم يسم عليا (ع) وأهل بيته في كتاب الله قال فقولوا لهم ان رسول الله نزلت عليه الصلاة ولم بسم الله لهم ثلاثا ولا أربعا حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسر لهم ذلك. وكذا قال (ع) في الزكاة والحج. ومقتضى الرواية تصديق الإمام (ع) لقول الناس ان الله لم يسم عليا في القرآن وإن التسمية كانت من تفسير رسول الله (ص) في حديث من كنت مولاه وحديث الثقلين. ويشهد لذلك ما رواه في الكافي أيضا في هذا الباب بعد ذلك بيسير في صحيحة الفضلاء عن أبي جعفرعليه‌السلام ورواية أبي الجارود عنه (ع) أيضا ورواية أبي الديلم عن أبي عبد الله (ع) انهما تلوا في مقام الاحتجاج وعدم التقية قوله تعالى( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) ولم يذكرا في تلاوة الآية كلمة «في عليّ» وهذا يدلّ على انّ ما روي في ذكر اسم علي (ع) في هذا المقام بل وفي غيره إنما هو تفسير وبيان للمراد في وحي القرآن بكون التفسير والبيان جاء به

٢٨

جبرائيل من عند الله بعنوان الوحي المطلق لا القرآن( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحى ) (ومنها) رواية الفضيل عن أبي الحسن الماضي (ع) في باب النكت من التنزيلفي الولاية من الكافي قال قلت( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) قال يعني امير المؤمنين (ع) قلت تنزيل قال (ع) نعم فإنه (ع) ذكر امير المؤمنين (ع) بقوله يعني بعنوان التفسير وبيان المراد والمشار إليه في قوله تعالى هذا فقوله في الجواب «نعم» دليل على ان ما كان مرادا بعينه في وحي القرآن يسمونهعليهم‌السلام تنزيلا. فتكون هذه الرواية وأمثالها قاطعة لتشبثات فصل الخطاب بما حشده من الروايات التي عرفت حالها اجمالا وإلى ما ذكرناه وغيره يشير ما نقلناه من كلمات العلماء الأعلام قدست اسرارهم. فإن قيل ان هذه الرواية ضعيفة وكذا جملة من الروايات المتقدمة قلنا ان جل ما حشده فصل الخطاب من الروايات هو مثل هذه الرواية وأشد منها ضعفا كما أشرنا إليه في وصف رواتها على ان ما ذكرناه من الصحاح فيه كفاية لأولي الألباب

الفصل الثالث في قراءته

ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل استمرت مادته وصورته وقراءته المتداولة على نحو واحد فلم يؤثر شيئا على مادته وصورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف في قراءته من القراء السبع المعروفين وغيرهم فلم تسيطر على صورته قراءة أحدهم اتباعا له ولو في بعض النسخ ولم يسيطر عليه أيضا ما روي من كثرة القراءات المخالفة له مما انتشرت روايته في الكتب كجامع البخاري ومستدرك الحاكم مسندة عن النبي (ص) وعلي (ع) وابن عباس وعمر وأبي وابن مسعود وابن عمر وعائشة وابى الدرداء وابن الزبير وانظر اقلا إلى الجزء الأول من كنز العمال صفحة ٢٨٤ ـ ٢٨٩ نعم ربما اتبع مصحف عثمان على ما يقال في مجرد رسم الكتابة في بعض المصاحف في كلمات معدودة كزيادة الألف بين الشين والياء من قوله تعالى( لِشَيْءٍ ) من سورة الكهف وزيادتها أيضا في( لَأَذْبَحَنَّهُ ) من سورة النمل ونحو ذلك في قليل من الكلمات. وان القراءات السبع فضلا عن العشر إنما هي في صورة بعض الكلمات لا بزيادة كلمة أو نقصها ومع ذلك ما هي إلّا روايات آحاد عن آحاد لا توجب اطمئنانا ولا وثوقا. فضلا عن وهنها بالتعارض ومخالفتها للرسم المتداول المتواتر بين عامة المسلمين في السنين المتطاولة. وان كلا من القراء هو واحد لم تثبت عدالته ولا ثقته يروي عن آحاد حال غالبهم مثل حاله ويروي عنه آحاد مثله. وكثيرا ما يختلفون في الرواية عنه. فكم اختلف حفص وشعبة في الرواية

٢٩

عن عاصم. وكذا قالون وورش في الرواية عن نافع. وكذا قنبل والبزي في روايتهما عن أصحابهما عن ابن كثير. وكذا رواية أبي عمر وأبي شعيب في روايتهما عن اليزيدي عن أبي عمر. وكذا رواية ابن ذكوان وهشام عن أصحابهما عن ابن عامر. وكذا رواية خلف وخلاد عن سليم عن حمزة. وكذا رواية أبي عمر وأبي الحارث عن الكسائي. مع ان أسانيد هذه القراءات الآحادية لا يتصف واحد منها بالصحة في مصطلح أهل السنة في الاسناد فضلا عن الإمامية كما لا يخفى ذلك على من جاس خلال الديار. فيا للعجب ممن يصف هذه القراءات السبع بأنها متواترة. هذا وكل واحد من هؤلاء القراء يوافق بقراءته في الغالب ما هو المرسوم المتداول بين المسلمين وربما يشذ عنه عاصم في رواية شعبة. إذن فلا يحسن أن يعدل في القراءة عما هو المتداول في الرسم والمعمول عليه بين عامة المسلمين في اجيالهم إلى خصوصيات هذه القراءات. مضافا إلى انا معاشر الشيعة الإمامية قد أمرنا بأن نقرأ كما يقرأ الناس أي نوع المسلمين وعامتهم.

ولعلّما تقول ان غالب القراءات السبع أو العشر ناش من سعة اللغة العربية في وضع الكلمة وهيئتها نحو عليهم وإليهم ولديهم بكسر الهاء أو ضمها مع سكون الميم أو ضمهما. ونحو تظاهرون بفتح الظاء أو تشديدها. فعلى أي قراءة قرئت أكون قارئا على العربية. ولكن كيف يخفى عليك ان تلاوة القرآن وقراءته يجب فيها وفي تحققها ان تتبع ما أوحي إلى الرسول وخوطب به عند نزوله عليه وهو واحد فعليك أن تتحراه بما يثبت به وليست قراءة القرآن عبارة عن درس معاجم اللغة.

ولا تتشبث لذلك بما روي من أن القرآن نزل على سبعة أحرف فإنه تشبث واه واهن.

اما أولا فقد قال في الإتقان في المسألة الثانية من النوع السادس عشر اختلف في معنى السبعة أحرف على أربعين قولا وذكر منها عن ابن حيان خمسة وثلاثين. وما ذاك إلّا لوهن روايتها واضطرابها لفظا ومعنى. وفي الإتقان أيضا في أواخر النوع السادس عشر وقد ظن كثير من العوام ان المراد بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح (واما ثانيا) فقد روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح على شرط البخاري ومسلم عن ابن مسعود عن النبي (ص) نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجرا وآمرا وحلالا وحراما ومحكما ومتشابها وأمثالا فأحلوا حلاله. وروى ابن جرير مرسلا عن أبي قلابة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنزل القرآن على سبعة

٣٠

أحرف أمر وزاجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل. وروى ابن جرير والسنجري وابن المنذر وابن الانباري عن ابن عباس عنه (ص) ان القرآن على اربعة أحرف حلال وحرام الحديث. وأسند السنجري في الابانة. عن علي (ع) انزل القرآن على عشرة أحرف بشير ونذير وناسخ ومنسوخ وعظة ومثل ومحكم ومتشابه وحلال وحرام (واما ثالثا) فقد جاء في روايات السبعة أحرف بأسانيد جياد في مصطلحهم ما يعرفك وهنها وإلحاقها بالخرافة ففي رواية أحمد من حديث أبي بكرة ان النبي (ص) استزاد من جبرئيل في أحرف القراءة حتى بلغ سبعة أحرف قال يعني جبرئيل كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة وآية رحمة بعذاب. وزاد في حديث آخر نحو قولك تعال واقبل وهلم واذهب واسرع واعجل. ونحوه في رواية الطبراني عن أبي بكرة. وفي الإتقان اخرج نحوه أحمد والطبراني عن ابن مسعود واخرج أبو داود في سننه عن أبي عن رسول الله (ص) إلى قوله حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال ليس منها إلّا شاف كاف إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب. وفي كنز العمال فيما أخرجه أحمد وابن منيع والغساني وابن أبي منصور وابو يعلى عن أبي عن النبي (ص) ان قلت غفورا رحيما أو قلت سميعا عليما أو عليما سميعا فالله كذلك ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب. واخرج ابن جرير عن أبي هريرة عنه (ص) ان هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا ولا حرج ولكن لا تجمعوا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة. واخرج أحمد من حديث عمر القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذابا أو عذابا مغفرة. فانظر إلى هذه الروايات المفسرة للسبعة أحرف كيف قد رخصت في التلاعب في تلاوة القرآن الكريم حسبما يشتهيه التالي ما لم يختم آية الرحمة بالعذاب وبالعكس (واما رابعا) ففي الروايات ما يقطع سند القراءات السبع فعن ابن الأنباري في المصاحف مسندا عن عبد الرحمن السلمي قال كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة. وعن ابن أبي داود مسندا عن أنس قال صليت خلف النبي (ص) وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكلهم كان يقرأ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) . وروى أيضا ان أول من قرأ ملك يوم الدين هو مروان ابن الحكم (واما خامسا) وهو فصل الخطاب فقد روى من طرق الشيعة في الكافي مسندا عن أبي جعفر الباقر (ع) ان القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الروايات. وأرسل الصدوق نحوه في اعتقاداته عن الصادق (ع) وفي الكافي أيضا في الصحيح

٣١

عن الفضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد الله (ع) ان الناس يقولون ان القرآن نزل على سبعة أحرف فقال (ع) كذبوا. ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد. ويؤيد ما ذكرناه رواية السياري له أيضا عن الباقر والصادق (ع)

الفصل الرابع في تفسيره

وللحاجة إليه مقامات (الأول) في مفردات ألفاظه وبيان معناها في العربية ـ قد أنزل القرآن الكريم على افصح لغات العرب وأكثرها تداولا ومألوفية لنوع العرب فلا تخفى معاني مفرداته على العرب إلّا نادرا لبعض الجهات التي لا ينفك عنها نوع الإنسان كما يروى في الأبّ والقضب في قوله تعالى في سورة عبس( وَفاكِهَةً وَأَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً ) . ولكن لما تشرفت الأمم من غير العرب بالإسلام وتطورت اللغة العربية بسبب الاختلاط ومرور الزمان عرض لبعض الألفاظ التي كانت متداولة مأنوسة معروفة المعاني في عصر النزول ان صارت غريبة بعد ذلك في استعمال العامة بعيدة عن فهمهم لمعانيها. ولا زال ذلك يزداد يوما فيوما حتى سرى داؤه إلى بعض الخواص. ولاستراحتهم في ذلك إلى الاتباع والتقليد أثر غير هين

إذن فيرجع في التفسير لمفردات ألفاظه الشريفة إلى ما يحصل به الاطمئنان والوثوق من مزاولة علم اللغة العربية والتدبر في موارد استعمالها مما يعرف انه من كلام العرب ولغتهم. وان للتدبر في أسلوب القرآن الكريم وموارد استعماله وقراءتها دخلا كبيرا في ذلك. واما محض الركون إلى آحاد اللغويين تعبدا بكلامهم وتقليدا لآرائهم فذاك مما لا مساغ له. فان الأغلب أو الغالب مما يستندون إليه في أقوالهم ما هو إلّا الاعتماد على ما يحصلونه بحسب افهامهم وتتبعهم لموارد الاستعمال مع الخلط للحقيقة بالمجاز وعدم التثبت بالقرائن ومزايا الاستعمال. ألا ترى كم يشهد بعضهم على بعض بالخطأ والوَهم

ومن شواهد ما ذكرناه ما وقع في تفسير اللمس والمسّ من الاضطراب والخبط. ففي النهاية مسست الشيء إذا لمسته بيدك. وفي القاموس لمسه مسه بيده ومسسته أي لمسته. وفي المصباح مسسته أفضيت إليه بيدي من دون حائل هكذا قيدوه وقال قبل ذلك لمسه افضى إليه باليد. هكذا فسروه. وقال ابن دريد اصل اللمس باليد ليعرف مس الشيء وقال لمست مسست وكل ماس لامس. وقال الفارابي اللمس المس. وفي التهذيب عن أبن الاعرابي اللمس يكون مس الشيء وقال في باب الميم المس مسّك الشيء بيدك. وقال الجوهري اللمس

٣٢

المس ثمّ قال في المصباح وإذا كان اللمس هو المس فكيف يفرق الفقهاء بينهما انتهى. ولعلك تذعن بأن الفقهاء احذق في استفادة المعنى من تتبع موارد الاستعمال وذلك لما اعتادوه وشحذوا به أذهانهم من بذل الجهد بالبحث والتحقيق فإن الفرق بين معنيي اللمس والمس واضح بحكم التبادر والتتبع لموارد الاستعمال. وغير خفي ان المعروف والمتبادر تبادرا يجزم معه بعدم النقل عن المعنى اللغوي الأصلي هو ان اللمس هو الإصابة بما به الإحساس من البدن بقصد الاحساس للملموس لا خصوص اللمس باليد ولا مطلق المس نعم كثير من موارد اللمس ما يكون باليد باعتبار انها آلة عادية وأقوى إحساسا. كما ان المس هو مطلق الإصابة لا بقصد الاحساس وقد صرح جماعة من أساطين علمائنا بأن معنى المس لغة بل وعرفا هو ما ذكرناه كما في المعتبر والمنتهى وروض الجنان والحدائق بل والمهذب البارع وأظن ان الذي يحقق في مراجعة العرف والتبادر وتتبع موارد الاستعمال قديما وحديثا لا يشك في ان معنى اللمس هو ما ذكرناه أولا.

ومن شواهد ما ذكرناه هو الاضطراب في معنى التوفي وما استعمل في لفظه المتكرر في القرآن الكريم. فاللغويون جعلوا الإماتة في معنى التوفي. والكثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران ٤٨( يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ ) قالوا أي مميتك. وقال بعض مميتك حتف انفك. وقال بعض مميتك في وقتك بعد النزول من السماء وكأنهم لم ينعموا الالتفات إلى مادة التوفي واشتقاقه ومحاورات القرآن الكريم والقدر الجامع بينها. وإلى استقامة التفسير لهذه الآية الكريمة واعتقاد المسلمين بأن عيسى لم يمت ولم يقتل قبل الرفع إلى السماء كما صرح به القرآن. وإلى ان القرآن يذكر فيما مضى قبل نزوله ان المسيح قال لله( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ) ومن كل ذلك لم يفطنوا إلى أن معنى التوفي والقدر الجامع المستقيم في محاورة القرآن فيه وفي مشتقاته إنما هو الأخذ والاستيفاء وهو يتحقق بالإماتة وبالنوم وبالأخذ من الأرض وعالم البشر إلى عالم السماء. وإن محاورة القرآن الكريم بنفسها كافية في بيان ذلك كما في قوله تعالى في سورة الزمر ٤٣ :( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ألا ترى أنّه لا يستقيم الكلام إذا قيل الله يميت الأنفس حين موتها وكيف يصح أنَّ التي لم تمت يميتها في منامها. وكما في قوله تعالى في سورة الانعام ٦٠ :( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ

٣٣

لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إليه مَرْجِعُكُمْ ) فإن توفي الناس بالليل إنما يكون بأخذهم بالنوم ثم يبعثهم الله باليقظة في النهار ليقضوا بذلك آجالهم المسماة ثم إلى الله مرجعهم بالموت والمعاد. وكما في قوله تعالي في سورة النساء ١٩ :( حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ) فإنه لا يستقيم الكلام إذا قيل يميتهنّ الموت وحاصل الكلام ان معنى التوفي في موارد استعماله في القرآن وغيره إنما هو أخذ الشيء وافيا أي تاما كما يقال درهم واف وهذا المعنى ذكره اللغويون للتوفي في معاجمهم وقالوا ان توفاه واستوفاه بمعنى واحد وأنشدوا له قول الشاعر

ان بني الادرد ليسوا لأحد

ولا توفاهم قريش في العدد

أي لا تتوفاهم وتأخذهم تماما (قلت) لكنّ بين الاستيفاء والتوفي فرقا واضحا من جهة اثر الاشتقاق فإن الاستيفاء استفعال كالاستخراج يشير إلى طلب الآخذ واستدعائه ومعالجته والتوفي يشير إلى القدرة على الآخذ بدون حاجة إلى استدعاء وطلب ومعالجة ولذا اختص القرآن الكريم بلفظ التوفي وعدل عن الأخذ لعدم دلالته على التمام والوفاء كالتوفي الدال على تمام القدرة على نحو المعنى في( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إليه راجِعُونَ ) . ولك العبرة فيما قلناه بقوله تعالى( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) فإنك إن جعلت قوله تعالى( وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ ) معطوفا على الأنفس لم تقدر أن تقول أن معنى يتوفى يميت. وإن قلت ان التوفي في المنام اماتة مجازية قلنا كيف يكون معنى اللفظ الواحد معنيين معنى حقيقيا ومعنى مجازيا ويتعلق باعتبار كل معنى بمفعول ويعطف احد المفعولين على الآخر مع اختلاف المعنى العامل به. وهل يكون اللفظ الواحد مرآة لكل من المعنيين المستقلين كلا لا يكون. وإن جعلت قوله تعالى( وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ ) مفعولا لكلمة «يتوفى» مقدرة يدل عليها قوله تعالى( يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ ) قلنا ان دلالة الموجود على المحذوف إنما هي بمعناه كما لا يخفى على من له معرفة بمحاورات الكلام فى كل لغة فكيف يجعل التوفي بمعنى الموت دليلا على توف محذوف هو بمعنى آخر إذن فليس إلّا أن التوفي بمعنى واحد وهو الأخذ تماما ووافيا. إمّا من عالم الحياة. وإما من عالم اليقظة. واما من عالم الأرض والاختلاط بالبشر إلى العالم السماوي كتوفي المسيح وأخذه ومن الغريب ما قاله بعض من أن رفع المسيح إلى السماء غير مشتمل على أخذ الشيء تاما انتهى وليت شعري ماذا بقي من المسيح في الأرض وماذا تعاصى منه على قدرة الله في أخذه فلا يكون رفعه مشتملا على أخذ الشيء تاما. هذا ولا يخفى ان القرآن ناطق بأن المسيح ما قتلوه

٣٤

وما صلبوه ولكن شبه لهم ورفعه الله إليه وإن عقيدة المسلمين مستمرة كإجماعهم على انه لم يمت بل رفع إلى السماء إلى ان ينزل في آخر الزمان فلأجل ذلك التجأ بعض من يفسر التوفي بالإماتة إلى ان يفسر قوله تعالى( يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) أي مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ولكني لا أدري ماذا يصنع بحكاية القرآن لما سبق على نزوله في قوله في أواخر سورة المائدة «١١٦ و ١١٧ :( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ـما قُلْتُ لَهُمْ إلّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ـ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فهل يسوغ ان تفسر هذه الآية بالوفاة بعد النزول وهل يصح القياس في ذلك على قوله تعالى( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) وهل يخفى ان مقتضى كلام المسيح في الآيتين هو انه بعد ان توفاه الله وانقطعت تبليغاته في دعوة رسالته وكونه شهيدا على أمته تمحض الأمر ورجع إلى ان الله هو الرقيب عليهم. وان سوق الكلام واتساقه ليدل على اتصال الحالين. وان الرقيب كيفما فسرته إنما يكون رقيبا في وجود تلك الأمة في الدنيا دار التكليف لا الآخرة التي هي دار جزاء وانتقام. ولا تصح الطفرة في المقام من أيّام دعوة المسيح لأمته في رسالته وكونه شهيدا عليهم إلى ما بعد نزوله من السماء في آخر الزمان حيث يكون وزيرا في الدعوة الإسلامية لا صاحب دعوة. ومن الواضح أن المراد في الآيتين من الناس الذين جرى الكلام في شأنهم إنما هم الذين كانوا أمة المسيح وفي عصر رسالته ونوبة دعوته وتبليغه وأما صرف وجهة الكلام إلى الناس الذين هم في أيّام نزوله من السماء فما هو إلّا مجازفة فيها ما فيها وتحريف للكلم وأما قوله تعالى( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) فلم يكن اخبارا ابتدائيا يكون وقوع الفعل الماضي فيه باعتبار حال المتكلم كما في الآيتين بل جاء في سياق قوله تعالى( ما يَنْظُرُونَ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ ) في حوادث زمان البعث والقيامة ومقدماتها فهو في سياقه ناظر إلى ذلك الحين وسياق الكلام يجعله بدلالته في قوة قوله ونفخ حينئذ في الصور فهو على حقيقة الفعل الماضي وباعتبار ذلك الحين كما في قوله( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) . هذا وبعض المفسرين لقوله تعالى( يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) قال أي مميتك حتف انفك. وأقول ان أراد الإماتة بعد نزول المسيح من السماء شارك ما سبق من التفسير فى ورد الاعتراض عليه وان أراد اماتته قبل ذلك وقبل نزول القرآن خالف المعروف من عقيدة المسلمين وإجماعهم في اجيالهم ويرد عليه السؤال أيضا بأنه من أين جاء بالإماتة حتف انفه وماذا يصنع بما جاء في القرآن

٣٥

كثيرا مما ينافي اختصاص التوفي بالموت حتف الأنف بل المراد منه الأخذ بالموت وإن كان بالقتل كقوله في سورة الحج ٥ والمؤمن ٦٩ في أطوار خلق الإنسان من التراب والنطفة إلى الهرم.( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل وفي سورة البقرة ٢٣٤ و ٢٤١( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) ويونس ١٠٤( وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ) والنحل ٧٢( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) والسجدة ١١( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ) والأعراف ٣٥( حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) والنساء ٩٩( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) والنحل ٣٠ ـ ٣٣( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) والانعام ٦١( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) ومحمد (ص) ٣٩( فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ ) والأنفال ٥٢( وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ) والزمر ٤٣( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) وإنك لا تكاد تجد في القرآن المجيد لفظ التوفي مستعملا فيما يراد منه الإماتة حتف الأنف إذن فمن اين جيء بذلك في قوله تعالى( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) نعم ابتلى لفظ التوفي ومشتقاته بالأخذ بمعناه يمنة ويسرة حتى ان العامة حسبوها مرادفة للموت حتى انهم يقولون في الذي مات توفى بفتح التاء والواو والفاء بالبناء للفاعل ويقولون في الميت متوفي بكسر الفاء

وصيغة اسم الفاعل بل يحكى ان أمير المؤمنين عليا (ع) كان يمشي خلف جنازة في الكوفة فسمع رجلا يسأل عن الميت ويقول من المتوفي بكسر الفاء وأما ما نسب إلى ابن عباس من أن معنى قوله تعالى( يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) إني مميتك فما أراه إلّا كما نسب إلى ابن عباس في مسائل نافع بن الأزرق كما ذكر في الفصل الثاني من النوع السادس والثلاثين من إتقان السيوطي من أن نافعا سأله عن قول الله( ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) أي بما يرجع إلى معنى تبهظهم وتثقل عليهم كما قال عمر ابن كلثوم في معلقته. (ومتني لدنة سمقت وطالت روادفها تنوء بما ولينا وكما أنشده اللغويّون: إلّا عصا ارزن طالت برايتها تنوء ضربتها بالكف والعضد

فذكر ان ابن عباس قال له في الجواب لتثقل أو ما سمعت قول الشاعر

تمشي فتثقلها عجيزتها

مشي الضعيف ينوء بالوسق

أي ينهض بالوسق بتكلف وجهد على عكس المعنى المذكور في القرآن. أفهل ترى ابن عباس يفسر تنوء التي في الآية بغير معناها كما ثار من هذا الاستشهاد المنسوب إليه اعتراض

٣٦

النصارى بأن القرآن جاء بلفظة «لتنوء» في غير محلها. وهل ترى ابن عباس لا يعرف ان معنى ينوء بالوسق ليس يثقل بل ينهض به بتكلف. وهل ترى ابن عباس لا يدري ببيت المعلقة ليستشهد به استشهادا صحيحا مطابقا منتظما. كيف وإن المعلقات كانت للشعر في ذلك العصر كبيت القصيد ولكن «حنّ قدح ليس منها» وقد خرجنا عما نؤثره من الاختصار ولكنا ما خرجنا عن المقصود الاصلي من الكلام في تفسير القرآن الكريم بل سارعنا إلى شيء من الخير والله المسدد الموفق

المقام الثاني

لا يخفى ان القرآن الكريم مبني على ارقى أنحاء البلاغة العربية وتفننها بمحاسن المجاز والاستعارة والكناية والإشارة والتلميح وغير ذلك من مزايا الكلام الراقي ببلاغته مما كان مأنوس الفهم في عصر النزول ورواج الأدب العربي وقيام سوقه. وكان بحيث يفهم المراد منه ومزاياه بأنس الطبع ومرتكز الغريزة كل سامع عربي. ولكن بعد اشتراك الأمم في بركة الإسلام وامتلاء جزيرة العرب من الأمم وتفرق العرب بالتجنيد في غير البلاد العربية تغير أسلوب الكلام العربي في عامة الناس وتبدلت مزايا الكلام وأساليب المحاورات فعاد ذلك المأنوس غريبا في العامة وذلك الطبيعي الغريزي يحتاج في معرفته إلى ممارسة التطبع وكلفة التعلم والتدرب في اللغة العربية وأدبها على النهج السوي. من دون تقليد معرقل ولا وقوف عند الأسماء ولا جمود على قشور القواعد التي مهّدها المتدرّبون في العربية من الخواص اقتباسا بقدر الوسع من ذلك الأدب القديم. فدونوا من مبتذلها شيئا وفاتهم من أسرارها وحقائقها الشيء الكثير. وربما أدت بهم وعورة البحث والجمود على التقليد إلى عثرات الوهم أو احجام الشكوك انظر إلى ان جماعة من النحويين كالشرّاح لألفيّة ابن مالك وغيرهم قالوا في قول الراجز «جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط» أنَّ التقدير: بمذق مقول فيه هل رأيت إلخ ولا يخفى ان الراجز يريد وصف المذق بما يبين حاله وتبدل لونه بكثرة الماء وماذا يجدي فى ذلك كونه مقولا فيه هل رأيت الذئب قط ولم يفطنوا إلى ان الصفة التي يريدها الراجز كما يقتضيها المقام قد أشار إليها باستفهامه الذي هو بمنزلة التمثيل الحي لها. فكأنه قال جاؤوا بمذق لونه كلون الذئب هل رأيت الذئب يوما من الأيام فإن لون المذق كلونه فاعرف كيف كان. ومن شواهد ذلك ان صاحب الكشاف مع تضلعه من الأدب العربي ومعرفته بفذلكات الكلام

٣٧

اضطرب كلامه وتفسيره في كلمة واحدة تكررت في القرآن الكريم على نحو واحد وهو قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ ) ففي سورة الواقعة في قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) قال فأقسم وان «لا» مزيدة مثلها في قوله( لِئَلَّا يَعْلَمَ أهل الْكِتابِ ) وفي قوله تعالى( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس:

ولا وأبيك ابنة العامري

لا يدعي القوم انّي أفر

وقال غوية بن سلمة:

ألا نادت أُمامة باحتمال

لتحزنني فلأ بك لا أبالي

وفائدتها توكيد القسم وقالوا: إنها صلة أي زائدة مثلها في( لِئَلَّا يَعْلَمَ أهل الْكِتابِ ) وقال في ذلك كلاما فيه ما فيه وقال والوجه ان يقال هو للنفي والمعنى في ذلك انه لا يقسم بالشيء إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) فكأنه بإدخال حرف النفي يقول ان اعظامي له باقسامي به كلا إعظام يعني ان يستأهل فوق ذلك انتهى. ومقتضى بيانه هذا ان يقول إعظاما للمقسم به فإنه أوضح للبيان من مثله. وليته لم يخلط بين دخول «لا» على فعل القسم كما في الآيتين وبين دخولها على حرف القسم كما في بيتي امرء القيس وغوية وغيرهما مما لا يقع جوابه إلّا منفيّا فإنه واضح الظهور في ان «لا» فيه نافية موطئة لنفي الجواب لتأكيده وسبيلها سبيل قوله تعالى في سورة النساء ٦٨( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) . وفي سورة الحاقة في قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ) قال اقسام بالأشياء كلها. وفي سورة البلد فى قوله تعالى( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) قال اقسم بالبلد الحرام ولم يقل شيئا في قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ ) في سورة المعارج والتكوير والانشقاق. ومن شواهد ذلك ما سمعته هنا عن صاحب الكشاف في قوله تعالى( لِئَلَّا يَعْلَمَ أهل الْكِتابِ ) من أن «لا» في لئلا مزيدة وصرّح أيضا بذلك في تفسير سورة الحديد حيث قال( لِئَلَّا يَعْلَمَ ) ليعلم ـ ووافقه على ذلك جماعة فاغتنم اعداء القرآن الكريم من ذلك فرصة فاعترضوا على القرآن بأنه مشتمل على الزيادة اللغوية ولكن الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة ٣٥٠ و ٣٥٥ أوضح البطلان في زعم الزيادة كما عليه جماعة من أن المعنى. ان الله وعد الذين آمنوا ويتقون الله ويؤمنون برسوله ان يؤتيهم كفلين من رحمته ويجعل لهم نورا يمشون به ويغفر لهم ومن فوائد ذلك وغاياته ان لا يعلم أهل الكتاب ان الذين آمنوا لا يقدرون على شيء من فضل الله ولأن الفضل بيد الله الآية وليت شعري لماذا لا تنزه جلالة القرآن المجيد وبراعته عن لغوية هذه

٣٨

الزيادة التي لا غاية فيها إلّا الإيهام.

وفي تفسير قوله تعالى في سورة الأعراف ١١( قالَ ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) قال في الكشاف أيضا «لا» في ان لا تسجد صلة «أي زائدة» بدليل قوله تعالى أي في سورة (ص) ٧٥( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) ومثلها( لِئَلَّا يَعْلَمَ أهل الْكِتابِ ) بمعنى ليعلم انتهى. أقول وإن التدبر في آيات الأعراف. وص يشهد بأن «لا» غير زائدة بل جيء بها في الأعراف للاشارة إلى أمر قد صرح به في آيات ص وذلك ان الفعل قد يكون له مانع من ضد أو عذل أو غفلة أو عجز أو كل وقد يكون له سبب داع وحامل على تركه ومخالفته الأمر به فسأل الله إنكارا أو توبيخا في سورة ص عن المانع بقوله تعالى( ما مَنَعَكَ ) ان تسجد وعن السبب والحامل على المخالفة بقوله تعالى( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) وأشار جل شأنه في سورة الأعراف بوجود (لا) إلى السؤال عن السبب الحامل على المعصية بعد السؤال عن المانع فكأنه قال ما منعك من أن تسجد وما حملك على ان لا تسجد ولذا وقع الجواب من إبليس في كلا المقامين بيان السبب الحامل له على ان لا يسجد لا التعليل بالمانع فقال( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) وكذا الكلام في قوله تعالى في سورة طه ٩٤( قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ألّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) فإن التفريع فى قوله( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) يدل على انه قد سبق السؤال عن المانع عن الاتباع وعن السبب الحامل على المعصية بتركه وأشير إليه بإدخال «لا» ولكن قال في الكشاف لا مزيدة والمعنى ما منعك ان تتبعني. وقال الله في سورة الأنبياء ٩٥( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) وفي الكشاف فسر الإهلاك بالعزم عليه وفسر الرجوع بالرجوع من الكفر إلى الإسلام وهذا مختاره على الظاهر من الوجوه الثلاثة ثم قال فيه و «لا» صلة مزيدة انتهى وليته أبقى الإهلاك على ظاهره وفسر الرجوع بالرجوع إلى الإيمان والتوبة عند مشاهدة آيات الهلاك وأحوال الموت كإيمان فرعون عند الغرق كما في سورة يونس ٩٠. أو كالذين( إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) وكما في سورة النساء ٢٢. وكما ذكره الله في سورة المؤمنين في حال المشركين والظالمين ١٠١( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) فإن قولهم هذا رجوع إلى التوبة ولكنها لا تقبل كما قال الله في الموارد الثلاثة ويكون معنى الآية الكريمة هو ان أهل القرى

٣٩

التي أهلكها الله حرام عليهم بسبب مشاهدتهم لآيات الإهلاك وحضور الموت وممتنع في العادة ومنفيّ بالمرة كونهم لا يرجعون إلى التوبة والإيمان بحسب الفطرة وإن كان لا ينفعهم ويستمرون على ما هم فيه حتى إذا جاءت الساعة وصار يوم القيامة وعاينوا ما كانوا يوعدون قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة عن هذا.

وقال الله تعالى في سورة آل عمران ٧٣( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ٧٤ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً ) ولا يخفى ان قوله تعالى (ولا يأمركم) معطوف على (يقول) المعطوف بثمّ على المنفي بقوله تعالى (ما كان) أي ليس له وإن (لا) هنا نافية يؤتى بها لتثبيت النفي في الأمرين مثلها في قولك ليس لك ان تقوم ولا أن تأكل لئلا يتوهم ان النفي للجمع بين الأمرين والجمع بين القيام والأكل كما قال في الكشاف في ثاني وجهيه في الآية. وقال في الكشاف ان في الآية وجهين أحدهما ان نجعل «لا» مزيدة والمعنى ثمّ يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم ان تتخذوا النبيين والثاني ان نجعل «لا» نافية غير مزيدة والمعنى ما كان لبشر يستنبئه الله ان يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة أي ما كان له أن يجمع بين الأمر والنهي. ويا للعجب ممن سوغ لنفسه في مثل بلاغة القرآن المجيد ان يفسر لا يأمركم بقوله ينهاكم ولو فسر بذلك كلام واحد من الناس لأوسعه من الملام ما أوسعه ـ ولم ينفرد الزمخشري بدعوى زيادة (لا) في هذه الموارد بل ادعى ذلك جماعة من المفسرين والنحويين كما ذكر ابن هشام في المغنى في كلمة «لا» ولو ان زيادة «لا» محققة في كلام العرب متداولة في شعرهم ونثرهم لما ساغ لهؤلاء ان يقولوا بذلك في مثل بلاغة القرآن الكريم ومجدها وفي خصوص الموارد التي ادعوا فيها الزيادة فإن البلاغة بل استقامة الكلام تقتضي تثبيت إثباتها ورفع أوهام النفي عنها لو كانت مثبتة إذن فكيف يقلق مضمونها الشريف بما يوهم النفي ويشوش الكلام. وان المخبر الذي يعرف كيف يتكلم لا يدخل على خبره ما يوهم نقيضه هذا مع أنّي لم أجد شاهدا ذكروه من الكلام على زيادة «لا» إلّا قوله :

وتلحينني في اللهو أن لا أحبّه

وللهو داع دائب غير غافل

ولو كان هذا من شعر العرب وكان المراد منه ما فهموه لجاز أن يضمر فيه وتأمرينني بأن لا أحبه أو وتدعينني إلى أن لا أحبه. ومن غرائبهم استشهاد بعضهم أيضا بقول الشاعر

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394