آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ١

آلاء الرحمن في تفسير القرآن15%

آلاء الرحمن في تفسير القرآن مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 394

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55042 / تحميل: 6030
الحجم الحجم الحجم
آلاء الرحمن في تفسير القرآن

آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

على مشروعيته من الكتاب المجيد ما ذكرنا من الآية السابعة والستين من سورة النساء في لومهم على عدم مجيئهم ليغتنموا شفاعة الرسول باستغفاره لهم. وإن العدول والالتفات من خطاب الله لرسوله في الآية المشار إليها إلى قوله( وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) إنما هو للإشارة إلى ان الحكمة في ذلك هو تمرينهم على الانقياد إلى الرسول ومقام الرسالة بالمجيء إلى حضرته والخضوع لكرامته بالاحتياج وطلب الاستغفار وشفاعته لهم. كل ذلك لكي ينقادوا مستوسقين إلى طاعته في أمور الدين والإيمان. وهذه المشروعية يجري وجهها وحكمتها وعلتها في شفاعة الأئمة والأولياء وليتنبه المستشفع من استشفاعه إلى كرامة المطيع لله لطاعته فيحركه ذلك إلى الرغبة في الطاعة. وهذا أمر معروف المشروعية معمول عليه في الأديان الحقة كما حكى القرآن الكريم ان أولاد يعقوب نبي الله استشفعوا بأبيهم إلى الله وطلبوا استغفاره لهم فوعدهم يعقوب بذلك كما في سورة يوسف ٩٨( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ) ـ ٩٩( قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي )

الاستشفاع بالمقربين من الأموات

وما ذكرناه من الحكمة يجري أيضا على رسله في الاستشفاع بهم بعد وفاتهم لكي يحفظ انقياد الناس إليهم فيما علموه وأمروا به وارشدوا إليه من أمر الدين وصلاح الدارين. وللتنبه أيضا إلى كرامة الطاعة لله. فإن قال قائل كيف يستشفع بالأموات وأين هم بعد موتهم من مقام الشفاعة

بقاء النفس بعد الموت

قلنا قد عرّفنا الله في كتابه المجيد ان النفوس تبقى بعد الموت على ما هي عليه من المقام النفساني اما متمتعة بمقام الكرامة واما مبتلاة بالهوان والسخط. وقرّب لأفهامنا القاصرة حالة النفس بعد الموت وبقائها بمقارنة حالتيها في الموت والنوم. فقال جل اسمه في سورة الزمر ٤٣( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) وفي سورة البقرة ١٥٤( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) وآل عمران ١٦٩( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ١٧٠فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ألّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ١٧١يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) . وإن قوله تعالى( أَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ

٦١

الْمُؤْمِنِينَ ) دون ان يقول لا يضيع اجر المجاهدين في سبيله ليدل على ان ذلك من آثار الإيمان الجارية لكل مؤمن لا آثار خصوص القتل في سبيل الله ومن خواصه. وقال جا اسمه في سورة المؤمن ٤٨( فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ ٤٩ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) فانتظم البيان لبقاء النفوس بعد الموت هذه على كرامتها وهذه في هوانها

الشفاعة

فإن قال قائل إن الله قد نفى الشفاعة في القرآن الكريم ففي سورة البقرة ٢٥٥( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ) والسجدة ٤( ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) إلى غير ذلك من الآيات «قلنا» ان الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع الله بزعم انهم آلهة قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعا وحتما. أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتما كما في سورة يس ٢٣ والمؤمن ١٩ والزمر ٤٤ والمدّثر ٤٨ وأثبتها من جهة أخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل أحد فقال تعالى.( إِلَّا بِإِذْنِهِ. إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً إلّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً. إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى. إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ. إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى ) . كما في سورة البقرة ٢٥٦ ويونس ٣ ومريم ٩٠ وطه ١٠٨ والأنبياء ٢٩ وسبا ٢٢ والزخرف ٨٦ والنجم ٢٧. وإن الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة. ويونس. وسبا. مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا. ولكن لو أعطي القرآن حقّه من التدبر وسلمت النفوس من وباء الأهواء والتحزب وبوادر التعصب والنصب لما ثار الهياج من بعض الناس على استشفاع المسلمين بالرسول والأئمة والأولياء لأنهم عباد مكرمون وأولى عباد الله بأن نعتقد اذنه جلت آلاؤه لهم بالشفاعة إكراما لهم لأجل الحكمة التي ذكرناها. وقد اكتفينا هاهنا بدلالة الكتاب المجيد عن الإشارة إلى ما تواتر معناه من أحاديث المسلمين في هذه الشؤون. وفي كتبهم في الحديث من ذلك شيء كثير والأمر فيه جليّ ولكن «لأمر ما جدع قصير أنفه» وللشيخ محمد عبده على ما حكاه تلميذه في سورة الفاتحة صفحة ٤٦ و ٤٧ من الطبعة الثالثة كلام ألقاه على عواهنه في زوبعة الهياج المذكور وهو غريب من تحرّيه تهذيب كلامه وتدبر القرآن الكريم وتفسيره والتحرز

٦٢

من عبودية الأهواء ولم يحضرني كتاب تفسيره لأرى ما فيه في هذا المقام( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) الهداية تستعمل في الإرشاد إلى الطريق والدلالة على الخير كقوله تعالى في سورتي فصلت ٦( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ) والشورى ٥٢( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وتستعمل في الإيصال بالتوفيق والتسديد كقوله تعالى في سورة القصص ٥٠( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ـ ٥٦إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ والنساء ٧٠( وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) والأنعام بعد ذكر عدة من الأنبياء ٨٧( وَهَدَيْناهُمْ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وهذا المعنى هو الظاهر والمراد من الآية حتى إذا كانت سورة الفاتحة أول ما نزل من القرآن الكريم. والهداية تتعدى إلى المهدي إليه بنفسها وبإلى. والصراط هو الطريق والمستقيم ما لا انحراف فيه ولا اعوجاج وهو أقرب نهج موصل إلى المقصود. ويكون سالكه أبعد من الضلال وخوفه. وعلى بصيرة من أمره من أول سلوكه إذ يتضح منه منار الحق وبشائر الوصول من أول الإقبال اليه. وفي حديث الجمهور كما في الدر المنثور انه في الآية كتاب الله. أو الإسلام أو رسول الله وصاحباه بعده. وفي تفسير البرهان عن تفسير وكيع بن الجراح مسندا عن ابن عباس في قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم قال قولوا يا معاشر العباد أرشدنا إلى حب محمد واهل بيته. وعن تفسير الثعلبي مسندا عن أبي بردة قال صراط محمد (ص) واهل بيته. وفي روايات الإمامية انه امير المؤمنين. أو انه الأئمة. وكلما صح من ذلك فهو من باب النص على احد المصاديق أو أظهرها( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) بالتوفيق والسداد فنعموا بالوصول وفازوا بالزلفى( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) لأنهم عاندوا الحق بعد ما استنار صبح الإرشاد ووضحت الدلالة وقامت الحجّة فاستوجبوا بذلك غضب الله. وكلمة غير مجرورة على انها صفة للذين. وفي الحديث والروايات ان المغضوب عليهم هم اليهود أو النواصب. وما صح من ذلك فهو من باب النص على بعض المصاديق( وَلَا الضَّالِّينَ ) بجهلهم وتقصيرهم عن طلب الحق ومعرفته مع وضوح الدلالة وقيام الحجّة وجيء بكلمة «لا» مع الضالين لأجل الاستقصاء في التعوذ من الفريقين المغضوب عليهم والضالين

سورة البقرة

مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية

٦٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (١)ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

____________________________________

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مرّ تفسيرها في سورة الفاتحة

١( الم ) علم معناها عند الله ورسوله ومستودعي علمه وأمنائه على وحيه. ولا غرو في أن يكون في القرآن ما هو محاورة بأسرار خاصة مع الرسول وأمناء الوحي( ذلِكَ الْكِتابُ ) القرآن أشير إليه باشارة البعيد لرفعة مقامه وعلو شأنه وذلك متعارف عند العرب في الإشارة إلى العظيم الرفيع الشأن( لا رَيْبَ فِيهِ ) ليس فيه محل للريب ولا ينبغي الريب في أمره. أو ليس فيه شيء مريب بل هو( هُدىً ) بالفعل وموصل إلى حقيقة الدين وشريعة الحق وأركان الإيمان( لِلْمُتَّقِينَ ) لله الذين من تقواهم يقبلون على القرآن ويتبعونه حق الاتباع ويأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه ويتأدبون بآدابه ويسترشدون بمعارفه. والاتقاء مأخوذ من الوقاية يقال اتقى السيف بالدرقة أي اتقى ما يخاف منه وفي الآية الثانية والعشرين( فَاتَّقُوا النَّارَ ) و ٤٦( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي ) وتقوى الله عبارة عن اتقاء ما يخاف منه كغضبة وعذابه فيتقى ذلك بطلب رضاه وطاعته في أوامره ونواهيه. واطلاق التقوى في وصفهم يدلّ على انها صفة عامة ثابتة لهم وملكة راسخة كالعالم والفقيه. و( الَّذِينَ ) في الآية الآتية وكذا التي بعدها ليست مبتدأ وخبره جملة( أُولئِكَ عَلى هُدىً ) كما احتمل في بعض التفاسير بل هي صفة للمتقين ٢( الَّذِينَ ) من قوتهم في التقوى والإيمان بالحق واتباع الدليل والهداية( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) مما لم يروه ولم يحسوا به بل يحصل لهم يقين الإيمان بالحجة من كتاب الله وقول من قامت الحجّة على عصمته وذلك كالبعث والنشور والوعد والوعيد والجنة والنار واحوال القيامة والنعيم والعذاب. ومن مصاديق المؤمنين بالغيب. المؤمنون بقيام المهدي المنتظر عجل الله فرجه كما في الرواية عن أهل البيت (ع)( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) يواظبون عليها في أوقاتها قائمة على حدودها وشروطها وإخلاصها في العبادة والرغبة إلى الله في مناجاته والمثول في طاعته بحضرته( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ ) من مال بل وعلم كما في رواية أهل البيت( يُنْفِقُونَ ) كما فرضه الله عليهم أو ندبهم إليه من البر والإحسان بالتعليم والبيان. وينفقونه على حين معرفة منهم واعتراف بأنه رزق الله ونعمته عليهم فيكون إنفاقهم أدخل في الطاعة المقرونة بالشكر وأقرب إلى المعرفة والإحسان والدوام ٣( وَالَّذِينَ ) صفة اخرى

٦٤

(٤)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٥)أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

____________________________________

للمتقين وجيء بواو العطف استلفاتا إلى فضيلة هذه الصفة فإن التعداد بالعطف يمثل للذهن كلا من الصفات مستقلة بمزاياها لا كما إذا طردت من غير عطف. ألا ترى أنّ الذهن يجد من الرونق للصفات في قولهم جاء الرجل العالم والصالح والكريم والشجاع ما لا يجده في قولهم جاء الرجل العالم الصالح الكريم الشجاع( يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) من الوحي من الكتاب وغيره ويذعنون بأنه منزل من الله على رسوله رحمة للعباد ولطفا منه فيظهر عليهم بذلك شعار الإيمان به( وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) على الرسل والأنبياء حسب ما يحصل لهم من اسباب العلم بإنزاله. واظهر الأسباب في ذلك اخبار القرآن الكريم والرسول المصطفى به. وذلك من الإيمان بالغيب لأنهم لم يشاهدوا آية ومعجزة من أولئك الأنبياء الماضين( وَبِالْآخِرَةِ ) التي ذكرها القرآن وما فيها وعرّفتهم أنت بذلك في بشراك وإنذارك( هُمْ يُوقِنُونَ ) ويرونها بإيمانهم بالغيب حق اليقين كان ذلك رأي العين. وصيغة المضارع في يوقنون تدل على ثبات اليقين ودوامه وهو الذي تظهر سيماؤه في دوام الطاعة والرهبة من سخط الله وعقابه والرغبة في رضا الله وثوابه الذي اعدّه في الآخرة للصالحين. وهؤلاء المتصفون بهذه الصفات بالآخرة هم يوقنون لا من يكذبها باعتقاده وقوله. أو يصورها بتكلف اعتقاده بها على خلاف ما جاءت به رسل الله وكتبه. أو من كانت سيرته في أعماله السيئة وتفريطه في الطاعات تمثل ضعف إيمانه بالآخرة وإن غفلاته عنها في أعماله وتروكه تكاد أن تأتي على ما يتكلفه من الاعتقاد بها والعياذ بالله. وبعد التنويه بصفات المتقين المهتدين بالكتاب جاءت البشرى بكرامة مقامهم وربح تجارتهم فقال الله في شأنهم ٥( أُولئِكَ ) مستقرون( عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ) وتوفيق وتسديد إذ كانوا بإيمانهم وإقبالهم على الطاعة أهلا لذلك( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) دون غيرهم أما في الدنيا فبراحة ما استشعروه من القناعة وتقدير النعم وشكرها وفضيلة الرضا بأمر الله والتسليم لحكمته وراحة الهدوء والصلاح وحسن الأخلاق. وأما في الآخرة فبفلاح النعيم المقيم. وبمناسبة حال الكتاب في هداه مع المتقين الموصوفين وما لهم من الاهتداء والفلاح ذكر الله لرسوله حال بعض الكافرين بأنهم في تماديهم بالغيّ على الكفر والتمرّد لا يجدي معهم إنذارك ولا يؤمنون

٦٥

(٦)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ

____________________________________

بالله ورسوله وكتابه. هذا ما يقتضيه سياق القرآن الكريم خصوصا مع ابتداء الإخبار عن الذين كفروا بدون عطف بالواو ٦( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني قسما خاصا ممن ينتحل الكفر والمعهودين عند الرسول أو هم مطلق الطواغيت الذين يعلم الله انهم من تمردهم يموتون على التمادي على ضلال الشرك والكفر بالله ورسوله وكتابه وما جاءا به في دعوة الحق مع الحجج القيمة والدلالة الواضحة. هؤلاء( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ولا يختارون الإيمان لأنهم بطغيانهم وانهماكهم بضلال الكفر قد ارتجوا قلوبهم وأسماعهم وأحكموا سدها عن أن يلجها شيء من دعوة الإيمان ودلائل آياتها ولا شيء من نور الحق وشافي البيان فاستحقوا بذلك حرمانهم من توفيق الله وتسديده لهم. وإن توفيقه وتسديده جلت آلاؤه من أقوى ما يعين العبد في اختياره للطاعة والإيمان إذ يرفع عنه من طريقهما ما يعرقله ويزل اقدامه من نزغات الشيطان وهفوات الهوى وطموح النفس الأمارة إلى شهواتها ونزغاتها الردية ومألوفاتها. فكان حرمان المتمردين من التوفيق والتسديد بمنزلة الختم على ما سدوه بسوء اختيارهم وطغيانهم. ولأجل ان ذلك الحرمان من الله لخروجهم عن الأهلية نسب الختم الذي سمي به إلى اللهعزوجل لأنّ الله هو الذي بيده أمر التوفيق منحة وحرمانا. وعلى هذا قال جل اسمه ٧( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) من التمرد حيث استحبوا العمى على الهدى فلا يبصرون أنوار الحق والعرفان مع إشراقها كالشمس راد الضحى( وَلَهُمْ ) بما جنوه من التمرد في الكفر والطغيان ومحادة الله ورسوله( عَذابٌ عَظِيمٌ ) وغير خفي ان مذهب العدلية من الإمامية والمعتزلة هو انه يمتنع على جلال الله القدوس الكامل الغني أن يمنع الإنسان بالإلجاء عن قبول الإيمان أو يلجئه إلى الكفر أو يكون هو الخالق للكفر فيه فضلا عن أن يلومه ويعاقبه مع ذلك عليه. فإنّ ذلك كله قبيح عقلا كما هو من البديهيات الفطرية. ومن البديهي ان القبيح ممتنع الصدور من الله الغني القدوس. وقد ذكرنا في أخريات شواهد المقام الثاني من الفصل الرابع في المقدمة ان اللهعزوجل قد مجد قدسه في القرآن الكريم بالنزاهة عما هو دون ذلك في القبح ووبخ الناس على أعمال السوء. ولكن ابن المنير

٦٦

في تعليقته على الكشاف تحامل على الزمخشري في هذا المقام وأورد لمذهبه وجوها طالما لهج بها الأشاعرة «أولها» ان مذهب العدلية في المسألة مخالف لدليل العقل على وحدانية الله فإن مقتضاه أنْ لا حادث إلّا بقدرة الله «ويدفعه» أنّ مسألة القدرة غير مسألة التوحيد وغاية ما يقال في قدرة الله انها لا تقصر ولا تضعف عن الممكن وإن صار لقبحه ممتنع الصدور منه لجلال شأنه وقدسه وكماله وغناه. وليس مقتضى دليل العقل على الوحدانية أن يكون الزنا واللواط والكفر ومنع الكافرين عن الإيمان وأمثالها من القبائح تقع بفعل الله وخلقه وقدرته. وأما قولهم ان نسبة الفاعلية للناس وإيجادهم لأفعالهم وخلقهم لها يقضي بالشرك والإشراك مع الله في صفته وهو خلاف الوحدانية والتوحيد. فهو مردود بأن التوحيد الواجب في الإيمان هو توحيد الله ونفي الشريك له في الإلهية وما يعود إليها. وأما في غير ذلك فإن القرآن الكريم نفسه قد شرّك بين الله وعباده في نوع صفة الحياة والعلم والرحمة والرأفة والخلق وغير ذلك وإن كانت صفات الله ممتازة عن نوعها بكماله ومميزاتها «ثانيها» دليل النقل كقوله تعالى( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) . و( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ) . ويرده ان ابن المنير ومن يحتج بهذا كأنهم لم يقرءوا ولم يسمعوا من سورة العنكبوت قول إبراهيم خليل الله لقومه ١٦( تَخْلُقُونَ إِفْكاً ) . وقول الله لعيسى كما في سورة المائدة ١١٠( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) . وقول عيسى رسول الله كما في سورة آل عمران ٤٣( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) . وقوله تعالى من هذا الباب في سورة المؤمنون ١٦( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) . ولماذا لم يلتفتوا من ذلك إلى أن الخلق المقصور على الله إنما هو خلق الإله وإيجاده مما هو من أعمال الإلهية. وعلى ذلك جاء قوله تعالى في سورة الرعد ١٧( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) «ثالثها» انه وان قبح صدور بعض الأفعال من الناس بحسب الشاهد لكن الحكم بقبح صدورها من الله قياس للغائب على الشاهد وهو باطل. ويردهم أولا انه ما اسمج التعبير عن الله وشؤونه بالغائب. وهو على كل شيء شهيد. وهو أقرب إليكم من حبل الوريد «وثانيا» ان الحكم على بعض افعال الناس بالقبح ليس من الحواس الخمس لكي يقال انّ الحواس لا تدرك الله. وان الناس ليعلمون ان العدلية يعنونون هذه المسألة ومحل نزاعها بالحسن والقبح العقليين وينادون بأن الحاكم بالحسن أو القبح إنما هو العقل بنفسه وإدراكه من دون مداخلة للحس أو وجود الفعل في الخارج. وليت شعري هل عند العقل شاهد وغائب «وثالثا» ان حكم

٦٧

العقل الفطري بقبح صدور القبيح من فاعله انما هو بالنظر إلى عقل الفاعل وجهة كماله وعلمه بالفعل وبجهة قبحه ولذا لا يحكم بالقبح الفاعلي على الفاعل من الأطفال والمجانين الذين لا يميزون ولا على الغافل عن الفعل أو جهة قبحه. وان الله هو الكامل العليم الخبير فهو جل قدسه أول من ينظر العقل إلى فعله ويحكم بامتناع صدور القبيح منه جل شأنه «رابعها» انه يقبح من الإنسان أن يمكن عبده من القبائح والفواحش بمرأى منه ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع أن القدرة التي يفعل بها الناس الفواحش هي من الله على علم منه بمن سيفعل الفواحش منهم (ويردهم) ان التمكين القبيح هو ما كان مختصا بفعل الفواحش ولكن اللهعزوجل أعطى القوى للإنسان ليتمتع بها في المباح والراجح نعمة منه لإبقاء نوعه وانتظام اجتماعه. غاية الأمر ان الإنسان يتمكن من أن يعملها في المحرم الذي أرشده إلى تركه بالعقل وزجر الأنبياء ونواهيه في وحيه وإنذارهم لهم بالوعيد. فهذه القوى نعمة مسدودة لا مساس لها بما ذكروه من المثال. ولم يخلق الله قوة مختصة بأعمال الشر لكي تكون نقضا على ما نقول به من مسألة القبح «خامسها» أن ما يكون ظلما قبيحا إنما هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه والله مالك العباد وكل شيء. فكل ما يفعله بالعباد ليس بظلم. ويرده أولا ان العقل لا يتوقف في احكامه وموضوعاتها على ما يذكر في بعض المتون الفقهية أو معاجم اللغة في معنى الظلم تساهلا أو قصورا أو اقتصارا على محل الحاجة في البيان. فإن كل ذي شعور إذا رأى مالك العبد قد سدّ فمه ومنعه بالقهر عن شرب الماء واستمرّ على المنع وهو يقول له اشرب الماء اشرب حتى إذا أضرّ به العطش وهو ممنوع عن الشرب استشاط مالكه غضبا عليه وصار يعنفه وينكل به لأنّه لم يشرب الماء. وكذا لو فعل مثل ذلك فيما يملكه من الحيوان. فإن الرائي لذلك الحال وكل من علم به يحكم بالبداهة ان العبد والحيوان المذكورين مظلومان. وإن المالك المذكور ظالم قد فعل قبيحا. وثانيا. ان مقتضى ما زعموه انّ الأنبياء والرسل الذين أفنوا أعمارهم في طاعة الله وعبادته والدعوة إليه وصبروا في ذلك على الشدائد هؤلاء الكرام يجوز أن يعذبهم الله يوم القيامة في جهنم خالدين فيها بعذاب إبليس وفرعون بزعمهم وإنه ليس بظلم ولا قبيح فإنهم عبيد الله وملكه «سادسها» أنه يجوز ان تكون هناك حكمة تسوغ ان يلجئ الله عباده على الكفر وأعمال الشر ثم يعاقبهم على ذلك فلا سبيل للعقل مع هذا الجواز إلى حكمه بقبح هذا الإلجاء وهذا العقاب (ويردهم) ان العقل يحكم بالقبح والامتناع في هذا وأمثاله لأنّه يجد ان لا حكمة ترفع قبحه وامتناعه من الله ولا يصلح

٦٨

(٨)وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ

____________________________________

لأن ترفع حكمة قبحه. ولو حاول أحد أن يد على العقل باب هذا الوجدان كان ذلك منه سفسطة سخيفة تسد على العقل باب احكامه وذلك باطل بالضرورة. على ان هذا الاحتمال والتجويز للحكمة يرد عليهم بنحو لا مخلص لهم منه أبدا فإنهم بإنكارهم للقبح العقلي وامتناع صدور القبيح من الله قد سدّوا على أنفسهم باب العلم بصدق النبوات وبأن الله لا يظهر المعجز على يد الكاذب وبصدق الكتب الإلهية وما فيها من تقديس الله وأمر القيامة والنعيم والعذاب والجنة والنار فإن قالوا إنا نعرف من عادة الله انه لا يكذب جلّ وعلا ولا يظهر المعجز على يد الكاذب. قلنا عليهم أولا لماذا لا تجوزون ان تكون هناك حكمة تسوغ مخالفة العادة وإذ قد عزلتم العقل في هذا المقام لم يكن لكم أن تقولوا ان العقل يجد أن لا حكمة تجوز مخالفة العادة. مع ان مخالفة العادة ليس فيها محذور لا تعارضه حكمة بخلاف القبيح كما قلناه «وثانيا» ان دعوى العلم بعادة الله لا تليق إلّا من قديم أزلي مطلع على جميع اعمال الله منذ الأزل نفيا وثبوتا لكي يعرف ما صار عادة لله وما لم يصر. ومن ذا الذي يزعم انه ذلك الأزلي المطلع على جميع أعمال الله منذ الأزل. وما هو المانع من مخالفة العادة حتى مع عدم الحكمة. سبحانك اللهم ما أجلى قدسك وكمالك للعقول التي وهبتها لعبادك وأقمت باحكامها عليهم الحجّة ٨( وَمِنَ النَّاسِ ) أي قوم منهم وهم المنافقون( مَنْ يَقُولُ ) أفرد الضمير باعتبار لفظ «من»( آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) والظاهر كما حكي عليه الاتفاق ان المراد منهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون النفاق ومن الشواهد لذلك قوله تعالى فيما بعد( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ ) . ذكروا إيمانهم بالله واليوم الاخر جمعا لأطراف الإيمان لأن ايمانهم باليوم الآخر متفرع على الإيمان بالرسول والقرآن. ولأجل أن يظهروا في مخادعتهم أنهم يخافون الله وعذاب الآخرة ويرجون نعيم الثواب فهم ملازمون للتقوى من أجل ذلك. ومرادهم من قولهم آمنا انهم ثبتت لهم صفة الإيمان فهم من زمرة المؤمنين ولا يريدون الاخبار بمجرد صدور الإيمان منهم في الماضي والذي يجتمع مع الثبات عليه ومع الارتداد والنفاق بعده ولذا قال الله جلّ شأنه( وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) بل منافقون ٩( يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) والمخادعة هو ما يسبب الخديعة ويولدها من قول أو فعل والخديعة هو ما يسبب ويتولد من

٦٩

(٩)يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (١٠)فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ

____________________________________

ذلك إذا لم يمنع منه علم من طلبت خديعته أو تسديده من الله أو حذره. والمفاعلة قد تجيء من طرف واحد كما في عافاه الله وعاقب المجرم وعاينت الشيء وحاولت الأمر وزاولته. ولكن مخادعتهم هذه لا تسبب ولا يتولد منها خديعة إلّا لهم( وَما يَخْدَعُونَ ) بها( إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ) لما يعود عليهم في الدنيا والآخرة من وبال مخادعتهم هذه ونفاقهم( وَما يَشْعُرُونَ ) فإن قيل ان هؤلاء المنافقين ان كانوا في الحقيقة دهريين ينكرون وجود الإله فكيف يتوجهون إليه بالمخادعة. وإن كانوا وثنيين يعترفون بالله وإلهيته وعلمه ولكنهم يشركون الأوثان معه في الإلهية فكيف يتصور اقدامهم على مخادعته فيحاولون منه الغرّة والانخداع. قلنا إذا لم يتصور ذلك في تذبذبهم في النفاق وخبطهم في ضلالات الأهواء والكفر فقد قال بعض المفسرين ان المخادعة جاءت هنا على نحو التجوز والاستعارة باعتبار ان قولهم ذلك يشبه المخادعة وان لم يريدوها. ولكن الذي يظهر من المقام انهم بقولهم ذلك يخادعون الرسول والذين آمنوا على حقيقة المخادعة. ولا يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمعنى المجازي معا. ولذا أبقى المخادعة بعضهم على حقيقتها وقال ان التجوز إنما هو بإضافتها إلى الله دون إضافتها إلى الذين آمنوا والتجوز باعتبار ان الجرأة على مخادعة الرسول في مقدمة الذين آمنوا من حيث انه رسول الله بمنزلة الجرأة على مخادعة الله فأضيفت المخادعة إلى الله على النهج الذي جاء عليه قوله تعالى في سورة الفتح( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) وهذا أظهر القولين ١٠( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) مرض النفاق والتلون واستعير اسم المرض هنا لأن فيه خروجا عن الصحة العادية والنفاق خروج عن الاستقامة الفطرية للبشر وجريهم على ما توضحه الدلائل النيرة. ولأجل تمردهم في نفاقهم خرجوا عن أهلية التوفيق للاستقامة فأعرض الله بوجهه الكريم عنهم وحرمهم الله بركات لطفه( فَزادَهُمُ اللهُ ) بحرمانهم التوفيق( مَرَضاً ) على وتيرة من تمرد بالطغيان فوكله الله إلى نفسه المنهمكة بالقبح منذ اسلست قيادها للهوى والشيطان. وقيل المرض هو غم الحسد والعداوة للمؤمنين وبحرمان الله لهم من توفيقه زاد مرضهم وبهذا الاعتبار نسبت الزيادة إلى الله وقيل ان فزادهم دعاء عليهم ولكن الفاء لا تناسبه. وقيل غير ذلك( وَلَهُمْ

٧٠

(١١)وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١٢)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٣)وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ ألا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٤)وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ

____________________________________

عَذابٌ أَلِيمٌ ) شديد الألم( بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) في نفاقهم ومخادعتهم وقولهم آمنا وما هم بمؤمنين. وما ظنك بعذابهم على كفرهم وسوء أعمالهم وفسادهم ١١( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ) بنفاقكم وسوء اعمالكم( قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) وما أكذبه من قول يقوله مريض القلب والمتحكم بجهله أو نفاقه على الحقائق والدين وشؤون الناس. فيسميه اذنابه بالمصلح الكبير ١٢( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) بنقصهم وبما يلحقهم من ذلك من وصمة الضلال وظهور الحال ووخامة السمعة ١٣( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ ) بالإيمان المعهود وثبتوا على حقيقة الايمان وتعاليمه الصالحة وأخلاقه الفاضلة والطاعة في نصرهم لدين الحق( قالُوا ) من غيهم( أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ ) الذين آمنوا وخضعوا للإسلام وأحكام دينه والجهاد في سبيل الله وإظهار الحق( أَلا إِنَّهُمْ ) وهم المنافقون( هُمُ السُّفَهاءُ ) الذين هم اختاروا سفاهة النفاق ورذيلته وأضاعوا رشدهم في المعارف ودين الحق وسعادة الدارين والعاقبة الحسنى( وَلكِنْ ) لأجل تماديهم في الغي( لا يَعْلَمُونَ ) بما يكون العلم به فضيلة للإنسان ووسيلة لسلامته من خسة السفاهة الموبقة. وهؤلاء المنافقون زيادة على ما ذكر لهم من قبائح الكفر والأقوال والأفعال مذبذبين ذوي لسانين ووجهين ١٤( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) بحقيقة الايمان الثابت عن بصيرة( قالُوا ) بتزويرهم( آمَنَّا ) ونحن الآن من زمرة المؤمنين( وَإِذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ ) الذين يغرونهم بالكفر ومحادة الله ورسوله( قالُوا ) لهم في خلوتهم بهم( إِنَّا مَعَكُمْ ) على ما أنتم عليه ومن زمرتكم( إِنَّما نَحْنُ ) في حالنا مع المؤمنين وإظهارنا لهم انا منهم( مُسْتَهْزِؤُنَ ) بهم. فتعسا لآراء المنافقين ١٥( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) بأن يمهلهم ويخوّلهم من حطام الدنيا وحياتها شيئا ومصيرهم في عاقبة ذلك إلى اخس الهوان وأشد العذاب فاستعير لذلك لفظ الاستهزاء لمشابهته له في ابتهاجهم بظاهر الامهال والتخويل مع انه مقرون بالاستهانة بهم واعداد العذاب الأليم.

٧١

(١٥)اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١٦ )أُولَٰٓئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَٰلَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٧)مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ)

____________________________________

ويزداد حسن هذه الاستعارة في مقابلة قولهم انما نحن مستهزءون. واين عنها قول عمر بن كلثوم في معلقته :

ألا لا يجهلن احد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ ) يملي لهم ويمهلهم في تماديهم على طغيانهم مع حرمانهم التوفيق وهذا بمنزلة التفسير لما استعير له لفظ الاستهزاء( يَعْمَهُونَ ) العمه هو العمى في الرأي والبصيرة والتردد في الضلال ١٥( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ) إذ كانوا ممن هيأ الله بألطافه لهم اسباب الاهتداء وجعل بلادهم محط بركة الهجرة ومشرق أنوار الوحي ومنار الدلائل والحجج قد أحاطت الألطاف بهم وتوارد عليهم الإرشاد في مصبحهم وممساهم وأجابوا دعوة الإسلام بلا إكراه حرب ولا إرهاب سيف. ولكن هذا الهدى الذي سعدوا بالقرب من موارده العذبة وثماره الجنية قد اشتروا به الضلالة. وان كل مشتر من العقلاء لا بد من أن يراعي منفعته بما اشتراه وغبطته بتجارته وهذا أول ما يطلب من الربح فيها. والربح نقيض الخسران ومن لم يربح في تجارته ولم يكن لما اشتراه منفعة فهو خاسر ويكفي هؤلاء من السفه إنهم اشتروا وتاجروا( فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ) ولا نفع لهم فيما اشتروه فضلا عن وباله في الدنيا والآخرة( وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ) من أول الأمر لأنهم لم يظهروا الإسلام عن بصيرة وإيمان وإنما أظهروه لأغراض أخرى. وقيل وما كانوا مهتدين في تجارتهم والأول أظهر وأوفق بمقتضى الحال ١٧( مَثَلُهُمْ ) في حالهم( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ) وطلب وقودها لحاجته إلى الضياء( فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ) من النواحي وحان انتفاعه بنورها فيما يعنيه من أموره ذهب ذلك النور وعاد هذا المستوقد في ظلام دامس لا يبصر فيه شيئا وخبط عشواء لا يهتدي فيه سبيلا. وهؤلاء المنافقون المذكورون كانوا يتشرفون بحضرة الرسول (ص) ويستمعون إلى كلامه وحججه في بيانه ودلائله في إرشاده وتلاوته لكتاب الله فهم بذلك كمن استوقد نارا لهدى فلما أضاءت لهم بلطف الله مناهج الرشد ومغاني الحق تمرّدوا على الله بنفاقهم فخرجوا عن كونهم أهلا

٧٢

(١٨)صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ

____________________________________

للتوفيق والتسديد ووكلهم الله إلى أنفسهم الأمّارة وأهوائهم الخبيثة. فأسدلا عليهم ظلمات الضلال بسوء اختيارهم. ولأجل ان ينوّه الله بما للتوفيق والتسديد من الأثر الشريف في تأييد العقل على مكافحته لوساوس الشيطان ونزغات النفس الأمارة واهوائها عبر عن حالهم في غيهم على سبيل المجاز واستعارة التشبيه بأنهم حينئذ( ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ) وأشار إلى معنى ذلك بقوله تعالى( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ) أي خلى الله بينهم وبين أهوائهم وسوء اختيارهم وصاروا يخبطون في ظلمات الضلال لا يبصرون فيها طريق الهدى والرشاد. وقد سلك القرآن الكريم أحسن منهاج البلاغة في بيان مثلهم ونتيجتهم السيئة فذكر مجرى المثل ومغزاه واكتفى بذكر نتيجته بدلالة النتيجة السيئة لحال الذين ضرب المثل في شأنهم فناول السامع تتمة المثل ونتيجة حال المنافقين بأوجز بيان مفهم كما اكتفى بمقدمات المثل عن ذكر المنافقين في استيقادهم لنار الهدى واضاءتها لما حولهم كما ذكرناه وربما تصوره جودة الفهم أحسن مما ذكرناه. ولو بسط القرآن الكلام كما شرحناه للزم التطويل. ولو أهمل ما ذكره لحال المنافقين لما تمثلت من ضرب المثل فائدة لها قيمة بل لو ذكر قبلها نتيجة المستوقد المذكور لأنس الذهن بها ولم يرعه ما ذكر من نتيجة المنافقين السيئة المهولة وذلك خلاف المقصود وحسن البيان.

(ومما ينبغي التنبيه عليه) هو ان بعض التفاسير المعروفة بالفضيلة ذكرت تفسير الآية على غير ما ذكرناه فنشأ من ذلك أمور «أحدها» جرأة غير المسلمين على الاعتراض على القرآن الكريم «ثانيها» التجاؤه إلى ان يجعل «الذي» بمعنى «الذين» وهذا مع وهنه مناف لإفراد الضمير في «استوقد» و «ما حوله» «ثالثها» استشهاده بقوله تعالى في سورة التوبة ٧٠( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا ) مع ان كلمة «الذي» في الآية للمفرد لا بمعنى الذين «رابعها» عدم ذكر النتيجة السيئة لحال المنافقين وفي ذلك ما فيه. مع ان قوله تعالى( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) إنما هي من صفات المنافقين لا من تتمة المثل وعلى ما ذكره يستلزم ربطها بالمنافقين طفرة كبيرة وفصلا بالأجنبي الطويل وهؤلاء المنافقون الذين ذهب الله بنورهم على ما ذكرناه هم في ضلالهم ١٨( صُمٌ ) جمع أصم وهو الفاقد لحاسة السمع وقيل هو من ولد كذلك( بُكْمٌ ) جمع ابكم قيل هو الأخرس وقيل من ولد كذلك وقيل هو الأخرس مع عيّ وبله( عُمْيٌ )

٧٣

فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أو كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ

____________________________________

جمع أعمى شبهوا بذلك لأنهم بإصرارهم على الغي قد أخرجوا أنفسهم عن الانتفاع والاهتداء بما يسمعون من الدلائل والوعظ والإنذار والتعليم وعن الاهتداء بسؤالهم عن الحق ومكالمتهم في ذلك وعن الانتفاع بما يشاهدونه مما يوضح لهم سبيل الرشد( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) إلى حقيقة الإيمان إذ قد استحوذ عليهم الشيطان ١٩( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ) عطف بأو لأجل التنبيه بالترديد بين المثلين على اختلاف مجراهما ومغزاهما. فكأنه قيل ان شئت ضرب المثل لحال المنافقين مع الإسلام وهداه بالذي استوقد نارا إلى آخره. وان شئت ضرب المثل لشأن الإسلام مع المنافقين فإن مثله كمثل صيب من السماء وحذف لفظ المثل لدلالة ما سبق وسياق الكلام عليه. والصيب هو المنهمل النازل من العلو والسماء جهة العلو فوق الأرض فالمراد من الصيب هو المطر الغزير المنصبّ والذي تحيى به الأرض وتزهر بنباتها وينمو به الزرع والضرع وهو قوام المعيشة للناس وخصوص العرب وأهل البوادي والأنعام ولكنه مع ذلك لا يخلو من أن تقارنه ظلمات تتتابع كلما اكفهر السحاب الهاطل وادلهمت به الآفاق خصوصا إذا كان بالليل. ولذا وصف المطر الصيب بالتوسع في الظرفية بأنه( فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ) إذ لا ينفك عن الرعد والبرق والصواعق وهي الرعود القاصفة المخيفة بصوتها وهي المرادة في الآية وان كانت الصاعقة أيضا اسما للنار النازلة مع ذلك الرعد المخيف. فالإسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الأرض بالعدل والصلاح والأمن وحسن الاجتماع ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الإسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل الله ونيل السعادة. وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعزّ الانتصار والمنعة والهيبة. فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنهم( يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ ) اجل( الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ) وخوفا من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها. وسفها لعقولهم اين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم( وَاللهُ مُحِيطٌ

٧٤

بِالْكافِرِينَ (٢٠)يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

____________________________________

بِالْكافِرِينَ ) المنافقين لا مفر لهم من قضائه.( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضاجِعِهِمْ ) . أو ان المراد ما هذا الخوف والهلع والتحذر والحال ان الله محيط بالكافرين المحاربين للإسلام وخاذلهم ومهلكهم وقد ظهرت آيات ذلك في غزوة بدر وما قبلها ٢٠( يَكادُ الْبَرْقُ ) اي ما ذكرناه من برق الإسلام وأنوار عزه وسعادته.( يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ) بشدة أنواره فهم( كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ ) وارتاحوا لبهجته وعلقت آمالهم بسعادة الدنيا( مَشَوْا فِيهِ ) وجاروا المسلمين وأظهروا موافقتهم( وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ ) بأن انقطع عنهم ضوء الآمال لما يرونه أحيانا من ظلمات الشدائد( قامُوا ) ووقفوا في مكانهم في النفاق وثبتوا على حيرة ضلالهم( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) فلا يسمعون بما حصل من المبشرات في الإسلام ولا بما يرد أحيانا على المسلمين من الشدائد ولا يبصرون ذلك فلا يترددون في ضلال النفاق( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢١يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ) الله( رَبَّكُمُ ) واخضعوا له حق الخضوع للآلة وأطيعوه فإنه هو ربكم ومالككم ومدبركم ومربيكم( الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) لم تجئ لعلّ للترجي بل لبيان انه لا يلزم من عبادتهم لله انهم يتقونه حق تقاته بل يجوز أن تقع منهم التقوى المذكورة بحسن اختيارهم ويجوز ان لا تقع لسوء اختيارهم. ولأجل الاحتجاج بآلاء الربوبية وآثار القدرة ذكر من صفات الرب أيضا انه ٢٢( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ) ممهدا يتيسر لكم الانتفاع بها في السكنى ونحوها والزرع والغرس( وَالسَّماءَ بِناءً ) لا تخشون سقوط أجرامها عليكم. وليس في ذلك صراحة بموافقة الهيئة القديمة ولا صراحة بمخالفة الهيئة الجديدة فإن حقيقة الأمر لا يعلمها إلّا الله وان الأوضاع المذكورة في الهيئتين لا مبنى لها إلّا الحدس الذي تدافعه الشكوك والردود. والمحسوس إنما هي حركات الكواكب( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ) أي من جهتها أو ان المراد من السماء هنا جهة العلو( ماءً ) وهو المطر الذي يحيي به

٧٥

فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ

____________________________________

الأرض بعد موتها( فَأَخْرَجَ بِهِ ) بما خلقه فيه وقدره من الخواص( مِنَ الثَّمَراتِ ) يجوز ان يراد بها ما يعم الحبوب والأطعمة( رِزْقاً لَكُمْ ) وهل يكون ذلك من غير الإله القادر العليم الحكيم. وانكم لتعترفون بالإله وان هذا كله من خلقه وانعامه فما بالكم تجعلون معه آلهة ولو بزعم انها من تنزلات الإلهية. أو انها منبثقة من الإله. أو انها مظاهره. أو بناء على مزاعم العقول العشرة وانه لا يمكن أن يصدر من الله إلّا العقل الأول تعالى الله عما يصفون( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) جمع ندّ بكسر النون. قيل ان الندّ المثل وقيل الضدّ. وفي النهاية هو مثل الشيء الذي يضادّه في أموره وينادّه أي يخالفه. وفي المصباح لا يكون الندّ إلّا مخالفا. وفي التبيان ومجمع البيان في الآية المائة والستين وأصل الندّ المثل المناوئ. وفي الكشاف في هذه الآية ولا يقال إلّا للمثل المخالف المناوي ومثله في جمع الجوامع. وفي المصباح ناويته عاديته أو فعلت مثل فعله مماثلة. وفي القاموس فاخره وعاداه ونحوه في النهاية. والمشركون يجعلون لأوثانهم وما يؤلهونه صفة الإلهية واعمالها وبذلك يجعلون كلا مما يشركون به ندّا لله ومثلا معارضا له في إلهيته واعمالها( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ان الإله الخالق المعبود والمطاع هو الله فما هذه المزاعم وما هذا الشرك المناقض لعلمكم ومعرفتكم ولو تدبرتم الحجج الساطعة لعرفتم كيف لبست عليكم الأوهام ودلست على عقولكم الأهواء. فوحدوا الله ايها الناس كما هو حقه وآمنوا بعبد الله رسوله الذي جاء بالحجج الباهرة وأنزل عليه القرآن العظيم ٢٣( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا ) من القرآن( عَلى عَبْدِنا ) وشككتم في انه كلام الله ووحيه المنزل من عنده وجوزتم أن يأتي به بشر من عند نفسه بلا وحي من الله( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) أي مثل القرآن فإنه نزل بلسانكم العربي وأنتم أهل الفصاحة والبلاغة. وقد بلغتم أوج الرقي في الأدب العربي بما تناله القدرة البشريّة ولكم المهلة والأناة( وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ) الذين ينصرونكم ويشهدون لكم لكي تستظهروا بشهادتهم فإن الله لا يشهد لكم فإنه يعلم انكم لا تقدرون على ذلك. أو وادعوا رجال بلاغتكم الذين يشهدون المواسم وأسواق العرب

٧٦

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

____________________________________

لأجل المفاخرة في البلاغة والمسابقة في ميادينها فاستعينوا بهم على ذلك من دون الله. فإن الاستعانة بالله على ذلك ودعاءه يجعل الإتيان بالسورة والأكثر ممكنا بواسطة اعانة الله ووحيه كإمكانه لرسول الله( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) في زعمكم ان القرآن يمكن للإنسان بقدرته البشريّة أن يأتي به أو بمثله أو بسورة من مثله. وهؤلاء وإن كان صدقهم في ذلك ممتنعا يناسب ان يقال فيه لو كنتم صادقين لكن قيل( إِنْ كُنْتُمْ ) مجاراة لهم وملاينة في الخطاب واما قوله تعالى( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) مع ان ظاهرهم الجحود لكون القرآن منزلا من الله فيجوز أن يكون لأجل علمه جل شأنه بأن منهم من تأثر قليلا بكثرة الشواهد على الرسالة وإنزال القرآن من الله فيرجع أمره من الجحود إلى الشك والريب في ذلك فاحتج الله عليهم بالحجة القاطعة لوساوس الشك وعناد الجحود. أو انه جل شأنه احتج على ادنى معارض للإيمان وهو الريب بالحجة الجارية فيه وفي الجحود ٢٤( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ) ولم تأتوا بسورة من مثله لعجزكم وقصور القدرة البشريّة عن ذلك( وَلَنْ تَفْعَلُوا ) اخبار لهم بأنهم لا يفعلون ذلك لخروجه عن القدرة البشريّة مهما برعوا وتقدموا في الفصاحة والبلاغة ومهما تعاونوا واستعانوا بالبشر( فَاتَّقُوا النَّارَ ) أي فإن عجزتم ولم تفعلوا لزمكم ان تعرفوا ان القرآن منزل من الله على رسوله ولزمكم الإيمان بالكتاب وبالرسول وان لم يدعكم إلى الإيمان شرف الانسانية والعقل والرغبة في السعادة على نهج إيمان الأحرار فلا أقل من أن يدعوكم الخوف كما في طاعة العبيد فإن من ورائكم النار التي أنذركم بها القرآن( الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) الوقود بفتح الواو ما توقد به النار فما ظنكم بنار يكون وقودها الناس بلحومهم ودمائهم وفضلاتهم ووقودها مطلق الحجارة فاتقوها بإيمانكم وطاعتكم لله ورسوله( أُعِدَّتْ ) وهيئت( لِلْكافِرِينَ ) الذين يموتون على الكفر. ثم قرن جل شأنه وعيده للكافرين ببشراه للمؤمنين بقوله جل اسمه ٢٥( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ) يتنعمون بها ومن كمال بهجتها وروحها وجمال منظرها انها( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) على عادة الجنان ذوات البهجة والرونق من أن الماء لا ينقطع عنها ولا يعلوها فتكون كالمستنقعات

٧٧

كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً

____________________________________

بل تكون مجاري مياهها اوطأ من ارضها يتنعمون بثمارها و( كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً ) رأوا ذلك من جنس ثمار الدنيا و( قالُوا ) عند ذلك( هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ ) في الدنيا. والحكمة في كون ثمار الجنة من جنس ثمار الدنيا هو ان ذلك ادعى للرغبة إلى نعيم الجنة واحسن وقعا في البشرى فإن النفوس تهش إلى مألوفاتها ولو ذكر للناس ما لم يروا له نموذجا في الدنيا لما رغبوا فيه رغبتهم فيما يعرفونه( وَأُتُوا بِهِ ) الظاهر انه رزق الجنة( مُتَشابِهاً ) فيما بينه في الحسن والجودة لم يختلط مع جيده ردي( وَلَهُمْ فِيها ) في الجنة( أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ) طهرهن الله في خلقه لهن وناهيك بذلك وصفا ثابتا ومقتضى اطلاق التطهير انهن منزهات من كل ما يستقذر في خلقهن وأخلاقهن( وَهُمْ فِيها ) في الجنة( خالِدُونَ ) مدى الأبد ٢٦( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما ) أي مثل يكون بحسب المناسبة في التمثل سواء كان بالحقير أو بالخطير والاية تشعر بأنها توبيخ لمن استنكر ضرب الله للأمثال ويجوز أن يكون لمنع الاعتراض على ضرب الله للمثلين المتقدمين وغيرهما وان لم يسبق من احد اعتراض. ورويت في نزولها اسباب ولم تصح ولا تسلم من وجوه الشك والخدشة. ولا يخفى ان في ضرب المثل فوائد كبيرة في التلقين والفهم لا تحصل بدونه. فإنه بتمثيله بالمحسوسات والمعهودات والمألوفات يشتد تأثر النفس بها ويستلفت الذهن إلى الإقبال على فهم الأمر الممثل له فيستحكم تأثر النفس به. ومعنى( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي ) هو ان ضرب المثل مع ما فيه من الحكمة واللطف في البيان لا يتركه الله لأجل حقارة الممثل به أو ان الممثل له أعظم منه بكثير. وقد اقتضت المناسبة والتشبيه ان يستعار للترك المذكور لفظ الاستحياء الذي هو انفعال في النفس وخجل يمنع عن إبداء الشيء وان تعلق به غرض( بَعُوضَةً ) من هذا البعوض المستحقر لصغره( فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) والجاري على الحكمة في بيان الحقيقة( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ) على سبيل الاستنكار والاستخفاف( ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً ) والظاهر انهم يقولون( أَرادَ اللهُ ) على

٧٨

يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفاسِقِينَ (٢٦)الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أمر اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ

____________________________________

سبيل الاستهزاء بدعوى الرسول ان المثل وحي منزل من الله فإن الكافرين بل والمنافقين ينكرون الوحي المذكور ولو اعترفوا به لما قالوا قولهم هذا. وقد اعرض الله عن بيان ما أراد بالمثل فإن بيانه مقرون به وعن ذكر فائدته فإن حكمته ومغزاه ونتيجته واضحة لا يتجاهل فيها إلّا السفيه المعاند ولكنه جل شأنه أجابهم بعاقبته السيئة بالنسبة إليهم فيما هم عليه من العناد وبأثره الحميد بالنسبة للمؤمنين فقال جل اسمه( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ) من الناس المنكرين على المثل أو المستهزئين أي تكون عاقبتهم في ذلك الضلال وان أراد الله به تفهيمهم وهدايتهم. وذلك كما قيل فلان قتل فلانا بحلمه فإنه لم يرد بحلمه إلّا فضيلته ولكن صارت عاقبته ان فلان الآخر اغتر بجهله واجترأ على آخر فقتله فنسب القتل إلى فلان الأول باعتبار ان حلمه كانت عاقبته قتل ذلك المغتر بسوء اختياره( وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) وهم المؤمنون إذ يتدبرونه ويهتدون بمفاده ويعرفون حكمته( وَما يُضِلُّ بِهِ ) بالمعنى المذكور( إِلَّا الْفاسِقِينَ ) وهم الكافرون والمنافقون الهاتكون للحجاب فإن الفسق في اللغة هو خروج الشيء من حجابه يقال فسقت التمرة إذا خرجت من قشرها. ولا يضر بعمومه للكافرين والمنافقين كونه في الاصطلاح المتأخر مختصا بالمسلم العامل بالمعاصي ٢٧( الَّذِينَ ) الأظهر ان ذلك بيان لصفات مطلق الفاسقين لا خصوص من يضلهم ضرب المثل( يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) نقض البناء هدمه ونقض الحبل حل فتله فهو ضد ابرامه. والعهد يستعمل في الوصية نحو قوله تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم. وفي الوعد المقرون بإظهار الالتزام به. والميثاق مصدر من الوثوق مثل الميعاد من الوعد والميلاد من الولادة أي ينقضون وصية الله لهم أو ما أعطوه لله من العهد مع توثيقه بالمؤكدات. وشبه عهد الله في توثيقه وربطه ما بين العبد وربه بالحبل وابرامه فاستعير لمخالفته لفظ النقض. والأظهر ان المراد ما عهده الله إلى الناس ووثقه سواء كان بدلالة العقل أم بتبليغ الرسل والكتب المنزلة وسواء كان في التوحيد والمعرفة أم في النبوة أم في الإمامة ام في الدين والشريعة( وَيَقْطَعُونَ ما أمر اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) ومن ذلك صلة الأرحام وصلة الرسول والإمام بالطاعة كما أمر

٧٩

(٢٨)كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إليه تُرْجَعُونَ

____________________________________

الله. وصلة قربى الرسول بالمودة ونحوها( وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) في فسقهم وما ذكر من سوء اعمالهم ٢٨( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ) يجوز أن يكون الخطاب المتكرر في الآية للكافرين وتكون «كيف» لتوبيخهم على كفرهم مع ما يذكر من الحجة. ويجوز أن يكون ذلك خطابا لجميع الناس وبيانا لأنّه لا يليق ان يختار الكفر انسان له شعور مع قيام الحجج في نفس وجوده وأحواله على حقيقة العرفان لله أفيكفر بالله( وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ) الواو حالية ولا حاجة إلى إضمار «قد» بل لا يصحّ لأنّه يستلزم ان تكون الحال جملة( وَكُنْتُمْ أَمْواتاً ) وليس كذلك لأنها لا تفي بالحجة بل الجملة الحالية مجموع وكنتم أمواتا فأحياكم أو هو وما بعده ولا ينتظم ذلك بمعنى واحد يكون حالا إلّا إذا جعل الجميع خبرا لأنتم محذوفة اي وأنتم تعتور عليكم هذه الأمور الكافية في الدلالة على وجود الإله الواحد القهار. والمراد من كونهم أمواتا انهم كانوا أشياء فاقدة للحياة ومن اقرب عهودهم بذلك انهم كانوا نطفا في الأصلاب أو كانوا في الأرحام علقة أو مضغة أو عظاما ولحما ولا حياة في شيء من ذلك فجعل فيهم الحياة ولا يكون ذلك بلا مؤثر ولا من لا شيء ولا من فاقد العلم والحكمة والإرادة. فليعتبر الإنسان بما في تركيب بدنه وأجزائه وأوضاعها وأسباب حياته من بواهر الحكم وعجائب الصنع ثم ليعتبر بما وهب له من الحياة والحواس والإدراك وقد أوضح وجه الاعتبار بذلك بالنحو العرفي والعقلي في رسالة البلاغ المبين( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) في آجالكم( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) ان كان هذا من تتمة الاحتجاج فلا بد من أن يحمل على أمر معلوم محسوس لجميع الناس ومعناه حينئذ أنه يحيي نوعكم باحياء أمثالكم من الناس وفي هذه القدرة التامة الدائمة عبرة وحجة لأولي الألباب. وإن لم يكن من تتمة الاحتجاج كما هو المناسب لقوله تعالى( ثُمَّ إليه تُرْجَعُونَ ) بل كان اخبارا بمواقع قدرته وآثار حكمته فإنه يكون المراد يحييكم في القبر. ويجوز أن يكون المراد يحيي بعضكم في الرجعة التي يقول بها الإمامية ونسبت الحياة إلى النوع تجوزا( ثُمَّ إليه تُرْجَعُونَ ) يوم القيامة وليس رجوعهم بعد غيبوبتهم أو انفصالهم عنه جل وعلا بل كما تقول للحاضر عندك إليّ مرجعك أي لا مهرب لك ولا بد من أن أنفذ فيك حكمي وعدلي وإن

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الله عز وجل نفسه شيئاً حيث يقول: قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم، فأقول: إنه شيء لا كالأشياء، إذ في نفي الشيئية عنه إبطاله ونفيه.

قال لي: صدقت وأصبت.

ثم قال لي الرضاعليه‌السلام : للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي، وتشبيه، وإثبات بغير تشبيه، فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز، لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء، والسبيل في الطريقة الثالثة: إثبات بلا تشبيه.

- توحيد الصدوق ص ٩٨

حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليدرضي‌الله‌عنه قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن سهل بن زياد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمد ابن زيد قال: جئت إلى الرضاعليه‌السلام أسأله عن التوحيد فأملى عليّ:

الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء، ومبتدعها ابتداء بقدرته وحكمته، لا من شيء فيبطل الإختراع، ولا لعلة فلا يصح الإبتداع. خلق ما شاء كيف شاء، متوحداً بذلك لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته، لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير رؤية، ووصف بغير صورة، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال.

ورواه في علل الشرائع ج ١ ص ٩

ويكشف حقيقة جديدة في الإسراء والمعراج

- التوحيد للصدوق ص ١١٣

حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاقرضي‌الله‌عنه قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، عن محمد بن إسماعيل البرمكي، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسين بن سعيد، عن إبراهيم بن محمد الخزاز، ومحمد بن

١٦١

الحسين، قالا: دخلنا على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام فحكينا له ما روي أن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة، رجلاه في خضرة، وقلت: إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون: إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد، فخر ساجداً ثم قال: سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك، سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن شبهوك بغيرك. إلهي لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك، ولا أشبهك بخلقك، أنت أهل لكل خير، فلا تجعلني من القوم الظالمين.

ثم التفت إلينا فقال: ما توهمتم من شيء فتوهموا الله غيره، ثم قال: نحن آل محمد النمط الأوسط، الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي. يا محمد إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين نظر إلى عظمة ربه كان في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة..

يا محمد عظم ربي وجل أن يكون في صفة المخلوقين.

قال قلت: جعلت فداك من كانت رجلاه في خضرة؟ قال: ذاك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب! إن نور الله منه اخضرَّ ما اخضر، ومنه احمرَّ ما احمر، ومنه أبيضَّ ما أبيض، ومنه غير ذلك. يا محمد ما شهد به الكتاب والسنة فنحن القائلون به.

- ورواه المجلسي في بحار الأنوار ج ٤ ص ٤١ وقال:

بيان: قولهعليه‌السلام : النمط الوسطى وفي الكافي الأوسط قال الجزري: في حديث علي: خير هذه الأمة النمط الأوسط، النمط: الطريقة من الطرائق والضروب، يقال: ليس هذا من ذلك النمط أي من ذلك الضرب، والنمط: الجماعة من الناس أمرهم واحد. انتهى.

قولهعليه‌السلام : لا يدركنا الغالي في أكثر النسخ بالغين المعجمة، وفي بعضها بالعين المهملة، وعلى التقديرين المراد به من يتجاوز الحد في الأمور، أي لا يدركنا ولا يلحقنا في سلوك طريق النجاة من يغلو فينا أوفي كل شيء، والتالي أي التابع لنا لا

١٦٢

يصل إلى النجاة إلا بالأخذ عنا، فلا يسبقنا بأن يصل إلى المطلوب لا بالتوصل بنا.

وفي الكافي: إن نور الله منه أخضر، ومنه أحمر، ومنه أبيض، ومنه غير ذلك. وسيأتي في باب العرش في خبر أبي الطفيل إن الله خلق العرش من أنوار مختلفة، فمن ذلك النور نور أخضر اخضرت منه الخضرة، ونور أصفر اصفرت منه الصفرة، ونور أحمر احمرت منه الحمرة، ونور أبيض وهو نور الأنوار ومنه ضوء النهار.

ثم اعلم أنه يمكن إبقاء الحجب والأنوار على ظواهرها بأن يكون المراد بالحجب أجساماً لطيفة مثل العرش والكرسي يسكنها الملائكة الروحانيون، كما يظهر من بعض الدعوات والأخبار، أي أفاض عليه شبيه نور الحجب ليمكن له رؤية الحجب كنور الشمس بالنسبة إلى عالمنا.

ويحتمل التأويل أيضاً بأن يكون المراد بها الوجوه التي يمكن الوصول إليها في معرفة ذاته تعالى وصفاته إذ لا سبيل لأحد إلى الكنه، وهي تختلف باختلاف درجات العارفين قرباً وبعداً، فالمراد بنور الحجب قابلية تلك المعارف وتسميتها بالحجب، إما لأنها وسائط بين العارف والرب تعالى كالحجاب، أو لأنها موانع عن أن يسند إليه تعالى ما لا يليق به، أو لأنها لما لم تكن موصلة إلى الكنه فكأنها حجب، إذ الناظر خلف الحجاب لا تتبين له حقيقة الشيء كما هي.

وقيل: إن المراد بها العقول فإنها حجب نور الأنوار، ووسائط النفوس الكاملة، والنفس إذا استكملت ناسبت نوريتها نورية تلك الأنوار، فاستحقت الإتصال بها والإستفادة منها، فالمراد بجعله في نور الحجب جعله في نور العلم والكمال مثل نور الحجب، حتى يناسب جوهر ذاته جوهر ذاتهم فيستبين له ما في ذواتهم، ولا يخفى فساده على أصولنا بوجوه شتى.

وأما تأويل ألوان الأنوار فقد قيل فيه وجوه:

الأول: أنها كناية عن تفاوت مراتب تلك الأنوار بحسب القرب والبعد من نور الأنوار، فالأبيض هو الأقرب، والأخضر هو الأبعد، كأنه ممزوج بضرب من الظلمة،

١٦٣

والأحمر هو المتوسط بينهما، ثم ما بين كل اثنين ألوان أخرى كألوان الصبح والشفق المختلفة في الألوان لقربها وبعدها من نور الشمس.

الثاني: أنها كناية عن صفاته المقدسة، فالأخضر قدرته على إيجاد الممكنات وإفاضة الأرواح التي هي عيون الحياة ومنابع الخضرة، والأحمر غضبه وقهره على الجميع بالإعدام والتعذيب، والأبيض رحمته ولطفه على عباده كما قال تعالى: وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله.

الثالث: ما استفدته من الوالد العلامة قدس الله روحه وذكر أنه مما أفيض عليه من أنوار الكشف واليقين، وبيانه يتوقف على تمهيد مقدمة وهي: أن لكل شيء مثالاً في عالم الرؤيا والمكاشفة، وتظهر تلك الصور والأمثال على النفوس مختلفة باختلاف مراتبها في النقص والكمال، فبعضها أقرب إلى ذي الصورة، وبعضها أبعد، وشأن المعبر أن ينتقل منها إلى ذواتها، فإذا عرفت هذا فالنور الأصفر عبارة عن العبادة ونورها كما هو المجرب في الرؤيا، فإنه كثيراً ما يرى الرائي الصفرة في المنام فيتيسر له بعد ذلك عبادة يفرح بها، وكما هو المعاين في جباه المتهجدين، وقد ورد في الخبر في شأنهم أنه ألبسهم الله من نوره لما خلوا به. والنور الأبيض العلم لأنه منشأ للظهور، وقد جرب في المنام أيضاً. والنور الأحمر المحبة كما هو المشاهد في وجوه المحبين عند طغيان المحبة، وقد جرب في الأحلام أيضاً. والنور الأخضر المعرفة، كما تشهد به الرؤيا ويناسبه هذا الخبر، لأنهعليه‌السلام في مقام غاية العرفان كانت رجلاه في خضرة.

ولعلهمعليهم‌السلام إنما عبروا عن تلك المعاني على تقدير كونها مرادة بهذه التعبيرات، لقصور أفهامنا عن محض الحقيقة كما تعرض على النفوس الناقصة في الرؤيا هذه الصور، ولأنا في منام طويل من الغفلة عن الحقائق، كما قالعليه‌السلام : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.

وهذه التأويلات غاية ما تصل إليه أفهامنا القاصرة، والله أعلم بمراد حججه وأوليائهعليهم‌السلام . انتهى.

١٦٤

ملاحظة: إذا شرح لنا عالم الفيزياء مثلاً بعض قوانين الضوء وتحدث عن تغير تركيب الأجسام وطاقاتها إذا تحركت بسرعة الضوء أو بأسرع منه، فإننا نتعجب لذلك ونحترم آراءه..

أما النبي والإمام المعصوم فإن حديثهما أولى بالإحترام والثقة من عالم الفيزياء، ومن كل علماء الأرض، لأنهما يتحدثان عن الفيزياء كما أخبرهما عنها خالقها تبارك وتعالى. فحديث الإمام الرضاعليه‌السلام عن المعراج وعن أصل الأنوار والألوان إنما هو عن جده المصطفى سيد البشرصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أوحى إليه الله تعالى وعرج به مرات متعددة كما في الأحاديث الشريفة، فأراه ملكوت السماوات والأرض.

وأحاديث المعراج فيها أحاديث صحيحة ومهمة، وهي تحتاج إلى دراسة من علماء الطبيعة، لعلهم يكتشفون منها حقائق جديدة عن الكون والطبيعة.

ولا نعني بذلك رفض التفسيرات العقلية والإشراقية كالتي أوردها المجلسي رحمه‌الله ولكنها تبقى تفسيراً لجانب، أو احتمالات.. ونعم ما ختم به المحدث المجلسي رحمه‌الله كلامه فقال (وهذه التأويلات غاية ما تصل إليه أفهامنا القاصرة، والله أعلم بمراد حججه وأوليائهعليهم‌السلام ).

الإمام الرضاعليه‌السلام يعلّم بني العباس التوحيد

- توحيد الصدوق ص ٣٤

حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليدرضي‌الله‌عنه قال: حدثنا محمد بن عمر والكاتب، عن محمد بن زياد القلزمي، عن محمد بن أبي زياد الجدي صاحب الصلاة بجدة قال: حدثني محمد بن يحيى بن عمر بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال: سمعت أبا الحسن الرضاعليه‌السلام يتكلم بهذا الكلام عند المأمون في التوحيد، قال ابن أبي زياد: ورواه لي أيضاً أحمد بن عبد الله العلوي مولى لهم وخالاً لبعضهم، عن القاسم بن أيوب العلوي، أن المأمون لما أراد أن يستعمل الرضاعليه‌السلام على هذا الأمر

١٦٥

جمع بني هاشم فقال: إني أريد أن أستعمل الرضا على هذا الأمر من بعدي، فحسده بنو هاشم وقالوا: أتولي رجلاً جاهلاً ليس له بصر بتدبير الخلافة، فابعث إليه رجلاً يأتنا فترى من جهله ما يستدل به عليه، فبعث إليه فأتاه فقال له بنو هاشم: يا أبا الحسن إصعد المنبر وانصب لنا علماً نعبد الله عليه، فصعدعليه‌السلام المنبر، فقعد ملياً لا يتكلم مطرقاً، ثم انتفض انتفاضة واستوى قائماً، وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه وأهل بيته. ثم قال:

أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيد الله نفي الصفات عنه، لشهادة العقول أن كل موصوف مخلوق، وشهادة كل مخلوق أن له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كل صفة وموصوف بالإقتران، وشهادة الإقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالإمتناع من الأزل الممتنع من الحدث، فليس الله عرف من عرف بالتشبيه ذاته، ولا إياه وحد من اكتنهه، ولا حقيقة أصاب من مثله، ولا به صدق من نهاه، ولا صمد صمده من أشار إليه، ولا إياه عنى من شبهه، ولا له تذلل من بعضه، ولا إياه أراد من توهمه.

كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول تعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجته. خلق الله حجاباً بينه وبينهم، ومباينته إياهم مفارقته إنيتهم، وابتداؤه إياهم دليلهم على أن لا ابتداء له، لعجز كل مبتدأ عن ابتداء غيره، وأَدْوه إياهم دليل على أن لا أداة فيه، لشهادة الأدوات بفاقة المتأدين، وأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغبوره تحديد لما سواه.

فقد جهل الله من استوصفه، وقد تعداه من اشتمله، وقد أخطأه من اكتنهه، ومن قال كيف فقد شبهه، و من قال لم فقد علله، ومن قال متى فقد وقته، ومن قال فيم فقد ضمنه، ومن قال إلى م فقد نهاه، ومن قال حتى م فقد غياه، ومن غياه فقد غاياه، ومن غاياه فقد جزأه، ومن جزأه فقد وصفه، ومن وصفه فقد ألحد فيه، لا

١٦٦

يتغير الله بانغيار المخلوق، كما لا يتحدد بتحديد المحدود، أحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة، مبائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بجول فكرة، مدبر لا بحركة، مريد لا بهمامة، شاء لا بهمة، مدرك لا بمجسة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة.

لا تصحبه الأوقات، ولا تضمنه الأماكن، ولا تأخذه السنات، ولا تحده الصفات، ولا تقيده الأدوات.

سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والإبتداء أزله.

بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأمور عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والجلاية بالبهم، والجسو بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها، ذلك قوله عز وجل: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون، ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، دالة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها، له معنى الربوبية إذ لا مربوب، وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه، ومعنى العالم ولا معلوم، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وتأويل السمع ولا مسموع.

ليس منذ خلق استحق معنى الخالق، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية، كيف ولا تغيبه مذ، ولا تدنيه قد، ولا تحجبه لعل، ولا توقته متى، ولا تشمله حين، ولا تقارنه مع، إنما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، وفي الأشياء يوجد فعالها، منعتها منذ القدمة، وحمتها قد الأزلية، وجبتها لولا التكملة، افترقت فدلت على مفرقها، وتباينت فأعربت من مباينها، لما تجلى صانعها للعقول، وبها

١٦٧

احتجب عن الرؤية، وإليها تحاكم الأوهام، وفيها أثبت غيره، ومنها أنيط الدليل، وبها عرفها الإقرار.

وبالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالإقرار يكمل الإيمان به، ولا ديانة إلا بعد المعرفة، ولا معرفة إلا بالإخلاص، ولا إخلاص مع التشبيه، ولا نفي مع إثبات الصفات للتشبية، فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه، وكل ما يمكن فيه يمتنع من صانعه، لا تجري عليه الحركة والسكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، أو يعود إليه ما هو ابتداه، إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولما كان للبارئ معنى غير المبروء.

ولو حد له وراء إذاً حد له أمام، ولو التمس له التمام إذاً لزمه النقصان، كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث، وكيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء، إذاً لقامت فيه آية المصنوع، ولتحول دليلاً بعدما كان مدلولاً عليه.

ليس في محال القول حجة، ولا في المسألة عنه جواب، ولا في معناه له تعظيم، ولا في إبانته عن الخلق ضيم، إلا بامتناع الأزلي أن يثنى، وما لا بدأ له أن يبدى، لا إله إلا الله العلي العظيم، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبينا. وصلى الله على محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين.

نماذج من كلمات علماء مذهب أهل البيتعليهم‌السلام

- الإعتقادات ص ٣ ٩ للصدوق المتوفى سنة ٣٨١

إعلم أن اعتقادنا في التوحيد: أن الله تعالى واحد أحد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، سميعاً بصيراً عليماً حكمياً حياً قيوماً عزيزاً قدوساً عالماً قادراً غنياً، لا يوصف بجوهر ولا جسم ولا صورة ولا عرض ولا خط ولا سطح ولا ثقل ولا خفة ولا سكون ولا حركة ولا مكان ولا زمان، وأنه تعالى متعال من جميع صفات خلقه، خارج عن الحدين حد الإبطال وحد التشبيه. وأنه تعالى شيء لا كالأشياء، صمد، لم

١٦٨

يلد فيورث ولم يولد فيشارك ولم يكن له كفواً أحد، ولا نِدَّ له ولا ضد ولا شبه، ولا صاحبة ولا مثل ولا نظير ولا شريك له، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ولا الأوهام وهو يدركها، لا تأخذه سنة ولا نوم وهو اللطيف الخبير، خالق كل شيء، لا إله إلا هو، له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.

ومن قال بالتشبيه فهو مشرك، ومن نسب إلى الإمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب، وكل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو باطل، وإن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس.

والأخبار التي يتوهمها الجهال تشبيهاً لله تعالى بخلقه فمعانيها محمولة على ما في القرآن من نظائرها، لأن ما في القرآن:كل شيء هالك إلا وجهه ، ومعنى الوجه الدين، والوجه الذي يؤتى الله منه ويتوجه به إليه.

وفي القرآن:يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود وهم سالمون ، والساق وجه الأمر وشدته.

وفي القرآن:أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، والجنب الطاعة.

وفي القرآن:ونفخت فيه من روحي ، وهو روح مخلوقة جعل الله منها في آدم وعيسى، وإنما قال روحي كما قال: نبيي وعبدي وجنتي أي: مخلوقي، وناري وسمائي وأرضي. وفي القرآن: بل يداه مبسوطتان، يعني نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.

وفي القرآن:والسماء بنيناها بأيد ، والأيد القوة، ومنه قوله تعالى: واذكر عبدنا داوود ذا الأيد، يعني ذا القوة.

وفي القرآن:يا إبليس ما منعك أن تسجد لماخلقت بيدي ، يعني بقدرتي وقوتي.

وفي القرآن:والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ، يعني ملكه ولايملكها معه أحد.

وفي القرآن:والسماوات مطويات بيمينه ، يعني بقدرته.

وفي القرآن:وجاء ربك والملك صفاً صفاً ، يعني وجاء أمر ربك.

١٦٩

وفي القرآن:كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، يعني عن ثواب ربهم.

وفي القرآن:هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، أي عذاب الله.

وفي القرآن:وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، يعني مشرقة تنظر ثواب ربها.

وفي القرآن:ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ، وغضب الله عقابه، ورضاه ثوابه.

وفي القرآن:تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، أي تعلم غيبي ولا أعلم غيبك.

وفي القرآن:ويحذّركم الله نفسه ، يعني إنتقامه.

وفي القرآن:إن الله وملائكته يصلّون على النبي .

وفيه:هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ، والصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار وتذكية ومن الناس دعاء.

وفي القرآن:ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين .

وفي القرآن:يخادعون الله وهو خادعهم .

وفيه:الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ .

وفي القرآن:سخر الله منهم .

وفيه:نسوا الله فنسيهم .

ومعنى ذلك كله أنه عز وجل يجازيهم جزاء المكر وجزاء المخادعة وجزاء الإستهزاء وجزاء النسيان وهو أن ينسيهم أنفسهم كما قال عز وجل: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، لأنه عز وجل في الحقيقة لا يمكر ولا يخادع ولا يستهزئ ولا يسخر ولا ينسى، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وليس يرد في الأخبار التي يشنع بها أهل الخلاف والإلحاد إلا بمثل هذه الألفاظ ومعانيها معاني ألفاظ القرآن.

١٧٠

- الكافي ص ٣٨، لأبي الصلاح الحلبي المتوفى سنة ٤٤٧

... وثبوت كونه تعالى قديماً مقتض لكونه سبحانه غنياً تستحيل عليه الحاجة، (لأن) الحاجة لا تكون إلا لاجتلاب نفع أو دفع ضرر، من حيث علمنا استحالة الحاجة على من يستحيل عليه الضرر والنفع كالموات والجماد. والنفع والضرر لا يجوزان إلا على من يلذ ويألم، لأن الحي إنما ينتفع بما يلذ به أو يسر له، ويستضر بما يألم به أو يغتم لأجله، واللذة والألم لا يجوزان إلا على ذي شهوة ونفور، إذ معنى ملتذ أنه أدرك ما يشتهيه، ومعنى متألم أنه أدرك ما ينفر عنه، ومعنى مسرور أنه اعتقد أو ظن وصول نفع إليه أو إلى من يجري مجراه واندفاع ضرر، ومعنى مغتم أنه اعتقد أو ظن وصول ضرر اليه أو إلى من يجري مجراه أو فوت نفع، فعاد معنى السرور والغم إلى النفع والضرر.

إذا تقرر هذا وكانت الشهوة والنفار معاني تفتقر إلى محل استحال تخصيصها. وكونه تعالى لا يشبه شيئاً يحيل إدراكه سبحانه بشيء من الحواس، لاختصاص الإدراك المعقول بالجواهر وأجناس من الأعراض، وليس هو من الجنسين، فاستحال إدراكه تعالى.

ولأنه لو كان مما يصح أن يدرك بشيء من الحواس لوجب أن ندركه الآن، لأنا على الصفة التي معها يجب أن يدرك كلما يصح إدراكه بشرط ارتفاع الموانع، وهو سبحانه موجود والموانع مستحيلة عليه، لأنها اللطافة والرقة وتفاوت البعد والقرب والحجاب والكون في غير جهة المقابلة، وذلك أجمع من صفات المتحيزات، وقد دللنا على كونه سبحانه بخلافها، فلو كان مما يصح أن يدرك لأدركناه الآن، ولو أدركناه لعلمناه ضرورة، من حيث كان العلم بالمدرك من كمال العقل، وفي عدم العلم به سبحانه ضرورة دليل على عدم إدراكه....

وثبوت كونه تعالى لا يشبه شيئاً يحيل عليه التنقل والإختصاص بالحياة والمجاورة، لأن ذلك من أحكام المتحيزات وليس بمتحيز. ويحيل عليه سبحانه

١٧١

الحلول وإيجاب الأحوال والأحكام، لأن ذلك من خواص الأعراض، فتسقط لذلك مذاهب الثنوية والمجوس والصابئين وعباد الأصنام والمنجمين والنصارى والغلاة، لإثبات هؤلاء أجمع إلهية الأجسام، أو كونها مؤثرة ما يستحيل من الجسم تأثيره، على ما سلف بيانه.

- كشف المراد للعلامة الحلي ص٣٢٠: المتوفى سنة ٧٢٦

المسألة العشرون: في أنه تعالى ليس بمرئي.

أقول: وجوب الوجود يقتضي نفي الرؤية أيضاً. واعلم أن أكثر العقلاء ذهبوا إلى امتناع رؤيته تعالى، والمجسمة جوزوا رؤيته لاعتقادهم أنه تعالى جسم ولو اعتقدوا تجرده لم يجوزوا رؤيته عندهم. والأشاعرة خالفوا العقلاء كافة هنا وزعموا أنه تعالى مع تجرده يصح رؤيته.

والدليل على امتناع الرؤية أن وجوب الوجود يقتضي تجرده ونفي الجهة والحيز عنه، فتنتفي الرؤية عنه بالضرورة، لأن كل مرئي فهو في جهة يشار إليه بأنه هناك أو هنا، ويكون مقابلاً أو في حكم المقابل، ولما انتفى هذا المعنى عنه تعالى انتفت الرؤية.... أقول: لما استدل على نفي الرؤية شرع في الجواب عن الإحتجاج، والأشاعرة قد احتجوا بوجوه أجاب المصنف رحمه‌الله عنها.

الأول، إن موسىعليه‌السلام سئل الرؤية ولو كانت ممتنعة لم يصح عنه السؤال.

والجواب: أن السؤال كان من موسىعليه‌السلام لقومه ليبين لهم امتناع الرؤية لقوله تعالى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة، وقوله: أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا....

الوجه الثاني لهم، أنه تعالى حكى عن أهل الجنة النظر اليه فقال: إلى ربها ناظرة، والنظر المقرون بحرف إلى يفيد الرؤية، لأنه حقيقة في تقليب الحدقة نحو المطلوب التماساً للرؤية، وهذا متعذر في حقه تعالى لانتفاء الجهة، عنه فيتعين أن يكون

١٧٢

المراد منه المجاز، وهي الرؤية التي هي معلولة النظر الحقيقي، واستعمال لفظ السبب في المسبب من أحسن وجوه المجاز.

والجواب: المنع من إرادة هذا المجاز، فإن النظر وإن اقترن به حرف إلى لا يفيد الرؤية، ولهذا يقال نظرت إلى الهلال فلم أره، وإذا لم يتعين هذا المعنى للإرادة أمكن حمل الآية على غيره، وهو أن يقال إن إلى واحد إلاء ويكون معنى ناظرة أي منتظرة، أو نقول إن المضاف هنا محذوف وتقديره إلى ثواب ربها ناظرة.

لا يقال: الإنتظار سبب الغم والآية سيقت لبيان النعم.

لأنا نقول: سياق الآية يدل على تقدم حال أهل الثواب والعقاب على استقرارهم في الجنة والنار بقوله: وجوه يومئذ ناظرة، بدليل قوله تعالى: ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة، فإن في حال استقرار أهل النار في النار قد فعل بها فاقرة فلا يبقى للظن معنى. وإذا كان كذلك فانتظار النعمة بعد البشارة بها لا يكون سبباً للغم بل سبباً للفرح والسرور ونضارة الوجه كمن يعلم وصول نفع إليه يقيناً في وقت، فإنه يسر بذلك وإن لم يحضر الوقت، كما أن انتظار العقاب بعد الأنذار بوروده يوجب الغم ويقتضي بسارة الوجه.

قال: وتعليق الرؤية باستقرار المتحرك لا يدل على الإمكان.

أقول: هذا جواب عن الوجه الثالث للأشعرية وتقرير احتجاجهم أن الله سبحانه وتعالى علق الرؤية في سؤال موسىعليه‌السلام على استقرار الجبل، والإستقرار ممكن لأن كل جسم فسكونه ممكن، والمعلق على الممكن ممكن.

والجواب: أنه تعالى علق الرؤية على الإستقرار لا مطلقاً بل على استقرار الجبل حال حركته، واستقرار الجبل حال الحركة محال، فلا يدل على إمكان المعلق.

قال: واشتراك المعلولات لا يدل على اشتراك العلل مع منع التعليل والحصر.

أقول: هذا جواب عن شبهة الأشاعرة من طريق العقل استدلوا بها على جواز رؤيته تعالى، وتقريرها أن الجسم والعرض قد اشتركا في صحة الرؤية، وهذا حكم

١٧٣

مشترك يستدعي علة مشتركة، ولا مشترك بينهما إلا الحدوث أو الوجود، والحدوث لا يصلح للعلية لأنه مركب من قيد عدمي فيكون عدمياً، فلم يبق إلا الوجود فكل موجود يصح رؤيته وأنه تعالى موجود.

وهذا الدليل ضعيف جداً لوجوه:

الأول: المنع من رؤية الجسم، بل المرئي هو اللون أو الضوء لا غير.

الثاني: لا نسلم اشتراكهما في صحة الرؤية، فإن رؤية الجوهر مخالفة لرؤية العرض.

الثالث: لا نسلم أن الصحة ثبوتية بل هي أمر عدمي، لأن جنس صحة الرؤية وهو الإمكان عدمي، فلا يفتقر إلى العلة.

الرابع: لا نسلم أن المعلول المشترك يستدعي علة مشتركة، فإنه يجوز اشتراك العلل المختلفة في المعلولات المتساوية.

الخامس: لا نسلم الحصر في الحدوث والوجود، وعدم العلم لا يدل على العدم، مع أنا نتبرع قسماً آخر وهو الإمكان، وجاز التعليل به وإن كان عدمياً، لأن صحة الرؤية عدمية.

السادس: لا نسلم أن الحدوث لا يصلح للعلية، وقد بينا أن صحة الرؤية عدمية، على أنا نمنع من كون الحدوث عدمياً، لأنه عبارة عن الوجود المسبوق بالغير لا المسبوق بالعدم.

السابع: لم لا يجوز أن تكون العلة هي الوجود بشرط الإمكان أو بشرط الحدوث، والشروط يجوز أن تكون عدمية.

الثامن: المنع من كون الوجود مشتركاً، لأن وجود كل شيء نفس حقيقته، ولو سلم كون الوجود الممكن مشتركاً، لكن وجود الله تعالى مخالف لغيره من الوجودات، لأنه نفس حقيقته، ولا يلزم من كون وجود بعض الماهيات علة لشيء كون ما يخالفه علة لذلك الشيء.

١٧٤

التاسع: المنع من وجود الحكم عند وجود المقتضي، فإنه جاز وجود مانع في حقه تعالى، أما ذاته أو صفة من صفاته، أو نقول الحكم يتوقف على شرط كالمقابلة هنا وهي تمتنع في حقه تعالى، فلا يلزم وجود الحكم فيه.

- الرسالة السعدية للعلامة الحلي ص ٣٩

والدليل على المذهب الأول: العقل، والنقل.

أما العقل، فإن الضرورة قاضية: بأن كل مرئي، فإنه لابد وأن يكون مقابلاً للرائي، أو في حكم المقابل كالمرئي في المرايا. وكل مقابل أو في حكمه فهو في جهة، والله تعالى ليس في جهة فلا يكون مرئياً.

ولأنه لو كان مرئياً لرأيناه الآن، لوجود العلة المقتضية للرؤية وهي حصول الشرايط وانتفاء الموانع وسلامة الحاسة.

وأما النقل، فقوله تعالى:لن تراني ، ولو كانت صحيحة ويراه بعض المؤمنين، لكان موسىعليه‌السلام أولى بالرؤية.

وقوله تعالى: لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، تمدح بنفي الرؤية فيكون ثبوتها نقصاً، والنقص على الله تعالى محال.

ولأن الخصم يسلم أن معرفة الله تعالى ليست حاصلة إلا بصفاته وآثاره دون حقيقته، فكيف تصح رؤيته والإحاطة بكنه حقيقته، تعالى الله عن ذلك.

* *

١٧٥

الفصل الخامس

من أين نشأت المشكلة عند إخواننا السنّة

العامل الأول: ميل العوام إلى التشبيه والتجسيم

للذهن البشري حالة ابتدائية طفولية يتصور فيها كثيراً من الأمور تصوراً خاطئاً، حتى إذا تعمق في الفكر والتجربة.. تصححت نظرته! ولعل أكثر الناس يتصورون الله تعالى في طفولتهم بصور من محيطهم، فيتخيله أحدهم كأبيه مثلاً، أو كإنسان صاحب صفات حسنة.... وهذا أمر طبيعي، بل قد يكون فطرياً، فقد ورد أن النملة تتصور أن لربها قرنين كقرنيها (نحوه في بحار الأنوار ج ٦٩ ص ٢٩٣)

ولكن هذه الحالة الطفولية إذا استمرت مع الإنسان ولم تتطور، فإنها تتحول إلى حالة عامية مستعصية، ولذا ترى أصحابها يميلون إلى الإعتقاد بأن الله تعالى جسم، ويروون عنه القصص والخيالات!

وقد كانت هذه (العامية) سائدة في مجتمع اليهود الذي انحرف عن رسالات أنبيائه، وكذا في مجتمع العرب الوثني، وصارت أرضية لتقبل نظريات الرؤية والتشبيه والتجسيم من اليهود، وترويجها بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والتنظير لها! حتى أن بعض

١٧٦

الحنابلة والأشعريين كابن عقيل والذهبي ادعيا أن الإسلام دين عوامي يتبنى منهج العوامية!

قال الذهبي في سيره ج ١٩ ص ٤٤٨: قال ابن عقيل في الفنون: الأصلح لاعتقاد العوام ظواهر الآي، لأنهم يأنسون بالإثبات، فمتى محونا ذلك من قلوبهم زالت الحشمة. قال: فتهافتهم في التشبيه أحب إلينا من إغراقهم في التنزيه، لأن التشبيه يغمسهم في الإثبات فيخافون ويرجون، والتنزيه يرمي بهم إلى النفي، فلا طمع ولا مخافة في النفي. ومن تدبر الشريعة رآها غامسة للمكلفين في التشبيه بالألفاظ الظاهرة التي لا يعطي ظاهرها سواه كقول الأعرابي: أو يضحك ربنا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فلم يكفهر لقوله وتركه وما وقع له! انتهى.

وقد تبنى الذهبي هذا الإتجاه الخطير وأشاد بأهله! وبلغ به الأمر أنه نقل كلام أبي حاتم بن خاموش الذي كفر فيه كل المسلمين ما عدا الحنابلة ولم يعلق عليه، قال في سيره ج ١٨ ص ٥٠٧:

قال ابن طاهر: وسمعت أبا إسماعيل يقول: قصدت أبا الحسن الخرقاني الصوفي، ثم عزمت على الرجوع، فوقع في نفسي أن أقصد أبا حاتم بن خاموش الحافظ بالري وألتقيه، وكان مقدم أهل السنة بالري، وذلك أن السلطان محمود بن سبكتكين لما دخل الري، وقتل بها الباطنية منع الكل من الوعظ غير أبي حاتم، وكان من دخل الري يعرض عليه اعتقاده فإن رضيه أذن له في الكلام على الناس وإلا فمنعه، قال: فلما قربت من الري كان معي رجل في الطريق من أهلها فسألني عن مذهبي فقلت: حنبلي، فقال: مذهب ما سمعت به وهذه بدعة وأخذ بثوبي، وقال: لا أفارقك إلى الشيخ أبي حاتم، فقلت خيرة، فذهب بي إلى داره، وكان له ذلك اليوم مجلس عظيم، فقال: هذا سألته عن مذهبه، فذكر مذهباً لم أسمع به قط. قال: وما قال؟ فقال قال: أنا حنبلي. فقال: دعه، فكل من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم. فقلت في نفسي: الرجل كما وصف لي، ولزمته أياماً وانصرفت. انتهى.

١٧٧

وقال الناشر عما وجده في المخطوطة: (في حاشية الأصل بخط مغاير ما نصه: أخطأ هذا القائل قطعاً والمقول له في تصويبه ذلك وكذلك المادح له، بل لو قيل: إن قائل هذه المقالة يكفر بها لم يبعد، لأنه نفى الإسلام عن عالم عظيم من هذه الأمة ليسوا بحنابلة، بل هم الجمهور الأعظم، ولقد بالغ المصنف في هذا الكتاب في تعظيم رؤوس التجسيم، وسياق مناقبهم، والتغافل عن بدعهم، بل يعدها سنة. ويهضم جانب أهل التنزيه، ويعرض بهم أو يصرح، ويتغافل عن محاسنهم العظيمة وآثارهم في الدين، كما فعل في ترجمة إمام الحرمين والغزالي، والله حسيبه، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). انتهى.

وقد كان العوام الرعاع في كل جيل يتعصبون للقول بالتشبيه ولمن يقول به، ويؤيدونه ضد خصومه بأساليب خشنة عدوانية! فقد روى ابن بطوطة في رحلته ج ١ ص ٩٠ إحدى مشاهداته فقال:

(وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام، يتكلم في الفنون إلا أن في عقله شيئاً.. وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعه وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل ربعة من ربع المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً، حتى سقطت عمامته وظهر على رأسه شاشية حرير) انتهى.

وبقى هذا السلوك العوامي لأصحاب الرؤية والتجسيم، إرثاً موروثاً من قرون الإسلام الأولى! بل زاد عليه الأشعريون والمجسمة والدولة في ابتكار أساليب القمع والإرهاب للذين يخالفونهم، كما عرفت في موقفهم من التأويل والمتأولة، وكما فعلوا مع الطبري المؤرخ لأنه لم يوافقهم على أن الله تعالى يجلس على عرشه، فيفضل منه أربع أصابع ليجلس عليها الأنبياء إلى جنبه! قال الحموي في معجم الأدباء ج ٩ جزء ١٨ ص ٥٧ في ترجمة الطبري:

١٧٨

فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص وجعفر بن عرفة والبياضي. وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة وعن حديث الجلوس على العرش. فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافه. فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الإختلاف، فقال: ما رأيته روي عنه، ولا رأيت له أصحاباً يعول عليهم. وأما حديث الجلوس على العرش فمحال ثم أنشد:

سبحان من ليس له أنيس

ولا له في عرشه جليس

فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم، وقيل كانت ألوفاً فقام أبوجعفر بنفسه ودخل داره فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم.... إلى آخر القصة التي سنذكرها في مكانة المجسمين في مصادر إخواننا....

- وقال ابن قيم الجوزية في بدائع الفوائد ج ٤ ص ٣٩

قال القاضي: صنف المروزي كتاباً في فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه إقعاده على العرش وهو قول أبي داود وأحمد بن أصرم.... وعبد الله بن الإمام أحمد.... إلخ. ثم قال ابن القيم: قلت: وهو قول ابن جرير الطبري وإمام هؤلاء كلهم مجاهد إمام التفسير. انتهى.

ولم يذكر ابن القيم عمن أخذه مجاهد، ولا ذكر إهانة الحنابلة للطبري وإجبارهم إياه على القول بذلك!

- وقال ابن خلدون في تاريخه ج ٤ ص ٤٧٧

كانت مدينة بغداد قد احتفلت في كثرة العمران بما لم تنته إليه مدينة في العالم منذ مبدأ الخليقة فيما علمناه، واضطربت آخر الدولة العباسية بالفتن وكثر فيها المفسدون والدعار والعيارون من الرها، وأعيا على الحكام أمرهم، وربما أركبوا العساكر لقتالهم ويثخنون فيهم، فلم يحسم ذلك من عللهم شيئاً، وربما حدثت

١٧٩

الفتن من أهل المذاهب ومن أهل السنة والشيعة من الخلاف في الإمامة ومذاهبها، وبين الحنابلة والشافعية وغيرهم من تصريح الحنابلة بالتشبية في الذات والصفات ونسبتهم ذلك إلى الإمام أحمد وحاشاه منه، فيقع الجدال والنكير ثم يفضي إلى الفتنة بين العوام، وتكرر ذلك منذ حُجِرَ الخلفاء، ولم يقدر بنو بويه ولا السلجوقية على حسم ذلك منها، لسكنى أولئك بفارس وهؤلاء بأصبهان وبُعْدِهِم عن بغداد، والشوكة التي تكون بها حسم العلل لاتفاقهم، وإنما تكون ببغداد شحنة (حامية عسكرية) تحسم ما خف من العلل ما لم ينته إلى عموم الفتنة.

....لم يحصل من ملوكهم اهتمام لحسم ذلك لاشتغالهم بما هو أعظم منه في الدولة والنواحي، وعامة بغداد أهون عليهم من أن يصرفوا همتهم عن العظائم إليهم، فاستمرت هذه العلة ببغداد ولم تقلع عنها، إلى أن اختلفت جدتها وتلاشى عمرانها، وبقي طراز في ردائها لم تذهبه الأيام!!

- وقال ابن كثير في البداية والنهاية ج ١٢ ص ١٤٣

ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة قال ابن الجوزي.... وفي شوال منها وقعت فتنة بين الحنابلة وبين فقهاء النظامية، وحمي لكل من الفريقين طائفة من العوام، وقتل بينهم نحو من عشرين قتيلاً، وجرح آخرون ثم سكنت الفتنة.

- وقال الصديق المغربي في فتح الملك العلي ص ٩٥

وقال ابن قتيبة في اختلاف الحديث: الحديث يدخله الفساد من وجوه ثلاثة: الزنادقة واحتيالهم للإسلام بدس الأحاديث المستبشعة والمستحيلة. والقصاص فإنهم يميلون وجوه العوام إليهم ويستدرون ما عندهم بالمناكير وغرائب الأحاديث، ومن شأن العوام ملازمة القصاص ما دام يأتي بالعجائب الخارجة عن نظر العقول.

وقال ابن الجوزي في الموضوعات: معظم البلاء في وضع الحديث إنما يجري من القصاص لأنهم يريدون أحاديث ترقق وتنفق، والصحيح فيها يقل.

ويحكى عن أبي عبد الله النهاوندي أنه قال: قلت لغلام خليل: هذه الأحاديث

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394