آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ٢

آلاء الرحمن في تفسير القرآن37%

آلاء الرحمن في تفسير القرآن مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 152

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 152 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65844 / تحميل: 5827
الحجم الحجم الحجم
آلاء الرحمن في تفسير القرآن

آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

تشير الآية (٢٥٧) من سورة البقرة إلى هذا الموضوع فتقول :( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

وبما أنّ العين المبصرة وحدها لا تكفي لتحقّق الرؤية ، فيجب توفّر النور والإضاءة أيضا لكي يستطيع الإنسان ـ الإبصار بمساعدة هذين العاملين ـ تضيف الآية التالية :( وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ) .

لأنّ الظلام منشأ الضلال ، الظلام سبب السكون والركود ، الظلام مسبّب لكلّ أنواع المخاطر ، أمّا النور والضياء فهو منشأ الحياة والمعيشة والحركة والرشد والنمو والتكامل ، فلو زال النور لتوقّفت كلّ حركة وتلاشت جميع الطاقات في العالم ، ولعمّ الموت العالم المادّي ـ بأسره ، وكذلك نور الإيمان في عالم المعنى ، فهو سبب الرشد والتكامل والحياة والحركة.

ثمّ تضيف الآية( وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ) فالمؤمن من يستظلّ في ظلّ إيمانه بهدوء وأمن وأمان ، أنمّا الكافر فلكفره يحترق بالعذاب والألم.

يقول «الراغب» في مفرداته : الحرور : (على وزن قبول) الريح الحارّة. واعتبرها بعضهم «ريح السموم» وبعضهم قال بأنّها «شدّة حرارة الشمس».

ويقول «الزمخشري» في الكشّاف : «السموم يكون بالنهار ، والحرور بالليل والنهار ، وقيل بالليل خاصّة»(١) ، على أيّة حال ، فأين الحرور من الظلّ البارد المنعش الذي يبعث الارتياح في روح وجسم الإنسان.

ثمّ يقول تعالى في آخر تشبيه :( وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ) . المؤمنون حيويون ، سعاة متحرّكون ، لهم رشد ونمو ، لهم فروع وأوراق وورود وثمر ، أمّا الكافر فمثل الخشبة اليابسة ، لا فيها طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظلّ لها ، ولا تصلح إلّا حطبا للنار.

__________________

(١) الكشّاف ، الجزء ٣ ، ص ٦٠٨.

٦١

في الآية (١٢٢) من سورة الأنعام نقرأ :( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) .

وفي ختام الآية يضيف تعالى :( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ) لكي يسمع دعوة الحقّ ويلبّي نداء التوحيد ودعوة الأنبياء( وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .

فمهما بلغ صراخك ، ومهما كان حديثك قريبا من القلب ، ومهما كان بيانك معبّرا ، فإنّ الموتى لا يسعهم إدراك شيء من ذلك ، ومن فقد الروح الإنسانية نتيجة الإصرار على المعاصي ، وغرق في التعصّب والعناد والظلم والفساد ، فبديهي أنّ ليس لديه الاستعداد لقبول دعوتك.

وعليه فلا تقلق من عدم إيمانهم ، ولا تجزع ، فليس عليك من وظيفة إلّا الإبلاغ والإنذار( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ) .

* * *

بحوث

١ ـ آثار الإيمان والكفر

نعلم أنّ القرآن لا يعير اهتماما للحواجز الجغرافية والعرقية والطبقية وأمثالها ممّا يفرّق بين الناس ، فالقرآن الكريم يعتبر أنّ الحدّ هو الحدّ بين [الإيمان والكفر] ، وعليه فإنّه يقسّم المجتمع البشري إلى قسمين «المؤمنين» و «الكافرين».

ولتعريف «الإيمان» شبّهه القرآن الكريم بـ «النور» ، كما أنّه شبّه الكفر بـ «الظلام» وهذا التشبيه أحسن مؤشّر على ما يستخلصه القرآن الكريم من مسألة الكفر والإيمان(١) .

فالإيمان نوع من الإحساس والنظرة الباطنية ، ونوع من العلم والمعرفة متوائمة

__________________

(١) راجع الآيات ٢٥٧ : البقرة ، ١٥ : المائدة ، ١٦ : المائدة ، ١ و ٥ : إبراهيم ، ٢٢ : الزمر ، ٩ : الحديد ، ١١ : الطلاق.

٦٢

مع عقيدة قلبية وحركة ، ونوع من التصديق الذي ينفذ في أعماق روح الإنسان ليكون منبعا لكلّ الفعّاليات البنّاءة.

أمّا الكفر ، فجهل وعدم معرفة وتكذيب يؤدّي إلى تبلّد ، بل فقدان الإحساس بالمسؤولية ، كما يؤدّي إلى كلّ أنواع الحركات الشيطانية والتخريبية.

كذلك نعلم أيضا بأنّ «النور» منشأ لكلّ حياة وحركة ونمو ورشد في الحياة ، بالنسبة إلى الإنسان والحيوان والنبات ، على عكس الظلام فهو عامل الصمت والنوم والموت والفناء في حال استمراره. لذا فلا عجب حينما يشبه القرآن الكريم «الإيمان والكفر» «بالنور والظلمة» تارة و «بالحياة والموت» تارة اخرى ، وفي مكان آخر يشبّههما (بالظلّ الظليل والريح السموم) ، أو حينما يشبّه (المؤمن والكافر) (بالبصير والأعمى). وقد أوضحنا كلّ ما يتعلّق بهذه التشبيهات الأربعة.

ولا نبتعد كثيرا ، فعند ما نجالس (مؤمنا) نحسّ أثر ذلك النور في كلّ وجوده ، أفكاره تنير لمن حوله ، وحديثه مليء بالإشراق ، أعماله وأخلاقه تعرّفنا حقيقة الحياة وحياة الحقيقة.

أمّا الكافر فكلّ وجوده مليء بالظلمة ، لا يفكّر إلّا بمنافعه الماديّة وكيفية الترقّي في الحياة الماديّة ، أفقه وفضاء فكره لا يتجاوز حدود حياته الشخصية ، غارق في الشهوات ، لا يدفع روح وقلب جليسه إلّا إلى أمواج الظلمات.

وعليه فإنّ ما أوضحه القرآن في هذه الآيات ، قابل للإدراك والتعقّل بشكل محسوس وملموس.

٢ ـ هل أنّ الموتى واقعا لا يدركون؟

من ملاحظة ما ورد في الآيات أعلاه ، يطرح هنا سؤالان :

الأوّل : كيف يقول تعالى في القرآن الكريم مخاطبا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) ؟ مع أنّه جاء في الحديث المعروف أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٦٣

أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طويّ من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلمّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته ، فشدّ عليها رحلها ثمّ مشى واتّبعه أصحابه وقالوا : ما نراه ينطلق إلّا لبعض حاجته ، حتّى قام على شفة الركي مجفل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسّركم أنّكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ قال : فقال عمر : يا رسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والّذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»(١) .

أو ما ورد في آداب دفن الموتى من تلقينهم عقائد الحقّ.

فكيف يمكن التوفيق بين هذه الأمور والآيات مورد البحث أعلاه.

يتّضح الجواب على هذا السؤال إذا أخذنا بنظر الإعتبار ما يلي : إنّ الحديث في الآيات كان حول عدم إدراك الموتى بالشكل الطبيعي والاعتيادي ، أمّا الرواية التي ذكرناها أو تلقين الميّت فإنّما ترتبط بظروف خاصّة وغير عاديّة ، حيث أنّ الله سبحانه مكّن حديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الحالة من الوصول إلى أسماع الموتى.

وبتعبير آخر فإنّ الإنسان في عالم البرزخ ينقطع ارتباطه مع عالم الدنيا ، إلّا في الموارد التي يأذن الله فيها أن يوصل هذا الارتباط ، ولذا فإنّنا لا نستطيع عادة الاتّصال بالموتى في الظروف العادية.

السؤال الآخر : هو إذا كان حديثنا غير بالغ أسماع الموتى فما معنى لسلامنا على الرّسول الأكرم والأئمّةعليهم‌السلام والتوسّل بهم ، وزيارة قبورهم ، وطلب الشفاعة منهم عند الله؟

__________________

(١) تفسير «روح البيان» ذيل الآيات مورد البحث : وورد هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري بتفاوت يسير (صحيح البخاري ، الجزء الخامس ، ص ٩٧ باب قتل أبي جهل).

٦٤

وقد استندت جماعة من الوهّابيين المعروفين بجمودهم الفكري على هذا التوهّم الباطل ، وبالتمسّك بظواهر الآيات القرآنية ، دون الاهتمام بمحتواها العميق ، أو الالتفات إلى الأحاديث الشريفة الكثيرة الواردة في هذا المجال ، سعوا إلى نفي وردّ مفهوم «التوسّل» وإثبات بطلانه.

الجواب على هذا السؤال أيضا يتّضح ممّا ذكرناه كمقدّمة في الإجابة على السؤال الأوّل ، من أنّ التعامل مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولياء الله يختلف عنه مع الآخرين ، فهؤلاء كالشهداء (بل إنّهم يحتلّون الصفّ الأوّل أمام الشهداء) وهم أحياء وخالدون ، وهم مصداق لقوله :( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ، وبأمر من الله فإنّهم يحتفظون بارتباطهم بهذا العالم ، كما أنّهم يستطيعون وهم في هذه الدنيا أن يتّصلوا بالموتى ـ كما في حالة قتلى بدر ـ.

استنادا إلى ذلك نقرأ في روايات كثيرة وردت في كتب الفريقين أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام يسمعون سلام من يسلّم عليهم سواء كان قريبا أو بعيدا ، بل إنّ أعمال الامّة تعرض عليهم(١) .

الجدير بالملاحظة أنّنا مأمورون بالسلام على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التشهّد الأخير للصلوات اليومية ، وهذا إعتقاد المسلمين عامّة ، أعمّ من كونهم شيعة أو سنّة ، فكيف يمكن مخاطبة من لا يمكنه السماع أصلا؟

كذلك وردت روايات متعدّدة في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ، عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لقّنوا موتاكم لا إله إلّا الله»(٢) .

كذلك وردت الإشارة في نهج البلاغة إلى مسألة الارتباط مع أرواح الموتى ، فعند ما كان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال راجعا من صفّين أشرف

__________________

(١) كشف الارتياب ، ص ١٠٩ ـ كذلك فقد أشرنا إلى روايات (عرض الأعمال) عند تفسير الآية (١٠٥) من سورة التوبة ـ راجع المجلّد السادس من هذا التّفسير.

(٢) صحيح مسلم ، كتاب الجنائز ، حديث ١ و ٢ (المجلّد ٢ ، صفحة ٦٣١).

٦٥

على القبور بظاهر الكوفة : «يا أهل الديار الموحشة إلى أن قال : أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى»(١) .

٣ ـ تنويع التعبيرات جزء من الفصاحة

لوحظ في التشبيهات الأربعة الواردة في الآيات أعلاه ، تعبيرات متفاوتة تماما مثلا (أعمى ـ بصير) و (ظلّ ـ حرور) جاءت بصورة المفرد في حال أنّ (أحياء ـ أموات) بصورة الجمع ، وجاءت (ظلمات ـ نور) بصورة جمع والثانية بصورة مفرد هذا من جانب.

ومن جانب آخر فقد قدمت التشبيهات ذات المنحى السلبي على غيرها في التشبيه الأوّل والثاني (أعمى ـ ظلمات) في حال قدمت التشبيهات ذات المنحى الإيجابي في التشبيه الثالث والرابع (ظلّ ـ أحياء).

ومن جانب ثالث تكرّرت أداة النفي في التشبيهات الثاني والثالث والرابع في حين أنّها لم تتكرّر في التشبيه الأوّل.

وأخيرا ، فإنّ جملة( ما يَسْتَوِي ) وردت فقط في التشبيه الأوّل والأخير ، ولا أثر لها في التشبيهات الاخرى.

بعض المفسّرين علّلوا هذه الاختلافات بتعليلات كثيرة بعضها جدير بالاهتمام وبعضها الآخر مورد مساءلة.

وضمن جملة التعليلات اللطيفة أنّ جمع «الظلمات» وإفراد «النور» للتدليل على أنّ الظلمة ـ التي تعني الكفر ـ ذات تشعّبات كثيرة ، بينما حقيقة «الإيمان» والتوحيد واحدة ليس إلّا. فالإيمان كالخطّ المستقيم الذي يوصل بين نقطتين لا وجود لسواه بينهما ، في حين أنّ ظلمة الكفر مثل آلاف الآلاف من الخطوط المتعرّجة المنحرفة التي يمكن إيجادها بين نقطتين.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، جملة ١٣٠.

٦٦

كذلك فإنّ تقديم التشبيهات ذات المنحى السلبي في المثالين الأوّليين إنّما هو للإشارة إلى الإسلام نقل الناس من الجاهلية وظلمات الشرك إلى نور الهداية.

وأمّا المثالان الأخيران فإشارة إلى المراحل الاخرى التي أحكم الإسلام فيها جذوره في القلوب ، ووسّع المناحي الإيجابية في المجتمع.

وإذا تجاوزنا كل ذلك فإنّ التنوّع أصلا في البيان يمنح الحديث طراوة وروحا خاصّة ، ممّا يجعل ذلك مؤثّرا وجميلا وجذّابا ، في حال إنّ التكرار على نمط واحد يسلب الحديث لطافته ـ إلّا في موارد استثنائية ـ وبناء على هذا فإنّ الفصحاء والبلغاء يسعون دائما إلى تنويع تعبيراتهم وجعلها مؤثّرة ، ونعلم أنّ القرآن على أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.

وعليه ، فلو لم يكن غير مراعاة الفصاحة أمر آخر لكفى ، مع أنّ من الممكن أن يتوصّل غيرنا من الأجيال القادمة إلى كشف أسرار اخرى غير ما ذكرنا ممّا هو محجوب عنّا الآن.

* * *

٦٧

الآيات

( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) )

التّفسير

لا عجب من عدم إيمان :

توصّلنا في الآيات السابقة إلى أنّ هناك أفرادا كالأموات والعميان لا تترك مواعظ الأنبياء في قلوبهم أدنى أثر ، وعلى ذلك فإنّ الآيات مورد البحث تقصد مواساة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الخصوص وتخفيف آلامه لكي لا يغتمّ كثيرا.

أوّلا تقول الآية الكريمة :( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) . فيكفيك من أداء وظيفتك أن لا تقصّر فيها ، أوصل نداءك إلى مسامعهم ، بشّرهم بثواب الله ، وأنذرهم عقابه ، سواء استجابوا ولم يستجيبوا.

الملفت للنظر أنّه تعالى قال في آخر آية من الآيات السابقة مخاطبا الرّسول الأكرم( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ) ، ولكنّه في الآية الاولى من هذه الآيات يقول :( إِنَّا

٦٨

أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ) إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقوم بهذا العمل من عند نفسه ، وإنّما هو مأمور من قبل الله تعالى.

وإذا كانت الآية السابقة قد ركّزت على الإنذار فقط ، فلأنّ الحديث كان حول الجاهلين المعاندين الذين هم كالأموات المقبورين الذين لا يتقبّلون أي حديث ، أمّا هذه الآية فإنّها توضّح بشكل كامل ، وظيفة الأنبياء الثنائية الهدف «البشارة» و «الإنذار» ، مؤكّدة في آخرها من جديد على «الإنذار» لأنّ الإنذار هو القسم الأساس من دعوة الأنبياء في قبال المشركين والظلمة.

«خلا» : من (الخلاء) وهو المكان الذي لا ساتر فيه من بناء ومساكن وغيرهما ، والخلوّ يستعمل في الزمان والمكان ، ولأنّ الزمان في مرور ، قيل عن الأزمنة الماضية «الأزمنة الخالية» لأنّه لا أثر منها ، وقد خلت الدنيا منها.

وعليه فإنّ جملة( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) بمعنى أن كلّ امّة من الأمم السالفة كان لها نذير.

الجدير بالملاحظة ، طبقا للآية أعلاه ، أنّ كلّ الأمم كان فيها نذير إلهي ، أي كان فيها نبي ، مع أنّ البعض تلقّي ذلك بمعنى أوسع ، بحيث يشمل العلماء والحكماء الذين ينذرون الناس أيضا ، ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر الآية.

على كلّ حال ، فليس معنى هذا الكلام أن يبعث في كلّ مدينة أو منطقة رسول ، بل يكفي أن تبلّغ دعوة الرسل وكلامهم أسماع المجتمعات المختلفة ، إذ أنّ القرآن يقول :( خَلا فِيها نَذِيرٌ ) ولم يقل «خلا منها نذير».

وعليه فلا منافاة بين هذه الآية التي تقصد وصول دعوة الأنبياء إلى الأمم ، مع الآية (٤٤) من سورة سبأ والتي تقول :( وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ) والتي يقصد منها كون المنذر منهم.

ويضيف تعالى في الآية التالية :( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ) فلا عجب من ذلك ، ولا تحزن بسبب ذلك ، لأنّه( فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ

٦٩

وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ ) .

فلست وحدك الذي أصبحت موضع تكذيب هؤلاء القوم الجاهلين بما عندك من معجزات وكتاب سماوي ، فقد واجه الرسل السابقون هذه المشكلة أيضا ، لذا فلا تغتمّ وواصل سيرك بحزم ، واعلم أنّ من كتبت له الهداية فسوف يهتدي.

أمّا ما هو الفرق بين (البيّنات ـ والزبر ـ والكتاب المنير)؟ المفسّرين أظهروا وجهات نظر مختلفة ، أوضحها تفسيران :

١ ـ «البيّنات» بمعنى الدلائل الواضحة والمعجزات التي تثبت حقّانية النبي ، أمّا «الزبر» فجمع «زبور» بمعنى الكتب التي كتبت بإحكام (مثل الكتابة على الحجر وأمثالها) وهي كناية عن استحكام مطالبها(١) . وإشارة إلى الكتب النازلة قبل موسىعليه‌السلام . في حين أنّ «الكتاب المنير» إشارة إلى كتاب موسىعليه‌السلام والكتب السماوية الاخرى التي نزلت بعده ، (لأنّه وردت الإشارة في القرآن المجيد في سورة المائدة ـ الآيات ٤٤ و ٤٦ إلى التوراة والإنجيل على أنّهما (هدى ونور وفي نفس السورة ـ الآية ١٥ عبّر عن القرآن الكريم بالنور أيضا).

٢ ـ المقصود بـ «الزبر» ذلك القسم من كتب الأنبياء التي تحتوي على العبرة والموعظة والنصيحة والمناجاة (كزبور داود) ، وأمّا «الكتاب المنير» فتلك المجموعة من الكتب السماوية التي تحتوي على الأحكام والقوانين والتشريعات الاجتماعية والفردية المختلفة مثل التوراة والإنجيل والقرآن. ويبدو أنّ هذا التّفسير أنسب.

تشير الآية الأخيرة من هذه الآيات إلى العقاب الأليم لتلك المجموعة فتقول :( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) فهم لم يكونوا بمنأى عن العقاب الإلهي ، وإن

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : زبرت الكتاب كتبته كتابة عظيمة ، وكلّ كتاب غليظ يقال له زبور.

(٢) (أخذت) من مادّة (أخذ) بمعنى حيازة الشيء وتحصيله ، لكنّها هنا كناية عن المجازاة ، لأنّ الأخذ مقدّمة للعقاب.

٧٠

استطاعوا أن يستمروا بتكذيبهم إلى حين.

فبعض عاقبناهم بالطوفان ، وبعض بالريح العاصفة المدمّرة ، وآخرون بالصيحة والصاعقة والزلزلة.

أخيرا لتأكيد وبيان شدّة وقسوة العقوبة عليهم يقول :( فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) ذلك تماما مثلما يقوم شخص بإنجاز عمل مهمّ ثمّ يسأل الحاضرين : كيف كان عملي؟

على أيّة حال فإنّ هذه الآيات تواسي وتطمئن من جانب كلّ سالكي طريق الله والقادة والزعماء المخلصين منهم بخاصّة ، من كلّ امّة وفي أي عصر وزمان ، لكي لا ييأسوا ولا يفقدوا الأمل عند سماعهم استنكار المخالفين ، ولكي يعلموا أنّ الدعوات الإلهية واجهت دائما معارضة شديدة من قبل المتعصّبين الجاحدين الظلمة ، وفي نفس الوقت وقف المحبّون العاشقون المتولّهون إلى جنب دعاة الحقّ وفدوهم بأنفسهم أيضا.

ومن جانب آخر فهي تهديد للمعاندين الجاحدين ، لكي يعلموا أنّهم لن يستطيعوا إدامة أعمالهم التخريبية القبيحة إلى الأبد ، فعاجلا أو آجلا ستحيط بهم العقوبة الإلهية.

* * *

٧١

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) )

التّفسير

العجائب المختلفة للخلقة :

مرّة اخرى تعود هذه الآيات إلى مسألة التوحيد ، وتفتح صفحة جديدة من كتاب التكوين أمام ذوي البصائر من الناس ، لكي ترد بعنف على المشركين المعاندين ومنكري التوحيد المتعصّبين.

لفتت هذه الصفحة المشرقة من كتاب الخلق العظيم إلى تنوّع الجمادات والمظاهر المختلفة والجميلة للحياة في عالم النبات والحيوان والإنسان ، وكيف جعل الله سبحانه من الماء العديم اللون الآلاف من الكائنات الملوّنة ، وكيف خلق من عناصر معيّنة ومحدودة موجودات متنوّعة أحدها أجمل من الآخر.

فهذا النقاش الحاذق أبدع بقلم واحد وحبر واحد أنواع الرسوم والأشكال التي

٧٢

تجذب الناظرين وتحيّرهم وتدهشهم.

أوّلا تقول الآية الكريمة :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ) .

شروع هذه الجملة بالاستفهام التقريري ، وبتحريك حسّ التساؤل لدى البشر ، إشارة إلى أنّ هذا الموضوع جلي إلى درجة أنّ أي شخص إذا نظر أبصر ، نعم ، يبصر هذه الفواكه والزهور الجميلة والأوراق والبراعم المختلفة بأشكال مختلفة تتولّد من ماء وتراب واحد.

«ألوان» : قد يكون المراد «الألوان الظاهرية للفواكه» والتي تتفاوت حتّى في نوع الفاكهة الواحد كالتفّاح الذي يتلوّن بألوان متنوعة ناهيك عن الفواكه المختلفة. وقد يكون كناية عن التفاوت في المذاق والتركيب والخواص المتنوّعة لها ، إلى حدّ أنّه حتّى في النوع الواحد من الفاكهة توجد أصناف متفاوتة ، كما في العنب مثلا حيث أنّه أكثر من ٥٠ نوعا ، والتمر أكثر من سبعين نوعا.

والملفت للنظر هو استخدام صيغة الغائب في الحديث عنهعزوجل ، ثمّ الانتقال إلى صيغة المتكلّم ، وهذا النوع من التعابير ، غير منحصر في هذه الآية فقط ، بل يلاحظ في مواضع اخرى من القرآن المجيد أيضا ، وكأنّ الجملة الاولى تعطي للمخاطب إدراكا ومعرفة جديدة ، وتستحضره بهذا الإدراك والمعرفة بين يدي الباريعزوجل ، ثمّ عنده حضوره يلقى عليه الحديث مباشرة.

ثمّ تشير الآية إلى تنوّع أشكال الجبال والطرق الملوّنة التي تمرّ من خلالها وتؤدّي إلى تشخيصها وتفريقها الواحدة عن الاخرى. فتقول :( وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ ) (١) .

هذا التفاوت اللوني يضفي على الجبال جمالا خاصّا من جهة ، ومن جهة

__________________

(١) قال البعض بأنّ هذه الجملة الاستئنافية «من الجبال» خبر مقدّم و «جدد» مبتدأ مؤخّر ، وذهب آخرون : إنّ تقدير الجملة هكذا «ألم تر أنّ من الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها».

٧٣

اخرى ، يكون سببا لتشخيص الطرق وعدم الضياع فيما بين طرقها المليئة بالالتواءات والانحدارات ، وأخيرا فهو دليل على أنّ الله على كلّ شيء قدير.

«جدد» جمع «جدّة» ـ على وزن غدّة ـ بمعنى الجادّة والطريق.

«بيض» جمع «أبيض» كما أنّ «حمر» جمع «أحمر» وهو إشارة إلى الألوان.

«غرابيب» جمع «غربيب» ـ على وزن كبريت ـ وهو المشبّه للغراب في السواد ، كقولك أسود كحلك الغراب. وعليه فإنّ ذكر كلمة «سود» بعدها والتي هي أيضا جمع «أسود» تأكيد على شدّة وحلك السواد في بعض الطرق الجبلية(١) .

واحتمل أيضا أن يكون التّفسير : ألم تر أنّ الجبال نفسها مثل طرائق بيضا وحمرا وسودا مختلفا ألوانها خطّت على سطح الأرض ، وخاصّة إذا نظر إليها الشخص من فاصلة بعيدة ، فانّها ترى على شكل خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض وحمر وسود مختلف ألوانها(٢) .

على كلّ حال فإنّ تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة ، وتلوين الطرق الجبلية بألوان متفاوتة ، من جهة اخرى ، دليل آخر على عظمة وقدرة وحكمة الله سبحانه وتعالى والتي تتجلّى وتتزيّن كلّ آن بشكل جديد.

وفي الآية التالية تطرح مسألة تنوّع الألوان في البشر والأحياء الاخرى ، فيقول تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) .

أجل ، فالبشر مع كونهم جميعا لأب وأمّ واحدين ، إلّا أنّهم عناصر وألوان متفاوتة تماما ، فالبعض أبيض البشرة كالوفر ، والبعض الآخر أسود كالحبر ، وحتّى في العنصر الواحد فإنّ التفاوت في اللون شديد أيضا ، بل إنّ التوأمين الذين يطويان المراحل الجنينية معا ، واللذين يحتضن أحدهما الآخر منذ البدء ، إذا دقّقنا

__________________

(١) استنادا إلى ما صرّحت به بعض كتب اللغة كلسان العرب فإنّ (سود) في الآية أعلاه هي بدل عن «غرابيب» لأنّه في حالة الألوان لا يقدّم التأكيد ، لاحظ أنّ (غرابيب) أكثر إشباعا للتأكيد من ناحية السواد ، لذا قيل إنّ الأصل كان «سود غرابيب».

(٢) تفسير الميزان ، مجلّد ١٧ ، صفحة ٤٢.

٧٤

النظر نجدهما ليسا من لون واحد ، مع أنّهما من نفس الأبوين ، وتمّ انعقاد نطفتيهما في وقت واحد ، وتغذّيا من غذاء واحد.

ناهيك عن التفاوت والاختلاف الكامل في بواطنهم عدّ أشكالهم الظاهرية ، وفي خلقهم ورغباتهم وخصوصيات شخصياتهم واستعداداتهم وذوقهم ، بحيث يتكوّن بذلك كيان مستقل منسجم بكلّ احتياجاته الخاصّة.

في عالم الكائنات الحيّة أيضا يوجد آلاف الآلاف من أنواع الحشرات ، الطيور ، الزواحف ، الحيوانات البحرية ، الوحوش الصحراوية ، بكلّ خصائصها النوعية وعجائب خلقتها. كدلالة على قدرة وعظمة وعلم خالقها.

حينما نضع قدمنا في حديقة كبيرة من حدائق الحيوان فسوف نصاب بالذهول والحيرة والدهشة بحيث أنّنا ـ بلا وعي منّا ـ نتوجّه بالشكر والثناء لله المبدع لكلّ هذا الفن الخلّاب على صفحة الوجود. مع أنّنا لا نرى أمامنا في تلك الحديقة إلّا جزء من آلاف الأجزاء من الموجودات الحيّة في العالم.

وبعد عرض تلك الأدلّة التوحيدية يقول تعالى في الختام جامعا : نعم إنّ الأمر كذلك( كَذلِكَ ) (١) .

ولأنّ إمكانية الانتفاع من آيات الخلق العظيمة هذه تتوفّر أكثر عند العباد العقلاء والمفكّرين يقول تعالى في آخر الآية :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

نعم فالعلماء من بين جميع العباد ، هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية «وهي الخوف من المسؤولية متوافق مع إدراك لعظمة الله سبحانه» ، حالة (الخشية) هذه تولّدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية ، والتعرّف على حقيقة علم وقدرة الله وغاية الخلق.

__________________

(١) حول ما هو إعراب «كذلك» أعطيت احتمالات عديدة ، بعضهم قالوا بأنّها جملة مستقلّة تقديرها (الأمر كذلك) ونحن انتخبنا في تفسيرنا هذا المعنى لكونه الأنسب ، ولكن البعض ربطوها بالجملة السابقة فقالوا : إنّ المعنى هو كما أنّ الثمرات وجدد الجبال مختلف ألوانها كذلك الناس والدواب والأنعام ، وقد احتمل أيضا أن تكون الجملة مرتبطة بما بعدها والمعنى : كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.

٧٥

الراغب في مفرداته يقول : «الخشية خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ، ولذلك خصّ العلماء بها».

قلنا تكرارا بأنّ الخوف من الله بمعنى الخوف من المسؤولية التي يواجهها الإنسان ، الخوف من أن يقصّر في أداء رسالته ووظيفته ، ناهيك عن أنّ إدراك جسامة تلك المسؤولية يؤدّي أيضا إلى الخشية ، لأنّ الله المطلق قد عهد بها إلى الإنسان المحدود الضعيف ، (تأمّل بدقّة)!!

كذلك يستفاد من هذه الجملة ضمنا بأنّ العلماء الحقيقيين هم أولئك الذين يستشعرون المسؤولية الثقيلة حيال وظائفهم ، وبتعبير آخر : أهل عمل لا كلام ، إذ أنّ العلم بدون عمل دليل على عدم الخشية ، ومن لا يستشعر الخشية لا تشمله الآية أعلاه.

هذه الحقيقة وردت في حديث عن الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام حيث يقول : «وما العلم بالله والعمل إلّا إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه ، وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله ، وإنّ أرباب العلم وأتباعهم (هم) الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه ، وقد قال الله :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) »(١) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية «يعني بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم»(٢) .

وفي حديث آخر جاء «أعلمكم بالله أخوفكم لله»(٣) .

ملخّص القول أنّ العلماء ـ بالمنطق القرآني ـ ليسوا أولئك الذين تحوّلت أدمغتهم إلى صناديق للآراء والأفكار المختلفة من هنا وهناك ومليئة بالقوانين والمعادلات العلميّة للعالم وتلهج بها ألسنتهم ، أو الذين سكنوا المدارس

__________________

(١) روضة الكافي ، طبقا لنقل نور الثقلين ، مجلّد ٤ ، صفحة ٣٥٩.

(٢) مجمع البيان ، تفسير الآيات مورد البحث.

(٣)

٧٦

والجامعات والمكاتب ، بل إنّ العلماء هم أصحاب النظر الذين أضاء نور العلم والمعرفة كلّ وجودهم بنور الله والإيمان والتقوى ، والذين هم أشدّ الناس ارتباطا بتكاليفهم مع ما يستشعرونه من عظمة المسؤولية إزاءها.

نقرأ في سورة القصص أيضا أنّه حينما اغترّ «قارون» واستشعر الرضى عن نفسه وادّعى لها مقام العلم ، قام يعرض ثروته أمام الناس ، وتمنّى عبّاد الدنيا الذين أسرتهم تلك المظاهر البرّاقة أن تكون لهم مثل تلك الثروة والإمكانية الدنيوية ، ولكن علماء بني إسرائيل قالوا لهم : إنّ ثواب الله خير وأبقى لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يفوز بذلك إلّا الصابرون المستقيمون :( وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ ) (١) .

وفي ختام الآية يقول تعالى ، كدليل موجز على ما مرّ :( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) .

«عزّته» وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند العلماء ، و (غفرانه) ، سبب في الرجاء والأمل عندهم ، وبذا فإنّ هذين الاسمين المقدسين يحفظان عباد الله بين الخوف والرجاء ، ونعلم بأنّه لا يمكن إدامة الحركة باتّجاه التكامل بدون الاتّصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافئ.

* * *

__________________

(١) القصص ـ ٨٠

٧٧

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) )

التّفسير

التجارة المربحة مع الله :

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء ، تشير الآيات مورد البحث إلى مرتبة «الأمل والرجاء» عندهم أيضا ، إذ أنّ الإنسان بهذين الجناحين ـ فقط ـ يمكنه أن يحلّق في سماء السعادة ، ويطوي سبيل تكامله ، يقول تعالى أوّلا :( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) (١) .

بديهي أنّ «التلاوة» هنا لا تعني مجرّد القراءة السطحية الخالية من التفكّر والتأمّل ، بل قراءة تكون سببا وباعثا على التفكّر ، الذي يكون بدوره باعثا على العمل الصالح ، الذي يربط الإنسان بالله من جهة ، ومظهر ذلك الصلاة ، ويربطه

__________________

(١) يلاحظ أنّ «يرجون» خبر «أنّ».

٧٨

بخلق الله من جهة ثانية ، ومظهر ذلك الإنفاق من كلّ ما تفضّل به الله تعالى على الإنسان ، من علمه ، من ماله وثروته ونفوذه ، من فكره الخلّاق ، من أخلاقه وتجاربه ، من جميع ما وهبه الله.

هذا الإنفاق تارة يكون (سرّا) ، فيكون دليلا على الإخلاص الكامل. وتارة يكون (علانية) فيكون تعظيما لشعائر الله ودافعا للآخرين على سلوك هذا الطريق.

ومع الالتفات إلى ما ورد في هذه الآية والآية السابقة نستنتج أنّ العلماء حقّا هم الذين يتّصفون بالصفات التالية :

* قلوبهم مليئة بالخشية والخوف من الله المقترن بتعظيمه تعالى.

* ألسنتهم تلهج بذكر الله وتلاوة آياته.

* يصلّون ويعبدون الله.

* ينفقون في السرّ والعلانية ممّا عندهم.

* وأخيرا ومن حيث الأهداف ، فإنّ أفق تفكيرهم سام إلى درجة أنّهم أخرجوا من قلوبهم هذه الدنيا الماديّة الزائلة ، ويتأمّلون ربحا من تجارتهم الوافرة الربح مع الله وحده ، لأنّ اليد التي تمتدّ إليه لا تخيب أبدا.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ «تبور» من «البوار» وهو فرط الكساد ، ولمّا كان فرط الكساد يؤدّي إلى الفساد كما قيل «كسد حتّى فسد» عبّر بالبوار عن الهلاك ، وبذا فإنّ «التجارة الخالية من البوار» تجارة خالية من الكساد والفساد.

ورد في حديث رائع أنّه جاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال : «ألك مال» قال : نعم. قال : «فقدّمه» قال : لا أستطيع. قال : «فإنّ قلب الرجل مع ماله ، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به ، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه»(١) .

إنّ هذا الحديث في الحقيقة يعكس روح الآية أعلاه ، لأنّ الآية تقول إنّ الذين

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٧.

٧٩

يقيمون الصلاة ، وينفقون في سبيل الله لهم أمل وتعلّق بدار الآخرة ، لأنّهم أرسلوا الخيرات قبلهم ولهم الميل للحوق به.

الآية الأخيرة من هذه الآيات ، توضّح هدف هؤلاء المؤمنين الصادقين فتقول : انّهم يعملون الخيرات والصالحات( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (١) .

هذه الجملة في الحقيقة تشير منتهى إخلاصهم ، لأنّهم لا ينظرون إلّا إلى الأجر الإلهي ، أي شيء يريدونه من الله يطلبونه ، ولا يقصدون به الرياء والتظاهر وتوقّع الثناء من هذا ومن ذاك ، إذ أنّ أهمّ قضيّة في الأعمال الصالحة هي «النيّة الخالصة».

التعبير بـ «أجور» في الحقيقة لطف من الله ، فكأنّ العباد يطلبون من الله مقابل أعمالهم أجرا!! في حال أنّ كلّ ما يملكه العباد منه تعالى ، حتّى القدرة على إنجاز الأعمال الصالحة أيضا هو الذي أعطاهم إيّاها.

وألطف من هذا التعبير قوله( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) الذي يبشّرهم بأنّه علاوة على الثواب الذي يكون عادة على الأعمال والذي يكون مئات أو آلاف الأضعاف المضاعفة للعمل ، فإنّه يزيدهم من فضله ، ويعطيهم من سعة فضله ما لم يخطر على بال ، وما لا يملك أحد في هذه الدنيا القدرة على تصوره.

جاء في حديث عن ابن مسعود عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في قوله :( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) : هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفا في الدنيا(٢) .

وبذا فإنّهم ليسوا فقط من أهل النجاة ، بل إنّهم يكونون سببا في نجاة الآخرين بفضل الله ولطفه.

__________________

(١) جملة «ليوفّيهم» إمّا أنّها متعلّقة بجملة «يتلون كتاب الله ...» وعليه يكون معناها «إنّ هدفهم من التلاوة والصلاة والإنفاق الحصول على الأجر الإلهي» أو أنّها متعلّقة بـ «لن تبور ...» وبذا يكون معناها «إنّ تجارتهم لن يصيبها الفساد لأنّ المثيب لهم هو الله تعالى».

(٢) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٧.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً

____________________________________

من طريق على عن ابن عباس في الآية لا يتمنى الرجل فيقول ليت لي مال فلان واهله : وفي نهي الآية وسوقها توبيخ كبير على غفلة الإنسان عما يتمتع به من النعم العظيمة وعن الله المنعم بها عليه وعن عظيم ملك الله وقدرته ، وجوده ، وحكمته ، فتطمح نفسه الخسيسة إلى خصوص ما عند غيره مما اقتضت حكمة الله ورحمته أن ينعم بها عليه فيتمناه لنفسه مع ان الله قادر على إعطائه مثله وخيرا منه. أفلا يجب على العبد أن يرغب إلى ربه وخالقه مالك الملك القادر المنعم الوهاب. وماذا ينال من التمني إلّا حسراته وخسة الحسد وآلامه( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ) من عطاء الله ونعمته وفضله( مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) وحصل لهم بالملك والجدة والاختصاص ولو بالإرث مثلا. وفي النهاية في الحديث أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وولده من كسبه. أو ان المراد اشارة إلى الغالب من ان الناس يسعون ويسترزقون الله فينعم الله عليهم بكسبهم. و «من» الجارة في «مما» في كلتا الجملتين وعلى كلا الوجهين هي بيانية لبيان النصيب فإن نصيبهم من عطاء الله هو كل ما اكتسبوه لا بعضه. فما بال الذين يركنون إلى أوهام الأماني وهي التي تجر إلى الشر واختلال النظام. يا ايها الذين آمنوا إلّا تعلمون ان الله هو خالقكم ورازقكم ارحم الراحمين واسع الرحمة ، والخزائن والفضل بيده الأمور فارغبوا إليه( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ ) ولا يزال( بِكُلِّ شَيْءٍ ) حتى تمنيكم الفاسد وحكمة اعطائكم وتفضيل بعضكم على بعض ومصالحكم ودعائكم ورغبتكم فيما عنده وتوكلكم عليه وتسليمكم لحكمته ومشيئته( عَلِيماً ) - ولا زال القرآن الكريم من أول السورة يستقصي ببيانه الشافي مهمات نظام العدل وتهذيب الأخلاق وحقائق الإصلاح الفردي والاجتماعي من الأمر بالتقوى وهي روح الإصلاح وقوامه إلى التذكير بالاخوة البشرية والخلق من نفس واحدة إلى رعاية الأرحام إلى رعاية اليتامى وأحكامهم وحفظ الوصاة بحفظ أموالهم وحسن معاملتهم والولاية عليهم إلى حقوق المواريث والوصايا واحكام النساء والعدل في معاملتهن إلى احكام النكاح وما فيها من الإرشاد إلى الأصلح. إلى رعاية العدل والحقوق إلى النهي عن سوء التمني لشخص ما أنعم الله به على الغير مع ما يقتضيه اللطف في كل مقام من الترغيب والترهيب والتوبيخ

١٠١

(٣٣)وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ

____________________________________

والإنذار بالحكمة والموعظة الحسنة. ومن هذا الاستقصاء الكريم إشارته جل اسمه إلى رعاية الأطراف من الأقارب في الميراث كالأجداد والأعمام والأخوال وان علوا وأولادهم وأولاد الاخوة والأخوات وان نزلوا فقال جل اسمه ٣٣( وَلِكُلٍ ) من صنفي الرجال والنساء( جَعَلْنا ) بحسب الخلقة وسنة الموت والبقاء وشريعة المواريث على العدل والحكمة( مَوالِيَ ) يرثونهم لأنهم الأولى بهم بحسب القرابة وبميراثهم بقاعدة الأقربين وان اولي الأرحام بعضهم اولى ببعض. أو بسبب الولاء ان لم يكن هناك أولو الأرحام( مِمَّا ) أي من الصنف الذي( تَرَكَ ) أباهم من الأقرباء( الْوالِدانِ ) إذا ماتوا قبل ولدهم وتركوا ممن يمت بهم وارثا للميت كالأجداد من ناحية الأب أو الأم. والأعمام أولادهم من ناحية الأب والأخوال أولادهم من ناحية الأم( وَ ) مما تركه( الْأَقْرَبُونَ ) كأولاد الاخوة والأخوات ونحو ذلك.

في التهذيب في الصحيح عن زرارة عن الصادق (ع) في الآية عنى بذلك اولي الأرحام في المواريث فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجره اليه. إنتهى وفي الآية غير ما ذكرنا من التفسير والإعراب ولكن الظاهر منها هو ما ذكرناه( وَ ) من( الَّذِينَ عَقَدَتْ ) مولويتهم لكم( أَيْمانُكُمْ ) جمع يمين بمعنى القسم أو كما قيل بمعنى اليد اليمنى التي تعطى عادة عند العهد والاول اظهر. واخرج البخاري وابو داود وابن جرير والحاكم وفي الدّر المنثور عن غيرهم أيضا من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجر الانصاري دون ذي رحمه للأخوة التي آخى رسول الله (ص) بينهم فلما نزلت هذه الآية ولكل جعلنا موالي نسختها ثم قال والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة والرفادة والوصية يوصى له وقد ذهب الميراث أقول وما ذكر في الرواية من النسخ ووجهه لا يكاد ان يستقيم فإنه ما كل إنسان جعل له موالي مما ترك الوالدان والأقربون لكي ينحصر الإرث بهم فينسخ بذلك ارث غيرهم ويكون الإرث بالاخوة من المنسوخ واما جعل الموالي للصنفين من الرجال والنساء فلا يدل على نسخ التوارث بين المهاجرين والأنصار بسبب الاخوة لو كان لذلك حقيقة مضافا إلى ان الظاهر من النصيب هو الميراث لا ما ذكر في الرواية. واخرج أبو داود وابن جرير وعن ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر فنسخ ذلك في الأنفال فقال( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ

١٠٢

أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) .وفي الدّر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنخاس في ناسخه وابن مردويه عن ابن عباس وذكر نحوه. ويعارض الروايات عن ابن عباس ما أخرجه أبو داود وعن ابن أبي حاتم عن ام سعد بنت الربيع وكانت يتيمة في حجر أبي بكر ان قوله تعالى( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) نزلت في أبي بكر وأبيه عبد الرحمن حين ابى الإسلام فحلف أبو بكر ان لا يورثه فلما اسلم امره رسول الله (ص) ان يعطيه سهمه والحديث صحيح في اصطلاحهم. ومع ذلك فالروايتان المذكورتان عن ابن عباس في معنى الذين عقدت ايمانكم وفي الناسخ متعارضة في نفسها. على ان الميراث بالمؤاخاة لو كان له اصل لم يتوقف نسخه على هذه الآية لأنه منسوخ بأولى آيات المواريث وأساس قانون وهو قوله تعالى( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) . وان نظم هذه الآية وسوقها ليشهدان بأن حكم الذين عقدت الأيمان ولاءهم متأخر في الرتبة عن حكم اولي الأرحام والأقربين كما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه محتجين بالآية وبقوله تعالى فيها( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) . وفي اصول الكافي وعن العياشي في الصحيح عن ابن محبوب عن الرضا انه سأله عن الآية فقال (ع) إنّما عنى بذلك الأئمة (ع) بهم عقد اللهعزوجل ايمانكم إنتهى ولا يخفى ان اليمين تعقد عقدة مؤداها وعليه الآية ويعقدها الحالف وعليه قوله تعالى في سورة المائدة ٨٨( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) ويعقدها المستحلف آخذ الميثاق والآمر بالحلف وإعطاء العهد وعليه جاءت الرواية نظرا إلى ان يمين الولاء وميثاقه قد أخذها الله على العباد وامر بإعطاء عهدها والرواية ناظرة إلى المصداق العام لجميع المسلمين وغير نافية للمصداق الاتفاقي وهو الإرث بولاء النصرة وضمان الجريرة ومنه ولاء السائبة من المعتقين. ومعنى الرواية جار على مبدأ الأئمة من العترة أهل البيت في كونهم كرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اولى بالمؤمنين من أنفسهم على نهج حديث الغدير المتواتر وانهم داخلون في الميثاق المذكور في قوله تعالى في سورة آل عمران( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ) إلى قوله تعالى( وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) كما تقدم في الجزء الأول ص ٣٠٣ حتى ٣٠٦ فإن قيل ان نزول هذه الآية كان قبل واقعة الغدير وما هو على نهجها ولفظ عقدتم فيها للماضي فلا يدخل فيها عهد الغدير وميثاقه - قيل - لا يلزم ان يكون المضي في القرآن الكريم باعتبار زمان النزول بل يأتي باعتبار أمر آخر مثل قوله تعالى في الآية الآتية( وَبِما أَنْفَقُوا ) وفي سورة المزّمل ٢٠( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ ) إذ ليس المراد ما تيسر قبل نزول السورة فإن سورة المزّمل

١٠٣

فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى

____________________________________

من أوائل ما نزل من القرآن حال كون الجل من المخاطبين لم يكونوا حينئذ من المسلمين ولم يعرفوا شيئا من القرآن بل المراد ما تيسر عند واجب القراءة. وقوله تعالى في سورة المائدة( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) : وعلى هذا المبدأ يكون الأئمة كرسول الله ورّاث من لا وارث له من أرحامه ومولى العتاقة. أخرج أحمد في مسنده وابو داود في جامعه والحاكم في مستدركه بأسانيد متعددة عن المقدام عن النبي (ص) انا وارث من لا وارث له ارثه واعقل عنه : أو افك عانية وأرث ماله كما في جامع أبي داود. وفي رواية انا ولي من لاولي له افك عنه وأرث ماله. وفي رواية أنا مولى من لا مولى له أرث ماله وأفك عنه. أو افك عانية كما في المستدرك وعلى ما ذكرناه اجماع أهل البيت والإمامية وحديثهم. واما ما جاء في الحديث من ان رسول الله (ص) أمر فيمن لا وارث له بإعطاء ماله لأهل بلده. أو لواحد من قبيلته أو لرجل من قبيلته كما في روايات أبي داود في جامعه فهو تنازل منه (ص) عن حقه كما روى الترمذي عن عائشة انه (ص) أمر بميراث مولاه لأهل القرية(١) كما روى في الوسائل عن الكافي والتهذيب عن علي (ع) في ميراث من لا وارث له انه كان يعطيه أو يأمر بإعطائه لأهل بلده. وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة عن الباقر والصادق والكاظم (ع) ان ميراث من لا وارث له من الأنفال المختصة بالرسول (ص) والإمام (ع) كما احصى روايته في الوسائل وعليه اجماع الإمامية ولئن روي عن بعض الأئمة (ع) انه لبيت المال فهو تنازل منهم عن حقهم لمصلحة الوقت( فَآتُوهُمْ ) تفريع على جعل الموالي المتقدم ذكرهم( نَصِيبَهُمْ ) من تركته إذ قد يكون معهم زوج أو زوجة أو وصية أو دين( إِنَّ اللهَ كانَ ) ولا يزال( عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ) لا يغيب عنه شيء فلا تخونوهم في نصيبهم الذي كتب الله واحذزوا من الله الشهيد ثم استثنى التعليم والإرشاد جلت الطافه في النظام العائلي وامر الأزواج في التأديب والإصلاح فقال جلت الطافه ٣٤( الرِّجالُ قَوَّامُونَ ) القوام كثير القيام. وقام على الشيء أي في تدبيره وإصلاح شؤونه ومنه القيم على اليتيم والمراد من المبالغة هنا دوام قيام الرجل على المرأة في شؤون إرشادها. وتأديبها وتثقيفها ما دامت معاشرة له. فهم قوامون بحسب ناموس الخلقة والفطرة والشريعة( عَلَى

__________________

(١) وفي كنز العمال ومختصرة في رواية الديلمي عن ابن عباس ان مولى لرسول الله (ص) توفى فقال (ص) انظروا همشهريا له فأعطوه ميراثه يعني من هو من أهل بلده

١٠٤

النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ

____________________________________

النِّساءِ ) بالاستحقاق والفضيلة لا تحكما بل بما اقتضته الحكمة في الخلق وحسن النظام وذلك( بِما فَضَّلَ اللهُ ) آلههم وخالقهم على الحكمة به( بَعْضَهُمْ ) أي بعض الرجال والنساء وهم الرجال بحسب النوع والغالب( عَلى بَعْضٍ ) أي النساء بحسب النوع والغالب من قوة المدارك وكمال الخلقة والأخلاق كما لا يخفى ذلك كله حتى ان المشرحين متفقون بحسب ما وجدوه بالتتبع على ان دماغ الرجل وقلبه اكبر من دماغ المرأة وقلبها في جميع الأدوار للقلب والدماغ وقد اقتضت حكمة الاجتماع والاشتباك في العشرة المدنية والتناسل والتربية ان يخلق الله هذين الصنفين من الإنسان على هذا الناموس لكي ينضوي الصنفين في كنف الآخر فتستحكم الروابط ويستوسق الارتباط. مع ان صفات كل من الصنفين هي النعمة بحسب ذلك الصنف فيما يراد منه في حياته الفردية والاجتماعية. وهي النعمة على مجموع النوع في بقائه وانتظام امره. فرب فضل لفاضل يعود بالنعمة على المفضول. ورب مفضولية هي نعمة على المفضول. فشرع للرجال أن يكونوا قوامين على من يرتبط معهم في العشرة من النساء بسبب فضل الرجال( وَبِما أَنْفَقُوا ) في شأنهن وعليهن( مِنْ أَمْوالِهِمْ ) وليس المراد ما مضى من الإنفاق قبل زمان النزول فإن الآية عامة لكل زمان بل المراد الاستلفات إلى ما يتمثل في الوجود من الإنفاق قبل ترتيب الآثار الثابتة للقيمومة من الإرشاد والتعليم والتأديب فإن الإحالة على واجب المستقبل أمر لا يمثل للأذهان فضيلة الإنفاق( فَالصَّالِحاتُ ) من النساء صلاحهن على الاستقامة فيما يراد منهن فهن( قانِتاتٌ ) أي مطيعات وفي تفسير القمّي عن رواية أبي الجارود قانتات أي مطيعات. واطلاق الصفة فضلا عن معنى القنوت يفيد الدوام وملكة الطاعة. وإن كان القنوت مختصا بطاعة الله فإن وصفهن بذلك يتكفل بكونهن مطيعات لأزواجهن على ما أمر الله به( حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ ) الغيب كالغياب والغيبة مصدر غاب خلاف الشهود أي حافظات لغيبة الناس من ان يقع فيها ما لا يرضى الناس ان يقع فيها ولا ينبغي وقوعه فيها مما فيه توهين وغدر لحقوقهن اغتناما لفرصة غيابهم. والظاهر في تمجيدهن بالصفة كونها عن ملكة تعم غيب الناس وأزواجهن فإن ذلك هو المناسب لوصف الصالحات واثبت في حفظهن لغيب أزواجهن

١٠٥

بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ

____________________________________

في انفسهن وأموالهم ومالهم وغير ذلك من الحقوق. وفي الآية تنبيه على ان الغيب له حرمة ينبغي ان يحفظ فيها عن وقوع المنافي فيه( بِما حَفِظَ اللهُ ) أي بالنحو الذي حفظه الله في شريعته بأوامره ونواهيه وزواجره وما شرعه من الحقوق كما هو مفصل في القرآن الكريم وفي أبوابه من السنة من آداب الشريعة بل حتى الحقوق العرفية التي يريد الأزواج رعايتهم وحفظ شرفهم في حفظها دون ما جوزه الشارع مما يلزم من أداء الشهادة ولوازم نصح المستشير وأمثال ذلك فإنه ليس مما حفظ الله الغيب فيه. وقد ذكر في الآية تفاسير أخر وهذا هو الظاهر والأنسب( وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ ) اصل الارتفاع وكنى به هنا عن ارتفاع الزوجة بطغيانها عن طاعة زوجها وحقوقه وتباعدها بتمردها عن ذلك. ويكون ذلك بعد التدرج منها بالخروج عن الطاعة وحفظ حقوق الزوج وواجباته فتكون أوائل التدرج في ذلك منها باعمالها وأخلاقها منذرة ببلوغها مقام النشوز الوخيم ، والطغيان في الخروج عن الموافقة والاستقامة. وهذه الأوائل هي مقام الخوف الذي شرع الله فيه التدرج بالاستصلاح واذن فيه بقوله تعالى( فَعِظُوهُنَ ) بما يرجى تأثيره من أنحاء المواعظ من نحو الترغيب بثواب المطيعات لأزواجهن والإنذار بسوء عواقب المعصية ووبال النشوز وعقابه بما جاء في الكتاب والسنة بل حتى من التجارب عواقب النواشز وحسن حال المطيعات( وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ) في التبيان وقيل هو هجر المضاجعة وهو قول أبي جعفر (ع) وقال «يعني أبي جعفر الباقر «ع») يحول ظهره إليها : ونسبه في المبسوط إلى رواية أصحابنا أقول وهو الظاهر من الآية فإن المضاجع فيها ظرف للهجران لظهور كلمة «في» في الظرفية وان تحويل ظهره إليها مع ما يلزمه من عدم تكليمه لها هو الذي تتجلى منه ظواهر الهجران المؤلم للمرأة دون ترك الكلام معها مع إقباله عليها بمقاديم بدنه إذ يحتمل ان يكون ترك الكلام لفكر أو كسل أو نعاس ونحو ذلك. واما ذكره في الدّر المنثور عما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس «لا تضاجعها في فراشك» فإنه غير الهجران في المضاجع ولا يكون المضجع على هذا ظرفا للهجران نعم يمكن التكلف لتأويله بأن كلمة «في» للسببية داخلة على محذوف يئول إليه تأويل الكلام ولكن فيه من التكلف ومخالفة الظاهر ما لا يخفى. ولا يصح في الآية ما قيل من حملها على المعنيين المذكورين وذلك لما ذكرنا مرارا من ان اللفظ لا يجوز ان يجمع فيه بين المعنيين أو المعاني المتعددة. وفي

١٠٦

وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٥)وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما

____________________________________

الدّر المنثور ذكر عمن أخرج عن ابن عباس في معنى الهجران في المضاجع روايات متعددة متعارضة( وَاضْرِبُوهُنَ ) في التبيان وأما الضرب فإنه غير مبرح بلا خلاف إنتهى والمبرح هو ما يوجب المشقة والشدة والظاهر اتفاق المسلمين على هذا القيد وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص عن رسول الله (ص) في خطبته في حجة الوداع. وأخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله (ص). ورواه في الدّر المنثور عما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أقول ويلزم ذلك ان لا يكون الضرب مدميا ولا كاسرا بل ولا في المواضع التي هي معرض للخطر وسوء الأثر. وفي التبيان قال أبو جعفر يعني الباقر (ع) بالسواك واخرج ابن جرير عن عطا عن ابن عباس بالسواك ونحوه ولعل المراد بعود مثل عود السواك. وكيف كان فلا تصلح الروايتان من حيث سندهما لتقييد الضرب في الآية نعم يكفي في تقييدها الإجماع على ان لا يكون مبرحا. والمعلوم من الآية كون الضرب للتوصل إلى إصلاح المرأة وانابتها إلى الطاعة فيلزم الاقتصار على اقل ما يرجى به حصول الغرض كما وكيفا ويتدرج فيه ما لم يحصل اليأس من تأثيره. وكذا الكلام بالنسبة إلى التدرج في الوعظ إلى الهجران إلى الضرب والجمع بين بعضها وبينها. والآية الكريمة زعيمة ببيان هذه التفاصيل ببيان ان ذلك لأجل التوصل إلى التأديب والاستصلاح والطاعة بقوله تعالى( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ ) فيما تجب فيه طاعة الزوجات( فَلا تَبْغُوا ) ولا تتطلبوا( عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ) بتشبثات التهم وسوء الظن وتكليف القلوب فوق ما تقتضيه الأحوال فإنكم مأمورون بمعاشرتهن بالمعروف وبعض الظن اثم وامر القلوب بيد الله( إِنَّ اللهَ كانَ ) ولا يزال( عَلِيًّا ) في عدله واحكامه وحكمته( كَبِيراً ) في جلاله لا يكلف فوق الطاقة ولا يهمل ارشاد عباده في نظام اجتماعهم وتعليمهم. وسيأتي إن شاء الله في أواخر السورة ما يعود إلى خوف المرأة من نشوز الزوج واعراضه وحكمة إصلاحه ٣٥( وَإِنْ خِفْتُمْ ) يا ايها الذين تعنيهم شؤون الزوجين بسبب الروابط والأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس عند ظهور المنافرة بين الزوجين وخشيتهم من عاقبة ذلك( شِقاقَ بَيْنِهِما ) باستمرار الخلاف بحيث ينشق ائتلافهما إلى شقين متباينين في

١٠٧

فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً

____________________________________

العداوة والبغضاء( فَابْعَثُوا ) الخطاب في الآية بصيغة الجمع وليس في عصر الخطاب من له ولاية الحكم الشرعي إلّا واحد وهو رسول الله (ص) فمقتضى ظاهرها ان بعث الحكمين عند خوف الشقاق لا يختص بمن له الولاية العامة. وعن تفسير العياشي وفي الدّر المنثور عن عبيدة السلماني أن امير المؤمنين علي «ع» أمر الفئامين الذين جاءا مع الرجل والمرأة أن يبعثوا حكما من اهله وحكما من أهلها ولم يكن «ع» هو المتصدي للبعث. نعم من يكون له الولاية بسيطرته منفذا لأحكام التحكيم كما في سائر الأحكام الشرعية. لكن في التبيان أن المأمور ببعث الحكمين هو السلطان الذي يترافعان اليه. وجعله أصح الأقوال. وفي المسالك انه قول الأكثر. وفي مجمع البيان وهو الظاهر في الاخبار عن الصادقين «ع» وفي كنز العرفان وهو المروي عن الباقر والصادق «ع» وهو الأصح لأن أول الكلام في «خفتم» يدل عليه أقول اما الرواية عن الباقر والصادق «ع» فلم اعثر على اثر لها بل لعل المستفاد مما سنشير إليه من الروايات خلافه. واما الخطاب في «خفتم» فيدل على خلاف ما ذكره كما ذكرناه( حَكَماً ) الحكم هو من ينصب للتحكيم( مِنْ أَهْلِهِ ) أي من أهل الزوج( وَحَكَماً ) آخر( مِنْ أَهْلِها ) وذكر الأهل لأنهم اقرب إلى الاطلاع على الخفايا ومناهج الإصلاح. والظاهر عدم الانحصار بهم خصوصا مع عدمهم أو عدم صلاحيتهم لذلك ولا بد من كون الحكم بحسب حكمة الآية صالحا للكفاية في المقام بحسب ذاته واهتدائه لما يراد فيه مكلفا عاقلا مسلما إذا كان الزوجان مسلمين أو كان أحدهما مسلما. وفي اعتبار العدالة شك نعم يعتبر الاطمئنان بامانتهما في المقام واما الذكورة والحرية فالإطلاق ينفي اشتراطهما في المقام. وقد استفاض الحديث في ان حكمهما بالفراق موقوف على اذن الزوجين أو اشتراط الحكمين عليهما واتفاق الحكمين كما في موثقة سماعة عن الصادق «ع» وموثقة ابن مسلم عن أحدهما «ع» وصحيحة الحلبي وروايتي أبي بصير عن الصادق «ع» والبطائني عن الكاظم «ع» وعلى ذلك ما أشرنا إليه من رواية عبيدة السلماني عن امير المؤمنين (ع). وان اشتراط الاذن من المرأة واجتماع الحكمين في الفراق جار على الغالب في المقام من كونه بالخلع والمباراة ومن هنا يؤخذ انه لا يمضي إسقاط الحكمين لحقوق أحد الزوجين أو كليهما إلّا باذنه أو إذنهما. نعم يحكمان بما يقتضيه نشوز أحدهما أو كليهما من الأحكام الشرعية فينفذ الحاكم ذلك بسيطرته ان لم يتيسر لهما إصلاح الزوجين( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً ) الظاهر من السياق كون

١٠٨

يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٦)وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً

____________________________________

الضمير عائدا إلى الحكمين فإن أرادا إصلاح شأن الزوجين وكان ذلك من نيتهما لا ميل كل واحد لجانب( يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) ويجمع رأيهما على الصواب( إِنَّ اللهَ كانَ ) ولا يزال( عَلِيماً ) بحقائق الأمور وحكمتها( خَبِيراً ) بالسرائر والنيات. ثم شاء الله ان يواصل لطفه على الإنسان بهدايته إلى اسباب السعادة وصالح الأعمال ومكارم الأخلاق وحسن السلوك في الحياة الدنيا والقيام بحقوق النوع. وصدّر ذلك بأفضل الأوامر وأساس النجاة وروح الصلاح وجامع الهدى فقال جلت آلاؤه ٣٦( وَاعْبُدُوا اللهَ ) إلهكم يا أيها الناس( وَلا تُشْرِكُوا بِهِ ) في العبادة( شَيْئاً ) وهذا النهي بمنزلة التفسير للأمر المعطوف عليه فإن عبادة الله لا تستقيم لها حقيقة مع الإشراك به في العبادة وقد تقدم بعض البيان لمعنى العبادة في الجزء الأول ص ٥٧ حتى ٥٩ وحاصل الأمر هنا استشعروا مظاهر الخضوع لله إلهكم بالخضوع الذي يوفى به حق امتياز الله إله العالمين بالإلهية. ويقرب ان ينظر في معنى العبادة إلى طاعة الله إله العالمين في أوامره ونواهيه باعتبار الخضوع لمقام إلهيته بالطاعة والإذعان لان الطاعة هي باب السعادة في الدارين وينظر بالشرك هنا إلى ما يعم مخالفة الله بالاتباع للهوى والانقياد للشيطان فإن ذلك وإن لم يوجب منه محض المعاصي في الأعمال كفرا وخروجا عن الدين لكنه خلل في حق الخضوع لله ومقام إلهيته على حد قوله في سورة يس( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) ( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) أي أحسنوا إحسانا نائب عن فعله في الدلالة على الأمر والتأكيد في الإغراء بالإحسان يقال احسن إليه وأحسن به كما يقال أساء إليه وأساء به كما في قول كثير : -

اسيئي بنا أو احسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية ان تقلت

وقد تكرر قوله تعالى في الوصية بالوالدين( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) كما في سورة البقرة ٨١ والأنعام ١٥٠ والاسراء ٢٢. وإن قول القائل احسن به وبالوالدين إحسانا يدل على دوام الإحسان وعدم الإساءة. وذلك لأن معناه جعل فعله به حسنا وإحسانا ومعنى الآية وأحسنوا بالوالدين فعلكم معهم. وهذا الوجه ظاهر من شعر كثير وان كان في استعمال

١٠٩

وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ

____________________________________

القرآن الكريم اظهر. بخلاف احسن إليه فإن معناه أو صل إليه إحسانا وهو يجتمع مع انقطاع الإحسان. وهذا هو السر في دوام تعبير القرآن الكريم في الوصية بالوالدين بهذه العبارة المذكورة في الآية( وَبِذِي الْقُرْبى ) والرحم( وَالْيَتامى ) فإنهم مورد الرحمة والرأفة والإحسان( وَالْمَساكِينِ ) وهم الفقراء مع ضعف يرثى فيه لحالهم. ولا يخفى ما في الإحسان بهؤلاء المذكورين من الأهمية في كرم الأخلاق والرحمة والاسعاف والقيام بالواجب( وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ ) بضم الجيم والنون. وفي الدّر المنثور ذكر جماعة اخرجوا من طرق عن ابن عباس في قوله تعالى( وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى ) يعني الذي بينك وبينه قرابة.( وَالْجارِ الْجُنُبِ ) يعني الذي ليس بينك وبينه قرابة. وعن تفسير العياشي عن ابن عباس نحوه. فيكون التكرار لذي القربى باعتبار امتيازه بحق الجوار ايضا. قال في الكشّاف وانشدوا لبلعان أو بلعاء بن قيس : -

لا يجتوينا(١) مجاور ابدا

ذو رحم أو مجاور جنب

وفي المصباح عن بعض اللغويين أن الجنب بمعنى الأجنبي وهو ظاهر القاموس. ومقتضى القاموس والمصباح أن القربى كالقرابة مختصة بالقرب في الرحم لا في المكان لكن في الكشّاف اختار تفسير الآية بالذي قرب جواره والذي جواره بعيد. وفي مختصر التبيان نوع اضطراب وأظنه من الاختصار أو الناسخ واقتصر في مجمع البيان على نقل الأقوال( وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ) بفتح الجيم وسكون النون في القاموس هو شق الإنسان وغيره. وفي الدّر المنثور ذكر من أخرج عن ابن عباس انه الصاحب في السفر. ومن أخرج عن علي (ع) انه امرأة الرجل ومن أخرج عن ابن مسعود وابن عباس مثله أقول ولا مانع من شموله للأمرين ويشهد لذلك روايتهما معا عن ابن عباس وكذا من يصاحبه في الحضر بجنبه ماشيا أو جالسا. وفي التبيان نسب الأمرين إلى القيل وقال وقيل هو المنقطع إليك رجاء رفدك وقيل انه جميع هؤلاء وهو أعم فائدة وتبعه على ذلك في مجمع البيان وزاد فيه الخادم الذي يخدمك كما اختار العموم أقول إن إدخال المنقطع رجاء الرفد إذا لم يكن له صحبة إلى الجنب في الخارج يستلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الاستعمال( وَابْنِ السَّبِيلِ ) وهو المنقطع به في سفره عن مدد قومه

__________________

(١) من اجتوى البلاد إذا كرهها واستوخمها أو لم يوافقه ماؤها وهواؤها

١١٠

وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٧)الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٨)وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ

____________________________________

ووطنه وموارد نفعه ورفع احتياجه وفي تفسير القمّي أبناء الطريق الذين يستعينون بك في طريقهم وفي التبيان المسافر وقيل هو الضيف وقال أصحابنا يدخل فيه الفريقان قلت كما يعرف ذلك من مباحث الزكاة( وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) يعني العبيد والإماء كما في التبيان. وان وجوه الرجحان للإحسان بالذين ذكروا لهي راجحة في سنن الأخلاق الفاضلة والنفوس المهذبة ولا يدخل فيها ما هو معصية لله أو يستلزم إساءة إلى شخص آخر. وقد كبر شأن الإحسان بهؤلاء المذكورين إذ قرن وصيته به بالوصية بعبادته وعدم الإشراك به. ولعمر الحق ان هذه الأمور الموصى بها لمما تنادي به الفطرة وتهتف به الحجّة ويشهد بها الوجدان وتحث عليه الفضيلة ، وتبعث عليه الأخلاق الفاضلة والعاطفة الصالحة ولا يحيد عنها إلّا من أعجبته نفسه الساقطة بخيلائها الممقوت واستكباره التعيس ، فيكون مختالا بغروره استكبارا ، فخورا من عجبه بنفسه بما ليس فيه قد اغفله ذلك عن انه عبد مخلوق مربوب لإله واحد قهار ، واغفله أيضا عما يراد منه مما فيه سعادته وارتفاعه من حضيض النقص( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً ) باستكباره وعجبه بنفسه وما زينه له جهله المركب ،( فَخُوراً ) بالموهومات وهو غريق في ضعة الجهل والنقصان وويل لمن كان الله لا يحبه وكفى بذلك مقتا وشقاء ٣٧( الَّذِينَ ) من لؤمهم وشقائهم الذي جره إليهم ضلال استكبارهم وعجبهم بأنفسهم( يَبْخَلُونَ ) بما آتاهم الله من فضله في موارد السماحة ومكاسب الفضيلة بطاعة الله ومحاسن الإنفاق من مال الله( وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) من مال أو علم ومنه العلم بنبوة رسول الله وصفاته( وَأَعْتَدْنا ) بما أحضرنا مصداقا للوعيد بما يستحق من العذاب( لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ٣٨وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ) إذ سنح لهم ان ينفقوا شيئا أنفقوه لا طاعة لله ولا لحسن الإنفاق في مورده بل( رِئاءَ النَّاسِ ) ولأجل ذلك وقد ذكر معنى الرئاء في الجزء الأول ص ٢٣٤( وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) يوم المعاد وقد اسلسوا قيادهم

١١١

وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٩)وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ

____________________________________

للشيطان باتباعه حتى طمع فيهم فلا ينفك في الغواية وصار بسوء اختيارهم قرينا لهم لدوام اغوائه لهم أعاذنا الله منه( وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ ) هذا القرين المشوم المهلك بقبائح غوايته وخسة اقترانه( قَرِيناً ) فهل ترى الشيطان يقف في غوايته للإنسان على حد. إلّا تراه يرديه في أقبح الكفر والنفاق وقبايح الأعمال أفلا ترى انقياد بعض الناس لغوايته إلى اخس الأحوال وأقبحها واشنعها. وكلمة «الذين» في الآية السابقة بدل من «من» في قوله تعالى من كان مختالا. ودعوى انها مرفوعة أو منصوبة على الذم تحتاج إلى شاهد من تغير صورة الإعراب ولا شاهد. ودعوى انها مبتدأ وخبره محذوف كما في الكشّاف وتفسير الرازي تحتاج إلى قرينة وداع لما قدّراه فضلا عن كونه تكلفا بعيدا عن كرامة القرآن. ودعوى ان الخبر قوله تعالى( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ ) الآية كما ذكره في التبيان ومجمع البيان تحتاج إلى رابط مع أن الآية التي جعلوها خبرا تخرج عن تمجدها؟؟؟ العام إلى محل لا تصلح له واين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر من قوله تعالى( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ) الآية ٣٩( وَما ذا عَلَيْهِمْ ) من الوبال أو الخسران أو النقص أو سوء العاقبة أو غير ذلك من المحاذير( لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) أليس الايمان بالله دين الفطرة ونور المعلومة وسناء الحجّة القيمة. وان الإيمان باليوم الآخر لمن اسمى المعارف الموصولة إلى الحقائق وحق الايمان بذلك زعيم بنوع من تهذيب الإنسان وتكميله وحسن اجتماعه مع نوعه بما يشعر به من الرغبة والرهبة. ذلك اليوم الذي بشر وانذر به الأنبياء الذين قامت الحجج على نبوتهم وعصمتهم والكتاب الكريم الذي حفته الأدلة على انه منزل من الله بل انه بنفسه من وجوه متعددة هو الحجّة على ذلك( وَ ) ماذا عليهم لو( أَنْفَقُوا ) كما أمرهم الله وحكمت العقول مع ذلك بحسنه ومنه الإنفاق في الموارد المذكورة( مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ) أفلا يعتبرون بأن الإنسان يولد طفلا لا يملك لنفسه شيئا فيتقلب في جميع أدوار حياته في نعم الله ورزقه وقد يصير ذا مال وثروة طائلة فهل من قدرته إنزال اللبن لرضاعه ونمو الزرع والغرس ونتائجهما وسلامة ذلك من الآفات. أم من قدرته انتاج الحيوان الذي ينتفع به أم بيده أرباح المكاسب أفلا يعتبر بأنه كم من كادح في كسبه لم يربح إلّا الخسران والإملاق وكم من ذي ثروة عاد

١١٢

وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٤٠)إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً

____________________________________

بالرغم عليه فقيرا. أفلا يشعرون بان ما في أيديهم هو رزق الله من خزائن رحمته التي لا تنقص فلما لا ينفقون كما أمرهم الله ويطلبون منه الثواب المضاعف والخلف( وَكانَ اللهُ ) ولا يزال( بِهِمْ ) في أمر ايمانهم وإنفاقهم ونياتهم وجميع شؤونهم( عَلِيماً ) يجزيهم جزاءهم ٤٠( إِنَّ اللهَ ) الغني القدوس المتعال( لا يَظْلِمُ ) الظلم معروف ويتعدى إلى مفعولين يقال ظلمه حقه وماله( مِثْقالَ ) أي ثقل ووزن( ذَرَّةٍ ) ذكروا أن الذرة هي أصغر النمل وفي مجمع البيان والكشاف وقيل هي جزء من اجزاء الهباء في الكوة من اثر الشمس. وهذا أقصى ما يعرفه بالحسّ نوع الناس من الصغر لضرب المثل( وَإِنْ تَكُ ) أي تكن ويطرد في مثل هذا حذف النون( حَسَنَةً ) بالنصب لأنها خبر. والحكم المذكور وفائدة الكلام إنّما هي باعتبار الخبر وعنوانه فلذا اعتبر الاسم المقدر مؤنثا لأن الحكم إنّما هو لما يتحد مع الخبر كما في قوله تعالى( «فَإِنْ كُنَّ نِساءً ) .( وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً ) .( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً ) .( فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ» ) أي وإن تكن التي بمقدار الذرة حسنة. وفي مجمع البيان وان تك زنة الذرة حسنة. ويدفعه ان الزنة والمقدار ليس هي الحسنة بل هي المقدر وزنه بزنة الذرة. وكذا قول الكشّاف وان يك مثقال ذرة حسنة وانّما انّث ضمير المثقال لأنه مضاف إلى مؤنث إنتهى ويدفعه مضافا إلى ما ذكرناه ان تأنيث المضاف باعتبار المضاف إليه شاذ لا يناسب كرامة القرآن على ان الاعتبار لا يساعد على تأثير المضاف إليه المحذوف هذا الأثر. وفي التبيان «وان تك فعلته حسنة» وهو جيد يرجع إلى ما ذكرناه والعجب من مجمع البيان إذ لم يذكر هذا الوجه الوجيه مع انه لا يغادر شيئا من التبيان لا يذكره( يُضاعِفْها ) بما يشاء من المضاعفة. والمضاعفة هي ان يزاد على الشيء مثله في المقدار أو أمثاله. ومضاعفة الحسنة هي ان يعتبرها الله برحمته للواسعة في مقام الجزاء بمقدار ضعفها أو أضعافها أي يضاعف جزاءها. وفي سورة البقرة ٢٤٤ أضعافا كثيرة( وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ ) من فضله العظيم ورحمته الواسعة على الحسنة بمقدار الذرة( أَجْراً عَظِيماً ) بحسب ما يشاء من المضاعفة ويجعل الكل بعنوان الأجر تكريما للمطيع ، وإكمالا لابتهاجه. فويل للذين لم يعبدوا الله وأشركوا به. ولم يتبعوا سبيل الرشاد في امتثال أوامره ونواهيه بعد ما قامت عليهم الحجج في الدنيا وانقطعت المعاذير.

١١٣

(٤١)فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤٢)يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً

____________________________________

وما أعظم حسرتهم وأسوأ حالهم يوم الحساب ٤١( فَكَيْفَ ) حالهم( إِذا جِئْنا ) يوم القيامة( مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ) أرسل إليهم رسول أو قام فيهم نبي أو امام هدى( بِشَهِيدٍ ) يشهد عليهم في ذلك المحشر العظيم بأنه قد بلغهم وبشر وانذرهم وأقام لهم الحجج وقطع المعاذير وأظهر دين الحق ونصر دلالة العقل عليه وحفظ لهم احكام الشريعة. ولا حاجة في ذلك اليوم إلى الشهيد ولكن يؤتى به عليهم زيادة في خزيهم ببيان ما كانوا عليه من البغي والعناد للحق لحسرة ندامتهم جزاء بما كانوا يكسبون( وَجِئْنا بِكَ ) يا رسول الله( عَلى هؤُلاءِ ) الذين كانوا موجودين حين النزول( شَهِيداً ) تعلن ما جئتهم به في دار الدنيا من الحجج على دعوتك الصالحة وما قمت به احسن قيام في التبليغ والإنذار والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وما قاسيته منهم من عناد الضلال وشدة الأذى وتألبهم عليك مجاهرة ونفاقا. وفي رواية الكافي وسعيد بن عبد الله ما يعطي ان المراد من «هؤلاء» في الآية هم الشهداء على الأمم ورسول الله شهيد عليهم. لكن في الروايات ضعف. وفي تفسيرها للآية إشكال وفيما ذكر في تفسير البرهان من روايات العياشي نوع معارضة لها ٤٢( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ ) فيما جاءهم به من الله ومن الدين والشريعة( لَوْ (١) تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ) أي تكونون ترابا وجزءا منها فتسوى بهم وتكون سواء لا يمتازون عنها بوجه( وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً ) يقال كتمت زيدا الحديث والخبر. وقد اختلفت كلمات المفسرين كما ذكره في التبيان ومجمع البيان فمنها ما يؤدي إلى أن الجملة وعدم كتمانهم للحديث داخلة فيما يودونه يومئذ ومعطوف على جملة لو تسوى. وهو مؤدى ما في الدّر المنثور في ذكر ما أخرج عن ابن عباس في السؤال عن هذه الآية. ومنها أن الجملة معطوفة على جملة «يود» وعليه ما صححه الحاكم في المستدرك عن حذيفة ثم عقبة بن عامر الجهني وأبي مسعود الأنصاري بسماعهم من فم رسول الله (ص) ومنها لا يكتمون الله في جوارحهم كما في الدّر المنثور عن ابن عباس بل وما صححه الحاكم

__________________

(١) قد ذكرنا الكلام في «لو» بعد «يود» في الجزء الأول ص ١٠٩ و ١١٠

١١٤

(٤٣)يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ

____________________________________

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : وعن العياشي عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عن أبيه عن جده قال قال امير المؤمنين في خطته يصف هول القيامة ختم الله على الأفواه فلا تكلم وتكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا. فالراجح كما هو الصواب كون الجملة معطوفة على جملة «يود» أو مستأنفة ٤٣( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) أخرج الترمذي في تفسير جامعه عن عطا عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي امير المؤمنين (ع) قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل الله وذكر الآية. وأخرج أبو داود في كتاب الأشربة بسنده عن سفيان عن عطا عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي (ع) أن رجلا من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فأمّهم علي في المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون فخلّط فيها فنزلت الآية. وأخرج الحاكم في تفسير المستدرك بسنده عن سفيان عن عطا عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي (ع) دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت صلاة المغرب فتقدم رجل فقرأ قل يا أيها الكافرون فالتبس عليه فنزلت الآية. وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفيه فائدة كبيرة وهي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى امير المؤمنين علي دون غيره وقد برأه الله منها فإنه روى هذا الحديث. وفي الدّر المنثور أخرج عبد بن حميد وابو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والحاكم وصححه عن علي قال صنع لنا عبد الرحمن طعاما إلى آخر المتن الذي رواه الترمذي. وقد سمعت روايتي أبي داود والحاكم ولم أطلع على رواية الباقين ممن ذكرهم السيوطي لكي أعرف خطأه في النقل عنهم كما أخطأ في النقل عن أبي داود والحاكم(١) وأخرج ابن جرير وفي الدّر المنثور عن ابن المنذر عن علي (ع) أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ قل يا أيها الكافرون

__________________

(١) وصاحب المنار تبع السيوطي في هذا الخطأ أو فقال في تفسيره (روى أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه صنع لنا عبد الرحمن إلى آخر ما ذكره الترمذي. ولم أجد أثرا لهذه الرواية في مجتبى النسائي

١١٥

فخلط فيها. وفيه أيضا أخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال نزلت في أبي بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد صنع لهم علي طعاما وشرابا فأكلوا وشربوا ثم صلى علي بهم المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون حتى خاتمتها فقال ليس لي دين وليس لكم دين فنزلت الآية. وأخرج أحمد والترمذي وابو داود والنسائي وفي كنز العمال ومختصره ذكروا أيضا جماعة ممن أخرجوه أيضا عن عمر لما نزل تحريم الخمر قال اللهم بين لنا في الخمر بيانا فنزلت الآية التي في البقرة فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية وفي الدّر المنثور في آية المائدة أخرج ابن المنذر عن محمد ابن كعب القرضي وذكر حديثا فيه ثم أنزلت التي في النساء بينا رسول الله «ص» يصلي إذ غنى سكران خلفه فانزل الله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية. وإنك لتعرف سقوط الرواية وانها من جنايات الأهواء إذا نظرت إلى الروايات الست المتقدمة واختلافها واضطرابها(١) وإلى نسبة السيوطي وصاحب المنار متن الترمذي إلى رواية أبي داود والنسائي والحاكم وتزيد بصيرة إذا عرفت ما في تهذيب التهذيب عن الواقدي من أن أبا عبد الرحمن السلمي عبد الله ابن حبيب شهد مع علي صفين ثم صار عثمانيا أي معاديا لعلي ومواليا لمعاوية وجرى اصطلاحهم على ان مثل هذا في عداوة علي وموالاة معاوية يسمى عثمانيا. ومما يدل على معاداته لعلي ما أخرجه أحمد في مسند علي برجال الصحة عندهم عن سعد بن عبيدة قال تنازع أبو عبد الرحمن السلمى وحبان بن عطية فقال أبو عبد الرحمن قد علمت ما الذي جرّأ صاحبك «يعني علياعليه‌السلام » قال حبان فما هولا أبا لك قال وذكر عن علي «ع» حديث طلبه للمرأة التي كتب معها حاطب بن بلتعة إلى قريش يخبرهم بان رسول الله يريد ان يغزوهم فأراد عمران يضرب عنق

__________________

(١) ففي حديث الترمذي أن صاحب الدعوة والطعام والشراب هو عبد الرحمن بن عرف وإمام الجماعة هو علي (ع) والتخليط هو نعبد ما تعبدون. وفي حديث أبي داود أن صاحب الدعوة رجل من الأنصار وعبد الرحمن مدعو وإمام الجماعة علي. وفي حديث أن صاحب الدعوة رجل من الأنصار ولم يذكر اسما. وفي حديث ابن جرير لم يذكر دعوة وذكر أن إمام الجماعة هو عبد الرحمن ولم يذكر تخليطه. وفي رواية عكرمة أن صاحب الدعوة هو علي (ع) وهو إمام الجماعة وأن التخليط لم يكن في قراءة السورة بل بعدها وهو ليس لي دين وليس لكم دين. ومقتضى حديث عمران هذه الاية نزلت بعد تحريم الخمر وفي روايتي أبي داود والحاكم أن الخمر عند نزوله لم تكن محرمة. فانظر وتعجب!

١١٦

حاطب فقال له رسول الله (ص) لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة الحديث فإنه لا يفد على هذه الجرأة على امير المؤمنين (ع) إلّا من كان معاديا له يقول في شأنه المقدس انه يجترئ على الكبائر اغترارا بكونه بدريا

ثم نقول في امالي الصدوق بسند معتبر عن الصادق (ع) قال قال رسول الله (ص) أول ما نهاني عنه ربي جل جلاله عبادة الأوثان وشرب الخمر الحديث وفي الدّر المنثور أخرج البيهقي في الشعب عن علي (ع) سمعت رسول الله (ص) يقول لم يزل جبرائيل ينهاني عن عبادة الأوثان وشرب الخمر الحديث وأخرج البيهقي عن أمّ سَلَمة ان رسول الله (ص) قال كان من أول ما نهاني عنه ربي وعهد إلي بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر ملاحاة الرجال. وفي كنز العمال ومختصره عن الطبراني عن أبي الدرداء وعن معاذ عن النبي (ص) نحوه وعن أبي نعيم في الدلائل عن علي (ع) قيل للنبي هل عبدت وثنا قط قال (ص) لا ، قالوا هل شربت خمرا قط قال لا ، وفي الكافي والتهذيب وعيون الصدوق وعلله عن علي بن إبراهيم عن الريان وفي التفسير عن ياسر الخادم عن الرضا (ع) ما بعث الله نبيا قط إلّا بتحريم الخمر. وفي الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة عن الصادق (ع) ما بعث الله نبيا قط إلّا وفي علم الله انه إذا أكمل دينه كان فيه ترحيم الخمر ولم تزل الخمر حراما وانّما ينقلون من خصلة إلى خصلة ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين. ونحوه ما في الكافي والتهذيب عن إبراهيم اليماني عن الصادق (ع). وما في الكافي عن زرارة عن الباقر (ع) والمعنى أن الخمر لم تزل حراما عند الله وفي كل دين ولكن قد يستفحل الضلال وحكم الجاهلية في الأمم إلى أن يروها حلالا فإذا بعث الله نبيا آخر قد لا يفاجئهم في أول نبوته وتبليغه بتحريمها لأن الحكمة تقتضي أن يتدرج معهم في بيان المحرمات ببيان خصلة خصلة ولو حملهم دفعة على ترك جميع المحرمات لما انقادوا إلى الدين ولقطع بهم دونه. ويشهد تدرج القرآن الكريم ببيان أن فيها إثما كبيرا وإثمها اكبر مما يزعمه الناس كما مضى في سورة البقرة وانها رجس من عمل الشيطان ليوقع بها العداوة والبغضاء بينهم. كما في سورة المائدة. وما كان كما ذكرناه لا بد من ان يكون النبي عالما بتحريمه من أول الأمر ولا بد في كماله وعصمته وأهليته للنبوة ودعوتها من أن لا يكون مدة عمره الشريف قد لوث قدسه بشربها قبل النبوة وبعدها. اذن فمن تربى بتربية رسول الله (ص) ونهج من صغر سنه نهجه وتأدب من طفوليته بآدابه وآمن برسالته من أولها وكان أطوع له (ص)

١١٧

من ظله كيف يقال في شأنه انه كان يشرب الخمر امّ الخبائث والموقعة في الفواحش والسالبة للعقل وشرف الإنسانية والملحقة للإنسان بمجنون الوحوش.

وايضا ان الإنسان إذا سكر وعربد ظهر عليه في هذيانه ما كان مطويا في نفسه من عادياته ومألوفاته ومرتكزات مخيلته ، ومكتومات خواطره في الحب والبغضاء. وأن مثل امير المؤمنين (ع) إذا عربد ظهر مرتكزات ذهنه وآثار عاداته ومألوفاته وما نشأ عليه من أوائل شعوره من بغض الأوثان وتسفيه عبادة الجاهلية والشرك فيقول وينادي لا اعبد رجس الأوثان. سفها لكم ايها المشركون لا اعبد الحجر والخشب المنحوت وكيف اجعل من ذلك آلهة مع الله وكيف أكون من المشركين وينشد ما قاله أبوه أبو طالب

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

ولكن قصاص الرواة قد نسبوا لقدس رسول الله في مناكير رواياتهم ما هو اشنع من ذلك رووا أنه (ص) - وحاشا قدسه - قرأ في مكّة بمحضر قريش سورة النجم ولما تلا( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) قال على الأثر تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ونسبوا لقدس جميع الأنبياء والرسل إذا قرءوا القى الشيطان في قراءتهم مثل خرافة الغرانيق وفسروا بذلك قوله تعالى في سورة الحج المدنية وما من نبي ولا رسول إلّا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته. وتتابعت على ذلك جملة من التفاسير كما أشرنا إليه في الجزء الأول من كتاب الهدى ص ١٢٣ - ١٢٨ ولينظر على الأقل إلى ما ذكره في الدّر المنثور في الآية المذكورة من سورة الحج. ولم تترك بعض الروايات قدس رسول الله (ص) بدون ان تلوثه بالخمر ففي الدّر المنثور عن تميم الداري انه كان يهدى لرسول الله (ص) كل عام راوية من خمر فلما كان عام حرمة الخمر جاء برواية فلما رآها رسول الله (ص) ضحك الحديث(١)

__________________

(١) وزيد على ذلك بالنسبة لأمير المؤمنين (ع) فقد ذكر السيد الرضي في حقائق التأويل عن كتاب أبي الحسن الكرخي في كتاب الاشربة من مختصره حيث قرأه على القاضي عبد الله بن محمد الاكفاني وأجاز له روايته عن مصنفه بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى «صاحب امير المؤمنين وخاصته من أهل الكوفة» قال شربت عند علي بن أبي طالب نبيذا فخرجت من عنده عند المغرب فأرسل معي قنبر مولاه يهديني إلى بيتي إنتهى فذكرت الرواية الظالمة الضالة بذلك ان امير المؤمنين (ع) بعد تحريم الخمر وفي ايام خلافته يسقي بعض خواصه في بيته نبيذا يسكره بحيث

١١٨

ومقتضى روايات الدّر المنثور عن ابن عباس ان آية( وَأَنْتُمْ سُكارى ) نسختها آية( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) وفي رواية آية الوضوء وفي اخرى انها قبل أن تحرم الخمر وأن المراد سكر الخمر. ولكن ذكر ان عبد بن حميد أخرج عن ابن عباس أنه قال النعاس ويشبه أن يكون من ذلك ما أخرجه البخاري عن أنس عن رسول الله (ص) إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول وفي الكافي في الموثق عن الصادق (ع) سئل عن الآية فقال سكر النوم. وفي الصحيح عن الباقر (ع) يعني سكر النوم وروى العياشي عن الباقر (ع) نحوه. والسكر ضد الصحو وهو حالة تعتري الإنسان تعبث بشعوره وتخرجه عن استقامته الطبيعية. ومن ذلك ان يذهل عما يقول أو يفعل كلا أو بعضا فيفعل أو يقول ما لا يعلمه ولا يريده. وللسكر مراتب مختلفة ومنه الحالة التي تعتري الإنسان بهذه الصفة من شدة النعاس وهي المرادة من سكر النوم أي السكر الذي يكون من مقدمات النوم أو بقاياه في الاستيلاء على الحواس والشعور ومنه قول الطرماح

مخافة ان يرين النوم فيهم

بسكر سنانة كل الريون

وانشد الرضي في حقائق التأويل شاهدا على ذلك

وركب سروا حتى كأن رقابهم

من السكر في الظلماء خيطان خروع

نعم قد كثر استعماله في سكر الخمر لكن هذه الكثرة لا تمنع ارادة المعنى العام في الآية خصوصا مع اقتضاء الغاية لإرادته فإن قوله تعالى( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) يدل على أن المراد حفظ صورة الصلاة والالتفات إليها. وصونها عن الذهول عنها والتخليط في افعالها وأقوالها. فإن إحرازهم لكونهم يعلمون ما يقولون فيها يلزمه الصحو العادي. ولو قيل ان السكر حقيقة في سكر الخمر مجاز في سكر النوم لكانت الغاية على ما قررنا قرينة على إرادة معنى يعم ما زعموه من الحقيقة والمجاز. وانّما خص بالذكر سكر النوم في روايات ابن عباس والباقر والصادق (ع) نظرا إلى حال السائلين واكثر المسلمين في ان محل ابتلائهم الذي يقتضي بيان الحكم لهم هو سكر النوم لا لحصر مدلول الآية به. واما قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا ) فالخطاب فيه للمؤمنين الموجودين في حال الخطاب نهيا لهم عن ان يقربوا الصلاة على تلك الحالة في المستقبل فإن خطاب المعدومين ودخولهم فيه قبيح كما هو المذهب الصحيح نعم يعم الحكم غير الموجودين

__________________

يحتاج من سكره إلى من يهديه إلى بيته مع انه كثير التردد إلى امير المؤمنين ليس غريبا يضل الطريق فأرسل معه قنبر مولاه ليهديه ونعم الحكم الله والموعد القيامة

١١٩

من المؤمنين للإجماع على الاشتراك في احكام الإسلام. ودعوى ان الخطاب للمؤمنين السكارى في حال الخطاب مجازفة باردة ومن اين علم بوجود السكارى حال الخطاب. فلا وقع لوقوع البعض في الحيص والبيص في صحة خطاب السكران وتكليفه. ولا يدل هذا النهي بإحدى الدلالات على ان شرب الخمر والمسكر حلال لكي يقال ان الآية باعتبار دلالتها على حل شرب الخمر والمسكر قد نسختها آية إنّما الخمر والميسر كما ذكر في الدّر المنثور من أخرجه عن ابن عباس ومنهم أبو داود والنسائي. ومن الغريب ما ذكر من انه أخرج عن ابن عباس أنَّ آية السكارى نسختها آية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية ومن المعلوم ان كون الإنسان يعلم ما يقول يلزمه صحوه من السكر ولكن ذكر العلم بما يقولون لكي يشعر بوجه النهي والجهة التي تصان عنها الصلاة وللاشارة إلى رذيلة السكر والخروج به عن حالة العقلاء وشرف الشعور والإنسانيه. والآية بنهيها وحكمة غايتها تدل على فساد الصلاة في حالة السكر. وقوله تعالى( لا تَقْرَبُوا ) هو على معنى القرب تأكيدا لاحترام الصلاة واجتنابها حال السكر حتى باجتناب القرب منها. ومن أنحاء القرب منها دخول المسجد. وحكى عن بعضهم ان المراد لا تقربوا موضع الصلاة وهو المسجد فحذف المضاف وهو «موضع» وذكر له بعض وجها آخر وهو أنَّ المسجد سمّي في الآية بالصلاة باعتبار كثرة وقوعها فيه أو سمي بذلك تعريبا لتسمية اليهود موضع عبادتهم «صلاتا» أقول ومع ان هذا كله خلاف الظاهر في نفسه يلزم منه أن تكون الأحكام الآتية في الآية أحكاما للمسجد واللازم باطل لأن المساجد خصوصا في زمان الخطاب ليست معرضا لأن تكون في الاسفار حيث لا يوجد الماء كما في البراري فيتيمم لدخولها كما في قوله تعالى( أَوْ عَلى سَفَرٍ ) و( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) . ولأن الإجماع قائم على انه ليس من أحكام المساجد ان الذي يجيء من الغائط منهي عن دخولها حتى يتيمم ان لم يجد ماء بل ما الحكمان إلّا من احكام الصلاة على حقيقتها : وجملة( وَأَنْتُمْ سُكارى ) حالية والواو فيها لبيان الحال. ولا يخفى ان التتبع في صحيح الكلام والتدبر له يقضي بأن الجملة الاسمية يؤتى بها في ضمن النهي حالا في مقام يكون مضمونها ظاهر المنافاة للفعل المنهي عنه فيؤتى بها استلفاتا إلى تلك المنافاة واحتجاجا لحكمة النهي. فكأنه قيل ان الصلاة المطلوب بها الطاعة في الإتيان بها بحدودها والإقبال بها في الخضوع لله وعبادته والتدبر في قراءتها وأذكارها والتوسل بدعائها كيف يؤتى بها في حال السكر مع ما يعرف من منافاة ما هو المطلوب لطيش السكر

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152