جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث30%

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث مؤلف:
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-94216-1-0
الصفحات: 195

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث
  • البداية
  • السابق
  • 195 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26027 / تحميل: 5631
الحجم الحجم الحجم
جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٢١٦-١-٠
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وأُمّ كلثوم والقاسم وزاد بعضهم الطيّب والطاهر(١) ، وماتت قبل الهجرة بسنة(٢) ،

وأيضاً قال الطبرسي في إعلام الوری ج ١، ص ٢٧٤، ط : مؤسسة آل البيت : (أوّل امرأة تزوّجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ، تزوّجها وهو ابن خمس وعشرين سنة)

١ ـ راجع الأنوار الساطعة من الغرّاء الطاهرة خديجة للشيخ غالب السيلاوي ص ١٣٩ ط قم حيث ذكر بحثاً مفصّلاً عن أولادهاعليها‌السلام

٢ ـ قال الحرّ العاملي صاحب الوسائل في الجواهر السنية في الأحاديث القدسية ص ٢١٨ ط : النعمان النجف : (إنّه لـمّا ماتت خديجة قبل الهجرة بسنة ومات أبو طالب بعد موتها بسنة حزن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حزناً شديداً وخاف علی نفسه من كفّار قريش)

وقال شيخنا الكليني في أصول الكافي ج ١، ص ٤٤٠، دار الأضواء بيروت : (وماتت خديجةعليها‌السلام حين خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الشعب وكان ذلك قبل الهجرة بسنة)

ولكن صاحب كشف الغمّة الإربلي ج ١، ص ٥١٣ قال: (توفّيت قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها)

وقال العلّامة المجلسي في مرآة العقول ج ٥، ص ١٨٢ ط دار الكتب الإسلامية طهران (إنّها ماتت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بأربع وقيل بثلاث وهو أشهر ...)

وقال العلّامة الرجالي المامقاني : (إنّ أهل السير ذكروا أنّ خديجة توفّت في شهر رمضان قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بأربع وقيل بثلاث) راجع تنقيح المقال ج ٣ ص ٧٧

وقال المسعودي في مروجه ج ٢، ص ٣٠٦ دار الكتب العلمية : (وكانت وفاتها في شوّال بعد مبعثهصلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاث سنين) ومثله قال أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين ص ٥٩ ط الشريف الرضي

١٠١

وهي أفضل نساء أهل الجنّة، وقد وردت في فضلها أخبار كثيرة(١)

________________________

١ ـ ذكر الشيخ الصدوق في الخصال باب الأربعة ص ٢٠٥ عن ابن عبّاس قال: خطّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أربع خطط في الأرض وقال :

أتدرون ما هذا ؟

قلنا : الله ورسوله أعلم

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل نساء أهل الجنّة أربع خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)

وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩، ص ٤٧ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (خديجة خير نساء عالمها ومريم خير نساء عالمها وفاطمة خير نساء عالمها)

وذكر مسلم في صحيحه ج ١٥، ص ٢٠٠ دار الفكر، عن عائشة قالت : (بشّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة بنت خويلد ببيت في الجنّة)

وأيضاً ذكر في نفس المصدر ص ١٩٩ عن أبي زراعة قال: سمعتُ أبا هريرة قال: أتیٰ جبرئيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يارسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربّها عزّوجلّ ومنّي وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)

وللتفصيل راجع الدرّ المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالی من سورة آل عمران :( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ )

١٠٢

اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ثَارَ اللهِ وَابْنَ ثَارِهِ وَالْوِتْرَ الْمَوْتُورَ

الثأْر بسكون الهمز، ويجوز تخفيفه بقلبه ألفاً، كالرأس والفأس، والكأس في الرأس والفأس، والكأس، وغير ذلك ممّا كان قبل الهمز فيه مفتوحاً كما يُقلب ياء قي المسكور، والواو في المضمون كالبير في البئر، والسور في السؤر الذّحل(١) بالذال المعجمة والحاء المهملة الساكنة، وقد تفتح ؛ الحقد والعداوة وبمعناه الثؤرة بالضمّ أيضاً، قال الشاعر :

شفيتُ به نفسي وأدركتُ ثؤرتي

بني مالك هل كنتُ في ثؤرتي نكسا(٢)

يقال : أدركتُ ثأره أي حقده بقتل قاتله ويقال : ثأرتُ القتيل بالقتيل إذا قتلتُ قاتله، ويقال : ثأرتكَ بكذا أي أدركتُ به ثأري منكَ، ويقال : اثأرتُ من فلان أي أدركتُ ثأري منه، وكثيراً ما يُستعمل في طلب الثأر(٣) والذحل والوتر في المطالبة بالدم والانتقام من القاتل، وفي بعض الدعوات : (اللّهم اطلب بذحلهم ووترهم ودمائهم)(٤)

قال الطريحي(٥) : يُقال طلب بذحله أي بثأره والذحل الثأر، وكذا الوتر

________________________

١ ـ المصباح المنير للفيومي ص ٨٨، ط دار الهجرة قم

٢ ـ لسان العرب لابن منظور ج ٢، ص ٧٧، ط دار إحياء التراث العربي بيروت

٣ ـ نفس المصدر

٤ ـ روضة الواعظين، ج ٢، ص ٣٢٤، مجلس في ذكر الصلاة علی النبي ؛ والبلد الأمين ص ٢٣٠

٥ ـ مجمع البحرين ج ٥ ص ٣٧٥

١٠٣

بالفتح وكرّر للتأكيد، والمراد بكونه ثأر الله : إنّ الله هو الذي يطلب بثأره وينتقم من أعدائه كما قال:( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ) (١) ، فيكون إشارة إلی ما يعطی أولياؤه في زمن الرجعة من القوّة والسلطنة والغلبة علی أعداء آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيقتلونهم من آخرهم بأشدّ قتلة وينكّلون بهم بأشدّ تنكيل

وفي مجمع البحرين ولعلّه مصحّف من يا ثار الله وابن ثائره(٢)

والثائر علی صيغة اسم الفاعل : هو الذي لا يبقی علیٰ شيء حتّی يدرك ثاره، فالمعنی أنّه الذي يطلب ثاره بإذن الله فيكون ثائر الله والوتر عطف علی المنادی فيكون منصوباً، وهو بالكسر الفرد، وبالفتح الذحل والثار علی لغة أهل العالية، وأمّا أهل الحجاز فيفتحونه في الأوّل ويكسرونه في الثاني(٣) ، وتميم يكسرونه في المعنيين

والموتور هو الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه(٤) ، ويحتمل أن يكون

________________________

١ ـ الإسراء : ٣٣ روی الكليني في روضة الكافي ص ٢٥٥، الرقم ٣٦٤ عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ :( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ ) قال: نزلت في الحسينعليه‌السلام ، لو قتل وليّه أهل الأرض به ما كان مسرفاً، ووليُّه القائمعليه‌السلام )

وروی الاسترآبادي في تأويل الآيات ص ٢٧٣ عن جابر، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ : ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ ) قال: نزلت في قتل الحسين عليه‌السلام أي ولي الحسين كان منصوراً

٢ ـ مجمع البحرين ج ٣ ص ٢٣٤

٣ ـ راجع المصباح المنير للفيومي ج ٢، ص ٦٤٧ دار الهجرة

٤ ـ المنجد في اللغة ص ٨٨٥ ط، بيروت ١٩٩٦ م

١٠٤

بمعنی المقطوع عن الأهل والأعوان، والغريب عن الأوطان والمعنی أنّه الفريد الوحيد الذي لا ناصر له ولا معين، القتيل الذي لم يدرك بثأره أحدٌ كما هو حقّه، وإنّما الطالب بثاره هو الله المنتقم فإنّه قتيل الله وابن قتيله كما في زيارته أيضاً : «السلامُ عليك يا حجّة الله وابن حجّته، السلامُ عليك يا قتيل الله وابن قتيله، السلامُ عليك يا ثأر الله وابن ثأره، السلام عليك يا وتر الله الموتور في السماوات والأرض، أشهد أنّ دمكَ سكن في الخلد إلی قوله : أشهد أنّك حجّة الله وابن حجّته وأشهد أنّك قتيل الله وابن قتيله، وأشهد أنّك ثأر الله وابن ثأره، وأشهد أنّك وتر الله الموتور في السماوات والأرض، وأشهد أنّك قد بلّغتَ ونصحت)(١)

________________________

١ ـ راجع مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي ص ٥١٦، وراجع كتابنا جامع الزيارات والمراقد ص ٨٦ قسم كربلاء، ط قم (والذي طبع في بيروت تحت عنوان : الأماكن المقدسة في العالم) وهذه الزيارة الشريفة من زيارات الإمام الحسينعليه‌السلام المطلقة

١٠٥

أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ وَأَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ وأَطَعْتَ اللهَ وَرَسُولهُ حَتّىٰ أَتَاكَ الْيَقِينُ

أشهد أي أقرُّ بلساني مذعناً بصميم جناني وفيه إشارة إلی كمالهعليه‌السلام في مقام الخضوع والعبودية والخشوع والطاعة، وبلوغه بساط العبادة إلی منتهی الكمال، ووصوله إلی مقام مرضاة ربّه ذي الجلال، فإنّ العبودية شرف فاضل للعبد، وأدبٌ كامل للمخلوق، بها ينال نهاية المقامات، ويفوز بأسنی الكرامات كما قال : (إنّ العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّیٰ كنتُ سمعه وبصره ويده ...)(١) ، وقال الصادقعليه‌السلام : (العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فما فقد في العبودية وجد في الربوبيّة، وما خفي عن الربوبية أُصيب في العبودية، قال الله :( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا ) (٢) أي موجود في غيبتك وحضرتك، وتفسير العبودية بذل الكلّية(٣) ،

________________________

 ـ في المصباح للكفعمي (رسوله) غير موجودة

١ ـ عوالي اللآلي ج ٤ ص ١٠٣، وهذا نصّ الحديث القدسي : (لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل والعبادات حتّی أحبّه فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها)

٢ ـ فصّلت : ٥٣ روی الاسترآبادي في تأويل الآيات ص ٥٢٧ عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قوله عزّوجلّ :( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) قال : (حتّی يتبيّن لهم أنّه الحقّ) أنّه القائمعليه‌السلام

٣ ـ في المصدر (الكلّ) بدل (الكلّية)

١٠٦

وسبب ذلك منع النفس عمّا تهویٰ، وحملها علی ما تكره، ومفتاح ذلك ترك الراحة، وحبّ العزلة، وطريقة الافتقار إلی الله تعالیٰ

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (اُعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك، وحروف العبد ثلاثة (العين والباء والدال)(١) ، فالعين علمه بالله، والباء بونه عمّن سواه، والدال دنوّه من الله بلا كيف ولا حجاب)(٢)

والمراد بإقامة الصلاة أداؤها علی الوجه المأمور به من رعاية آدابها وشرائطها الظاهرية والباطنية من الخضوع والخشوع، والإقبال الكلّي بالقلب علی باب المعبود، والتوجّه بالكامل إلی جناب الرب الودود(٣) ، وقد صلّی

________________________

١ ـ في المصدر (ع، ب، د)

٢ ـ راجع مصباح الشريعة للإمام الصادقعليه‌السلام ، الباب الثاني، ص ٧ ط : بيروت

٣ ـ قال الإمام الصادقعليه‌السلام في مصباح الشريعة ص ٨٧، الباب التاسع والثلاثون : (إذا استقبل القبلة فأيس من الدُّنيا وما فيها والخلق وما هم فيه، وفرّغ قلبك عن كلّ شاغل يشغلك عن الله تعالیٰ وعاين بسرّك عظمة الله عزّوجلّ، واذكر وقوفك بين يديه، وقف علی قدم الخوف والرجاء، فإذا كبّرتَ فاستصغر ما بين السماوات العُلی والثریٰ دون كبريائه، فإنّ الله تعالی إذا اطّلع علی قلب العبد وهو يكبِّر وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره، فقال : يا كذّاب أتخدعني وعزّتي وجلالي لأحرمنّك حلاوة ذكري ولأحجبنّك عن قربي والمسرّة بمناجاتي واعلم أنّه تعالی غير محتاج إلی خدمتك وهو غني عنك وعن عبادتك ودعائك، وإنّما دعاك بفضله ليرحمك ويبعّدك عن عقوبته وينشر عليك من بركات حنانيّته ويهديك إلی سبيل رضاه ويفتح عليك باب مغفرته، فلو خلق الله عزّوجلّ علی ضعف ما خلق من العوالم أضعافاً مضاعفة علی سرمد الأبد لكان عند الله سواء أكفروا به بأجمعهم أو

١٠٧

الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء بأصحابه صلاةً باهیٰ الله بها ملائكته المقرّبين(١) ، وقبل بشرافتها صلاة الأنبياء والمرسلين لانقطاعه عن التعلّق بما سوی الحقّ وبذله جميع ما كان له في سبيل الحقّ قائلاً بلسان الحال بل القال :

تركتُ الناس طرّاً في هواكا

وأيتمتُ العيال لكي تراكا

ولو قطّعتني إرباً فإرباً

لما حنّ الفؤاد إلی سواكا(٢)

ويحتمل أن يُراد بإقامة الصلاة هو الإقرار بولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما أنّ المراد بإيتاء الزكاة يُحتمل أن يكون هو الإقرار بولاية سائر الأئمّةعليه‌السلام ، ويؤيّد ذلك ما في حديث النورانية من قولهعليه‌السلام : يا سلمان ويا جندب : «إنّ معرفتي بالنورانيّة معرفة الله، ومعرفة الله معرفتي، وهو الدِّين الخالص يقول الله :( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا ) بالتوحيد، وهو الإخلاص وقوله :( حُنَفَاءَ ) وهو الإقرار بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الدِّين الحنيف قوله :( وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ) وهي ولايتي، فمَن والاني فقد أقام الصلاة، وهو صعبٌ مستصعب( وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ) (٣) وهو الإقرار بالأئمّة،( ذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) )(٤)

وحّدوه فليس له من عبادة الخلق إلّا إظهار الكرام والقدرة، فاجعل الحياء رداءً والعجز إزاراً وادخل تحت سرير سلطان الله تعالی تغتنم فوائد ربوبيّته مستعيناً به مستغيثاً إليه)

١ ـ راجع مقتل الحسين للسيّد المقرم ص ٢٤٥، ط قم الشريف الرضي

٢ ـ أسرار الشهادة ص ٤٢٣

٣ ـ البيّنة : ٥

٤ ـ أخرجها الحافظ رجب البرسي في مشارق أنوار اليقين ص ٣٠٣ ط : قم الشريف الرضي ١٤٢٢ هـ، ورواها سلمان وأبو ذر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: (ياسلمان لا

١٠٨

يكمل المؤمن إيمانه حتّی يعرفني بالنورانيّة، وإذا عرفني بذلك فهو مؤمن امتحن الله قلبه للايمان، وشرح صدره للإسلام، وصار عارفاً بدينه مستبصراً، ومَن قصّر عن ذاك فهو شاكٌّ مرتاب

يا سلمان ويا جندب، إنّ معرفتي بالنورانيّة معرفة الله تعالی، ومعرفة الله تعالی معرفتي، وهو الدِّين الخالص، بقول الله سبحانه :( وَمَا أُمِرُوا ) إلّا بالتوحيد، وهو الإخلاص، وقوله :( حُنَفَاءَ ) وهو الإقرار بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الدِّين الحنيف، وقوله تعالیٰ :( وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ) وهي ولايتي، فمن والاني فقد أقام الصلاة، وهو صعبٌ مستصعب،( وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ) وهو الإقرار بالأئمّة،( وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) ، شهد القرآن أنّ الدِّين القيّم الإخلاص بالتوحيد، والإقرار بالنبوّة والولاية، فمَن جاء بهذا فقد أتی بالدِّين

يا سلمان ويا جندب، المؤمن الممتحن الذي لم يرد عليه شيءٍ من أمرنا إلّا شرح الله صدره لقبوله، ولم يشك ولا يرتاب، ومَن قال: لِمَ ؟ وكيف ؟ فقد كفر، فسلّموا الله أمره، فنحن أمرُ الله

يا سلمان ويا جندب، إنّ الله جعلني أمينه علی خلقه، وخليفته في أرضه وبلاده وعباده، وأعطاني ما لم يصفه الواصفون، ولا يعرفه العارفون، فإذا عرفتموني هكذا فأنتم مؤمنون

يا سلمان، قال الله تعالی :( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ) فالصبر محمّد، والصلاة ولايتي، ولذلك قال:( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ) ، ولم يقل :( وإنّهما ) ثمّ قال:( إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) فاستثنیٰ أهل ولايتي الذين استبصروا بنور هدايتي

يا سلمان، نحن سرّ الله الذي لا يخفیٰ، ونوره الذي لا يطفیٰ، ونعمته التي لا تجزیٰ، أوّلنا محمّد، وأوسطنا محمّد، وآخرنا محمّد، فمَن عرفنا فقد أكمل الدِّين

١٠٩

القيّم

يا سلمان ويا جندب : كنتُ ومحمّد نوراً نسبِّح قبل المسبّحات، ونشرق قبل المخلوقات، فقسم ذلك النور نصفين : نبيّ مصطفیٰ، ووصيٌّ مرتضیٰ، فقال الله عزّوجلّ لذلك النصف : كُن محمّداً، وللآخر : كُن عليّاً، ولذلك قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا من عليّ وعليّ منّي، ولا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ

وإليه الإشارة بقوله :( أَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) ، وهو إشارة إلی اتّحادهما في عالم الأرواح والأنوار

ومثله قوله :( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ) والمراد منها مات النبي أو قُتل الوصي، لأنّهما شيء واحد، ومعنیٰ واحد، ونور واحد، اتّحدا بالمعنی والصفة، وافترقا بالجسد والتسمية، فهما شيء واحد في عالم الأرواح (أنت روحي التي بين جنبيّ) وكذا في عالم الأجساد، أنت منّي وأنا منك، ترثني وأرثك، وأنت منّي بمنزلة الروح من الجسد، وإليه الإشارة بقوله :( صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ومعناه : صلّوا علی محمّد، وسلّموا إلی عليّ أمره، فجمعهما في حدٍّ واحد جوهري، وفرّق بينهما بالتسمية والصفات في الأمر، فقال :( صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) فقال : صلّوا علی النبيّ، وسلِّموا علی الوصيّ، ولا تنفعكم صلاتكم علی النبيّ بالرسالة إلّا بتسليمكم علیٰ عليّ بالولاية

يا سلمان ويا جندب، وكان محمّد الناطق، وأنا الصامت، ولابدّ في كلّ زمان من صامت وناطق، فمحمّد صاحب الجمع، وأنا صاحب الحشر، ومحمّد المنذر، وأنا الهادي، ومحمّد صاحب الجنّة، وأنا صاحب الرجعة، محمّد صاحب الحوض، وأنا صاحب اللواء، محمّد صاحب المفاتيح، وأنا صاحب الجنّة والنار، محمّد صاحب الوحي، وأنا صاحب الإلهام، محمّد صاحب الدلالات، وأنا صاحب

١١٠

المعجزات، محمّد خاتم النبيّين، وأنا خاتم الوصيّين، محمّد صاحب الدعوة، وأنا صاحب السيف والسطوة، محمّد النبيّ الكريم، وأنا الصراط المستقيم، محمّد الرؤوف الرحيم، وأنا العليّ العظيم

يا سلمان قال الله سبحانه :( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ولا يعطي هذا الروح إلّا مَن فوّض إليه الأمر والقدر، وأنا أُحيي الموتی، وأعلم ما في السماوات والأرض، وأنا الكتاب المبين

يا سلمان : محمّد مقيم حجّة الحقّ، وأنا حجّة الحقّ علی الخلق، وبذلك الروح عرج به إلی السماء، أنا حملتُ نوحاً في السفينة، أنا صاحب يونس في بطن الحوت، وأنا الذي جاوزتُ موسیٰ في البحر، وأهلكت القرون الأولیٰ، أعطيتُ علم الأنبياء والأوصياء وفصل الخطاب، ووليتُ نبوّة محمّد، أنا أجريتُ الأنهار والبحار وفجّرت الأرض عيوناً، أنا كاب الدُّنيا لوجهها، أنا عذاب يوم الظلّة، أنا الخضر معلِّم موسیٰ، أنا معلِّم داود وسليمان، أنا ذو القرنين، أنا الذي رفعتُ سمكها بإذنه ـ عزّوجلّ ـ أنا دحوت أرضها، أنا المنادي من مكانٍ بعيد، أنا دابّة الأرض، أنا كما قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت يا عليّ ذو قرنيها، وكلا طرفيها، ولك الآخرة والأُولی

يا سلمان : إنّ ميّتنا إذا مات لم يمت، ومقتولنا لم يُقتل، وغائبنا إذا غاب لم يغب، ولا نلد ولا نولد في البطون، ولا يُقاس بنا أحدٌ من الناس، أنا تكلّمتُ علی لسان عيسیٰ في المهد، أنا نوح، أنا إبراهيم، أنا صاحب الناقة، أنا صاحب الراجفة، أنا صاحب الزلزلة، أنا اللوح المحفوظ، إليّ انتهی علم ما فيه، أنا أنقلب في الصور كيف شاء الله، مَن رآهم فقد رآني، ومَن رآني فقد رآهم، ونحن في الحقيقة نور الله الذي لا يزول ولا يتغيّر

١١١

والأولی حمل الفقرة علی الظاهر والباطن معاً فقد ورد عن جوده وكرمه وإعانته للفقراء، ورعايته للضعفاء ومواساته مع المساكين سرّاً وعلانيةً ما هو أبين من الشمس، وأشهر من أنْ يُذكر، فقد حكیٰ في مناقب الجوزي : أنّه قال عمر بن سعد : من يُوطئ الخيل صدره ؟ فأوطئوا الخيل صدره وظهره، ووجدوا في ظهره آثاراً سوداً، فسألوا عنها فقيل : كان ينقل الطعام علی ظهره في الليل إلی مساكين(١) أهل المدينة(٢)

يا سلمان : بنا شرّف كلّ مبعوث، فلا تدعونا أرباباً، وقولوا فينا ماشئتم، ففينا هلك مَن هلك، وبنا نجیٰ مَن نجیٰ

يا سلمان، مَن آمن بما قلتُ وشرحتُ فهو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان ورضي عنه ومَن شكّ وارتاب فهو ناصب، وإن ادّعی ولايتي فهو كاذب

يا سلمان : أنا والهداة من أهل بيتي سرّ الله المكنون، وأولياؤه المقرّبون، كلنّا واحد، وأمرنا واحد وسرّنا واحد، فلا تفرّقوا فينا فتهلكوا، فإنّا نظهر في كلّ زمان بما شاء الرحمن، فالويل كلّ الويل كلّ الويل لمن أنكرنا

قلت : ولا ينكره إلّا أهل الغباوة، ومن خُتِم علی قلبه وسمعه وجعل علی بصره غشاوة، يا سلمان، أنا أبو كلّ مؤمن ومؤمنة

يا سلمان، أنا الطامّة الكبری، أنا الأزفة إذا أزفت، أنا الحاقّة، أنا القارعة، أنا الغاشية، أنا الصاخة، أنا المحنة النازلة، ونحن الآيات والدلالات والحجب ووجه الله، أنا كُتب اسمي علی العرش فاستقرّ، وعلی السماوات فقامت، وعلی الأرض فرست، وعلی الريح فدرأت، وعلی البرق فلمع، وعلی الوادي فهمع، وعلی النور فسطع، وعلی السحاب فدمع، وعلی الرعد فخشع، وعلی الليل فدجیٰ وأظلم، وعلی النهار فأنار وتبسّم)

١ ـ في المصدر (مساكن) بدل (مساكين)

٢ ـ تذكرة الخواص للعلّامة السبط ابن الجوزي (ت ٦٥٤ هـ)، ط قم، الشريف الرضي

١١٢

وفي كتاب مطالب السؤول أنّهعليه‌السلام كان يُكرم الضيف ويمنح الطالب ويصِل الرحم، وينيل الفقير، ويسعف السائل، ويكسو العاري، ويشبع الجائع، ويُعطي الغارم، ويشدّ الضعيف، ويشفق علی اليتيم، ويعين ذا الحاجة، وقلَّ أنْ وصله مالٌ إلّا فرّقه(١) ونقل : أنّ معاوية لـمّا قدم مكّة وصله بمالٍ كثير، وثيابٍ وافرة، وكسوة وافية فردَّ الجميع عليه ولم يقبله منه، وهذه سجيّة الجواد، وشنشنة الكريم، وسمة ذي السماحة، وصفة مَن قد حوی مكارم الأخلاق، فأفعاله المتلوة شاهدة له بصفة الكرم ناطقة بأنّه متّصف بمحاسن الشيم، وقد كان في العبادة مقتدياً بمَن تقدّم حتّی نقل عنهعليه‌السلام : أنّه حجّ خمساً وعشرين حجّة إلی الحرم وجنائبه تُقاد معه وهو ماشٍ علی القدم(٢)

والأمر بالمعروف : هو الحمل علی الطاعة قولاً أو فعلاً(٣) ، والنهي عن المنكر : هو المنع عن المعاصي كذلك(٤) ، والمعروف : هو الفعل الحسن المشتمل علی وصف زائد علی حسنه سُمّيَ به لأنّ العقل يعرفه ويحسنه(٥) ، والمنكر : هو الفعل القبيح الذي عرف فاعله قبحه، سمّي به لأنّ العقل ينكره وينكر علی فاعله، ولا إشكال في وجوبها شرعاً لورود الآيات والأخبار الكثيرة

________________________

١ ـ مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي المتوفیٰ ٦٥٢ هـ ح ٢، ص ٦٣، الفصل السابع في كرمه ط : أُمّ القریٰ

٢ ـ إلی هنا انتهی كلام ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول ج ٢، ص ٦٣، وراجع ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من تاريخ دمشق لابن عساكر ص ١٩٤ ـ ١٩٧

٣ ـ هذا التعريف ذكره الشهيد الثاني في الروضة البهية علی شرح اللمعة الدمشقية ج ١، ص ٣٤٢

٤ ـ نفس المصدر

٥ ـ راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحلّيقدس‌سره ج ١، ص ٣١٠ ط قم إسماعيليان

١١٣

به(١) وإنْ اختلف في الكفائية والعينيّة(٢) ، وكذا في الوجوب العقلي، فذهب جماعة إليه نظراً إلی أنّ ذلك لطف وهو واجب(٣) وتفاصيل تلك المباحث تُطلب من الفقه كشرائط الوجوب(٤)

ويحتمل أن يُراد بالأمر بالمعروف دعوة الناس إلی محبّة أمير المؤمنينعليه‌السلام

________________________

١ ـ من الآيات الدالّة عليه قوله تعالی :( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ )

ومن الأخبار قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (لتأمُرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطنّ الله شراركم علی خياركم فيدعوا خياركم فلا يُستجاب لهم)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إذا أُمّتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)

وللتفصيل راجع وسائل الشيعة للحرّ العاملي ج ١١، ص ٣٩٤، ح ٥، من أبواب الأمر والنهي، ط : بيروت دار إحياء التراث العربي

٢ ـ ذهب شيخ الطائفة الطوسيقدس‌سره إلی الوجوب العيني، أي لا يسقط عن الآخرين بقيام جماعة به

وذهب السيّد المرتضی رحمه‌الله والشهيد الأوّل في اللمعة إلی الوجوب الكفائي، أي يسقط عن الآخرين بقيام جماعةٍ له

٣ ـ إنّ الشيخ الطوسيقدس‌سره ذهب إلی وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عقلي واحتجّ واستدلّ بأنّهما لطفان في فعل الواجب وترك القبيح، فيجبان عقلاً

وأمّا السيّد المرتضی فقال : إنّ وجوبهما سمعي أي نقلي، ووافقه العلّامة الحلّي قدس‌سره ، وللتفصيل راجع الباب الحادي عشر للعلّامة الحلّي ص ١١٤ ط : قم

٤ ـ راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحلي، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ١ في باب الأمر بالمعروف، وباقي الكتب الفقهية

١١٤

وطريقته، ومنهاجه، وبالنهي عن المنكر منعهم عن الضلالات التي دعا إليها خلفاء الجور من أبي بكر وعمر وأحزابهما، وربما يُفسّر قوله تعالی :( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ) (١) بأنّ عليّاًعليه‌السلام ينهیٰ عن طريقة أبي بكر

________________________

١ ـ العنكبوت : ٤٥، ويؤيّد هذا التفسير أو التأويل جملة من الآيات التي فسّرت بهذه الطريقة منها :

قوله تعالی في سورة النحل :( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ )

قال عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره ج ١، ص ٣٩٠ ط بيروت : العدل : شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والإحسان : أمير المؤمنين، والفحشاء والمنكر والبغي، فلان، وفلان، وفلان)

ويؤيّده ما رواه الاسترآبادي في تأويل الآيات ص ٢٦٤ ط : إيران، عن الإمام الباقرعليه‌السلام في قوله عزّوجلّ :( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) قال: العدل شهادة الإخلاص وأنّ محمّداً رسول الله، والإحسان ولاية أمير المؤمنين والإتيان بطاعتهما ـ صلوات الله عليهما ـ، وإيتاء ذي القربیٰ : الحسن والحسين والأئمّة من ولدهعليهم‌السلام ، وينهی عن الفحشاء والمنكر والبغي وهو مَن ظلمهم وقتلهم ومنع حقوقهم، وموالاة أعدائهم فهي المنكر الشنيع والأمر الفضيع

ويؤيّده ما رواه الشيخ الكليني في الكافي ج ١، ص ٣٧٤، عن محمّد بن منصور قال: سألتُ العبد الصالح ـ الإمام الكاظمعليه‌السلام ـ عن قول الله عزّوجلّ : ( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) فقال : إنّ القرآن له بطن وظهر، فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمّة الجور، وجميع ما أحلَّ الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمّة الحقّ

١١٥

وعمر، ويؤيّده مطابقة عدد المنكر مع عمر، والإطاعة هو الامتثال بالائتمار بالأوامر والانتهاء عن النواهي

واليقين هنا الموت كما في قوله تعالی :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (١) أقيم السبب مقام المسبّب فإنّ بالموت يزول الشكّ ويحصل العلم بما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من أحوال النشأة الأخریٰ وهذا بالنسبة إلی عامّة الناس، وأمّا الخصيصون من العباد فهم علی يقين وعلم في جميع أحوالهم فكأنّهم يعاينون الجنّة والنار والصراط والميزان وسائر ما أخبر به الصادق الأمين، ومن

ويؤيّده ما رواه الاسترآبادي في تأويل الآيات ص ٢٢، عن داود بن كثير عن الإمام الصادقعليه‌السلام : (يا داود : إنّ الله خلقنا فأكرم خلقنا، وفضّلنا وجعلنا أُمناءه وحفظته وخزّانه علی ما في السماوات وما في الأرض، وجعل لنا أضداداً وأعداءً، فسمّانا في كتابه وكنّیٰ عن أسمائنا بأحسن الأسماء وأحبّها إليه تكنيةً عن العدو، وسمّی أضدادنا وأعداءنا في كتابه وكنّی عن أسمائهم، وضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه وإلی عباده المتّقين)

ويؤيّد هذا ما رواه في نفس المصدر عن الفضل بن شاذان بإسناده عن الصادق عليه‌السلام : إنّه قال: (نحن أصل كلّ خير، ومن فروعنا كلُّ برٍّ، ومن البرّ التوحيد، والصلاة، والصيام، وكظم الغيظ، والعفو عن المسيء، ورحمة الفقير، وتعاهد الجار، والإقرار بالفضل لأهله، وعدوّنا أصل كلّ شرٍّ، ومن فروعهم كلُّ قبيح وفاحشة، فمنهم الكذب، والنميمة، والبخل، والقطيعة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بغير حقّه، وتعدّي الحدود التي أمر الله عزّوجلّ، وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن من الزنا والسرقة، وكلُّ ما وافق ذلك من القبيح، وكذب مَن قال إنّه معنا وهو متعلِّق بفرع غيرنا)

١ ـ الحجر : ٩٩

١١٦

هنا قال [الإمام] عليّعليه‌السلام : (لو كُشِفَ لي الغطاء لما ازددتُ يقيناً)(١)

وحمل الصوفية هذه الآية علی ظاهرها فزعموا أنّ لا تكليف علی أولياء الله فإنّهم بلغوا معارج اليقين وفساد زعمهم ظاهر مستبين

________________________

١ ـ راجع مصابيح الأنوار في حلّ مشكلات الاخبار للسيّد الجليل عبدالله شبّر المتوفیٰ ١٢٤٢ هـ، ج ١، ص ٣٠، الحديث الرابع، ط مؤسسة النور بيروت وذكرقدس‌سره تسعة احتمالات لهذا الحديث الشريف فراجع

١١٧

فَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً قَتَلَتْكَ، وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً ظَلَمَتْكَ

هذا تفريعٌ علی جميع ما تقدّم، وفيه إشارة إلی أنّ الجامع لهذه الشرافات والكمالات الداخلية والخارجية يستحقّ التعظيم والإطاعة، لا القتل والإهانة، فالقاتل والظالم له مستحقّ للعن من الله، وهو الطرد من رحمته والإبعاد عنها(١) ، والأُمّة : الجماعة وفي تأنيث الضمير الراجع إليها والعدول عن التعبير بفعل العقلاء لطيفة لا تخفیٰ علی الأذكياء، فأجراهم مجری السباع من الكلاب العادية، والذئاب الضارية التي لا تُفرّق في أذاها بين العالم والجاهل، والصالح والطالح، والبرّ والفاجر والمؤمن والكافر، بل هم أضلّ وأقسیٰ منها حيث لا تجترئ علی الأنبياء وذريّاتهم لما حرّم الله عليها لحومهم(٢) وهؤلاء قد هتكوا

________________________

١ ـ راجع المصباح المنير للفيومي ج ٢، ص ٥٥٤، دار الهجرة

٢ ـ روی السيّد هاشم البحرانيقدس‌سره في حلية الأبرار ج ٢، ص ٤٦٨، ط : الأعلمي بيروت : عن الراوندي في الخرائج عن أبي هاشم الجعفري قال: ظهرت في أيّام المتوكّل امرأة تدّعي أنّها زينب بنت فاطمةعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال لها المتوكّل : أنت امرأة شابّة وقد مضیٰ من وقت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما مضیٰ من السنين ؟ فقالت : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مسحَ علی رأسي وسأل الله عزّوجلّ أن يردّ عليَّ شبابي في كلّ أربعين سنة ولم أظهر للناس إلی هذه الغاية فلحقني الحاجب فصرتُ إليهم

فدعا المتوكّل مشايخ آل أبي طالب وولد أبي العبّاس وقريش فعرّفهم حالها فروی جماعة وفاة زينب بنت فاطمة عليها‌السلام في سنة كذا فقال لها : ما تقولين في هذه الرواية ؟ فقالت : كذب وزور فإنّ أمري كان مستوراً عن الناس فلم يعرف لي موت ولا حياة

١١٨

فقال لهم المتوكّل : هل عندكم حجّة علی هذه المرأة غير هذه الرواية ؟ فقالوا : لا، فقال : هو بريء من العبّاس أن لا أتركها عمّا ادّعت إلّا بحجّة

قالوا : فأحضر عليّ بن محمّد ـ الهادي ـعليه‌السلام فلعلّ عنده شيئاً من الحجّة غير ما عندنا فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال : كذبت فإنّ زينبعليها‌السلام توفّيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا، قال: فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفتُ أن لا أتركها عمّا ادّعت إلّا بحجّة تلزمها

قال : فهاهنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها، قال: وما هي ؟ قالعليه‌السلام : لحوم ولد فاطمة محرّمة علی السباع فأنزلها إلی السباع فإنْ كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها فقال لها : ما تقولين ؟ قالت : إنّه يريد قتلي قال: فهاهنا جماعة من ولد الحسن والحسينعليهما‌السلام فانزل مَن شئتَ منهم

قال : فوالله لقد تغيّرت وجوه الجميع فقال بعض المبغضين : هو يُحيل علی غيره ولِمَ لا يكون هو ؟

فمال المتوكّل إلی ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع فقال : يا أبا الحسن لِمَ لا تكون أنت ذلك ؟

قالعليه‌السلام : ذلك إليك قال: فافعل قال: أفعل إنْ شاء الله وأُتيَ بسلّم وفُتِحَ عن السباع كانت ستّة من الأسد فنزل الإمامعليه‌السلام ، فلمّا وصل وجلس صارت الأسود إليه ورمت بأنفسها بين يديه، ومدّت بأيديها ووضعت رؤوسها بين يده وجعل يمسح علی كلّ واحدٍ منها، بيده ثمّ يُشير بيده إليه بالاعتزال فيعتزل ناحية حتی اعتزلت كلّها ووقفت بإزائه

فقال له الوزير : ما هذا صواباً ؟ فبادر بإخراجه من هناك قبل أن ينتشر خبره فقال له : يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً وإنّما أردنا نكون علی يقين ممّا قلتَ فأحبُّ أن تصعد

١١٩

حرمة نبيّهم بقتل بنيه، وسبي ذراريه، وأساؤوا الصنع فيهم بما لم يسبقهم إليه أحدٌ من الملل السابقة مع ما أكّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّهم من الوصيّة بودادهم ومحبّتهم، حتّی جعل ذلك أجراً علی تعباته ومحنه في النبوّة كما قال:( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١)

فليت شعري ماذا كانوا يصنعون لو أمرهم ببغض العترة ونصب العداوة لهم أو يمكنهم الزيادة علی ما صنعوا ؟ كلّا ما قدروا علی أزيد ممّا صدر عنهم من الظلم والطغيان ومعصية الرحمان

ولنعم ما قيل :

قد أبدلوا الودَّ في القربیٰ ببغضهم

كأنّما ودّهم في الذكرِ بغضاءُ

     

وقيل أيضاً :

فقام وصار إلی السلّم وهم حوله تتمسّح بثيابه، فلمّا وضع رجله علی أوّل درجة ينقلب إليها وأشار بيده أن ترجع فرجعت وصعد ثمّ قال: كلّ مَن زعم أنّه من ولد فاطمةعليها‌السلام فليجلس في ذلك المجلس فقال لها المتوكّل : انزلي قالت : الله الله ادّعيتُ الباطل، وأنا بنت فلان حملني الضرُّ علی ما قلتُ

قال المتوكّل : القوها إلی السباع، فبعثت والدته فاستوهبتها منه فأحسن إليها

وللمزيد وللتفصيل راجع الخرائج للراوندي، ومدينة المعاجز للبحراني سوف تجد أمثال هذه الرواية بالعشرات

١ ـ الشوری : ٢٣، حيث أخرج السيوطي في الدرّ المنثور ج ٦، ص ٧، ط : مصر، عن ابن عبّاس قال: لـمّا نزلت هذه الآية( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) قالوا : يارسول الله مَن قرابتُكَ هؤلاء الذين وجبت مودّتهم ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : عليّ وفاطمة وولداها

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

سورة إبراهيم

٢٢

التمثيل الثاني والعشرون

( مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيد ) .(١)

تفسير الآية

« العصف » : شدة الريح ، يوم عاصف أي شديد الريح ، وإنّما جعل العصف صفة لليوم مع أنّه صفة للريح لأجل المبالغة ، وكأنّ عصف الريح صار بمنزلة جعل اليوم عاصفاً ، كما يقال : ليل غائم ويوم ماطر.

انّه سبحانه يشبّه عمل الكافرين في عدم الانتفاع به برماد في مهب الريح العاصف ، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرق ، فكذلك هؤلاء الكفار لا يقدرون مما كسبوا على شيء فلا ينتفعون بأعمالهم البتة.

وقال سبحانه في آية أخرى :( وَقَدِمْنَا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) .(٢)

والمراد من أعمالهم ما يعد صالحاً في نظر العرف كصلة الأرحام وعتق الرقاب

__________________

١ ـ إبراهيم : ١٨.

٢ ـ الفرقان : ٢٣.

١٦١

وفداء الأسارى وإغاثة الملهوفين ، لأنّهم بنوا أعمالهم على غير معرفة الله والإيمان به فلا يستحقون شيئاً عليه.

وأمّا الأعمال التي تعد من المعاصي الموبقة ، فهي خارجة عن مصبّ الآية لوضوح حكمها.والآية دليل على أنّ الكافر لا يثاب بأعماله الصالحة يوم القيامة إذا أتى بها لغير وجه الله.

نعم لو أتى بها طلباً لرضاه ورضوانه فلا غرو في أن يثاب به ويكون سبباً لتخفيف العذاب.

١٦٢

سورة إبراهيم

٢٣

التمثيل الثالث والعشرون

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَة أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُوَْتي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِإذْنِ رِبّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ) .(١)

تفسير الآيات

انّه سبحانه تبارك وتعالى مثل للحق والباطل ، أو الكفر والإيمان بتمثيلات مختلفة ، وقد جاء التمثيل في هذه الآية بأنّ مثل الإيمان كشجرة لها الصفات التالية :

أ : انّها طيبة : أي طاهرة ونظيفة في مقابل الخبيثة ، فانّ الشجر على قسمين : منها ما هو طيب الثمار كالتين والنخل والزيتون وغيرها ، ومنها ما هو خبيث الثمار كالحنظل.

ب : أصلها ثابت ، أي لها جذور راسخة في أعماق الأرض لا تزعزعها العواصف الهوجاء ولا الأمواج العاتية.

ج : فرعها في السماء ، أي لها أغصان مرتفعة ، فهي بجذورها الراسخة تحتفظ بأصلها وبفروعها في السماء وتنتفع من نور الشمس والهواء والماء.

__________________

١ ـ إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٥.

١٦٣

وهذه الفروع والأغصان من الكثرة بحيث لا يزاحم أحدها الآخر ، كما أنّها لا تتلوث بما على سطح الأرض.

د :( تعطى أكلها كل حين ) أي في كلّ فصل وزمان ، لا بمعنى كلّ يوم وكل شهرحتى يقال بأنّه ليس على وجه البسيطة شجرة مثمرة من هذا النوع.

وبعبارة أخرى : انّ مثل هذه الشجرة لا تبخس في عطائها ، بل هي دائمة الأثمار في كل وقت وقّته الله لاثمارها.

هذا حال المشبه به ، وأمّا حال المشبه ، فقد اختلفت كلمتهم إلى أقوال لا يدعمها الدليل ، والظاهر انّ المراد من المشبه هو الاعتقاد الحقّ الثابت ، أعني التوحيد والعدل وما يلازمهما من القول بالمعاد.

فهذه عقيدة ثابتة طيبة لا يشوبها شيء من الشرك والضلال ولها ثمارها في الحياتين.

والذي يدل على ذلك هو انّه سبحانه ذكر في الآية التالية ، قوله :( يُثَبّتُ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ ) (١) ، وهذا القول الثابت عبارة عن العقيدة الصالحة التي تمثلها كلمة التوحيد والشهادة بالمعاد وغيرهما ، قال السيد الطباطبائي :

القول بالوحدانية والاستقامة عليه ، هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغير وزوال وبطلان ، وهو الله عزّ اسمه أو أرض الحقائق ، وله فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيا بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الإنساني حق

__________________

١ ـ إبراهيم : ٢٧.

١٦٤

عمارته ، وهي التي تلائم سير النظام الكوني الذي أدى إلى ظهور الإنسان بوجوده المنظور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح.(١)

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله :( وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثال للنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ) ، أي ليرجعوا إلى فطرتهم فيتحقّقوا من أنّ السعادة رهن الاعتقاد الصحيح المثمر في الحياتين.

وبذلك يعلم انّ ما ذكره بعض المفسرين بأنّ المراد كلمة التوحيد لا يخالف ما ذكرنا ، لأنّ المراد هو التمثل بكلمة التوحيد لا التلفظ بها وحده حتى أنّ قوله سبحانه :( إِنَّ الّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوفٌ عََلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون ) (٢) يراد منه التحقّق بقوله( ربّنا الله ) لا التلفظ بها ، وقد أشار سبحانه إلى العقيدة الصحيحة ، بقوله :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٣) .

فالكلم الطيّب هو العقيدة ، والعمل الصالح يرفع تلك العقيدة.

وبذلك يعلم أنّ كلّ عقيدة صحيحةلها جذور في القلوب ، ولها فروع وأغصان في حياة الإنسان ولهذه الفروع ثمار ، فالاعتقاد بالواجب العادل الحكيم المعيد للإنسان بعد الموت يورث التثبت في الحياة والاجتناب عن الظلم والعبث والفساد إلى غير ذلك من العقائد الصالحة التي لها فروع.

إلى هنا تمّ المثل الأوّل للمؤمن والكافر أو للإيمان والكفر.

____________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٥٢.

٢ ـ الأحقاف : ١٣.

٣ ـ فاطر : ١٠.

١٦٥

وربما يقال : الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة الله الطيبة ، وحياتهم أصل البركة ، ودعوتهم توجب الحركة ، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية.

ولكن سياق الآيات لا يؤيده ، لأنّه سبحانه يفسر الكلمة الطيبة بما عرفت ، أعني قوله :( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) .

والمراد من القول الثابت هو الكلمة الطيبة ، وقلب المؤمن هو الأرض الطيبة التي ترسخ فيها جذور تلك الشجرة.

١٦٦

سورة إبراهيم

٢٤

التمثيل الرابع و العشرون

( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ منْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار ) .(١)

تفسير الآية

مثّل سبحانه تبارك وتعالى للعقيدة الصالحة بالمثل السابق ومقتضى الحال أن يمثل للعقيدة الباطلة بضد المثل السابق ، فهي على طرف النقيض مما ذكر في الآية السابقة ، وإليك البيان :

فالكفر كشجرة لها هذه الأوصاف :

أ : انّها خبيثة مقابلة الطيبة ، أي لا يطيب ثمارها كشجرة الحنظل.

ب :( اجتثت من فوق الأرض ) في مقابل قوله( أصلها ثابت ) وحقيقة الاجتثاث هي اقتلاع الشيء من أصله ، أي اقتطعت واستؤصلت واقتلعت جذورها من الأرض.

ج :( ما لها من قرار ) أي ليس لتلك الشجرة من ثبات ، فالريح تنسفها وتذهب بها ، وبالتالي ليس لها فروع وأغصان أو ثمار.

__________________

١ ـ إبراهيم : ٢٦.

١٦٧

هذا هو المشبه به ، وأمّا المشبه فهو عبارة عن العقيدة الضالة الكافرة التي لا تعتمد على برهان ولا دليل ، يزعزعها أدنى شبهة وشك.

فينطبق صدر الآية التالية على التمثيل الأوّل ، وذيله على التمثيل التالي ، أعني : قوله :( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) هذا هو المنطبق على التمثيل الأوّل

وأمّا المنطبق على التمثيل الثاني فهو قوله :( وَيُضِلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) أي يضل أهل الكتاب بحرمانهم من الهداية ، وذلك لأجل قصورهم في الاستفادة عن الهداية العامة التي هي متوفرة لكل إنسان ، أعني : الفطرة ودعوة الأنبياء

وقوله :( يفعل الله ما يشاء ) بمعنى انّه تعلّقت مشيئته بتثبيت المؤمنين وتأييدهم وإضلال الظالمين وخذلانهم ، ولم تكن مشيئته عبثاً وإنّما نابعة من حكمة بالغة.

١٦٨

سورة إبراهيم

٢٥

التمثيل الخامس والعشرون

( وَأَنذِرِ النّاسَ يَوم يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الّذينَ ظَلَمُوا رَبّنَا أَخّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولَ مِنْهُ الجِبال ) .(١)

تفسير الآيات

إنّ الآية تمثل حال قوم شاهدوا نزول جزء من العذاب والبلاء فعادوا يظهرون الندم على أعمالهم البغيضة ويطلبون الإمهال حتى يتلافوا ما فاتهم من الإيمان والعمل الصالح ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول :( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ) أي مشاهدة نزول العذاب في الدنيا بشهادة استمهالهم ، كما في قوله تعالى :( فَيَقول الذين ظلموا ربّنا أخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ) .

فيرد دعوتهم بأنّ هذا الطلب ليس طلباً صادقاً وإنّما ألجأهم إليه رؤية

__________________

١ ـ إبراهيم : ٤٤ ـ ٤٦.

١٦٩

العذاب.

فيخاطبهم سبحانه بقوله :( أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) .

وعلى ما ذكرنا يكون مفاد الآية : حلفتم قبل نزول العذاب بأنّه ليس لكم زوال من الراحة إلى العذاب ، وظننتم انّكم بما تمتلكون من القوة والسطوة أمّة خالدة مالكة لزمام الأمور ، فلماذا تستمهلون ؟ ثمّ يخاطبهم بجواب آخر وهو قوله :( وَسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ) أي سكنتم ديار من كذب الرسل فأهلكهم الله وعرفتم ما نزل بهم من البلاء والهلاك والعذاب كقوم عاد وثمود ، وضربنا لكم الأمثال وأخبرناكم بأحوال الماضين لتعتبروا فلم تتعظوا.

وعلى ذلك فالمشبه به هو حال الأمم الهالكة بأفعالهم الظالمة.

والمشبه هو الأمم اللاحقة لهم الذين رأوا العذاب فاستمهلوا الأجل وندموا ولات حين مناص.

١٧٠

النحل

٢٦

التمثيل السادس والعشرون

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمٍ تَاللهِ لَتُسئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَه وَلَهُمْ ما يَشْتَهون * وإِذا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاَُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم * يَتوارَى مِنَ القَومِ مِنْ سُوءِ ما بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُون * لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَة مثلُ السَّوءِ وَللهِ المَثَلُ الأعلى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم ) .(١)

تفسير الآيات

إنّ الله سبحانه هو الواجب الغني عن كل من سواه ، قال سبحانه :( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد ) (٢) فلا يصحّ وصفه بما يستشمُّ منه الفقر والحاجة ، لكن المشركين غير العارفين بالله كانوا يصفونه بصفات فيها وصمة الفقر والحاجة ، وقد حكاها سبحانه في غير واحد من الآيات ، فقال :( وَجَعَلُوا للهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاََنْعامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَمَا كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللهِ وَمَا كانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ سَاءَ ما يَحْكُمُون ) .(٣)

__________________

١ ـ النحل : ٥٦ ـ ٦٠.

٢ ـ فاطر : ١٥.

٣ ـ الأنعام : ١٣٦.

١٧١

فقد أخطأوا في أمرين :

أ : فرز نصيب لله من الحرث والأنعام ، وكأنّه سبحانه فقير يجعلون له نصيباً ممّا يحرثون ويربّون من أنعامهم.

ب : الجور في التقسيم والقضاء ، فيعطون ما لله إلى الشركاء دون العكس ، وما هذا إلاّ لجهلهم بمنزلته سبحانه وأسمائه وصفاته.

وقد أشار إلى ما جاء تفصيله في سورة الأنعام على وجه موجز في المقام ، وقال :( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفتَرُون ) .

ونظير ما سبق انّهم كانوا يبغضون البنات ويجعلونها لله ، ويحبون البنين ويجعلونهم لأنفسهم ، وإليه يشير سبحانه بقوله :( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَناتِ سُبحانهُ وَلَهُم ما يَشتَهُون ) والمراد من الموصول في( ما يشتهون ) هو البنون ، وبذلك تبيّن معنى قوله سبحانه :( لِلّذِينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوء ) أي انّ المشركين المنكرين للآخرة يصفونه سبحانه بصفات السوء التي يستقبحها العقل ويذمّها ، وقد عرفت كيفية وصفهم له فوصفوه عند التحليل بالفقر والحاجة والنقص والاِمكان ، والله سبحانه هو الغني المطلق ، فهو أعلى من أن يوصف بأمثال السوء ، ولكن الموحّد يصفه بالكمال كالحياة والعلم والقدرة والعزّة والعظمة والكبرياء ، والله سبحانه عند المؤمنين( هُوَ الْمَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ الْمُوَْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبّارُ الْمتَكَبّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبَارِئ الْمُصَوّرُ لَهُ الأسْماءُ الْحُسْنى ) (١) ويقول سبحانه :( وَلَهُ المَثَلُ الأعلى فِي

__________________

١ ـ الحشر : ٢٣ ـ ٢٤.

١٧٢

السَّموات وَالأرض ) (١) وقال :( لَهُ الاََسماءُ الحُسْنى ) .(٢)

ومنه يظهر جواب سؤال طرحه الطبرسي في « مجمع البيان » ، وقال : كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه( وَلله المثل الأعلى ) وقوله :( فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون ) .(٣)

والجواب انّ المراد من ضرب الأمثال هو وصفه بما يدل على فقره وحاجته أو تشبيهه بأُمور مادية ، وقد تقدم انّ المشركين جعلوا له نصيباً من الحرث والأنعام ، كما جعلوا الملائكة بناتاً له ، يقول سبحانه :( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الّذينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمن اناثاً ) ،(٤) ويقول سبحانه :( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنّة نَسباً ) .(٥) إلى غير ذلك من الصفات التي يتنزه عنها سبحانه ، فهذا النوع من التمثيل أمر محظور ، وهو المراد من قوله( فَلا تَضْرِبُوا لله الأمْثال ) .

وأمّا التمثيل لله سبحانه بما يناسبه كالعزّة والكبرياء والعلم والقدرة إلى غير ذلك ، فقد أجاب عليه القرآن ولم ير فيه منعاً وحظراً ، بشهادة انّه سبحانه بعد هذا الحظر أتى بتمثيلين لنفسه ، كما سيتضح في التمثيل الآتي.

وربما يذكر في الجواب بأنّ الأمثال في الآية جمع « المِثْل » بمعنى « الند » ، فوزان قوله( لا تضربوا لله الأمثال ) كوزان قوله :( فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً ) (٦) ، ولكنّه معنى بعيد ، فانّ المثل بفتح العين يستعمل مع الضرب ، دون المثل بسكون

____________

١ ـ الروم : ٢٧.

٢ ـ طه : ٨.

٣ ـ النحل : ٧٤.

٤ ـ الزخرف : ١٩.

٥ ـ الصافات : ١٥٨.

٦ ـ البقرة : ٢٢.

١٧٣

العين بمعنى الند فلم يشاهد اقترانه بكلمة الضرب.

ويقرب ممّا ذكرنا كلام الشيخ الطبرسي حيث يقول :

إنّ المراد بالأمثال الاَشباه ، أي لا تشبّهوا الله بشيء ، والمراد بالمثل الأعلى هنا الوصف الأعلى الذي هو كونه قديماً قادراً عالماً حياً ليس كمثله شيء.

وقيل إنّ المراد بقوله :( المثل الأعلى ) : المثل المضروب بالحق ، وبقوله :( فلا تضربوا لله الأمثال ) : الأمثال المضروبة بالباطل.(١)

وفي الختام نودُّ أن نشير إلى نكتة ، وهي انّ عدّ قوله سبحانه( للّذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ) من قبيل الأمثال القرآنية لا يخلو من غموض ، لأنّ الآية بصدد بيان نفي وصفه بصفات قبيحة سيئة دون وصفه بصفات عليا فأين التمثيل ؟

إلاّ أن يقال : إنّ التشبيه ينتزع من مجموع ما وصف به المشركون ، حيث شبّهوه بإنسان له حاجة ماسّة إلى الزرع والأنعام وله بنات ونسبة مع الجن إلى غير ذلك من أمثال السوء ، فالآية بصدد ردّ هذا النوع من التمثيل ، وفي الحقيقة سلب التمثيل ، أو سوق المؤمن إلى وصفه سبحانه بالأسماء الحسنى والصفات العليا.

__________________

١ ـ مجمع البيان : ٣ / ٣٦٧.

١٧٤

النحل

٢٧

التمثيل السابع والعشرون

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالأرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَستَوون الحمدُ للهِ بَلْ أَكْثَرهُمْ لا يَعْلَمُون ) .(١)

تفسير الآيات

ندّد سبحانه بعمل المشركين الذين يعبدون غير الله سبحانه ، بأنّ معبوداتهم لا تملك لهم رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً ، فكيف يعبدونها مع أنّها أشبه بجماد لا يرجى منها الخير والشر ، وإنّما العبادة للإله الرازق المعطى المجيب للدعوة ؟

هذا هو المفهوم من الآية الأولى.

ثمّ إنّه سبحانه يمثّل لمعبود المشركين والمعبود الحق بالتمثيل التالي :

افرض مملوكاً لا يقدر على شيء ولا يملك شيئاً حتى نفسه ، فهو بتمام معنى الكلمة مظهر الفقر والحاجة ، ومالكاً يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه ، فيتصرف في ماله كيف شاء وينعم كيف شاء. فهل هذان متساويان ؟ كلاّ.

____________

١ ـ النحل : ٧٣ ـ ٧٥.

١٧٥

وعلى ضوء ذلك تمثّل معبوداتهم الكاذبة مثل العبد الرق المملوك غير المالك لشيء ، ومثله سبحانه كمثل المالك للنعمة الباذل لها المتصرف فيها كيف شاء.

وذلك لأنّ صفة الوجود الإمكاني ـ أي ما سوى الله ـ نفس الفقر والحاجة لا يملك شيئاً ولا يستطيع على شيء.

وأمّا الله سبحانه فهو المحمود بكلّ حمد والمنعم لكلّ شيء ، فهو المالك للخلق والرزق والرحمة والمغفرة والإحسان والإنعام ، فله كلّ ثناء جميل ، فهو الربّ ودونه هو المربوب ، فأيّهما يصلح للخضوع والعبادة ؟

ويدل على ما ذكرنا انّه سبحانه حصر الحمد لنفسه ، وقال : الحمد لله أي لا لغيره ، فالحمد والثناء ليس إلاّ لله سبحانه ، ومع ذلك نرى صحة حمد الآخرين بأفعالهم المحمودة الاختيارية ، فنحمد المعطي بعطائه والمعلم لتعليمه والوالد لما يقوم به في تربية أولاده.

وكيفية الجمع انّ حمد هؤلاء تحميد مجازى ، لأنّ ما بذله المنعم أو المعلم أو الوالد لم يكن مالكاً له ، وإنّما يملكه سبحانه فهو أقدرهم على هذه الأعمال ، فحمد هؤلاء يرجع إلى حمده وثنائه سبحانه ، ولذلك صح أن نقول : إنّ الحمد منحصر بالله لا بغيره. ولذلك يقول سبحانه في تلك الآية :( وَالحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرهُمْ لا يَعْلَمُون ) أي الشكر لله على نعمه ، يقول الطبرسي : وفيه إشارة إلى أنّ النعم كلّها منه.(١)

__________________

١ ـ مجمع البيان : ٣ / ٣٧٥.

١٧٦

النحل

٢٨

التمثيل الثامن والعشرون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَينَمَا يُوَجّههُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقيم ) .(١)

تفسير الآية

كان التمثيل السابق يبيّن موقف الآلهة الكاذبة بالنسبة إلى العبادة والخضوع وموقفه تبارك وتعالى حيالها ، ولكن هذا التمثيل جاء لبيان موقف عبدة الأصنام والمشركين وموقف المؤمنين والصادقين ، فيشبّه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، ويشبّه الآخر بإنسان حرّ يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.

نفترض عبداً رِقاً له هذه الصفات :

أ : أبكم لا ينطق وبالطبع لا يسمع لما في الملازمة بين البكم وعدم السماع ، بل الأوّل نتيجة الثاني ، فإذا عطل جهاز السمع يسري العطل إلى اللسان أيضاً ، لأنّه إذا فقد السمع فليس بمقدوره أن يتعلم اللغة.

ب : عاجز لا يقدر على شيء ، ولو قلنا بإطلاق هذا القيد فهو أيضاً لا

____________

١ ـ النحل : ٧٦.

١٧٧

يبصر ، إذ لو أبصر لا يصح في حقّه انّه لا يقدر على شيء.

ج :( كَلّ على مولاه ) : أي ثقل ووبال على وليّه الذي يتولّى أمره.

د :( أَينما يُوجّهه لا يَأْتِ بِخَير ) لعدم استطاعته أن يجلب الخير ، فلا ينفع مولاه ، فلو أرسل إلى أمر لا يرجع بخير.

فهذا الرق الفاقد لكلّ كمال لا يرجى نفعه ولا يرجع بخير.

وهناك إنسان حرٌّ له الوصفان التاليان :

أ : يأمر بالعدل.

ب : وهو على صراط مستقيم.

أمّا الأوّل ، فهو حاك عن كونه ذا لسان ناطق ، وإرادة قوية ، وشهامة عالية يريد إصلاح المجتمع ، فمثل هذا يكون مجمعاً لصفات عليا ، فليس هو أبكمَ ولا جباناً ولا ضعيفاً ولا غير مدرك لما يصلح الأمة والمجتمع. فلو كان يأمر بالعدل فهو لعلمه به فيكون معتدلاً في حياته وعبادته ومعاشرته التي هي رمز الحياة.

وأمّا الثاني : أي كونه على صراط مستقيم ، أي يتمتع بسيرة صالحة ودين قويم.

فهذا المثل يبيّن موقف المؤمن والكافر من الهداية الإلهية ، وقد أشار سبحانه إلى مغزى هذا التمثيل في آية أخرى ، وقال :( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلى الحَقِّ أحَقُّ أن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّي إلاّ أن يُهَدى فَما لكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون ) .(١)

هذا التفسير مبني على أنّ التمثيل بصدد بيان موقف الكافر والمؤمن غير انّ هناك احتمالاً آخر ، وهو انّ التمثيل تأكيد للتمثيل السابق وهو تبيين موقف الآلهة الكاذبة والإله الحق.

__________________

١ ـ يونس : ٣٥.

١٧٨

النحل

٢٩

التمثيل التاسع والعشرون

( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون * وَلا تَكُونُوا كالّتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوةٍ أَنكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمّةٌ هِي أَرْبى مِنْ أُمّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيّننَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون ) .(١)

تفسير الآيات

التوكيد : التشديد ، يقال أوكدها عقدك ، أي شدّك ، وهي لغة أهل الحجاز و « الأنكاث » : الأنقاض ، وكلّ شيء نقض بعد الفتح ، فقد انكاث حبلاً كان أو غزلاً.

و « الدخل » ما أُدخل في الشيء على فساد ، وربما يطلق على الخديعة ، وإنّما استعمل لفظ الدخل في نقض العهد ، لأنّه داخل القلب على ترك البقاء ، وقد نقل عن أبي عبيدة ، انّه قال : كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل ، وكلّ ما دخله عيب فهو مدخول.

هذا ما يرجع إلى تفسير لغات الآية وجملها.

____________

١ ـ النحل : ٩١ ـ ٩٢.

١٧٩

وأمّا شأن نزولها فقد نقل عن الكلبي أنّها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ، ثمّ تأمرهنَّ أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها ، واسمها « ريطة » بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة ، وكانت تسمّى فرقاء مكة.(١)

إنّ لزوم العمل بالميثاق من الأمور الفطرية التي جُبل عليها الإنسان ، ولذلك نرى أنّ الوالد إذا وعد ولده شيئاً ، ولم يف به فسوف يعترض عليه الولد ، وهذا كاشف انّ لزوم العمل بالمواثيق والعهود أمر فطر عليه الإنسان.

ولذلك صار العمل بالميثاق من المحاسن الاَخلاقية التي اتّفق عليها كافة العقلاء.

وقد تضافرت الآيات على لزوم العمل به خصوصاً إذا كان العهد لله ، قال سبحانه :( وَأوفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤولاً ) (٢)

وقال تعالى :( وَالّذِينَ هُمْ لأماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُون ) .(٣)

وفي آية ثالثة :( وَأوفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) .(٤)

وفيما نحن فيه يأمر بشيء وينهى عن آخر.

أ : فيقول( أَوفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذا عاهَدْتُمْ ) فيأمر بالوفاء بعهد الله ، أي العهود التي يقطعها الناس مع الله تعالى. ومثله العهد الذي يعهده مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة المسلمين ، فكلّ ذلك عهود إلهية وبيعة في طريق طاعة الله سبحانه.

____________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٥.

٢ ـ الإسراء : ٣٤.

٣ ـ المؤمنون : ٨.

٤ ـ البقرة : ٤٠.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195