الجريمة الكبرى الجزء ١

الجريمة الكبرى15%

الجريمة الكبرى مؤلف:
الناشر: المركز الوثائقي للدفاع عن المقدسات الإسلامية
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 399

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 399 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60870 / تحميل: 7506
الحجم الحجم الحجم
الجريمة الكبرى

الجريمة الكبرى الجزء ١

مؤلف:
الناشر: المركز الوثائقي للدفاع عن المقدسات الإسلامية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

عُرف اصحاب الايكة بالفساد في البيع والشراء بخس الناس في الكيل والميزان والفساد في امور التجارة والسوق وكانوا يقطعون الطرق ويسدون على الغراباء الطريق ويعتدون عليهم. وياخذون منهم الاتاوي (الرشوة)، سورة الشعراء، الايات الكريمة ١٧٦ - ١٨٣.

فبعث الله تعالى اليهم شعيب (على نبينا وآله وعليه السلام) لهدايتهم ودعوتهم الى الصلاح في تجارتهم والعدل في اسواقهم ورعاية الانصاف في الكيل، لكن اصحاب الايكة اتهموه بالجنون ومنعوا الناس من الاتصال به(٦١).

فدعا نبيهم عليهم واستجاب الله تعالى دعاء نبيه عليه السلام، وابتلاهم بـ" عذاب يوم الظلّة" سورة الشعراء، الآية ٢٦ و ١٨٦. ففتح الله تعالى عليهم باباً من ابواب جهنم، فاشتدت بهم الريح الحارة والقاتلة فدفعتهم عن بيوتهم الى الصحراء فرأوا غيمة كبيرة فلجأوا اليها ليستتروا بظلّها، ففتح الله تعالى عليهم النار وزلزل بهم الأرض، كما هو مذكور في" تاريخ ابن عساكر" (٦٢)، و" الدر المنثور" للسيوطي (٦٣).

الرابع: اقوام اخرى:

وتتوالى الحقائق المذهلة، وتتفجر شهادات جديدة لاصحاب التفاسير والتواريخ، ليُعلنوا أن موطن قبيلتي طسم وجديس هو (اليمامة) موقع مدينتي الرياض والخرج حالياً، وليمتد نفوذهما شمالاً، وذلك لسهولة الاتصال وعدم وجود عوائق تذكر امامهم (٦٤).

وقد دلّت الدراسات التاريخية على ان قوم جديس، كما ذكر الياقوت الحموي عن هشام بن محمد الكلبي في كتابه" معجم البلدان" (٦٥)، هم من نسل ارم بن سام، وكانت مناطق سكناهم اليمامة (الرياض والخرج) حالياً اي في وسط نجد عند جبل العارض، وهم اخوة ثمود بن كاثر الذين جاءوا بعد

١٠١

قوم ثمود. كما اورده الدينوري في كتابه" الاخبار الطوال" (٦٦). وهكذا نزل جديس بن ارم وقومه بلدة اليمامة (الرياض والخرج) حالياً، ونزل صُحّار ما بين الطائف وجبّليْ طيّ (٦٧).

اما قوم طسم فهم من اولاد لود بن سام، وسكناهم اليمامة ايضاً، حتى مناطق جنوب جزيرة العرب، كما يقول الطبري، وكانت اليمامة (الرياض والخرج) حالياً في تلك الايام اكثر المدن خضاراً وفاكهة ونضرة ونعمة، وحدائقها ومزارعها وابنيتها شاهقة عظيمة وكان ملكهم يسمى عملوق (٦٨).

قال الاصمعي كما جاء في كتاب" آثار البلاد واخبار العباد" (٦٩): ان اليمامة وهي ناحية نجد كانت في قديم الزمان منازل طسم وجديس وهما من ولد لاوذ بن ارم، اقاموا باليمامة، فكثروا بها وملك عليهم رجل من طسم يقال له عمليق بن حياش وكان جباراً ظلوماً يحكم بينهم بما شاء. وفي نجد أيضاً تل عالٍ، باعلاه قلعة من بناء طسم يقال له فج بني تميم، قتلهم فيها ملك اليمن، بعد ان خانوه ونهبوا سرية تابعة له (٧٠).

وقد ذكر عبد الله ابن خميس، تأكيداً لقول الكلبي والطبري وغيرهمت ما نصه: أما مساكن"طسم" و" جديس" فأكثر ما اتفقت عليه المصادر عن تاريخ هاتين القبيلتين أنها" اليمامة"بمفهومها القديم، أي" جبل العارض" الممتد من" الربع الخالي" جنوباً إلى رمال" الثويرات" شمالاً بما يُقدّر طوله بألفي ميل، وما اتصل بهذا الجبل غرباً وشرقاً من أقاليم وبلدان بما يُقدّر بخمسمائة ميل من الغرب الى الشرق... وهذه المناطق بالذات من اصول نجد الممسوخة، ويضطر الباحث السعودي الدكتور عبد الله العسكر ان يصف اليمامة (الرياض حالياً)، بانها" اقليم النبوءة المزيفة" و" بذرة الفساد" (٧١).

وظهرت في نجد أيضاً، كما ذكرها الدكتور محمد الراشد في كتابه محافظة الغاط (٧٢)، مملكة كندة، وعاصمتها قرية الفاو، في جنوب نجد عند نقطة تقاطع وادي الدواسر بسلسلة جبال طويق، وامتد نفوذها ليشمل جميع

١٠٢

قبائل وسط الجزيرة العربية وشرقها وشمالها الشرقي. وقد ابادها الله تعالى بذنوب أهلها. ومن يدخل المدينة يحس باحساس غريب ومدهش إذ ان كل شيْ في مكانه، البيوت والطرق ومجاري المياه كل شيْ على حاله، وكأن هذه القرية ماتت فجأة، ولم يتهيأ لاهلها الرحيل. انه لغز محير يجعل القلوب ترتعش خوفاً، فسبحان الله، تعالى الله عمّا يعمل الظالمون.

وعلى الاجمال، فقد شدّد المؤرخون والمفسرون واصحاب السيّر، على ان نجد كانت موطن هؤلاء الاقوام المار ذكرهم، وقد انعم عليهم بانواع النعم والخيرات، وكان عندهم متسع من الوقت ليعمروا مساكنهم وقصورهم، بل وليطغوا، ويصرّوا على ضلالتهم ويعتوا عتواً كبيراً. وكانت النهاية حسب السنن الالهية، ان اصابهم البلاء واحاط بهم العذاب، فكانوا حصيداً تذروهم الرياح، ليكونوا عِبرة لمن اعتبر.

والانكى من ذلك ان الكثير من المفسرين والمؤرخين يذهبون الى ابعد مما ذكرناه آنفاً، ليؤكدوا ان هؤلاء الاقوام الذين عاشوا في زمن الجاهلية وصدر الإسلام، هم من بقايا تللك الاقوام البائدة، فمثلاً يذكر الدكتور جواد علي في كتابه" المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، ان بني هلال هم من بقايا ثمود (٧٣). ويذكر ابو الفرج الاصفهاني في كتابه" الاغاني"، ان قبيلة ثقيف هم من بقايا ثمود (٧٤). ويقول ابن خلدون في تاريخه، ان قوم لحيان هم من اعقاب ثمود(٧٥).

وقد سكن بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب وحفيده (ابن عبد الوهاب)، تلك الديار التي عاش فيها قوم ثمود، اي في عموم نجد وغالب مناطقها، وكانت قصبتهم او مركز نفوذهم هي قصبة اليمامة (٧٦)، واسموها"حجر"، وقال ابن خلدون: وكانت اليمامة موضع ولاتها وسوقها، وهي موقع مدينة الرياض في وقتنا الحاضر (٧٧).

١٠٣

والاعجب ان غضب الله تعالى ونقمته قد استبدل ارض نجد بالخراب والقفر والجفاء والوحشة، وتبدلّت تلك الينابيع والانهار والزروع والخضار الى صحراء قاحلة وارض جرداء لا كلأ فيها ولا ماء، فاصبحت وعرة وجدبة الى حدّ كبير جداً، حتى قال الدكتور زكريا قورشون عميد كلية التاريخ في جامعة مرمرة التركية (٧٨) بالحرف الواحد: تتميز جغرافية نجد وطبيعتها، بكونها، أشدّ الظروف قساوة على وجه الأرض. ويصفها الزرقاني، حينما يريد وصف المكان الذي دارت فيه رحى واقعة الحرة (٧٩) بقوله: انها ارض ذات حجارة سود، كأنها أ­ُحرقت بالنار، (وهي تقع الى الشرق من المدينة المنورة)، يعني بذلك ارض نجد الممسوخة الملعونة، ارض عاد وثمود واصحاب الايكة وطسم وغيرها. كما وردت الكثير من قصصهم في كتاب" تاريخ بن خليفة" (٨٠)،" الکامل في التأريخ" (٨١)،" تأريخ مدينة دمشق" (٨٢)، و" تاريخ الخلفاء" (٨٣).

والعجيب ايضاً، ان هذه الاقوام المغضوب عليها لم تطأ اقدامهم ارض العراق مطلقاً، ولم تتمكن ان تُقيم فيها او تُنشئ قواعد او قصوراً، ولم تُدنّس سهول العراق ووديانها وارضها الخصبة المعطاء بخُبث وجودهم، بل كانت الحروب والمناوشات تمتد لسنوات طوال بين هؤلاء الاقوام وبين من سكنوا العراق، وقد أرّخ المؤرخون تلك المصادمات منذ عصر الملك البابلي سرجون الثاني الأكدي والذي يرجع تاريخه الى القرن الثامن قبل الميلاد وما بعده، إذ دارت بين اولئك النجديين وبين الاشوريين معارك كبيرة وطاحنة، خرجت نجد منها مكسورة مدحورة، كما يقول المؤرخ فيليب حتيّ في كتابه" تاريخ العرب" (٨٤).

١٠٤

الفتنة الثانية: فتنة أهل الردة...

ما ان اختار الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله جواره، حتى قامت أئمة الكفر وحملة النفاق من سباتها لتعلن الردة على الدين واهله.... وخرج من نجد المذمومة هذه، من أدّعوا النبوة زوراً، وجاءوا بکتب واحاديث موضوعة، وقد اتبعتهم اعراب نجد، ووحوش البرايا، علی غير علم ولا هدیً مبين.

وكان أولهم الكذّاب مسيلمة بن حبيب، من بني حنيفة وهي قبيلة كثيرة العدد والعدة، تسكن قصبة نجد" اليمامة"، قرب العيينة بوادي حنيفة، والتي تسمى اليوم ب" مدينة الرياض" (٨٥). وتمكن مسيلمة الكذاب من تجنيد اعراب نجد وتحشيدهم معه كبني حنيفة وأشجع، ومن والاهم من اعراب البوادي، حتى بلغ تعداد جيشه يربو على الاربعين الف مقاتل، ولما قوت شوكته ارسل جيشاً لمحاربة المسلمين، وكان على ميمنة جيشه الحكيم بن الطفيل وعلى ميسرته ابن عنفوة، كما ورد في" الكامل في التاريخ" (٨٦)، وكتاب" البداية والنهاية" (٨٧) وغيرهما (٨٨).

ومن عجائب الدهر ان يكون ابن عبد الوهاب قد انحدر من هذه القبيلة والمنطقة بالذات، (٨٩)، والذي كان مولعاً الى حد الغرام بقراءة قصص اجداده واسلافه، هكذا اورده شيخ الإسلام السيد احمد زيني دحلان في كتابه" فتنة الوهابية" (٩٠). بل يذهب الشيخ عثمان بن سند ليقول ان العلماء كانوا يسمون ابن عبد الوهاب ب" مسيلمة عصره" (٩١).

وهؤلاء القوم اي بنو حنيفة هم اخف الاعراب عقلاً، واقل الناس فهماً، اتخذوا في الجاهلية صنماً من العسل والسمن يعبدونه، فأصابتهم في بعض السنين مجاعة فأكلوه، فضحك على عقولهم الناس وقالوا فيهم:

١٠٥

أكلت حنيفة ربها زمن التّقحم والمجاعة

لم يحذروا من ربهم سوء العواقب والتّباعة

وقد استخف مسيلمة قومه فأطاعوه وجاءهم بكتاب وآيات مسجعة تُضحك الثكلى، لكنها كانت كافية لاعراب نجد ان يؤمنوا بها، ويتمسكوا بأحكامها، فأحلّ لهم الخمر والزنا ووضع عنهم بعض الصلاة والزكاة (٩٢).

وقاتل المسلمين في شهر صفر الخير من عام ١١ للهجرة المباركة، فلما سمع مسيلمة الكذّاب بقدوم جيش المسلمين عسكر بمكان يُقال له" عرقباء" في طرف" اليمامة" وقد أبلى المسلمون بلاءاً حسناً وولى الكفار الآدبار وأتبعوهم في اقفائهم يضعون السيوف في رقابهم حتى لجأ مسيلمة والباقي من عسكره بعدما تكبّد كثيراً من الخسائر الى منطقة" حديقة الموت" وتحصن بها (٩٣)، اذ كانت مُحاطة بالاسوار والشجر الكثيف، وهي من بقايا آثار قوم عاد، وأستطاع المسلمون ان يقتحموها ويقتلوا مسيلمة الكذّاب ومن معه من اعراب نجد(٩٤)، إذ قُتل منهم اكثر من ٢١٠٠٠، وقُتل من المسلمين اكثر من ٧٠٠ رجل اكثرهم من حفّاظ القران الكريم. وهذا متواتر عند ارباب السير والتاريخ، فراجع (٩٥).

وخرجت في الوقت نفسه مدّعية النبوة سجاح (الكاهنة)، وتكنى بـ (ام صادر) بنت الحارث السويد بن اوس بن اسامة بن يربوع من بني تميم واخوالها من بني تغلب بن وائل من ربيعة (٩٦)، وكانت من نصارى اعراب نجد، ومعها الالاف من قومها بني تميم وتغلب، ومن التف حولهم من الاعراب كبني هوازن وبنو حنظلة ونحوهما، كما يذكره ابن حزم الاندلسي في" جمهرة انساب العرب" (٩٧)، وكان من كبار قادة جيشها الزبرقان بن بدر

١٠٦

وعطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس، وعمرو بن الأهثم، والاقرع بن حابس وشبث بن ربعي بن حصين وهو مؤذنها (٩٨). واتجهت برجالها لتغزو مناطق نفوذ مسيلمة الكذّاب، لكن الشيطان صالح بينهما فأتفقا على تقسيم الارباح وتزوجها مسيلمة الكذّاب، فقال عطارد بن حاجب، قائد ركبها:

أمست نبيتنا أنثى نطوف بها وأصبحت انبياء الناس ذكرانا وكان صداقها ان رفع عن بني تميم وحنيفة وقومها صلاتي العصر والعشاء كما هو مذكور في كتاب" الفتوح" لابن الاعثم (٩٩)، فعامة الاعراب في نجد لا يُصلّون هذه الصلوات الى يومنا هذا (١٠٠)، وبقيت معه حتى قُتل.

أما طليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلّة بن حجوان من بني أسد النجدية(١٠١)، فقد ورد في كتاب" تاريخ الجزيرة العربية والإسلام" (١٠٢)، أن طليحة الاسدي (الكاهن) ظهر في قبيلتي بني أسد وغطفان، وهما قبيلتان من نجد. ووقف معه عُيينة بن حصن الفزاري وقرة بن هبيرة القشيري وقومهما فزارة وبنو عبس وذبيان (١٠٣). فسارت اعراب أسد وغطفان وتميم مع مدّعي النبوة طليحة مرتدّين لقتال المسلمين، على حد قول السيوطي في كتابه" تاريخ الخلفاء" (١٠٤)، لكنّ الله تعالى اخمد فتنتهم وأبعد شرهم.

وخرج الاسود العنسي وهو عبهلة بن كعب بن غوث، وكان يُدعى" ذا الحمار"، خرج من نجد مع سبعمائة مقاتل واجتمعت عليه اعراب القبائل بين نجران والدواسر من مناطق نجد، بكهف خباب (١٠٥)، وصعد نجمه وجعل امره يستطير استطارة الشرارة. وكان امراء جيشه قيس بن عبد يغوث ومعاوية بن قيس ويزيد بن محرم بن حصن الحارثي (١٠٦). وأرتد الفقعسي في قبيلة أسد بن خزيمة، وعاضدته اعراب نجد (١٠٧).

١٠٧

وارتدت كندة ومن يليها من الاعراب، وعليهم الأشعث بن قيس الكندي، وكانوا في نجد (١٠٨)، وحين ارتد الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة في قبائل بكر بن وائل، اجتمع إليه ايضاً ممن لم يزل مشركاً حتى نزل اطراف منطقة الفاو وهجر(من مدن ثمود سابقاً)، ضمن حدود نجد، واقتتلوا مع قبائل من الحجاز بقت على اسلامها كأسلم وغفار، وبعث بعثاً من جيشه إلى دارين، واخرى إلى جواثا لقتال المسلمين (١٠٩). وكذلك ارتد عمرو بن معد يكرب، في قبائل عبس وسط نجد (١١٠).

وقاد هؤلاء المردة حركة التمرد ضد الإسلام والمسلمين ومعاقله العظيمة، واعلنوا الردة عن الدين تتبعهم قبائل نجد وسفلة العرب وبقية الکفر والجاهلية من اعراب بني اسد وغطفان وتميم وهوازن وعبس وذبيان وحنيفة واشجع، وبدعم مالي مباشر من يهود المدينة وما جاورها، وکانوا هم بذرة الشقاق والنفاق (١١١)، وهذه القبائل النجدية المرتدة هي نفسها التي ذمها النبي صلّى الله عليه وآله من قبل، وفاضل عليها قبائل الحجاز واليمن وتهامة (١١٢)، كما ذكرناها من قبل في الحقيقة الثانية، فراجع.

ومن داخل المدينة المنورة، كان الطلقاء من قريش والمنافقين وآل أمية، يعدون العدة للانقضاض على الإسلام والمسلمين (١١٣)، ولم يكونوا بمنآى عن الردة وقادتها، بل سعوا لها سعيها، ووقفوا ينتظرون الفرصة للانقضاض على الدين واهله، لا لشيء سوى احقاد جاهلية، وزعامات باطلة، ومصالح دنيوية(١١٤)، وكان همّها الأول ابعاد الخلافة عن مسيرها الصحيح، ثم الاجهاز عليها ثانياً.

اما ابن عبد الوهاب او" الشيخ النجدي"، وهو تعبير استهزاء وأزدارء اعتادت العرب على استعماله في تسمية كل من إزداد في الكفر او المكر

١٠٨

والخديعة (١١٥)، او كما اعتاد علماء العصر وكبار القوم في تسميته بـ"مسيلمة عصره" (١١٦)، بعد ان اذاع عقائده ومكنون بيانه، فهو الاخر حينما وجد ان عقول قومه خالية وقلوبهم خاوية، فزرع فيها الفساد والعناد، مما كانت نفسه تنتزع اليه وتمنّيه به من قديم الزمان، وهو الحصول على رياسة عظيمة ينالها باسم الدين، إذ كان يعتقد ان النبوات لم تكن إلاّ رياسة وصل اليها دهاة البشر حين ساعدتهم الظروف عليها بين ظهراني قوم جاهلين ليس لهم من العلم نصيب، كما يقول مفتي بغداد الشيخ جميل صدقي الزهاوي (١١٧)، فهو ادعى النبوة بلسان الحال لا بلسان المقال (١١٨).

لنرجع الى صلب الموضوع، ونقول ان الكلام عن فتنة المرتدين يطول، وقد آثرنا الاختصار ومن أراد التوسع فعليه بكتاب" قراءة جديدة لحروب الردة" للعلامة الشيخ علي الكوراني العاملي (١١٩)، وعشرات من كتب التاريخ والسيّر، وغيرهما. فقد كانت الردة حرب واقعية على الإسلام، وثورة من البادية على الحاضرة، وثورة نجد على الحجاز، فلقد ظن كثير من أعراب نجد ممن اعتنقوا الإسلام خوفاً وطمعاً، أن الفرصة قد حانت ليعودوا أدراجهم إلى ما كانوا عليه من الضلالة والانحراف والفساد والظلم. وبهذا فقد رفع النفاق رأسه فأعلن وأهله تمردهم وعصيانهم، ولم يكن العصيان في مكان محدد لقبيلة بني حنيفة او تميم، وإنما انتشر كالنار في أماكن متفرقة من منطقة نجد وضواحيها، وآزرتها رموز من قريش وبني امية واشباههم (١٢٠)، فارتد عن الإسلام كثيرون، وظهرت قرون الشيطان من المرتدين، وتهيأت قبائل نجد لتغزو الحجاز وتجهز على الإسلام واهله (١٢١)، وحدّثت الروم نفسها بغزو المدينة المنورة (١٢٢). ونكل الكثير من الصحابة عن الجهاد حتى أصبحت المدينة المنورة ومن فيها من الصحابة أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام، لحد انبرى فيه الدكتور السيد حسن بريغيش ليقول:... وبلغت الردة حداً

١٠٩

غطت فيه وجه الجزيرة العربية من نجد وغيرها، وحتى القبائل المحيطة بالمدينة المنورة، ويضيف عليها الصحفي المصري محمد حسنين هيكل بقوله: ان العرب كلها قد ارتدت عن الإسلام، وان الأرض تضّرمت ناراً في شبه جزيرة العرب(١٢٣).

لولا أن قيض الله تعالى لهذا الأمر... رجل الفداء والتضحية... رجل الصعاب والمهمات الجسام... الامام علي عليه السلام، ليرفع راية الجهاد والذود عن بيضة الإسلام وعرى الدين، بسيفه وحنكته وعلمه فأنبرى لقتال اولئك المرتدين ومدعيّ النبوة، وأغمض عينيه عن غصب الولاية وحق الامارة، للحفاظ على ما بقيّ من الإسلام (١٢٤)، فشرح الله له قلوب الصحابة والمؤمنين للجهاد، واضطرت الخلافة بعد تحذير الامام علي عليه السلام لهم من تباطؤهم في حرب المرتدين، لمدة طالت الثلاثة أشهر، وإلا فانه سيخرج بمن أطاعه، اذا لم يخرجوا (١٢٥)، فسمع ابو بكر لهذا النداء واتخذت الخلافة الاجراءات اللازمة له، خوفا من خروج القيادة من يديها، لترجع الى اصحابها الحقيقيين. فأعلن النفير العام وتجمعت قوافل المسلمين لقتال اولئك المرتدين والتصدي لهم، لانه وبالفعل كما حذّر الامام عليه السلام، فقد تحركت جحافل ومقاتلي اعراب نجد من قبائل أسد، غطفان، بني بكر بن عبد مناة، تميم، هوازن، بني تيم، وقبائل حنيفة ليلاً، لغزو المدينة المنورة وضرب قواعد الدين الجديد(١٢٦)، لكن حنكة ودراية الامام علي عليه السلام قد أفسد عليهم الامر، وفوّت الفرصة عليهم (١٢٧)، وكذلك خطط الامام علي عليه السلام، برنامجاً عسكرياً يهدف من خلاله صدّ هجوم قبائل عبس وذبيان النجديتان، وافشال حركتهما في احتلال المدينة المنورة ليلاً (١٢٨)، واكتساح قلاع الدولة الإسلامية، فقد أشار الامام عليه السلام، على الخليفة ان يطلب من القبائل العربية التي ثبتت على الإسلام كأسلم وغفار ومزينة وجهينة الحجازية واليمنية (١٢٩)، ان يأتوا الى المدينة

١١٠

المنورة ويُعسكروا على اطرافها المتعددة، والبقية يكونوا في مسجد النبي صلّى الله عليه وآله تحسباً لأي طارئ، فكان الامر كما توقع الامام علي عليه السلام، فتصدت لهم عساکر المسلمين، وأردوا الغزاة مقهورين مشرّدين الى معاقلهم(١٣٠).

كما أشار الامام علي عليه السلام على الخليفة في ملاحقة هؤلاء الغزاة النجديين والقضاء عليهم في عقر دارهم، وأمر اصحابه وخالص شيعته ورجالات بني هاشم ومن معهم من المؤمنين، ان يكونوا في مقدمة الجيوش، دفاعاً عن الدين والعقيدة. وبناءاً عليه خرج من المدينة المنورة أحد عشر جيشاً دفعة واحدة، كان منها ثمانية إلى منطقة نجد لوحدها (١٣١)، منها:

١ - جيش باسم خالد بن الوليد لقتال بني أسد، ثم الى بني تميم.

٢ - جيش باسم عكرمة بن ابي جهل لقتال مسيلمة الكذّاب في بني حنيفة.

٣ - جيش باسم شرحبيل بن حسنة لقتال اعراب اليمامة (الرياض حالياً).

٤ - جيش باسم طريفة بن حاجز لقتال بني سليم وهوازن.

٥ - جيش باسم خالد بن سعيد بن العاص لقتال أعراب كلب وكندة.

٦ - جيش باسم المهاجر بن أبي أمية لقتال غطفان وبني تيم (١٣٢).

وواحد من هذه الجيوش كانت إلى الشام بقيادة أسامة بن زيد، واثنان الى جنوب الجزيرة العربية، فحقق الله تعالى النصر على الكافرين بأيدي المؤمنين، وقد كان أكثر المرتدين شراسة وتصميماً على القتال ومعاداة المسلمين هم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، والتي ينتمي اليها ابن عبد الوهاب، والولد على سر ابيه (١٣٣).

ووفاءاً لجهاد علي عليه السلام وقمعه لتلك الفتن، وتحمله المسؤلية في الحفاظ على بيضة الإسلام، نورد هنا كتاب له (صلوات الله عليه) الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاه إمارتها (١٣٤)، يتحدث عن تلك الحقبة العصيبة فيقول: اما بعد، فان الله سبحانه بعث محمداً صلّى الله عليه وآله نذيراً للعالمين ومهيمناً على المرسلين، فلما مضى صلّى الله عليه وآله تنازع المسلمون الامر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي

١١١

ولا يخطر ببالي ان العرب تزعج (تنزع) هذا الامر من بعده صلّى الله عليه وآله عن اهل بيته، ولا انهم نَحّوهُ عني من بعده، فما راعني إلا إنثيال الناس على فلان (ابو بكر) يبايعونه، فامسكت يدي حتى رايت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون الى محق دين محمد صلّى الله عليه وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام واهله، ان أرى فيه ثلمة أو هدماً، تكون المصيبة بي عليّ، أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع ايام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، او كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الاحداث، حتى زاح الباطل وزهق، وأطمأن الدين وتنهنه.... وفي مقال ٍ آخر يقول عليه السلام وهو الصادق المصدّق، واصفاً مواقفه الخالدة، في حفظ الإسلام: ولولا اني فعلت ذلك لباد الإسلام (١٣٥).

ويحق لنا ان نتساءل بكل حزن وأسى، لماذا هذا الاغماض المتعمد والتجاهل الحرام، من قبل العديد من المؤرخين والمفسرين، حينما يتناولون دراسة وتحليل وسرد وقائع التاريخ الإسلامي، فينكروا على عليٍ عليه السلام مواقفه وبطولاته وتضحياته، وأليس شكر المخلوق هو شكر الخالق. ما لكم كيف تحكمون!.

ان الدور الحقيقي للامام علي عليه السلام في الوقوف امام الفتن والاحداث التي رافقت الفترة الحرجة بعد رحلة الرسول الاكرم صلّى الله عليه وآله كانت تتطلب الايثار والصبر من جهة، والعزم والاقدام من جهة اخرى. وعندما شعر الامام (سلام الله عليه) ان حركة الردة ليست نكوص قوم عن الدين او رجوع جماعة من الإسلام، بل الحالة تتعدى العفوية وحالات الجاهلية واسباب الشرك، ليكون مخططاً قريشاً أموياً نجدياً، ضد الرسالة واصحابها الحقيقين وهم آل البيت عليهم السلام، فكان لزاماً على الامام ان يتحمل مسؤولياته الشرعية والاخلاقية امام الدين والمسلمين، وهذا ما كان. ونحن نفتخر اليوم به عليه السلام، وبنهجه الشريف بعد اربعة عشر قرن.

١١٢

الفتنة الثالثة: فتنة الخوارج...

ومن نجد المشؤومة (الواقعة شرق المدينة المنورة) خرج قادة الخوارج وجحافل التعصب الاعمى، والجمود الفكري، وبذور الفرقة بين المسلمين، وقد اصبحوا اشد خطراً واعظم وقعاً على الإسلام واهله من اصحاب الردّة والكفر.

فالخوارج كما وصفهم العلماء والمفسرون وارباب السير، كالشهرستاني في كتابه" الملل والنحل" (١٣٦)، انهم الذين خرجوا على الامام علي عليه السلام بعد واقعة النهروان، ثم يضيف عليه ابن حزم في كتابه" الفصل في الملل والاهواء والنحل"، ليلحق بالخوارج كل من أشبه الخارجين على علي عليه السلام، او شاركهم في آرائهم وافعالهم، وفي اي زمان ومكان (١٣٧).

اذا اردنا ان نتعرف على قصة هؤلاء الذين انطلت عليهم خديعة عمرو بن العاص، بعد أنْ بان الوهن والضعف في جيش معاوية بن ابي سفيان، على اثر ضربات المسلمين من جيش الامام علي عليه السلام، فوضعوا المصاحف في اعناقهم او رفعوها فوق رؤوس رماحهم، ليعلنوا وقف الحرب واللجوء الى القران الكريم ليحكم بينهم (١٣٨). وعمار بن ياسر ينادي فيهم: الرواح... الرواح الى الجنة(١٣٩)، والامام عليه السلام يناشدهم بالاستمرار في القتال، ويشرح لهم ان هذه مكيدة من قبل العدو وانا أعرف بمعاوية وعمرو واشياعهم منكم، والقران معي وانا الناطق فيه والعامل به، والحق معي يدور حيثما أدور(١٤٠)، ومع هذا تنكفئ نفوس جماعة من الجيش ليخرجوا عن الطاعة، ويرضوا بوقف القتال، بل ليُطالبوا الامام عليه السلام بالصلح ويُهددوه بالقتل(١٤١)، ثم تنطلي عليهم الخديعة الثانية في فرض حكمية ابي موسى الاشعري مع عمرو بن العاص(١٤٢)،

١١٣

فيميل ابو موسى لضغنه، وعمرو لنضيره، فتكون مآل صنيعتهم الفتنة والخروج عن جادة الحق والولاية، ثم لينتهي بهم الامر ليشقوا عصا الطاعة ويقفوا في وجه الامام علي عليه السلام (١٤٣)، بل يُحاسبوه على خطأ فعلتهم وقلة دينهم وسفاهة عقولهم عندما انكشف لهم زيف معاوية وفسوقه وخديعة عمرو بن العاص وفجوره في التحكيم ومن قبل في رفع المصاحف (١٤٤). وما برحوا يرددون شعار" لا حكم إلا لله"، فيقول الامام عليه السلام في حقهم قولته المشهورة" انها كلمة حق يراد بها باطل" (١٤٥)، وتكون هنالك الطامة الكبرى في محاربتهم للامام عليه السلام، وسقوط هؤلاء القوم الى اسفل درك الجحيم وذلك هو الخسران المبين.

لقد كانت المشكلة الاساسية في تركيبة جيش الامام علي عليه السلام، الذي استلمه بعد عثمان بن عفان، حيث كان مشحونا بقيادات وافراد، هم أبعد ما يكونون عن الدين والايمان، واقرب لحب سفك الدماء والشجاعة الظاهرية والبحث عن الغنائم من الأموال والنساء (١٤٦). فالقبلّية كانت عماد دينهم والنخوة الجاهلية أُس جهادهم، وغريزة العدوان والتسلط على الآخرين مبدأ حياتهم، فترى ان اكثرهم كانوا من الاعراب، وخصوصاً من مناطق وقبائل نجد(١٤٧)، الذين لم تكن لهم قدم صدق في الدين والتقوى فضلاً عن الجهاد في سبيل الله تعالى واعلاء كلمته. ومثل هذا الجيش لا يمكن له، بأي حال من الاحوال، ان يتطابق مع اتجاهات وسلوك واهداف الامام علي عليه السلام، ولم يكن عليه السلام ليعتمد عليهم في بناء دولة الحق ناهيك من ان يخوض بهم غمار الحروب والدفاع عن بيضة الإسلام وعرى الدين، لقد كانوا بحقٍ في غيهم

١١٤

وعنادهم وضلالهم من اجلى مصاديق قوله تعالى:( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ) سورة التوبة، الآية ٤٧.

لقد حاول الامام علي عليه السلام ان يعيد تشكيلة الجيش ورُتبه القيادية. على اساس التقوى وموازين الجهاد والايمان، فعمد الى استقطاب اولئك المجاهدين الاوائل والصفوة من الصحابة اؤلي البأس، والذين أُبعدوا عن قيادة الجيش وادارة الدولة ايام الخلافة السابقة، كعمار بن ياسر، المقداد، عبد الله بن عباس، محمد ابن الحنفية، ابو سعيد الخدري، الاصبغ بن نباتة، اويس القرني، حجر بن عدي، حبيب الاسدي، مالك الاشتر، خزيمة الانصاري، زيد بن صوحان، سليمان بن صرد الخزاعي، صعصعة بن صوحان، عامر بن وائلة، عبد الله بن بُديل، والعشرات من اقرانهم (١٤٨)، فان كل هؤلاء المومنين من الصحابة والتابعين قد أُبعدوا من مراكز الجيش والدولة بسبب اعتراضاتهم المتكررة على طريقة الحكم واللعب بالأموال والانفس عند بطانة عثمان وغيره (١٤٩).

وقد ظهرت بوادر هذه الحالة اللامتجانسة في جيش الامام علي عليه السلام، بوضوح في حرب الجمل حيث فارقت جماعة من جيش الامام علي عليه السلام، المعركة بحجج واهية، وسكنوا البصرة وبقوا فيها (١٥٠). اما ما ظهر في حرب صفين، فقد انكشفت الاهواء والنعرات القبلية والفوارق الجاهلية، وحتى الغباء الديني والسياسي على أعلى صوره، إذ اعتزل اكثر من ١٢٠٠٠ مقاتل عن جيش الامام عليه السلام، بعد ان أفشلوا النصر المحقق للمسلمين على جيش معاوية، وكانوا السبب في الفتنة والفرقة بين المسلمين، ولم يدخلوا معه عليه السلام الكوفة، وأتوا منطقة حروراء (١٥١)، لكن اللطف العلوي النابض بالهداية والاصلاح،

١١٥

بقي يتابع هؤلاء ويحاول اعادتهم الى طريق الحق بالحكمة والموعظة والمرونة، حتى رجعت ثمانية الف منهم (١٥٢)، وبقي حوالي الاربعة آلاف مصرين على إلقاء اللوم وخطأ مواقفهم وتبعات سلوكهم على الامام علي عليه السلام، حتى قالوا بكفره وطالبوه بالتوبة والحوبة (١٥٣)... ومع هذا فلم يزل يعاملهم بالحسنى والعدل حتى ظهرت منهم الموبقات فقتلوا من المسلمين آحاداً، كخباب وبقروا بطن أمرأته وذبحوا طفله، وقتلوا ثلاثة من النساء من قبيلة طيّ، وفيهن ام سنان الصيداوية (١٥٤)، وقتلوا مبعوث الامام عليه السلام اليهم وهو الحرث بن مرة العبدي (١٥٥)، ولم يرحموا احدأً من المسلمين، وأخافوا السبيل وأفسدوا في الأرض (١٥٦)، فطلب منهم الامام علي عليه السلام ان يُسلّموا اليه القتلة ليقتص منهم، فرفضوا ذلك، فلم يكن بُد للأمام من ان يوقفهم عند حدّهم، ويضطر لمحاربتهم لدفع شرّهم وإخماد نار فتنتهم، فحاربهم وقتلهم في واقعة النهروان(١٥٧)، ولم يفلت منهم إلا عشرة، كما لم يُستشهد من اصحابه إلا اقل من عشرة، وقد كان اخبر عن نتائج الحرب صلّى الله عليه وآله قبل وقوعها، وهي من معجزات امامته عليه السلام (١٥٨).

وبدعة الخوارج هي اول بدعة حدثت في الإسلام (١٥٩)، وقد اخذت بُعداً سياسياً عنصرياً بأمتياز، فاحاطت بالإسلام واهله وعصفت بهم العواصف والزلازل، وماجت الامة الإسلامية في دهاليز الظلام والشكوك والتفرقة، وكادوا ليُطفئوا نور الله بافواههم وافعالهم، لولا ان تصدّى لهم ابو الحسن امير المومنين علي بن ابي طالب عليه السلام واطفأ نار كفرهم، وأخمد کيد شياطينهم، وأراح العباد والبلاد من نفث سمومهم وبدعهم وأنحرافهم (١٦٠)، ولولا الامام علي عليه السلام، لما تمكن أحد غيره ان يقف أمامهم ليُبطل أکذوبتهم ويسفه

١١٦

احلامهم، وهو القائل عليه السلام: أنا فقأتُ عين الفتنة، ولم يکن ليجرأ عليها احد غيري، بعد ان ماج غيهبها وأشتد کلبُها، ولو لم أکن فيکم ما قوتل الناکثون ولا القاسطون ولا المارقون(١٦١).

لکن القصة لم تنتهِ کاملة، فأنتشر لهيب هذه الفتنة الخارجية، وباضت فراخها في اماکن عديدة من بلاد الإسلام، واذاقوا المسلمين الويلات والبلايا(١٦٢)، وعلی رأس تلك النوائب وأعظمها هي شهادة الامام علي عليه السلام علی يد الخارجي الملعون عبد الرحمن بن ملجم النجدي (١٦٣).

ان لمفاهيم الجاهلية وعصبياتهم القبلية ومصالحهم الشخصية، الاثر المهم في بلورة افكار هؤلاء القوم الخوارج واتجاهاتهم وافعالهم، بالاضافة الى املهم الكبير بالفوز والنصر واخذ الخلافة من الإمام علي عليه السلام، ما دام قد نجح في اخذها أشخاص كفلان وفلان ومعاوية (١٦٤)، فلمَ لا تكون لهم... فصارت الخلافة والدنيا محط انظارهم ومطمح نفوسهم، حتى انهم نقموا على علي عليه السلام لانه لم يُقسم بينهم السبيّ وفيه (عائشة في حرب الجمل، كما قسمّ بينهم الغنائم والأموال (١٦٥)، فغرّهم الشيطان وأستزلهم بالاماني والاهواء، على غير هدىً وصراط مستقيم، وقادهم الى الجحيم. وقد ظهرت كثير من المثالب والفواحش والنواقص بين افرادهم، فكانوا يجدون لهم المخارج ويلتمسون لهم الاعذار، لتبرئتهم ما داموا فيهم، اما المسلمون فيأخذونهم بادنى شبهة وأقل ذنب، ولا يرحمون الكبير والصغير (١٦٦)، فهذا نجدة بن عامر الخارجي لا يُعاقب رجلاً منهم كان يشرب الخمر في معسكره، بحجة انه شديد النكاية على العدو (١٦٧)، وبعض زعمائهم وهو عبيدة بن هلال يُتهم بالزنا مع امرأة حداد (مات عنها زوجها فهي معتدة)، فيحتال خليفتهم

١١٧

قطري بن فجاءة لتبرئته (١٦٨)، وفي مناسبة اخرى، فقد اقتتل جماعة منهم على الفوز بأمراة جميلة من السبايا، فلم يجد (خليفتهم) عبد الله بن وهب الراسبي، طريقاً سوى قتل تلك المظلومة، درءاً للفتنة بينهم (١٦٩).

وهنا يحق لنا ان نتساءل من هم الخوارج ومن هم قادتهم؟ وما هو عماد قواهم وجيوشهم؟!. وقد تتفاجأ اخي القارئ الكريم ان تعرف ان بُنية جيش الخوارج وقوام عساكرهم وقادة حركتهم، هم من بني تميم وحنيفة وغطفان وهوازن وثقيف وهم من ربيعة ومضر الذين كانوا يسكنون ارض نجد المذمومة (١٧٠)، وكانت قبيلة مضر وهي اكثر القبائل النجدية عُدة وعدداً، تخفي إحناً (احقاداً) جاهلية ضد المدينة المنورة وبني عبد المطلب، اخفتها مع بزوغ شمس الإسلام، فخفف من حدتها، ولم يذهب بكل قوتها، ولهذا كان لها في حركة الخوارج متنفساً ومخرجاً للثورة على الإسلام الاصيل وقادته النجباء، ولاجل ذلك نجد ان ابا حمزة الخارجي، خليفة الخوارج، حينما غزا المدينة المنورة، كان يقتل الهاشمي والقرشي ويدع الانصاري، حقداً منه على النبي صلّى الله عليه وآله وقومه وكراهية لهم (١٧١).

كما ان الاصمعي انتهى الى ان يصف وسط الجزيرة العربية (نجد) وما حولها بانها خارجية في الفكر والسلوك، لانها مسكن ربيعة ومضر (١٧٢)، وهي رأس كل فتنة. وقد خصّهم النبي بالذم إذ قال صلّى الله عليه وآله: كما اخرجه البخاري في صحيحه (١٧٣)، ومسلم في صحيحه، باب تفاضل اهل الأيمان (١٧٤)، عن عمرو بن مسعود قال: أشار رسول الله صلّى الله عليه وآله بيده نحو اليمن فقال: " الايمان يمان هاهنا، إلاّ ان القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند اصول أذناب الابل، حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر"، كما صححه

١١٨

الطبراني في المعجم الاوسط (١٧٥). وهاتان القبيلتان تسكنان تحديداً شرق المدينة المنورة في منطقة الوشم وعموم نجد وما حواليها وقصبتها اليمامة سابقاً (الرياض حالياً)، كما ذكر ذلك المؤرخ هشام بن محمد في كتابه" افتراق العرب" (١٧٦)، وياقوت الحموي في كتابه" معجم البلدان" (١٧٧)، والعلامة الزبيدي في كتابه" تاج العروس من جواهر القاموس" (١٧٨).

من جانب الاخر، فان التاريخ يُسجل لنا بكل دقة ووضوح اسماء قادة ورؤوساء هؤلاء القوم، واسماء قبائلهم، ويذكر مواطن سُكناهم الاصلية، وقد اخترنا على سبيل الاختصار أهم الوجوه المعروفة منهم، ومن اراد المزيد فليراجع كتب التاريخ والسير، ويستخرج المئات من اسماء هؤلاء القوم، الذين قال عنهم النبي صلّى الله عليه وآله:" انهم شرار الخلق والخليقة" (١٧٩)، وقال ابو ذر الغفاري: الخلق هم الناس والخليقة هم البهائم (١٨٠)، وأنهم" كلاب اهل النار" (١٨١).

وننصح القارئ الكريم ان يراجع خارطة القبائل والمناطق النجدية ضمن الحقيقة الأولى، ليقف بنفسه على هذه الحقائق المذهلة:

١ - حرقوص بن زهير المعروف بذي الخويصرة من بني تميم.

٢ - شبث بن ربعي من بني تميم.

٣ - مسعر بن فدكي من بني تميم.

٤ - نجدة بن عامر من بني بكر بن وائل.

٥ - ابو راشد نافع ابن الازرق من بني حنيفة.

٦ - الاشعث بن قيس من بني كندة.

٧ - زيد بن حصين طائي من بني كندة.

١١٩

٨ - عبد الله بن وهب الراسبي من بني الازد.

٩ - حوثرة بن وداع بن مسعود من بني أسد.

١٠ - المستورد بن علقمة بن زيد مناة من بني تيم الرباب.

١١ - حبان بن ظبيان السلمي من بني أشجع.

١٢ - ابو بلال مرداس بن ادية المربعي الحنظلي من بني تميم.

١٣ - الزبير بن علي السليطي من بني تميم.

١٤ - ابو فديك، عبد الله بن ثور بن قيس بن ثعلبة من بني تغلب.

١٥ - ابو نعامة، قطري بن الفجاءة الكناني المازني من بني تميم.

١٦ - ابو الضحاك، شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس الشيباني.

١٧ - ابو سماك، عمران بن حطان الشيباني الوائلي من قبيلة هوازن.

١٨ - عبد الله بن يحيى بن عمر بن الاسود من قبيلة كندة.

١٩ - زحاف الطائي من بني طيْ.

٢٠ - اشرس بن عوف الشيباني من بني ثقيف.

٢١ - هلال بن علفة من بني ذكوان.

٢٢ - الاشهب بن بشر البجلي من بني حنيفة.

٢٣ - سهم بن غالب من بني تميم.

وهؤلاء وغيرهم المئات قد ورد ذكرهم في كتب التأريخ والسير والتفاسير، فقد ذكرهم، ابو حنيفة الدينوري في كتابه" الاخبار الطوال" (١٨٢)، وابن حزم الاندلسي في" جمهرة انساب العرب" (١٨٣)، والدكتور محمد عمارة في كتابه" تيارات الفكر الإسلامي" (١٨٤)، والبلاذري في" انساب الاشراف" (١٨٥) وغيرهم العشرات.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

السماء مثل هذا الذهب.

فلما أتي به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال: يا محمد أقلني، وخلني على أن أدفع عنك من ورائي من أعدائك.

فقال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): فإن لم تف به؟!

قال: يا محمد، إن لم أف لك، فإن كنت رسول الله فسيظفرك بي، من منع ظلال أصحابك أن يقع على الأرض حتى أخذوني؟! ومن ساق الغزلان إلى بابي حتى استخرجتني من قصري، وأوقعتني في أيدي أصحابك؟!

وإن كنت غير نبي، فإن دولتك التي أوقعتني في يدك بهذه الخصلة العجيبة، والسبب اللطيف ستوقعني في يدك بمثلها.

قال: فصالحه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على ألف أوقية من ذهب في رجب ومأتي حلة، وألف أوقية في صفر ومائتي حلة، وعلى أنهم يضيفون من مر بهم من العساكر ثلاثة أيام، ويزودونهم إلى المرحلة التي تليها، على أنهم إن نقضوا شيئاً من ذلك فقد برئت منهم ذمة الله، وذمة محمد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

ثم كرّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) راجعاً إلى المدينة إلى إبطال كيد المنافقين في نصب ذلك العجل الذي هو أبو عامر، الذي سماه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الفاسق.

وعاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) غانماً ظافراً، وأبطل الله كيد المنافقين.

٣٢١

وأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بإحراق مسجد الضرار، وأنزل الله عز وجل:( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً ) (1) الآيات.

وقال موسى بن جعفر (عليهما‌السلام ): فهذا العجل في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) دمر الله عليه، وأصابه بقولنج، وفالج، وجذام، ولقوة. وبقي أربعين صباحاً في أشد عذاب، ثم صار إلى عذاب الله(2) .

ونقول:

قد علقنا على هذه الرواية بما يحسن وقوف القارئ عليه في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وذلك في الجزء الثلاثين منه، ولكننا نقتصر هنا على ما لم نذكره هناك مما يرتبط بالإمام أمير المؤمنين (عليه‌السلام )، وهو ما يلي:

على الزبير أن يعترف:

تضمنت الرواية: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) طلب من الزبير خاصة أن يعترف بالولاية لأمير المؤمنين (عليه‌السلام )..

وعلينا أن نضم ذلك إلى ما أخبره به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، من أنه

____________

1- الآية 107 من سورة التوبة.

2- راجع: تفسير الإمام العسكري ( عليه‌السلام ) ص169 ـ 199 و (ط مدرسة الإمام المهدي ( عليه‌السلام ) سنة 1409 هـ) ص480 ـ 488 وبحار الأنوار ج21 ص257 ـ 263 عنه، وراجع: الصافي (تفسير) ج2 ص376.

٣٢٢

سيقاتل علياً (عليه‌السلام ) وهو له ظالم(1) ..

____________

1- علي والخوارج للمؤلف ج1 ص253 و258 وراجع: أنساب الاشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص258 ومستدرك الحاكم ج3 ص366 وأسد الغابة ج2 ص199 والشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج4 ص323 والوافي بالوفيات ج14 ص123 ورسائل المرتضى للشريف المرتضى ج4 ص72 وكفاية الأثر ص115 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) للميرجهاني ج4 ص84 وكشف المحجة لثمرة المهجة للسيد ابن طاووس ص183.

وراجع: الصراط المستقيم ج3 ص120 و 171 والجمل لابن شدقم ص10 و 131 وبحار الأنوار ج18 ص123 وج30 ص19 وج32 ص173 وج36 ص324 وفتح الباري ج6 ص161 وج13 ص46 والمصنف للصنعاني ج11 ص241 والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص719 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص234 وج 13 ص287 وكنز العمال ج11 ص330 وفيض القدير ج4 ص358 وكشف الخفاء ج2 ص423 والضعفاء للعقيلي ج3 ص65 والعلل للدارقطني ج4 ص245 وتاريخ مدينة دمشق ج18 ص409 و 410 وتهذيب الكمال للمزي ج18 ص93 والإصابة ج2 ص460 وتهذيب التهذيب ج6 ص290 والعثمانية للجاحظ ص335 والكامل في التاريخ ج3 ص240 والبداية والنهاية ج6 ص237 و 238 وج7 ص268 و 269 وكتاب الفتوح لأعثم ج2 ص470 والإستغاثة ج2 ص68 وبشارة المصطفى للطبري ص380 وإعلام الورى ج1 ص91 والمناقب للخوارزمي ص179 ومطالب السؤول في مناقب آل الرسول = = ( عليه‌السلام ) لمحمد بن طلحة الشافعي ص215 وكشف الغمة ج1 ص242 وكشف اليقين ص154 والفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص412 و 415 وسبل الهدى والرشاد ج10 ص149 وخزانة الأدب للبغدادي ج5 ص416 وج10 ص403.

٣٢٣

بالإضافة إلى ما أخبر به الناس عامة، من أن علياً (عليه‌السلام ) سيقاتل الناكثين (وهم بقيادة الزبير وعائشة وطلحة) والقاسطين (وهم معاوية ومن معه)، والمارقين، (وهم أصحاب النهروان)..

ذاك لعلي (عليه‌السلام ):

لقد أرجع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): الأمر إلى علي (عليه‌السلام ) بقوله: (ذاك لعلي) مع علمه بأنه (عليه‌السلام ) تام التسليم لما يريده الله منه ورسوله، ـ إن ذلك ولا يقدم بين يدي الله ورسوله ـ وأريد به إظهار زيادة الإهتمام برضى أمير المؤمنين، واعتباره هو المعيار لاتخاذ الموقف، وهو أيضاً لتأكيد الوثوق بصحة ما يختاره (عليه‌السلام )، وأنه إنما يختار ما يحقق أقصى درجات الرضى الإلهي..

السمع والطاعة لله ولرسوله:

وقول علي (عليه‌السلام ): (السمع والطاعة لله ولرسوله إلخ..) يظهر مدى دقة علي (عليه‌السلام ) في فهم الأمور.. وتراتبية هذا الفهم والوعي، فإنه أعلن أن الطاعة لله، ثم هي لرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

٣٢٤

فدل ذلك على أنه (عليه‌السلام ) لم يكن ليختار أمراً خارجاً عن هذه الدائرة. بل لا بد أن يرجع الأمر إلى الله أولاً، ثم إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ثانياً..

وهو يرى أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد تهيأ للخروج، وجد في العزم عليه، فاعتبر ذلك ترجيحاً واختياراً منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لذلك.. ثم اعتبر هذا الترجيح، أو الإختيار، أو ظهور هذا الميل بمثابة أمر إلهي نبوي، لعلمه بأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لا يفعل إلا ما يحقق رضا الله تبارك، ولا يصدر ولا يورد الأمور من عند نفسه..

وحيث إنه (عليه‌السلام ) لا يختار إلا ما يحقق أقصى درجات الرضا، فقد تحقق عنده الإلتزام بهذا الأمر من ناحيتين:

أولاهما: أنه أصبح بمثابة اختيار من الله ورسوله.. وهو بمثابة الأمر بالنسبة إليه..

الثانية: إنه يتوافق مع ما سعى إليه، وهو تحقيق أقصى درجات الرضا الإلهي..

لك أجر خروجك معي:

وأما حبه لأن يكون مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ولا يتخلف عنه في حال من الأحوال.. فلا شك في أن الكون معه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) شرف وفضل، وفيه مثوبات وفواضل يرغب فيها كل مؤمن، فكيف بعلي (عليه‌السلام )، ولكن قد يعرض ما يحتم التخلي عن هذا الأمر لمصلحة حفظ الإسلام التي هي الأهم والأولى بالمراعات، حين يتآمر عليه أهل

٣٢٥

الباطل، ويكيد له أهل الزيغ، فيتخلى الإنسان عما يحب لينجز أمراً صار هو الأحب إلى الله تعالى، لعروض أمر طارئ..

ويؤيد هذا المعنى: قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) له (عليه‌السلام ):

(..يا أبا الحسن، إن لك أجر خروجك معي في مقامك بالمدينة)، فدل ذلك على أن حب علي للخروج مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يكن عشوائياً، ولا لمصلحة شخصية، بل لحبه نيل الثواب من الله..

يضاف إلى ذلك: ما روي في أن من أحب عمل قوم كان شريكاً لهم فيه، وهذا واضح.

علي (عليه‌السلام ) أمة وحدة:

ثم إن الله تعالى قد زاد في إظهار مزايا علي (عليه‌السلام )، وفضله وشرفه بأن جعله أمة وحده، كما جعل إبراهيم (عليه‌السلام ) أمة.. لأنه (عليه‌السلام ) هو المتفرد من بين البشر بأنه الرجل الإلهي الخالص، الذي هو نفس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في كل خصال الخير، وفي كل المعاني والمزايا التي منحها الله لرسوله، باستثناء ميزة النبوة الخاتمة..

والذي يبدو لنا: هو أن علياً (عليه‌السلام ) أمة وحده، من حيث أنه هو المعيار دون كل أحد لقبول الأعمال، وهو الذي يعطي الجواز لدخول الجنة، ولو أن أحداً صام نهاره، وقام ليله، وحج دهره ولم يأت بولاية علي (عليه‌السلام )، فليس له في الجنة نصيب.

٣٢٦

وبعبارة أخرى.. إن الإيمان بالنبوة لا يكفي إذا لم ينضم إليه الإيمان بالولاية أيضاً، وهذا الأمر ثابت حتى في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. وبعد وفاته.. وهذا هو أحد معاني قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): إن علياً أمة وحده حتى في زمن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فإنه لم يقل له: أنت أمة وحدك بعد وفاتي، فظهر أن هذا الأمر مما يمتاز به علي (عليه‌السلام ) على جميع البشر على الإطلاق.

ونستطيع أن نستفيد من ذلك: أن إقامته بالمدينة حين سار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى تبوك لا تعني أنه (عليه‌السلام ) ليس له ولاية على غير المدينة، بل ولايته واستخلافه يشمل جميع الناس في المدينة وخارجها، وفي جميع البلاد التي كانت خاضعة لسلطان الإسلام.. ولا سيما بملاحظة قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى حسبما أوضحناه فيما سبق.

تأثير الصلاة على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ):

وقد تضمنت الرواية أيضاً: بيان أن اقتران بعض الأعمال بإيمان ذي مواصفات بعينها، يجعلها تؤثر في الواقع الخارجي، ومن هذه الأعمال الصلاة على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وآله الطيبين، فإنها:

أولاً: تستر فاعلها عن عيون أعدائه.

ثانياً: لا تبقي له ظلاً.

ثالثاً: تغمره بالنور، وتستره عن عيون الناس.

٣٢٧

ولكنها ذكرت: أن مجرد التفوه بالصلاة لا يجدي، بل لا بد أن يصاحب ذلك الإعتقاد بأن علياً (عليه‌السلام ) هو أفضل آل النبي..

فعالم الروح متصل بعالم المادة، والتفوه بالألفاظ يترك آثاراً لها نوع ارتباط بسنخ مضمون تلك الألفاظ.. كما أن الإعتقاد مؤثر في الواقع العملي الخارجي..

ولكن هذه الآثار لا يمكن التكهن بها للبشر، ولا طريق لهم لاكتشاف الصلة بينها، بالعلم البشري، بل هي مما يختص الله بعلمه، فلا بد من أخذ العلم بها من الله تعالى، فإذا أخبر الله عنها أمكن تلمسها بالممارسة..

الظل.. والنور:

1 ـ قد بين هذا النص أن الظل أيضاً يمكن التحكم به، وجعله ورفعه وليس كالزوجية للأربعة، أي أنه ليس من اللوازم التي لا تنفك عن النور، وما يعترضه من أجسام..

2 ـ بيَّن أيضاً: أن النور الذي يفترض أن يكون كاشفاً للأجسام، ومن أسباب رؤيتها، يمكن أن يكون بتلألئه ساتراً وحاجباً لما وراءه، ومن أسباب العمى عنه، ومانعاً للبصر من الوصول والإمتداد..

٣٢٨

الفهرس

الصحيح من سيرة الإمام عليّ ( عليه‌السلام ) 1

الفصل الخامس:5

الفصل السادس:32

الفصل السابع:69

الباب التاسع:91

الفصل الأول:93

الفصل الثاني:113

الفصل الثالث:153

الفصل الرابع:175

الفصل الخامس:197

الفصل السادس:219

الباب العاشر:245

الفصل الأول:247

الفصل الثاني:295

الفصل الثالث:309

الفهرس 329

٣٢٩

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399