مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام من موروث أهل الخلاف الجزء ٣

مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام من موروث أهل الخلاف10%

مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام من موروث أهل الخلاف مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 545

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 545 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52974 / تحميل: 5484
الحجم الحجم الحجم
مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام من موروث أهل الخلاف

مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام من موروث أهل الخلاف الجزء ٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مقتل أبي عبد الله الحسين (عليه‌السلام )

من موروث أهل الخلاف

المجلد الثالث

المؤلّف : زهير بن علي الحكيم

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

الفصل السابع

في البكاء لمقتل سيّدِ الشُّهداء (عليه‌السلام )

٥

٦

فضلُ البكاءِ على سيِّدِ الشهداءِ (عليه‌السلام )

عقدتُ هذا الفصل - في بكاءِ النّبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، والمعصومينَ من أهلِ بيتِهِ الأطهارِ (عليهم‌السلام )، وبكاءِ السماواتِ والأرضينَ وما احتوتاهُ على سيّدِ الشهداءِ، الإمامِ المفدّى، الحُسين بنِ عليٍّ (عليه‌السلام )، الّذي اُصيبَ بمصيبةٍ صَغُرَتْ عندَها كلُّ المصائبِ، فهي المصيبةُ العظمى، والرّزيّةُ الكُبْرى التي زَلْزَلَتْ وَفَطَرَتْ السماواتِ والأرضينَ، ومزَّقَتْ أكبادَ العالمينَ، وأذابَتْ أجسامَ المؤمنينَ، وانصدعَتْ لها أجسادُ الخلْقِ أجمعينَ، وأزالَتْ الأرواحَ عن قرارِها المَكينِ لِدَفْعِ ما ينْصِبُهُ النّواصبُ

قال الزمخشري : (أنشدَ) الحسنُ بنُ معاويةَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ جعفرٍ :

أتعجبُ من جاري دموعي ومِنْ ضوى

كأنَّكَ لمْ تسمعْ بقاصمةِ الظهرِ

ولمْ تأتِكَ الأنباءُ عن يومِ كربلا

وقتلِ حسينٍ فيه والفتيةِ الزُّهرِ

فلا تعجبَنْ منِّي ومِنْ فيضِ عبرَتي

فأعجبُ منْهُ عَنْدَ ذِكْرِهُم صبرِي(١)

قالَ المنّاوي في مقتلِ الإمامِ الحُسين (عليه‌السلام ) : وتفصيلُ قصةِ قتلِهِ تُمزِّق الأكبادَ، وتُذيبُ الأجسادَ، فلعنةُ اللهِ على مَنْ قتلَهُ،

____________________

(١) ربيع الأبرار ونصوص الأخبار - الزمخشري / ٢١٤٥، نسخة برنامج الموسوعة الشعرية.

٧

أو رضيَ أو أمرَ، وبُعداً لهُ كما بَعُدَتْ عاد وقد أفرد قصة قتله خلائق بالتأليف(١) .

قال السيوطي فيه أيضاً : وكان قتله بكربلاء، وفي قتله قصة فيها طول لا يحتمِل القلب ذكرها، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون وقُتلَ معه ستة عشر رجلاً من أهل بيته(٢) .

وقال ابن الدمشقي : وقد أكثر الناس في الرثاء والبكاء على ما أصاب أهل البيت (عليهم‌السلام )، وقالوا ما لا يحصى مِن المقالات نظماً، وذكروا في قتل الحُسين (عليه‌السلام ) وما كان مِن أمره ما أضرب عن ذكره صفحاً، ولمْ أرق له سفحاً، ولا يحتمل هذا المختصر أكثر مِن ذلك وفيه كفاية.

وبالجملة والتفصيل فما وقع في الإسلام قضية أفظع منها وهي ما ينبو الأسماع عنها، وتتفطّر القلوب عند ذكرها حزناً وأسىً وتأسّفاً، وتنهلّ لها المدامع كالسحب الهوامع، هذا والعهد بالنّبي قريب، وروض الإيمان خصيب، وغصن دوحته غضّ جديد، وظلّه وافر مديد، ولكنّ الله يفعل ما يريد وما أظنّ أنّ مَنْ استحلّ ذلك وسلك مع أهل النّبي هذه المسالك شمَّ [رائحة] الإسلام، ولا آمن بمحمّد (عليه الصلاة والسّلام)، ولا خالط الإيمان بشاشة قلبه، ولا آمن طرفة (عين) بربّه، والقيامة تجمعهم وإلى ربِّهم مرجعهم

ستعلمُ ليلى أيَّ دَينٍ تداينتْ

وأيَّ غريمٍ للتقاضي غريمها

ولقد قرأ قارئ بين يدي الشيخ العالم العلّامه أبي الوفاء (علي) ابن عقيل (رحمه‌الله ) قوله تعالى :( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ

____________________

(١) فيض القدير شرح الجامع الصغير - المناوي ١ / ٢٦٥.

(٢) تاريخ الخلفاء ١ / ٢٠٧، وفي ط دار الفكر ص١٩٣.

٨

إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلّا فَرِيقًا مِّنَ الْمؤْمِنِينَ ) (١) فبكى وقال : سبحان الله ! غاية ما كان طمعه فيما قال :( فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمرَنَّهُمْ ) (٢) جاوزوا والله، الحدَّ الذي طمع فيه ! ضحّوا بأشمط عنوان السجود به، يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً إي والله، عمدوا إلى علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) بين صفّيه فقتلوه، ثمّ قتلوا ابنه الحُسين بن فاطمة الزهراء (عليهما‌السلام )، وأهل بيته الطيّبين الطاهرين بعد أنْ منعوهم الماء، هذا والعهد بنبيهم قريب ! وهم القَرن الذي رأوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ورأوه يُقبِّل فمه ويرشف ثناياه، فنكتوا على فمه وثناياه بالقضيب ! تذكّروا والله، أحقاد يوم بدر وما كان فيه، وأين هذا مِن مطمع الشيطان وغاية أمله بتبكيت آذان الأنعام ؟! هذا مع قرب العهد وسماع كلام ربّ الأرباب :( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٣) ستروا والله، عقائدهم في عصره مخافة السّيف، فلمـَّا صار الأمر إليهم كشفوا (عن) قناع البغي والحيف :( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) (٤) .

ورأيت في تاريخ ابن خلكان (رحمه‌الله ) قضية غريبة فأحببت ذكرها هاهنا، وهي : قال الشيخ نصر الله بن مجلي في (مشارف الخزانة الصلاحية) : فكّرت ليلةً وقد آويت إلى فراشي فيما عامل به آل (أبي) سفيان أهلَ بيت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وفي قضية الحُسين (عليه‌السلام ) وقتله وقتل أهل بيته (عليهم‌السلام )، وأسر بنات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وحملهم (إيّاهن) على الأقتاب سبايا، ووقوفهم على درج دمشق سبايا عرايا، فبكيت بكاءً شديداً، وأرقت ثمّ

____________________

(١) سورة سبأ / ٢٠.

(٢) سورة النساء / ١١٩.

(٣) سورة الشورى / ٢٣.

(٤) سورة الأنعام / ١٣٩.

٩

نمت فرأيت أمير المؤمنين عليّاً (عليه‌السلام )، فحين رأيته بادرت إليه وقبّلت يديه وبكيت، فقال : (( ما يُبكيك ؟ )) فقلتُ : يا أمير المؤمنين، تفتحون مكّة فتقولون : (( مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومَنْ أغلق عليه بابه فهو آمن، ومَنْ دخل المسجد فهو آمن )) ثمّ يُفعل بولدك الحُسين وأهل بيتك (عليهم‌السلام ) بالطّف ما فُعل ؟! فتبسّم (أمير المؤمنين)، وقال : (( ألمْ تسمع أبيات ابن الصيفي (سعد بن محمّد) ؟ )) قلتُ : لا قال : (( اسمعها منه فهي الجواب )).

قال : فطالت ليلتي حتّى برق الفجر، فجئت باب ابن الصيفي، فطرقت بابه فخرج إليَّ حاسراً حافي القدمين، وقال : ما الذي جاء بك هذه السّاعة ؟! فقصصت عليه قصّتي، فأجهش بالبكاء وقال : والله، ما قلتُها إلّا ليلتي هذه، ولم يسمعها بشر (منِّي ثمّ أنشدني) :

ملكنا فكانَ العفّوُ منَّا سجيةً

فلمـَّا ملكتُم سال بالدمِ أبطحُ

وحلًّلتُم قتلَ الاُسارى وطالما

غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ

وحسبُكم هذا التفاوتُ بيننا

فكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ(١)

وقال الموفّق الخوارزميّ : معاشر المسلمين، مَنْ كان فيكم مصابٌ فليتعزَّ بمَنْ كان مَنْ منه أعز، ومَنْ كان فيكم مظلوم فليتسلَّ ؛ فقد ظُلِمَ مَنْ منه كان أجلّ، ومَنْ كان فيكم مَنْ حالف البَلاء فليذكر مبتلى كربلاء، المحرومَ من الماء، والمذبوحَ من القفا على ظماء، والمجدّلَ في تلك التربة، والمسوقة نساءه سوق الإماء، يهون عليه أمر الغربة وعسر الكربة :

إذا ذكرَتْ نفسي مصائبَ فاطمٍ

لأولادِها هانَتْ عليَّ مصائبي

ولمْ أتذكَّرْ منعَهُمْ عن مشاربٍ

على ظمأ إلّا وعِفْتُ مشاربي

____________________

(١) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي (عليه‌السلام ) - ابن الدمشقي ٢ / ٣١١.

١٠

أسيغُ مياهي بعدَهم ثمَّ أدَّعي

بأنّيَ في دعوى الهوى غيرُ كاذبِ

سَقَوا حسناً سُمّاً ذُعافاً وجدّلو

أخاه حُسيناً بالقنا والقواضبِ

فضائلُهم ليستْ تُعَدُّ وتنتهي

وإنْ عُدِّدتْ يوماً قطارُ السحائبِ

وإنَّ يزيداً رامَّ أنْ يتسفَّلو

وأنْ يتردّوا في مهاوي المعاطبِ

وقد رفع العدلُ المهيمنُ حالَهم

بمنزلةٍ قعساءَ فوقَ الكواكبِ

لبئس ما كان يزيد وحزبُهُ يحتقبون، وساء ما يرتكبون، وسوف ترونَهم في جهنّم يصطلون، ويصطرخون ويضطربون، فإنّهم إلى ربِّهم راجعون :( وَسَيَعْلَم الَّذِينَ ظَلَموا أَيَّ منقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) .

وقال الموفّق الخوارزميّ أيضاً : ومن مقالة لي فيه (عليه‌السلام ) : عباد الله، أما تستغربون أحقادَ قومٍ في ذحولهم ؟ أما تتعجّبون من آراء أمّة وعقولهم قتال الحُسين بن علي ولد رسولِهم ؟ ولمْ يُبالوا بالنَّص الجليّ في حفدة نبيِّهم، ثمَّ لبِثوا في شمالِهم على شُربِ شمولِهم، وجرّ فضولِ ذيولِهم، لعان الله والملائكة على شبّانهم وشيوخهم، وفتيانهم وكهولهم.

أفي صلاتهم يصلُّون على محمّد وآلهِ (عليهم‌السلام )، ويمنعونهم من مشرعة الماء وزلالِه، ويجمعون على حرب الحُسين (عليه‌السلام ) وقتالِه، ويذبحون ولا يستحون من شَيْبه وجماله ؟! أما والله، إنّ حقَّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على أممهِ أنْ يعظّمون تراباً أَلَـمَّ بلَمَمِهِ، بلْ ترابَ نعلِ قدمِه، بلْ ترابَ نعلِ قدمِ خادمٍ من خَدَمِهِ، ثمَّ هؤلاء الطغاة قتلوا شبلَ أسدٍ سادَ في أجَمِه، ونكثُوا بالمِخصرِ ثنايا فمٍ كانت مراشفَ فمِه، وتنافسوا في ذبحه وإراقةِ دمِه.

____________________

(١) سورة الشعراء / ٢٢٧.

١١

نعم، حقُّ الرسول أنْ يكتحِلُوا بغبارٍ من شعر جسده، وهم ذبحوا الحُسين بكربلاء أكرمَ وُلْدِه، وقرّةَ عينه، وفلِدَةَ كبدِه، ذلك الفتى الذي نشأ بين يدي الرسول، وبين عليّ الضرغام الصؤول، وفاطمة البتول، فسبحان الله ! ثمّ سبحان الله ! من يزيد وعبيد الله، عدوَّا الله وعدوَّا رسوله، الناكثَين ثنايا حبيب حبيبه، بالله ثم بالله، إنّ هذا البلاء المتناه، قولوا عباد الله من صميم قلوبكم : آهٍ ثم آهٍ، إذ ذُبحَ ولدُ رسولِ الله بين الطّغاة البغاة، والعُتاة والعُماه، ذوي الشّقاه، مرتكبي مناهي الملاه، ومانعي شربَ المياه، من الحُسين المخبَت الآوّاه(١) .

وقال الموفّق الخوارزميّ أيضاً : ومن مقالةٍ لي فيه (عليه‌السلام ) : عبادَ الله، إنّ المصيبة بالحُسين (عليه‌السلام ) من أعظم المصائب، فصبّوا فيها شآبيبَ الدموعِ السواكب، بتصعيد الزفرات الغوالب، واستنزِفوا بالبُكاء الدماءَ، وأعقِبوا الكرْب والبلاء بتذكّرِكُم أيّام كربلاء نعم، إنّ المصيبة بالمقتول، نجلِ الرسول والبتول وعليِّ الليث الصؤول، مصيبةٌ لا يُجبرُ كسرُها، ولا يمكن جبرُها، وشعلةٌ في صدور المؤمنين لا ينطفي جمرُها، وعظيمةٌ في العظائم يتجدّدُ على الأيّام ذكرُها، وليلةٌ بليّةٌ رزيةٌ لا يتنفّسُ فجرُها، وقارعةٌ زلزلَتْ منها الأرض برَّها وبحرَها.

عجباً لـمـّنْ يتذكر مصارع هؤلاء الأتقياء، الشهداء الظمآء من أهل بيت خيرة صفوة الله خاتم الأنبياء، ثمَّ يتمتّع بعدهم بشربةٍ من الماء ! سبحان الله ! أيُّ ظُلمٍ جرى على أصحابِ الحربِ والمِحرابِ، وأربابِ الكتيبةِ والكتابِ، وفتيانِ الطعانِ والضرابِ، ورجالِ العبءِ والعبابِ، قاصمي الأصلاب، وقاسمي الأسلاب،

____________________

(١) مقتل الحُسين (عليه‌السلام ) - الخوارزمي ٢ / ١٨٢ - ١٨٣، الفصل الثالث عشر في ذكر بعض مراثي الحُسين (عليه‌السلام ).

١٢

وجازمي الرّقاب، وهازمي الأحزاب، وفالقي جماجمَ الأترابِ، روَّاضِ الصعاب، أحلاسِ صهوات العِرابِ، اُمراءِ الخطابِ المستطاب، ملوكِ يومِ الحساب، سلاطين يومِ الثّوابِ والعقابِ(١) .

ابنُ حنبل يروي فضلَ البكاءِ على الإمام الحُسين وأهل البيت (عليهم‌السلام )

روى عبد الله بن حنبل قال : حدّثنا أحمد بن إسرائيل، قال : رأيت في كتاب أحمد بن محمّد بن حنبل (رحمه‌الله ) بخط يده، حدّثنا أسود بن عامر أبو عبد الرحمن، حدّثنا الربيع بن منذر، عن أبيه، قال : . ثمّ كان حُسين بن علي (عليه‌السلام ) يقول : (( من دمعتا(٢) عيناه فينا دمعةً، أو قطرتْ عيناه فينا قطرةً أثواه الله (عزَّ وجل) الجنّة ))(٣) .

____________________

(١) مقتل الحُسين (عليه‌السلام ) - الخوارزمي ٢ / ١٨٣ - ١٨٤، الفصل الثالث عشر في ذكر بعض مراثي الحُسين (عليه‌السلام ).

(٢) هكذا في الأصل، والظاهر : دمعت، أو على التقديم والتأخير.

(٣) فضائل الصحابة - أحمد بن حنبل ٢ / ٦٧٥ ح ١١٥٤، وسيلة الآمال - العلّامه باكثير الحضرمي / ٦٠، نسخة مكتبة الظاهرية بدمشق، نقلاً عن إحقاق الحقِّ ٩ / ٥٢٣، وقال : ((. . أتاه الله )) وفي رواية (( بوّأه الله الجنّة )) أخرجه أحمد في المناقب، توضيح الدلائل - العلّامه شهاب الدين أحمد الشيرازي الحُسيني الشافعي / ٣١٦، والنّسخة مصوّرة من مخطوطة مكتبة الملّي بفارس، قال : (( . أعطاه الله (عزَّ وجل) الجنّة )) أخرجه الإمام أحمد في المناقب نقلاً عن إحقاق الحقِّ ٢٤ / ٦٦٠، كتاب استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول ذوي الشرف - العلّامه شمس الدين محمّد بن عبد الرحمن بن محمّد بن أبي بكر السّخاوي الشافعي / ٣٥، والنّسخة مصوّرة من مخطوطة مكتبة عاطف أفندي بإسلامبول، قال : (( . آتاه الله (عزَّ وجل) الجنّة )) أخرجه أحمد في المناقب، كتاب مطلع البدور ومجمع البحور - العلّامه شهاب الدين أحمد بن صالح بن محمّد اليماني المتوفّى سنة (١٠٩٢) ١ / ٩، نسخة مصوّرة من مخطوطة مكتبة دار الكتب العربيّة، قال : عن الحُسين (عليه‌السلام ) : (( مَنْ دمعت عيناه فينا قطرةً آتاه الله تعالى الجنّة )) نقلاً عن إحقاق الحقِّ ٢٤ / ٦٦١.

١٣

أقول : ورجاله ثقات(١) .

____________________

(١) الأوّل : عبد الله بن أحمد بن حنبل . من أئمّة أهل الخلاف، حتّى قيل : إنّه أفضل من أبيه، كما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٩ / ٣٨٩، وفي ط ص٣٧٦.

وقال فيه الذهبي في تذكرة الحفّاظ - ٢ / ٦٦٥ : عبد الله بن أحمد بن محمّد بن حنبل، الإمام الحافظ الحجّة أبو عبد الرحمن، محدّث العراق، وَلدُ إمام العلماء أبي عبد الله الشيباني المروزي الأصل البغدادي وُلد سنة ثلاث عشرة ومئتين، وسمع من أبيه فأكثر، ومن يحيى بن عبدويه صاحب شعبة . .، قال الخطيب : كان ثقة ثبتاً فهماً.

الثاني : أحمد بن إسرائيل : روى عنه عبد الله بن حنبل، وروى هو عن محمّد بن عثمان في كتابه فضائل الصحابة ٢ / ٦٦٨ ح ١١٤٠، حدّثني أحمد بن إسرائيل، ثنا محمّد بن عثمان، ثنا زكريا بن يحيى، ثنا يحيى بن سالم، ثنا أشعث بن عمّ حسن بن صالح وكان يُفضّل عليه، ثنا مسعر، عن عطيّة العوفي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( . ثمّ مكتوبٌ على باب الجنّة محمّد رسول الله، عليّ أخو رسول الله، قبل أن تُخلق السّماوات بألفي سنة )).

وقال فيه الخطيب البغدادي في كتابه - موضح أوهام الجمع والتفريق ١ / ٤٦٥ : . وهو أحمد بن إسرائيل، الذي روى عنه أبو بكر بن مالك القطيعي، أخبرنا أبو طاهر محمّد بن عليّ بن محمّد بن يوسف الواعظ، أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، حدّثني أحمد بن إسرائيل، حدّثنا محمّد بن عثمان، حدّثنا زكريا بن يحيى ينوي، حدّثنا يحيى بن سالم، حدّثنا أشعث ابن عم حسن بن صالح وكان يُفضّل عليه، حدّثنا مسعر، عن عطية العوفي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( مكتوبٌ على باب الجنّة محمّد رسول الله، عليّ أخو رسول الله، قبل أن أخلق السّماوات بألفي سنة )).

أقول : وفي ط : (( قبل أن أصحهما السّماوات . )) والصحيح ما أثبتناه.

قال فيه الذهبي في ميزان الاعتدال ١ / ١٠١ : =

١٤

____________________

= ٣٩٦ - [ صح ] أحمد بن سلمان بن الحسن بن إسرائيل بن يونس، أبو بكر النّجاد، الفقيه الحنبلي المشهور، عن هلال بن العلاء، وأبي قلابة، وخلق ورحل وصنّف السّنن.

روى عنه ابن مردويه، وأبو علي بن شاذان، وعبد الملك بن بشران وخلق كثير وكان رأساً في الفقه، رأساً في الرواية، ارتحل إلى أبي داود السّجستاني وأكثر عنه، وكان ابن زرقويه يقول : النّجاد بن صاعد قلت : هو صدوق.

قال الدار قطني : حدّث من كتاب غيره بما لم يكن في اُصوله وقال الخطيب : كان قد عمي في الآخر، فلعل بعض الطّلبة قرأ عليه ذلك.

وقال الألباني في إرواء الغليل ٣ / ٤٠ : (فائدة) : النّجاد - الذي عزا إليه الحديثَ مؤلفُ الكتاب - هو أحمد بن سلمان بن الحُسين، أبو بكر الفقيه الحنبلي، يُعرف بالنّجاد، وهو حافظٌ صدوقٌ، جمع المسندَ، وصنّف في السّنن كتاباً كبيراً، روى عنه الدار قطني وغيره من المتقدّمين، ولِدَ سنة (٢٥٣ ه) فيما قيل، وتوفي سنة (٣٤٨ه).

الثالث : وهو إمام الحنابلة، وصاحب المسند المشهور، أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشّيباني.

وإليك ما قاله فيه الذهبي في تذكرة الحفّاظ ٢ / ٤٣١ : أحمد بن حنبل شيخ الإسلام، وسيّد المسلمين في عصره، الحافظ الحجّة، أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل بن هلال بن أسد الذّهلي الشّيباني المروزي ثم البغدادي ولِدَ سنة أربع وستّين ومئة.

الرابع : أسود بن عامر : وهو شاذان، قال فيه الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٠ / ١١٢ - ١١٣ : شاذان الإمام الحافظ الصّدوق، أبو عبد الرحمن أسود بن عامر، شاذان الشّامي ثم البغدادي ولِدَ سنة بضعٍ وعشرين ومئة، وسمع هشامَ بن حسّان، وطلحة بن عمرو، وذواد بن علبة، وجرير بن حازم، وشعبة بن الحجّاج، وسفيان الثّوري، وعبد العزيز بن الماجشون، و حمّاد بن سلمة، و حمّاد بن زيد وعدّة.

حدّث عنه أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وأبو ثور الكلبي، وعمرو النّاقد، وعبد الله الدارمي، ويعقوب بن شيبة، وأحمد بن الوليد الفحّام، وأحمد بن الخليل البرجلاني، والحارث بن أبي اُسامة وخلق كثير.

وثّقه ابن المديني وغيره، وحدّث عنه من القدماء بقية بن الوليد.

توفي في أوَّل سنة ثمان ومئتين ببغداد، وروى عنه مسلم في صحيحه في ٦ / ١٦٥.

الخامس : الربيع بن منذر الثّوري : قال فيه العجلي في معرفة الثّقات ١ / ٣٥٦ : (٤٦١) الربيع بن منذر كوفي ثقة =

١٥

أقول : وهذا ليس بغريب، بل مثله الكثير في الأحاديث النّبوية، وهذا ليس بأعظم من مصافحة المؤمن للمؤمن.

قال الهيثمي : وعن سلمان الفارسي، أنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : (( إنّ المسلمَ إذا لقى أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتتْ عنهما ذنوبُهما، كما يتحاتّ الورقُ عن الشّجرة اليابسة في يومِ ريحٍ عاصفٍ، وإلّا غفر لهما، ولو كانت ذنوبُهما مثل زبدَ البحر )) رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، غير سالم بن غيلان وهو ثقة(١) .

وأيضاً جاء في حبِّ آل محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ما يفوق على غفران الذّنوب من أن يعطى المراتب العالية ببركة حبّهم (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين).

قال القرطبي في تفسيره : وكفى قبحاً بقول مَنْ يقول : إنّ التّقرّبَ إلى الله بطاعته، ومودة نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأهل بيته منسوخٌ، وقد قال النّبيُّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( مَنْ مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ومَنْ مات على حبّ آل محمّد جعل الله زوّار قبره الملائكة والرّحمة، ومَنْ مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيسٌ اليوم من رحمة الله، ومَنْ مات على بغض

____________________

= والسادس : هو منذر الثّوري : قال فيه العجلي في معرفة الثقات ٢ / ٢٩٨: (١٧٩١) منذر الثّوري، أبو يعلى، كوفي ثقة وقال الرّازي في الجرح والتعديل ٨ / ٢٤٢:

١٠٩٣ - منذر بن يعلى، أبو يعلى الثّوري، روى عن ابن الحنفيّة، وسعيد بن جبير، والربيع بن خثيم، وعاصم بن ضمرة.

روى عنه الأعمش، وسعيد بن مسروق، وفطر، والحجّاج بن أرطاة، وابنه الرّبيع بن منذر، سمعت أبي يقول ذلك ثنا عبد الرحمن قال : ذكره أبي، عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين، أنّه قال : منذر الثّوري ثقة.

وذكره ابن حبان في الثقات ٧ / ٥١٨ وروى عنه البخاري في صحيحه في باب الوضوء ١ / ٤٢.

(١) مجمع الزوائد - الهيثمي ٨ / ٣٧، وفي ط ص٧٧ ح ١٢٧٧١.

١٦

آل محمّد لم يرح رائحة الجنّة، ومَنْ مات على بغض آل بيتي فلا نصيبَ له في شفاعتي )).

قلت : وذكر هذا الخبر الزمخشري في تفسيره بأطول من هذا، فقال : وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( مَنْ مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومَنْ مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكملَ الإيمان، ألا ومَنْ مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة، ثمّ منكر ونكير، ألا ومَنْ مات على حبّ آل محمّد فُتِحَ له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا ومَنْ مات في حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزارَ ملائكةِ الرّحمة، ألا ومَنْ مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة، ألا ومَنْ مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيسٌ من رحمة الله، ألا ومَنْ مات على بغض آل محمّد مات كافراً ))(١) .

البكاءُ على الإمام الحُسين (عليه‌السلام ) يُخرِجُ من النّار

الخطيب البغدادي، قال : حدّث عن محمّد بن عبد الله الحضرمي، والحسن بن حبّاش الدّهقان، وجعفر بن محمّد بن عبيد بن عتبة الكندي، وغيرهم روى عنه أحمد بن محمّد بن عمران بن الجندي، وكنَّاه نسبة إلى لقب أبيه من غير أن يسمّيه، وحدّث عنه أيضاً جناح بن نذير وغيره من الكوفيِّين، ثنا الحسن بن أبي طالب، ثنا أحمد بن محمّد بن عمران، ثنا أبو الحسن بن شُقَير، ثنا جعفر بن محمّد بن عُبيد، ثنا أحمد بن يحيى الأودي، ثنا مخول بن إبراهيم، ثنا محمّد بن بكر، ثنا الرّبيع بن منذر الثّوري، عن أبيه قال : سمعت الحُسين بن عليٍّ (عليه‌السلام ) يقول : (( مَنْ دمعَتْ عينُه فينا

____________________

(١) تفسير القرطبي ١٦ / ٢٢.

١٧

دمعةً، أو قطرَتْ عينُه فينا قطرةً أثواه الله بها في الجنّة حقباً، وإنْ دخل النّار أخرجتُه منها ))(١) .

ثوابُ البكاءِ والدمعةِ على الإمام الحُسين (عليه‌السلام )

قال القندوزي الحنفي : وفي تفسير علي بن إبراهيم، عن الباقر (عليه‌السلام ) قال : كان أبي عليُّ بن الحُسين (عليه‌السلام ) يقول : (( أيّما مؤمنٍ دمعَتْ عيناه لقتل الحُسين (عليه‌السلام ) ومَنْ معه حتّى يسيلَ على خدّيه، بوّأه الله في الجنّة غُرفاً، وأيّما مؤمنٍ دمعَتْ عيناه دمعاً حتّى يسيل على خدّيه لأَذىً مسَّنا من عدوِّنا، بوَّأه الله مبوَّأ صدقٍ، وأيّما مؤمنٍ مسَّه أذى فينا فدمعَتْ عيناه حتّى يسيلَ دمعُه على خدّيه من مضاضة ما اُوذي فينا، صرفَ الله عن وجهِهِ الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطِهِ ومِنَ النّار ))(٢) .

وقال القندوزي أيضاً : وفي تفسير علي بن إبراهيم، عن جعفر الصادق (عليه‌السلام ) قال : (( مَنْ ذَكَرَنا أو ذُكِرَنا عنده، فخرج من عينيه دمعٌ مثلُ جناحِ بعوضةٍ غفر الله له ذُنوبَه، ولو كانت مثلَ زبدِ البحر ))(٣) .

البكاءُ في يوم عاشوراء عن الإمام الصادق (عليه‌السلام )

قال الأسفراييني : (ويروي) عن جعفر الصادق (عليه‌السلام ) أنّه قال : (( قُتِلَ بالحُسين مئة ألف ولمْ

____________________

(١) تلخيص المتشابه - الخطيب البغدادي ١ / ٥٦٣.

(٢) ينابيع المودّة ٣ / ١٠٢.

(٣) المصدر نفسه.

١٨

تقُمْ بثأره، وسيُطلبُ بثأره )) قال جعفر الصادق (عليه‌السلام ) : (( إنّ الشهرَ المحرّمَ كانت الجاهليّةُ يُحرّمون فيه القتالَ، فاستُحلّتْ فيه دماؤنا، وانتُهبَ فيه مالُنا، وتهتكت فيه حريمنا، ولمْ يبقَ فيه حرمةٌ لنا إنّ يومَ عاشوراءَ أحرقَ قلوبَنا، وأرسلَ دموعَنا، وأرضَ كربلاءَ أورثتْنا الكربَ والبلاءَ فعلى مثلِ الحُسين (عليه‌السلام ) فليبكِ الباكون ؛ فإنّ البكاءَ عليه يمحُو الذّنوبَ أيُّها المؤمنون ))(١) .

ما ذُكر في منزلة الباكين في الجنّة، وفضل البكاء في يوم عاشوراء

قال ابن حجر في الإصابة، قال الذهبي : ووقفتُ على نسخةٍ يرويها عبيد الله بن محمّد بن عبد العزيز السّمرقندي، قال : حدّثني الإمام صفوة الأولياء جلالُ الدين موسى بن مجلي بن بندار الدّنيسيري، أخبرنا الشّيخ الكبير العديم النّظير رتن بن نصر بن كربال الهندي، عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) . .(فذكر أحاديث كثيرة) . إلى أنْ قال : (( ما مِنْ عبدٍ يبكي يومَ اُصيبَ ولدي الحُسين (عليه‌السلام ) إلّا كان يوم القيامة مع اُولي العزم من الرّسل )) وقال : (( البُكاء في يومِ عاشوراء نورٌ تامٌ يوم القيامة ))(٢) .

____________________

(١) نور العين في مشهد الحُسين (عليه‌السلام ) - أبو إسحاق الأسفراييني / ٨٣، وفي ط ص٧٢.

(٢) الإصابة ٢ / ٥٢٧.

أقول : وهذه مع ضعف سندها، ولكنْ يتقوّى بما تقدّم من الرواية الأولى الصحيحة عن ابن حنبل، وأيضاً توجد كثيرٌ من هذه الروايات، ولكنّ الظروف العامّة التي خلقها بنو اُميّة وبنو العبّاس، والظّلمة والخوارج، وغيرهم من أعداء أهل البيت (عليهم‌السلام ) منعتْ وصولَ الكثيرِ من روايات فضائلِهم (عليهم‌السلام ) فضلاً عن الروايات التي تُصرّحُ بالأحكام الشرعيّة المتعلّقة بأفعال النّاس من التي تُشيدُ بذكرِهم (عليهم‌السلام ) ؛ مثل استحباب البكاء عليهم التي لا ينفكّ عنها المسلمون بحيث تكون على الدوام تُنادي بفضل أهل البيت (عليهم‌السلام )، وأكبرُ شاهدٍ في زماننا على ذلك تركهم ذكرَ الآل في الصّلاة على النّبي محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مع وجود الروايات المصرّحة بالنّهي عن الصّلاة البتراء، وهي التي لا يُذكر فيها أهل البيت (عليهم‌السلام ).

١٩

جوابُ مَنْ منع مدح أهل البيت (عليهم‌السلام )

وقال القندوزي الحنفي : وفي جواهر العقدين، قال أبو الحسن بن سعيد في كنوز المطالب في فضائل بني أبي طالب : إنّ الشعراء يشتغلون ببغداد بالمشهد الكاظمي (رضي‌الله‌عنه ) في مدح أهل البيت، وأنكر بعض مَنْ غلب عليه التّعصبُ والتقليدُ، فقلت هذه الأبيات :

يا أهلَ بيتِ المصطفى عجباً لِمَنْ

يأبى حديثَكُمـُ مِنَ الأقوامِ

واللهُ قد أثنى عليكم قبلَه

وبهدْيِكُم شُدَّتْ عُرَى الإسلام

اللهُ يَحْشُرُ كلَّ مَنْ عاداكُمـُ

يومَّ الحسابِ م-زَلْزَلَ الأقدامِ

ويرى شفاعةَ جدِّكم مَنْ دونَه

ويُذادُ عن حوضٍ طريداً ظامي(١)

مجيءُ الزهراء (عليها‌السلام ) يوم المحشر وشفاعتها للباكين على مصيبة الإمام الحُسين (عليه‌السلام )

قال حسام الدين الحنفي : قال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش : يا أهلَ القيامة، أغمِضُوا أبصارَكم لتجوزَ فاطمةُ بنتُ محمّدٍ (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، مع قميصٍ مخضوبٍ بدمِ الحُسين (عليه‌السلام )، فتحتوي على ساق العرش، فتقول : أنت الجبّار العدل، اقضِ بيني وبين مَنْ قتلَ ولدي فيقضي الله لبنتي وربِّ الكعبة، ثم تقول : اللّهمَّ، اشفعني في مَنْ بكى على مصيبته فيشفّعها الله فيهم ))(٢) .

____________________

(١) ينابيع المودّة لذوي القربى ٣ / ١٠٣.

(٢) كتاب ( آل محمّد ) للعلّامه حسام الدين الحنفي / ٣٧ (نسخة مكتبة السيد الأشكوري)، نقلاً عن إحقاق الحقِّ ٢٥ / ٢٢٢.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

يَكُن لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ) (١) عن مقاتل قوله: الشفاعة إلى الله انّما هي دعوة المسلم(٢) .

وقال الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (٣) انّ هذه الآية تدل على حصول الشفاعة للمذنبين، والاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة لا تذكر إلّا في إسقاط العقاب، أمّا طلب النفع الزائد فانّه لا يسمّى استغفاراً، وقال: قوله تعالى:( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) يدل على أنّهم يستغفرون لكل أهل الإيمان، فإذا دللنا على أنّ صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة(٤) .

وهذه الجمل تفيد أنّ الإمام الرازي جعل قول الملائكة في حق المؤمنين والتائبين من أقسام الشفاعة، وفسر قوله:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ) بالشفاعة وهذا دليل واضح على أنّ الدعاء في حق المؤمن، شفاعة في حقه، وطلبه منه طلب الشفاعة منه، ويوضح ذلك ويؤيده ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي: « ما من ميت يصلّي عليه أُمّة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلّا شفّعوا فيه »(٥) .

وفسّر الشارح قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يشفعون له » بقوله: أي يدعون له، كما فسّر قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إلّا شفّعوا فيه » بقوله: أي قبلت شفاعتهم.

__________________

(١) النساء: ٨٥.

(٢) تفسير النيسابوري: ١ والمطبوع في إيران غير مرقم.

(٣) غافر: ٧.

(٤) مفاتيح الغيب: ٧ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦، طبعة مصر في ثمانية أجزاء.

(٥) صحيح مسلم: ٣ / ٥٣، طبعة مصر، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده.

٢٨١

وروي أيضاً عن عبد الله بن عباس أنّه قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلّا شفّعهم الله فيه »(١) أي قبلت شفاعتهم في حق ذلك الميت فيغفر له.

وعلى ذلك فلا وجه لمنع الاستشفاع من الصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء، ولو كان للشفاعة معنى آخر من التصرف التكويني في قلوب المذنبين، وتصفيتهم في البرزخ، ومواقف القيامة فهو أمر عقلي لا يتوجه إليه إلّا الأوحدي من الناس، فكل من يطلب من النبي الشفاعة لا يقصد منه إلّا المعنى الرائج.

الثاني: انّ الأحاديث الإسلامية وسيرة المسلمين تكشفان عن جواز هذا الطلب، ووجوده في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد روى الترمذي في صحيحه عن أنس قوله: سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: « أنا فاعل »، قال: قلت: يا رسول الله فأين أطلبك ؟ فقال: « اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط »(٢) .

فإنّ السائل يطلب بصفاء ذهنه، وسلامة فطرته من النبي الأعظم، الشفاعة من دون أن يخطر بباله أنّ في هذا الطلب نوع عبادة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما زعمه الوهابيون.

وهذا سواد بن قارب، أحد أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول مخاطباً إياه :

فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب(٣)

وروى أصحاب السير والتاريخ، انّ رجلاً من قبيلة حمير عرف أنه سيولد في أرض مكة نبي الإسلام الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولـمّا خاف أن لا يدركه، كتب رسالة وسلّمها لأحد أقاربه حتى يسلّمها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما يبعث، وممّا جاء في تلك

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) صحيح الترمذي: ٤ / ٦٢١، كتاب صفة القيامة، الباب ٩.

(٣) نقله « زيني دحلان » عن الطبراني في الكبير كما في التوصل إلى حقيقة التوسل: ٢٩٨.

٢٨٢

الرسالة قوله: « وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني »(١) . ولـمّا وصلت الرسالة إلى يد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « مرحباً بتبّع الأخ الصالح » فإنّ توصيف طالب الشفاعة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالأخ الصالح، أوضح دليل على أنّه أمر لا يصادم أُصول التوحيد.

وروي أنّ أعرابياً قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنّا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فسبح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: « ويحك أنّ الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك »(٢) . وأنت إذا تدبرت في الرواية ترى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرّه على شيء وأنكر عليه شيئاً آخر، أقرّه على قوله: إنّا نستشفع بك على الله، وأنكر عليه: نستشفع بالله عليك، لأنّ الشافع يسأل المشفوع إليه، والعبد يسأل ربه، ويستشفع إليه، والرب تعالى لا يسأل العبد، ولا يستشفع به.

وروى المفيد عن ابن عباس أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما غسّل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكفّنه، كشف عن وجهه وقال: « بأبي أنت وأُمي طبت حياً وطبت ميتاً اذكرنا عند ربك »(٣) .

وروي أنّه لـمّا توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه، ثمّ أكبّ عليه فقبّله، وقال: بأبي أنت وأُمّي طبت حياً وميتاً، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك(٤) .

وهذا استشفاع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في دار الدنيا بعد موته.

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب: ١ / ١٢، السيرة الحلبية: ٢ / ٨٨.

(٢) كشف الارتياب: ٢٦٤، نقلاً عن زيارة القبور: ١٠٠.

(٣) مجالس المفيد: ١٠٣، المجلس الثاني عشر.

(٤) كشف الارتياب: ٢٦٥ نقلاً عن خلاصة الكلام.

٢٨٣

ونقل عن شرح المواهب للزرقاني انّ الداعي إذا قال: أللّهمّ إنّي استشفع إليك بنبيك يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك، استجيب له(١) .

وقد روى الجمهور في أدب الزائر إنّه إذا جاء لزيارة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: جئناك لقضاء حقّك، والاستشفاع بك، فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك، فاستغفر لنا واشفع لنا(٢) .

كل هذه النصوص تدل على أنّ طلب الشفاعة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أمراً جائزاً ورائجاً، وذلك لأنّهم يرونه مثل طلب الدعاء منه، ولا فرق بينها وبينه إلّا في اللفظ، وقد عرفت صحة إطلاق لفظ الشفاعة على الدعاء والاستشفاع على طلب الدعاء حتى أنّ صحيح البخاري عقد بابين بهذين العنوانين :

إذا استشفعوا ليستسقى لهم لم يردهم.

إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط.

فنرى أنّ البخاري يطلق لفظ الشفاعة والاستشفاع على الدعاء وطلبه من الإمام في العام المجدب من دون أن يخطر بباله أنّ هذا التعبير غير صحيح.

وعلى الجملة انّ طلب الشفاعة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله داخل فيما ورد من الآيات التالية :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيمًا ) (٣) .

( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ *قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) (٤) .

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) الغدير: ٥ / ١٢٤ ـ ١٢٧، وقد نقله عن جمع لا يستهان بعدتهم.

(٣) النساء: ٦٤.

(٤) يوسف: ٩٧ ـ ٩٨.

٢٨٤

وقوله سبحانه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

فكلّما يدل على جواز طلب الدعاء من المؤمن الصالح يمكن الاستدلال به على صحة ذلك.

وقد عقد الكاتب محمد نسيب الرفاعي مؤسس الدعوة السلفية والمدافع القوي عن الوهابية باباً تحت عنوان: « توسل المؤمن إلى الله تعالى بدعاء أخيه المؤمن له ». واستدل بالقرآن والسنّة الصحيحة، فإذا كان ذلك جائزاً فلم لا يجوز طلب الشفاعة من النبي وآله بعد كون الجميع مصداقاً لطلب الدعاء.

وليعلم أنّ البحث هنا مركّز على طلب الشفاعة من الأخيار، وأمّا التوسل بذواتهم أو بمقامهم أو غير ذلك فخارج عن موضوع بحثنا، وقد أفردنا لجواز تلك التوسلات رسالة مفردة أشبعنا الكلام فيها قرآناً وحديثاً، وقد طبعت وانتشرت.

وإذا وقفت على ذلك فهلمّ معي إلى ما لفّقه القوم وزعموه دلائل قاطعة على حرمة طلب الشفاعة من الأولياء، ونحن ننقلها واحداً بعد واحد على سبيل الإجمال، وقد أتينا ببعض الكلام في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة(٢) .

ما استدل به على حرمة طلب الشفاعة

استدل القائلون بحرمة طلب الشفاعة بوجوه :

١. انّ طلب الشفاعة من الشفعاء عبادة لهم وهي موجبة للشرك، أي الشرك في العبادة، فإنّك إذا قلت يا محمد اشفع لنا عند الله، فقد عبدته بدعائك ،

__________________

(١) المنافقون: ٥.

(٢) راجع معالم التوحيد: ٤٩١ ـ ٥٠١.

٢٨٥

والدعاء مخ العبادة، فيجب عليك أن تقول: أللّهمّ اجعلنا ممن تناله شفاعة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجواب عن هذا الاستدلال واضح كل الوضوح بعد الوقوف على ما أوردناه في الجزء الأوّل من هذه الحلقات، حيث قلنا: إنّ حقيقة العبادة ليست مطلق الدعاء، ولا مطلق الخضوع، ولا مطلق طلب الحاجة، بل هو عبارة عن الدعاء أو الخضوع أمام من يعتقد بإلوهيته وربوبيته وانّه الفاعل المختار والمتصرف بلا منازع في الأمور التي ترجع إلى الله سبحانه.

وإن شئت قلت: العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المسؤول وربوبيته واستقلاله في ذاته أو في فعله.

وبعبارة ثالثة: العبادة هي الخضوع اللفظي أو العملي أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته وعاجله وآجله.

إلى غير ذلك من التعابير التي توضح لنا مفهوم العبادة وحقيقتها.

فمن الغريب أن نفسّر العبادة بمطلق الخضوع أو الخضوع النهائي وإن كان غير صادر عن الاعتقاد بإلوهية المدعو وربوبيته وإلاّ يلزم أن يكون خضوع الملائكة أمام آدم، وخضوع الإنسان أمام والديه من الشرك الواضح.

وما ورد في الحديث من أنّ الدعاء مخ العبادة، فليس المراد منه مطلق الدعاء، بل المراد دعاء الله مخ العبادة، وما ورد في الروايات من أنّه: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وان كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله(١) . فليس المراد من العبادة هنا: العبادة المصطلحة، بل استعيرت في المقام لمن يجعل نفسه تحت اختيار الناطق.

__________________

(١) الكافي: ٦ / ٤٣٤، الحديث ٤، وعيون أخبار الرضا: ١ / ٣٠٣، الحديث ٦٣، الوسائل: ١٨ الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٩ و ١٣.

٢٨٦

وعلى ذلك فطلب الشفاعة إنّما يعد عبادة للشفيع إذا كان مقروناً بالاعتقاد بإلوهيته وربوبيته وانّه مالك لمقام الشفاعة. أو مفوض إليه، يتصرف فيها كيف يشاء، وأما إذا كان الطلب مقروناً باعتقاد أنّه عبد من عباد الله الصالحين يتصرف بإذنه سبحانه للشفاعة، وارتضائه للمشفوع له، فلا يعد عبادة للمدعو، بل يكون وزانه وزان سائر الطلبات من المخلوقين، فلا تعد عبادة بل طلباً محضاً غاية الأمر لو كان المدعو قادراً على المطلوب يكون الدعاء أمراً صحيحاً عقلاً، وإلاّ فيكون أمراً لغواً فلو تردّى الإنسان وسقط في قعر البئر وطلب العون من الواقف عند البئر القادر على نجدته وإنقاذه، يعد الطلب أمراً صحيحاً ولو طلبه من الأحجار المنضودة حول البئر يكون الدعاء والطلب منها لغواً مع كون الدعاء والطلب هذا غير مقترن بشيء من الإلوهية والربوبية في حق الواقف عند البئر، ولا الأحجار المنضودة حوله.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه حثّ على ابتغاء الوسيلة وقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (١) ومن المعلوم انّ المراد من الوسيلة ليست الأسباب الدنيوية الموصلة للإنسان إلى غاياته المادية، إذ ليس هذا أمراً خفياً على الإنسان حتى يحثّه عليه القرآن كما أنّه ليس من الأمور التي يكسل عنها الإنسان حتى يحض عليه، بل المراد: التوسل بالأسباب الموصلة إلى الأمور المعنوية ومن المعلوم إنّ أحد الأسباب هو التوسل بدعاء الأخ المؤمن، والولي الصالح، وعلى ذلك فيرجع طلب الشفاعة إلى طلب الدعاء، الذي اتفق المسلمون قاطبة على جوازه.

وإن شئت قلت إنّه سبحانه يقول:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢) .

__________________

(١) المائدة: ٣٥.

(٢) الزخرف: ٨٦.

٢٨٧

ومن الواضح إنّ جملة( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) تدل على أنّ الطائفة الموحدة لله تملك الشفاعة بإذنه سبحانه، وعندئذ فلماذا لا يصح طلبها ممن يملك الشفاعة بإذنه ؟ غاية الأمر إنّ الطالب لو كان في عداد من ارتضاه سبحانه نفعه الاستشفاع وإلاّ فلا، ومن العجب قول محمد بن عبد الوهاب: « إنّ الله أعطى النبي الشفاعة ونهاك عن هذا وقال:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) وأيضاً الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة والأولياء يشفعون فإن قلت: الله أعطاهم الشفاعة، وأطلبها منهم، رجعت [ عندئذ ] إلى عبادة الصالحين، التي ذكرها الله تعالى في كتابه »(١) إذ هذه الكلمة من العجائب فإنّه إذا أعطاه الله سبحانه الشفاعة فكيف يمنع طلبها منه ؟! وهذا بمنزلة من ملّك أحداً شيئاً ليستفيد منه الآخرون ولكن منع الآخرين عن طلبه منه، فهذا لو كان صحيحاً عقلاً فهو غير متعارف عرفاً.

أضف إليه انّه في أي آية وأي حديث منع طلب الشفاعة عنهم. وتصور انّ طلبها عبادة قد عرفت الإجابة عنها، وانّ العبادة عبارة عن الطلب اللفظي أو الخضوع العملي عمن يعتقد بنحو من الأنحاء بإلوهيته وربوبيته، وذلك الاعتقاد لا ينفك عن الاعتقاد في استقلال المطلوب منه ذاتاً وفعلاً، وكونه متصرفاً في الأمور الإلهية تصرفاً بلا منازع، وليس هذا الاعتقاد موجوداً في الاستشفاعات المتعارفة بين المسلمين.

٢. انّ طلب الشفاعة يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة وقد حكى القرآن ذلك العمل منهم، قال سبحانه:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ) (٢) وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.

__________________

(١) كشف الشبهات: ٦ / ٩.

(٢) يونس: ١٨.

٢٨٨

والجواب عن هذا بيّن أيضاً، فانّك إذا أمعنت النظر في مفاد الآية لا تجد فيها أيّة دلالة على أنّ شركهم كان لأجل الاستشفاع بالأصنام وكان هذا هو المحقق لشركهم وجعلهم في عداد المشركين، وإليك توضيح ذلك فنقول :

إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين: ( العبادة ) ويدل عليه( وَيَعْبُدُونَ ) و ( طلب الشفاعة ) ويدل عليه:( وَيَقُولُونَ ) وكان علة اتصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني، ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها بالحقيقة، لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى، أعني قوله:( وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا ) بعد قوله:( وَيَعْبُدُونَ ) إذ لا فائدة لهذا التكرار، وتوهم انّ الجملة الثانية توضيح للأولى خلاف الظاهر، فإنّ عطف الجملة الثانية على الأولى يدل على المغايرة بينهما إذ لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة فضلاً عن كون الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم.

نعم ثبت بأدلّة أُخرى ( لا من الآية ) بأنّ طلب الاستشفاع بالأصنام يعد عبادة لهم وذلك لما قلنا من أنّ المشركين كانوا يعتقدون بإلوهيتها وربوبيتها واستقلالها في الأفعال(١) .

٣. طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام، فإنّ ذلك دعاء لغير الله وهو حرام قال سبحانه:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) (٢) وإذا كانت الشفاعة ثابتة لأوليائه وكان طلب الحاجة من غيره حراماً فالجمع بين الأمرين يتحقق بانحصار جواز طلبها عن الله سبحانه خاصة، ويوضح ذلك قوله سبحانه:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (٣) ، فقد عبر عن

__________________

(١) وان أردت المزيد من التوضيح، فلاحظ الجزء الأوّل من هذه الحلقات: معالم التوحيد في القرآن: ٤٩٣ ـ ٥٠١.

(٢) الجن: ١٨.

(٣) غافر: ٦٠.

٢٨٩

العبادة في الآية بلفظ الدعوة في صدرها وبلفظ العبادة في ذيلها، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى، وقد مر قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الدعاء مخ العبادة ».

والجواب بوجوه: أوّلاً: أنّ المراد من الدعاء في قوله تعالى:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) ليس مطلق دعوة الغير بل الدعوة الخاصة المحدودة المرادفة للعبادة، ويدل عليه قوله سبحانه في نفس هذه الآية( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ ) .

وعلى ذلك فيكون المراد من النهي عن دعوة الغير هو الدعوة الخاصة المقترنة بالاعتقاد بكون المدعو ذا اختيار تام في التصرف في الكون وفي شأن من شؤونه سبحانه.

فإذا كان طلب الشفاعة مقترناً بهذه العقيدة يعد عبادة للمشفوع إليه. وإلاّ فيكون طلب الحاجة كسائر الطلبات من غيره سبحانه الذي لا يشك ذو مسكة في عدم كونها عبادة.

وثانياً: أنّ المنهي عنه هو دعوة الغير بجعله في رتبته سبحانه كما يفصح عنه قوله:( مَعَ اللهِ ) وعلى ذلك فالمنهي هو دعوة الغير، وجعله مع الله، لا ما إذا دعا الغير معتقداً بأنّه عبد من عباده لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا بعثاً ولا نشوراً إلّا بما يملكه من الله سبحانه ويتفضّل عليه بإذنه ويقدر عليه بمشيئته، فعند ذاك فالطلب منه بهذا الوصف يرجع إلى الله سبحانه، وبذلك يظهر أنّ ما تدل عليه الآيات القرآنية من أنّ طلب الحاجة من الأصنام كان شركاً في العبادة، فلأجل انّ المدعو عند الداعي كان إلهاً أو رباً مستقلاً في شأن من شؤون وجوده أو فعله قال سبحانه:( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) (١) وقال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ

__________________

(١) الأعراف: ١٩٧.

٢٩٠

عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (١) . ترى أنّه سبحانه يستنكر دعاءهم بقوله:( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) وقوله:( عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) مذكّر بأنّ عقيدتهم في حق هؤلاء عقيدة كاذبة وباطلة، فإنّ الأصنام لا تستطيع نصر أحد، وهذا يكشف عن أنّ الداعين كانوا من جانب النقيض من تلك العقيدة، وكانوا يعتقدون بتملّك الأصنام لنصرهم وقضاء حوائجهم من عند أنفسهم.

وثالثاً: أنّ الدعاء ليس مرادفاً للعبادة وما ورد في الآية والحديث من تفسير الدعاء بالعبادة في ذيلهما لا يدل على ما يرتئيه المستدل، فإنّ المراد من الدعاء فيهما قسم خاص منه، وهو الدعاء المقترن باعتقاد الإلوهية في المدعو والربوبية في المطلوب منه كما عرفت.

٤. الشفاعة حق مختص بالله سبحانه لا يملكه غيره وعلى ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح، قال سبحانه:( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ *قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (٢) .

والجواب: انّ المراد من قوله سبحانه:( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) ليس انّه سبحانه هو الشفيع دون غيره، إذ من الواضح انّه سبحانه لا يشفع عند غيره، بل المراد انّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه وانّه لا يشفع أحد في حق أحد إلّا بإذنه للشفيع وارتضائه للمشفوع له، ولكن هذا المقام ثابت لله سبحانه بالأصالة والاستقلال ولغيره بالاكتساب والإجازة، قال سبحانه:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٣) فالآية صريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة ولكن تمليكاً منه سبحانه وفي طول ملكه. وعلى ذلك

__________________

(١) الأعراف: ١٩٤.

(٢) الزمر: ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) الزخرف: ٨٦.

٢٩١

فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الأولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق وملكوا الشفاعة، وأُجيزوا في أمرها في حق من ارتضاهم لها.

هذا وكما أنّ الشفاعة التشريعية مختصة بالله سبحانه وانّه المالك لها بالأصالة وانّما يملكها الغير بإذن منه، هكذا الشفاعة في عالم التكوين وعالم العلل والمعاليل والأسباب والمسببات، قال سبحانه:( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (١) والمراد من الشفيع في الآية هو الشفيع في عالم التكوين بقرينة انّ البحث يدور حول خلق السماوات والأرض ثم الاستواء على العرش ويعود معنى الآية إلى أنّ الأسباب والمسببات الخارجية إذا كان بعضها شفيعاً لبعض في تتميم الأثر ( كالسحاب والمطر والشمس والقمر وغيرها شفعاء للنبات ) فموجد الأسباب وأجزائها هو الشفيع بالحقيقة التي يتم نقصها ويقيم صلبها فانّه سبحانه هو الشفيع بالحقيقة لا شفيع غيره(٢) .

وإن شئت قلت: إنّ الآية بصدد نقد عقيدة المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ الأصنام والأوثان تملك الشفاعة، فأراد سبحانه أن يوقظ شعورهم بأنّ مالكية الأصنام لها فرع كونها ذا عقل وشعور حتى يمكن أن تستفيد من هذا الحق في شأن الشفعاء، وتلك الآلهة لا تعقل ولا تشعر شيئاً، كما يدل عليه قوله سبحانه:( قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ *قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) .

٥. طلب الشفاعة من الميت أمر باطل، ولعل هذا آخر سهم في كنانتهم فجعلوا طلب الشفاعة من أوليائه الصالحين أمراً لغواً، لأنّهم أموات غير أحياء لا يسمعون ولا يعقلون.

__________________

(١) السجدة: ٤.

(٢) الميزان: ١٦ / ٢٥٨.

٢٩٢

والاستدلال باطل من وجوه :

أمّا أوّلاً: فلأنّ البراهين الفلسفية قد أثبتت تجرد النفس الإنسانية وبقاءها بعد مفارقة الروح البدن، وقد أثبت الفلاسفة ذلك بأدلة كثيرة لا مجال لذكرها في هذه الصفحات، وقد جئنا ببعضها في ما حرّرناه حول الروح في رسالة خاصة، ولعلّنا نقوم ببيانها عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.

وثانياً: أنّ الآيات صريحة في أنّ المقتولين في سبيل الله أحياء يرزقون قال سبحانه:( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ إلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) وهل يجد الوهابي مبرراً لتأويل الآية مع هذه الصراحة التي لا تتصور فوقها صراحة حيث أخبرت الآية عن حياتهم ورزقهم عند ربّهم وما يحل بهم من الأفراح وما يقدمون عليه من الاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم، وما يتفوّهون به في حقهم بقولهم كما يحكيه سبحانه:( إلّاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

وعلى ذلك فلو كان الشفيع أحد الشهداء في سبيل الله تعالى، فهل يكون هذا الطلب لغواً ؟!

وثالثاً: أنّ القرآن يعد النبي شهيداً على الأمم جمعاء، ويقول سبحانه:( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلاءِ شَهِيداً ) (٢) فالآية تصرّح بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم، فإذا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهداً على الأمم جمعاء أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون

__________________

(١) آل عمران: ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٢) النساء: ٤١.

٢٩٣

الحياة، أو بدون الاطّلاع على ما تجري بينهم من الأمور من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان ؟!

ولا يصح لك أن تفسّر شهادة النبي بشهادته على معاصريه ومن زامنوه، وذلك لأنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشراً ونذيراً، وهل يتصوّر أحد أن يختص الوصفان الأخيران بمن كان يعاصره النبي ؟! كلا لا، فإذن لا وجه لتخصيص كونه شاهداً بالأمّة المعاصرة للنبي.

فعند ذلك يكون طلب الشفاعة من النبي الأكرم الذي هو حي بنص القرآن أمراً صحيحاً معقولاً، وأنت إذا لاحظت الآيات القرآنية تقف على أنّها تصرح بامتداد حياة الإنسان إلى ما بعد موته، يقول سبحانه في حق الكافرين:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (١) . فهذه الآية تصرح بامتداد الحياة الإنسانية إلى عالم البرزخ، وانّ هذا وعاء للإنسان يعذّب فيها من يعذّب وينعّم فيها من ينعّم، أما التنعّم فقد عرفت التصريح به في الآية الواردة في حق الشهداء، وأمّا العقوبة فيقول سبحانه:( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ) (٢) .

وهناك آيات أُخر تدل على امتداد الحياة إلى ما بعد الموت نرجئ نقلها إلى مكانها الخاص بل هناك آيات تدل بصراحة على ارتباطهم بنا، وارتباط بعضنا من ذوي النفوس القوية بهم.

وأمّا الأحاديث الواردة في هذا المورد فحدث عنها ولا حرج، وقد روى المحدّثون قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من أحد يسلّم عليّ إلّا رد الله روحي حتى أرد عليه

__________________

(١) المؤمنون: ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) غافر: ٤٦.

٢٩٤

السلام »(١) . كما نقلوا قوله: « إنّ لله ملائكة سياحين في الأرض يبلّغوني من أُمّتي السلام »(٢) .

وفي الختام نرى أنّه سبحانه يسلم على أنبيائه في آيات كثيرة، ويقول:( سَلامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي العَالَمِينَ ) ( سَلامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ) ( سَلامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ) ( سَلامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ) و( سَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ ) (٣) .

كما يأمرنا بالتسليم على نبيه والصلوات عليه ويقول بصريح القول:( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٤) ، فلو كان الأنبياء والأولياء أمواتاً غير شاعرين بهذه التسليمات والصلوات، فأي فائدة في التسليم عليهم، وفي أمر المؤمنين بالصلوات والسلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ والمسلمون أجمع يسلمون على النبي في صلواتهم بلفظ الخطاب، ويقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وحمل ذلك على الشعار الأجوف والتحية الجوفاء، أمر لا يجترئ عليه من له إلمام بالقرآن والحديث.

٦. انّ القرآن يصرح بوضوح انّ الموتى لا يسمعون ولا يبصرون قال سبحانه:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (٥) فالآية تعرّف المشركين بأنّهم أموات ويشبههم بها، ومن المعلوم أنّ صحة التشبيه تتوقف على وجود وجه الشبه في المشبه به بوجه أقوى وليس وجه الشبه إلّا أنّهم لا يسمعون، فعند ذلك تصبح النتيجة: انّ الأموات مطلقاً غير قابلين للإفهام ويدل

__________________

(١) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: ٤ / ١٣٤٩، نقله عن أئمّة الحديث مثل أبي داود والبيهقي قال: وقد صدر به البيهقي باب زيارة قبر النبي.

(٢) المصدر السابق: ١٣٥٠ نقلاً عن النسائي وغيره.

(٣) الصافات: ٧٩، ١٠٩، ١٢٠، ١٣٠، ١٨١.

(٤) الأحزاب: ٥٦.

(٥) النمل: ٨٠.

٢٩٥

على ذلك أيضاً قوله سبحانه:( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي القُبُورِ ) (١) ، والاستدلال بالآيتين على نسق واحد.

والجواب أوّلاً: أنّ الآية تنفي السماع والإفهام عن الأموات المدفونين في القبور، فإنّهم أصبحوا بعد الموت كالجماد لا يفهمون ولا يسمعون، وهذا غير القول بأنّ الأرواح المفارقة عن هذه الأبدان غير قابلة للإفهام ولا للإسماع والآيتان دالتان على عدم إمكان إسماع الأموات والمدفونين في القبور، ولا تدلان على عدم إمكان تفهيم الأرواح المفارقة عن الأبدان، العائشة في البرزخ عند ربهم كما دلت عليه الآيات السابقة.

ومن المعلوم أنّ خطاب الزائر النبي بقوله: يا محمد اشفع لنا عند الله، لا يشير إلى جسده المطهر، بل إلى روحه الزكية الحية العائشة عند ربّها، إلى غير ذلك من الصفات التي يضفيها عليه القرآن الكريم وعلى سائر الشهداء.

والشاهد على ذلك انّا نرى: انّ المسلمين مع وقوفهم على هذه الآيات وتلاوتهم لها كانوا يتوجهون إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته حيث روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف انّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان، في حاجة له، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له ابن حنيف: ائت الميضاة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: أللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربك أن تقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاءه البواب حتى أخذ بيده، فأُدخل على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك ؟ فذكر حاجته وقضى له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من

__________________

(١) فاطر: ٢٢.

٢٩٦

عنده، فلقي ابن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمته فيّ، فقال ابن حنيف: والله ما كلّمته، ولكن شهدت رسول الله، وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن شئت دعوت أو تصبر »، فقال: يا رسول الله، انّه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي: « ائت الميضاة، فتوضأ، ثمّ صلّ ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات »، قال ابن حنيف: فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل، كأنّه لم يكن به ضر(١) .

وثانياً: أنّ الاستدلال بالآيتين على ما يرتئيه المستدل غفلة عمّا تهدف إليه الآيتان، فإنّ الآيتين في مقام بيان أمر آخر، وهو انّ المراد من الإسماع هنا هو الهداية، وهي تتصور على قسمين: هداية مستقلة، وهداية معتمدة على إذنه سبحانه، والآيتان بصدد بيان انّ النبي غير قادر على القسم الأوّل من الهدايتين، بل هي من خصائصه سبحانه وإنّما المقدور له هو الهداية المعتمدة على إذنه تعالى، ويدل على ذلك نفس الآية الواردة في سورة فاطر حيث يقول:( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَىٰ وَالبَصِيرُ *وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ *وَلَا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ *وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ *إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ ) (٢) .

والمستدل أخذ بالجملة الوسطى، أعني قوله:( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ) وغفل أو تغافل عن الجملتين الحافّتين بها، فإنّك إذا لاحظت قوله:( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ) تقف على أنّ المراد من قوله:( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ) هو نفي الإسماع أو الهداية المستقلة من دون مشيئته سبحانه، فكأنّه يقول: لست أيّها النبي بقادر على الهداية بل الهادي هو الله سبحانه، ولأجل ذلك

__________________

(١) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: ٤ / ١٣٧٣، ورواه البيهقي من طريقين.

(٢) فاطر: ١٩ ـ ٢٣.

٢٩٧

يعود فيصف النبي في الجملة الأخيرة بأنّه « ليس إلّا نذير » لا المتصرف في عالم الوجود مستقلاً ومعتمداً على إرادته.

والحاصل: انّ كون الآية بصدد بيان أنّ النبي ليس بقادر على إسماع الموتى وهدايتهم، شيء، وكونها بصدد أنّ النبي لا يقدر على الهداية والإسماع مستقلاً ومعتمداً على إرادة نفسه، شيء آخر، والآية بصدد الأمر الثاني لا الأوّل، والذي يفيد المستدل هو الأوّل، ويدل على ذلك قوله سبحانه:( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (١) وقال سبحانه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٢) وقال سبحانه:( وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (٣) فهذه الآيات قرينة على أنّ الغاية التي تهدف إليها تلك الآية هو سلب استقلال النبي بأمر الهداية وإسماعهم وان كان يقدر على ذلك بإذنه، بقرينة قوله سبحانه:( إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (٤) ، وقال سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (٥) بل يصفه سبحانه بقوله:( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٦) وبذلك تحصل انّ استدلال المستدل غفلة عن هدف الآية.

وإن شئت قلت: إنّ الظاهر من الآيات انّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان حريصاً على هداية الناس وكان راغباً في إسعادهم كما يحكي عنه قوله تعالى:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٧) ، وقال تعالى:( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ

__________________

(١) البقرة: ٢٧٢.

(٢) القصص: ٥٦.

(٣) الأحزاب: ٤.

(٤) النمل: ٨١، والروم: ٥٣.

(٥) السجدة: ٢٤.

(٦) الشورى: ٥٢.

(٧) القصص: ٥٦.

٢٩٨

وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (١) وقال سبحانه:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ) (٢) وقال سبحانه:( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (٣) ، كل هذه الآيات تشهد على إصرار النبي وعلاقته بهداية أُمّته، وعلى ذلك فيكون المراد من الآيات الناظرة إلى ما يطلبه النبي في أمر الأمّة، هو نفي كون النبي قائماً بذلك الأمر على وجه الاستقلال، وعلى نحو الإطلاق، سواء أشاء الله أم لم يشأ، بل انّما تنفذ إرادته وعلاقته بهدايتهم إذا وقعت في إطار إرادته سبحانه ومشيئته من غير فرق في ذلك بين الموتى والأحياء، بإسماع الموتى وهداية الأحياء.

وبذلك يظهر ما تهدف إليه آية سورة النمل، فإنّ المقصود من قوله:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (٤) هو انّك لا تقوم بإسماع الميت الواقعي، أو ميت الأحياء كالمشركين والمنافقين مستقلاً، وإنّما المقدور لك هو ما تعلّقت مشيئته سبحانه بهدايتهم، ولأجل ذلك يقول:( وَمَا أَنتَ بِهَادِي العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (٥) .

وقد وقفت في هذا الفصل الذي أفردناه عن الفصول السابقة على الإشكالات التي نسجتها الأوهام حول الشفاعة وعرفت ضآلتها بوجه واضح، وفي ختام هذا الفصل نعطف نظر القارئ الكريم إلى نكتة، وهي انّ الشفاعة وما يرجع إليها من الأبحاث من الأمور المسلّمة بين المسلمين، ولو كان هناك خلاف فإنّما هو في أثر الشفاعة، وإنّه هل هو رفع العقاب أو ترفيع الدرجة كما أنّه لو كان

__________________

(١) يوسف: ١٠٣.

(٢) آل عمران: ١٢٨.

(٣) الشعراء: ٣.

(٤) النمل: ٨٠.

(٥) النمل: ٨١.

٢٩٩

هناك خلاف آخر فإنّما هو في الإشكال العاشر، فإنّ الوهابيين يمنعون طلب الشفاعة ممن أُعطي الشفاعة، والناظر في أبحاثهم وكلماتهم وتحليلاتهم يقف على أنّهم أعداء الإنسان الكامل، ولأجل ذلك يصرفون هممهم للحط من شخصيته، ومكانته، ويتصورون أنّ التوحيد لا يتم إلّا بتنقيصهم، وكأنّ التوحيد لا يتم إلّا بحط مكانتهم أو شخصيتهم ومنازلهم المعنوية.

بقي هنا بحثان يتم بهما بحث الشفاعة :

الأوّل: الشفاعة في الأدب العربي.

الثاني: الشفاعة في الأحاديث الإسلامية.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545