الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)12%

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 493

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72143 / تحميل: 6063
الحجم الحجم الحجم
الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

عن ثبوته عليه.

ثم إنه يحتمل أن تكون الرواية مخصوصة بإثبات عهدة العين إلى غاية الاداء من دون تعرض لحكم صورة التلف، وثمرة إثبات العهدة لزوم أدائها.

فإن قلت: إنه لا معنى حينئذ لجعل الاداء غاية لوجوب الاداء، لانه من توضيح الواضح، لثبوت كل شئ إلى أن يرتفع، وثبوت كل حكم إلى أن يمتثل.

قلت: القضية غير مسوقة بمدلولها المطابقي لوجوب الاداء حتى تكون الغاية ثابتة له، بل إنما مدلولها المطابقي هو: الحكم بثبوت العين في العهدة، وسيقت الغاية غاية لهذا الثبوت، ولايخفى أن ارتفاع ثبوت العين فيها بالاداء، ليس من الواضحات ولا مما حكم به العقل، إذ من الممكن ثبوتها فيها على وجه الدوام غير ممتد إلى غاية، إلا أنه حكم الشرع الشريف بارتفاعه عند الاداء.

ولازم هذا الوجه ; أنه لوتلفت العين ; فالعهدة باقية إلى يوم القيامة ولا تسقط بشئ لانحصار الغاية المجعولة في الاداء وإن قلنا بلزوم أداء المثل والقيمة لو قام عليه دليل، إذ الرواية حينئذ ساكتة عن حكم صورة التلف.

لكن الانصاف: أن اللوازم المذكورة مما لا يلتزم به الفقيه، لوضوح إمكان تفريغ العهدة عند الفقهاء، وأنه لامستند لهم في تضمين المثل والقيمة في كثير من الموارد إلا الحديث المذكور بل ترى منهم أنهم استفادوا منه خصوص صورة التلف، فتدبر.

ويحتمل أن تكون مخصوص العين بمرتبتها الشخصية، بل تعمها بجميع مراتبها، الاقرب فالاقرب، والامثل فالامثل، فتكون الرواية بمدلولها المطابقي دالة على ثبوت المراتب في العهدة، وهذا هو المناسب لكلمات الاصحاب، والاعتماد

٢١

عليها لحكم صورة التلف في أغلب الابواب ولباب التضمين ; ويشهد له أن العرف لايعدون مالية المال أمرا مباينا عنه، بل النظر الاصلي في مهم الاموال على ماليتها، وإن كانت لشخصيتها أيضا مدخلية في أغراضهم الخاصة، فيكون توضيح معناها ; ان العين بجميع مراتبها ثابتة في العهدة حتى يؤديها إلى ربها، فإذا أداها إليه فرغت العهدة بمقداره، فإن كان المؤدى عينا حصل الفراغ التام، وإن كان المثل أو القيمة فقد فرغت عن المالية وبقيت مشغولة لشخصية المال، لانها أيضا كانت مثبوتة فيه ولها دخل في الاغراض.

ثم إن الفراغ عن المالية أيضا يختلف بحسب أداء الفرد من النوع أو الجنس أو المساوي في القيمة ; وعليه فلا حاجة في الحكم بوجوب أداء المثل والقيمة، بل ولا في تقديم المثل على القيمة: إلى التماس دليل من خارج، وهذا هو فارق بين هذا الوجه والوجه السابق.

فإن قلت: فعلى هذا صح أداء المثل والقيمة بحكم الرواية مع وجود العين ويحصل معه الخروج عن عهدة المالية ولاينبغي أن يتفوه به أحد.

قلت: ليس ثبوت مراتب العين على نحو واحد، بل ولا عن سبب واحد، بل المقصود أن المفهوم من الرواية ; كون العين بواسطة الاخذ بإذنه بجميع مراتبها في العهدة على نحو التعدد المطلوبي.

فنفس الاخذ سبب لثبوت العين ويترتب عليه وجوب أدائها، وهو مع التلف سبب لثبوت المثل فيها، وهما مع تعذر أداء المثل سبب لثبوت القيمة فيها.

إلا أن الانصاف، أن الالتزام بتعدد السبب مشكل، إذ الرواية غير متعرضة إلا لاثبات ماتسبب عن الاخذ دون ما تسبب عنه شئ آخر.

٢٢

فالوجه أن يقال: إن السبب واحد وهو نفس الاخذ، وإنما يتسبب عنه أمور مترتبة في الوجود، نظير الملكية الحاصلة لمراتب الموقوف عليهم على الترتيب بالجعل الاولي من المالك، بل وأمر المقام أوجه منها ; لان المراتب حاصلة بنفس الحصول الاولي على نحو من الحصول.

غاية الامر أن اختصاص الاداء إنما يحصل بعد تعذر المراتب الفوقانية وهذا كله واضح للمتدبر العارف بوجوه المعاني أو صروف الكلام.

فإن قلت: إن التي تشتمل عليها العين من الحصة أو المالية فهي مقيدة بها متعذر أداؤها بتعذر أدائها، وأما الحصة الاخرى والمالية المطلقة الموجودة في فرد آخر، فثبوتها ووجوب أدائها يحتاج إلى دليل آخر لمغايرتها لما هي الثابتة بثبوت العين.

قلت: لو سلمنا المغايرة عند التدقيق العقلي، فلا يخفى عدمها عند العرف كما عرفت، ومن أن نظرهم الاصلي إلى المالية المطلقة، لاخصوص ماهي القائمة منها بالعين، والرواية مسوقة لاثبات العين مع مراتبها المحكومة في العرف أنها من مراتبها في العهدة، هذا كله.ولكن الانصاف أن هذا الوجه أيضا لا يخلو عن تعسف.

ويحتمل أن تكون مخصوصة بحسب الدلالة المطابقية بعهدة العين، ودلت على وجوب أداء المثل والقيمة بالالتزام العرفي، إذ عهدة الشئ يلازم عندهم لوجوب أداء العين مع بقائه، والمثل عند تلفه.فالغاية إنما سيقت لعهدة العين فقط.

لايقال: لو عمت العهدة صورة التلف فلا يعقل أن يكون الاداء غاية لها، إذ

٢٣

يعتبر فيها إمكان حصولها ويمتنع الاداء مع التلف: لانا نقول: الغاية إنما تصح في مابقي فيه الموضوع، وأما مع ارتفاعه فلاتختص بدلالة الاقتضاء بصورة بقاء العين.ثم مع أن فرض التلف قد عرفت أنه ليس في حقيقة العهدة، بل إنما هو من لوازم العهدة.هذا، ولكن يرد على هذا الوجه لو سلمنا الملازمة العرفية أن مقتضاه ثبوت وجوب أداء المثل والقيمة من دليل خارج، وهذا خلاف ماعليه طريقة الاصحاب من الاعتماد بالحديث لوجوب أداء المثل والقيمة.

إلا أن يقال: إنه بعد ماثبت أن الحكم من لوازم الموضوع عرفا، فإثبات الموضوع جعلا أو إمضاء إثبات لحكمه كذلك، فتدبر.هذا كله في الوجوه المحتملة وقد عرفت أن خيرها أخيرها ثم أوسطها.ثم إنه ينبغي التنبيه على أمور راجعة إلى حال الاخذ والآخذ والمأخوذ، وأما المأخوذ منه فلا تتفاوت فيه الحالات والصفات إلا من جهة الاسلام والكفر، فإن المعتبر فيه أن يكون مسلما أو من بحكمه من أولى الذمة، وأما مال الحربي بشروطه فهو مما ينتقل إلى صاحب اليد بالاخذ على الوجه المقرر في محله.أما ما يرجع إلى الاخذ فأمور.

الاول: قد يتوهم اختصاص الاخذ بالعدوان والقهر بحسب الاستعمالات العرفية كما يدعى ظهوره فيه بالتتبع في مواردها وعليه ; فيختص مورد التضمين بالغصب وهو فاسد لعموم الوضع وعدم حصول النقل العرفي ولا الانصراف المعتدبه.

٢٤

نعم في بعض المقامات لخصوصية المقام يستفاد العدوان والقهر، وعليه ; فتكون قاعدة اليد أعم من الغصب، بل وهو كذلك قطعا لان مدار رحى(١) باب الضمانات يدور غالبا عليها فيدخل المقبوض بالسوم(٢) والمقبوض بالعقود الفاسدة مجانية كانت أو معوضة، بل وجميع الايدي المأذونة بالاذن الشرعي، بل والمالكي في وجه كما سيجئ إن شاء الله.

ومنه يد الغاصب بعد إذن المالك وغيرها، وهذا واضح للمتدبر والمتتبع في باب الضمانات.

الثاني: قد عرفت عدم اعتبار عنوان القهر على المالك، وهل يعتبر القصد أم لا؟ فنقول: أما القصد إلى عنوان أنه مال الغير فغير معتبر قطعا، لصدق أخذ مال الغير بدونه، وعدم مدخلية القصد والعلم في الحكم الوضعي، فيعم الاخذ السهوي والنسياني والخطائي.

نعم قد يقال: يعتبر القصد إلى عنوان الاخذ، فلو لم يكن قاصدا عنوانه لم يحكم بالعهدة لظهور إرشاد العقل في كونه مقصودا، بل وكونه اختياريا، فلو كان على وجه الاضطرار لم يؤثر، وضعفه واضح لمنع اعتبار القصد والاختيار في نسبة العقل، نعم لو كان الاضطرار بحيث لا يصدق الاستيلاء العرفي أمكن منع التضمين - كما سيأتي إن شاء الله من أن المفهوم هو الاستيلاء العرفي، وعلى هذا فيشمل القاعدة بحكم عموم الخبر فلاخذ المجنون والصغير والمضطر ما لم يبلغ إلى ذلك الحد المشار إليه، بل وربما يمكن دعوى شمولها لمثل يد النائم ولكن لم أجد في كتب الاصحاب في مسألة ضمان النائم من حيث التلف السماوي تصريحا بل

___________________

١ - " الرحى " بفتح الراء والالف المقصورة، الدائرة التي تطحن الحب.

٢ - سام - سوما وسواما - السلعة: عرضها وذكر ثمنها.

٢٥

ولا تلويحا إلا من بعض الطبقة الثالثة(١) في مطاوي كلمات عناوينه، حيث يستفاد منه القبول ; ومن الشيخ في بعض أبواب جواهره حيث يستشم منه المنع.وربما يقرب القبول بعد ما عرفت من عدم اعتبار القصد والاختيار في صدق الاخذ، أن الظاهر عدم الريب عندهم في ضمان ما أتلفه النائم، وليس المدرك فيه إلا عموم قوله: من أتلف، فإذا صدق الاتلاف منه فليصدق الاخذ، هذا مع أنه يمكن دعوى القصد منه ولو من وجه فتدبر، والمسألة محل إشكال.

الثالث: وهل تختص الرواية بالاخذ الحدوثي أو تعمه والاستمراري، فلو كان على غير وجه الضمان من أول الامر، كما لو كان مالا لذي اليد، ثم إنه انتقل بالاسباب القهرية كحلول الحول في الزكاة، أو الاختيارية، أو كان مال الغير ولم يكن مضمونا بأن يكون وديعة أو غيرها ; فيحكم بالعهدة وجهان.والذي يقتضيه النظر هو الاخير.

وتوضيح ذلك ; أنه لا ريب أن الاخذ بخصوص الجارحة المخصوصة وهي اليد ليس له خصوصية، بل نقطع بعدم اعتباره، بل وكذلك الاخذ بمطلق الجوارح، فلابد من الخروج عن الظاهر البدوي ; إما بالتزام أو مجاز مرسل، وحينئذ فقد يتوهم أنه كناية عن الاستيلاء المطلق وهو ضعيف، لانه مع عدم كونه أقرب إلى المعنى الحقيقي ; مستلزم لان يكون كل على التصرف ضامنا كالسلطان القادر على التصرف في ما بأيدي رعاياه، وكالقوي القادر على ما في أيدي الضعفاء وهو بديهي البطلان، مخالف للاجماع بل الضرورة، بل التحقيق أنه كناية عن التسلط الفعلي الصادق عليه الاخذ عرفا، وهو يختلف باختلاف المقامات، فقد يحتاج إلى

___________________

١ - المراد هو متأخري المتأخرين.

٢٦

التقليب والتحريك وقد لايحتاج إليه نظير القبض المختلف في المنقولات وغيرها، وهذا ليس اختلافا في معنى الاخذ والقبض، بل لهما حقيقتان وجدانيتان، وإنما الاختلاف بحسب خصوصيات المقام، فالمال المطروح في صندوقه الذي بيده مفتاحه ; مقبوض ومأخوذ بلا تحريك، بل ولا قصد مثل المطروح في جيبه، وأما المطروح في الصحراء مثلا فيحتاج في صدق الاخذ عليه غالبا إلى نحو من التقليب والتحريك، ولا يكفي فيه القصد فضلا عن عدمهما، وقد يكفي ف يه القصد ولا يحتاج إلى تحريك وتقليب، فالاوجه إحالة المصاديق إلى العرف، فإن ضبطها على الوجه الكلي متعسر بل متعذر.والميزان هو ما عرفت من صدق الاستيلاء الفعلي.

إذا عرفت هذا، فنقول: قد يتوهم ظهور الاخذ في الحدوثي من جهة أن الماضي بهيئته ظاهر فيه، وهو ممنوع، ولو سلمناه فهو ظهور بدوي لا اعتداد به بعد ما يستفاد من الحديث ومن سائي الاخبار المتفرقة في الابواب ; في أن المناط في التضمين هو الاستيلاء على مال الغير.

والانصاف ; أن هذا الظهور كظهور كون الاخذ على وجه العدوان لو سلمناه في بعض المقامات، فإنما هو لخصوصيات فيها.فالمرجع في المقام هو العموم يعني الحكم بتضمين مطلق الاخذ، عدوانيا كان أو غيره، حدوثيا أو استمراريا بمقتضى الظهور الوضعي بعد منع الانصراف، نعم قد يقال: إن في الاستيلاء الاستمراري يعتبر القصد إلى الاستمرار لعدم صدق الاخذ مع عدمه، إذ يعتبر فيه بحسب تفاهم العرف جهة اتصال إلى المالك وفيه تأمل، لاختلاف الاستمرار بحسب المقامات، فما كان في حدوثه لايحتاج إلى القصد كالمقبوض

٢٧

باليد ; لايحتاج إليه في الاستمرار، إذ الاخذ أمر مستمر على الفرض، وإنما المعتبر هو عنوان كونه ماله أو مال الغير وهو غير محتاج إلى القصد حاصل في نفسه، وأما انتساب الاخذ إليه كما هو ظاهر الخبر فهو أيضا حاصل بدون القصد، وإن قلنا بأن نسبة الفعل ظاهر في الاختيار، إذ الاستمرار تابع للحدوث فتأمل.والحاصل أن حال الاخذ في الحدوث والاستمرار واحد، وإن اختلف بحسب موارد صدقه.ثم إن ما ذكرناه من شمول اليد للاستمرار والحدوث مما اتفقت عليه كلمة الاصحاب في مطاوي الابواب، فإن بناء‌هم في أبواب الامانات كلية على أن الامين إذا تعدى أو فرط يضمن وإن لم يكن التلف مستندا إلى فعله، بل إلى الآفة السماوية، بل ويضمنون الودعي بمجرد قصد الخيانة لزوال أمانته به.

إلا أن يقال: إن الاخذ كما سيأتي يقتضي الضمان حتى في الامناء، وإنما خرجت بالدليل، فإذا زال المانع وهو الامانة فلا مانع من تأثير الاخذ الاولي، وهذا بخلاف ما إذا كان المال أولا مال الآخذ به فإن أخذ مال الغير يقتضي الضمان لامال نفسه، وفيه مع ما يجئ من منع الاقتضاء على وجه العموم أولا، وعدم معنى لتأثير الاخذ الاولي ثانيا كما لايخفى، إن حكمهم بضمان قيمة يوم الخيانة أو يوم التلف ينافي أن يكون المؤثر هو الاخذ الحدوثي فتدبر، ومن هنا يمكن تطبيق حكمهم بأن تلف المبيع، بل وكل مقبوض قبل القبض من مال بائعه على القاعدة من وجه، وإن كان ينافيه التضمين بخصوص الثمن فتأمل.هذا في حال الاخذ، وأما ما رجع إلى الآخذ فأمور:

الاول: لا إشكال في شمول الخبر لاخذ من لم يكن مأذونا من المالك، ولم يقع الاخذ برضاه، وإنما الكلام والاشكال في مقامين:

الاول: أنه هل يعم المأذون أيضا

٢٨

فيكون خروج ماخرج من الايدي المأذونة من باب التخصيص أو لايعمه؟ والثاني: أن الخارج تخصيصا أو تخصصا مطلق اليد المأذونة، بل وما كانت برضا المالك كالاخذ بشاهد الحال ونحوه أو خصوص الامين.

أما المقام الاول ; فمقتضى ظاهر قالب ألفاظ الخبر في نفسه كما عرفت هو الشمول لجميع الايادي.

لكن يمكن أن يقال: إنه لا يشمل مثل يد الامين، وتوضيح ذلك يحتاج إلى بسط في الكلام فنقول: قد يدعى أن أيدي الامناء منزلة منزلة يد المالك، فإن حقيقة الاستيمان استنابة عن المالك ومعه فخروج الامناء يساوق خروج المالك في أنه خروج موضوعي، إلا أن الدعوى المذكورة لاشاهد لها الفقد الدليل العام الدال على التنزيل وما ثبت من الاستنابة، فإنما هي في خصوص الحفظ وما عنه من التقليب والتحريك، مع أنها لو سلمناها فإنما هي مختصة بمثل يد الوكيل والودعي، وأما سائر الامناء كالمستأجر والمستعير وغيرهما فدعوى الاستنابة فيها ساقطة جدا، والحاصل أن في اغلب الموارد ليست حقيقة الاستيمان استنابة، ولم يدل دليل شرعي أو عقلي من خارج أيضا على التنزيل.

فالاوجه، أن يقال: إن إطلاق الرواية منصرف إلى غير الامين.

والسر فيه أن أسباب الانصراف كثيرة ومن جملتها المناسبات الحكمية، فإن مناط الحكم وإن كان ظنيا ; قد يوجب الانصراف كما عليه بنائهم في كثير من الموارد ومنها: اعتبار الملاقات، ونجاسة الماء القليل مع إطلاق مفهوم قولهعليه‌السلام " إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ "(١) وعلى هذا فيمكن دعوى أن المناط في تضمين الآخذ لمال

___________________

١ - الوسائل: ج ١، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق، الحديث: ١ وغيره.

٢٩

الغير، ولو بالتلف السماوي، إما مراعاة عدم وقوع الضرر على المالكين من جهة أنه لو انحصر المضمن في الاتلاف والتعدي لكان طريق إثبات الاتلاف والتعدي مسدودا غالبا، لصعوبة إثباتهما، وإما من جهة مال المسلم وأن وقوع اليد عليه يوجب الغرامة صيانة لماله وكلا الوجهين لا يأتيان في أيدى الامناء إذ بعد تسليط المالك الغير على ماله على وجه الاطمينان به كما هو مفاد الاستيمان لا وجه للملاحظتين لانه المسلط غيره على ماله.

وإن شئت توضيح ذلك بوجه أمتن، فنقول: إذا فرض تسليط المالك غيره على ماله على عنوان الاطمينان به كما عليه بناء العقود الاستيمانية فإن القبض فيها على هذا العنوان وإن كان للتغير محل لايثق به المالك فالاطمينان المذكور وإن كان لايقتضى إلا الفراغ عن جهة التعدي والتفريط إلا أن إعطاء‌ه على هذا الوجه يلازم عرفا لرفع اليد عن نفس تلفه أي عن جهة احترام ماله من حيث التلف السماوي إذ لا معنى لرفع التعدي والتفريط بملاحظة الاطمينان مع كون التلف ولو بدونهما مضمنا إذ عليه فهو ضامن على كل تقدير، فلاثمرة في الملاحظة المذكورة، فهي إنما تنفع بعد رفع اليد عن الجهات الاخر.

وربما يشهد لهذا المعنى الاخبار الواردة في أبواب الاستيمان وتعليلاتها، مثل ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سأته عن الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلى صاحبه ضمان؟ فقال: ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا(١) فإن نفي الغرم عن المستبضع على الاطلاق وتعليله بأنه أمين إما أن يشمل التغريم مطلقا ولو من جهة التلف السماوي كما هو فرض السؤال، أو يختص بدعوى التعدى والتفريط، كما هو المناسب للتعليل فيكون

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ١ من أبواب أحكام العارية، الحديث: ٨.

٣٠

عدم الضمان من جهة التلف السماوي مفروغا عنه بين السائل والمسؤول عنهعليه‌السلام من حيث إن من المركوزات عند العقلاء أن الاستبضاع ونحوه من الاستيمانات، ليس فيها اقتضاء من جهة التلف.

ومثل قولهعليه‌السلام : ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته.(١) فإن النهي عن الاتهام لا يناسب مع كون التلف مضمنا، فدل على أن عدم الضمان بالتلف أمر لا حاجة إلى بيانه لفراغ العقلاء عنه بعد الاستيمان.

ومثل قولهعليه‌السلام : في مكاتبة القاساني بعد السوال عن رجل أمر رجلا أن يشتري له متاعا أو غير ذلك، فاشتراه فسرق أو قطع عليه الطريق من مال من ذهب المتاع من مال الآمر أو من مال المأمور؟ فكتبعليه‌السلام : من مال الآمر.(٢) فإن الظاهر منه أن الامر والتسليط ينافي التطمين.ومثل قولهعليه‌السلام -: صاحب الوديعة والعارية مؤتمن.(٣) بالتقريب المتقدم.إلى غير ذلك من الاخبار التي تشهد له بالتقريبات المتقدمة مما قدمناها.

هذا تمام ما يمكن في توجيه دعوى الانصراف في الحديث الشريف للمناسبة الحكمية، تارة بالرجوع إلى الوجدان، وأخرى باستكشافها من كلمات من علمهم الله جل جلاله الحكمة والبيان ونزل عليهم القرآن والفرقان، عليهم صلوات الله الملك المنان.

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ٤ من أبواب أحكام الوديعة، الحديث: ١٠.

٢ - المصدر نفسه: الباب ٣٠ من أبواب أحكام الاجارة، الحديث: ١٥.

٣ - المصدر نفسه: الباب ١ من أبواب احكام العارية، الحديث: ٦.

٣١

ولكن الانصاف، أن النفس بعد في تزلزل من ذلك إذ نعلم مناط اقتضاء اليد على مال الغير، أن يكون عليه تلفه حتى يدعى انتفاؤه في الامين، إذ من الممكن، أن يكون الوجه أمرا ساريا في جميع الايادي، ومجرد الستنباط مناط لم يعلم كونه مظنونا فضلا عن كونه معلوما لا يوجب صرف الاطلاق بعد احراز كونه في مقام البيان، لان الانصراف في قوة التقييد بل هو تقييد لبي لا يصار إليه إلا بعد ثبوت المقيد على الوجه المعتب ولا يكفي الاحتمال فيه.

وأما الاخبار الواردة، فممنوعة، بشهادتها على التقييد اللبي، سواء كان نفي الضمان المسبب عن التلف السماوي مدلوله التضمني أو الالتزامي، أو لعله من جهة مفروغيته من جهة الشرع، هذا ولكن مع هذا ليس دعوى الانصراف بذلك البعيد، فتدبر.

المقام الثاني: قد يتوهم أن الخارج من قاعدة اليد مطلق الايادي المأذونة، من المالك أو من قام مقامه، بل وما كان برضاه وإن لم يكشف عنه فعل، ولا لفظ كالاخذ بشاهد الحال، وربما يؤيده تعليل كثير من الاصحاب في كثير من الابواب لعدم الضمان، بأنها مأذونة، بل ربما يدعى أن الامين الذي علل به عدم الضمان في الاخبار وفي كلمات الاخيار هو مطلق المأذون إذ ليس المعتبر، الوثاقة الواقعية، بل كونه أمينا، من جهة تسليط المالك إياه على وجه الاطمينان وهذا موجود في موارد الاذن كلها، إذ العاقل لا يسلط على ماله أحدا إلا على وجه الاطمينان ببقائه، وعدم إتلافه وعليه، فالخارج من القاعدة، بمقتضى استيناس الحكم وأخبار الامين ومعاقد الاجماعات، هو المأذون من المالك المساوي في الصدق مع الامين.وأورد عليه، بانتقاض ذلك بموارد كثيرة، حكموا بالضمان، مع وجود الاذن

٣٢

كالمقبوض بالسوم والمقبوض بالعقد الفاسد والغاصب الذي أذن له المالك ومع عدم التوكيل في القبض، والطبيب والصائغ، والملاح والمكاري والاجير وغير ذلك.

أقول: ولا يخفى عدم ورود أكثر موارد النقض كالمقبوض بالعقد الفاسد الذي أذن المالك فيه على وجه الضمان وكالطبيب والصائغ وغيرهما إذ الحاكم بالضمان فيها لو قلنا به، فإنما هو للاخبار الواردة فيها ولاغرو في ثبوت المخصص في اليد المأذونة إذ ليس مما يدعى عدم قابليته للتخصيص، نعم يبقى مثل المقبوض بالسوم والغاصب المأذون لو قلنا فيها بالضمان.

فالتحقيق في المقام، بحيث يرتفع عنه غواشي الاوهام أن يقال: إن الثابت من الادلة وهي الاجماعات المحكية البالغة حدا يمكن تحصيل الاجماع منها، والاخبار المعللة المستفيضة والمتفرقة في أبواب الاستيمانات التي سنتلو عليك طائفة منها، هو خروج الامين، ولم يدل دليل على خروج المأذون بهذا العنوان إلا دعوى الانصراف للمناسبة الحكمية التي لو سلمناها فهي مقصورة على الامين.

ودعوى أن مطلق المأذون أمين مدفوعة، بوضوح الفرق بين الاستيمان والاذن، فإن الاذن ليس إلا إعلام الرضا ورفع المنع، والاستيمان تسليط الغير على المال على وجه الابانة أي المعاملة معه معاملة الامين، ومن المعلوم أن الثاني أخص من الاول إذ لم يؤخذ في الاول تسليط فضلا عن كونه على وجه الاطمينان.

توضيح ذلك، أن معنى كون العقود الاستيمانية مثل الاجارة والوكالة والرهن والمضاربة والمساقات ونحوها استيمانات، أنها بحقائقها تقتضى تسليط الغير على المال، إذ به تتحقق الانتفاعات المقصودة بالاصالة، وهذا معاملة مع

٣٣

الغير معاملة الامين، لانه سلطه على أن ينتفع ويثقه، وإلا فليس المعتبر فيها أن يكون الغير أمينا موثوقا به قطعا، وأما مطلق الاذن فهو عبارة عن رفع المنع عن التصرف، نظير الامانة الشرعية، ومن المعلوم أن هذا المقدار ليس تسلطا فضلا عن كونه على الوجه الخاص، ولا منافاة بينه وبين القسمين، وإنما المسلم، لو تنزلنا منافاته مع تسليطه.

والحاصل، أنه لاينبغي الريب في أن المالك لو صرح " بأبي لا أمنعك عن التصرف " وقد ارتفع من جانبه المنع من التصرف، فلا يقتضي ذلك لرفع اليد عما تقتضيه اليد من الضمان، عند التلف وليس هذا استيمانا حتى يتمسك بذيل أدلة الامين، نعم لو سلطه ببعثه على الاخذ، أمكن القول بالمنافاة، نظرا إلى ما عرفت من أن من لوازمه عرفا رفع اليد عما تقتضيه اليد مراعاة للمالك وأنه استيمان، وقد اطلعت على كلمات كثيرة من الاصحاب تشهد بما ادعيناه من مغايرة الاذن والاستيمان وإن كانت كثيرة منها تشهد بخلافه، حيث صرحوا في باب العارية بأن حقيقته الاذن وأنه لا يعتبر فيها لفظ خاص ولا مطلق اللفظ، قال في التذكرة: " ويكفي قرينة الاذن بالانتفاع من غير لفظ دال على الاعارة أو الاستعارة "(١) وإن كان ربما يستشكلون في مثل الفراش المبسوطة للانتفاع، إلا أنه من جهة اعتبارهم الاذن لشخص خاص، لالعدم كفاية الاذن فتسالمهم على أن العارية إذن وأنها لاضمان فيها لانها استيمان يكشف عن أن الاستيمان عندهم مساوق للاذن.

ومما يشهد لما ادعيناه ما صرح به في التذكرة أيضا في باب الوكالة " إذا تعدى

___________________

١ - التذكرة: ج ٢، كتاب العارية، ص ٢١٠.

٣٤

الوكيل أو فرط مثل أن يلبس الثوب الذي دفعه الموكل ليبيعه، ضمن إجماعا لان الوكالة تضمنت شيئين الامانة والاذن في التصرف فإذا تعدى زالت الامانة وبقي الاذن بحاله "(١) .

وهذا صريح في أن الاذن بنفسه لا يقتضي سقوط الضمان، فلابد من تأويل في ظاهر كلامه السابق من إرادة الاذن الخاص، فتأمل، وإن أبيت عن ذلك فكلماتهم تسبب التشويش ولا يصح الاعتماد عليها، ولا يحسب ما هو المتيقن منها من التسليطات الخاصة الحاصلة في العقود الاستيمانية، ولو تنزلنا فمطلق التسليط، وأما مطلق الاذن فلا دليل عليه لما عرفت من تشويش كلمات الاصحاب ومعاقد الاجماع، ولقد اطلعت على كلام شيخنا الاستاذ الاكبر في مطاوي كلامه، في قاعدة " مالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده " ينطبق على بعض ما قررناه " قال: فإن قلت: إن الفاسد وإن لم يكن له دخل في الضمان إلا أن مقتضى عموم " على اليد " هو الضمان خرج منه المقبوض بصحاح العقود التي تكون مواردها غير مضمونه وبقي الباقي، قلت: ما خرج به المقبوض بصحاح تلك العقود يخرج به المقبوض بفاسدها وهي عموم مادل " أن من لم يضمنه المالك سواء ملكه إياه بغير عوض أو سلطه على الانتفاع به، أو استأمنه عليه لحفظه أو دفعه إليه لاستيفاء حقه أو تصرفه بلا أجرة أو معها، إلى غير ذلك فهو غير ضامن " أما في غير التمليك بلا عوض، أعني: الهبة فإنه مثل المخصص لقاعدة الضمان، عموم مادل على أن من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن بل ليس لك أن تتهمه، وأما في الهبة الفاسدة، فيمكن الاستدلال على خروجها بفحوى ما ذكر - إلى أن قال -

___________________

١ - التذكرة: ج ٢، كتاب الوكالة، ص ١٢٩.

٣٥

فحاصل أدلة عدم ضمان المتأمن، أن في دفع المالك إليه ملكه على وجه لايضمنه بعوض واقعي، أعني: المثل والقيمة ولاجعلي، فليس عليه نماؤه، انتهى كلامه ".وفيه مواقع للتأمل.

فبالحري ذكر الاخبار التي عثرت عليها في الابواب المتفرقة مما يدل على عدم ضمان الامين لانه أمين، تيمنا بها ولعله يستفاد منها ما يغنينا عن هذه الكلمات بالمرة فإن كلامهم - عليهم السلام - نور للقلب وضياء للباصرة.

فمنها: ما رواه القاساني: كتبت إليه - يعني: أباالحسن - عليه السلام - - وأنا بالمدينة سنة إحدى وثلاثين ومائتين: جعلت فداك رجل أمر رجلا أن يشتري له متاعا أو غير ذلك فاشتراه فسرق منه أو قطع عليه الطريق من مال من ذهب المتاع؟ من مال الآمر أو من مال المأمور؟ فكتبتعليه‌السلام : من مال الآمر.(١) ويمكن أن يستفاد من هذا الخبر أن مطلق التسليط والبعث، موجب لصرف الضمان.

ومنها: مارواه يعقوب بن شعيب، قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن الرجل يبيع للقوم بالآجر وعليه ضمان مالهم؟ قال: إنما كره ذلك من أجل أني أخشى أن يغرموه أكثر مما يصيب عليهم فإذا طابت نفسه فلا بأس.(٢) أقول: تعلق الضمان على طيب النفس مما لا يصح إلا بأن يراد السؤال عن اشتراط الضمان فليس هذا بذلك البعيد خصوصا بعد ما عرفت وعليه فلا دخل للرواية بالمقام إلا من جهة مفروغية عدم ضمان الاجير للتلف.

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ٣٠ من أبواب أحكام الاجارة، الحديث: ١٥.

٢ - المصدر نفسه: الباب ٢٩ من أبواب أحكام الاجارة، الحديث: ١٥.

٣٦

ومنها: ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال: ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا.(١) أقول: قولهعليه‌السلام " بعد أن يكون الرجل أمينا " يحتمل أن يكون شرطا للحكم في قوة القول، بأنه ليس عليه غرم إذا كان أمينا، ويحتمل أن يكون علة للحكم في قوة القول، بأنه كذا لانه أمين أي من جهة استبضاعه الذي وضع على الاستيمان، فيدل على أن الامين لا يدخله التغريم، لكن غير بعيد ظهوره في الوجه الاول كما يشهد له جملة من الاخبار في أبواب الاستيمانات، مثل قولهعليه‌السلام : إذا كان عدلا مسلما فليس عليه ضمان.(٢) وقولهعليه‌السلام : لاغرم على مستعير عارية إذا هلكت، إذا كان مأمونا.(٣) وقولهعليه‌السلام : العامل إن كان مأمونا فليس عليه شئ وإن كان غير مأمون فهو ضامن.(٤) إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع في الابواب، ولكن يبعده، أن الظاهر نفي الضمان بحسب الواقع وهذا لا يدخل للامانة والعدالة فيه إلا إذا كان المراد الضمان من جهة التعدي والتفريط، مع أن الضمان من جهتهما أيضا تابع لواقعهما فلابد أن يراد بالنفي نفي التغريم بلا بينة من مدعيهما فيكون معنى النذي تقديم قوله في مقام الدعوى، ويؤيده، العدول في التعبير عن الضمان إلى الغرم، ولكن مع هذا لا ينفع لاستفادة كلية عدم ضمان الامين بالتلف السماوي

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ١ من أبواب أحكام العارية، الحديث ٨.

٢ - المصدر نفسه: الحديث: ٢.

٣ - المصدر نفسه: الحديث: ٣.

٤ - المصدر نفسه: الباب ٢٩ من أبواب أحكام الاجارة، الحديث ١١.

٣٧

منه إلا من جهة المفروغية التي تطابق عليها الاخبار عند الانصاف، وإلا فالاخبار المتقدمة مع شهادة ما عرفت منها في التصريح باشتراط الامانة ظاهرة في دعوى التفريط والتعدي فحمل على الكراهة، وإلا فدعوى التعدي والتفريط، مسموعة حتى على الامين العادل.

ومنها: قول الصادقعليه‌السلام في رواية الحلبي: صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان.(١) أقول: وهذا أحسن روايات الباب من جهة دلالتها على أن الايتمان أمر مفروغ عنه بحسب الحكم بحيث يغني ذكر موضوعه عن حكمه، ولكن فيها ما عرفت فيما تقدم من أنها لا تدل على أزيد من أن الامين يقدم قوله في دعوى التعدي والتفريط، فإنها ناظرة إلى المرسلة المشهورة: ليس على الامين إلا اليمين.نعم هي كسوابقها تدل على عدم الضمان بالتلف السماوي من جهة المفروغية وأنه لاوجه لنفي توجه شئ عليه إلا اليمين، مع كون تلفه مضمنا مطلقا، والحاصل، أن القدر المتيقن من آثار الامانة هي ما عرفت وهو المناسب لعنوان الامانة.

ومنها: مارواه السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليعليه‌السلام في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن فقال الراهن: هو بكذا وكذا، وقال المرتهن: هو بأكثر، قال عليعليه‌السلام : يصدق المرتهن حتى يحيط بالثمن لانه أمينه.(٢) أقول: مع ضعف سندها وإعراض الاصحاب غير الاسكافي عنها لبنائهم على تقديم قول الراهن الموافق للاصل في وجه للاخبار المدعى في محكي جامع

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ٤ من أبواب أحكام الوديعة، الحديث: ١.

٢ - المصدر نفسه: الباب ١٧ من أبواب أحكام الرهن، الحديث: ٤.

٣٨

المقاصد تواترها وموافقتها للتقية أنه لا يلائم التعليل لعدم اقتضاء الامانة لتصديق المرتهن فيما على الرهن لعدم رجوع الدعوى إلى أمر ينافي الامانة، فلذا يحتمل قويا أن يكون المراد الامانة والوثاقة لا الاستيمان العقدي، فتأمل، وعلى كل حال فلايستفاد منها ما ينفع للمقام كما لايخفى.

ومنها: قولهعليه‌السلام : وصاحب العارية والوديعة مؤتمن(١) وقد تقدم الكلام في نظيرها.

ومنها: قولهعليه‌السلام : ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته ولا تأمن الخائن.(٢) وفيها أيضا ماعرفت مرارا.

ومنها: قولهعليه‌السلام كان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يضمن القصار والصائغ احتياطا للناس كان أبي يتطول عليه إذا كان مأمونا.(٣) ومنها: الاخبار الكثيرة الواردة في باب القصار والحمال والجمال والملاح، من أنه كان مأمونا فلا يضمنه وأنه ضامن إلا أن يكون ثقة مأمونا، وفيها ما عرفت من أنها لاتنفع في المقام بوجه.

أقول: والانصاف أن الاخبار المذكورة بحسب الدلالة المطابقية غير واردة إلا في مقام دعوى التعدي والتفريط، نعم بحسب الالتزام تدل على في الضمان عن الامين بسبب التلف السماوي إذ لولاه لكان نفي الضمان على الوجه المذكور لغوا.

___________________

١ - الوسائل: ج ١٣، الباب ١ من أبواب أحكام العارية، الحديث: ٦.

٢ - المصدر نفسه: الباب ٩ من أبواب أحكام العارية، الحديث: ١.

٣ - المصدر نفسه: الباب ٢٩ من أبواب أحكام الاجارة، الحديث: ٤.

٣٩

ثم إن الظاهر منها أن المفروغية المذكورة، نظرا إلى منافاة الاستيمان مع التضمين، ليست من جهة وضوح الحكم بحسب الشرع، وإلا لكان في تلك الاخبار بكثرتها سؤالا عنه بل من جهة وضوحه عند العقلاء، على نحو ما عرفت فتكون نفس تلك الاخبار قرينة على ماتقدم من دعوى الانصراف في حديث إلى غير الامين، ومما قررناه في تضاعيف ذكر الاخبار وما بعده ظهر ما في كلام شيخنا الاستاذ الاكبر، من التسمك بعموم أدلة الاستيمان لقاعدة " ما لا يضمن " في غير التمليك بلا عوض وبفحواه فيه، فتأمل، ثم إن المستخرج منها إما بالمطابقة أو الالتزام، ليس إلا الامين الذي قد عرفت أنه أخص من عنوان المأذون.

ولو فرضنا التمسك في الخارج، وأنه خصوص الامين أو الاعم منه ومن المأذون فإن اعتمدنا في الخروج على الادلة اللفظية، وقلنا بأن عنوان الامين مجمل فالمرجع هو اطلاق دليل " اليد " لدوران التقييد المنفصل بين الاقل والاكثر فيقتصر على الاقل، وإن اعتمدنا على الدليل اللبي، أعني: حكم العقل من جهة الاستيناس بالحكم، فالاقوى سريان الاجمال إلى الاطلاق ووجوب الرجوع إلى الاصول العملية.

ودعوى أن القضايا العقلية كما علم في محله معلومة الموضوع، فكيف يفرض فيها الاجمال الساري، مع أنه لو فرض الاجمال فيها فهي في حكم التقييد المنفصل لاستقلاله في الحكم فلا وجه للحكم بالسريان، مدفوعة بأن المقصود من الحكم العقلي في المقام ماعرفت مرارا هو إدراكه الظني لمناط الحكم الموجب لانصراف المطلق، وهذا قابل لان يدخل فيه الشك والتردد في الموضوع، كما لايخفى.وأما حديث الانفصال، فهو حق في العقل المستقل، وأما في مثل المقام

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وأمطر في كل البلاد صواعقاً

وهبت له ريح من الشر زعزع

فلم ينج منهم غير من باع دينه

وقال بما يرضي الضلوع ويقنع

ولا عز إلّا من أتى بنميمة

ولا ذل إلّا مؤون متورع

منازل أهل الجور في كل بلدة

عمار وأهل العدل في تلك بلقع

يقولون في أرض العراق مشعشع

وهل بقعة إلّا وفيها مشعشع

فلا فرق إلّا عجزهم واقتداره

وظلمهم فيما يطيقون اشنع

لقد صاقت الآفاق وارتق الفضا

فليس لأهل الدين في الأرض موضع

فهل عامر في الأرض بل أو مفازة

وليس لها في الظلم جمع مجمع

وما سن فيها الظلم إلّا عصابة

تقول على آل النّبي تجمع

فأولهم نسل القحافي حبتر

لئيم له في اللؤم أصل وموضع

أبوه دعى لابن جذعان خادم

وحبترة أدنى محل وأوضع

وتابعه ابن الصهاكي أدلم

عتل زنيم فاجر متبدع

إذا كان منسوباً لسبع

فهل عجب فيما يقول ويصنع

وتابعه في الظلم آل اُميّة

تواطوا على ظلم الوصي وأجمعوا

فلم يتركوا للدين أصلاً يقله

ولم يتركوا فرعاً له يتفرع

وقادوا عليّاً في حمائل سيفه

وكسر أسيافاً لقوم وأضلع

كسيف زبير ثمّ ضلع ابن ياسر

وضلع ابن مسعود وللصحف قطع

إذا فعلوا هذا بأصحاب أحمد

وقالوا لنا إن الصحابة أجمعوا

على حبتر ثمّ ارتضوه أميرهم

فهل عاقل يرضى بهذا ويقنع

وفاطمة الزّهراء حازوا تراثها

عناداً فجاءت حبتراً تتشفع

فقال أبوك المصطفى قال معلناً

بأن أولي القربى من الإرث يمنعوا

فقالت فهاتوا نحلتي وعطيتي

فقالوا لها هل شاهد لك يسمع

فقالت شهودي أذهب الرجس عنهم

لهم آية التطهير ما فيه مدفع

هم حيدر وابناه مع اُمّ أيمن

فهل لك في رد الشهادة مطمع

فقال لها ظلماً وكفراً وقسوة

فلسنا بقول البعل والابن نقنع

فلما رأت تصميمه في ضلاله

وليس عن العصيان أو الظلم يقلع

١٤١

فقامت وأنت عند ذلك أنة

يكاد لها صم الصفا يتصدع

وتابعت الزفرات والنوح والبكا

إلى أن قضت لم يرق للطهر مدمع

فيا عجباً من رده لشهودها

وقول أناس ليس في الكفر تطمع

ألم يفقهوا أقواله وفعاله

ألم ينظروا يا ويلهم ثمّ يسمعوا

فهل رد إلّا من نفى الرجس عنهم

ورد الذي قد جاء بالوحي يصدع

يزكي إله العالمين وأحمد

أناساً ويأتي نغل تيم ويمنع

فتباً لها من اُمة ضل سعيها

توالي كفراً بالإله وتتبع

وأعظم من كل الرزايا رزية

مصارع يوم الطّفّ أدهى واشنع

بها لبس الدين الحنيفي خلعة

من الذل لا تبلى ولا تتقطع

فما أنس لا أنس الحُسين ورهطه

وعترته بالطف ظلماً تصرع

ولم أنسه والشمر من فوق رأسه

يهشم صدراً وهو للعلم مجمع

ولم أنس مظلوماً ذبيحاً من القنا

وقد كان نور الله في الأرض يلمع

يقبله الهادي النّبي بنحره

وموضع تقبيل النّبي يقطع

إذا حز عضو منه نادى بجده

وشمر على تصميمه ليس يرجع

وميز عنه الرأس ظلماً وقسوة

ولا عينه تندو ولا القلب يخشع

تزلزلت الأفلاك من كل جانب

تكاد السما تنقض والأرض تقلع

وعرج جبرائيل ينوح بحرقة

ويشجي أملاك السما ويفجع

وضجت أملاك السّماء وتناوحت

طيور الفلا والوحش والجن أجمع

وجئن كريمات الرّسول حواسراً

ولم يبق جيب لا يشق ويرقع

تقبل جثمان الحُسين سكينة

وشمر لها بالسوط ضرباً يقنع

فيؤلمها ضرب السياط فتلتجي

لعمتها من حيث بالضرب توجع

تقول له يا شمر ويحك خلها

إذا كان بالتقبيل ترضى وتقنع

وترفع صوتاً اُمّ كلثوم بالبكا

وتشكو إلى الله العلي وتضرع

وتندب من عظم الرزية جدها

فلو جدنا ينظر إلينا ويسمع

أيا جدنا نشكو إليك اُميّة

فقد بالغوا في ظلمنا وتبدعوا

أيا جدنا لو أن رأيت مصابنا

لكنت ترى أمراً له الصخر يصدع

أيا جدنا هذا الحُسين معفراً

على الترب محزوز الوريدين مقطع

١٤٢

فجثمانه تحت الخيول ورأسه

عناداً بأطراف الأسنة برقع

أيا جدنا لم يتركوا من رجالنا

كبيراً ولا طفلاً على الثدي يرضع

أيا جدنا لم يتركوا لنسائنا

خماراً ولا ثوباً ولم يبق برقع

أيا جدنا سرنا عرايا حواسرا

كأنا سبايا الروم بل نحن أوضع

أيا جدنا لو أن ترانا أذلة

أسارى إلى أعدائنا نتضرع

ايا جدنا نسترحم القوم لم نجد

شفيعاً ولا من ذي الإساءة يدفع

أيا جدنا شمر يبز قناعنا

ويضربنا ضرب الإماء ويوجع

أيا جدنا زين العباد مكبل

عليل سقيم مدنف متوجع

إذا ما رآنا حاسرات بلا غطا

تكاد الحشا تنفت والروح تنزع

فيصرف عنا الوجه من غير بغضة

ويرنو إلى الرأسُ الحُسينُ فيجزع

فما فعلت عاد كفعل اُميّة

ولكنهم آثار قوم تتبع

فما قتل السبط الشهيد ورهطه

سوى عصبة يوم السقيفة أجمعوا

وما ذاك إلّا سامري وعجله

أهم أصلوا للظلم والقوم فرعوا

ألا لعن الله الذين توازروا

على ظلم آل المصطفى وتجمعوا

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

بكم مفلح مستعصم متمنع

وأنتم ملاذي عند كل كريهة

وأنتم له حصن منيع ومفزع

إذا كنتم درعي ورمحي ومنصلي

فلا اختشي بأساً ولا أتروع

بك أتقي هول المهمات في الدنا

وأهوال روعات القيامة أدفع

فدونكموها من محب ومبغض

له كبد حرى وقلب مفجع

ولا طاقتي إلّا المدائح والهجا

وليس بهذا علة القلب تنفع

الا ساعة فيها أجرد صارماً

وأضرب هام القوم حتّى يصرع

فحينئذ يشفي الفؤاد وحزنه

مقيم ولو لم يبق للقوم موضع

فكيف ولو بالحر قسنا جميعهم

لزاد عليهم للرياحي اصبع

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

ويا من بهم يعطي الإله ويمنع

ألا فاقبلوا من عبدكم ومحبكم

قليلاً فإن الحر يرضى ويقنع

فإن كان تقصير بما قد أتيته

فساحة غدري يا موالي مهيع

فلست بقوال ولست بشاعر

ولكن من فرط الأسى أتولع

١٤٣

الباب الثّالث

أيّها الإخوان , كيف تخفي زفرات الأحزان ؟ أم كيف تطفي لهبات الأشجان ؟ أتراكم ما تعلمون ما جرى على سادات الزّمان في تلك الأماكن والأوطان ؟ قسماً بالبيت العتيق , لو فكّر المؤمن فيما اصابهم من المحن , لغدى روحه أن تخرج من البدن , كيف لا وهم أنوار الله في أرضه وسمائه , وأصفياء الله وأبناء أصفيائه ! اجتروا عليهم فقطّعوا منهم الأوصال , وجدّلوهم على الرّمال , وجرّعوهم كؤوس الحتوف بأرض الطّفوف , وأخذوا نساءهم سبايا على أقتاب المطايا , عرايا حفايا على أيدي أهل العناد وأشرّ العباد , أمر تكاد السّماوات أن يتفطّرن منه , وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا :

والله ما عاد بأعظم جرأة

منهم ولا فعلت ثمود وتبع

وناداهم لما به حفوا معاً

زمراً ولم يك من لقاهم يجزع

يا شر خلق الله ما من مسلم

منكم له دين يكف ويردع

حرم النّبي تموت من حر الظما

والوحش في ماء الشريعة يترع

ألكم طلائب عندنا تبغونها ؟

أم ما عرفتم ويلكم ما يصنع

فيا لهف نفسي على الكهول والشّبان ! ويا تأسّفي على تلك الأجسام والأبدان ! فيا ليتني كنت تراباً لأقدامهم , وخادماً من جملة خدّامهم.

روي عن المفضل بن عمر , قال : قُلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام ) : كيف كانت ولادة فاطمة (عليها‌السلام ) ؟ فقال : (( نعم , إنّ خديجة لمـّا تزوج بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , هجرتها نساء مكّة , وكنّ لا يدخلنّ إليها ولا يسلّمنّ عليها ولا يتركن امرأة تدخل إليها , فاستوحشت خديجة لذلك , فلمّا حملت بفاطمة , كانت فاطمة تحدّثها في بطنها وتصبّرها , وكانت تكتم ذلك عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فدخل يوماً فسمع خديجة تحدّث فاطمة , فقال لها : يا خديجة , مَن تحدثين ؟ قالت : الجنين في بطني يحدّثني ويؤنسني .قال : يا خديجة , هذا جبرائيل يبشّرني أنّها ابنتي , وأنّها النّسلة الطّاهرة الميمونة , وأنّ الله سيجعل نسلي منها , وسيجعل من نسلها أئمة , ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه.

فلم تزل خديجة (عليها‌السلام ) على ذلك حتّى حضرت ولادتها , فوجّهت إلى نساء قُريش

١٤٤

وبني هاشم : أن تعالين لتلين منّي ما تلي النّساء من النّساء .فأرسلنّ إليها : عصيتينا ولم تقبلي قولنا , وتزوجت مُحمّداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له , فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً .فاغتمّت خديجة (عليها‌السلام ) لذلك , فبينما هي كذلك , إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنّهن من نساء بني هاشم , ففزعت منهنّ لمـّا رأتهن , فقالت إحداهنّ : لا تحزني يا خديجة , إنّا رسل ربّك ونحن أخواتك ؛ أنا سارة , وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنّة , وهذه مريم بنت عمران , وهذه كلثم أخث موسى بن عمران , بعثنا الله إليك ؛ لنلي منك ما تلي النّساء من النّساء .فجلست واحدة عن يمينها واُخرى عن يسارها, والثّالثة بين يديها والرّابعة من خلفها , فوضعت فاطمة (عليها‌السلام ) طاهرة مطهّرة , فلمّا سقطت إلى الأرض , أشرق منها النّور حتّى دخل بيوت مكّة , ولم يبق في شرق الأرض ولا في غربها إلّا أشرق فيه ذلك النّور , ودخل عشر من الحور العين , كلّ واحدة منهنّ معها طشت من الجنّة وإبريق من الجنّة , وفي الإبريق ماء من ماء الكوثر , فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها , فغسّلتها بماء الكوثر , وأخرجت خرقتين بيضاوين , أشدّ بياضاً من اللبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر , فلفّتها بواحدة وقنّعتها بالثّانية , ثمّ استنطقتها فنطقت فاطمة (عليها‌السلام ) بالشّهادتين , فقالت : أشهد أن لا إله إلّا الله , وأنّ أبي مُحمّد رسول الله سيّد الأنبياء , وأنّ بعلي سيّد الأوصياء , وولدي سادة الأسباط , ثمّ سلّمت عليهنّ واحدة وسمّت كلّ واحدة باسمها , وأقبلنّ يضحكن إليها , وتباشرت الحور العين , وبشّر أهل السّماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة , وحدث في السّماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك , ثمّ قالت النّسوة : خذيها يا خديجة , طاهرة مطهّرة زكية ميمونة , بورك فيها وفي نسلها .فتناولتها فرحة مستبشرة , وألقمتها ثديها فدرّ عليها , وكانت فاطمة تنمو في اليوم كما ينمو الصّبي في الشّهر , وفي الشّهر كما ينمو الصّبي في السّنة )).

وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , قال : (( فاطمة سيدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين , وأنّها لتقوم في محرابها , فيسلّم عليها سبعون ألف مَلك من الملائكة المقرّبين , وينادونها بما نادت به الملائكة مريم , فيقولون : يا فاطمة , إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين .ثمّ يلتفت إلى عليّ (عليه‌السلام ) , فيقول له : يا عليّ , فاطمة بضعة منّي وهي نور عيني وثمرة فؤادي , يسوءني ما ساءها

١٤٥

ويسرّني ما سرّها , وإنّها أوّل من يلحقني من أهل بيتي , فأحسن إليها بعدي )) .:

يا نفس إن تتلقي صبراً فقد ظلمت

بنت النّبي رسول الله وإبناها

تلك التي أحمد المختار والدها

وجبرائيل أمين الله رباها

الله طهرها من كل فاحشة

من كل ريب وزكاها وصفاها

فهذا يا إخوان الدّين ما وصل إلينا في ولادة بنت سيّد المرسلين.

وأمّا ولادة الحُسين بن عليّ (عليهما‌السلام ) , فقد روي فيها عن ابن عبّاس , قال : لمـّا أراد الله أن يهب لفاطمة الزّهراء , وكان في رجب في اثني عشر ليلة خلت منه ، فلمّا وقعت في طلقها , أوحى الله عزّ وجلّ إلى لعيا ( وهي : حوراء من الجنّة ) وأهل الجنان إذا أرادوا أن ينظروا إلى شيء حسن نظروا إلى لعيا ، قال : ولها سبعون ألف وصيفة , وسبعون ألف قصر , وسبعون ألف مقصورة , وسبعون ألف غرفة مكلّلة بأنواع الجواهر والمرجان , وقصر لعيا أعلا من تلك القصور ومن كلّ القصور في الجنّة , إذا أشرفت على الجنّة , نظرت جميع ما فيها وأضاءت الجنّة من ضوء خدّها وجبينها , فأوحى الله إليها : (( أن اهبطي إلى دار الدّنيا , إلى بنت حبيبي مُحمّد فآنسي لها )) .فأوحى الله إلى رضوان خازن الجنان : (( أن زخرف الجنّة وزيّنها ؛ كرامة لمولود يولد في دار الدّنيا )) .وأوحى الله إلى الملائكة : (( أن قوموا صفوفاً بالتّسبيح والتّقديس والثّناء على الله تعالى )) .وأوحى إلى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل : (( أن اهبطوا إلى الأرض في قنديل من الملائكة )) .قال ابن عباس : والقنديل ألف ألف ملك , فبينما هبطوا من سماء إلى سماء , إذا في السّماء الرّابعة ملك يُقال له (صلصائيل) , له سبعون ألف جناح قد نشرها من المشرق إلى المغرب , وهو شاخص نحو العرش ؛ لأنّه ذكر في نفسه فقال : ترى الله يعلم ما في قرار هذا البحر , وما يسير في ظلمة الليل وضوء النّهار ؟ فعلم الله تعالى في نفسه , فأوحى الله إليه : (( أن أقم مكانك لا تركع ولا تسجد ؛ عقوبة لك لما فكّرت )).

قال : فهبطت لعيا على فاطمة , وقالت لها : مرحباً بك يا بنت مُحمّد كيف حالك ؟ قالت (عليها‌السلام ) لها : (( بخير )) .ولحق فاطمة الحياء من لعيا لم تدري ما تفرش لها , فبينما هي متفكّرة , إذ هبطت حوراء من الجنّة ومعها درنوك من درانيك الجنّة , فبسطته في منزل فاطمة فجلست عليه لعيا , ثمّ إنّ فاطمة (عليها‌السلام ) ولدت الحُسين (عليه‌السلام ) في وقت الفجر , فقبّلته لعيا وقطعت سرّته ونشّفته بمنديل من

١٤٦

مناديل الجنّة , وقبّلت عينيه وتفلت في فيه , وقالت له : بارك الله فيك من مولود وبارك في والديك .وهنأت الملائكة جبرائيل , وهنأ جبرائيل مُحمّداً سبعة أيّام بلياليها , فلمّا كان في اليوم السّابع , قال جبرائيل : يا مُحمّد , آتنا بابنك هذا حتّى نراه .قال : فدخل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فاطمة , فأخذ الحُسين وهو ملفوف بقطعة صوف صفراء , فأتى به إلى جبرائيل , فحلّه وقبّله بين عينيه وتفل في فيه , وقال : بارك الله فيك من مولود , وبارك في والديك يا صريع كربلاء ! ونظر إلى الحُسين وبكى , وبكى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وبكت الملائكة , وقال جبرائيل : اقرأ فاطمة ابنتك السّلام , وقُل لها : تُسمّيه الحُسين , فقد سمّاه الله جلّ إسمه , وإنّما سُمّي الحُسين ؛ لأنّه لم يكُن في زمانه أحسن منه وجهاً .فقال رسول الله (ص) : (( يا جبرائيل , تهنيني وتبكي ؟! )) .قال: نعم يا مُحمّد , آجرك الله في مولودك هذا .فقال (ص) : (( يا حبيبي جبرائيل ومَن يقتله ؟ )) .قال : شراذمة من اُمّتك يرجون شفاعتك لا أنالهم الله ذلك .فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( خابت اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها )) .قال جبرائيل : خابت ثمّ خابت من رحمة الله , وخاضت في عذاب الله .ودخل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فاطمة , فأقرأها من الله السّلام , وقال لها : (( يا بنيّة , سمّيه الحُسين فقد سمّاه الله الحُسين )) .فقالت : (( من مولاى السّلام وإليه يعود السّلام , والسّلام على جبرائيل )) .وهنأها النّبي وبكى ، فقالت : (( يا أبتاه ! تهنئني وتبكي ؟ )) .قال : (( نعم يا بنيّة ! آجرك الله في مولودك هذا )) .فشهقت شهقة وأخذت في البكاء وساعدتها لعيا ووصائفها , وقالت : (( يا أبتاه ! مَن يقتل ولدي وقرّة عيني وثمرة فؤادي ؟ )) .قال : (( شراذمة من اُمّتي يرجون شفاعتي لا أنالهم الله ذلك )) قالت فاطمة : (( خابت اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها )) .قالت لعيا : خابت ثمّ خابت من رحمة الله , وخابت في عذابه .(( يا أبتاه ! اقرىء جبرائيل عنّي السّلام , وقُل له في أيّ موضع يُقتل ؟ )).قال : (( في موضع يُقال له كربلاء , فإذا نادى الحُسين لم يجبه أحد منهم , فعلى القاعد من نصرته لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ، ألا أنّه لن يُقتل حتّى يخرج من صلبه تسعة من الأئمة , ثمّ سمّاهم بأسمائهم إلى آخرهم , وهو الذي يخرج آخر الزّمان مع عيسى بن مريم ، فهؤلاء مصابيح الرّحمن وعروة السّلام , محبّهم يدخل الجنّة ومبغضهم يدخل النّار )).

قال : وعرج جبرائيل وعرج الملائكة وعرجت لعيا , فبقي الملك صلصائيل , فقال : يا حبيبي , أقامت القيامة على أهل

١٤٧

الأرض ؟ قال : لا ، ولكن هبطنا إلى الأرض , فهنئنا مُحمّداً بولده الحُسين .قال : حبيبي جبرائيل , فاهبط إلى الأرض , فقل له: يا مُحمّد , اشفع إلى ربّك في الرّضا عنّي ؛ فإنّك صاحب الشّفاعة .قال : فقام النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ودعا بالحُسين (عليه‌السلام ) , فرفعه بكلتا يديه إلى السّماء , وقال : (( اللّهمّ , بحقّ مولودي هذا عليك إلّا رضيت على الملك )) .فإذا النّداء من قبل العرش : (( يا مُحمّد , قد فعلت وقدرك كبير عظيم )) .قال ابن عباس : والذي بعث مُحمّداً بالحقّ نبيّاً , إنّ صلصائيل يفخر على الملائكة؛ أنّه عتيق الحُسين , ولعيا تفخر على الحور العين ؛ بأنّها قابلة الحُسين.

فيا إخواني , يحقّ لـمَن فارقته ساداته الذين بهم سعادته , ولم يتمكّن من الوصول إليهم , ولبذل نفسه في الجهاد بين يديهم, أن تسيل دموعه الهاطلة وتزيد حرقته المواصلة , ويواصل النّوح بالعويل لا سيّما لو كان بذاك رضا الجليل ، فنوحوا يا إخواني على ساداتكم الكرام , وتمثّلوا ما أصابهم من الكفرة اللئام , قتلوا رجالهم وذبحوا أطفالهم ونهبوا أموالهم ، فعلى مثلهم فليبك الباكون , وعلى مثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة لابن المتوج (رحمه ‌الله ت عالى)

ألا نوحوا وضجوا بالبكاء

على السبط الشهيد بكربلاء

ألا نوحوا بسكب الدمع حزناً

عليه وامزجوه بالدماء

الا نوحوا على من قد بكاه

رسول الله خير الأنبياء

ألا نوحوا على من قد بكاه

عليّ الطهر خير الأوصياء

ألا نوحوا على من قد بكته

حبيبة أحمد ست النساء

ألا نوحوا على من قد بكاه

لعظم الشجو أملاك السماء

ألا نوحوا على قمر منير

عراه الخسف من بعد الضياء

ألا نوحوا على غصن رطيب

ذوي بعد النظارة والبهاء

ألا نوحوا لخامس آل طه

وياسين وأصحاب العباء

ألا نوحوا على شرف القوافي

ومتخرة المرائي والثناء

ألا نوحوا عليه وقد أحاطت

به خيل البغاء الأشقياء

١٤٨

إذ أقبل واعظاً فيهم خطيباً

وبالغ في النصيحة والدعاء

ألا يا قوم أنشدكم فردوا

جوابي هل يحل لكم دمائي

وجدي أحمد وأبي عليّ

وأمي فاطم ست النساء

فقالوا هل نطقت بقول صدق

وقد أخبرت بالحق السواء

ولكن قد أمرنا لا نخلي

سبيلك أو تبايع بالوفاء

وإلّا بالقواضب والعوالي

نجرعكم بها غصص الظماء

فقال أبالقتال تخوفوني

وهل تخشى الأسود من الظباء

فنادوا للقتال معاً ونادى

أخيل الله هبي للقاء

فكافحهم على غصص إلى أن

أبادوا ناصريه ذوي الوفاء

وصادفهم بمهجته إلى أن

أتاه سهم أشقى الأشقياء

فخرّ وبادر الملعون شمر

وحز وريده بعد ارتقاء

وعلا رأسه في رأس رمح

وخلى الجسم شلواً بالعراء

ومالوا في الخيام فحرقوها

وعاثوا في الذراري والنساء

وساقوا الطاهرات مهتكات

على قتب الجمال بلا وطاء

ألا يا آل ياسين فؤادي

لذكري مصابكم حلف الضناء

فأنتم عدتي لي في يوم معادي

إذا حشر الخلائق للجزاء

وما أرجو لآخرتي سواكم

وحاشا أن يخيب بكم رجائي

أنا ابن متوج توجتموني

بتاج الفخر طراً والبهاء

صلاة الخلق والخلاق تترى

عليكم بالصباح وبالمساء

ولعنته على قوم أباحوا

دماءكم بظلم وافتراء

١٤٩

المجلس الثّامن

في اليوم الرّابع من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب

الباب الأول

تفكّروا أيّها الإخوان في أهل الظّلم والعدوان , كيف حملتهم الأحقاد والغلّ الكامن في الفؤاد , على انتهاك حرمة الرّسول وذرّيّة الزّهراء البتول , فصرعوهم على الرّمال ولم يراقبوا الكبير المتعال , ولا بما قيل وقال , بل رفعوا رؤوس آل النّبي على الرّماح , وتركوا أجسادهم شاحبة تسفى عليها الرّمال ، فهم ما بين قتيل يجري منه الصّديد وأسير مكبّل بالحديد ، وامرأة تحنّ ومريض يئنّ ، وسبايا كسبي العبيد ، يُقادون بالعنف إلى يزيد , كأنّهم اُسارى بني الأصفر وليسوا من ذرّيّة النّبي المطهّر :

قليل لهذا الرزء تكوير شمسها

وإن تفطر السبع الشداد له قطرا

مصاب بكت منه السّماء وأهلها

وأشقت به الشم الرعان على المسرى

وخطب جليل قليل حين حلوله

لدمع رسول الله من عينه أجرى

ليبك بنو السلام طراً عليهم

كما بكت الآيات والملّة الغرا

حملتهم الدُنيا الدّنيّة على قتل العترة النّبوية .وقد ورد في الخبر عن سادات البشر , حبّها من أعظم الأخطار الموجبة للسخط ودخول النّار.

وفي الحديث القدسي : (( لو صلّى عبدي صلاة أهل السّماوات وأهل الأرضين , وصام صيام أهل السّماوات وأهل الأرضين , وحجّ حجيج أهل السّماوات وأهل الأرضين

١٥٠

وطوى عن أكل الطّعام مثل الملائكة المقرّبين , ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدّنيا ذرّة , أو من سمعتها أو من رئاستها , أو من محمدتها أو من حليتها , أو من زينتها أدنى من ذرّة , فإنّه لا يجاورني في دار كرامتي ، ولأنزعنّ من قلبه محبّتي , ولأظلمنّ قلبه حتّى ينسى ذكري ؛ حتّى لا أذيقه رحمتي يوم القيامة )).

وفي الخبر عن الصّادق (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا كان يوم القيامة , يمرّ رسول الله بشفير جهنّم , ومعه عليّ بن أبي طالب والحسن والحُسين (عليهم‌السلام ) , فيراهم المختار وهو يومئذ في النّار , فينادي بصوت عال : يا شفيع المذنبين ! أنقذني من النّار .فلم يجبه ، فينادي : يا عليّ ! أغثني من النّار .فلم يجبه ، فينادي : يا حسن يا سيّد شباب أهل الجنّة ! أدركني .فلم يجبه ، فينادي : يا حُسين يا سيّد الشّهداء ! أنا الذي قتلت أعداءك وأخذت لك بالثأر , أنقذني من النّار .فيقول النّبي : يا حُسين , إنّ المختار قد احتجّ عليك بأخذ الثّأر من أعدائك , فأنقذه من النّار .قال : فينتفض الحُسين (عليه‌السلام ) سريعاً كالبرق الخاطف , ويخرجه من النّار , ويغمسه في نهر الحيوان , ويدخله الجنّة مع الأخيار ببركة النّبي المختار )).

فسُئل الصّادق (ع) : يابن رسول الله , فلِمَ اُدخل المختار النّار وهو من الأخيار والشّيعة الأبرار , وأفضل الأنصار لأهل بيت النّبي المختار ؟! فقال (عليه‌السلام ) : (( إنّ المختار كان يحبّ السّلطنة , وكان يحبّ الدّنيا وزينتها وزخرفها , وأنّ حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة ؛ لأنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : والذي بعثني بالحقّ نبياً , لو أنّ جبرائيل أو ميكائيل كان في قلبهما ذرّة من حبّ الدّنيا , لأكبّهما الله على وجوههما في نار جهنّم )).

فنزّهوا أيّها الإخوان أنفسكم عن الرّاكعون إلى الدُنيا , وإيّاكم وطلب الرّئاسة والعليا ؛ فإنّها دار لا يدوم فيها نعيم , ولم يبق أحد من شرّها سليم , وكيف يرضى العاقل بالدّنيا دار بعد آل الرّسول وسلالة الطّاهرة البتول ؟! هذه والله دار غدرت بمواليها , فلا خير والله فيها إلّا مَن اتخذ فيها الزّاد ليوم المعاد ، ولعمري , لا عمل فيها أفضل من موالاة الآل , الدّافعة لتلك الأهوال يوم الحشر والمآل :

هم السادة الأطهار آل محمد

هم الدين والدنيا لمن يتعقل

هم الطور والأعراف والنور والضحى

وياسين والأحقاف والمترمل

مهابط وحي الله في حجراتهم

وتبيان برهان الكتاب المنزل

١٥١

فما مثلهم في الكون إن عد مفخر

أعد نظراً يا صاح إن كنت تعقل

خلت منهم أرض العقيق وعطلت

منازل آيات بها الوحي ينزل

منازل تنزيل بها الحزن قد ثوى

ومجلس أنس قد خلا منه نزل

حدا بهم حادي المنايا معجلا

وسارت بهم عنفاً على الابن نزل

أصابتهم أيدي المصائب فاغتدوا

أماثيل في الدّنيا لمن يتمثل

فما منهم إلّا قتيل وهالك

بسم ومذبوح وذاك مكبل

على مثلهم فليبك بالمدى المدى

ويذرف دمعاً كالمسيل مسبل

روي عن عليّ بن عاصم الكوفي الأعمى , قال : دخلت على سيدي ومولاي الحسن العسكري (عليه‌السلام ) , فسلّمت عليه , فردّ عليّ السّلام وقال : (( مرحباً بك يابن عاصم , اجلس مكانك , هنيئاً لك يابن عاصم , أتدري ما تحت قدميك ؟ )).فقلت : يا مولاي , إنّي أرى تحت قدمي هذا البساط , كرّم الله وجه صاحبه .فقال لي : (( يا بن عاصم , اعلم أنّك على بساط جلس عليه كثير من النّبيين والمرسلين )) .فقلت : يا سيدي , ليتني لا أفارقك ما دمت في دار الدّنيا .ثمّ قلت في قلبي : ليتني أرى هذا البساط .فعلم الإمام ما في ضميري , فقال : (( ادن منّي )) .فدنوت منه , فمسح يده على وجهي , فصرت بصيراً بإذن الله ، ثمّ قال لي : (( هذا قدم أبينا آدم , وهذا أثر هابيل , وهذا أثر شيث , وهذا أثر إدريس , وهذا أثر هود , وهذا أثر صالح , وهذا أثر لقمان , وهذا أثر إبراهيم , وهذا أثر لوط , وهذا أثر شعيب , وهذا أثر موسى , وهذا أثر داود , وهذا أثر سُليمان , وهذا أثر الخضر , وهذا أثر دانيال , وهذا أثر ذي القرنين الاسكندر , وهذا أثر عدنان , وهذا أثر عبد الـمُطّلب , وهذا أثر عبد الله , وهذا أثر عبد مُناف , وهذا أثر جدّي رسول الله , وهذا أثر جدّي عليّ بن أبي طالب ))

قال عليّ بن عاصم : فأهويت على الأقدام كلّها وقبّلتها , وقبّلت يد الإمام العسكري (عليه‌السلام ) , وقلت له : يا سيدي , إنّي عاجز عن نصرتكم بيدي , وليس أملك غير موالاتكم , والبراءة من أعدائكم واللعن لهم في خلواتي , فكيف حالي يا سيدي ؟ فقال : (( حدّثني أبي عن جدّي عن رسول الله , قال : مَن ضعف عن نصرتنا أهل البيت , ولعن في خلواته أعداءنا , بلغ الله صوته إلى جميع الملائكة , فكلّما لعن أحدكم أعداءنا , ساعدته الملائكة ولعنوا من لا يلعنهم ، فإذا بلغ صوته إلى الملائكة , استغفروا له

١٥٢

وأثنوا عليه , وقالوا : اللّهمّ صلّ على روح عبدك , هذا الذي بذل في نصرة أوليائه جهده , ولو قدر على أكثر من ذلك لفعل.فإذا النّداء من قبل الله تعالى يقول : يا ملائكتي , إنّي قد أجبت دعائكم في عبدي هذا , وسمعت نداءكم , وصلّيت على روحه مع أرواح الأبرار , وجعلته من الـمُصطفين الأخيار )).

وكذلك قال عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) لأصحابه الذين كانوا معه لمـّا غُصبت الخلافة منه , حيث قال : (( يا أصحابي , الزموا بيوتكم واصبروا على البلاء , ولا تحرّكوا بأيديكم وسيوفكم وأهواء ألسنتكم , ولا تستعجلوا بما يُعجّله الله لكم ؛ فإنّه مَن مات منكم على فراشه وهو على معرفة من حقّ ربّه , وحقّ نبيّه وآل نبيّه , كان كمن مات شهيداً , أو أجره على الله , واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله , وقامت النّية مقام صلاته وجهاده بسيفه ويده , وإنّ لكلّ شيء أجلاً وانتهاء )).

فيا إخوتي , لله درّ الشّيعة الـمُخلصين , والأتباع الـمُتّقين , وأهل الولاية أجمعين , الذين بذلوا قلوبهم في المحبّة , واستعملوها في المودّة والمسبّة.

روي في الخبر عن سيّد البشر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه كان يقول للحسن والحُسين : (( أنتما زينة عرش الرّحمن , أنتما اللؤلؤة والمرجان)) .فقيل له : يا رسول الله , وكيف ذلك , وكيف يكونان تزيين عرش الرّحمن ؟ فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إذا كان يوم القيامة , يزيّن عرش ربّ العالمين بكلّ زينة , ثمّ يؤتى بمنبرين من نور , كلّ منبر طوله مئة ميل , فيوضع أحدهما عن يمين العرش , والآخر عن يسار العرش ، ثمّ يؤتى بالحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) , فيقف الحسن على أحدهما والحُسين على الآخر , يزيّن الرّب تبارك وتعالى بهما عرشه كما تزيّن المرأة قرطاها )) .ثمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ويوضع يوم القيامة منابر تحت العرش لشيعتي , ولشيعة أهل بيتي المخلصين في ولايتنا , فيقول الله عزّ وجلّ : هلمّوا يا عبادي إليّ لأنشر عليكم كرامتي , فقد أوذيتم في دار الدُنيا )).

وقال أيضاً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أنا الشّجرة وفاطمة فرعها وعليّ لقاحها , والحسن والحُسين ثمرها , وشيعتنا أهل البيت أوراقها , قد أفلح من تمسّك بهذه الشّجرة )).

وفي الخبر أيضاً عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه قال : (( يدخل الجنّة من اُمّتي سبعون ألفاً بلا حساب عليهم ولا عذاب يصل إليهم )).ثمّ التفت إلى عليّ (عليه‌السلام ) , فقال : (( شيعتك هُم وأنت إمامهم )).

وعن أبي عبد الله (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا بلغت نفس المؤمن الحنجرة , وأهوى ملك الموت بيده إليها , يرى قرّة عين , يُقال له : انظر عن يمينك .فيرى رسول الله

١٥٣

وعليّاً وفاطمة والحسن والحُسين , فيقولون له : إلينا إلى الجنّة .والله لو بلغت روح عدوّنا إلى صدره , وأهوى ملك الموت بيده إليها , لا بدّ أن يُقال : انظر عن يسارك .فيرى مُنكراً ونكيراً يُهدّدانه بالعذاب , نعوذ بالله منه )) .:

مناقبهم بين الورى مستنيرة

لها غرر مجلوة وحجول

مناقب جلت أن يحاط بحصرها

نمتها فروع قد زكت وأصول

مناقب وحي الله أثبتها لهم

بما قام منه شاهد ودليل

مناقب من خلق النّبي وخلقه

ظهرت فما يغتالهن أفول

أمولاي آمالي تؤمل نصركم

وقلبي إليكم بالولاء يميل

وقد طال عمر الصبر في أخذ ثاركم

كما آن للظلم المقيم رحيل

متى يشتفي حر الغليل ويشتفي

فؤاد بآلام المصاب عليل

ويجبر هذا الكسر في ظل دولة

لها النصر جند والأمان دليل

هنالك يضحى دين آل محمد

عزيزاً ويمسي الكفر وهو ذليل

ويطوي بساط الحزن بعد كآبة

وتنشر نشراً للهناء ذيول

فيا آل طه الطاهرين رجوتكم

ليوم به فصل الخطاب طويل

أقيلوا إعثاري يوم فقري وفاقتي

فظهري بأعباء الذنوب ثقيل

فيا إخواني , دعوا التّشاغل عنكم بالأهل والأوطان والأتراب والأخدان , تفكّروا فيما أصاب سادات الزّمان الذين تمّ لكم بهم الإيمان , واستحققتهم بموالاتهم دخول الجنان ورضاء الرّحمن.

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه ‌الله تع الى)

يا عين لا لخلو الربع والدمن

باكي الرزايا سوى الباكي على السكن

وآسى بني الهدى فيما أصيبت به

وساعدي البضعة الزّهراء على الحزن

وقابليها بارض الطف صارخة

على القتيل الغريب النازح الوطن

١٥٤

تشكو إلى الله والأملاك محدقة

بالعرض تستصرخ المولى أبا حسن

من حولها مريم العذراء وآسية

تكرر النوح بالتذكار والحزن

والنوح من نادبات الجن مرتفع

وقلبها موجع بالثكل والمحن

لهفي على قول مولاتي وقد نظرت

شلو الحُسين بلا غسل ولا كفن

ملقى على الأرض عاري الجسم منعفر

الخدين مختضب الأوداج والذقن

لهفي على زينب حرى مجردة

مسلوبة تستر الأكتاف بالردن

تقول يا واحدي من لي إذا نزلت

بي الحوادث يحميني ويكفيني

لهفي على فاطم الصغرى مقرحة

بالدمع أجفانها مسلوبة الوسن

تدعو إلى زينب يا عمتا سلب العلج

القناع ليسبيني ويهتكني

فرمت أستر وجهي عند رؤيته

فظل يشتمني عمداً ويضربني

أين الحماة وأين الناصرون لنا

وا خيبتي جار دهري واعتدى زمني

لهفي على السيد السجاد معتقلاً

في أسرهم مستذلا ناحل البدن

إذا شكا اسمعوه قبح شتمهم

وإن ونى قنعوه فاضل الرسن

وا حسرتاه لكريم السبط مشتهراً

كالبدر يشرق فوق الدل واللدن

فيا لها محنة عمت مصيبتها

ويا لها حسرة في قلب ذي شجن

يهني يزيد برأس طال ما رشف

المختار من ثغره تقبيل مفتتن

وتستحث بنات المصطفى ذللا

على المطايا إلى الأطراف والمدن

قد قابلونا بنو حرب بما صنعوا

ولا شفوا غلل الأحقاد والضغن

بفعلهم كفروا فينا واعتقدوا

أن لا جزاء على قبح ولا حسن

مضوا على سنن الماضين وارتكبوا

نهج الضلال ومالوا عن هدى السنن

كأنني بالبتول الطهر واقفة

في الحشر تشكو إلى الرّحمن ذي المنن

تأتي وقد ضمخت ثوب الحُسين دماً

من نحره وهي تبدي الحزن في حزن

تدعو الا ابن مسمومي ويا أسفي

على قتيلي ويا كربي ويا حزني

يا رب من نوزعت ميراث والدها

مثلي ومن طولبت بالحقد والإحن

ومن ترى جرعت في ولدها غصص

كما ابن مرجانة الملعون جرعني

ومن ترى كذبت قبلي وقد علموا

أن الإله من الأرجاس طهرني

وهل لبنت نبي أضرمت شعل

كما أطيف به بيتي ليحرقني

١٥٥

خرجت أطلب للأطفال بلغتهم

دفعني ظالمي عنها ودافعني

رب انتصف لي ممن خان عهدك

في ولدي وممن زوى إرثي فأفقرني

وتستغيث أمام العرش ساجدة

والمصطفى واقف والدمع كالمزن

فيبرز الأمر أني قد سمعت وقد

نقمت ممن عصى أمري وخالفني

أعظم بها ومنادي الحشر يسمع بالصوت

الرفيع لديها كل ذي أذن

غضوا العيون فخاتون القيامة قد

جاءت لتشفع فيمن بالولاء كنى

من كل محترق من عظم فجعتها

بكى وساعدها بالمدمع والهتن

يا سادتي الهادي النّبي ومن

أخلصت ودي لهم في السر والعلن

عرفتكم بدليل العقل والنظر المهدي

فلم أخش كيد الجاهل اللكني

ظفرت بالكنز في علم اليقين فلم

أخش اعتراضاً لدى شك ينازعني

فلست آسى على من ظل يبعدني

بالقرب منكم ومن بالغت ترحمني

وإنني أرتجي أن سوف يلطف بي

ربي فيصفح عن جرمي ويرحمني

وأن فاطمة الزّهراء تشفع لي

والمرتضى لجنان الخلد يقسمني

فاز الخليعي كل الفوز واتضحت

بكم له سبل الإرشاد والسنن

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون الأخيار , لا تبخلوا بالدّموع الغزار على عترة النّبي الـمُختار ، ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ويجزل لديه ثوابكم ؟ أليس هُم شفعاؤكم يوم المعاد إذا وقفتم بين يدي ربّ العباد ؟ أليس هُم العدّة لكم بكلّ شدّة ؟ أليس بهم تحطّ الأوزار ؟ أليس هُم الجنان الواقية من النّار ؟ فمَن بخل منكم عليه بإثارة الأحزان والأشجان , فعلى نفسه بخل ولقدر مواليه وساداته حقر وجهل , أيبكي الباكون منكم على الأهل والأولاد والآباء والأجداد ؟ فيا عجباً لمن أساء إليهم وظلمهم وقصّر في حقّهم وما أكرمهم! وما ارتكب منهم ما يوجب السّخط العظيم , والعدل عن النّهج القويم والصّراط الـمُستقيم ؟! أمر :( تَكَادُ السّماوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الْأَرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً ) (١) :

إن كنت في شك فسل عن حالهم

سنن الرّسول ومحكم التنزيل

فهناك أعدل شاهد لذوي النهى

وبيان فضلهم على التفصيل

____________________

(١) سورة مريم / ٩٠.

١٥٦

ووصية سبقت لأحمد فيهم

جاءت إليه على يدي جبرائيل

روي عن اُمّ سلمة : أنّ الحسن والحُسين دخلا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وكان عنده جبرائيل (عليه‌السلام ) , فجعلا يدوران حوله يشبّهانه بدحية الكلبي , فجعل جبرائيل يومي بيده نحو السّماء كالـمُتناول شيئاً , فإذا بيد جبرائيل تفّاحة وسفرجلة ورمّانة , فناولهما الجميع , فتهلّلت وجوههما فرحاً وسعيا إلى جدّهما , فقبّلهما وقال لهُما : (( اذهبا إلى منزلكما وابدءوا بأبيكما )).ففعلا كما أمرهما جدّهما , ولم يأكلوا منها شيئاً حتّى جاء النّبي إليهم , فجلسوا جميعاً وأكلوا حتّى شبعوا , ولم يزالوا يأكلون من ذلك السّفرجل والتّفّاح والرّمان , وهو يرجع كما كان أوّلاً حتّى قُبض النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ولم يلحقه التّغيير والنّقصان في مدّة أيّام حياة فاطمة (عليها‌السلام ).

قال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( فلمّا توفّيت اُمّي فاطمة , فقدنا الرّمان وبقي التّفّاح والسّفرجل أيّام حياة أبي ، فلمّا استشهد أبي عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) , فقدنا السّفرجل وبقي التّفاح عليَّ إلى وقت مُنعت فيه شرب الماء , فكنت أشمّها إذا عطشت , فيسكن لهيب عطشي ، فلمّا دنا أجلي , رأيتها قد تغيّرت فأيقنت بالفناء )).

قال عليّ بن الحُسين : (( سمعت أبي يقول ذلك قبل مقتله بساعة , فلمّا قضى نحبه , وجد ريح التّفّاح في مصرعه , فالتمست التّفّاحة فلم أجد لها أثراً , فبقي ريحها بعد مقتله (عليه‌السلام ) , ولقد زرت قبره فشممت منه رائحة التّفّاح تفوحّ من قبره صلوات الله عليه , فمَن أراد ذلك من شيعتنا الصّالحين الزّائرين قبر الحُسين , فيلتمس ذلك في أوقات السَّحر , فإنّه يجد رائحة التّفّاح عند قبر الحُسين إن كان مخلصاً موالياً صادقاً )).

وعن الصّادق (عليه‌السلام ) : (( أنّ جبرائيل نزل إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقال : يا مُحمّد , إنّ الله يقرؤك السّلام ويبشّرك بمولود من ابنتك فاطمة الزّهراء (عليها‌السلام ) , وتقتله اُمّتك من بعدك .فقال : يا جبرائيل , قُل لربّي , لا حاجة لي في مولد يولد من فاطمة وتقتله اُمّتي من بعدي .قال : فعرج جبرائيل (عليه‌السلام ) إلى السّماء في أسرع من طرفة عين , ثمّ هبط وقال : يا مُحمّد , إنّ ربّك يقرأ عليك السّلام , ويبشّرك أنّه جاعل في ذرّيّته الأمانة والولاية والوصيّة .فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : رضيت بذلك .ثمّ أرسل النّبي إلى ابنته فاطمة (عليها‌السلام ) , يقول : إنّ الله يبشّرك بمولود يولد منك وتقتله اُمّتي من بعدي .فجزعت فاطمة وأرسلت إليه تقول : لا حاجة لي في مولود يولد منّي وتقتله اُمّتك من بعدنا .فأرسل إليها يقول : إنّ الله

١٥٧

جاعل من ذرّيّته الإمامة والولاية والوصيّة .فأرسلت إليه تقول : إنّي قد رضيت :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) (١) .[ فلو أنّه قال : اصلح لي ذريتي ، لـ ] كانت ذرّيّته كلّهم أئمة )) .فهذه الآية نزلت في شأن الحُسين (ع).

وروي : أنّ الحُسين لم يرضع من ثدي فاطمة شيئاً , ولا رضع من اُنثى لبناً , ولكنّه كان يؤتى به إلى جدّه رسول الله , فيضع إبهامه في فيه , فيمصّ منها لبناً يكفيه ويُغذّيه يومين أو ثلاثة أيّام , فنبت لحم الحُسين من لحم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ودمه من دمه وعظمه من عظمه , ومخّه من مخّه وشعره من شعره , ولم يولد مولود لستة أشهر , إلّا عيسى بن مريم والحُسين بن فاطمة (عليهم‌السلام ).

وفي خبر آخر : أنّ فاطمة (عليها‌السلام ) لمـّا اغتسلت بعدما ولدت الحُسين , جفّ لبنها , فطلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مرضعة , فلم يجد له مرضعة , فكان يأتيه الحُسين مع اُمّ سلمة فيلقمه إبهامه فيمصّه , ويجعل الله له من إبهام النّبي رزقاً يغذّى به بقدرة الله تعالى.

وفي خبر آخر : بل كان رسول الله يُدخل لسانه في فم الحُسين , فيغّره كما يغّر الطّير فرخه , فيجعل الله له في ذلك رزقاً بقدرة الله تعالى , ففعل ذلك به أربعين يوماً وليلة ، فنبت لحمه من لحم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

أيقتل ظمآناً حُسين بكربلا

وفي كل عضو من أنامله بحر

ووالده الساقي على الحوض في غد

وفاطمة ماء الفرات لها مهر

فوا لهف نفسي للحسين وما جنى

عليه غداة الطف في حربه شمر

سنان سنان خارق منه في الحشا

وصارم شمر في الوريد له شمر

تجر عليه العاصفات ذيولها

ومن نسج أيدي الصافنات له طمر

فيا لك مقتولاً بكته السّماء دماً

فمغبر وجه الأرض بالدم محمر

مصابكم يا آل طة مصيبة

ورزء على السّلام أحدثه الكفر

حكى عبد الله بن العبّاس , قال : جاءني رجل من بني اُميّة , فقال : أريد أن أسألك عن سؤال ؟ فقلت له : سل عمّا تُريد.فقال لي : يا عبد الله , ما تقول في دم البعوضة , هل يُنقض الوضوء أم لا ؟ وهل هو طاهر أم نجس ؟ فقلت له : ثكلتك اُمّك يا عديم الرأي ! تسأل عن دم البعوضة فلِمَ لا سألت عن دم الحُسين ابن بنت

____________________

(١) سورة الأحقاف / ١٥.

١٥٨

رسول الله ؟! سفكتم دمه وقطعتم لحمه وكسرتم عظمه , وقتلتم أولاده وأطفاله وأنصاره , وسبيتم حريمه ومنعتموه من شرب الماء , ألا لعنة الله على الظّالمين .ثمّ التفت عبدالله إلى جلسائه , وقال : انظروا إلى هذا اللعين , كيف يسألني عن دم البعوضة , ولا يخاف أن يسأله الله عن دم الحُسين ابن بنت رسول الله ؟! ثمّ قال لأصحابه : والله , إنّي سمعت بهاتي أذني من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول مراراً كثيرة : (( الحسن والحُسين ريحانتاي في الدُنيا , وهُما منّي وأنا منهُما , أحبّ الله مَن أحبّهما , وأبغض الله مَن أبغضهما , وآذى الله مَن آذاهما , ووصل الله مَن وصلهما , وقطع الله مَن قطعهما , فإنّهما ابناي وسبطاي وقرّتا عيني , وسيّدي شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين )) .فقلت : يا رسول الله , أيّ أهل بيتك أحبّ إليك ؟ فقال : (( الحسن والحُسين أحبّ النّاس إليّ )) .وكان يقول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا فاطمة , ادعى لي ابني )) .فيأتيان إليه فيضمّهما إليه , ويشمّهما ويقبّلهما ويقول : (( أحبّ الله مَن أحبّ الحسن والحُسين ومَن أحبّ ذرّيّتهما , فمَن أحبّهم لم تمس جسده نار جهنّم ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج , إلّا أن يكون له ذنب يخرجه عن الإيمان )).

وعن الأوزاعي , عن عبد الله بن شداد , عن اُمّ الفضل بنت الحرث , أنّها دخلت على رسول الله فقالت : يا رسول الله , رأيت البارحة حلماً مُنكراً شديداً .قال : (( وما هو يا اُمّ الفضل ؟ )) .قالت : رأيت كأنّ قطعة من جسدك قُطعت ووضعت في حجري .فقال رسول الله : (( يا اُمّ الفضل , ستلد ابنتي فاطمة غُلاماً , فتكون تربيته في حجرك )) .قالت : فولدت فاطمة الحُسين وكان كما قال رسول الله , فربّيته في حجري ، فدخلت به يوماً على النّبي فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي إلتفاتة , فإذا عينا رسول الله تهرقان بالدّموع , فقلت : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ، ما لك تبكي ؟! فقال : (( أتاني جبرائيل أخي , وأخبرني أنّ اُمّتي ستقتل ابني هذا , وأتاني بقبضة من تربة حمراء فأرانيها )).

ومن طرقهم : أنّ عيسى بن مريم (عليه‌السلام ) مرّ بكربلاء , فرأى عدّة من الظّباء هناك مجتمعة , فأقبلت إليه وهي تبكي , وأنّه جلس وجلس الحواريّون , فبكى وأبكى الحواريّين وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى , فقالوا : ياروح الله وكلمته , ما يبكيك ؟ قال : أتعلمون أيّ أرض هذه ؟ قالوا : لا .قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ لرسول أحمد , وفرخ الخيّرة الطّاهرة البتول شبيهة اُمّي , ويُلحد فيها , وهي أطيب من المسك ؛ لأنّها طيبة الفرخ المستشهد , وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء (عليهم‌السلام ) , وهذه الظّباء

١٥٩

تكلّمني وتقول : إنّها ترعى في هذه الأرض ؛ شوقاً إلى تربة الفرخ الـمُبارك .وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض .ثمّ ضرب بيده إلى ثغر تلك الظّباء فشمّها , وقال : اللّهمّ , ابقها حتّى يشمّها أبوه فتكون له عزاء .فبقيت إلى أيّام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , فشمّها وبكى وأخبر بقصّتها.

وعن سلمان الفارسي , أنّه قال : كان سيّدنا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يحدّثنا كثيراً بالأشياء والمغيّبات , التي تحدث على مرور السّنين والأوقات , وأنّه يوم الجُمُعة يخطب على منبره في جامع الكوفة , فقال في خطبته : (( أيّها النّاس , سلوني قبل أن تفقدوني , فو الله , لا تسألوني عن فئة تضلّ مئة وتهدي مئة , إلّا أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة )) قال : فقام إليه رجل فاجر فاسق , وقال له : يا عليّ , أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ؟ فقال له (عليه‌السلام ) : (( والله , لقد أخبرني بسؤالك هذا ابن عمّي رسول الله , ونبّأني بما سألت عنه , وإنّ على كلّ طاقة من شعر رأسك ولحيتك شيطاناً يغويك ويستفزّك , وإنّ على كلّ شعرة من بدنك شيطاناً يلعنك ويلعن ولدك ونسلك , وإنّ لك ولداً رجساً ملعوناً , يقتل ولدي الحُسين بن بنت رسول الله , وأنت وولدك بريئان من الإيمان , ولولا أنّ الذي سألتني عنه يعسر برهانه لأخبرتك به , ولكن حسبك فيما نبأتك به من لعنتك ورجسك , وولدك الملعون الذي يقتل ولدي ومهجة قلبي الحُسين )) قال : وكان له ولد صغير في ذلك الوقت , فلمّا نشأ وكبر وكان من أمر الحُسين ما كان , نمى الصّبي وتجبّر وتولّى قتل الحُسين (عليه‌السلام ) .وقيل : إنّ ذلك الصّبي كان اسمه خولّى بن يزيد الأصبحي , وهو الذي طعن الحُسين برمحه , فخرج السّنان من ظهره , فسقط الحُسين على وجهه يخور في دمه ويشكو إلى ربّه :( أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ ) (١) .فيا ويلهم ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حُرمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , كأنّهم ما سمعوا ما ورد في حقّهم , أم سمعوا وهم غافلون ! :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) .

فعلى الأطائب من آل بيت مُحمّد فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ ابن حماد (رحمه‌ الله تعال ى)

أرى الصبر يفنى والهموم تزيد

وجسمي يبلى والسقام جديد

____________________

(١) سورة هود / ١٨.

(٢) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493