الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)12%

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 493

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 493 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72355 / تحميل: 6114
الحجم الحجم الحجم
الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

قال الأمينيّ ما أعرف السّباع المفترسة في القرون الخالية بصالح الخلفاء من طالحهم، حتّى كفّت عن الفرس والعدوان جرياً على الصّالح العامّ؟ وما أجهل به الإنسان الظلوم الجهول حتّى حاد عنه وخاصمه وعانده وحاربه وقاتله؟ ولو كانت هذه السّيرة مطّردة في السّباع في كلِّ أدوار الحياة، ولم يكن هذا الشعور الحيُّ من خاصّة سباع عصر عمر بن عبد العزيز ورعاءه؟ لكانت لها أن تفني شياه الدّنيا ولم تبق منها شيئاً يوم معاوية ويزيد وهلمّ جرّا، أو ارجع إلى الوراء القهقرى.

_ ٢٤ _

كتاب براءة لعمر بن عبد العزيز

كان عمر بن عبد العزيز يأتي المساجد المهجورة في الليل فيصلّي فيها ما يسرّ الله عزّ وجلّ، فإذا كان وقت السّحر وضع جبهته على الأرض، ومرّغ خدّه على التّراب، ولم يزل ييكي إلى طلوع الفجر، فلمّا كان في بعض اللّيالي فعل ذلك على العادة، فلمّا فرغ ورفع رأسه من صلاته وتضرُّعه وجد رقعة خضراء قد اتّصل نورها بالسّماء مكتوبٌ فيها: هذه برائةٌ من النّار من الملك العزيز لعبده عمر بن عبد العزيز.

وأخرج ابن أبي شيبة باسناده عن عبد العزيز بن أبي سلمة: انَّ عمر بن عبد العزيز لَمّا وضع عند قبره هبَّت ريحٌ شديدةٌ فسقطت صحيفةٌ بأحسن كتاب فقرأوها فإذا فيها: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، براءةٌ من الله لعمر بن عبد العزيز من النّار. فأدخلوها بين أكفانه ودفنوها معه.

تاريخ ابن كثير ٩: ٢١٠، الرَّوض الفائق للحريفيش ص ٢٥٦.

وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك قال: بينما نحن نسوّي التّراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا من السّماء كتابٌ فيه: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، أمانُ من الله لعمر بن عبد العزيز من النّار.

قال الأميني: سوف يتبيّن الرّشد من الغيِّ يوم العرض الأكبر.

_ ٢٥ _

امرأة تلد بدعاء مالك ابن اربع سنين

أخرج البيهقي في السنن الكبرى ٧: ٤٤٣ بإسناده عن هاشم المجاشعي قال: بينما

١٢١

مالك بن دينار - المتوفّى ١٢٣ وقيل غير ذلك - يوماً جالسٌ إذ جاءه رجلٌ فقال: يا أبا يحيى! ادعُ لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد، فغضب مالك و أطبق المصحف ثمَّ قال: ما يرى هؤلاء القوم إلّا أنّا أنبياء، ثمَّ دعا فقال: أللّهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريحٌ فأخرجها عنها السّاعة، وإن كان في بطنها جاريةٌ فأبدلها بها غلاماً، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك امّ الكتاب، ثمَّ رفع مالك يده ورفع النّاس أيديهم، وجاء الرَّسول إلى الرَّجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرَّجل، فما حطّ مالكٌ يده حتى طلع الرَّجل من باب المسجد على رقبته غلامٌ جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه ما قطعت أسراره.

قال الأميني: ليس من المستحيل التلفّظ بالمحال، لكن التّقوى أو الحياء يزع كلّ منهما الإنسان عن أن يلهج بما هو خارجٌ عن مستوى المعقول. ألا من مُسائل هذا الرّاوي عن انّ رحم المرأة هل فيها تمطّط فتبلغ من السّعة ما يُقلّ ابن أربع سنين وقد استوت أسنانه ونبت شعره ويركب الرِّقاب؟ وهب انَّ فيها تمطّطاً فهل ما يحويها من بنيَّة البدن له مثل ذلك التمطّط؟ فيجب عليه أن يكون في هيئة الحامل إذن تضخّماً أكثر من النساء العاديات، فهل كانت اُمّ الغلام هكذا؟ أو أنّها بقيت على حالتها وهي كرامة اُخرى لأحد من عباد الله؟ سبحان الذي تولّى كلائة هذه المرأة المسكينة عن أن تنكسر عظامها، وتنقطع عروقها، وينفتق جلدها ولحمها، وقد فعل سبحانه ما أراد في الزَّمن من الماضي.

ورحم الله مالك بن دينار لولا دعائه للمرأة المسكينة لكان يبقى جنينها في بطن اُمِّه أربعين عاماً أو إلى ما شاء الله.

ثمَّ هل كان المولود في بطن امّه أنثى فأبد له دعاء ابن دينار ذكراً؟ أو أنّه كان ذكراً ولا صلة للدّعاء المذكور به، وانَّ الله هو الّذي يهب لمن يشاء اُناثاً ويهب لمن يشاء الذّكور؟ وإنَّ من المقطوع به انَّ في تلك السّاعة كان قد افرزت خلقة المولود وصوّر مثاله فلم يبق فيه بعدُ مجالٌ للتغيّر والتأثّر وإنّه إمّا ذكرٌ أو انثى، فلا محلّ من الإعراب لدعاء ابن دينار: [ وان كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاماً ] غير أنّه دعا، وهل كانت له هذه

١٢٢

الدّعوة المستجابة بعد الولادة أخذاً بقوله: إنّك تمحو ما تشاء وتثبت؟ لعلّها له وليس على الله بعزيز، ولا يُسئل عمّا يفعل، وهو على كلّ شيء قدير.

_ ٢٦ _

ناصبىّ مستجاب الدعوة

قال الجريري سعيد بن اياس المتوفّى ١٤٤: كان عبد الله بن شقيق العقيلي أبو عبد الرّحمن البصري مجاب الدّعوة كانت تمرُّ به السّحابة فيقول: أللّهم لا تجوز كذا و كذا حتّى تمطر. فلا تجوز ذلك الموضع حتّى تمطر. حكاه ابن أبي خيثمة في تاريخه [ تهذيب التهذيب ٥: ٢٥٤ ].

قال الأميني: لعلّك لا تستبعد إجابة دعوة وليّ من أولياء الله وتراها غير عزيز على المولى سبحانه كرامةً لصالحي عباده، بيد انَّ هذه النسبة تبعد من العقيلي بُعد المشرقين بَعد ما عرفه الملأ ممّن نصب العداء لسيّد العترة قال ابن خراش: كان عثمانيّاً يبغض عليّاً، وقال أحمد بن حنبل: كان يحمل على عليّ(١) فأيّ كرامة لابن أنثى لا يُوالي سيّد العرب امير المؤمنين فضلاً عن أن يعاديه بعد ما ثبت عن النبيّ الأقدس من الدّعوة المستجابة بقوله في عليعليه‌السلام : اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه،(٢) وبعد عهد النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه سلام الله عليه انّه لا يحبّه إلّا مؤمنٌ ولا يبغضه إلّا منافقٌ(٣) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليُّ لا يبغضك مؤمنٌ ولا يحبّك منافق(٤) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحبُّ عليّاً المنافق، ولا يبغضه مؤمن(٥) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولاك يا عليُّ! ما عرف المؤمنون بعدي(٦) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لا يبغضه أحدٌ من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلّا وهو خارجٌ من الايمان(٧) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________________

١ - تهذيب التهذيب ٥: ٢٥٤.

٢ - راجع حديث الغدير فى الجزء الاول من كتابنا هذا.

٣ - راجع ما اسلفناه فى الجزء الثالث ص ١٦١.

٤ - راجع ما مرّ فى الجزء الثالث ١٦٢.

٥ - راجع ص ١٦٣ من الجزء الثالث.

٦ - راجع ص ١٦٤ من الجزء الثالث.

٧ - يأتي في مسند المناقب بمصادره.

١٢٣

يا عليُّ أنت سيّدٌ في الدنيا سيّدٌ في الآخرة، حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله، وعدّوك عدوّي وعدوّي عدوّ الله، والويل لمن أبغضك بعدي(١) . وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليُّ طوبى لمن احبّك وصدق فيك، وويلٌ لمن أبغضك وكذب فيك(٢) وبعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام : من أحبّك أحبَّني، ومن أبغضك أبغضني(٣) إلى أحاديث جمّة.

فكيف يسع لمسلم يصدِّق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أقواله هذه أن يذعن بكرامة ابن شقيق مبغض عليّعليه‌السلام والمتحامل عليه بالوقيعة فيه، ويراه مستجاب الدّعوة، نافذ المشيئة في السّحاب. نعم يسوِّغه الغلوّ في الفضائل لا عن دراية

وأمّا الجريري راوي هذه المهزأة فقد عرفت في ما مرَّ في هذا الجزء: انّه اختلط قبل موته بثلاث سنين، وهذه الرِّواية من آيات اختلاطه.

_ ٢٧ _

السختيانى ينبع الماء

أخرج أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) ٣: ٥ بالإسناد عن عبد الواحد بن زيد قال: كنت مع أيّوب السَّختياني(٤) على حِراء فعطشت عطشاً شديداً حتّى رأى ذلك في وجهي فقال. ما الّذي أرى بك؟ قلت: العطش، وقد خفت على نفسي، قال: تستر عليَّ؟ قلت: نعم. قال: فاستحلفني فحلفت له أن لا اُخبر عنه ما دام حيّاً، قال: فغمز برجله على حِراء فنبع الماء فشربت حتّى رويت وحملت معي من الماء قال: فما حدَّثت به أحداً حتّى مات.

وفي [ الرّوض الفائق ] ص ١٢٦: كان جماعة مع أيّوب السَّختياني في سفر فأعياهم طلب الماء فقال أيّوب: أتسترون عليّ ما عشت؟ فقالوا: نعم. فدوّر دائرة فنبع الماء قال: فشربنا فلمّا قدموا البصرة أخبر به حمّاد بن زيد. قال عبد الواحد بن زيد: شهدت معه ذلك اليوم.

____________________

١ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٢٨ وصححه ووثق الذهبى رواته.

٢ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٣٥ وصححه.

٣ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٤٢ صححه الحاكم والذهبى.

٤ - توفى سنة ١٢١ توجد ترجمته فى حلية الاولياء ٣: ٣ - ١٤.

١٢٤

_ ٢٨ _

شيخ يبيع القصر في الجنة

أتى رجلٌ من أهل خراسان حبيب بن محمّد العجميّ البصريّ يريد مكّة وقال له: يا شيخ! اشتر لي داراً ودفع إليه مالاً وخرج إلى مكّة فأخذ حبيب المال فتصدّق به فلمّا قدم الرَّجل قال له: إذهب بي إلى الدّار الّتي إشتريتها فأرنيها فقال له: إنّك لا تراها اليوم ولكن إذا متّ تراها فقال له الخراسانيُّ: اكتب إليّ عهدتها حتّى اذهب بها إلى خراسان فكتب له حبيب: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، هذا ما اشترى حبيب قصراً في الجنّة كذا وكذا، وارتفاعه كذا كذا في الجنّة. ثمَّ ختم الكتاب ودفعه إليه فأخذه الرَّجل فذهب به إلى خراسان إلى أهله فقالوا له: أنت مجنونٌ لولا انّك ضيَّعت مالك لذهب بك إلى الدّار، ولكن هذا شأن مجنون، فبقي الرَّجل ما شاء الله، فلمّا حضره النَّزع قال لأهله: إجعلوا هذا الكتاب في كفني، فلمّا مات وضعوه في أكفانه وحملوه إلى القبر فأصبح حبيب بالبصرة وإذا الكتاب عنده في بيته وفي ذيله: يا أبا محمّد! إنَّ الله قد سلّم إليه القصر الّذي اشتريته له فذهب إلى أهل الرّجل وقال لهم: إنَّ الله قد سلّم إلى أبيكم القصر، وهذه العهدة فبصروا بها فإذا هي الكتاب الّذي وضعوه معه في القبر.

أخرجه ابن عساكر في تاريخه ٤: ٣٢ وقال مهذِّبه: قد روى الحافظ هذه القصّة باسناده من طريقين مطوّل ومختصر والمعنى واحد، وهذه القصَّة كانت لحبيب، وأرجو أن؟ لا يحوم حولها المدَّعون فيجعلونها سلّماً لأكل مال النّاس بالباطل، فإنَّ أحوال امثال حبيب لا يقاس عليها ولا تكون قاعدة للعمل.

_ ٢٩ _

حضور غائب بدعاء معروف

ذكر الإمام أبو محمّد ضياء الدّين الشيخ احمد الوتري الشافعيّ المتوفّى بمصر في عشر الثمانين والتسعمائة في كتابه ( روضة الناظرين ) ص ٨ نقلاً عن خليل بن محمّد الصيّاد انّه قال: غاب أبي فتألّمت فجئت إلى معروف - الكرخي المتوفّى ٢٠٠ / ١ / ٤ - فقلت: غاب أبي فقال: ما تريد؟ قلت: رجوعه. قال: أللّهمَّ إنّ السّماء سماؤك، والأرض أرضك وما بينهما لك ائت بمحمّد، فأتيت باب الشّام فإذا هو واقفٌ فقلت: أين كنت؟

١٢٥

قال: كنت السّاعة بالأنبار(١) ولا أعلم ما صار.

عجباً العقول تُسوّغ مثل هذا لكلِّ معروف ومنكر، ولا تسوِّغه في أمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه يوم حضر تغسيل سلمان بالمدائن وكان سلام الله عليه بالمدينة. راجع الجزء الخامس ص ١٥ - ٢١ ط ٢.

_ ٣٠ _

رجل متربّع فى الهواء

أخرج إبن الجوزي في صفة الصَّفوة ٤: ٢٤٥ عن حذيفة بن قتادة المرعشيّ المتوفّى ٢٠٧ قال: قال: كنت في المركب فكسر بنا فوقعت أنا وامرأة على لوح من ألواح المركب فمكثنا سبعة ايّام فقالت المرأة: أنا عطشى. فسألت الله تعالى أن يسقينا فنزلت علينا من السّماء سلسلة فيها كوزٌ معلّقٌ فيه ماءٌ فشربت، فرفعت رأسي أنظر إلى السِّلسلة فرأيت رجلاً في الهواء متربّعاً فقلت: مَن أنت؟ قال: من الإنس. قلت: فما الّذي بلّغك هذه المنزلة؟ قال: أثرت مراد الله عزّ وجلّ على هواي فأجلسني كما تراني.

وإن تعجب فعجبٌ من أقوام يقبلون هذا ويبهظهم حديث البساط لمولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام .

_ ٣١ _

جنّية تكّلم الخزاعى

أخرج ابن الجوزي في صفة الصّفوة ٢: ٢٠٥ عن أحمد بن نصر الخزاعي(٢) أحد ائمَّة السنّة الإمام الشهير المتوفّى ٢٣١، قال: رأيت مصاباً قد وقع فقرأت في اُذنه فكلّمتني الجنِّيَّة من جوفه: يا أبا عبد الله! بالله دعني أخنقه، فإنّه يقول: القرآن مخلوق.

ما ألطفها من دعاية إلى المبدأ الباطل؟ ولِلَّه درُّ الجنِّيَّة العالمة الّتي بلغ من علمها انَّها قالت بعدم خلق القرآن. ونحن نشكر الله سبحانه على ابطال هذه السخافة القديمة على ممرّ الايام فلم تجد اليوم جانحاً إليها ولا محبّذاً إيّاها.

____________________

١ - الانبار، مدينة قرب بلخ. ومدينة على الفرات فى غربى بغداد بينهما عشرة فراسخ.

٢ - قتل فى خلافة الواثق لامتناعه عن القول بخلق القرآن ونفى التشبيه فعلقت على اذنه رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا رأس احمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الامام هارون وهو الواثق بالله امير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفى التشبيه فابى الا المعاندة فعجله الله الى ناره.

١٢٦

_ ٣٢ _

رأس احمد الخزاعى يتكلم

ذكر الخطيب وابن الجوزي بالاسناد عن إبراهيم بن إسماعيل بن خلف قال: كان أحمد بن نصر خِلّي، فلمّا قتل في المحنة وصُلب رأسه اُخبرت: أنَّ الرَّأس يقرأ القرآن، فمضيت فبتُّ بقرب من الرأس مشرفاً عليه، وكان عنده رجّالة وفرسان يحفظونه، فلمّا هدئت العيون سمعت الرأس تقرأ: الـ~ـم أحسب النّاس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون فاقشعرَّ جلدي.

وعن أحمد بن كامل القاضي عن أبيه انَّه قال: وُكلّ برأس أحمد مَن يحفظه بعد أن نصب برأس الجسر، وإنَّ الموكّل به ذكر: انّه يراه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه فيقرأ سورة يس~ بلسان طَلِق، وإنّه لمـّا أخبر بذلك طُلب فخاف على نفسه فهرب.

وعن خلف بن سالم انَّه قال: عندما قُتل أحمد بن نصر وقيل له: ألا تسمع ما النّاس فيه يا أبا محمّد؟ قال: وما ذلك؟ قال: يقولون إنَّ رأس أحمد بن نصر يقرأ القرآن، قال: كان رأس يحيى بن زكريّا يقرأ(١) .

لا تبهظ الخطيب وابن الجوزي هذه الاُضحوكة، ولا احسب انَّهما يصدّقانها ولكن لمـّا كان يبهظهما وأمثالهما ما يؤثر(٢) من أنَّ رأس مولانا أبي عبد الله السّبط الشّهيد صلوات الله عليه كان يقرأ القرآن الكريم على عامل السّنان، ولقد كانت هذه الاكرومة متسالماً عليها في العصور الخالية، فنحتوا هذه الأفائك تجاهها تخفيفاً لتلك المنزلة الكريمة الخاصّة ببضعة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

_ ٣٣ _

النبي يفتخر بابى حنيفة

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال: إنَّ سائر الأنبياء تفتخر بي، وأنا افتخر بأبي حنيفة،

____________________

١ - تاريخ بغداد ٥: ١٧٩، صفة الصفوة ٢: ٢٠٥.

٢ - سيوافيك حديثه في مسند المناقب ومرسلها انشاء الله تعالى.

١٢٧

وهو رجلٌ تقيٌّ عند ربّي، وكأنَّه جبلٌ من العلم، وكأنّه نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، فمن أحبَّه فقد أحبَّني، ومن أبغضه فقد أبغضني.

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ آدم افتخر بي، وأنا أفتخر برجل من امّتي اسمه نعمان، وكنيته أبو حنيفة، هو سراج امّتي.

أسلفنا الرِّوايتين مع جملة ممّا اختلقته يد الغلوِّ في الفضائل لأبي حنيفة في الجزء الخامس ص ٢٣٩ - ٢٤١ وذكرنا هنالك انَّ امَّة من الحنفيَّة بلغت مغالاتها فيه حدّاً ذهبت إلى أعلميّته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضاء.

وذكر الحريفيش في الرّوض الفائق ص ٢١٥: انَّ من ورع أبي حنيفة رضي الله عنه انَّ شاةً سرقت في عهده فلم يأكل لحم شاة مدَّة تعيش الشّاة فيها.

لا أدري لأيِّ خرافة أضحك؟ ألفخر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجل استتيب من الكفر مرَّتين(١) والنبيّ مفخرة العالمين جميعاًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي امَّته مَن باهى به الله كمولانا امير المؤمنينعليه‌السلام ليلة مبيته على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ؟

أم لكون الرَّجل أعلم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقضاء؟ أنا لا أدري من أين جاء أبو حنيفة بهذا العلم والفقه؟ أهو فقهٌ إسلاميٌّ والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستقاه ومنبثق أنواره؟ أم هو ممّا اتَّخذه من غير المسلمين من رجال كابل أو بابل أو ترمذ(٣) فأحرِ به أن يضرب عرض الجدار، وأيُّ حاجة للمسلمين إلى فقه غيرهم وقد أنعم الله عليهم بقضاء الإسلام وفقهه؟ وفيهما القول الحاسم وفصل الخطاب.

أم لورع الرَّجل الموصول بفقهه الناجع في قصَّة الشاة المسروقة الّذي لا يصافقه عليه فيه أيُّ فقيه متورّع، وقد أباح الإسلام أكل لحم الشيّاه في جميع الأحيان، وفي كلّها أفرادٌ منها مسروقةٌ في الحواضر الإسلاميّة وأوساطها، لكن هذا الفقيه لا يعرف

____________________

١ - راجع الجزء الخامس ص ٢٨٠ ط ٢.

٢ - اسلفنا حديثه فى الجزء الثانى ٤٨ ط ٢.

٣ - ايعاز إلى محتد ابى حنيفة،، قال الحافظ ابو نعيم الفضل بن دكين وغيره: اصله من كابل. وقال ابو عبد الرحمن المقرى: انه من أهل بابل وقال الحارث بن ادريس: اصله من ترمذ.

١٢٨

عدم تنجّز الحكم في الشّبهات إذا كانت غير محصورة خارجاً أكثر أطرافها من محلِّ الابتلاء، ولعلّه كان يعلم ذلك لكن عمله هذا من حيله التي هو أخبر بها عن نفسه، قال أبو عاصم النبيل: رأيت أبا حنيفة في المسجد الحرام يفتي، وقد اجتمع الناس عليه وآذوه، فقال: ما هاهنا أحدٌ يأتينا بشرطيّ؟ فقلت: يا أبا حنيفة! تريد شرطيّاً؟ قال: نعم. فقلت: اقرأ عليَّ هذه الأحاديث الّتي معي، فقرأها فقمت عنه ووقفت بحذاءه فقال لي: أين الشرطيّ؟ فقلت له: إنَّما قلت: تريد. لم أقل لك: أجيء به فقال: انظروا أنا أحتال للنّاس منذ كذا وكذا وقد احتال عليَّ هذا الصبيُّ(١) .

أراد الإمام الأعظم بالقصَّة التظاهر بالورع ونصبها فخّا لاصطياد الدَّهماء كقصَّته الاُخرى المحرابيّة الّتي حكاها حفص بن عبد الرّحمن قال: صلّيت خلفه فلمّا صلّى وجلس في المحراب فقال له رجلٌ: أيحلُّ أن تصلّي وفيه تصاوير؟ قال: اُصلّي فيه منذ خمس وأربعين سنة فما علمت انّ فيه تصاوير، ثمَّ أمر بالصّور فطمست. وقال له رجلٌ: ما أحسن سقف هذا المسجد؟ قال: ما رأيته وأنا فيه أكثر من أربعين سنة(٢) .

ولعلّ رأيه في الشّاة ممّا يوقف القارئ على سرِّ عدم دخول آرائه مدينة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال محمّد بن مسلمة المديني وقيل له: إنَّ رأي أبي حنيفة دخل هذه الأمصار كلّها ولم يدخل المدينة. قال: لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: على كلِّ ثقب من أثقابها ملكٌ يمنع الدجّال من دخولها. وكلام هذا من كلام الدجّالين، فمن ثمَّ لم يدخلها(٣) .

وفي فقه أبي حنيفة شذوذٌ تقصر عنها قصَّة الشّاة، قد خالف فيها السنّة الثابتة حتّى قال وكيع بن الجراح(٤) : وجدت أبا حنيفة خالف مائتي حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) غير أنَّ عبد الله بن داود الحريبي المغالي في حبِّ امامه يقول: ينبغي للنّاس

____________________

١ - اخبار الظراف لابن الجوزى ص ١٠٣.

٢ - مناقب ابى حنيفة تأليف الحافظ الكردرى ١: ٢٥١.

٣ - أخبار الظراف لابن الجوزى ص ٣٥.

٤ - ابو سفيان الكوفى الحافظ كان ثقة حافظاً متقناً مأموناً عالياً رفيع القدر كثير الحديث وكان يفتي، توفي سنة مائة وست وتسعين.

٥ - الانتقاء لابن عبد البر صاحب الاستيعاب ص ١٥٠.

١٢٩

أن يدعو في صلاتهم لأبي حنيفة لحفظه الفقه والسنن عليهم(١) .

وقال صاحب [ مفتاح السّعادة ] ٢: ٧٠: سمعت مَن أثق به يروي عن بعض الكتب إنَّ ثابتا - والد ابي حنيفة - توفّي وتزوَّج امّ الامام أبي حنيفة رحمه الله الإمام جعفر الصّادق، وكان أبو حنيفة رحمه الله صغيراً، وتربّى في حجر جعفر الصّادق، وأخذ علومه منه، وهذه إن ثبتت فمنقبةٌ عظيمةٌ لأبي حنيفة.

عقّبه الحسن النعماني في تعليق « المفتاح » فقال: كيف يتّجه انَّ الإمام كان صغيراً و تربّى في حجر الإمام الصّادق لأنَّ جعفر الصّادق توفِّي سنة ثمان وأربعين ومائة عن ثمان وستّين سنة، والإمام أبو حنيفة توفّي سنة خمسين ومائة وولد على قول الأكثر(٢) سنة ثمانين، فتكون سنة ولادتهما واحدة، وبين وفاتيهما سنتان، فثبت انّهما من الأقران لا انَّ الإمام صغيرٌ، والإمام جعفر الصّادق كبيرٌ.

وفي غضون ما الّفه الموفّق بن احمد، والحافظ الكردري في مناقب أبي حنيفة، وما ذكره بعض الحنفيّة في معاجم التراجم لدى ترجمته حرافات وسفاسف جمَّة تُشوّه سمعة الاسلام المقدَّس، ولا يسوّغه العقل والمنطق إن لم يشفعهما الغلوّ في الفضائل، ومن أعجب ما رأيت ما ذكره الإمام أبو الحسين الهمداني في آخر [خزانة المفتين ] من انّ الإمام ابو حنيفة لمـّا حجَّ حجّة الوداع أعطى بسدنة الكعبة مالاً عظيماً حتّى أخلوا له البيت، فدخل وشرع للصَّلاة، وافتتح القرائة كما هو دأبه على رجله اليمنى حتّى قرأ نصف القرآن، ثمَّ ركع، وقام في الثانية على رجله اليسرى حتّى ختم القرآن ثمَّ قال: إلهى عرفتك حقَّ المعرفة لكن ما قمت بكمال الطّاعة، فهب نقصان الخدمة بكمال المعرفة، فنودي من زاوية البيت: عرفت فأحسنت المعرفة، وخدمت فأخلصت الخدمة، غفرنا لك ولمن اتّبعك، ولمن كان على مذهبك إلى قيام السّاعة.(٣)

قال الأميني: ليت شعر أيّ كميّة من الزَّمن استوعبها الإمام حتّى ختم الكتاب العزيز في ركعتيه، وقد أخلي له البيت في يوم من ايّام الموسم والنّاس عندئذ مزدلفون

____________________

١ - تاريخ ابن كثير ١٠: ١٠٧.

٢ - وقال بعض: انه ولد سنة احدى وستين.

٣ - مفتاح السعادة ٢: ٨٢.

١٣٠

حول البيت، يتحرّون التبرّك بالدخول فيه؟! وكيف وسع السّدنة منع اولئك الجماهير عن قصدهم، وكبح رغباتهم الأكيدة طيلة تلك البرهة الطويلة؟!

ثمَّ ما هذا الدؤب من الإمام على قرائة نصف القرآن الاوّل على رجله اليمنى، ونصفه الآخر على رجله اليسرى؟ أهو حكمٌ متَّخذٌ من الكتاب؟ أم سنّةٌ متَّبعةٌ صدع بها النبيُّ الأعظم؟ ام بدعةٌ لم نسمعها من غير الإمام؟ وهل في الألعاب الرياضيَّة المجعولة لحفظ الصّحة والإبقاء على قوَّة البدن ونشاطه مثل ذلك؟ أنا لا أدري.

ثمَّ كيف وسعت الإمام تلك الدّعوى الباهظة العظيمة أمام ربِّ العالمين سبحانه، وهو الواقف على السَّرائر والضَّمائر؟ وما أجرأه على دعوى لم يدّعها نبيّ من الأنبياء حتّى خاتمهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليهم على سعة معرفتهم؟ ولا شكَّ انَّ معرفتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوسع، وقد أغرق فيها نزعاً، ومع ذلك لم يؤثر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقحّم الإمام في مناجات أو دعاء، ولا يصدر مثل هذا إلّا عن إنسان معجب بنفسه، مغترّ بعلمه، غير عارف بالله حقّ المعرفة.

والمغفّل صاحب الرّواية يحسب انَّ الامام ادّعاها في عالم الشّهود فصدَّقه عليها هاتف عالم الغيب، وليس هذا الهتاف المنسوج بيد الاختلاق الأثيمة إلّا دعايةً على الإمام وعلى مذهبه الذي هو أتفه المذاهب الإسلاميَّة فقهاً، ولو كانت الامّة تصدِّق هذه البشارة لمعتنقي ذلك المذهب، ويراها من ربِّ البيت لا من الأساطير المزوّرة لوجب عليها أن يكونوا حنفيّين جمعاء، غير انّ الامَّة لا تصافق على صحَّتها، رضي بذلك الإمام أم لم يرض.

وأعجب من هذا ما ذكره العلّامة البرزنجي قال:

ذهب بعض الحنفيَّة إلى انَّ كلّا من عيسى والمهدي يقلّدان مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وذكره بعض مشايخ الطَّريقة ببلاد الهند في تصنيف له بالفارسيّة شاع في تلك الدِّيار، وكان بعض من يتوسَّم بالعلم من الحنفيّة، ويتصدَّر للتدريس يشهر هذا القول ويفتخر به ويقرِّره في مجلس درسه بالرَّوضة النبويَّة.

وحكى الشّيخ علي القاري عن بعضهم انَّه قال: إعلم أنَّ الله قد خصَّ أبا حنيفة بالشّريعة والكرامة، ومن كراماته: انَّ الخضرعليه‌السلام كان يجيء إليه كلّ يوم وقت الصّبح ويتعلّم منه أحكام الشَّريعة إلى خمس سنين، فلمّا توفّي أبو حنيفة ناجى الخضر ربَّه

١٣١

قال: إلـ~ـهي إن كان لي عندك منزلة فائذن لأبي حنيفة حتى يعلّمني من القبر على حسب عادته حتّى أعلم شرع محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الكمال ليحصل لي الطَّريقة والحقيقة، فنودي: أن اذهب إلى قبره وتعلّم منه ما شئت فجاء الخضر وتعلّم منه ما شاء كذلك إلى خمس وعشرين سنة اُخرى حتّى اتمَّ الدَّلائل والأقاويل، ثمَّ ناجى الخضر ربَّه وقال: يا إلـ~ـهي ماذا أصنع فنودي: أن اذهب إلى صعالك واشتغل بالعبادة إلى أن يأتيك أمري الى أن قال له: اذهب إلى البقعة الفلانيّة وعلّم فلاناً علم الشَّريعة ففعل الخضرعليه‌السلام ما اُمر، ثمَّ بعد مدّة ظهر في مدينة ما وراء النهر شابٌّ وكان اسمه أبا القاسم القشيريّ وكان يخدم امّه ويحترمها إلى أن قال: فأمر الله الخضر أن اذهب إلى القشيريّ وعلّمه ما تعلّمت من أبي حنيفة رضي الله عنه لأنَّه أرضى امّه فجاء الخضر إلى أبي القاسم وقال: أنت أردت السّفر لأجل طلب العلم وقد تركته لرضا امّك وقد أمرني الله تعالى أن أجيء اليك كلَّ يوم على الدَّوام واعلّمك فكلُّ يوم يجيء إليه الخضر حتّى ثلاث سنين و علّمه العلوم الّتي تعلّم من أبي حنيفة في ثلاثين سنة، حتّى علّمه علم الحقايق والدقايق ودلائل العلم وصار مشهور دهره وفريد عصره حتّى صنّف ألف كتاب وصار صاحب كرامة وكثر مريدوه وتلاميذه، فكان له مريدٌ كبير متديِّنٌ لا يفارق الشّيخ فعدَّ له الشّيخ ألف كتاب من مصنّفاته ووضعه في الصّندوق وأعطى لذلك المريد وقال: قد بدا لي أمرٌ فاذهب وارم هذا الصّندوق في جيحون، فحمل المريد الصّندوق وخرج من عند الشيخ وقال في نفسه: كيف أرى مصنّفات الشيخ في الماء؟ لكن أذهب وأحفظ الكتب و أقول للشيخ: رميتها. وحفظ الكتب وجاء وقال للشيخ: رميت الصّندوق في الماء: قال الشّيخ: وما رأيت في تلك الساعة من العلامات؟ قال: ما رأيت شيئاً قال الشيخ: أذهب وارم الصَّندوق. فذهب المريد إلى الصَّندوق وأراد أن يرميه فلم يهن عليه ورجع إلى الشيّخ مثل الأوَّل وقال: رميته؟ قال: نعم قال: وما رأيت؟ قال: لم أر شيئاً. قال الشيخ: ما رميته فاذهب وارمه فإنّ لي فيها سرّاً مع الله ولا تردَّ أمري. فذهب المريد ورمى الصَّندوق فخرج من الماء يدٌ وأخذ الصَّندوق قال المريد له من أنت؟ فنادى في الماء: انّي وكّلت أن احفظ أمانة الشيخ، فرجع المريد وجاء إلى الشيّخ فقال: رميت؟ قال: نعم.

١٣٢

قال: وما رأيت؟ قال: رأيت الماء قد انشقّ وخرج منه يد وأخذ الصّندوق وقد صرت متحيّراً وما السرّ في ذلك؟ قال الشيخ: السرُّ في ذلك انَّه اذا قربت القيامة وخرج الدجّال ونزل عيسى ببيت المقدس فيضع الإنجيل بجنبه ويقول: أين الكتاب المحمديّ؟ أو قد أمرني الله أن أحكم بينكم بكتابه ولا أحكم بالإنجيل فيطلبون الدنيا ويطوفون البلاد فلم يوجد كتابٌ من كتب الشّرع المحمديّ فيتحيّر عيسى ويقول: إلـ~ـهي: بماذا أحكم بين عبادك ولم يوجد غير الإنجيل فينزل جبريل ويقول: قد أمر الله أن تذهب إلى نهر جيحون وتصلّي ركعتين بجنبه وتنادي: يا أمين صندوق أبي القاسم القشيري! سلّم إليَّ الصَّندوق وأنا عيسى بن مريم وقد قتلت الدجّال فيذهب عيسى إلى جيحون ويصلّي ركعتين ويقول مثل ما أمره جبريل، فيشقُّ الماء ويخرج الصّندوق ويأخذه ويفتحه ويجد فيه ختمه والف كتاب فيحيي الشّرع بذلك الكتاب، ثمَّ سأل عيسى جبريل: بِمَ نال أبو القاسم هذه المرتبة؟ فقال: برضاء والدته. نقل من كتاب أنيس الجلساء(١) .

وقد أطنب الشّيخ علي القاري في ردِّ هذه الاسطورة بعدَّة صحائف إلى أن قال في ص ٢٣٠: ثمَّ انَّ مثل هؤلاء لفرط تعصّبهم وعنادهم ليس مطمح نظرهم إلّا تفضيل أبي حنيفة ولو بما لا أصل له، ولو بما يؤدّي إلى الكفر وليس عندهم علمٌ بفضائله الجمَّة الّتي اُلّفت فيها الكتب(٢) فيرضون بالأكاذيب والإفترائات التي لا يرضاها الله ورسوله ولا ابو حنيفة نفسه، ولو سمعها أبو حنيفة رضي الله عنه لأفتى بكفر قائلها وفي فضائل أبي حنيفة المقرَّرة المحرَّرة كفاية لمحبّيه ولا يحتاج في إثبات فضله إلى الأقوال الكاذبة المفتراة المؤدِّية إلى تنقيص الأنبياء، ومن العجائب انّه وقع للقهستاني مع فضله وجلالته شيءٌ من ذلك فقال في شرح خطبة النقابة: انّ عيسى إذا نزل عمل بمذهب أبي حنيفة كما ذكره في الفصول الستّة. وليت شعري ما الفصول الستّة؟ وما الدّليل على هذا القول؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. الخ.

____________________

١ - الاشاعة فى اشراط الساعة تأليف السيد محمد البرزنجى المدنى ٢٢١ - ٢٢٥.

٢ - الكتب المؤلفة فى فضائل أبى حنيفة حوت بين دفتيها لدة هذه الترهات والاكاذيب المزخرفة وما أكثرها؟ ولو لم يكن الباطل الذى لا اصل له مأخوذاً به فيها اذا لم تلق منها باقية.

١٣٣

وفي مفتاح السّعادة ١: ٢٧٥، و ج ٢: ٨٢: إنَّ أبا حنيفة رحمه الله تعالى رأى كأنّه ينبش قبر النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجمع عظامه إلى صدره فهالته الرؤيا فقال إبن سيرين: هذه رؤيا أبي حنيفة فقال: أنا أبو حنيفة فقال إبن سيرين: اكشف عن ظهرك فكشف فرأى خالاً بين كتفيه فقال: أنت الّذي قال عليه الصّلاة والسَّلام: يخرج في امّتي رجلٌ يقال له: أبو حنيفة بين كتفيه خالٌ يحيي الله تعالى ديني على يديه، ثمَّ قال ابن سيرين: لا تخف انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدينة العلم وأنت تصل إليها فكان كما قال.

إقرأ وابك على امّة محمّد المرحومة بأيّ أناس بُليت، وبايِّ خلق منيت؟! ما حيلة الجاهل الغرّ وما ينجيه عن هذه السّخائف والأساطير؟!

_ ٣٤ _

أبو زرعة يجعل الحصاة تبراً

روى الذّهبي في تذكرة الحفّاظ ١: ١٧٤ عن خالد بن الفزر قال: كان حياة بن شريح - أبو زرعة المصري شيخ الدِّيار المصريّة المتوفّى ١٥٨ - من البكّائين: وكان ضيّق الحال جدّاً، فجلست وهو متخلّ يدعو فقلت: لو دعوت أن يوسّع الله عليك فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً فأخذ حصاة فرمى إليَّ بها فإذا هي تبرةٌ ما رأيت أحسن منها. وقال: ما خير في الدنيا إلّا للآخرة، ثمَّ قال: هو أعلم بما يصلح عباده فقلت: وما أصنع بهذا؟ قال: استنفقها. فهبته والله أن أردّه.

_ ٣٥ _

وضوء ابراهيم الخراسانى

ذكر اليافعي في ( رياض الرَّياحين ) عن ابراهيم الخراسانيّ المتوفّى ١٦٣ قال: قال: احتجت يوماً إلى الوضوء فاذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضّة ألين من الخزِّ فاستكت وتوضّأت وتركتها وانصرفت، قال: وبقيت في بعض سياحاتي أيّاماً لم أر فيها أحداً من النّاس ولا طيراً ولا ذا روح، وإذا بشخص لا أدري من أين خرج فقال لي: قل لهذه الشجرة تحمل دنانير. فقلت: احملي دنانير. فلم تحمل، ثمَّ قال لها: احملي وإذا بشماريخ الشَّجرة دنانير معلّقة، فاشتغلت انظر إليها، ثمَّ التفتُّ فلم أر الشّخص وذهبت الدَّنانير من الشّجرة.

١٣٤

قال الأميني: إقرأ وابك على الإسلام وعلى تاريخه، وانظر كيف شوَّهت صفحاته.

_ ٣٦ _

الماجشون يموت ويحيى

أخرج الحافظ يعقوب بن أبي شيبة في ترجمة أبي يوسف يعقوب بن أبي سلمة القرشي الشّهير بالماجشون المتوفّى ١٦٤ بالاسناد عن إبن الماجشون قال: قال عُرج بروح الماجشون فوضعناه على سرير الغسل فدخل غاسلٌ إليه يغسّله فرأى عِرقاً يتحرَّك في أسفل قدمه، فأقبل علينا وقال: أرى عِرقاً يتحرَّك ولا أرى أن اعجل عليه فاعتللنا على النّاس بالأمر الذي رأيناه، وفي الغد جاء النّاس وغدا الغاسل عليه فرأى العِرق على حاله فاعتذرنا إلى النّاس، فمكث ثلاثاً على حاله والناس يتردّدون إليه ليصلّوا عليه ثمَّ استوى جالساً وقال: ايتوني بسويق فاُتي به فشربه فقلنا له: خبِّرنا ما رأيت؟ فقال: نعم عرج بروحي فصعد بي الملك حتّى أتى سماء الدّنيا فاستفتح ففتح له، ثمَّ عرج هكذا في السّموات حتّى انتهى إلى السَّماء السّابعة فقيل له: مَن معك؟ قال: الماجشون.

فقيل له: لم يأن له بعدُ بقي من عمره كذا وكذا سنة، وكذا وكذا شهراً، وكذا وكذا يوماً، وكذا وكذا ساعةً، ثمَّ حبط بي فرأيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعمر بن عبد العزيز بين يديه، فقلت للملك الّذي معي: مَن هذا؟ قال: عمر بن عبد العزيز. قلت: إنَّه لقريبٌ من رسول الله فقال: إنّه عمل بالحقِّ في زمن الجور وأنّهما عملا بالحقِّ في زمن الحقِّ.

وأخرجه إبن عساكر في تاريخ الشّام، وذكره ابن خلكان في تاريخه ٢: ٤٦١، واليافعي في مرآة الجنان ١: ٣٥١، وإبن حجر في تهذيب التهذيب ١١: ٣٨٩، وأبو الفلاح الحنبلي في شذرات الذهب ١: ٢٥٩.

قال الأميني: ما كنت أحسب أن يوجد في الاُمَّة الإسلاميَّة من يتّهم الملك الموكَّل بقبض الأرواح بالجهل بآونة الوفيات، وقد وكلّ به من عند العزيز العليم فقال سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِي وُکِّلَ بِکُمْ ) (١) أو مَن يقذفه بالاستبداد في نزع روح أحد قبل إرادة المولى سبحانه وتعالى وفي الكتاب المنزل قوله:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ

____________________

١ - سورة السجدة: ١١.

١٣٥

مَوْتِهَا ) (١) ( وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) (٢) ( وَ مَا کَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ کِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (٣) ( لاَ إِلٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّکُمْ وَ رَبُّ آبَائِکُمُ الْأَوَّلِينَ ) (٤) ( هُوَ الَّذِي خَلَقَکُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى ) (٥) ( وَ لِکُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (٦) ( مَا تَرَکَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لٰکِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) (٧) ( مَا تَرَکَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لٰکِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) (٨) ( فَيُمْسِکُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) (٩) ( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‌ ) (١٠) ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ کَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ) (١١) .

كما إنّي ما كنت أشعر إمكان حركة جارحة من جوارح الميِّت بعد نزع روحه، فلم أدر بأيِّ صلة بالرّوح المقبوضة كان يتحرَّك العِرق الماجشونيّ خلال ثلاثة أيّام، والي أيّ مركز حسّاس كانت صلة ذلك العِرق النابض

وما كنت أدري انَّ السّموات العُلى لها أبواب مغلّقة يقف عندها ملك الموت في كلِّ عروجه بروح من الأرواح فيستفتح فتفتح له.

وليتني أدري هل هذا السّير البطيء - ثلاثة أيّام - لملك الموت في استصحابه روح الماجشون يخصُّ بالماجشون فحسب أو هو الشأن المطّرد في عامّة الأرواح؟.

نعم كلُّ هذه تسوّغها الدِّعاية إلى السَّلطات الأمويَّة الغاشمة التي كانت تحكم

____________________

١ - سورة الزمر: ٤٢.

٢ - سورة المؤمنون: ٨٠.

٣ - سورة آل عمران: ١٤٥.

٤ - سورة الدخان: ٨.

٥ - سورة الانعام: ٢.

٦ - سورة الاعراف: ٣٤.

٧ - سورة النحل: ٦١.

٨ - سورة فاطر: ٤٥.

٩ - سورة الزمر: ٤٢.

١٠ - سورة نوح: ٤.

١١ - سورة فاطر: ٤٥.

١٣٦

على الاُمَّة في تلكم الأيّام.

_ ٣٧ _

رقعة من الله الى أحمد امام الحنابلة

مرض بشر بن الحارث وعادته آمنة الرّمليّة فبينما هي عنده إذ دخل الإمام أحمد ابن حنبل يعوده كذلك فنظر إلى آمِنة فقال لبشر: فاسألها تدعو لنا فقال لها بشر: ادعي الله لنا، فقالت: أللّهم إنَّ بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النّار فأجرهما يا أرحم الرّاحمين. قال الإمام أحمد رضي الله عنه: فلمّا كان من اللّيل طرحت إلىَّ رقعةٌ من الهواء مكتوبٌ فيها: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم قد فعلنا ذلك ولدينا مزيد.

أخرجه ابن عساكر في تاريخه ٢: ٤٨، وابن الجوزي في صفة الصّفوة ٤: ٢٧٨.

_ ٣٨ _

رسول الياس وملك الى أحمد

ذكر ابن الجوزي في مناقب أحمد ص ١٤٣ بالاسناد عن أبي حفص القاضي قال: قدم على أبي عبد الله أحمد بن حنبل رجلٌ من بحر الهند فقال: إنّي رجلٌ من بحر الهند خرجت اُريد الصِّين فاُصيب مركنٌ فأتاني راكبان على موجة من أمواج البحر فقال لي أحدهما: أتحبُّ أن يخلّصك الله على أن تقرئ أحمد بن حنبل منّا السَّلام؟ قلت: ومن أحمد؟ ومَن أنتما يرحمكما الله؟ قال: أنا إلياس وهذا الملك الموكّل بجزاير البحر، وأحمد بن حنبل بالعراق. قلت: نعم. فنفضني البحر نفضة فإذا أنا بساحل الأبلة فقد جئتك اُبلّغك منهما السّلام.

_ ٣٩ _

النخلة تحمل بقلم أحمد

قال أبو طالب عليّ بن أحمد: دخلت يوماً على أبي عبد الله وهو يملي وأنا أكتب فاندقّ قلمي فأخذ قلمّاً فأعطانيه فجئت بالقلم إلى أبي عليّ الجعفريّ فقلت: هذا قلم أبي عبد الله أعطانيه فقال لغلامه: خذ القلم فضعه في النخلة عسى تحمل. فوضعه فيها فحملت. مختصر طبقات الحنابلة ص ١١.

١٣٧

_ ٤٠ _

تكة سراويل أحمد

قال ابن كثير في تاريخه ١٠: ٣٣٥: يروى أنّه لمـّا اُقيم - أحمد بن حنبل - ليضرب – لمـّا ضربه المعتصم - إنقطعت تكّة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته فحرّك شفتيه فدعا الله فعاد سراويله كما كان، ويروى أنّه قال: يا غياث المستغيثين، يا إله~ العالمين، إن كنت تعلم أنِّي قائمٌ لك بحقّ فلا تهتك لي عورة.

_ ٤١ _

الحريق والغريق وكرامة أحمد

روى ابن الجوزي في مناقب أحمد ص ٢٩٧ باسناده عن فاطمة بنت أحمد قالت: وقع الحريق في أخي صالح وكان قد تزوّج إلى قوم مياسير فحملوا إليه جهازاً شبيهاً بأربعة آلاف دينار فأكلته النّار فجعل صالح يقول: ما غمّني ما ذهب منّي إلّا ثوب لأبي كان يصلّي فيه أتبرّك به واُصلّي فيه قالت: فطفى الحريق ودخلوا فوجدوا الثّوب على سرير قد أكلت النّار ما حواليه والثّوب سليم.

قال ابن الجوزي: قلت: وهكذا بلغني عن قاضي القضاة عليّ بن الحسين الزينبي انّه وقع الحريق في دارهم فاحترق ما فيها إلّا كتاباً كان فيه شيىءٌ بخطّ أحمد.

وقال: قلت: ولمـّا وقع الغرق ببغداد في سنة أربع وخمسين وخمسمأة وغرقت كتبي سلم لي مجلّد فيه ورقتان بخطّ الإمام أحمد.

وقال الذهبي في ذيل العبر عند ذكر ما وقع سنة ٧٢٥، واليافعي في المرآة: ومن الآيات أنّ مقبرة الإمام أحمد بن حنبل غرقت سوى البيت الّذي فيه ضريحه فإنَّ الماء دخل في الدّهليز علوَّ ذراع ووقف بإذن الله وبقيت البواري عليها غبار حول القبر، صحَّ هذا عندنا، وجرَّ السيل أخشاباً كباراً وحيّات غريبة الشَّكل.

مرآت الجنان ٤: ٢٧٣، شذرات الذهب ٦: ٦٦، صلح الإخوان للخالدي ص ٩٨.

قال الأميني: وكفى شاهداً على صدق هذه الكرامة عدم وجود أيّ أثر من ذلك

١٣٨

المرقد المعظّم اليوم، وقد جرفته السُّيول، وعفت رسمه، كأن لم يكن، وغدا حديث أمس الدابر.

_ ٤٢ _

ألله يزور احمد كل عام

روى إبن الجوزي في مناقب أحمد ص ٤٥٤ قال: حدَّثني أبو بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربي وكان شيخاً صالحاً قال: كان قد جاء في بعض السنين مطرٌ كثير جدّاً قبل دخول رمضان بأيّام فنمت ليلة في رمضان فأريت في منامي كأنّي قد جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره فرأيت قبره قد إلتصق بالأرض حتّى بقي بينه وبين الأرض مقدار ساف(١) أو سافين فقلت: إنّما تمّ هذا على قبر الإمام أحمد بن كثرة الغيث فسمعته من القبر وهو يقول: لا بل هذا من هيبة الحقِّ عزَّ وجلّ لأنَّه عزَّ وجلّ قد زارني، فسألته عن سرِّ زيارته إيّاي في كلِّ عام فقال عزَّ وجلَّ: يا أحمد! لأنّك نصرت كلامي فهو ينشر ويتلى في المحاريب. فأقبلت على لحده اُقبّله ثمَّ قلت: يا سيّدي ما السرُّ في انّه لا يقبّل قبر إلّا قبرك؟ فقال لي: يا بُنيَّ ليس هذا كرامة لي، ولكن هذا كرامة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنَّ معي شعرات من شعرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا ومن يحبّني يزورني في شهر رمضان قال ذلك مرَّتين.

مرّت في زيارة إمام الحنابلة أحمد في الجزء الخامس ص ١٧٥ - ١٧٨ لدة هذه من آيات الغلوّ. فراجع ويا حّبذا لو صدقت الأحلام.

_ ٤٣ _

أحمد والملكان النكيران

ذكر إبن الجوزي في مناقب أحمد ص ٤٥٤ عن عبد الله بن أحمد يقول: رأيت أبي في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قلت: جاءك منكرٌ ونكيرٌ؟ قال: نعم، قالا لي: من ربّك؟ قلت: سبحان الله أما تستحيان منّي؟ فقالا لي: يا أبا عبد الله! أعذرنا بهذا اُمرنا.

قال الأميني: ما أجرأ الإمام على الملكين الكريمين في ذلك المأزق الحرج؟

____________________

١ - الساف والسافة: الصف من الطين أو اللين ج آسف وسافات.

١٣٩

وما أجهله بالنّاموس المطّرد من سؤال القبر وانّه بأمر من الله العليِّ العزيز؟ حتى جابه الملكين بذلك القول الخشن، ما أحمد وما خطره؟ وقد جاء في الرِّواية: انَّ عمر ارتعد منهما لمـّا دخلا عليه(١) وكان عمر بمحلّ من المهابة على حدِّ قول عكرمة: انَّه دعا حجّاماً فتنحنح عمرو كان مهيباً فأحدث الحجّام، فأعطاه عمر أربعين درهماً(٢) .

وعلى الملكين أن يشكرا الله سبحانه على أن كفَّ الإمام عن أن يصفعهما فيفقأ عينهما كما فعل موسى بملك الموت في مزعمة أبي هريرة(٣) فرجع إلى ربّه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فردَّ الله إليه عينه. كما في سنن النسائي ٤: ١١٨.

وفي لفظ الطبري في تاريخه ١: ٢٢٤: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انَّ ملك الموت كان يأتي الناس عياناً حتّى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه قال: فرجع فقال: يا ربّ! إنَّ عبدك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لشققت عليه. فقال: ائت عبدي موسى فقل له: فليضع كفّه على متن ثور فله بكلِّ شعرة وارت يده سنة، وخيّره بين ذلك وبين أن يموت الآن. قال: فأتاه فخيّره فقال له موسى: فما بعد ذلك؟ قال: الموت. قال: فالآن إذاً. قال: فشمَّه شمة قبض روحه، قال: فجاء بعد ذلك إلى النّاس خفيّا.

وأخرج الحكيم الترمذي مرفوعاً: انَّ ملك الموت كان يأتي الناس عياناً حتّى جاء موسى فلطمه ففقأ عينه فصار يأتي النّاس بعد ذلك خفية. ذكره الشعراني في مختصر تذكرة القرطبي ص ٢٩.

____________________

١ - قال السيد الجردانى فى مصباح الظلام ج ٢ ص ٥٦: ان الله تعالى أعطى عليّاً علم البرزخ فلمّا مات عمر بن الخطاب رضى الله عنه جلس علي علىّ قبره ليسمع قوله للملكين، فلمّا دخلا عليه ارتعد منهما ثمّ اجاب فقالا له: نم. فقال: كيف أنام وقد أصابني منكما هذه الرعدة؟ وقد صحبت النبيّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم ولكن اشهد عليكما الله وملائكته ان لا تدخلا على مؤمن إلّا في أحسن صورة ففعلا. فقال له على بن ابى طالب: نم يا ابن الخطاب! فجزاك الله من المسلمين خيرا لقد نفعت الناس في حياتك ومماتك. اقرأ واضحك.

٢ - طبقات ابن سعد ٣: ٢٠٦، تاريخ بغداد ١٤: ٢١٥، تاريخ عمر لابن الجوزى ص ٩٩، كنز العمال ٦: ٣٣١.

٣ - راجع صحيح البخارى ١: ١٥٨ فى ابواب الجنائز، و ج ٢: ١٦٣ باب وفاة موسى، صحيح مسلم ٢: ٣٠٩ باب فضائل موسى، مسند احمد ١: ٣١٥، العرائس للثعلبي ص ١٣٩.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

فلما رأتهم في القيود غداً لهم

يقول بإلحاظ الشماتة ران

ويندب أشياخاً ببدر مغرداً

بترجيع ألحان ورشف دنان

ويقرع سنا فاضلا كان قبل ذا

يقبله من أحمد الشفتان

على ظالم الأطهار من آل أحمد

أشد نكال في غد ولعان

بني صفوة الجبار عيناي كلما

ذكرتم لهم بالدمع تبتدران

وإني من حزن على فوت نصركم

لأقرع سني حسرة ببناني

ولكنه إن أخر العصر عنكم

ففات سناني لا يفوت لساني

وأنتم موالي الذي اقتدى بهم

فلا فلان اقتدى وفلان

ولي موبقات من ذنوب أخافها

إذا ما إلهي للحساب دعاني

وما قيل يوم الحشر يؤتى بشافع

لناج ولكن الشفيع لجاني

على أنني راج سماحة منعم

لقصدكم قبل السؤال هداني

وما أنا من عفو الإله بقانط

ولكنه ذو رحمة وحنان

وكيف وقد ابدعت إذ قمت خاطباً

لكم في معاني حسنكم بمعاني

ولن يخش يوماً من عذاب مغامس

إذا كنتم مما أخاف أماني

عليكم سلام الله ما در شارق

وما قام داعي فرضه لأذان

الباب الثّاني

أيّها الإخوان والأصحاب , إذا عرفتم أنّ الحزن على هذا المصاب مما يزيد في الأجر والثّواب , فلِمَ لا تحزنون على ما حلّ بسادات النّاس من اللئام الكفرة الأرجاس ؟ أزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها , وهذه القضية أصل كلّ بلية إن كنت تعيها, ثمّ لم يكفهم ذلك حتّى منعوهم من الأخماس التي عوّضهم الله تعالى بها عن أوساخ النّاس , فقالوا : هذه للمُسلمين كافّة.فحرّموها عليهم ومنعوها من الوصول إليهم ، ثمّ ارتقوا إلى أبلغ من ذلك , فقالوا لفاطمة (عليها‌السلام ) : فدك لنا لا لك.فانتزعوا منها بلغتها وبلغة بعلها وبنيها ، ثمّ ارتقوا على ذلك , فمنعوها إرثها من أبيها , فلمّا رأى أهل الشّقاق والنّفاق ما فعل بهم الصّدر الأوّل الذي على زعمهم عليه المعوّل , وكان في صدورهم الغل الكامن الدّفين ؛ من أجل بغضهم لأمير المؤمنين, لا جرم انتهزوا فيهم الفرص فجرّعوهم الغصص.

فواعجباً من

٣٢١

الأوائل والأواخر وظلمهم الزّائد وعقلهم القاصر ! فيا حرقي تزايدي على ما حلّ بساداتي ! ويا جفوني سحّي دموعاً على أصول ديني وأهل هداتي ! :

مضينا إلى الأرض التي تسكنونها

أقبل ترب الأرض في كلّ منزل

وحزناً على ما قد لقيتم من الظمأ

اغص بشرب الماء في كلّ منهل

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) .

حُكي : أنّه لمـّا قُتل الحُسين وأراد القوم وطأه بالخيل , قالت فضّة لزينب : يا سيدتي , إنّ سفينه صاحب رسول الله كان بمركب , فضربته الرّيح فتكسّر , فسبّح فقذفه البحر إلى جزيرة , وإذا هو بأسد , فدنا منه فخشي سفينه أن يأكله , فقال له : يا أبا حارث , أنا مولى لرسول الله .فهمهم بين يديه مشيراً له برأسه , ومشى قدّامه حتّى أوقفه على طريق فركبه ونجا سالماً , وأرى أسداً خلف مخيّمنا , فدعيني أذهب إليه وأخبره بما هُم صانعون غداً بسيّدي الحُسين .فقالت : شأنك .قالت فضة : فمضيت إليه حتّى قربت منه وقلت : يا أسد , أتدري ما يريدون صنعه غداة غد بنو اُميّة بأبي عبد الله ؟ يريدون يوطئون الخيل ظهره .قال : نعم .فقام الأسد ولم يزل يمشي وأنا خلفه حتّى وقف على جثّة الحُسين (عليه‌السلام ) , فوضع يديه عليه , وجعل يمرّغ وجهه بدم الحُسين ويبكي إلى الصّباح , فلمّا أصبح بنو اُميّة , أقبلت الخيل يقدمهم ابن الأخنس لعنه الله تعالى ، فلمّا نظروه , صاح بهم ابن سعد إنّها لفتنة لا تثيروها , فرجعوا عليهم لعائن الله تعالى ، وهو من بعض فضائلهم عليهم رحمة الله.

حُكي عن رجل أسدي , قال : كنت زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني اُميّة , فرأيت عجائب لا أقدر أحكي إلّا بعضها ، منها : أنّه إذا هبّت الرّيح , تمرّ عليّ نفحات كنفحات المسك والعنبر ، وإذا سكنت , أرى ما تنزل من السّماء إلى الأرض ويرقى من الأرض إلى السّماء مثلها ، وأنا مفرد مع عيالي ولا أرى أحداً أسأله عن ذلك ، وعند غروب الشّمس , يقبل أسد من القبلة فأولّي عنه إلى منزلي ، فإذا أصبح الصّباح وطلعت الشّمس وذهبت من منزلي , أراه مستقبل القبلة ذاهباً ، فقلت في نفسي , إنّ هؤلاء خوارج قد خرجوا على عُبيد الله بن زياد فأمر بقتلهم ، وأرى منهم ما لم أره من سائر القتلى ، فوالله , هذه الليلة لأبدأ من المساهرة لأبصر هذا الأسد يأكل من هذه الجثث أم لا .فلمّا صار غروب

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

٣٢٢

الشّمس , وإذا به أقبل فحقّقته وإذا هو هائل المنظر , فارتعدت منه وخطر ببالي , إن كان مراده لحوم بني آدم , فهو يقصدني , وأنا أحاكي بهذا فمثلته , وهو يتخطّى القتلى حتّى وقف على جسد كأنّه الشّمس إذا طلعت , فبرك عليه ، فقلت : يأكل منه؟ وإذا به يمرّغ وجهه عليه وهو يهمهم ويدمدم ، فقلت : الله أكبر ما هذا إلّا أعجوبة .فجعلت أحرسه حتّى اعتكر الظّلام , وإذا بشموع مُعلّقة ملأت الأرض ، وإذا ببكاء ونحيب ولطم مفجع ، فقصدت تلك الأصوات , فإذا هي تحت الأرض ، ففهمت من ناع فيهم يقول : وا حسيناه ! وا إماماه ! فاقشعرّ جلدي , فقربت من الباكي وأقسمت عليه بالله وبرسوله : مَن تكون ؟ فقال : إنّا نساء من الجن .فقلت : وما شأنكن ؟ فقلنّ : في كلّ يوم وليلة هذا عزاؤنا على الحُسين الذّبيح العطشان .فقلت : هذا الحُسين الذي يجلس عنده الأسد ؟ قلنّ : نعم , أتعرف هذا الأسد ؟ قلت : لا .قلنّ : هذا أبوه عليّ بن أبي طالب.فرجعت ودموعي تجري على خدّي :

سلوا سيوف مُحمّد بمحمد

ففزوا بها هامات آل محمد

فكأن عترة أحمد اعداؤه

وكأنما الأعداء عترة أحمد

فاكثروا رحمكم الله الأحزان ، واظهروا شعائر الأشجان ، فإنّه رزء عظيم ومصاب جسيم ، تتزلزل منه الأطواد ، وتتفتت منه الأكباد.

حُكي : أنّه لمـّا فرغ عمر بن سعد من حرب الحُسين , واُدخلت الرؤوس والأسارى إلى عُبيد الله بن زياد لعنه الله تعالى , جاء عمر بن سعد لعنه الله ودخل على عُبيد الله بن زياد ؛ يريد منه أن يمكّنه من ملك الرّي ، فقال له ابن زياد : آتني بكتابي الذي كتبته لك في معنى قتل الحُسين وملك الرّي .فقال له عمر بن سعد : والله إنّه قد ضاع منّي ولا أعلم أين هو .فقال له ابن زياد : لا بدّ أن تجئني به في هذا اليوم , وإن لم تأتني به , فليس لك عندي جائزة أبداً ؛ لأنّي كنت أراك مستحياً معتذراً في أيّام الحرب من عجائز قُريش ، ألست أنت القائل :

فوالله ما أدري وإني لصادق

أفكر في أمري على خطرين

أأترك ملك الري والري منيتي

أم أرجع مأثوماً بقتل حسين

٣٢٣

؟ وهذا كلام معتذر مستح متردد في رأيه .فقال عمر بن سعد : والله يا أمير , لقد نصحتك في حرب الحُسين نصيحة صادقة , لو ندبني إليها أبي سعد , لما كنت أدّيت حقّه كما أدّيت حقّك في حرب الحُسين .فقال له عبيد الله بن زياد : كذبت يا لكع.فقال عثمان بن زياد - أخو عبيد الله بن زياد - : والله يا أخي , لقد صدق عمر بن سعد في مقالته , وإنّي لوددت أنّه ليس من بني زياد رجل إلّا وفي أنفه خزمة إلى يوم القيامة , وأنّ حُسيناً لم يُقتل أبداً.

فقال عمر بن سعد : فوالله يابن زياد , ما رجع أحد من قتلة الحُسين بشرّ ممّا رجعت به أنا .فقال له : وكيف ذلك ؟ فقال: لأنّي عصيت الله وأطعت عبيد الله , وخذلت الحُسين بن رسول الله ونصرت أعداء الله , وبعد ذلك , إنّي قطعت رحمي ووصلت خصمي وخالفت ربّي ، فيا عظم ذنبي ويا طول كربي في الدُنيا والآخرة .ثمّ نهض من مجلسه مغضباً مغموماً ، وهو يقول : و( ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (١) .

قال أبو السّدي : والله إنّي لأعجب ممّن يسعى في قتل أئمته , وهو يعلم أنّهم منتقمون منه في آخرته ، فهذا عاقبة أمره في حكومة الرّي وقد خسرها.

وأمّا هو نفسه , فحكي عن الهيثم بن الأسود ، قال : كنت جالساً عند المختار بالكوفة , فابتدأ يقول لجلسائه : والله , لأقتلنّ رجلاً عريض القدمين غائر العينين مرفوع الحاجبين عدو الحسن والحُسين ، وقتله يرضى فيه ربّ العالمين ، ويرضي عليّاً أمير المؤمنين وفاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين .قال الهيثم : فلمّا سمعت كلام المختار , علمت أنّه يريد بهذه الأوصاف قتل عمر بن سعد.

قال : فلمّا نهض الهيثم من مجلسه , مشى إلى عمر بن سعد وعرّفه بمقالة المختار ، قال : وكان عبد الله بن جعد أعزّ النّاس عند المختار ؛ لأنّه رئيس قومه ، فجاء إلى المختار وتشفّع في عمر بن سعد , وأخذ له كتاب أمان من المختار يقول فيه : أمّا بعد , إنّك يا عمر بن سعد , آمن بأمان الله ورسوله على نفسك وأهلك وولدك ومالك , ولا تؤاخذ بذنب كان منك قديماً ، فمن لقي عمر بن سعد من شرطة الأمير , فلا يعرض له إلى سبيل الخير .فلمّا وصل الكتاب إلى عمر بن سعد , طاب قلبه ، وظهر بعدما كان مختفياً ، وصار يحضر في مجلس المختار في كلّ أسبوع مرّة ، والمختار يكرمه ويدنيه ويجلسه معه على سريره ، كلّ هذا وعمر بن سعد يحسّ قلبه بالشّر , ويظنّ أنّ المختار يقتله لا محالة ، فعزم على الخروج ليلاً من الكوفة ,

____________________

(١) سورة الحج / ١١.

٣٢٤

فعلم المختار بخروجه من لكوفة ، فقال : الله أكبر وفيناه وغدر ، واعطيناه ومكر والله خير الماكرين ، ولكن والله في عنقه سلسلة, لو جهد عمر بن سعد أن يفلّها لما استطاع أبداً حتّى اقتله إن شاء الله تعالى عن قريب.

قال : فبينما عمر بن سعد سائر في الطّريق بالليل , فنام على ظهر النّاقة , فرجعت النّاقة به إلى الكوفة وقت الصّبح , فلم يشعر إلّا وهو على باب داره , فنوخ ناقته ودخل داره واستسلم للقتل , فلمّا أصبح عمر بن سعد , دعا بابنه حفص وقال له : امض إلى المختار وانظر هل علم بخروجي أم لا ، واكشف لي عن سريرته.

قال : فجاء حفص إلى المختار وسلّم عليه , وقال له : أيّها الأمير , أبي يقرؤك السّلام ويقول لك اتفي لنا بالأمان أم لا ؟ فقال له : وأين أبوك ؟ فقال : ها هو في داره .فقال له : أليس أبوك قد هرب البارحة وكان يريد الشّام ؟ فقال : معاذ الله , إنّ أبي في داره لم يتغيّب أبداً .فقال : كذبت وكذب أبوك , اجلس هُنا حتّى يأتي أبوك .ثمّ إنّ المختار استدعى رجلاً من جلاوزته، وقال له : انطلق إلى عمر بن سعد وآتني برأسه .فمضى مسرعاً , فما لبث هنيئة إذ جاء وبيده رأس عمر بن سعد , فألقاه في حجر ابنه ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون .فقال له المختار : يا حفص , أتعرف صاحب هذا الرأس ؟ قال : نعم , هذا رأس أبي ولا خير الله في الحياة بعده .فقال المختار : وإنّي لا أبقيك بعده .ثمّ أمر بقتله في الحال لا رضي‌ الله ‌عنهما .ووضع الرّأسان بين يديه، فسرّ بهما سروراً عظيماً ، فقال بعض من حضر : أيّها الأمير رأس عمر بن سعد برأس الحُسين ، ورأس حفص برأس عليّ بن الحُسين .فقال له المختار : صه يا لكع الرّجال , يا ويلك ! أتقيس رأس عمر بن سعد برأس الحُسين , ورأس حفص برأس عليّ بن الحُسين ؟! فوالله , لو قتلت ثلاثة أرباع أهل الأرض , ما وفوا بأنملة من أنامل الحُسين.

قال : وكان مُحمّد بن الحنفيّة بمكّة يجلس مع أصحابه ويذمّ المختار ويعتب عليه ؛ لمجالسته مع عمر بن سعد على سريره وتأخيره قتله ، قال : فحمل الرأسان إليه إلى مكّة ، قال : فبينما مُحمّد بن الحنفيّة جالس , فنظر الرأسان بين يديه , فخرّ لله ساجداً شاكراً ، ثمّ رفع يديه يدعو للمختار بالخير , ويقول : اللّهمّ , لا تنس المختار من رحمتك .اللّهمّ , أجزه عنّا أهل بيت نبيّك خير الجزاء.

٣٢٥

وعن ابن مسعود , قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله في مسجده , إذ دخل علينا فتية من قُريش ومعهم عمر بن سعد لعنه الله , فتغيّر لون رسول الله , فقلنا له : يا رسول الله , ما شأنك ؟ فقال : (( إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدُنيا, وإنّي ذكرت ما يلقى أهل بيتي من اُمّتي من بعدي من ؛ قتل وضرب وشتم وسبّ وتطريد وتشريد , وإنّ أهل بيتي سيشرّدون ويطردون ويقتلون ، وإنّ أوّل رأس يُحمل على رمح في الإسلام رأس ولدي الحُسين , أخبرني بذلك أخي جبرائيل عن الرّبّ الجليل )) .وكان الحُسين حاضراً عند جدّه في ذلك الوقت ، فقال : (( يا جدّاه , فمَن يقتلني من اُمّتك ؟ )) .فقال : (( يقتلك شرار النّاس )) .وأشار النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى عمر بن سعد لعنه الله , فصار أصحاب رسول الله إذا رأوا عمر بن سعد داخلاً من باب المسجد , يقولون : هذا قاتل الحُسين (عليه‌السلام ) .قال : وجعل عمر بن سعد كلّما لقي الحُسين يقول : يا أبا عبد الله , إنّ في قومنا اُناساً سفهاء يزعمون إنّي أقتلك .فيقول له الحُسين (عليه‌السلام ) : (( والله إنّهم ليسوا سفهاء , ولكنّهم اُناس حُلماء ، أما إنّه ستقرّ عيني حيث لا تأكل من برّ الرّي من بعد قتلي إلّا قليلاً ، ثمّ تُقتل من بعدي عاجلاً )).

وكان الباقر (عليه‌السلام ) يقول : (( إنّ قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا ، وقاتل الحُسين ولد زنا , ولم تمطر السّماء دماً إلّا يوم قتلهما , ولم يحمر الاُفق إلّا في قتلهما ، وإنّ هذه الحمرة التي تظهر في السّماء لم تر قبل قتل الحُسين ولا رؤيت بعد قتله )).

قال الرّاوي : فلمّا نزل الحُسين يوم الطّف في أرض كربلاء , أوّل من حال بينه وبين ماء الفُرات عمر بن سعد لعنه الله تعالى, فاشتدّ العطش بالحُسين وأطفاله وأهل بيته (عليهم‌السلام ) ، فقام رجل من أصحاب الحُسين قال : يابن رسول الله , أتأذن لي أن أمضي إلى ابن سعد فاكلمه في أمر الماء , وأعرّفه بعطش الحرم والأطفال ؛ فعساه يرتدع عن القتال ؟ فقال (عليه‌السلام ) : (( ذلك إليك , افعل ما شئت )).

قال : فجاء الهمداني ووبّخه بكلام - قد مرّ ذكره سابقاً - , فكان من عذره أن قال : يا أخا همدان , والله إنّي أعرف النّاس بحقّ الحُسين وحرمته عند رسول الله , ولكنّي حائر في أمري ما أدري كيف أصنع , وفي هذا الوقت كنت اتفكّر في أمري بين ترك ملك الرّي وقتل الحُسين .ثمّ قال : نفسي لأمّارة بالسّوء ما تحسن لي ترك مُلك الرّي ، وإنّي إذا قتلت حُسيناً أكون أميراً على سبعين ألف فارس.

قال : فنهض

٣٢٦

من عنده مكسور القلب ورجع إلى الحُسين (عليه‌السلام ) , وقال : يا مولاي , إنّ القوم استحوذ عليهم الشّيطان , وإنّ عمر بن سعد قد عزم على قتلك وقتل أصحابك وأهل بيتك , ورضي بدخول النّار بولاية الرّي :( ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (١) .

فيا إخواني , كيف لا يبكيهم مَن يزعم أنّ له بهم الاتصال حتّى تنقطع منه عليهم الأوصال ؟ وكيف لا يتحمّل الحزن عليهم في هذا الحال وفي كلّ حال حتّى المآل ؟ فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون ، وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ نعمان (رحمه ‌الله تعالى )

جزع بكى وأخو الصبابة يجزع

وجرت بوادر دمعه تندفع

صب إذا هل المحرم هاجه

وجد تفيض العين منه وتدمع

وجوى لمـّا نال الحُسين وآله

نيرانه بين الأضالع تسفع

في كربلاء في كربها وبلائها

لـمّا استجابوا حوله وتجمعوا

واتوه بالبيض الصوارم والقنا

والخيل مسرجة تعد وتمنع

بغياً وعدواً لم يخافوا حاكماً

عدلاً يرى ما يفعلون ويسمع

من بعدما كتبوا إليه خديعة

منهم وهم من كل قوم أجدع

حتى إذا ما جاءهم متحملاً

خدعوا به وكأنهم لم يسمعوا

بالأمس ما قال النّبي مُحمّد

فيه وما أوصاهم بل ضيعوا

وحموه عن ماء الفرات وقد شكا

ظمأ ولم يخشوا ولما يفزعوا

ويل لهم باعوا الهداية بالعمى

وترددوا في غيهم وتسلعوا

والله ما عاد بأعظم حرمة

منهم ولا فعلت ثمود وتبع

قوم كفعلهم الشنيع وما أتوا

بل فعلهم من كل فعل أشنع

ناداهم لمـّا به حفوا معاً

زمراً ولم يك من لقاهم يجزع

يا شر خلق الله ما من مسلم

منكم له دين يكف ويردع

حرم النّبي تموت من حر الظمأ

والوحش في ماء الشريعة يترع

____________________

(١) سورة الحج / ١١.

٣٢٧

ألكم طلائب عندنا تبغونها

اُمّ ما عرفتم ويلكم ما تصنعوا

انفذتم كتباً إلي فجئتكم

فالآن إذ خنتم دعوني ارجع

قالوا له هيهات بل لاميرنا

تعطى القياد وتستكين وتخضع

أو بالسيوف المرهفات وبالقنا

نوليكم طعناً وضرباً يفظع

فهناك جرد سيفه لقتالهم

وهو الشجاع اللوذعي السلفع

في فتية بذلوا نفوسهم معاً

من دون مهجته إلى أن صرعوا

من حوله فوق التراب كأنهم

أقمار أدحية ضياها يلمع

وبقي حبيب مُحمّد بين العدا

فردا يذب عن الحريم ويمنع

كالليث منصلتاً إلى أن غاله

سهم المنون فخر وهو الموجع

عن سرجه يرنو إلى فسطاطه

والعين منه تستهل وتدمع

أسفي على النسوان في ذل السبا

إذ لم يعد أحد هنالك يسمع

ومضى الجواد إلى الخيام محمحماً

ينعي الحُسين ودمعه يتدفع

فسمعن رنته النساء فقلن قد

وقع الذي كنا له نتوقع

فخرجن من فسطاطهن صوارخا

جزعاً صراخاً للصخور يصدع

وأتينه والشمر جاث فوقه

بحسامه للرأس منه يقطع

فرقى الحُسين وقلن ويلك يا عدو

الله ماذا بالمطهر تصنع

هذا جزاء مُحمّد في آله

منكم لفعلك يا أمية اشنع

فاحتز رأس السبط يا لك لوعة

لم يبق للإسلام شمل يجمع

فاهتز عرش الله جل وسبحت

أملاكه وبكوا أسى وتفجعوا

وهوت نجوم عند ذاك من السما

وبكت دما بعض لبعض تتبع

والأرض مادت والجبال تزعزعت

والجو مسود هنالك اسفع

والطير في جو السّماء بكت له

أسفاً وا عرضت الوحوش الرتع

عن وعيها جزعاً عليه ولم يزل

للجن نوح في الأماكن يسمع

وعلى سنان الرمح شالوا رأسه

كالبدر يزهو نوره ويشعشع

وجرت خيولهم على جثمانه

حتّى تحطم صدره والأضلع

وتناهبوا رحل الحُسين وسلبوا

نسوانه باخبث ما قد صنعوا

٣٢٨

يا عين أبكي للحسين وأهله

بدم إذا ما قل منك المدمع

ابكي غريب مُحمّد وجيبه

فمصابه مما سواه أفظع

ابكي عليه مفرداً بين العدا

والبيض فيه والأسنة تشرع

ابكي عليه ورأسه في ذابل

والجسم منه بالسيوف مبضع

ابكي له ملقى بلا غسل ولا

كفن ولا نعش هناك يشيع

ابكي لنسوان الحُسين حواسراً

في البيد ما فيهن من يتقنع

ابكي لهن يسقن بعد صيانة

قسراً وهن إذاً عطاشى جوع

ابكي على السجاد وهو مقيد

بالقيد مكتوف اليدين مكنع

ابكي لزينب إذ تقول لاختها

لـمّا تنادوا للرحيل وازمعوا

يا أخت قد عزوا عليّ ترحالهم

قومي إلى جسد الحُسين نودع

قومي إليه فما لنا من نظرة

منه سوى هذي العشية نطمع

يا أخت هذا اليوم آخر عهدنا

لا يوم فيه بعده نتجمع

هذا بآل مُحمّد فعل العدى

أفبعده لهم نحب ونتبع

بل منهم نبرأ ونلعنهم معاً

لعناً يدوم مجدداً لا يقطع

فالأولان هما لهذا أسساً

والآخرون بنوا عليه ورفعوا

والله لو لا نكث عهد الـمُصطفى

يوم الغدير وظلم حيدر فاسمعوا

ما استنهضت آل النّبي أمية

كلا ولا لخلافة يوم دعوا

لا زال لعن الله يغشاهم ومن

يرضى بفعلهم الشنيع ويقنع

وعلى بني الزّهراء صلّى ربهم

ما دام صبح خلف ليل يصدع

يا آل بيت مُحمّد إنّي لكم

يوم القيامة في السلام أطمع

أنا عبدكم نعمان حبكم معاً

ذخري إذا ظم الأنام المضجع

واليتكم لأكون تحت ولائكم

وغدا إذا فرغ الورى لا أفزع

وإذا منعتم حين يشتد الظمأ

أعداءكم من حوضكم لا امنع

مني السلام عليكم ما غردت

ورقاء نهتف في الغصون وتسجع

الباب الثّالث

أيّها المؤمنون النّاصحون والاخلاء الصّالحون ، عجّوا بالبكاء والعويل ،

٣٢٩

واندبوا أهل الإيمان والتّنزيل ، ويا أهل الأمانة والطّاعة , ساعدوا أهل الكرامة والشّفاعة ، أو لم تسمعوا يا ذوي العقول بمصيبة آل الرّسول ؟! فواعجباه من هذه المصائب التي تسكب العبرات ! ويا تعجباه ممّن لا يساوي مواليه في النّكبات ! فكيف يدّعي المحبّة مَن لا ينوح على أولاد الرّسول وثمرة فؤاد البتول ؟ فهل تحسن المراثي والنّدب إلّا على المقتولين من غير سبب ؟!

فيا وقعة ما أمرّها ! ويا قتلة ما أحرّها ! منعوهم من الماء المباح وسقوهم السّيوف والرّماح ، فليت شعري ما كان السّبب لذلك حتّى أوردوهم تلك المهالك , مشرّدين عن البلاد مفجوعين في الأهل والأولاد ؟ فمنهنّ من تخمش وجهها بيديها ، ومنهنّ من ينزع قرطيها من أذنيها.

فيا لها من مصيبة في الأنام تضعضعت لها سائر بلاد الإسلام ! فنحتسب أجرها عند الله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

نُقل عن اُمّ سلمة , قالت : كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ذات يوم معي , فبينما هو راقد على الفراش ، جاعل رجله اليمنى على اليسرى وهو على قفاه , وإذا بالحُسين (عليه‌السلام ) - وهو ابن ثلاث سنين وأشهر - أتى إليه , فلمّا رآه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , قال : (( مرحباً بقرّة عيني مرحباً بثمرة فؤادي )) .ولم يزل يمشي حتّى ركب على صدر جدّه فأبطأ ، فخشيت أنّ النّبي تعب فأحببت أنحيه عنه ، فقال : (( دعيه يا اُمّ سلمة , متى أراد الانحدار ينحدر ، واعلمي مَن آذى منه شعرة فقد آذاني )) .قالت : فتركته ومضيت فما رجعت إلّا ورسول الله يبكي , فعجبت من بعد الضّحك والفرح ، فقربت منه وقلت : يا سيّدي , ما يبكيك لا أبكى الله عينك ؟ وهو ينظر لشيء بيده ويبكي ، قال : (( ما تنظرين ؟ )) .فنظرت وإذا بيده تربة , فقلت : ما هي ؟ قال : (( أتاني بها جبرائيل هذه السّاعة ، وقال لي : يا رسول الله , هذه طينة من أرض كربلاء , وهي طينة ولدك الحُسين وتربته التي يُدفن فيها، فصيّريها عندك في قاروره , فإذا رأيتها قد صارت دماً عبيطاً ، فاعلمي أنّ ولدي الحُسين قد قُتل , وسيصير ذلك من بعدي وبعد أبيه واُمّه وجدّته وأخيه )).

قالت : فبكيت وأخذتها من يده وائتمرت بما أمرني , وإذا لها رائحة كأنّها المسك الأذفر ، فما مضت الأيّام والسّنون إلّا وقد سافر الحُسين إلى أرض كربلاء ، فحسّ قلبي بالشّر وصرت كلّ يوم اتجسس القارورة , فبينما أنا كذلك وإذا بالقارورة انقلبت دماً عبيطاً , فعلمت أنّ الحُسين قد

٣٣٠

قُتل ، فجعلت أنوح وأبكي يومي كلّه إلى الليل , ولم اتهنّ بطعام ولا منام إلى طائفة من الليل ، فأخذني النّعاس , وإذا أنا بالطّيف برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مُقبل وعلى رأسه ولحيته دم كثير , فجعلت انفضه بكمّي وأقول : نفسي لنفسك الفداء ! متى أهملت نفسك هكذا يا رسول الله ؟! من أين لك هذا التّراب ؟ قال : (( هذه السّاعة فرغت من دفن ولدي الحُسين )).

قالت اُمّ سلمة : فانتبهت مرعوبة لم أملك على نفسي , فصحت : وا حسيناه ! وا ولداه ! وا مهجة قلباه ! حتّى علا نحيبي, فأقبلت إليّ نساء الهاشميات وغيرهن , وقلنّ : ما الخبر يا اُمّ المؤمنين ؟! فحكيت لهنّ بالقصة فعلا الصّراخ وقام النّياح ، وصار كأنّه حين ممات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وسعين إلى قبره مشقوقة الجيب ومكشوفة الرّأس , فصحن : يا رسول الله قُتل الحُسين ! .فو الله الذي لا إله إلّا هو ، فقد حسسنا كأنّ القبر يموج بصاحبه حتّى تحرّكت الأرض من تحتنا , فخشينا أنّها تسيخ بنا , فانحرفنا بين مشقوقة الجيب ومنشورة الشّعر وباكية العين.

فيا إخواني , مصابهم هو الذي أحرمنا الهجوع وأسكب من أعيننا سحائب الدّموع , وقلّل صبرنا وأذهل فكرنا , وهدّ منّا الأركان وأسلمنا الذّل والهوان , فالحكم لله ولا حول ولا قوة إلّا بالله :

غريبون عن أوطانهم وديارهم

تنوح عليهم في البراري وحوشها

وكيف ولا تبكي العيون لمعشر

سيوف الأعادي في العلاء تنوشها

بدور تواري نورها فتغيرت

محاسنها ترب الفلا نعوشها

وروي : أنّ المتوكل من خلفاء بني العبّاس ، كان كثير العداوة شديد البغض لأهل بيت الرّسول ، وهو الذي أمر الحارثين بحرث قبر الحُسين (عليه‌السلام ) , وأن يجروا عليه الماء من نهر العلقمي ، بحيث لا يبقى له أثر ولا أحد يقف له على خبر ، وتوعّد النّاس بالقتل لِمَن زار قبره , وجعل رصداً من أجناده وأوصاهم : كلّ مَن وجدتموه يريد زيارة الحُسين فاقتلوه ؛ يريد بذلك إطفاء نور الله وإخفاء آثار ذرّيّة رسول الله , فبلغ الخبر إلى رجل من أهل الخير يُقال له زيد المجنون , ولكنّه ذو عقل شديد ورأي رشيد، وإنّما لُقّب بالمجنون ؛ لأنّه أفحم كلّ لبيب ، وقطع حجّة كلّ أديب ، وكان لا يعبأ من الجواب ولا يملّ من الخطاب ، فسمع بخراب قبر الحُسين وحرث مكانه , فعظم ذلك عليه واشتدّ حزنه وتجدد مصابه

٣٣١

بسيده الحُسين (عليه‌السلام ) , وكان يومئذ بمصر , فلمّا غلب عليه الوجد والغرام لحرث قبر الإمام (عليه‌السلام ) , خرج من مصر ماشياً هائماً على وجهه شاكياً وجده إلى ربّه ، وبقي حزيناً كئيباً حتّى بلغ الكوفة وكان البهلول يومئذ بالكوفة , فلقيه زيد المجنون وسلّم عليه فردّعليه‌السلام , فقال له البهلول : من أين لك معرفتي ولم ترني قط ؟ فقال زيد : يا هذا , اعلم أنّ قلوب المؤمنين جنود مجنّدة , ما تعارف منها إئتلف وما تناكر منها اختلف.

فقال له البهلول : يا زيد , ما الذي أخرجك من بلادك بغير دابّة ولا مركب ؟ فقال : والله , ما خرجت إلّا من شدّة وجدي وحزني , وقد بلغني أنّ هذا اللعين أمر بحرث قبر الحُسين (عليه‌السلام ) وخراب بنيانه وقتل زوّاره ، فهذا الذي أخرجني من موطني ونغّص عيشي , وأجرى دموعي وأقلّ هجوعي .فقال البهلول : وأنا والله كذلك .فقال له : قم بنا نمضي إلى كربلاء لنشاهد قبور أولاد عليّ الـمُرتضى.

قال : فأخذ كلّ بيد صاحبه حتّى وصلا إلى قبر الحُسين , وإذا هو على حاله لم يتغير وقد هدموا بنيانه ، وكلمّا أجروا عليه الماء , غار وحار واستدار بقدرة العزيز الجبّار ، ولم يصل قطرة واحدة إلى قبر الحُسين (عليه‌السلام ) , وكان القبر الشّريف إذا جاءه الماء , ترتفع أرضه بإذن الله تعالى ، فتعجّب زيد المجنون مما شاهده , وقال : انظر يا بهلول( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) .قال : ولم يزل المتوكل يأمر بحرث قبر الحُسين مدّة عشرين سنة ، والقبر على حاله لم يتغير ولا تعلوه قطرة من الماء ، فلمّا نظر الحارث إلى ذلك ، قال : آمنت بالله وبمُحمّد رسول الله ، والله , لاهربنّ على وجهي وأهيم في البراري ولا أحرث قبر الحُسين ابن بنت رسول الله ، وإنّ لي مدّة عشرين سنة أنظر آيات الله وأشاهد براهين آل بيت رسول الله ، ولا اتعظ ولا اعتبر .ثمّ أنّه حلّ الثّيران وطرح الفدان وأقبل يمشي نحو زيد المجنون وقال له : من أين اقبلت يا شيخ ؟ قال : من مصر .فقال له : ولأيّ شيء جئت إلى هُنا ؟ وإنّي أخشى عليك من القتل .فبكى زيد وقال: والله قد بلغني حرث قبر الحُسين (عليه‌السلام ) , فأحزنني ذلك وهيّج حزني ووجدي .فانكب الحارث على أقدام زيد يقبّلهما , وهو يقول : فداك أبي واُمّي ! فو الله يا شيخ , من حين ما أقبلت إليّ , أقبلت إليّ الرّحمة واستنار قلبي بنور

____________________

(١) سورة التّوبة / ٣٢.

٣٣٢

الله , وإنّي آمنت بالله ورسوله , وإنّ لي مدّة عشرين سنة وأنا أحرث هذه الأرض ، وكلّما أجريت الماء إلى قبر الحُسين , غار وحار واستدار ولم تصل إلى قبر الحُسين منه قطرة ، وكأنّي كنت في سكر وأفقت الآن ببركة قدومك إليّ .فبكى زيد وتمثّل بهذه الأبيات :

تالله إن كانت أمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمرك قبره مهدوما

اسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما

فبكي الحارث وقال : يا زيد , قد أيقظتني من رقدتي وأرشدتني من غفلتي , وها أنا الآن ماض إلى المتوكل بسر من رأى أعرّفه بصورة الحال , إن شاء أن يقتلني وإن شاء يتركني .فقال له زيد : وأنا أيضاً أسير معك إليه وأساعدك على ذلك .قال : فلمّا دخل الحارث إلى المتوكل وأخبره بما شاهد من برهان قبر الحُسين (عليه‌السلام ) , استشاط غيظاً وازداد بغضاً لأهل بيت رسول الله , وأمر بقتل الحارث , وأمر أن يشد حبل في رجليه ويسحب على وجهه في الأسواق ، ثمّ يُصلب في مجتمع النّاس ؛ ليكون عبرة لِمَن اعتبر ، ولا يبقى أحد يذكر أهل البيت بخير أبداً.

أمّا زيد المجنون فإنّه ازداد حزنه واشتدّ عزاؤه وطال بكاؤه ، وصبر حتّى انزلوه من الصّلب وألقوه على مزبلة هُناك ، فجاء إليه زيد فاحتمله إلى دجلة وغسّله وكفّنه وصلّى عليه ودفنه ، وبقي ثلاثة أيّام لا يفارق قبره وهو يتلو كتاب الله عنده ، فبينما هو ذات يوم جالس , إذ سمع صراخاً عالياً ونوحاً شجياً وبكاء عظيماً , ونساء بكثرة منشرات الشّعور مشققات الجيوب مسودّات الوجوه ، ورجالاً بكثرة يندبون بالويل والثّبور , والنّاس كافّة في اضطراب شديد , وإذا بجنازة محمولة على أعناق الرّجال وقد نشرت لها الأعلام والرّايات , والنّاس من حولها أفواجاً قد انسدّت الطّرق من الرّجال والنّساء ، قال زيد : فظننت أنّ المتوكل قد مات .فتقدمت إلى رجل منهم وقلت له : مَن يكون هذا الميت ؟ فقال : هذه جنازة جارية المتوكل , وهي جارية سوداء حبشية وكان اسمها ريحانة ، وكان يحبّها حبّاً شديداً .ثمّ إنّهم عملوا لها شأناً عظيماً , ودفنوها في قبر جديد وفرشوا فيه الورد والرّياحين والمسك والعنبر , وبنوا عليها قبّة عالية ، فلمّا نظر زيد إلى ذلك , إزدادت

٣٣٣

أشجانه وتصاعدت نيرانه , وجعل يلطم وجهه ويمزّق أطماره , وحثى التّراب على رأسه وهو يقول : وا ويلاه ! وا أسفاه عليك يا حُسين ! أتقتل بالطّفّ غريباً وحيداً ظمآناً شهيداً ، وتُسبى نساؤك وبناتك وعيالك وتُذبح أطفالك , ولم يبك عليك أحد من النّاس , وتُدفن بغير غسل ولا كفن , ويُحرث بعد ذلك قبرك ؛ ليطفئوا نورك وأنت ابن عليّ الـمُرتضى وابن فاطمة الزّهراء , ويكون هذا الشّأن العظيم لموت جارية سوداء , ولم يكن الحزن والبكا لابن مُحمّد الـمُصطفى.

قال : ولم يزل يبكي وينوح حتّى غشي عليه والنّاس كافّة ينظرون إليه ، فمنهم من رقّ له ومنهم من جثى عليه , فلمّا أفاق من غشوته ، أنشأ يقول :

أيحرث بالطف قبر الحُسين

ويعمر قبر بني الزانية

لعل الزمان بهم قد يعود

ويأتي بدولتهم ثانية

ألا لعن الله أهل الفساد

ومن يأمن الدنية الفانية

قال : ثمّ إنّ زيداً كتب هذه الأبيات في ورقة وسلّمها لبعض حجّاب المتوكل , قال : فلمّا قرأها , اشتدّ غيظه وأمر باحضاره فاحضر , وجرى بينهما من الوعظ والتّوبيخ ما أغاظه حتّى أمر بقتله ، فلمّا مثل بين يديه , سأله عن أبي تراب : مَن هو ؟ استحقاراً له ، فقال : والله , إنّك عارف به وبفضله وشرفه وحسبه ونسبه ، فوالله , ما يجحد فضله إلا كلّ كافر مرتاب ولا يبغضه إلا كلّ منافق كذّاب .وشرع يعدد فضله ومناقبه , حتّى ذكر منها ما أغاظ المتوكل , فأمر بحبسه فحبس , فلمّا أسدل الظّلام وهجع ، جاء إلى المتوكل هاتف ورفسه برجله ، وقال له : قُم وأخرج زيداً وإلّا أهلكك الله عاجلاً .فقام هو بنفسه وأخرج زيداً من حبسه وخلع عليه خلعة سنية , وقال له : اطلب ما تريد .قال : أريد عمارة قبر الحُسين وأن لا يتعرض أحد بزوّاره .فأمر له بذلك ، فخرج من عنده فرحاً مسروراً , وجعل يدور في البلدان وهو يقول : مَن أراد زيارة قبر الحُسين , فله الأمان طول الأزمان.

وعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون ، ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم :

٣٣٤

القصيدة للشيخ مُحمّد بن السّمين (رحمه‌الله )

أيعذب من ورد الجفاء ورود

أيزهر من ورد الوفاء ورود

وينبع من غرس الوداد ثمارها

ويورق من غصن المودة عود

فيا من بدا ذا الود بالصد والجفا

أيحمل من بعد الوصال صدود

فإن تبخلوا بالوصل إنّي مواصل

وبالنفس إن ضن الجواد أجود

وإن عدتم يوماً بما قد بدأتم

من الغدر إنّي بالوفاء أعود

وحبل ذمامي لا تحل عقوده

إذا حل من حبل الذمام عقود

وإن نقضوا عهد الوداد فإنني

مراع لأسباب الوداد ودود

وما حال حال العهد عما عهدتم

وإن رث عقد العهد فهو جديد

وما كادني أمر يكيد احتماله

ولكما نقض العهود يكيد

ولا بدع إن أبدعتم نقض عهدكم

فقد نقضت لابن النّبي عهود

فكم تنقض الأرجاس عهداً وعقده

وثيق على كل العباد وكيد

وقد جاءه تترى صحائف جمة

كأوجههم عند التوجه سود

يقولون إن الضد باد وفي غد

له في لظى بعد الدخول خلود

ونحن بلا وال وأنت ولينا

وأولى بنا منا ونحن عبيد

فسر قصدنا قصداً فلا زلت مقصداً

فقصدك في كل الأمور حميد

فإن لم تسر فارسل من الآل سيداً

فأنت لسادات الأنام عميد

فأرسل سهماً من كنانة آل

مصيباً لدفع النائبات عتيد

فبايعه منهم ألوف تألفت

عليه ولا يحصى لهن عديد

فلم يأتي إلّا الليل حتّى تخاذلوا

وبان لهم بعد الوفاء صدود

وألقوه مذ ألقوه قد جاء رائداً

لمرعى يولي في الصدور بزود

عتواً من القصر المشيد مبوءاً

له قصر در في الجنان مشيد

ففرق جند الحق من بعد قتله

وجمع من جند الضلال جنود

لها ابن زياد مرسل ومجهز

وأما ابن سعد للجنود يقود

إلى حرب مولانا الحُسين وآله

تسارع منهم قائد ومقود

طبولهم في الخافقين خوافق

وتخفق رايات لهم وبنود

٣٣٥

يذاد عن الماء المباح وقد غدا

لجل عباد الله منه ورود

ويمنعه من ورده ووروده

كفور لآلاء الإله كنود

ولست بناس قوله حال ما بدا

يخاطبهم بالطف ثمّ يعيد

يقول وقد أبدأ مقالة معذر

ويعلم أن القول ليس يفيد

إلى سبل فيها الهداية فاعدلوا

وعن طريق فيها الضلالة حيدوا

ولا تكحلوا الأبصار بالبغي أعيناً

مراضاً بأميال العتو ثمود

وكونوا أناساً أصلحوا ذات بينهم

وآرائهم في ابن النّبي سديد

ألم تعلموا إنّي الإمام عليكم

وإني لله الشهيد شهيد

وإن لنا حكم المعاد وامره

يؤول إلينا والحساب يعود

وإن أبي يسقي على الحوض معشراً

ويطرد عنه معشراً ويذود

ولولاه لم يخضر للدين عوده

ولا قام للإسلام قط عميد

وقد قلت هذا القول والله عالم

وقاض به والعالمون شهود

فقالوا علمنا ما تقول فلا تزد

فقولك هذا ما عليه مزيد

ولكنما انفاذ أمر أميرنا

يزيد له دون الأنام نريد

نريد بأن تأتي يزيد مبائعاً

فرشدك أن تأتي يزيد نريد

فقال وللعين المبرح في الحشا

كلام وفي القلب الكليم وقود

سلام على الإسلام بعد رعاته

إذا كان راعي المسلمين يزيد

وكيف وأبناء الكرام بذلة

تسام وأبناء اللئام تسود

وآب إلى أنصاره يطلب الرجا

ويوعد إذ حقت لديه وعود

يقول ابشروا فالقول من بعد هذه

مهد وعيش في الجنان رغيد

وحور حسان ما لهن مناظر

يضاهي وفي دار الخلود خلود

وباتوا ومنهم ذاكر ومسبح

وراع ومنهم ركع وسجود

فمذ بزغت شمس الهياج مضيئة

بأفق سماء البغي وهو مديد

به النقع غيم والبروق بوارق

به الويل نبل والصراخ وعود

دعاهم فثابوا للثواب تسابقاً

إلى الموت إذ فيه الحياة تعود

حفو حفيفاً مقدمين كأنهم

ليوث الشرى عند اللقاء أسود

٣٣٦

فأورد كل نفسه مورداً له

صدور ومن بعد الصدور ورود

إلى أن تفانوا واحد بعد واحد

لديهم فمنهم قائم وحصيد

وظل بأرض الطف فرداً وحوله

لآل زياد عدة وعديد

وتنظره شزراً من السمر والقنا

نواظر إلّا أنهن حديد

ينادي أما من مسلم ذي حمية

يحامي وعن آل الرسول يذود

أما من شهاب ثاقب يحرق العدا

بنار فشيطان الطغاة عنيد

أما من نصير ينصر الفرد نصرة

لينصر يوم الجمع وهو فريد

أما واحد يأتي الوحيد موصلاً

ليوصل يوم الفصل وهو وحيد

أما جابر يأتي مجيراً ويجيره

إذا حق في يوم الوعيد وعيد

أما من شقي والنفوس تخوفه

توافيه إن وافى لدي سعود

أما أكمه في ليل غي فإن وفي

أرى الفخر فخر الرشيد وهو رشيد

أما فاسد رأياً إذا آب ناصراً

يبلج وجه الرأي وهو سديد

فلما رمى عن قوس حقد بأسهم

حداد وكل للجلاد مريد

ثنى صده قصد الخيام مودعاً

لهم موصياً بالثبر وهو حميد

يقول اصبروا فالله جلّ جلاله

يوف لأجر الصابرين مزيد

وصبراً جميلاً آل بيت مُحمّد

فمجدكم والفضل ليس يبيد

إذا مات منا سيّد قام سيّد

رقيب على كل الأنام شهيد

وبعد فزين العابدين خليفتي

على من له في ذا الوجود وجود

واستودع الرحمن ولدي وعترتي

ومن جاء منهم والد ووليد

وألوى على جيش العداة بعزمه

تكاد لها شم الجبال تميد

ففر العدى من بأسه خيفة الردى

كما فر من بأس الأسود صيود

فغادرهم صرعى لديه ومنهم

جريح تولى هارباً وطريد

فمذ حان حين أرسل القوم اسهما

أصيب بها نحر له ووريد

هوى ثاوياً فوق الثرى ومحله

له فوق آفاق السّماء صعود

وظل صريعاً بالطفوف ونفسه

بها من سياق الموت وهو يجود

إلى أن قصى نحباً وعهداً وموعداً

به جاء من سر النّبي وعود

٣٣٧

تقي نقي طاهر ، طاهر الوفا

وفي مجيد في الفعال حميد

ولما غدا الحر الجواد وسرجه

خلى وللحر الجواد فقيد

برزن نساء الهاشميات حسراً

عليهن من نسج الثكول برود

توادين يخدشن الوجوه تفجعاً

وتلطم بالأيدي لهن خدود

وفاطمة الصغرى تعانق اختها

سكينة خوف السبي وهو مكيد

وزينب ما بين النساء وقلبها

قريح وبالأحزان فهو كميد

تقول وللأحزان في القلب مبدع

ومبد لأسرار الهموم معيد

أخي يابن أمي يا شقيقي وسيدي

ومن لي من دون الأنام عميد

عليك جفوني الذاريات ذوارف

وأما دموعي المرسلات تجود

أخي مهجة الإسلام مقضي كآبة

ومتن الهدى قد قدّ وهو عميد

أخي ثل عرش الدين وانهد ركنه

وعطل منه إذا أصبت حدود

أخي من يلئم الشمل بعد شتاته

ومن لبناء المكرمات يشيد

أخي من ترى للجود والندى

إذا سار وفد أو أقام وفود

فأنت لمن يبغي الوفادة والجدي

بأنفس ما يسخو المفيد تفيد

وإن أجدبت أرض فأنت ربيعها

وإن ضن صوب المزن أنت مجيد

وكل مصاب جاء بعدك هين

وما هان في هذا المصاب شديد

فيا شيعة المختار نوحوا لمصرع

الشهيد وبالدمع الغزير فجودوا

تطأه خيول المجريات تجبراً

ويسفي عليه بعد ذاك صعيد

وآل رسول الله يشهرن في الملأ

وآل ابن هند في الخدور رقود

يسار بآل الـمُصطفى فوق ضمر

وترفعهم بيد وتخفض بيد

ورأس إمام السبط في رأس ذابل

طويل على رأس السنان يميد

وينكثه بالخيزران شماتة

به وسروراً كافر وعنيد

ويؤتى بزين العابدين مصفداً

وفي قدميه للحديد حدود

فقوموا بأعباء العزاء فإنه

جليل وأما غيره فزهيد

لأي مصاب يذرف الشأن ماءه

وتقضى نفوس أو تفت كبود

لأعظم من هذا المصاب وخطبه

عظيم على أهل السّماء شديد

٣٣٨

مصاب له في كل قلب مصيبة

سهام لحبات القلوب تبيد

وللهم هم والرزايا رزية

وللحزن حزن زائد ويزيد

إليكم يا بني الزّهراء يا من سمت بهم

إلى المجد آباء لهم وجدود

أوجه وجه المدح منّي لأنه

قلائد في جيد العلى وعقود

لأني لكم عبد محب وحبه

قديم فمنه طارف وتليد

وما قدر مدح قاله في علاكم

ومدحكم في المحكمات عتيد

ولكن يسر الأولياء استماعه

ويكبت أعداء لكم وحسود

فيا من هم فلك النجاة ومن هم

هداة وغوث في الأنام وجود

فمذ كان بدء الفضل منكم تفضلوا

وجودوا على نجل السمين وعودوا

فأنتم له ذخر إذا جاء في غد

ومع كل نفس سائق وشهيد

عليكم سلام الله حيث ثناؤكم

حكى نشره ند يضوع وعود

وحيث بكم هبت نسيم ونسمت

هبوب وللعيدان رنح عود

وأزهر من زهر البروج زواهر

وورد من زهر المروج ورود

٣٣٩

المجلس السّادس

من الجزء الثّاني في اليوم الثّامن من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

أيّها المؤمنون , جودوا بماء العيون المخزون ، وأيّها السّامعون جدّدوا ثياب الأشجان والحزون ، وتساعدوا على النّياحة والعويل ، واسكبوا العبرات على الغريب القتيل , واندبوا لِمَن اهتزّ لفقده عرش الجليل , ونوحوا أيّها المحبّون لآل الرّسول وابكوا على مصاب أبناء البتول ، وسحوا عليهم بالدّموع فإنّهم أعلام الأنام وأئمة أهل الإسلام ؛ فلعلّكم تواسونهم في المصاب بإظهار الجزع والإكتئاب , والاعلام بالحنين والانتحاب ، فيا خيبة من جهل فضلهم وانكر قدرهم , ولكنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور :

وقفت على الدار التي كنتم بها

فمغناكم من بعد معناكم قفر

وقد درست منها الرسوم وطالما

بها درس العلم الإلهي والذكر

فراق فراق الروح بعد بعدكم

ودار برسم الدار في خاطري الفكر

روي عن زين العابدين عليّ بن الحُسين (عليه‌السلام ) , قال : (( لمـّا أتوا برأس أبي إلى يزيد , فكان يتخذه بمجالس الشّراب ويأتي برأس أبي ويضعه بين يديه ويشرب عليه , فحضر في مجلسه ذات يوم رسول ملك الرّوم وكان من أشرافهم وعظمائهم ، فقال : يا ملك العرب , هذا رأس مَن ؟ قال يزيد لعنه الله : مالك بذلك حاجة ، قال : إنّى إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كلّ شيء رأيته ,

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493