المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)27%

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 220

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37689 / تحميل: 5454
الحجم الحجم الحجم
المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الأموال الطائلة لبني أُمية لتقوية مركزهم السياسي والاجتماعي، وكان الإمام الحسينعليه‌السلام يشجب هذه السياسة، ويرى ضرورة إنقاذ الأموال من معاوية الذي يفتقد حكمه لأيّ أساس شرعي، ولا يقوم إلاّ على القمع والتزييف والإغراء. وقد اجتازت على يثرب أموال من اليمن مرسولةً إلى خزينة دمشق، فعمد الإمامعليه‌السلام إلى الاستيلاء عليها ووزّعها على المحتاجين، وكتب إلى معاوية: (من الحسين بن عليّ إلى معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد فإنّ عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً وعنبراً وطيباً إليك لتودعها خزائن دمشق وتعلّ بها بعد النّهْل بني أبيك، وإنّي احتجتها اليها فأخذتها، والسلام)(1).

فأجاب معاوية: من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن عليّ، سلام عليك، أمّا بعد فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك من اليمن تحمل مالاً وحُللاً وعنبراً وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق واعُلّ بها بعد النهل بني أبي، وإنّك احتجت اليها فأخذتها، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ثم عليه المخرج منه، وأيم الله لو تركت ذلك حتى صار إليّ لم أبخسك حظك منه، ولكنّي قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوةً وبودّي أن يكون ذلك في زماني، فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك، ولكنّي والله أتخوّف أن تبتلى بمن لا ينظرك فواق ناقة(2) .

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام دلّل بعمله على أن ليس من حقّ الخليفة غير الشرعي أن يتصرّف في أموال المسلمين، وأنّ ذلك من حقوق الحاكم الشرعي، والحاكم الشرعي هو الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه الذي ينفق أموال بيت المال

____________________

(1) نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 327، الطبعة الأولى، وناسخ التواريخ: 1 / 195.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 327، وناسخ التواريخ: 1 / 195.

١٢١

وفق المعايير الإسلامية. وقد أكّدعليه‌السلام في رسالته على أنّه لا يعترف رسمياً بخلافة معاوية; إذ لم يصفه بأمير المؤمنين كما كان يصفه الآخرون. ومن هنا حاول معاوية الالتفاف على موقف الإمامعليه‌السلام فوصف نفسه في رسالته الجوابية بأمير المؤمنين ووالي المسلمين ولكنّه فشل في محاولته تلك، فقد بات موقف الإمام الحسينعليه‌السلام معياراً إسلامياً وملاكاً فارقاً وفاصلاً بين الصواب والخطأ للمسلمين جميعاً على مدى التأريخ، في حين لم يعر المسلمون لموقف معاوية أيّ اهتمام ولم يعتبروه سوى أنّه تشويه للحقيقة وتضليل للرأي العام.

لقد كان موقف الإمامعليه‌السلام هذا إشارة واضحة للاعتراض على تصرّفات وحكم معاوية والمطالبة بسيادة الحقّ والعدل الإلهي.

تذكير الأمة بمسؤوليّتها:

عقد الإمامعليه‌السلام في مكة مؤتمراً سياسيّاً عامّاً دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ من المهاجرين والأنصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين، فانبرىعليه‌السلام خطيباً فيهم، وتحدّث عمّا ألمّ بعترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وشيعتهم من المحن والإحن التي صبّها عليهم معاوية، وما اتّخذه من الإجراءات المشدّدة في إخفاء فضائلهم، وستر ما اُثر عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّهم، وألزم الحاضرين بإذاعة ذلك بين المسلمين، وفيما يلي ما رواه سليم بن قيس عن هذا المؤتمر ونصّ خطاب الإمامعليه‌السلام حيث قال: ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر، فجمع الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ومن حجّ من الأنصار ممّن

١٢٢

يعرفهم الحسين وأهل بيته، ثم أرسل رسلاً وقال لهم: لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ اجمعوهم لي، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل وهم في سرادق، عامّتهم من التابعين، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أمّا بعد، فإنّ هذا الطاغية - يعني معاوية - قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإنّي اُريد أن أسألكم عن شيء فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبتُ فكذّبوني، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب،( وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) ).

قال الراوي: فما ترك الحسين شيئاً ممّا أنزل الله فيهم إلاّ تلاه وفسّره، ولا شيئاً ممّا قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه: اللّهمّ نعم قد سمعنا وشهدنا، وممّا اشدهمعليه‌السلام أن قال:

(اُنشدكم الله، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟ قالوا: اللّهمّ نعم، قال: اُنشدكم هل تعلمون أنّ رسول الله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ثم ابتنى فيه عشرة منازل تسعة له، وجعل عاشرها في وسطها لأبي، ثم سدّ كلّ باب شارع إلى المسجد غير بابه؟ فتكلّم في ذلك من تكلّم، فقال: ما أنا سددتُ أبوابكم وفتحت بابه، ولكنّ الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه، ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره، وكان بجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله، فولد لرسول الله وله فيه أولاد، قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أفتعلمون أنّ عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى

١٢٣

عليه، ثم خطب فقال: إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله قال في غزوة تبوك: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله دفع إليه اللواء يوم خيبر، ثم قال: لأدفعه إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله كرّار غير فرّار، يفتحها الله على يديه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه ببراءة وقال: لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله لم تنزلْ به شدّة قطّ إلاّ قدّمه لها ثقةً به وأنّه لم يدعه باسمه قطّ، إلاّ يقول يا أخي؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله قضى بينه وبين جعفر وزيد فقال: يا عليّ أنت منّي وأنا منك وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أنّه كانت له من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ يوم خلوة، وكلّ ليلة دخلة، إذا سأله أعطاه، وإذا سكت أبداه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله فضّله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمةعليها‌السلام : زوّجتك خير أهل بيتي أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أنا سيّد ولد آدم، وأخي عليّ سيّد العرب، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة؟ والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجنة، قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بغسله، وأخبره أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال:

١٢٤

أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في آخر خطبة خطبها:أ يّها النّاس! إنّي تركتُ فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي فتمسّكوا بهما لن تضلّوا؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

فلم يدعصلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً أنزله الله في عليّ بن أبي طالب خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيّه إلاّ ناشدهم فيه فيقول الصحابة: اللّهمّ نعم قد سمعناه، ويقول التابعي: اللّهم قد حدّثنيه من أثق به فلان وفلان.

ثم ناشدهم أنّهم قد سمعوه يقول: من زعم أنّه يحبّني ويبغض عليّاً فقد كذب، ليس يحبّني وهو يبغض عليّاً، فقال له قائل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: لأنّه منّي وأنا منه، من أحبّه فقد أحبّني ومَن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؟ فقالوا: اللّهمّ نعم، قد سمعناه، وتفرّقوا على ذلك(1) .

موت معاوية:

لقد كان موت معاوية بن أبي سفيان في سنة ستّين من الهجرة(2) .

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن، فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه من الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة وحمله على رقاب المسلمين، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه - في أثناء وفاته - برحلات الصيد وغارقاً في عربدات السكر ونغمة العيدان(3) .

____________________

(1) كتاب سُليم بن قيس: 323، تحقيق محمد باقر الأنصاري.

(2) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 54.

(3) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 239 - 240.

١٢٥

البحث الثاني: حكومة يزيد ونهضة الإمام الحسينعليه‌السلام .

بدايات النهضة:

ذكرنا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام وبالرغم من معارضته الشديدة لحكم معاوية بن أبي سفيان - والتي نقلنا صوراً عديدةً منها - رفض التحرّك لخلع معاوية; التزاماً منه بالعهد الذي وقّعه أخوه الإمام الحسنعليه‌السلام مع معاوية.

وقد سجّل المؤرّخون هذا الموقف المبدئي للإمام الحسينعليه‌السلام فقالوا:

لمّا مات الحسنعليه‌السلام تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسينعليه‌السلام في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك(1) .

من هنا كان معلوماً لشيعته وللجهاز الحاكم أيضاً أنّ موت معاوية يعني بالنسبة للإمام الحسينعليه‌السلام أنه في حلّ من أيّ التزام، ومن ثم فإنّه سيطلق ثورته على نظام الحكم الغاشم الذي استلمه يزيد الفاسق، لذلك كان الإمام الحسينعليه‌السلام يمثّل الهاجس الأكبر للطغمة الحاكمة.

رسالة يزيد إلى حاكم المدينة:

قال المؤرّخون: إنّ يزيد كتب فور موت أبيه إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - وكان والياً على المدينة من قِبَل معاوية - أن يأخذ على الحسينعليه‌السلام بالبيعة له ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك(2) . وذكرت مصادر

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 32.

(2) المصدر السابق.

١٢٦

تأريخية أخرى أنّه جاء في الرسالة: إذا أتاك كتابي هذا فأحضر الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير فخذهما بالبيعة، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم(1) .

الوليد يستشير مروان بن الحكم:

حار الوليد في أمره، إذ يعرف أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لا يبايع ليزيد مهما كانت النتائج، فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان بن الحكم عميد الأسرة الأُموية فبعث إليه، فأشار مروان على الوليد قائلاً له: إبعث اليهم(2) في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية; فإنّهم إن علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازعُ في هذا الأمر أحداً، مع أنّني أعلم أنّ الحسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد، ولا يرى له عليه طاعةً. ووالله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان(3) .

وعظم ذلك على الوليد وهو أكثر بني أُمية حنكةً، فقال لمروان: ياليت الوليد لم يولد ولم يك شيئاً مذكوراً(4) .

فسخر منه مروان وراح يندّد به قائلاً: لا تجزع ممّا قلتُ لك; فإنّ

____________________

(1) تأريخ اليعقوبي: 2 / 215.

(2) المقصود هنا الإمام الحسينعليه‌السلام وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، باعتبار أنّ بعض المصادر التأريخية أفادت بأنّ رسالة يزيد تضمّنت أسماءهم جميعاً مثل تأريخ الطبري: 6 / 84.

(3) حياة إلامام الحسينعليه‌السلام : 2 / 25.

(4) المصدر السابق: 2 / 251.

١٢٧

آل أبي تراب هم الأعداء من قديم الدهر(1) ، ونهره الوليد فقال له: ويحك يا مروان إعزب عن كلامك هذا، وأحسن القول في ابن فاطمة فإنّه بقية النبوة(2) .

واتّفق رأيهما على استدعاء الإمامعليه‌السلام وعرض الأمر عليه لمعرفة موقفه من السلطة.

الإمامعليه‌السلام في مجلس الوليد:

أرسل الوليد إلى الحسينعليه‌السلام يدعوه إليه ليلاً، فجاءه الرسول وهو في المسجد، ولم يكن قد شاع موت معاوية بين الناس، وجال في خاطر الحسينعليه‌السلام أنّ الوليد قد استدعاه ليخبره بذلك ويأخذ منه البيعة إلى الحاكم الجديد بناءً على الأوامر التي جاءته من الشام، فاستدعى الحسين مواليه وإخوته وبني عمومته وأخبرهم بأنّ الوالي قد استدعاه إليه وأضاف: إنّي لا آمن أن يكلّفني بأمر لا اُجيبه عليه(3) .

وقال الإمامعليه‌السلام لمواليه بعد أن أمرهم بحمل السلاح: (كونوا معي فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه)(4) .

ودخل الإمامعليه‌السلام على الوليد فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة، فقالعليه‌السلام : (الصلةُ خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما)(5) ثم نعى إليه الوليد معاوية، فاسترجع الإمام الحسينعليه‌السلام

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام 2 / 251.

(2) المصدر السابق.

(3) إعلام الورى: 1 / 434، وروضة الواعظين: 171، ومقتل أبي مخنف: 27، وتذكرة الخواص: 213.

(4) الإرشاد: 2 / 33.

(5) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 254.

١٢٨

ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له، فقال الحسينعليه‌السلام : (إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتى اُبايعه جهراً).

فقال الوليد: أجل، فقال الحسينعليه‌السلام : (فتصبح وترى رأيك في ذلك)، فقال له الوليد: انصرف على اسم الله تعالى حتى تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، إحبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسينعليه‌السلام عند ذلك وقال:(أنت ياابن الزرقاء تقتلني أم هو؟! كذبت والله وأثمت). وخرج يمشي ومعه مواليه حتى أتى منزله.

فقال مروان للوليد: عصيتني. لا و الله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً. فقال له الوليد: ويح غيرك يا مروان! إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني. والله ما اُحب أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإنّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً لمّا أن قال: لا أبايع؟ والله إنّي لأظنّ امرءاً يحاسبُ بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة(1) .

وثمّة روايات أفادت بأنّ النقاش قد احتدم بين الإمامعليه‌السلام وبين مروان، حتى أعلنعليه‌السلام رأيه لمروان بصراحة قائلاً: (إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة)(2) .

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 33 - 34.

(2) مقتل الحسين للمقرّم: 144، وإعلام الورى: 1 / 435.

١٢٩

الإمامعليه‌السلام مع مروان:

والتقى الإمام الحسينعليه‌السلام في أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة يزيد، فبادره مروان قائلاً: إنّي ناصح فأطعني ترشد وتسدّد. فقال الإمامعليه‌السلام : (وما ذاك يا مروان؟).

قال مروان: إنّي آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد فإنّه خير لك في دينك ودنياك. فردّ عليه الإمامعليه‌السلام ببليغ منطقه قائلاً: (على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد... سمعت جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه، فوالله لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما اُمروا به)(1) .

حركة الإمامعليه‌السلام في الليلة الثانية:

ذكر المؤرّخون أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام أقام في منزله تلك الليلة وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين من الهجرة، واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليهم، وخرج ابن الزبير من ليلته عن المدينة متوجّهاً إلى مكة، فلمّا أصبح الوليد سرح في أثره الرجال فبعث راكباً من موالي بني أُمية في ثمانين راكباً، فطلبوه ولم يدركوه فرجعوا، فلمّا كان آخر نهار يوم السبت بعث الرجال إلى الحسينعليه‌السلام ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية، فقال لهم الحسينعليه‌السلام : اصبحوا ثم ترون ونرى. فكَفّوا تلك الليلة عنه ولم يلحّوا عليه.

____________________

(1) الفتوح لابن أعثم: 5 / 17، ومقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 184.

١٣٠

فخرجعليه‌السلام من تحت ليلته وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجّهاً نحو مكة ومعه بنوه وبنو أخيه وإخوته وجَلَّ أهل بيته إلاّ محمد بن الحنفية - رحمة الله عليه - فإنّه لمّا علم عزمه على الخروج عن المدينة لم يدرِ أين يتوجّه، فقال له: يا أخي أنت أحبّ الناس إليَّ وأعزّهم عليّ ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك وأنت أحقّ بها، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروّتك ولا فضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلوا فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الأمة كلّها نفساً وأباً واُمّاً، أضيعها دماً وأذلّها أهلاً.

فقال له الحسينعليه‌السلام : فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن (نَبَتَ بك)(1) لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس إليه; فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً.

فقال الإمامعليه‌السلام : (يا أخي، قد نصحتَ وأشفقتَ وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً)(2) . فسار الحسينعليه‌السلام إلى مكة وهو يقرأ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (3) .

____________________

(1) أي لم تجد بها قراراً ولم تطمئن عليها. انظر لسان العرب: 15/302 مادة نبأ.

(2) الإرشاد: 2 / 35.

(3)القصص (28): 21.

١٣١

وصايا الإمام الحسينعليه‌السلام :

لقد كتب الإمامعليه‌السلام قبل خروجه من المدينة عدّة وصايا:

منها: وصية لأخيه هذا نصّها: (هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلي أخيه محمد بن الحنفية، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأنّ الجنة حق والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين)(1) .

ومنها: وصيّته لأم المؤمنين أم سلمة حيث أوصاها بما يرتبط بإمامة الإمام من بعده. روي أنّه لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته أم سلمة (رضي الله عنها) فقالت: يا بني لا تحزنّي بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعت جدّك يقول: يقتل ولدي الحسينعليه‌السلام بأرض العراق في أرض يقال لها: كربلا. فقال لها: (يا أماه وأنا والله أعلم ذلك، وأنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وإنّي والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها، وإنّي أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا أمه أُريك حفرتي ومضجعي).

ثم أشار إلى جهة كربلاء، فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاءً شديداً

____________________

(1) مقتل الحسين للمقرّم: 156.

١٣٢

وسلّمت أمره إلى الله.

فقال لها: (يا أمه، قد شاء الله عَزَّ وجَلَّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً).

وفي رواية أخرى: قالت أم سلمة: وعندي تربة دفعها إلي جدّك في قارورة، فقال: (والله إنّي مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً) ثم أخذ تربةً فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها، وقال: (اجعليها مع قارورة جدّي فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت)(1) .

وروى الطوسي عن الحسين بن سعيد عن حمّاد بن عيسى عن ربعي بن عبد الله عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام : (لمّا توجه الحسينعليه‌السلام إلى العراق ودفع إلى أم سلمة زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الوصية والكتب وغير ذلك قال لها: (إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك)، فلمّا قتل الحسينعليه‌السلام أتى عليّ بن الحسينعليه‌السلام أم سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسينعليه‌السلام )(2) .

وروى عليّ بن يونس العاملي في كتابالصراط المستقيم النصّ على عليّ بن الحسينعليه‌السلام في حديث ثم قال: وكتب الحسينعليه‌السلام وصيّته وأودعها أم سلمة وجعل طلبها منها علامة على إمامة الطالب لها من الأنام فطلبها الإمام زين العابدينعليه‌السلام (3) .

____________________

(1) بحار الأنوار: 44 / 331، والعوالم: 17 / 180، وينابيع المودة: 405... إلى قوله: بكت أم سلمة بكاءً شديداً.

(2) الغيبة للطوسي: 118 حديث 148، واثبات الهداة: 5 / 214.

(3) إثبات الهداة: 5 / 216 حديث 8.

١٣٣

توجّه الإمام إلى مكة:

قال المؤرّخون: إن الإمام الحسينعليه‌السلام عندما توجّه إلى مكة لزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كي لا يلحقك الطلب، فقال: لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض(1) . ولمّا دخل الإمام الحسينعليه‌السلام مكة كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)(2) .

ثم نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسينعليه‌السلام فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسينعليه‌السلام في البلد وأنّ الحسينعليه‌السلام أطوع في الناس منه وأجلّ(3) .

____________________

(1) الفتوح: 5 / 24، وينابيع المودّة: 402 الإرشاد للمفيد: 2 / 35.

(2) القصص (28): 22.

(3) الإرشاد: 2 / 36، وبحار الأنوار: 44 / 332.

١٣٤

البحث الثالث: أسباب ودوافع الثورة

إنّه من الصعب أن نقف على جميع الأسباب لثورة امتدّت في عمق الزمن، ولا زالت تنبض بالدفق والحيويّة مثيرة في النفوس روح الإباء والتضحية، وتأخذ بيد الثائرين على مرّ الزمن بالاستمرار في طريق الحقّ وبذل النفس والنفيس لبلوغ الأهداف السامية، إنّها الثورة التي أحيت الرسالة الإسلامية بعد أن كادت تضيع وسط أهواء ورغبات الحكّام الفاسدين، وأثارت في الأمة الإسلامية الوعي حتّى صارت تطالب بإعادة الحقّ إلى أهله وموضعه.

إنّ أفضل ما نستخلص منه أسباب ودوافع الثورة الحسينية هي النصوص المأثورة عن الحسين الثائرعليه‌السلام وكذا آثار الثورة، إلى جانب معرفتنا بشخصيّتهعليه‌السلام فها هو الحسينعليه‌السلام يخاطب جيش الحرّ بن يزيد الرياحي الذي تعجّل لمحاصرته ولم يسمح له بتغيير مساره قائلا:

(أيّها الناس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غَيّر، وقد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، وإنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تمّمتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسي مع أنفسكم، وأهلي

١٣٥

مع أهليكم، فلكم فيّ أُسوة)(1) .

وفي خطاب آخر بعد أن توضّحت نوايا الغدر والخذلان والإصرار على محاربة الإمامعليه‌السلام وطاعة يزيد الفاسق قالعليه‌السلام : (فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذّاذ الأحزاب ونَبَذَة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ومحرّفي الكتاب ومطفئي السنن وقتلة أولاد الأنبياء ومبيدي عترة الأوصياء وملحقي العهار بالنسب ومؤذي المؤمنين وصُراخ أئمّة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون...).

ثم قالعليه‌السلام : (ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حميّة ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام...)(2) .

من هنا يمكن أن نخلص إلى أسباب ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام كما يلي:

1 - فساد الحاكم وانحراف جهاز الحكومة:

لم يعد في مقدور الإمام الحسينعليه‌السلام أن يتوقّف عن الحركة وهو يرى الانحراف الشامل في زعامة الأمة الإسلامية، فإذا كانت السقيفة قد زحزحت الخلافة عن صاحبها الشرعي وهو الإمام عليعليه‌السلام وتذرّع أتباعها بدعوى حرمة نقض البيعة ولزوم الجماعة وحرمة تفريق كلمة الأمة ووجوب إطاعة الإمام المنتخب بزعمهم، فقد كان الإمام عليعليه‌السلام يسعى بنحو أو بآخر لإصلاح ما فسد من جرّاء فعل الخليفة غير المعصوم، وقد شهد الإمام الحسينعليه‌السلام جانباً من ذلك بوضوح خلال فترة حكم عثمان.

ولقد كانت بنود الصلح تضع قيوداً على تصرّفات معاوية الذي اتّخذ

____________________

(1) تأريخ الطبري: 4 / 304، والكامل في التأريخ: 3 / 280.

(2) أعيان الشيعة: 1 / 603.

١٣٦

أسلوب الخداع والتستّر بالدين سبيلا لتمرير مخطّطاته، أمّا الآن فإنّ الأمر يختلف; إذ بعد موت معاوية لم يبق أيّ علاج إلاّ الصدام المباشر في نظر الإمام المعصوم وصاحب الحقّ الشرعي - الحسينعليه‌السلام - فلم يعد في الإمكان ولو نظرياً القبول بصلاحيّة يزيد وبني أُمية للحكم.

على أنّ نتائج انحراف السقيفة كانت تنذر بالخطر الماحق للدين، فقد قال الإمامعليه‌السلام : (أيّها الناس! إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله).

وقد كان يزيد يتصف بكل ما حذّر منه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان الحسينعليه‌السلام وهو الوريث للنبيّ وحامل مشعل الرسالة - أحقّ من غيره بالمواجهة والتغيير.

2 - مسؤولية الإمام تجاه الأمة:

كان الإمام الحسينعليه‌السلام يمثّل القائد الرسالي الشرعي الذي يجسّد كلّ القيم الخيّرة والأخلاق السامية.

وبحكم مركزه الاجتماعي - حيث إنّه هو سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ووريثه - فإنّه مسؤول عن هذه الأمة، وقد وقفعليه‌السلام في عهد معاوية محاولاً إصلاح الأمور بطريقة سلمية، فحاجج معاوية وفضح مخطّطاته(1) ونبّه الأمة إلى مسؤولياتها ودورها(2) ، بل خطا خطوةً كبيرة لتحفيز الأمة على رفض الظلم(3) ،

____________________

(1) الإمامة والسياسة: 1 / 284.

(2) كتاب سُليم بن قيس: 166.

(3) شرح نهج البلاغة: 4 / 327.

١٣٧

وحاول جمع كلمة الأمة في وجه الظالمين(1) .

ولمّا استنفد كلّ الإجراءات الممكنة لتغيير الأوضاع الاجتماعية في الأمة تحرّك بثقله وأهل بيته للقيام بعمل قويّ في مضمونه ودلالته وأثره وعطائه لينهض بالأمة لتغيير واقعها الفاسد.

3 - الاستجابة لرأي الجماهير الثائرة:

لم يكن بوسع الإمام الحسينعليه‌السلام أن يقف دون أن يقوم بحركة قوية، وقد تكاثرت عليه كتب الرافضين لبيعة يزيد بن معاوية تطلب منه قيادة زمام أمورها والنهوض بها، وقد حمّلته المسؤولية أمام الله إذا لم يستجب لدعواتهم، وكانت دعوة أهل الكوفة للإمام الحسينعليه‌السلام بمثابة الغطاء السياسي الذي يعطي الصفة الشرعية لحركته، فلم تكن حركته بوازع ذاتي ولا مطمع شخصي، لا سيّما بعد إتمام الحجّة عليه من قبل هؤلاء المسلمين.

4 - محاولة إرغامهعليه‌السلام على الذلّ والمساومة:

لقد كان الإمام الحسينعليه‌السلام يحمل روحاً صاغها الله بالمُثل العليا والقيم الرفيعة، ففاضت إباء وعزّةً وكرامةً، وفي المقابل تدنّت نفسيّة يزيد الشريرة ونفسيات أزلامه، فأرادوا من الإمام الحسينعليه‌السلام أن يعيش ذليلا في ظلّ حكم فاسد: وقد صرّحعليه‌السلام قائلاً: (ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله ونفوس أبيّة وأنوف حميّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

وفي موقف آخر قالعليه‌السلام :(لا أرى الموت إلاّ سعادةً والحياة مع الظالمين إلاّ برماً).

____________________

(1) أنساب الأشراف: ق 1 / ج 1، وتأريخ ابن كثير: 8 / 162.

١٣٨

بهذه الصورة الرائعة سنّ الإمام الحسينعليه‌السلام سنّة الإباء لكلّ من يدين بقيم السماء وينتمي إليها ويدافع عنها، وانطلق من هذه القاعدة ليغيّر الواقع الفاسد.

5 - نوايا الغدر الأموي والتخطيط لقتل الحسينعليه‌السلام :

استشفّ الإمام الحسينعليه‌السلام - وهو الخبير الضليع بكلّ ما كان يمرّ في معترك الساحة السياسية والمتغيّرات الاجتماعية التي كانت تتفاعل في الأمة - نوايا الغدر والحقد الأموي على الإسلام وأهل البيتعليهم‌السلام وتجارب السنين الأولى من الدعوة الإسلامية، ثم ما كان لمعاوية من مواقف مع الإمام عليعليه‌السلام ومن بعده مع الإمام الحسنعليه‌السلام .

وأيقن الحسينعليه‌السلام أنّهم لا يكفّون عنه وعن الفتك به حتى لو سالمهم، فقد كان يمثّل بقية النبوّة والشخصية الرسالية التي تدفع الحركة الإسلامية في نهجها الحقيقي وطريقها الصحيح.

ولم يستطع يزيد أن يخفي نزعة الشرّ في نفسه، فقد روي أنّه صرّح قائلاً في وقاحة:

لستُ من خندف إن لم انتقم

من بني أحمد ما كان فعلْ

وقد أعلن الإمام الحسينعليه‌السلام أنّ بني أُمية لا يتركونه بحال من الأحوال فقد صرّح لأخيه محمد بن الحنفية قائلاً: (لو دخلت في جُحْر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتى يقتلوني).

وقالعليه‌السلام لجعفر بن سليمان الضبعي: (والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة - يعني قلبه الشريف - من جوفي).

١٣٩

فتحرّك الإمامعليه‌السلام من مكة مبكّراً ليقوم بالثورة قبل أن تتمكّن يد الغدر من قتله وتصفيته، وهو بعد لم يتمكّن من أداء دوره المفروض له في الأمة آنذاك، وسعى لتفويت أيّة فرصة يمكن أن يستغلّها الأمويون للغدر به، والظهور بمظهر المدافع عن أهل بيت النبوّة.

6 - انتشار الظلم وفقدان الأمن:

قام الحكم الأموي على أساس الظلم والقهر والعدوان، فمنذ أن برز معاوية وزمرته كقوّة في العالم الإسلامي برز وهو باغ على خليفة المسلمين وإمام الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسرف في ممارساته الظالمة التي جلبت الويل للأمة، فقد سفك الدماء الكثيرة، واستعمل شرار الخلق لإدارة الأمور يوم تفرّد بالحكم، بل وقبل أن يتسلّط على الأمة كانت كلّ العناصر الموالية له تشيع الخوف والقتل حتى قال الناس فيولاية زياد بن أبيه: (انج سعد، فقد هلك سعيد) للتدليل على ضياع الأمن في جميع أنحاء البلاد(1) .

ومن جانب آخر أمعنت السلطة الأُموية في احتقار فئات و قطاعات كبيرة من الأمة بنظرة استعلائية قبلية(2) ، كما مارس معاوية في سياسته التي ورثها يزيد أنواع الفتك والتعذيب والتهجير للمسلمين وبالأخص من عرف منه ولاء أهل البيتعليهم‌السلام (3) .

وبكلّ جرأة على الحقّ واستهتار بالقيم يقول معاوية للإمام الحسينعليه‌السلام : يا أبا عبد الله، علمت أنّا قتلنا شيعة أبيك فحنّطناهم وكفّناهم

____________________

(1) تأريخ الطبري: 6 / 77، وتأريخ ابن عساكر: 3 / 222، والاستيعاب: 1 / 60، وتأريخ ابن كثير: 7 / 319.

(2) العقد الفريد: 2 / 258، وطبقات ابن سعد: 6 / 175، ونهاية الإرب: 6 / 86.

(3) شرح النهج: 11 / 44، وتأريخ الطبري: 4 / 198.

١٤٠

وأمطر في كل البلاد صواعقاً

وهبت له ريح من الشر زعزع

فلم ينج منهم غير من باع دينه

وقال بما يرضي الضلوع ويقنع

ولا عز إلّا من أتى بنميمة

ولا ذل إلّا مؤون متورع

منازل أهل الجور في كل بلدة

عمار وأهل العدل في تلك بلقع

يقولون في أرض العراق مشعشع

وهل بقعة إلّا وفيها مشعشع

فلا فرق إلّا عجزهم واقتداره

وظلمهم فيما يطيقون اشنع

لقد صاقت الآفاق وارتق الفضا

فليس لأهل الدين في الأرض موضع

فهل عامر في الأرض بل أو مفازة

وليس لها في الظلم جمع مجمع

وما سن فيها الظلم إلّا عصابة

تقول على آل النّبي تجمع

فأولهم نسل القحافي حبتر

لئيم له في اللؤم أصل وموضع

أبوه دعى لابن جذعان خادم

وحبترة أدنى محل وأوضع

وتابعه ابن الصهاكي أدلم

عتل زنيم فاجر متبدع

إذا كان منسوباً لسبع

فهل عجب فيما يقول ويصنع

وتابعه في الظلم آل اُميّة

تواطوا على ظلم الوصي وأجمعوا

فلم يتركوا للدين أصلاً يقله

ولم يتركوا فرعاً له يتفرع

وقادوا عليّاً في حمائل سيفه

وكسر أسيافاً لقوم وأضلع

كسيف زبير ثمّ ضلع ابن ياسر

وضلع ابن مسعود وللصحف قطع

إذا فعلوا هذا بأصحاب أحمد

وقالوا لنا إن الصحابة أجمعوا

على حبتر ثمّ ارتضوه أميرهم

فهل عاقل يرضى بهذا ويقنع

وفاطمة الزّهراء حازوا تراثها

عناداً فجاءت حبتراً تتشفع

فقال أبوك المصطفى قال معلناً

بأن أولي القربى من الإرث يمنعوا

فقالت فهاتوا نحلتي وعطيتي

فقالوا لها هل شاهد لك يسمع

فقالت شهودي أذهب الرجس عنهم

لهم آية التطهير ما فيه مدفع

هم حيدر وابناه مع اُمّ أيمن

فهل لك في رد الشهادة مطمع

فقال لها ظلماً وكفراً وقسوة

فلسنا بقول البعل والابن نقنع

فلما رأت تصميمه في ضلاله

وليس عن العصيان أو الظلم يقلع

١٤١

فقامت وأنت عند ذلك أنة

يكاد لها صم الصفا يتصدع

وتابعت الزفرات والنوح والبكا

إلى أن قضت لم يرق للطهر مدمع

فيا عجباً من رده لشهودها

وقول أناس ليس في الكفر تطمع

ألم يفقهوا أقواله وفعاله

ألم ينظروا يا ويلهم ثمّ يسمعوا

فهل رد إلّا من نفى الرجس عنهم

ورد الذي قد جاء بالوحي يصدع

يزكي إله العالمين وأحمد

أناساً ويأتي نغل تيم ويمنع

فتباً لها من اُمة ضل سعيها

توالي كفراً بالإله وتتبع

وأعظم من كل الرزايا رزية

مصارع يوم الطّفّ أدهى واشنع

بها لبس الدين الحنيفي خلعة

من الذل لا تبلى ولا تتقطع

فما أنس لا أنس الحُسين ورهطه

وعترته بالطف ظلماً تصرع

ولم أنسه والشمر من فوق رأسه

يهشم صدراً وهو للعلم مجمع

ولم أنس مظلوماً ذبيحاً من القنا

وقد كان نور الله في الأرض يلمع

يقبله الهادي النّبي بنحره

وموضع تقبيل النّبي يقطع

إذا حز عضو منه نادى بجده

وشمر على تصميمه ليس يرجع

وميز عنه الرأس ظلماً وقسوة

ولا عينه تندو ولا القلب يخشع

تزلزلت الأفلاك من كل جانب

تكاد السما تنقض والأرض تقلع

وعرج جبرائيل ينوح بحرقة

ويشجي أملاك السما ويفجع

وضجت أملاك السّماء وتناوحت

طيور الفلا والوحش والجن أجمع

وجئن كريمات الرّسول حواسراً

ولم يبق جيب لا يشق ويرقع

تقبل جثمان الحُسين سكينة

وشمر لها بالسوط ضرباً يقنع

فيؤلمها ضرب السياط فتلتجي

لعمتها من حيث بالضرب توجع

تقول له يا شمر ويحك خلها

إذا كان بالتقبيل ترضى وتقنع

وترفع صوتاً اُمّ كلثوم بالبكا

وتشكو إلى الله العلي وتضرع

وتندب من عظم الرزية جدها

فلو جدنا ينظر إلينا ويسمع

أيا جدنا نشكو إليك اُميّة

فقد بالغوا في ظلمنا وتبدعوا

أيا جدنا لو أن رأيت مصابنا

لكنت ترى أمراً له الصخر يصدع

أيا جدنا هذا الحُسين معفراً

على الترب محزوز الوريدين مقطع

١٤٢

فجثمانه تحت الخيول ورأسه

عناداً بأطراف الأسنة برقع

أيا جدنا لم يتركوا من رجالنا

كبيراً ولا طفلاً على الثدي يرضع

أيا جدنا لم يتركوا لنسائنا

خماراً ولا ثوباً ولم يبق برقع

أيا جدنا سرنا عرايا حواسرا

كأنا سبايا الروم بل نحن أوضع

أيا جدنا لو أن ترانا أذلة

أسارى إلى أعدائنا نتضرع

ايا جدنا نسترحم القوم لم نجد

شفيعاً ولا من ذي الإساءة يدفع

أيا جدنا شمر يبز قناعنا

ويضربنا ضرب الإماء ويوجع

أيا جدنا زين العباد مكبل

عليل سقيم مدنف متوجع

إذا ما رآنا حاسرات بلا غطا

تكاد الحشا تنفت والروح تنزع

فيصرف عنا الوجه من غير بغضة

ويرنو إلى الرأسُ الحُسينُ فيجزع

فما فعلت عاد كفعل اُميّة

ولكنهم آثار قوم تتبع

فما قتل السبط الشهيد ورهطه

سوى عصبة يوم السقيفة أجمعوا

وما ذاك إلّا سامري وعجله

أهم أصلوا للظلم والقوم فرعوا

ألا لعن الله الذين توازروا

على ظلم آل المصطفى وتجمعوا

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

بكم مفلح مستعصم متمنع

وأنتم ملاذي عند كل كريهة

وأنتم له حصن منيع ومفزع

إذا كنتم درعي ورمحي ومنصلي

فلا اختشي بأساً ولا أتروع

بك أتقي هول المهمات في الدنا

وأهوال روعات القيامة أدفع

فدونكموها من محب ومبغض

له كبد حرى وقلب مفجع

ولا طاقتي إلّا المدائح والهجا

وليس بهذا علة القلب تنفع

الا ساعة فيها أجرد صارماً

وأضرب هام القوم حتّى يصرع

فحينئذ يشفي الفؤاد وحزنه

مقيم ولو لم يبق للقوم موضع

فكيف ولو بالحر قسنا جميعهم

لزاد عليهم للرياحي اصبع

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

ويا من بهم يعطي الإله ويمنع

ألا فاقبلوا من عبدكم ومحبكم

قليلاً فإن الحر يرضى ويقنع

فإن كان تقصير بما قد أتيته

فساحة غدري يا موالي مهيع

فلست بقوال ولست بشاعر

ولكن من فرط الأسى أتولع

١٤٣

الباب الثّالث

أيّها الإخوان , كيف تخفي زفرات الأحزان ؟ أم كيف تطفي لهبات الأشجان ؟ أتراكم ما تعلمون ما جرى على سادات الزّمان في تلك الأماكن والأوطان ؟ قسماً بالبيت العتيق , لو فكّر المؤمن فيما اصابهم من المحن , لغدى روحه أن تخرج من البدن , كيف لا وهم أنوار الله في أرضه وسمائه , وأصفياء الله وأبناء أصفيائه ! اجتروا عليهم فقطّعوا منهم الأوصال , وجدّلوهم على الرّمال , وجرّعوهم كؤوس الحتوف بأرض الطّفوف , وأخذوا نساءهم سبايا على أقتاب المطايا , عرايا حفايا على أيدي أهل العناد وأشرّ العباد , أمر تكاد السّماوات أن يتفطّرن منه , وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا :

والله ما عاد بأعظم جرأة

منهم ولا فعلت ثمود وتبع

وناداهم لما به حفوا معاً

زمراً ولم يك من لقاهم يجزع

يا شر خلق الله ما من مسلم

منكم له دين يكف ويردع

حرم النّبي تموت من حر الظما

والوحش في ماء الشريعة يترع

ألكم طلائب عندنا تبغونها ؟

أم ما عرفتم ويلكم ما يصنع

فيا لهف نفسي على الكهول والشّبان ! ويا تأسّفي على تلك الأجسام والأبدان ! فيا ليتني كنت تراباً لأقدامهم , وخادماً من جملة خدّامهم.

روي عن المفضل بن عمر , قال : قُلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام ) : كيف كانت ولادة فاطمة (عليها‌السلام ) ؟ فقال : (( نعم , إنّ خديجة لـمّا تزوج بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , هجرتها نساء مكّة , وكنّ لا يدخلنّ إليها ولا يسلّمنّ عليها ولا يتركن امرأة تدخل إليها , فاستوحشت خديجة لذلك , فلمّا حملت بفاطمة , كانت فاطمة تحدّثها في بطنها وتصبّرها , وكانت تكتم ذلك عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فدخل يوماً فسمع خديجة تحدّث فاطمة , فقال لها : يا خديجة , مَن تحدثين ؟ قالت : الجنين في بطني يحدّثني ويؤنسني قال : يا خديجة , هذا جبرائيل يبشّرني أنّها ابنتي , وأنّها النّسلة الطّاهرة الميمونة , وأنّ الله سيجعل نسلي منها , وسيجعل من نسلها أئمة , ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه.

فلم تزل خديجة (عليها‌السلام ) على ذلك حتّى حضرت ولادتها , فوجّهت إلى نساء قُريش

١٤٤

وبني هاشم : أن تعالين لتلين منّي ما تلي النّساء من النّساء فأرسلنّ إليها : عصيتينا ولم تقبلي قولنا , وتزوجت مُحمّداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له , فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً فاغتمّت خديجة (عليها‌السلام ) لذلك , فبينما هي كذلك , إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنّهن من نساء بني هاشم , ففزعت منهنّ لـمّا رأتهن , فقالت إحداهنّ : لا تحزني يا خديجة , إنّا رسل ربّك ونحن أخواتك ؛ أنا سارة , وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنّة , وهذه مريم بنت عمران , وهذه كلثم أخث موسى بن عمران , بعثنا الله إليك ؛ لنلي منك ما تلي النّساء من النّساء فجلست واحدة عن يمينها واُخرى عن يسارها , والثّالثة بين يديها والرّابعة من خلفها , فوضعت فاطمة (عليها‌السلام ) طاهرة مطهّرة , فلمّا سقطت إلى الأرض , أشرق منها النّور حتّى دخل بيوت مكّة , ولم يبق في شرق الأرض ولا في غربها إلّا أشرق فيه ذلك النّور , ودخل عشر من الحور العين , كلّ واحدة منهنّ معها طشت من الجنّة وإبريق من الجنّة , وفي الإبريق ماء من ماء الكوثر , فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها , فغسّلتها بماء الكوثر , وأخرجت خرقتين بيضاوين , أشدّ بياضاً من اللبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر , فلفّتها بواحدة وقنّعتها بالثّانية , ثمّ استنطقتها فنطقت فاطمة (عليها‌السلام ) بالشّهادتين , فقالت : أشهد أن لا إله إلّا الله , وأنّ أبي مُحمّد رسول الله سيّد الأنبياء , وأنّ بعلي سيّد الأوصياء , وولدي سادة الأسباط , ثمّ سلّمت عليهنّ واحدة وسمّت كلّ واحدة باسمها , وأقبلنّ يضحكن إليها , وتباشرت الحور العين , وبشّر أهل السّماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة , وحدث في السّماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك , ثمّ قالت النّسوة : خذيها يا خديجة , طاهرة مطهّرة زكية ميمونة , بورك فيها وفي نسلها فتناولتها فرحة مستبشرة , وألقمتها ثديها فدرّ عليها , وكانت فاطمة تنمو في اليوم كما ينمو الصّبي في الشّهر , وفي الشّهر كما ينمو الصّبي في السّنة )).

وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , قال : (( فاطمة سيدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين , وأنّها لتقوم في محرابها , فيسلّم عليها سبعون ألف مَلك من الملائكة المقرّبين , وينادونها بما نادت به الملائكة مريم , فيقولون : يا فاطمة , إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين ثمّ يلتفت إلى عليّ (عليه‌السلام ) , فيقول له : يا عليّ , فاطمة بضعة منّي وهي نور عيني وثمرة فؤادي , يسوءني ما ساءها

١٤٥

ويسرّني ما سرّها , وإنّها أوّل من يلحقني من أهل بيتي , فأحسن إليها بعدي )) :

يا نفس إن تتلقي صبراً فقد ظلمت

بنت النّبي رسول الله وإبناها

تلك التي أحمد المختار والدها

وجبرائيل أمين الله رباها

الله طهرها من كل فاحشة

من كل ريب وزكاها وصفاها

فهذا يا إخوان الدّين ما وصل إلينا في ولادة بنت سيّد المرسلين.

وأمّا ولادة الحُسين بن عليّ (عليهما‌السلام ) , فقد روي فيها عن ابن عبّاس , قال : لـمّا أراد الله أن يهب لفاطمة الزّهراء , وكان في رجب في اثني عشر ليلة خلت منه ، فلمّا وقعت في طلقها , أوحى الله عزّ وجلّ إلى لعيا ( وهي : حوراء من الجنّة ) وأهل الجنان إذا أرادوا أن ينظروا إلى شيء حسن نظروا إلى لعيا ، قال : ولها سبعون ألف وصيفة , وسبعون ألف قصر , وسبعون ألف مقصورة , وسبعون ألف غرفة مكلّلة بأنواع الجواهر والمرجان , وقصر لعيا أعلا من تلك القصور ومن كلّ القصور في الجنّة , إذا أشرفت على الجنّة , نظرت جميع ما فيها وأضاءت الجنّة من ضوء خدّها وجبينها , فأوحى الله إليها : (( أن اهبطي إلى دار الدّنيا , إلى بنت حبيبي مُحمّد فآنسي لها )) فأوحى الله إلى رضوان خازن الجنان : (( أن زخرف الجنّة وزيّنها ؛ كرامة لمولود يولد في دار الدّنيا )) وأوحى الله إلى الملائكة : (( أن قوموا صفوفاً بالتّسبيح والتّقديس والثّناء على الله تعالى )) وأوحى إلى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل : (( أن اهبطوا إلى الأرض في قنديل من الملائكة )) قال ابن عباس : والقنديل ألف ألف ملك , فبينما هبطوا من سماء إلى سماء , إذا في السّماء الرّابعة ملك يُقال له (صلصائيل) , له سبعون ألف جناح قد نشرها من المشرق إلى المغرب , وهو شاخص نحو العرش ؛ لأنّه ذكر في نفسه فقال : ترى الله يعلم ما في قرار هذا البحر , وما يسير في ظلمة الليل وضوء النّهار ؟ فعلم الله تعالى في نفسه , فأوحى الله إليه : (( أن أقم مكانك لا تركع ولا تسجد ؛ عقوبة لك لما فكّرت )).

قال : فهبطت لعيا على فاطمة , وقالت لها : مرحباً بك يا بنت مُحمّد كيف حالك ؟ قالت (عليها‌السلام ) لها : (( بخير )) ولحق فاطمة الحياء من لعيا لم تدري ما تفرش لها , فبينما هي متفكّرة , إذ هبطت حوراء من الجنّة ومعها درنوك من درانيك الجنّة , فبسطته في منزل فاطمة فجلست عليه لعيا , ثمّ إنّ فاطمة (عليها‌السلام ) ولدت الحُسين (عليه‌السلام ) في وقت الفجر , فقبّلته لعيا وقطعت سرّته ونشّفته بمنديل من

١٤٦

مناديل الجنّة , وقبّلت عينيه وتفلت في فيه , وقالت له : بارك الله فيك من مولود وبارك في والديك وهنأت الملائكة جبرائيل , وهنأ جبرائيل مُحمّداً سبعة أيّام بلياليها , فلمّا كان في اليوم السّابع , قال جبرائيل : يا مُحمّد , آتنا بابنك هذا حتّى نراه قال : فدخل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فاطمة , فأخذ الحُسين وهو ملفوف بقطعة صوف صفراء , فأتى به إلى جبرائيل , فحلّه وقبّله بين عينيه وتفل في فيه , وقال : بارك الله فيك من مولود , وبارك في والديك يا صريع كربلاء ! ونظر إلى الحُسين وبكى , وبكى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وبكت الملائكة , وقال جبرائيل : اقرأ فاطمة ابنتك السّلام , وقُل لها : تُسمّيه الحُسين , فقد سمّاه الله جلّ إسمه , وإنّما سُمّي الحُسين ؛ لأنّه لم يكُن في زمانه أحسن منه وجهاً فقال رسول الله (ص) : (( يا جبرائيل , تهنيني وتبكي ؟! )) قال : نعم يا مُحمّد , آجرك الله في مولودك هذا فقال (ص) : (( يا حبيبي جبرائيل ومَن يقتله ؟ )) قال : شراذمة من اُمّتك يرجون شفاعتك لا أنالهم الله ذلك فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( خابت اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها )) قال جبرائيل : خابت ثمّ خابت من رحمة الله , وخاضت في عذاب الله ودخل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فاطمة , فأقرأها من الله السّلام , وقال لها : (( يا بنيّة , سمّيه الحُسين فقد سمّاه الله الحُسين )) فقالت : (( من مولاى السّلام وإليه يعود السّلام , والسّلام على جبرائيل )) وهنأها النّبي وبكى ، فقالت : (( يا أبتاه ! تهنئني وتبكي ؟ )) قال : (( نعم يا بنيّة ! آجرك الله في مولودك هذا )). فشهقت شهقة وأخذت في البكاء وساعدتها لعيا ووصائفها , وقالت : (( يا أبتاه ! مَن يقتل ولدي وقرّة عيني وثمرة فؤادي ؟ )) قال : (( شراذمة من اُمّتي يرجون شفاعتي لا أنالهم الله ذلك )) قالت فاطمة : (( خابت اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها )) قالت لعيا : خابت ثمّ خابت من رحمة الله , وخابت في عذابه (( يا أبتاه ! اقرىء جبرائيل عنّي السّلام , وقُل له في أيّ موضع يُقتل ؟ )) قال : (( في موضع يُقال له كربلاء , فإذا نادى الحُسين لم يجبه أحد منهم , فعلى القاعد من نصرته لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ، ألا أنّه لن يُقتل حتّى يخرج من صلبه تسعة من الأئمة , ثمّ سمّاهم بأسمائهم إلى آخرهم , وهو الذي يخرج آخر الزّمان مع عيسى بن مريم ، فهؤلاء مصابيح الرّحمن وعروة السّلام , محبّهم يدخل الجنّة ومبغضهم يدخل النّار )).

قال : وعرج جبرائيل وعرج الملائكة وعرجت لعيا , فبقي الملك صلصائيل , فقال : يا حبيبي , أقامت القيامة على أهل

١٤٧

الأرض ؟ قال : لا ، ولكن هبطنا إلى الأرض , فهنئنا مُحمّداً بولده الحُسين قال : حبيبي جبرائيل , فاهبط إلى الأرض , فقل له : يا مُحمّد , اشفع إلى ربّك في الرّضا عنّي ؛ فإنّك صاحب الشّفاعة قال : فقام النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ودعا بالحُسين (عليه‌السلام ) , فرفعه بكلتا يديه إلى السّماء , وقال : (( اللّهمّ , بحقّ مولودي هذا عليك إلّا رضيت على الملك )) فإذا النّداء من قبل العرش : (( يا مُحمّد , قد فعلت وقدرك كبير عظيم )) قال ابن عباس : والذي بعث مُحمّداً بالحقّ نبيّاً , إنّ صلصائيل يفخر على الملائكة ؛ أنّه عتيق الحُسين , ولعيا تفخر على الحور العين ؛ بأنّها قابلة الحُسين.

فيا إخواني , يحقّ لمَن فارقته ساداته الذين بهم سعادته , ولم يتمكّن من الوصول إليهم , ولبذل نفسه في الجهاد بين يديهم , أن تسيل دموعه الهاطلة وتزيد حرقته المواصلة , ويواصل النّوح بالعويل لا سيّما لو كان بذاك رضا الجليل ، فنوحوا يا إخواني على ساداتكم الكرام , وتمثّلوا ما أصابهم من الكفرة اللئام , قتلوا رجالهم وذبحوا أطفالهم ونهبوا أموالهم ، فعلى مثلهم فليبك الباكون , وعلى مثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة لابن المتوج ( رحمه ‌الله تعالى )

ألا نوحوا وضجوا بالبكاء

على السبط الشهيد بكربلاء

ألا نوحوا بسكب الدمع حزناً

عليه وامزجوه بالدماء

الا نوحوا على من قد بكاه

رسول الله خير الأنبياء

ألا نوحوا على من قد بكاه

عليّ الطهر خير الأوصياء

ألا نوحوا على من قد بكته

حبيبة أحمد ست النساء

ألا نوحوا على من قد بكاه

لعظم الشجو أملاك السماء

ألا نوحوا على قمر منير

عراه الخسف من بعد الضياء

ألا نوحوا على غصن رطيب

ذوي بعد النظارة والبهاء

ألا نوحوا لخامس آل طه

وياسين وأصحاب العباء

ألا نوحوا على شرف القوافي

ومتخرة المرائي والثناء

ألا نوحوا عليه وقد أحاطت

به خيل البغاء الأشقياء

١٤٨

إذ أقبل واعظاً فيهم خطيباً

وبالغ في النصيحة والدعاء

ألا يا قوم أنشدكم فردوا

جوابي هل يحل لكم دمائي

وجدي أحمد وأبي عليّ

وأمي فاطم ست النساء

فقالوا هل نطقت بقول صدق

وقد أخبرت بالحق السواء

ولكن قد أمرنا لا نخلي

سبيلك أو تبايع بالوفاء

وإلّا بالقواضب والعوالي

نجرعكم بها غصص الظماء

فقال أبالقتال تخوفوني

وهل تخشى الأسود من الظباء

فنادوا للقتال معاً ونادى

أخيل الله هبي للقاء

فكافحهم على غصص إلى أن

أبادوا ناصريه ذوي الوفاء

وصادفهم بمهجته إلى أن

أتاه سهم أشقى الأشقياء

فخرّ وبادر الملعون شمر

وحز وريده بعد ارتقاء

وعلا رأسه في رأس رمح

وخلى الجسم شلواً بالعراء

ومالوا في الخيام فحرقوها

وعاثوا في الذراري والنساء

وساقوا الطاهرات مهتكات

على قتب الجمال بلا وطاء

ألا يا آل ياسين فؤادي

لذكري مصابكم حلف الضناء

فأنتم عدتي لي في يوم معادي

إذا حشر الخلائق للجزاء

وما أرجو لآخرتي سواكم

وحاشا أن يخيب بكم رجائي

أنا ابن متوج توجتموني

بتاج الفخر طراً والبهاء

صلاة الخلق والخلاق تترى

عليكم بالصباح وبالمساء

ولعنته على قوم أباحوا

دماءكم بظلم وافتراء

١٤٩

المجلس الثّامن

في اليوم الرّابع من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأول

تفكّروا أيّها الإخوان في أهل الظّلم والعدوان , كيف حملتهم الأحقاد والغلّ الكامن في الفؤاد , على انتهاك حرمة الرّسول وذرّيّة الزّهراء البتول , فصرعوهم على الرّمال ولم يراقبوا الكبير المتعال , ولا بما قيل وقال , بل رفعوا رؤوس آل النّبي على الرّماح , وتركوا أجسادهم شاحبة تسفى عليها الرّمال ، فهم ما بين قتيل يجري منه الصّديد وأسير مكبّل بالحديد ، وامرأة تحنّ ومريض يئنّ ، وسبايا كسبي العبيد ، يُقادون بالعنف إلى يزيد , كأنّهم اُسارى بني الأصفر وليسوا من ذرّيّة النّبي المطهّر :

قليل لهذا الرزء تكوير شمسها

وإن تفطر السبع الشداد له قطرا

مصاب بكت منه السّماء وأهلها

وأشقت به الشم الرعان على المسرى

وخطب جليل قليل حين حلوله

لدمع رسول الله من عينه أجرى

ليبك بنو السلام طراً عليهم

كما بكت الآيات والملّة الغرا

حملتهم الدُنيا الدّنيّة على قتل العترة النّبوية وقد ورد في الخبر عن سادات البشر , حبّها من أعظم الأخطار الموجبة للسخط ودخول النّار.

وفي الحديث القدسي : (( لو صلّى عبدي صلاة أهل السّماوات وأهل الأرضين , وصام صيام أهل السّماوات وأهل الأرضين , وحجّ حجيج أهل السّماوات وأهل الأرضين

١٥٠

وطوى عن أكل الطّعام مثل الملائكة المقرّبين , ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدّنيا ذرّة , أو من سمعتها أو من رئاستها , أو من محمدتها أو من حليتها , أو من زينتها أدنى من ذرّة , فإنّه لا يجاورني في دار كرامتي ، ولأنزعنّ من قلبه محبّتي , ولأظلمنّ قلبه حتّى ينسى ذكري ؛ حتّى لا أذيقه رحمتي يوم القيامة )).

وفي الخبر عن الصّادق (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا كان يوم القيامة , يمرّ رسول الله بشفير جهنّم , ومعه عليّ بن أبي طالب والحسن والحُسين (عليهم‌السلام ) , فيراهم المختار وهو يومئذ في النّار , فينادي بصوت عال : يا شفيع المذنبين ! أنقذني من النّار فلم يجبه ، فينادي : يا عليّ ! أغثني من النّار فلم يجبه ، فينادي : يا حسن يا سيّد شباب أهل الجنّة ! أدركني فلم يجبه ، فينادي : يا حُسين يا سيّد الشّهداء ! أنا الذي قتلت أعداءك وأخذت لك بالثأر , أنقذني من النّار فيقول النّبي : يا حُسين , إنّ المختار قد احتجّ عليك بأخذ الثّأر من أعدائك , فأنقذه من النّار قال : فينتفض الحُسين (عليه‌السلام ) سريعاً كالبرق الخاطف , ويخرجه من النّار , ويغمسه في نهر الحيوان , ويدخله الجنّة مع الأخيار ببركة النّبي المختار )).

فسُئل الصّادق (ع) : يابن رسول الله , فلِمَ اُدخل المختار النّار وهو من الأخيار والشّيعة الأبرار , وأفضل الأنصار لأهل بيت النّبي المختار ؟! فقال (عليه‌السلام ) : (( إنّ المختار كان يحبّ السّلطنة , وكان يحبّ الدّنيا وزينتها وزخرفها , وأنّ حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة ؛ لأنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : والذي بعثني بالحقّ نبياً , لو أنّ جبرائيل أو ميكائيل كان في قلبهما ذرّة من حبّ الدّنيا , لأكبّهما الله على وجوههما في نار جهنّم )).

فنزّهوا أيّها الإخوان أنفسكم عن الرّاكعون إلى الدُنيا , وإيّاكم وطلب الرّئاسة والعليا ؛ فإنّها دار لا يدوم فيها نعيم , ولم يبق أحد من شرّها سليم , وكيف يرضى العاقل بالدّنيا دار بعد آل الرّسول وسلالة الطّاهرة البتول ؟! هذه والله دار غدرت بمواليها , فلا خير والله فيها إلّا مَن اتخذ فيها الزّاد ليوم المعاد ، ولعمري , لا عمل فيها أفضل من موالاة الآل , الدّافعة لتلك الأهوال يوم الحشر والمآل :

هم السادة الأطهار آل محمد

هم الدين والدنيا لمن يتعقل

هم الطور والأعراف والنور والضحى

وياسين والأحقاف والمترمل

مهابط وحي الله في حجراتهم

وتبيان برهان الكتاب المنزل

١٥١

فما مثلهم في الكون إن عد مفخر

أعد نظراً يا صاح إن كنت تعقل

خلت منهم أرض العقيق وعطلت

منازل آيات بها الوحي ينزل

منازل تنزيل بها الحزن قد ثوى

ومجلس أنس قد خلا منه نزل

حدا بهم حادي المنايا معجلا

وسارت بهم عنفاً على الابن نزل

أصابتهم أيدي المصائب فاغتدوا

أماثيل في الدّنيا لمن يتمثل

فما منهم إلّا قتيل وهالك

بسم ومذبوح وذاك مكبل

على مثلهم فليبك بالمدى المدى

ويذرف دمعاً كالمسيل مسبل

روي عن عليّ بن عاصم الكوفي الأعمى , قال : دخلت على سيدي ومولاي الحسن العسكري (عليه‌السلام ) , فسلّمت عليه , فردّ عليّ السّلام وقال : (( مرحباً بك يابن عاصم , اجلس مكانك , هنيئاً لك يابن عاصم , أتدري ما تحت قدميك ؟ )) فقلت : يا مولاي , إنّي أرى تحت قدمي هذا البساط , كرّم الله وجه صاحبه فقال لي : (( يا بن عاصم , اعلم أنّك على بساط جلس عليه كثير من النّبيين والمرسلين )) فقلت : يا سيدي , ليتني لا أفارقك ما دمت في دار الدّنيا ثمّ قلت في قلبي : ليتني أرى هذا البساط فعلم الإمام ما في ضميري , فقال : (( ادن منّي )) فدنوت منه , فمسح يده على وجهي , فصرت بصيراً بإذن الله ، ثمّ قال لي : (( هذا قدم أبينا آدم , وهذا أثر هابيل , وهذا أثر شيث , وهذا أثر إدريس , وهذا أثر هود , وهذا أثر صالح , وهذا أثر لقمان , وهذا أثر إبراهيم , وهذا أثر لوط , وهذا أثر شعيب , وهذا أثر موسى , وهذا أثر داود , وهذا أثر سُليمان , وهذا أثر الخضر , وهذا أثر دانيال , وهذا أثر ذي القرنين الاسكندر , وهذا أثر عدنان , وهذا أثر عبد الـمُطّلب , وهذا أثر عبد الله , وهذا أثر عبد مُناف , وهذا أثر جدّي رسول الله , وهذا أثر جدّي عليّ بن أبي طالب ))

قال عليّ بن عاصم : فأهويت على الأقدام كلّها وقبّلتها , وقبّلت يد الإمام العسكري (عليه‌السلام ) , وقلت له : يا سيدي , إنّي عاجز عن نصرتكم بيدي , وليس أملك غير موالاتكم , والبراءة من أعدائكم واللعن لهم في خلواتي , فكيف حالي يا سيدي ؟ فقال : (( حدّثني أبي عن جدّي عن رسول الله , قال : مَن ضعف عن نصرتنا أهل البيت , ولعن في خلواته أعداءنا , بلغ الله صوته إلى جميع الملائكة , فكلّما لعن أحدكم أعداءنا , ساعدته الملائكة ولعنوا من لا يلعنهم ، فإذا بلغ صوته إلى الملائكة , استغفروا له

١٥٢

وأثنوا عليه , وقالوا : اللّهمّ صلّ على روح عبدك , هذا الذي بذل في نصرة أوليائه جهده , ولو قدر على أكثر من ذلك لفعل فإذا النّداء من قبل الله تعالى يقول : يا ملائكتي , إنّي قد أجبت دعائكم في عبدي هذا , وسمعت نداءكم , وصلّيت على روحه مع أرواح الأبرار , وجعلته من الـمُصطفين الأخيار )).

وكذلك قال عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) لأصحابه الذين كانوا معه لـمّا غُصبت الخلافة منه , حيث قال : (( يا أصحابي , الزموا بيوتكم واصبروا على البلاء , ولا تحرّكوا بأيديكم وسيوفكم وأهواء ألسنتكم , ولا تستعجلوا بما يُعجّله الله لكم ؛ فإنّه مَن مات منكم على فراشه وهو على معرفة من حقّ ربّه , وحقّ نبيّه وآل نبيّه , كان كمن مات شهيداً , أو أجره على الله , واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله , وقامت النّية مقام صلاته وجهاده بسيفه ويده , وإنّ لكلّ شيء أجلاً وانتهاء )).

فيا إخوتي , لله درّ الشّيعة الـمُخلصين , والأتباع الـمُتّقين , وأهل الولاية أجمعين , الذين بذلوا قلوبهم في المحبّة , واستعملوها في المودّة والمسبّة.

روي في الخبر عن سيّد البشر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه كان يقول للحسن والحُسين : (( أنتما زينة عرش الرّحمن , أنتما اللؤلؤة والمرجان )) فقيل له : يا رسول الله , وكيف ذلك , وكيف يكونان تزيين عرش الرّحمن ؟ فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إذا كان يوم القيامة , يزيّن عرش ربّ العالمين بكلّ زينة , ثمّ يؤتى بمنبرين من نور , كلّ منبر طوله مئة ميل , فيوضع أحدهما عن يمين العرش , والآخر عن يسار العرش ، ثمّ يؤتى بالحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) , فيقف الحسن على أحدهما والحُسين على الآخر , يزيّن الرّب تبارك وتعالى بهما عرشه كما تزيّن المرأة قرطاها )) ثمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ويوضع يوم القيامة منابر تحت العرش لشيعتي , ولشيعة أهل بيتي المخلصين في ولايتنا , فيقول الله عزّ وجلّ : هلمّوا يا عبادي إليّ لأنشر عليكم كرامتي , فقد أوذيتم في دار الدُنيا )).

وقال أيضاً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أنا الشّجرة وفاطمة فرعها وعليّ لقاحها , والحسن والحُسين ثمرها , وشيعتنا أهل البيت أوراقها , قد أفلح من تمسّك بهذه الشّجرة )).

وفي الخبر أيضاً عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه قال : (( يدخل الجنّة من اُمّتي سبعون ألفاً بلا حساب عليهم ولا عذاب يصل إليهم )) ثمّ التفت إلى عليّ (عليه‌السلام ) , فقال : (( شيعتك هُم وأنت إمامهم )).

وعن أبي عبد الله (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا بلغت نفس المؤمن الحنجرة , وأهوى ملك الموت بيده إليها , يرى قرّة عين , يُقال له : انظر عن يمينك فيرى رسول الله

١٥٣

وعليّاً وفاطمة والحسن والحُسين , فيقولون له : إلينا إلى الجنّة والله لو بلغت روح عدوّنا إلى صدره , وأهوى ملك الموت بيده إليها , لا بدّ أن يُقال : انظر عن يسارك فيرى مُنكراً ونكيراً يُهدّدانه بالعذاب , نعوذ بالله منه )) :

مناقبهم بين الورى مستنيرة

لها غرر مجلوة وحجول

مناقب جلت أن يحاط بحصرها

نمتها فروع قد زكت وأصول

مناقب وحي الله أثبتها لهم

بما قام منه شاهد ودليل

مناقب من خلق النّبي وخلقه

ظهرت فما يغتالهن أفول

أمولاي آمالي تؤمل نصركم

وقلبي إليكم بالولاء يميل

وقد طال عمر الصبر في أخذ ثاركم

كما آن للظلم المقيم رحيل

متى يشتفي حر الغليل ويشتفي

فؤاد بآلام المصاب عليل

ويجبر هذا الكسر في ظل دولة

لها النصر جند والأمان دليل

هنالك يضحى دين آل محمد

عزيزاً ويمسي الكفر وهو ذليل

ويطوي بساط الحزن بعد كآبة

وتنشر نشراً للهناء ذيول

فيا آل طه الطاهرين رجوتكم

ليوم به فصل الخطاب طويل

أقيلوا إعثاري يوم فقري وفاقتي

فظهري بأعباء الذنوب ثقيل

فيا إخواني , دعوا التّشاغل عنكم بالأهل والأوطان والأتراب والأخدان , تفكّروا فيما أصاب سادات الزّمان الذين تمّ لكم بهم الإيمان , واستحققتهم بموالاتهم دخول الجنان ورضاء الرّحمن.

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه ‌الله تع الى)

يا عين لا لخلو الربع والدمن

باكي الرزايا سوى الباكي على السكن

وآسى بني الهدى فيما أصيبت به

وساعدي البضعة الزّهراء على الحزن

وقابليها بارض الطف صارخة

على القتيل الغريب النازح الوطن

١٥٤

تشكو إلى الله والأملاك محدقة

بالعرض تستصرخ المولى أبا حسن

من حولها مريم العذراء وآسية

تكرر النوح بالتذكار والحزن

والنوح من نادبات الجن مرتفع

وقلبها موجع بالثكل والمحن

لهفي على قول مولاتي وقد نظرت

شلو الحُسين بلا غسل ولا كفن

ملقى على الأرض عاري الجسم منعفر

الخدين مختضب الأوداج والذقن

لهفي على زينب حرى مجردة

مسلوبة تستر الأكتاف بالردن

تقول يا واحدي من لي إذا نزلت

بي الحوادث يحميني ويكفيني

لهفي على فاطم الصغرى مقرحة

بالدمع أجفانها مسلوبة الوسن

تدعو إلى زينب يا عمتا سلب العلج

القناع ليسبيني ويهتكني

فرمت أستر وجهي عند رؤيته

فظل يشتمني عمداً ويضربني

أين الحماة وأين الناصرون لنا

وا خيبتي جار دهري واعتدى زمني

لهفي على السيد السجاد معتقلاً

في أسرهم مستذلا ناحل البدن

إذا شكا اسمعوه قبح شتمهم

وإن ونى قنعوه فاضل الرسن

وا حسرتاه لكريم السبط مشتهراً

كالبدر يشرق فوق الدل واللدن

فيا لها محنة عمت مصيبتها

ويا لها حسرة في قلب ذي شجن

يهني يزيد برأس طال ما رشف

المختار من ثغره تقبيل مفتتن

وتستحث بنات المصطفى ذللا

على المطايا إلى الأطراف والمدن

قد قابلونا بنو حرب بما صنعوا

ولا شفوا غلل الأحقاد والضغن

بفعلهم كفروا فينا واعتقدوا

أن لا جزاء على قبح ولا حسن

مضوا على سنن الماضين وارتكبوا

نهج الضلال ومالوا عن هدى السنن

كأنني بالبتول الطهر واقفة

في الحشر تشكو إلى الرّحمن ذي المنن

تأتي وقد ضمخت ثوب الحُسين دماً

من نحره وهي تبدي الحزن في حزن

تدعو الا ابن مسمومي ويا أسفي

على قتيلي ويا كربي ويا حزني

يا رب من نوزعت ميراث والدها

مثلي ومن طولبت بالحقد والإحن

ومن ترى جرعت في ولدها غصص

كما ابن مرجانة الملعون جرعني

ومن ترى كذبت قبلي وقد علموا

أن الإله من الأرجاس طهرني

وهل لبنت نبي أضرمت شعل

كما أطيف به بيتي ليحرقني

١٥٥

خرجت أطلب للأطفال بلغتهم

دفعني ظالمي عنها ودافعني

رب انتصف لي ممن خان عهدك

في ولدي وممن زوى إرثي فأفقرني

وتستغيث أمام العرش ساجدة

والمصطفى واقف والدمع كالمزن

فيبرز الأمر أني قد سمعت وقد

نقمت ممن عصى أمري وخالفني

أعظم بها ومنادي الحشر يسمع بالصوت

الرفيع لديها كل ذي أذن

غضوا العيون فخاتون القيامة قد

جاءت لتشفع فيمن بالولاء كنى

من كل محترق من عظم فجعتها

بكى وساعدها بالمدمع والهتن

يا سادتي الهادي النّبي ومن

أخلصت ودي لهم في السر والعلن

عرفتكم بدليل العقل والنظر المهدي

فلم أخش كيد الجاهل اللكني

ظفرت بالكنز في علم اليقين فلم

أخش اعتراضاً لدى شك ينازعني

فلست آسى على من ظل يبعدني

بالقرب منكم ومن بالغت ترحمني

وإنني أرتجي أن سوف يلطف بي

ربي فيصفح عن جرمي ويرحمني

وأن فاطمة الزّهراء تشفع لي

والمرتضى لجنان الخلد يقسمني

فاز الخليعي كل الفوز واتضحت

بكم له سبل الإرشاد والسنن

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون الأخيار , لا تبخلوا بالدّموع الغزار على عترة النّبي الـمُختار ، ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ويجزل لديه ثوابكم ؟ أليس هُم شفعاؤكم يوم المعاد إذا وقفتم بين يدي ربّ العباد ؟ أليس هُم العدّة لكم بكلّ شدّة ؟ أليس بهم تحطّ الأوزار ؟ أليس هُم الجنان الواقية من النّار ؟ فمَن بخل منكم عليه بإثارة الأحزان والأشجان , فعلى نفسه بخل ولقدر مواليه وساداته حقر وجهل , أيبكي الباكون منكم على الأهل والأولاد والآباء والأجداد ؟ فيا عجباً لمن أساء إليهم وظلمهم وقصّر في حقّهم وما أكرمهم ! وما ارتكب منهم ما يوجب السّخط العظيم , والعدل عن النّهج القويم والصّراط الـمُستقيم ؟! أمر :( تَكَادُ السّماوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الْأَرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً ) (١) :

إن كنت في شك فسل عن حالهم

سنن الرّسول ومحكم التنزيل

فهناك أعدل شاهد لذوي النهى

وبيان فضلهم على التفصيل

____________________

(١) سورة مريم / ٩٠.

١٥٦

ووصية سبقت لأحمد فيهم

جاءت إليه على يدي جبرائيل

روي عن اُمّ سلمة : أنّ الحسن والحُسين دخلا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وكان عنده جبرائيل (عليه‌السلام ) , فجعلا يدوران حوله يشبّهانه بدحية الكلبي , فجعل جبرائيل يومي بيده نحو السّماء كالـمُتناول شيئاً , فإذا بيد جبرائيل تفّاحة وسفرجلة ورمّانة , فناولهما الجميع , فتهلّلت وجوههما فرحاً وسعيا إلى جدّهما , فقبّلهما وقال لهُما : (( اذهبا إلى منزلكما وابدءوا بأبيكما )) ففعلا كما أمرهما جدّهما , ولم يأكلوا منها شيئاً حتّى جاء النّبي إليهم , فجلسوا جميعاً وأكلوا حتّى شبعوا , ولم يزالوا يأكلون من ذلك السّفرجل والتّفّاح والرّمان , وهو يرجع كما كان أوّلاً حتّى قُبض النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ولم يلحقه التّغيير والنّقصان في مدّة أيّام حياة فاطمة (عليها‌السلام ).

قال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( فلمّا توفّيت اُمّي فاطمة , فقدنا الرّمان وبقي التّفّاح والسّفرجل أيّام حياة أبي ، فلمّا استشهد أبي عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) , فقدنا السّفرجل وبقي التّفاح عليَّ إلى وقت مُنعت فيه شرب الماء , فكنت أشمّها إذا عطشت , فيسكن لهيب عطشي ، فلمّا دنا أجلي , رأيتها قد تغيّرت فأيقنت بالفناء )).

قال عليّ بن الحُسين : (( سمعت أبي يقول ذلك قبل مقتله بساعة , فلمّا قضى نحبه , وجد ريح التّفّاح في مصرعه , فالتمست التّفّاحة فلم أجد لها أثراً , فبقي ريحها بعد مقتله (عليه‌السلام ) , ولقد زرت قبره فشممت منه رائحة التّفّاح تفوحّ من قبره صلوات الله عليه , فمَن أراد ذلك من شيعتنا الصّالحين الزّائرين قبر الحُسين , فيلتمس ذلك في أوقات السَّحر , فإنّه يجد رائحة التّفّاح عند قبر الحُسين إن كان مخلصاً موالياً صادقاً )).

وعن الصّادق (عليه‌السلام ) : (( أنّ جبرائيل نزل إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقال : يا مُحمّد , إنّ الله يقرؤك السّلام ويبشّرك بمولود من ابنتك فاطمة الزّهراء (عليها‌السلام ) , وتقتله اُمّتك من بعدك فقال : يا جبرائيل , قُل لربّي , لا حاجة لي في مولد يولد من فاطمة وتقتله اُمّتي من بعدي قال : فعرج جبرائيل (عليه‌السلام ) إلى السّماء في أسرع من طرفة عين , ثمّ هبط وقال : يا مُحمّد , إنّ ربّك يقرأ عليك السّلام , ويبشّرك أنّه جاعل في ذرّيّته الأمانة والولاية والوصيّة فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : رضيت بذلك ثمّ أرسل النّبي إلى ابنته فاطمة (عليها‌السلام ) , يقول : إنّ الله يبشّرك بمولود يولد منك وتقتله اُمّتي من بعدي فجزعت فاطمة وأرسلت إليه تقول : لا حاجة لي في مولود يولد منّي وتقتله اُمّتك من بعدنا فأرسل إليها يقول : إنّ الله

١٥٧

جاعل من ذرّيّته الإمامة والولاية والوصيّة فأرسلت إليه تقول : إنّي قد رضيت :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) (١) [ فلو أنّه قال : اصلح لي ذريتي ، لـ ] كانت ذرّيّته كلّهم أئمة )) فهذه الآية نزلت في شأن الحُسين (ع).

وروي : أنّ الحُسين لم يرضع من ثدي فاطمة شيئاً , ولا رضع من اُنثى لبناً , ولكنّه كان يؤتى به إلى جدّه رسول الله , فيضع إبهامه في فيه , فيمصّ منها لبناً يكفيه ويُغذّيه يومين أو ثلاثة أيّام , فنبت لحم الحُسين من لحم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ودمه من دمه وعظمه من عظمه , ومخّه من مخّه وشعره من شعره , ولم يولد مولود لستة أشهر , إلّا عيسى بن مريم والحُسين بن فاطمة (عليهم‌السلام ).

وفي خبر آخر : أنّ فاطمة (عليها‌السلام ) لـمّا اغتسلت بعدما ولدت الحُسين , جفّ لبنها , فطلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مرضعة , فلم يجد له مرضعة , فكان يأتيه الحُسين مع اُمّ سلمة فيلقمه إبهامه فيمصّه , ويجعل الله له من إبهام النّبي رزقاً يغذّى به بقدرة الله تعالى.

وفي خبر آخر : بل كان رسول الله يُدخل لسانه في فم الحُسين , فيغّره كما يغّر الطّير فرخه , فيجعل الله له في ذلك رزقاً بقدرة الله تعالى , ففعل ذلك به أربعين يوماً وليلة ، فنبت لحمه من لحم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

أيقتل ظمآناً حُسين بكربلا

وفي كل عضو من أنامله بحر

ووالده الساقي على الحوض في غد

وفاطمة ماء الفرات لها مهر

فوا لهف نفسي للحسين وما جنى

عليه غداة الطف في حربه شمر

سنان سنان خارق منه في الحشا

وصارم شمر في الوريد له شمر

تجر عليه العاصفات ذيولها

ومن نسج أيدي الصافنات له طمر

فيا لك مقتولاً بكته السّماء دماً

فمغبر وجه الأرض بالدم محمر

مصابكم يا آل طة مصيبة

ورزء على السّلام أحدثه الكفر

حكى عبد الله بن العبّاس , قال : جاءني رجل من بني اُميّة , فقال : أريد أن أسألك عن سؤال ؟ فقلت له : سل عمّا تُريد فقال لي : يا عبد الله , ما تقول في دم البعوضة , هل يُنقض الوضوء أم لا ؟ وهل هو طاهر أم نجس ؟ فقلت له : ثكلتك اُمّك يا عديم الرأي ! تسأل عن دم البعوضة فلِمَ لا سألت عن دم الحُسين ابن بنت

____________________

(١) سورة الأحقاف / ١٥.

١٥٨

رسول الله ؟! سفكتم دمه وقطعتم لحمه وكسرتم عظمه , وقتلتم أولاده وأطفاله وأنصاره , وسبيتم حريمه ومنعتموه من شرب الماء , ألا لعنة الله على الظّالمين ثمّ التفت عبدالله إلى جلسائه , وقال : انظروا إلى هذا اللعين , كيف يسألني عن دم البعوضة , ولا يخاف أن يسأله الله عن دم الحُسين ابن بنت رسول الله ؟! ثمّ قال لأصحابه : والله , إنّي سمعت بهاتي أذني من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول مراراً كثيرة : (( الحسن والحُسين ريحانتاي في الدُنيا , وهُما منّي وأنا منهُما , أحبّ الله مَن أحبّهما , وأبغض الله مَن أبغضهما , وآذى الله مَن آذاهما , ووصل الله مَن وصلهما , وقطع الله مَن قطعهما , فإنّهما ابناي وسبطاي وقرّتا عيني , وسيّدي شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين )) فقلت : يا رسول الله , أيّ أهل بيتك أحبّ إليك ؟ فقال : (( الحسن والحُسين أحبّ النّاس إليّ )) وكان يقول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا فاطمة , ادعى لي ابني )) فيأتيان إليه فيضمّهما إليه , ويشمّهما ويقبّلهما ويقول : (( أحبّ الله مَن أحبّ الحسن والحُسين ومَن أحبّ ذرّيّتهما , فمَن أحبّهم لم تمس جسده نار جهنّم ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج , إلّا أن يكون له ذنب يخرجه عن الإيمان )).

وعن الأوزاعي , عن عبد الله بن شداد , عن اُمّ الفضل بنت الحرث , أنّها دخلت على رسول الله فقالت : يا رسول الله , رأيت البارحة حلماً مُنكراً شديداً قال : (( وما هو يا اُمّ الفضل ؟ )) قالت : رأيت كأنّ قطعة من جسدك قُطعت ووضعت في حجري فقال رسول الله : (( يا اُمّ الفضل , ستلد ابنتي فاطمة غُلاماً , فتكون تربيته في حجرك )) قالت : فولدت فاطمة الحُسين وكان كما قال رسول الله , فربّيته في حجري ، فدخلت به يوماً على النّبي فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي إلتفاتة , فإذا عينا رسول الله تهرقان بالدّموع , فقلت : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ، ما لك تبكي ؟! فقال : (( أتاني جبرائيل أخي , وأخبرني أنّ اُمّتي ستقتل ابني هذا , وأتاني بقبضة من تربة حمراء فأرانيها )).

ومن طرقهم : أنّ عيسى بن مريم (عليه‌السلام ) مرّ بكربلاء , فرأى عدّة من الظّباء هناك مجتمعة , فأقبلت إليه وهي تبكي , وأنّه جلس وجلس الحواريّون , فبكى وأبكى الحواريّين وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى , فقالوا : ياروح الله وكلمته , ما يبكيك ؟ قال : أتعلمون أيّ أرض هذه ؟ قالوا : لا قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ لرسول أحمد , وفرخ الخيّرة الطّاهرة البتول شبيهة اُمّي , ويُلحد فيها , وهي أطيب من المسك ؛ لأنّها طيبة الفرخ المستشهد , وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء (عليهم‌السلام ) , وهذه الظّباء

١٥٩

تكلّمني وتقول : إنّها ترعى في هذه الأرض ؛ شوقاً إلى تربة الفرخ الـمُبارك وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض ثمّ ضرب بيده إلى ثغر تلك الظّباء فشمّها , وقال : اللّهمّ , ابقها حتّى يشمّها أبوه فتكون له عزاء فبقيت إلى أيّام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , فشمّها وبكى وأخبر بقصّتها.

وعن سلمان الفارسي , أنّه قال : كان سيّدنا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يحدّثنا كثيراً بالأشياء والمغيّبات , التي تحدث على مرور السّنين والأوقات , وأنّه يوم الجُمُعة يخطب على منبره في جامع الكوفة , فقال في خطبته : (( أيّها النّاس , سلوني قبل أن تفقدوني , فو الله , لا تسألوني عن فئة تضلّ مئة وتهدي مئة , إلّا أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة )) قال : فقام إليه رجل فاجر فاسق , وقال له : يا عليّ , أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ؟ فقال له (عليه‌السلام ) : (( والله , لقد أخبرني بسؤالك هذا ابن عمّي رسول الله , ونبّأني بما سألت عنه , وإنّ على كلّ طاقة من شعر رأسك ولحيتك شيطاناً يغويك ويستفزّك , وإنّ على كلّ شعرة من بدنك شيطاناً يلعنك ويلعن ولدك ونسلك , وإنّ لك ولداً رجساً ملعوناً , يقتل ولدي الحُسين بن بنت رسول الله , وأنت وولدك بريئان من الإيمان , ولولا أنّ الذي سألتني عنه يعسر برهانه لأخبرتك به , ولكن حسبك فيما نبأتك به من لعنتك ورجسك , وولدك الملعون الذي يقتل ولدي ومهجة قلبي الحُسين )) قال : وكان له ولد صغير في ذلك الوقت , فلمّا نشأ وكبر وكان من أمر الحُسين ما كان , نمى الصّبي وتجبّر وتولّى قتل الحُسين (عليه‌السلام ) وقيل : إنّ ذلك الصّبي كان اسمه خولّى بن يزيد الأصبحي , وهو الذي طعن الحُسين برمحه , فخرج السّنان من ظهره , فسقط الحُسين على وجهه يخور في دمه ويشكو إلى ربّه :( أَلَا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ ) (١) فيا ويلهم ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حُرمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , كأنّهم ما سمعوا ما ورد في حقّهم , أم سمعوا وهم غافلون ! :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) .

فعلى الأطائب من آل بيت مُحمّد فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ ابن حماد (رحمه‌ الله ت عالى)

أرى الصبر يفنى والهموم تزيد

وجسمي يبلى والسقام جديد

____________________

(١) سورة هود / ١٨.

(٢) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220