المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ٢

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)21%

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 272

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 272 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35181 / تحميل: 5569
الحجم الحجم الحجم
المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

والخلافُ في مجرّد الاصطلاح ؛ وإلاّ فقد يقبلون الخبرَ الشاذّ، والمعلَّل ؛ ونحن قد لا نقبلهما، وإنْ دخلا في الصحيح بحسبِ العوارض.

وقد يُطلَقُ الصحيحُ عندنا على سليمِ الطريقِ من الطّعنِ(١) ، بما يُنافي الأمرين ؛ وهما: كون الراويباتصالٍ، عدلاً إمامياً ، وإن اعتراه مع ذلك الطريقِ السالمِ إرسالٌ أو قطع(٢) .

وبهذا الاعتبار، يقولونَ كثيراً: روى ابن أبي عُمير(٣) في الصحيحِ كذا، أو في صحيحتهِ كذا(٤) ، مع كونِ روايته المنقولة كذلك مرسلَة.

ومثله وقع لهم في المقطوع كثيراً.

وبالجملة، فيطلقونالصحيح على ما كان رجال طريقه، المذكورين فيه، عدولاً إمامية، وإنْ اشتملَ على أمرٍ آخر بعد ذلك ؛ حتّى أطلقوا الصحيحَ على بعضِ الأحاديث المرويّة عن غير إمامي ؛ بسبب صحّةِ السّندِ إليه، فقالوا في صحيحةِ فلان: وجدناها صحيحة بِمَن عداه.

وفي الخُلاصة وغيرها: إنَّ طريقَ الفقيهِ إلى معاوية بن ميسرة(٥) ، وإلى عائذ الأحمَسيّ(٦) ،

____________________

(١) ذكرى الشيعة إلى أحكام الشريعة، ص٤.

(٢) يُنظر: المصدر نفسه.

وقد علَّق المددي هنا بقوله: (بحسب إطلاق اللفظ ؛ إذ الظاهر من (الاتّصال إلى المعصوم بعدلٍ إمامي)، باعتبار العدالة والإيمان في الراوي، عن المعصوم مباشرةً، ولا يدلّ على اعتبار العدالة والإيمان في جميع الطبقات).

(٣) محمد...، لقي أبا الحسن موسىعليه‌السلام ... وروى عن الرِّضاعليه‌السلام ، جليلُ القدر،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ١٤/ ٢٩٥ - ٣١١.

(٤) قال المددي: هذه العبارات وقعت كثيراً، في كلام مَن تأخّر عن العلاّمة الحليّ كثيراً. وأمَّا قبله، فلم يكن مُتعارفاً عندَ الأصحاب. قالَ فخر المحقّقين - وهو نجلُ العلاّمة - في إيضاح الفوائد (١/ ٢٥ - ٢٦) في مسألة العجين النجس، وأنَّه هل يجوز بيعه أم لا؟ قالقدس‌سره ما نصُّه: (أقولُ: رواية البيع هي رواية محمد بن عليّ بن محبوب في الصحيح، عن محمد بن الحُسين، عن ابن أبي عُمير، عن بعض أصحابنا،...، قال: قيل لأبي عبد اللهعليه‌السلام : العجين يُعجن من الماء النّجس كيف يُصنع به؟ قال: (يُباع ممَّن يستحِلُّ أكل الميتة). وروى محمد بن أبي عُمير في الصحيح، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: (يُدفَن ولا يُباع،...).

(٥) ابن شريح بن الحارث الكندي القاضي، روى عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام .... ينظر: رجال ابن داوود، ق١، عمود ٣٥٠ - ٣٥١.

(٦) من أصحاب السجّادعليه‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ٩/ ٢١٣ - ٢١٤.

٨١

والِى خالدِ بن نجيح(١) ، وإلى عبدِ الأعلى مولى آل سام(٢) ، صحيحٌ(٣) ؛ مع أنَّ الثلاثةَ الأُوَلَ لم يُنَصّ عليهم بتوثيقٍ ولا غيره، والرابع لم يوثِّقه، وإنْ ذكرَهُ في القسم الأوَّل(٤) .

وكذلك نقلوا الإجماع(٥) على تصحيح ما يصحُّ، عن أبانِ بنِ عُثمان(٦) ، مع كونِه فَطحِيّاً(٧) .

وهذا كلّهُ خارجٌ عن تعريفِ الصَّحيح الذي ذكروه في التعريفين ؛ خصوصاً الأوّلَ المشهور.

ثُمَّ في هذا الصحيح ما يُفيدُ فائدةَ الصحيح المشهور(٨) ، كصحيحِ أبان.

ومنهُ ما يُرادُ منهُ وصفُ الصحَّةِ دونَ فائدتِها(٩) ، كالسالم طريقُهُ مع لُحوقِ الإرسالِ به، أو القطع، أو الضعف، أو الجهالة بِمَنْ اتَّصلَ بهِ الصحيحُ، فينبغي التدبّر لذلك ؛ فقد زلّ فيه أقدامُ أقوامٍ.

____________________

(١) من أصحاب الصادق والكاظمعليهما‌السلام .... ينظر: معجم رجال الحديث: ٧/ ٣٨ - ٤٠.

(٢) من أصحاب الصادقعليه‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ٩/ ٢٦٥ - ٢٦٧.

(٣) ينظر: خلاصة الأقوال في معرفة الرِّجال، ص٢٧٧ - ٢٧٨.

(٤) ينظر: المصدر نفسه، ص١٢٧.

وأَضاف المددي هنا بقوله: (لكنَّ العلاّمة جعلَ القسمَ الأوّل مختصّاً بالثّقات).

(٥) قال المددي: (الناقلُ هو الكشّيّ ؛ حيثُ قال: (أجمعت العُصابةُ على تصحيح ما يصحُّ عن هؤلاء، وتصديقهم كما يقولون، وأقرّوا لهم

بالفقه...، ستة نفر: جميل بن درّاج، وعبدالله بن مسكان، وعبدالله بن بكير، وحمّاد بن عثمان، وحمّاد بن عيسى، وأبان بن عثمان). وحولَ مغزَى هذا الإجماع وقعتْ أبحاث عميقةٌ في كتُب الرّجال، ويُعَبّر عنهم ب- : أصحاب الإجماع ).

(٦) من أصحاب الصادق والكاظمعليهما‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ١/ ٣٢ - ٤٠.

(٧) نسبةً إلى الفطحيَّة ؛ وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر... ؛ سُمّوا بذلك لأنَّ عبد الله كان أفطح الرأس، وقال بعضُهُم: كان أفطح الرِّجلين.... كتابُ المقالات والفِرَق، ص٨٧.

(٨) قال المددي: أي: يصحّ الاعتماد عليه، والاحتجاج به، كسائر الروايات الصحاح.

(٩) وعلَّق المددي هنا بقوله: (يعني: هذا القسم، وإنْ صدَقَ عليه أنَّه صحيحٌ، إلاّ أنَّه لا يصح الاعتماد عليه، والعملُ به ؛ للإرسال، أو

الضعف، أو غيرهما، الطارئة له.

٨٢

الحَقلُ الثاني:

في

الحَسَن(١)

وهو: ما اتّصلَ سندُهُ كذلك - أي إلى المعصوم - بإمامي ممدوحٍ، من غير نصٍّ على عدالته، مع تَحقُّق ذلك في جميع مراتبه - أي جميع [مراتب] رواة طريقه - أو تحقّق ذلك في بعضها ؛ بأن كانَ فيهم واحدٌ إمامي ممدوحٌ غير موثَّق، مع كون الباقي من الطريقِ من رجالِ الصحيح ؛ فيُوصفُ الطريقُ بالحسَن لأجلِ ذلك الواحد.

واحترز بكونالباقي من رجال الصحيح عمَّا لو كان دونه، فإنَّه يلحق بالمرتبة الدُّنيا، كما لو كان فيه واحدٌ ضعيفٌ فإنَّه يكون ضعيفاً، أو واحدٌ غير إمامي عدلٌ فإنَّه يكونُ مِن الموثَّق.

وبالجملة، فيَتْبع أخَسَّ ما فيه من الصفاتِ، حيثُ تتعدَّد.

وهذا كُلُّهُ واردٌ على تعريفِ مَنْ عرَّفه من الأصحاب - كالشهيدِرحمه‌الله - بأنَّه: (ما رواه الممدوح من غير نصٍّ على عدالته)(٢) .

أ - فإنَّه يشملُ: ما كان في طريقه واحدٌ كذلك(٣) ، وإن كانَ الباقي ضعيفاً، فضلاً عن غيرهِ.

ب - ويُزيد: أنَّهُ لم يُقيِّد الممدوحَ بكونه إمامياً، مع أنَّه مُراداً.

ويُطلقُ الحسنُ أيضاً على ما يشملُ الأمرين - وهما كونُ الوصفِ المذكور:في جميعِ مراتبهِ، وفي بعضها ؛ بمعنى كونُ روَاتهِ متَّصِفين بوصفِ الحسَن - إلى واحدٍ مُعيَّن،

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة (ورقة ١٣، لوحة ب، سطر ١٠): (الثاني: الحسن) فقط، بدون: (الحقل الثاني: في الحسن).

(٢) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص٤.

(٣) أي: الإمامي الممدوح. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص١٤.

٨٣

ثم يصيرُ بعد ذلك ضعيفاً أو مقطوعاً أو مرسلاً - كما مرَّ في الصحيح - مع اتصاف رواته بالوصفين ؛ وهما: كونُ كُلِّ واحدٍ إمامياً، وممدوحاً على وجهٍ لا تبلغُ العدالةُ كذلك ؛ أي كما أنَّ الصحيحَ يُطلقُ على سليمِ الطريقِ ممَّا يُنافي الأمرين - [وهما كونُ الراوي: عدلاً، إمامياً] - وإنْ لم يتّصلْ.

ومن هذا القسم حُكْمُ العلاّمةِ(١) وغيرُهُ: بكونِ طريقِ الفقيهِ(٢) إلى منذرِ بن جبير(٣) حسَناً ؛ مع أنَّهم لم يذكروا حالَ منذرٍ بمدحٍ ولا قَدح.

ومثلهُ طريقُه إلى إدريسِ بن يزيد(٤) .

وإنَّ طريقَه إلى سُماعة بن مهران(٥) حَسَنٌ(٦) ، مع أنَّ سُماعةَ واقفي(٧) . وإن كانَ ثقةً ؛ فيكون من الموثَّق، لكنَّه حسنٌ بهذا المعنى.

____________________

(١) الحسنُ بنُ يوسف بنُ المطهَّر الحلّي(٦٤٨ه- - ٧٢٦ه-).... ينظر: الأعلام: ٢/ ٢٤٤.

(٢) أي طريق الصدوق في كتاب (مَن لا يحضره الفقيه). ينظر: شرح مشيخة الفقيه: ٤/ ٩٩.

(٣) يُنظر: خُلاصة الأقوال في معرفة الرّجال، ص٢٨٠. وفي مستدرك الوسائل(٣/ ٦٨٨): (الصحيح: أنَّ منذر هو ابن جيفر) ؛ حيثُ قد قيل أيضاً: جعفر، وجيفر.

ويُراجَع كذلك: معجم رجال الحديث(١٨/ ٣٨٠ - ٣٨١).

أمَّا في نسختنا الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٤، لوحة ب، سطر ٢)، فإنَّه: منذرُ بن جُبير، بدلاً مِن كُلّ ما سَبَق.

(٤) مِن أصحابِ الصادقعليه‌السلام ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ٤/ ١٤. والذي في النسخة المعتمدة (ورقة ١٤، لوحة ب، سطر ٤) (إدريس بن زيد)، بدلاً من إدريس بن يزيد.

(٥) روى عن أبي عبد الله وأبي الحسنعليهما‌السلام ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ٨/ ٢٩٩ - ٣٠٤.

(٦) يُنظر: خلاصةُ الأقوال في معرفة الرجال، ٢٧٧.

(٧) نسبةً إلى الواقفة ؛ سُمُّوا بذلك: لوقوفهم على موسى بن جعفر، أنَّه الإمام القائم، ولم يأتمُّوا بعده، ولم يتجاوزوا إلى غيره. ينظر: كتاب المقالات والفِرق، ص٩٠.

٨٤

وقد ذكر جماعةٌ من الفقهاء(١) : أنَّ روايةَ زرارةَ(٢) - في مُفسدِ الحجِّ، إذا قضاه ؛ أنَّ الأُولى حجّةُ الإسلام(٣) - مِن الحسن(٤) ؛ مع أنَّها مقطوعةٌ(٥) .

ومثلُ هذا كثيرٌ، فينبغي مراعاتُهُ كما مرَّ في الصحيح.

_____________________

(١) قالَ المددي: (منهم المحقق الثاني، كما في (جامع المقاصد): ١/ ١٨٤ ).

(٢) مِن أصحابِ الباقر والصادق والكاظمعليهم‌السلام ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ٧/ ٢١٨ - ٢٤٠.

أمَّا القولُ بكونه من أصحاب الكاظمعليه‌السلام ، كما ذهبَ إلى ذلك مثلُ الشيخ الطوسيّ، فإنَّما بلحاظ أنَّهُ أدرك زمانه (صلواتُ الله عليه). وأمَّا مَن يَذهب إلى أنَّه لم يكن من أصحابهعليه‌السلام ، فذلك بلحاظ كونه لم يروِ عنهعليه‌السلام .

(٣) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (روايةُ زرارة ؛ هي ما رواه الكليني - والشيخ عنه - بإسناده عن زرارة ؛ وفي ذيلها: (قلتُ: فأيُّ الحجَّ-تين لهما؟ قال: (الأولى التي أحدثا فيها ما أحدثا، والأخرى عليها عقوبة). ينظر: جامع أحاديث الشيعة: ١١/ ١٧٧).

(٤) وهنا علَّق المددي أيضاً بقوله: (باعتبار اشتمال السَّند على إبراهيم بن هاشم ؛ فهو وإن كان إمامياً، ممدوحاً، كثير الرواية، حتى أنَّه لا يُوجد أكثر روايةٍ منه في الكتب الأربعة، إلاّ أنَّه لم يُنص على توثيقه صريحاً ؛ وبذلك تكون الرواية باعتباره حسنة).

(٥) كما علَّق المددي هنا أيضاً بقوله: (مرادهُرحمه‌الله من المقطوعة: المضمرَة، وهذا دأبه في جميع مؤلَّفاتهقدس‌سره .

والمُضمرة: هي الروايةُ التي لم يُذكَر فيها المرويُّ عنه، ولم يُعلَم مَنْ هو المسؤولُ عنه.

وهذه الرواية رُويت عن زُرارة، قال: سألتهُ... إلخ، ولم يُعيِّن المسؤول عنه. وسيأتي الكلامُ في حجيَّة هذا القسم من الرّوايات).

٨٥

الحقل الثالث:

في

الموثَّقِ(١)

سُمِّيَ بذلك لأنَّ راويه ثقة، وإن كانَ مُخالفاً ؛ وبهذا فارقَ الصحيحَ مع اشتراكهما في الثقة، ويُقالُ لهُ: القويُّ أيضاً ؛ لقُوّة الظنِّ بجانبه بسببِ توثيقهِ.

وهو:

[ أوَّلاً ]:

ما دخلَ في طريقهِ (مَن نصَّ الأصحابُ على توثيقه، مع فساد عقيدته)(٢) ؛ بأن كان من إحدى الفرق المُخالفة للإمامية، وإن كانَ من الشيعة.

واحترز بقوله(٣) : (نصَّ الأصحابُ على توثيقه) عمَّا لو رواه المخالفون في صحاحهم التي وثَّقوا رُواتها ؛ فإنَّها لا تدخلُ في الموثَّق عندنا ؛ لأنَّ العبرة بتوثيق أصحابنا للمُخالف، لا بتوثيق غيرنا ؛ لأنَّا لم نقبلْ إخبارَهم بذلك(٤) .

وبهذا يندَفِعُ ما يُتَوَهَّمُ: من عدمِ الفرقِ بينَ رواية مَن خالفنا، مِمَّن ذُكر في كتب حديثنا، وما رووه في كتبهم.

وحينئذٍ، فذلك كلُّهُ يلحق بالضّعيف عندنا ؛ لِمَا سيأتي من صِدق تعريفه عليه، فيُعمل منهُ بما يُعمل بهِ منه.

[ثانياً]:

ولم يشتَمل باقيه ؛ أي باقي الطريق، على ضعيف ؛ وإلاّ لكانَ الطريقُ ضعيفاً، فإنّه يتبعُ الأَخسَّ كما سبَق.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٤، لوحة ب، سطر٨): (الموثَّق) فقط، بدون: (الحقل الثالث: في الموثَّق).

(٢) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص٤.

(٣) فيما يبدو: أنَّ مرجع الضمير هو: المعرِّف، وما شابه ذلك.

(٤) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (لأنَّ مرجع التوثيق - على ما هو المعروف عندهم - مردُّه إلى الشهادة، والعدالة معتبرةٌ فيها).

٨٦

وبهذا القيد سَلِمَ ممَّا يَرِد على تعريفِ الأصحاب لهُ بأنَّ الموثَّقَ: (ما رواهُ مَن نُصَّ على توثيقهِ، مع فسادِ عقيدته)(١) ؛ فإنَّهُ يشتَمِلُ بإطلاقه ما لو كانَ في الطريقِ واحدٌ كذلك، معَ ضعفِ الباقي، وليس بِمُرادٍ كما مرَّ.

وقد يُطلق القويّ على مرويِّ الإمامي ؛ غير الممدوح ولا المذموم(٢) ، ك-: نوح بن درَّاج(٣) ، وناجية بن أبي عُمارةَ الصيداويِّ(٤) ، وأحمد بن عبد الله بن جعفرِ الحِميريِّ(٥) ، وغيرهم، وهُم كثيرون.

وقولُنا:(غيرُ المَمدوح ولا المَذموم)

[أ] خيرٌ من قولِ الشهيدرحمه‌الله وغيرهِ في تعريفهِ:(... غيرُ المذموم) (٦) ، مُقتصرين عليه ؛ لأنَّه يشمُلُ الحَسَن، فإنَّ الإمامي المَمدوحَ: غيرُ مذموم، ولو فُرِضَ كونُهُ قد مُدِحَ وذُم كما اتّفق لكثير.

[ب] وردٌّ على تعريف الحسن أيضاً ؛ والأولى: أن يطلب حينئذ الترجيحُ، ويُعملُ بِمُقتضاهُ، فإن تحقَّقَ التعارضُ، لم يكُن حسَناً. وعلى هذا ؛ فينبغي زيادة تعريفِ الحسن: بكونِ المدحِ مقبولاً ؛ فيُقالُ: ما اتّصلَ سندُهُ بإمامي ممدوحٍ مدحاً مقبولاً... إلخ ، أَو غير معارض بذمٍّ ؛ ونحو ذلك.

____________________

(١) ينظر: ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص٤.

(٢) ينظر: المصدر نفسه.

(٣) من أصحابِ الصادقعليه‌السلام ،.... معجم رجال الحديث: ١٩/ ٢١٩ - ٢٢٢.

(٤) من أصحاب الباقرعليه‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ١٩/ ١٤٤ - ١٤٥.

(٥) كان له مكاتبة،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ٢/ ١٣٧.

(٦) ويبدو أنّ في المقام اشتباهاً: إمَّا من الشهيد الثاني في نقله، وإمَّا من قول الشهيد الأوَّل في نسخه ؛ ذلك لأنَّ الذي وردَ في الكتاب المطبوع (ذكرى الشيعة إلى أحكام الشريعة)(ص٤) جاءَ فيه: (وقد يُرادُ بالقويّ: مرويّ الإمامي، غير المذموم ولا الممدوح ؛ أو مرويّ المشهور في التقدُّم غير الموثّق ؛ والضعيف يقابلهُ ؛ وربَّما قابل الضعيف: القبيحُ، والحسنُ، والموثّقُ).

٨٧

الحقل الرابع:

في

الضعيف(١)

وهو ما لا يجتمع فيه شروط أحد الثلاثة المتقدِّمةِ ؛ بأن يشتملَ طريقُهُ على مجروح بالفسقِ ونحوه، أو مجهول الحالِ، أو ما دونَ ذلك ؛ كالوضَّاعِ.

ويُمكن اندراجهُ في المجروح، فيُستغنَى به عنِ الشّقّ الأخير(٢) .

[أ] - ودرجاته في الضّعف متفاوتةٌ بحسبِ بُعده عن شروط الصحّة، فكلَّما بعُدَ بعضُ رجاله عنها، كانَ أقوى في الضّعف ؛ وكذا ما كثُر فيه الرواةُ المجروحون، بالنِّسبةِ إلى ما قلّ فيه(٣) .

كما تتفاوتُ درجاتُ الصحيح، وأخويه الحسن والمُوَثّق، بحسبِ تمكُّنه من أوصافها. فما رواهُ الإمامي الثقةُ، الفقيه الورع الضابطُ - كابنِ أبي عُميرٍ - أصحّ ممَّا رواه مَن نقصَ في بعضِ الأوصاف، وهكذا إلى أن ينتهي إلى أقلِّ مراتبه.

وكذلك ما رواه الممدوح كثيراً - كإبراهيم بن هاشمٍ(٤) - أحسنُ ممَّا رواه مَن هو دونه في المدح، وهكذا إلى أن يتحقَّق مُسمَّاهُ.

وكذا القولُ في المُوَثّق ؛ فإنَّ ما كانَ في طريقه، مثلُ عليّ بن فَضَّال(٥) ، وأبانِ بن عثمان(٦) ، أقوَى مِن غَيره، وهكذا...

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٥، لوحة ب، سطر ٧): (الرابع الضعيف) فقط، بدون: (الحقل الرابع: في الضعيف).

(٢) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (ولعلّ الأحسنَ إبقاءه ؛ للفرق الواضح بينَ خبرِ شاربِ الخمر، وخبرِ الكذَّاب الوضَّاع).

(٣) سيأتي مزيدُ بيانٍ عن أنواعِ الحديثِ الضعيف في النظرِ الثاني من القسمِ الثاني مِن البابِ الأوّلِ، حسبَ الهيكل العامّ المعدَّل، الذي عملنا على رسمه.

(٤) من أصحاب الرّضاعليه‌السلام ،.... يُنظَر: معجم رجال الحديث: ١/ ١٧٧ - ١٩١.

(٥) هو عليُّ بن الحسَن بن فضّال الفطحيّ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ١٢/ ١٢٣.

(٦) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (أبانُ بن عثمان: ثِقةٌ جليلٌ ؛ وقد عُدَّ مِن أصحابِ الإجماع ؛ إلاّ أنَّه نوقشَ في مذهبه ؛ فعَنْ بعضِ نُسَخِ الكشّي: وكان من الناووسيّة. وعن المحقِّق - والعلاّمة في خاتمة الخلاصةِ - : أنَّهُ فطحيُّ. كما نُسِبَ إلى العلاّمةِ في محكيّ المختلَف: أنَّه واقفيّ.

ولم يثبت شيءٌ من ذلك كُلّهِ، وللتفصيلِ مجالٌ آخر، لا يسعه هذا المختصر).

٨٨

[ب]. وَيَظهرٌ أثر القوّةعندَ التعارضِ ؛ حيث يعمَل بالأقسام الثلاثة، ويخرج أحد الأخيرين شاهداً(١) ، أو يتعارضُ صحيحان أو حسنان، حيثُ يجوزُ العملُ بهِ(٢) .

وكثيراً ما يُطلَق الضعيفُ في كلام الفُقهاء على روايةِ المجروحِ خاصة، وهو استعمالُ الضعيفِ في بعضِ مواردهِ، وأمرُهُ سهلٌ.

____________________

(١) أي: الحسن أو الموثّق، بأن جعله شاهداً للصحيح، بدون العمل به. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص١٧.

(٢) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (أي: بالقويّ (الموثَّق) ؛ فعند تعارضِ الصحيحين أو الحسنين، يُرجعُ إلى الموثَّق، ويُعمل به ِ؛ ويكونُ مُرَجِّحاً لأحدهما على الآخر).

٨٩

النظرُ الثاني: في حُجِّيَّةِ العملِ بها

وفيه حُقول:

الحقل الأوَّل:

في

العملِ بخبرِ الواحد(١)

وأعلَم: أنَّ مَن منعَ العملَ بخبر الواحد مُطلقاً، كالسيِّدِ المرتضى، تنتَفي عندَهُ فائدةُ البحثِ عن الحديثِ غير المتواتر مُطلَقاً ؛ ومَنْ جوَّزَ العملَ بخبرِ الواحدِ، كأكثرِ المتأخّرين في الجُملة.

فائدةُ القيد: التنبيه، على أنَّ مَن عمِل بخبر الواحد، لم يعمل به مُطلقاً ؛ بَلمنهم مَن خصَّه بالصحيح،ومنهم من أضاف الحسَن،ومنهم من أضافَ الموثَّق،ومنهم من أضافَ الضعيفَ على بَعض الوجوه كما سننبّه عليهِ.

فالعاملُ بخبر الواحدِ على أيّ وجهٍ كان: قَطَعَ بالعمل بالخبر الصحيح ؛ لِعدم المانع منه، فإنَّ رواته عُدول، صحيحو العقايد ؛ لكن لم يُعمل به مطلقاً ؛ بل حيثُ لا يكون شاذّاً، أو معارضاً بغيره من الأخبارِ الصحيحة، فإنَّه حينئذٍ يُطلبُ المُرَجِّحُ.

ورُبَّما عمِل بعضهم بالشاذِّ أيضاً، كما اتّفقَ للشيخين(٢) في صحيحة زُرارة ؛ في مَن دخل في الصلاة بتيمُّم ثُمّ أحدثَ؟

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٦، لوحة ب، سطر ١٠): (النظر الثاني: في حُجِّ-يَّةِ العمل بها. وفيه حقول: الحقل الأول: في العمل بخبر الواحد) غير موجود ؛ وإنَّما أضفناه للضرورة المنهجية والإخراجيَّة.

(٢) يقول الفقيه المقداد السيوريّ في مقدِّمة كتابه (التنقيح الرائع لمختصر الشرائع)، وهو مخطوطٌ محفوظ في (مكتبة آية الله الحكيم العامّة) في النجف الأشرف، تحت رقم ٣٠٦، يقول المقدادُ: (المرادُ بالشيخ هو: الطوسيرحمه‌الله . وبالشيخين: هو مع المفيد. والثلاثة: هما مع المُرتضى. وعلَمُ الهدى: هو المُرتضى).

٩٠

إنَّه: يتوضأُ حيث الماء، ويبني على الصلاة ؛ وإنْ خصَّاها بحالة الحدث ناسياً(١) ؛ ومثل ذلك كثيرٌ.

___________________

(١) قلتُ: صحيحة زرارة هذه، إنَّما هي من الشاذ بالتفسير الذي فسَّره به بعضُ العامَّة ؛ وهو ما انفرد به راوٍ واحد.

وأمَّا الشذوذ بالتفسير الذي ذكره أكثرهم، واعتمده الوالدقدس‌سره فيما يأتي، وهو: (ما رواه الثقة مخالفاً لِمَا رواه الأكثرُ)، فليسَ ذلك بمتحقِّق فيها ؛ إذ لم يرد بخلافها رواية، فضلاً عن رواية الأكثر له.

نعم، هي مخالفة للمعهود في نظائر الحكم من منافيات الصلاة ؛ ولفظُ التفسير كما لا يخفى، غير متناول لمثل هذه المخالفة، فليُنظر.

حسنرحمه‌الله (هامش الخطِّيَّة المعتمدة: روقة ١٦، لوحة ب)

والمقصود بعبارة (حسنرحمه‌الله ) هو: الشيخ حسن صاحب كتاب (المعالم)، وهو ابن الشهيد الثاني صاحبٍ (الدراية).

وأمَّا بخصوص الصحيحة، فينظر: مَن لا يحضرهُ الفقيه: ١/ ٥٨، باب التيمّم، حديث ٢١٤/ ٤، وتهذيب الأحكام (للشيخ الطوسي، في شرحِ المقنعة للشيخ المفيد): ١/ ٢٠٥، باب التيمّم وأحكامه، حديث ٥٩٥/ ٦٩، والاستبصار: ١/ ١٦٧، بابُ مَن دخلَ في الصلاةِ بتيمّم ثُمَّ وجدَ الماءَ، حديثُ ٥٨٠/ ٦.

٩١

الحقل الثاني:

في

العمل بالخبر الحسن(١)

واختلفوا في العمل بالحسن:

فمنهم مَنعمل به مطلقاً كالصحيح، وهو الشيخرحمه‌الله - على ما يظهر من عمله - وكلّ مَن اكتفى في العدالة بظاهر الإسلام، ولم يشترط ظهورها.

ومنهم مَن ردَّهمطلقاً ، وهم الأكثرون ؛ حيث أشترطوا في قبول الرواية: (الإيمانَ، والعدالةَ)، كما قطَع بهالعلاّمةُ في كتبه الأُصوليَّة،وغيره .

والعجبُ أنَّ الشيخرحمه‌الله اشترطَ ذلك أيضاً في كتبِ الأصولِ، ووقع له في الحديث وكتب الفروع الغرائب ؛ فتارة يعمل بالخبر الضعيف مطلقاً، حتّى أنَّه يُخصِّص به أخباراً كثيرةً صحيحةً، حيث تعارضه بإطلاقها، وتارةً يُصرِّح بردِّ الحديث لضعفه، وأخرى يردّ الصحيح ؛ معلِّلاً بأنَّه خبر واحد، لا يوجب علماً ولا عملاً كما هي عبارة المرتضى.

وفصّل آخرون في الحسن: كالمحقِّق في المُعتبر، والشهيد في الذّكرى ؛ فقبلوا الحسن، بل الموثَّق ؛ وربَّما ترقّوا إلى الضعيف أيضاً إذا كان العمل بمضمونه مشتهراً بين الأصحاب ؛ حتّى قدّموهُ حينئذٍ على الخبرِ الصحيحِ حيثُ لا يكونُ العملُ بمضمونهِ مشتهِراً.

____________________

(١) الذي في النسخةِ الخطِّيَّة (روقة ١٦، لوحة ب، سطر ٩): (الحقل الثاني: في العمل بالخبر الحسن)، غير موجود.

٩٢

الحقل الثالث:

في

العمل بالخبرِ الموثَّق(١)

وكذا اختلفوا في العمل بالموثّق نحو اختلافهم في الحسن،فقبله قوم مطلقاً ،وردَّه آخرون، وفصّل ثالث [بالشهرة وعدمِها](٢) .

ويُمكنُ اشتراكُ الثلاثة في دليل واحدٍ يدلّ على جواز العمل بها مطلقاً ؛ وهو: أنَّ المانعَ من قبول خبرِ الفاسق هو فسقه ؛ لقوله تعالى:( إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا... ) (٣) . فمتى لم يُعلم الفسق، لا يجب التثبُّت عند خبر المُخبر مع جهل حاله ؛ فكيف مع توثيقه ومدحه، وإن لم يبلُغ حدَّ التعديل؟ وبهذا احتجَّ مَن قبل المراسيل.

وقدأجابوا عنه ب-: أنَّ الفسقَ لمَّا كان علَّة التثبُّتِ، وجبَ العلمُ بنفيه ؛ حتّى يُعلم وجود انتفاء التثبُّت، فيجب التفحُّصُ عن الفسق، ليُعلَم أو

عدمه، حتّى يُعلَم التثبُّت أو عدمه.

وفيه نظرٌ ؛ لأنّ الأصل عدمُ وجودِ المانع في المُسلمِ. ولأنَّ مجهولَ الحال، لا يُمكن الحكمُ عليهِ بالفسقِ ؛ والمُرادُ في الآية: المحكومُ عليهِ بالفسقِ.

____________________

(١) الذي في النسخة المعتمدةِ (ورقة ١٧، لوحة أ، سطر ٩): (الحقل الثالث: في العمل بالخبر الموثق) غير موجود.

(٢) هذه الزيادة غير موجودة في النسخة الخطِّيَّة المتداولة (ورقة ١٧، لوحة ب، سطر ١٠)، وإنَّما هي موجودة في طبعة النعمان المتداولة، وقد أثبتناها هنا لمزيد إيضاح وتوضيح.

(٣) سورة الحجرات، آية ٧.

٩٣

الحقل الرابع:

في

العمل في الخبر الضعيف(١)

وأمَّا الضعيف ؛فذهبَ الأكثر إلى منع العمل به مُطلقاً ؛ للأمر بالتثبُّت عندَ إخبارِ الفاسق المُوجبِ لردِّهِ.

وأجازَهُ آخرون - وهُم جماعةٌ كثيرةٌ: منهم مَن ذكرناه - مع اعتضادِه بالشّهرة روايةً ؛ بأن يكثر تدوينها وروايتها: بلفظٍ واحدٍ، أو ألفاظٍ متغايرةٍ متقاربة المعنى، أوفتوىً بمضمونها في كتب الفقه ؛ لقوَّة الظنّ بصدق الرّاوي في جانبها - أي جانب الشّهرة - وإن ضعُفَ الطريقُ ؛ فإنَّ الطريقَ الضعيفَ، قد يثبُتُ بهِ الخبرُ مع اشتهارِ مضمونِهِ ؛ كما تُعلَمُ مذاهبُ الفِرَقِ الإسلاميَّة - كقول: أبي حنيفة(٢) ، والشافعيِّ(٣) ، ومالك(٤) ، و أحمد - بإخبار أهلها - مع الحكم بضعفهم عندَنا - وإن لم يبلغوا حدَّ التواتر.

وبهذا اعتُذر للشيخرحمه‌الله في عمَله بالخبر الضّعيفِ.

وهذهِ، حجّةُ مَنْ عمِلَ بالموثّق أيضاً، بطريقٍ أولى.

وفيه نظرٌ ، يخرج تحريره عن وضع الرسالة ؛ فإنَّها مبنيةٌ على الاختصار، ووجهُهُ على وجه الإيجاز: إنَّا نمنع من كون هذه الشُّهرة التي ادّعوها مؤثِّرةً في جبر الخبر الضّعيف ؛ فإنَّ هذا إنّما يتمّ لو كانت الشّهرة متحقّقةٌ قبلَ زمنِ الشيخرحمه‌الله ، والأمرُ ليس كذلك ؛ فإنَّ مَنْ قبله من العلماء كانوا بينَ مانع من خبر الواحد مُطلقاً - كالمرتضى والأكثر، على ما نقله جماعة - وبين جامع للأحاديث، من غير التفات إلى تصحيح ما يصحُّ، وردِّ ما يُرَدُّ. وكانَ البحثُ عن الفتوى مُجرَّدةً - لغيرِ الفريقين - قليلاً جداً كما لا يخفَى على مَن اطّلعَ على حالِهِم.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٧، لوحة ب، سطر ٦): (الحقل الرابع: في العمل بالخبر الضعيف) غير موجود.

(٢) النعمان بن ثابت: ٨٠ - ١٥٠ه-،.... ينظر: الأعلام: ٩/ ٤ - ٥.

(٣) محمد بن إدريس: ١٥٠ - ٢٠٤ه-،.... ينظر: الأعلام: ٦/ ٢٤٩ - ٢٥٠.

(٤) مالك بن أنس: ٩٣ - ١٧٩،.... ينظر: الأعلام: ٦/ ١٢٨.

٩٤

فالعمل بمضمون الخبر الضّعيف قبل زمن الشيخ، على وجه يجبر ضعفه، ليس بمتحقّقٍ. ولمّا عمل الشيخ بمضمونه، في كتبه الفقهيَّة، جاء مَن بعده من الفقهاء واتّبعه منهم عليها الأكثر ؛ تقليداً له، إلاّ مَن شذّ منهم. ولم يكن فيهم مَن يسبر الأحاديث، وينقِّب على الأدلّة بنفسه سوى الشيخ المحقِّق ابن إدريس(١) ، وقد كان لا يجيز العمل بخبر الواحد مطلقاً.

فجاء المتأخّرون بعد ذلك، ووجدوا الشيخ ومَن تبعه قد عملوا بمضمون ذلك الخبر الضّعيف ؛ لأمر ما رأوه في ذلك، لعلّ الله تعالى يعذرهم فيه ؛ فحسبوا العلم به مشهوراً، وجعلوا هذه الشّهرة جابرةً لضعفه. ولو تأمّل المنصف، وحرَّر المنقِّب، لوجد مرجع ذلك كلّه إلى الشيخ، ومثل هذه الشّهرة، لا تكفي في جبر الخبر الضّعيف.

ومن هنا، يظهر الفرق بينه وبين ثبوت فتوى المخالفين بأخبار أصحابهم ؛ فإنَّهم كانوا منتشرين في أقطار الأرض من أوّل زمانهم، ولم يزالوا في أزياد(٢) .

وممَّن اطّلع على أصل هذه القاعدة - التي بيَّنتُها وتحقَّقتُها - من غير تقليدٍ: الشيخ الفاضل المحقِّق سديد الدّين محمود الحُمُّصي(٣) ، والسيّد رضيّ الدّين ابن طاووس(٤) ، وجماعة.

قالَ السيّدرحمه‌الله في كتابه (البهجة لثمرة المهجة): (أخبرني جدّي الصالح، ورّام بن أبي فراس (قدّس الله سرّه)(٥) ، أنَّ الحُمُّصي حدَّثه: أنَّه لم يبق للإماميّة مفتٍ على التّحقيق، بل كلّهم حاكٍ.

____________________

(١) صاحب كتاب: (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي)،.... ينظر: روضات الجنَّات: ٦/ ٢٧٤ - ٢٩٠.

(٢) أي: العلم بمذاهب المخالفين وفتاويهم مستفادٌ من أصحابهم، وحيثُ لم يكونوا ثقة عندنا، كان إخبارُهم بمذاهبهم من باب الأخبار الضعيفة، لكن اعتبرها أصحابنا، وحكموا بأنَّ هذا القول لأبي حنيفة، وهذا للشافعي، وغيرهما، استناداً إلى الشهرة التي انجبر الضعيف بها. وليس تلك الشّهرة كالشهرة التي ادّعاها أصحابنا في بعض الأخبار ؛ لِمَا عرفت أصلها. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص٢٠.

(٣) علاّمةُ زمانه في الأُصولَين، ورع ثقة،.... ينظر: روضات الجنَّات: ٧/ ١٥٨ - ١٦٤.

(٤) السيّد الشريف: رضيّ الدين أبو القاسم علي، بن سعد الدين أبي إبراهيم موسى، بن جعفر، بن محمد، بن أحمد، بن محمد، بن أحمد، بن أبي عبد الله محمد، بن الطاووس ؛ ينتهي نسبه الشريف إلى الحسن المثنّى.... ينظر: البحار: ١/ ١٤٣ - ١٤٦.

وكذلك له ترجمةٌ ضافيةٌ في مقدِّمة: كشف المحجّة لثمرة المهجة، المطبوع في النجف الأشرف، بقلم البحّاثة الكبير آغا بزرگ الطهراني.

(٥) من أولاد مالك الأشتر النخعيّ، عالم فقيه،.... ينظر: روضات الجنَّات: ٨/ ١٧٧ - ١٧٩.

٩٥

وقالَ السيّد عقيبه: والآن، فقد ظهر أنَّ الذي يُفتى به ويُجاب عنه، على سبيل ما حُفظ من كلام العلماء المتقدّمين)(١) انتهى.

وقد كشفتُ لك بذلك بعضَ الحال، وبقيَ الباقي في الخَيال، وإنَّما يتنبّه لهذا المقال، مَن عرف الرِّجال بالحقّ، وينكره مَن عرف الحقّ بالرّجال(٢) .

وجوّزَ الأكثر العمل به - أي بالخبر الضعيف - في نحو: القصص، والمواعظ، وفضائل الأعمال، لا في نحو: صفات الله المُتعال، وأحكام الحلال والحرام.

وهو حسن حيث لا يبلغ الضعف حدّ الوضع والاختلاق ؛ لِمَا اشتهر بين العلماء المحقِّقين من التساهل بأدلَّة السُّنن، وليس في المواعظ والقصص غير محض الخير، لِمَا ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله - من طريق الخاصّة والعامّة - أنَّه قال: (مَن بلغه عن الله تعالى فضيلةً، فأخذها وعمل بما فيها إيماناً بالله ورجاء ثوابه، أعطاه الله تعالى ذلك وإنْ لم يكن كذلك)(٣) . وروى هشام بن سالم - في الحسن(٤) -، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: (مَن سمع شيئاً من الثواب على شيء، فصنعه، كان له أجر، وإن لم يكن على ما بلغه)(٥) .

____________________

(١) وقد علّق المددي هنا بقوله: (إنَّ كتاب (البهجة لثمرة المهجة) لم يصل إلينا، ولكنّ السيّد ابن طاووس ذكر هذا الكلام بعينه في كتابه: (كشف المحجّة لثمرة المهجة)(ص١٢٧)، المطبوع في النجف الأشرف).

(٢) هذه العبارة - فيما يبدو - مستلهمّة من قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (يا حَار... إنَّه ملبوس عليك ؛ إنَّ الحقّ لا يُعرف بالرجال، فاعرف الحقّ تعرف أهله)، وهذا من التضمين الجميل. يُنظر: البيان والتبيين للجاحظ: ٣/ ١٣٦.

(٣) ينظر: عُدّة الدّاعي، ص٤.

(٤) وقد علّق المددي هنا بقوله: (وصفه ب-: الحسن ؛ باعتبار أنَّ الكليني رواه بإسناد فيه إبراهيم بن هاشم، وهو إماميّ ممدوح ؛ إلاّ أنَّ البرقي رواه في المحاسن (ص٢٥) بسند صحيحٍ عن هشام بن سالم، مع اختلاف يسير في الألفاظ.

وقال السيّد ابن طاووس: ووجدنا هذا الحديث في أصل هشام بن سالم، رواه عن الصادقعليه‌السلام ). ينظر: البحار: ٢/ ٢٥٦.

(٥) ينظر: الأُصول من الكافي: ٢/ ٨٧، وعُدّة الدَّاعي، ص٣، والبحار: ٢/ ٢٥٦، وجامع أحاديث الشيعة: ج١، المقدّمات، الباب٩.

٩٦

القسم الثاني:

في

الأنواعِ والفُروع

أمَّا وقد عرَفتَ تلكَ المعاني الأربعة(١) ، التي هي أصول علم الحديث، بقي هنا عبارات لمعانٍ شتّى:

منها: ما يشترك فيها الأقسام الأربعة ، إمَّا جميعها أو بعضها، بحيث لا يختصّ بالضعيف ؛ ليدخل فيه المقبول، فإنَّه ليس من أقسام الصحيح، وإنَّما يشترك فيه الثلاثة الأخيرة، على ظاهر الاستعمال ؛ وإن كان إطلاق مفهومه، قد يفهم منه كونه أعمُّ من الصحيح أيضاً.

وجملةُ المشتركِ: ثمانيةَ عشرَ نوعاً.

ومنها: ما يختصُّ بالضعيف ؛ وهو: ثمانية.

فجملة الأنواع الفروع: ستّة وعشرون، ومع الأصول: ثلاثون نوعاً ؛ وذلك على وجه الحصرالجعليّ ، أوالاستقرائي ؛ لإمكان إبداء أقسامٍ أخر(٢) .

[وعليه، ففي هذا القسم: نظران](٣)

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٩، لوحة ب، سطر ٢): (وإذ قد عرفت هذه المعاني الأربعة)، بدلاً من: (القسم الثاني: في الأنواع والفروع. أمَّا وقد عرفت تلك المعاني الأربعة).

(٢) قال أبو عمرو بن الصلاح بعد ذكر تعداد أنواع الحديث: وليس بآخر الممكن في ذلك، فإنَّه قابل للتنويع إلى ما لا يُحصى ؛ إذ لا تُحصى أحوال الرواة وصفاتهم، وأحوال متون الحديث وصفاتها. ينظر: مقدمة ابن الصلاح، ص٨١.

وقال ابن كثير في تعقيبه على ابن الصّلاح: وفي هذا كلّه نظر، بل في بسطه هذه الأنواع إلى هذا العدد نظر ؛ إذ يمكن إدماج بعضها في

بعض، وكان أليق ممَّا ذكره. الباعث الحثيث، ص٢١.

(٣) هذه الزيادة غير موجودة في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٩، لوحة ب، سطر ١٠) وإنَّما أثبتناها هنا للضرورة المنهجيَّة.

٩٧

النظر الأوَّل: في أنواع المشترك

وفيه حقول:

الحقل الأوَّل:

في

المسند(١)

وهو ما اتّصل سنده مرفوعاً، من راويه إلى منتهاه، إلى المعصوم.

وأكثر ما يُستعمل في ما جاء عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

فخرج باتّصال السّند: المرسل، والمعلّق، والمعضل.

وبالغاية: الموقوف، إذا جاء بسند متّصل، فإنَّه لا يسمَّى في الاصطلاح مسنداً.

وربَّما أطلقه بعضهم على المتّصل مطلقاً(٣) ؛ وآخرون: على ما رُفع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنْ كان منقطعاً.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٩، لوحة ب، سطر ١١): (فمن القسم الأول - وهو المشترك - أمور ؛ أحدها: المسند)، بدلاً من (النظر الأوّل: في أنواع المشترك، وفيه حقول، الحقل الأوّل: في المسند)، وهذا ممَّا وضعناه للضرورة المنهجيَّة.

(٢) قال الحاكم: هو ما اتّصل إسناده إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال الخطيب: هو ما اتّصل إلى منتهاه.

وحكى ابن عبد البرّ: إنَّه المرويّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سواء كان متّصلاً أم منقطعاً.

وقال أحمد محمد شاكر: وعلى تعريف الخطيب يدخل الموقوف - على الصحابة إذا روي بسند - في تعريف المسند، وكذلك يدخل فيه ما روي عن التابعين بسندٍ أيضاً، ولا يدخلان فيه على تعريف الحاكم وابن عبد البرّ.

ويدخل المنقطع والمعضل على تعريف ابن عبد البرّ، ولا يدخل على تعريف الحاكم. ينظر: الباعث الحثيث، ص٤٤ - ٤٥ (جمعاً بين المتن والهامش)، وينظر: كتاب الكفاية في علم الرواية، ص٢١، ومعرفة علوم الحديث (مقدمة ابن الصلاح)، ص١٧.

(٣) وقد علّق المددي هنا بقوله:

أي: سواءٌ أكان مسنداً إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أم إلى الصحابة ؛ وهو المسمَّى: بالموقوف.

٩٨

الحقل الثاني:

في

المتَّصل(١)

ويُسمَّى أيضاً: الموصول(٢) .

وهو ما اتّصل إسناده إلى المعصوم أو غيره، وكان كلّ واحد من رواته، قد سمعه ممَّن فوقه، أو ما هو في معنى السماع: كالإجارة، والمناولة.

وهذا القيد(٣) ، أخلّ به كثيرٌ، فورد عليهم ما تناوله ؛ سواءٌ كانَ مرفوعاً إلى المعصوم، أم موقوفاً على غيره.

وقد يُخص بما اتّصل إسناده إلى المعصوم، أو الصحابيّ، دون غيرهم.

هذا مع الإطلاق، أمَّا مع التقييد، فجائز مطلقاً [و] واقع ؛ كقولهم: هذا متّصل الإسناد بفلانٍ، ونحو ذلك.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ٢٠، لوحة أ، سطر ٣): (وثانيها المتّصل) فقط، بدون (الحقل الثاني: في المتَّصل).

(٢) الخلاصةُ في أصول الحديث، ص٤٦، وينظر: الباعث الحثيث، ص٤٥.

(٣) أي: قوله: أو ما هو في معنى السماع. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص٢٢.

٩٩

الحقل الثالث:

في

المرفوعِ(١)

- ١ -

وهو ما أضيف إلى المعصوم(٢) ؛ من قولٍ، بأن يقول في الرواية: أنَّهعليه‌السلام قال كذا، أوفعل ، بأن يقول: فعل كذا، أوتقرير ، بأن يقول: فعل فلان بحضرته كذا ولم ينكره عليه، فإنَّه يكون قد أقرَّه عليه، وأولى منه: ما لو صُرِّح بالتقرير.

سواء كان إسناده متَّصلاً بالمعصوم بالمعنى السابق، أم منقطعاً: بترك بعض الرواة، أو إبهامه، أو رواية بعض رجال سنده عمَّن لم يلقه(٣) .

وقد تبيَّن من التعريفات الثلاثة: أنَّ بين الأخيرين منها عموماً من وجه(٤) ؛ بمعنى: صدق كلٍّ منهما على شيء ممَّا صدق عليه الآخر، مع عدم استلزام صدق شيءٍ منهما صدق الآخر.

ومادّة تصادقهما هنا: فيما إذا كان الحديث متّصل الإسناد بالمعصوم، فإنَّه يصدق عليه الاتصال والرَّفع ؛ لشمول تعريفهما له.

ويختص المتّصل: بمتّصل الإسناد، على الوجه المقرَّر، مع كونه موقوفاً على غير المعصوم.

ويختصّ المرفوع: بما أضيف إلى المعصوم بإسناد منقطعٍ.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ٢٠، لوحة أ، سطر ١٠): (وثالثها: المرفوع) فقط، بدون:(الحقل الثالث: في المرفوع).

(٢) وقد علَّقَ المددي هنا بقوله: (وعند العامّة: خصوص ما أُضيفَ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

(٣) ينظر: الخلاصة في أصول الحديث، ص٤٦، والباعث الحثيث، ص٤٥.

وقد علّق المددي هنا بقوله: (مثاله: ما رواه الشيخ في التهذيب(٩/ ٢٦) بإسناده عن ابن أبي عُمير، عن زرارة، عن محمد بن مسلم...، فإنَّ ابن أبي عُمير، لم يلقِ زرارة ؛ فحديثه عنه مرفوع).

(٤) العموم المطلق، والعموم من وجه، والخصوص المطلق، والخصوص من وجه، بل كذلك العموم والخصوص من وجه، كلّ هذه وغيرها اصطلاحات منطقيَّة. ينظر من مثل: (كتاب المنطق)، للشيخ المظفَّر.

ويظهر من هذا الحقل: كيف أنَّ علمَ المنطق يدخل في خدمة الحديث ؛ وكيف أنَّ العلوم في مباحثها بلحاظٍ ولحاظٍ متداخلةٌ....

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

من كان منكم يواسينا بمهجته

فأجره ثابت والذنب مغفور

ومن أبى فهو في حل وفي دعة

فما لنا في رقاب النّاس تحجير

فأكثروا بالبكاء والوجد وانتحبوا

وجددوا قولهم والدمع محدور

حاشا وكلا بأن نعطي الظهور معاً

وأنت في عرصات الصف محصور

فالموت لا بد أن نلقي مرارته

فاصدع بما أنت ملزوم ومأمور

فقال لا خيب الرّحمن قصدكم

ولا هفا لكم ذكر ولا نور

يا ليتني كنت ذاك اليوم بينهم

وفي يدي مرهف الخدين مشهور

لله درهم ما كان أصبرهم

كأنهم في الوغى أسد مغاوير

من كلّ محتزم بالصبر مدرع

بالفضل متشح بالخير مذكور

كانوا كأصحاب بدر في الوغا لهم

شأن ومجد وتعظيم وتوفير

لله كم قسموا بالروع من بطل

مجرّب وهو في الهيجاء مذكور

حتى أذيقوا الردى ظلماً على ظمأ

والماء يشربه كلب وخنزير

وأصبح السبط فرداً لا نصير له

وقلبه بلظى الأحزان موغور

إذا دنوا منه أفناهم بصارمه

وإن ولى فله في الدين تبصير

حتى رموه بسهم في مقاتله

فخرّ ملقى له في التراب تعفير

وأدبر المهر ينعاه ويندبه

والسرج منتكس والرمح مكسور

فحين أبصرنه النسوان مختضباً

خرجن كلّ لها في الذيل تعثير

كل تقول فجعنا بالذي فجعت

به البتول وخانتنا المقادير

أين الحُسين يرانا نستغيث فلا

نغاث قد أحكمت فينا الخنازير

واغبرت الأرض والآفاق وانكسفت

شمس النهار ووافى البدر تكوير

وأصبحت عرصات العلم دارسة

وشرد الحق واستعلى المناكير

فحين أبصرته النسوان منجدل

والشّمر يذبحه والسيف مشهور

سقطن كلّ توقيه بمهجته

ودمعنا فوق صحن الخد محدور

والشمر يدفعهم عنه ويوجعهم

ضرباً بوشحهم والنحر منحور

وميز الرأس في كفيه ينظره

الدم منه على زنديه تقطير

لهفي لزينب تنعاه وتندبه

والنحر في يدها والرأس مبتور

٢٠١

يا عارياً كست الأرياح جثته

قميص ترب بدم النحر مزرور

وغسلته الضبا من دم منحره

وشيبه قطنه والترب كافور

ونعشه من قنى الخطى أرفعها

والقبر في قلب من والاه محفور

يا سيّدي ما ترى الأيام حولك

والسجاد يسحب في الأقياد مأسور

وأم كلثوم للأيتام جامعة

وقلبها بسيوف الحزن مشطور

وبينهم فاطمة الصغراء صارخة

وشعرها من وراء الكتف منشور

تقول يا أبتا خلفتنا عبر

وفي بعض ما نالنا النّاس تعبير

من للأرامل والأيتام يا أبتا

وأنت تحت طباق الأرض مقبور

ما كان أطيبنا والشمل مجتمع

ونحن في نعمة والقلب مسرور

تبدل الأمن خوفاً والنعيم شقا

واليسر عسراً وضد الصفو تكبير

ما كنت أحسب أن الدهر يعذرني

وبذل وجهي وهتك الستر مذخور

لا زلت أحذر حتّى صرت في حذري

وحاذر الدهر لم ينفعه تحذير

يعز على البضعة الزّهراء لو نظرت

أولادها الغر كلّ وهو مضرور

كان الحُسين لنا سوراً وقصر حمى

فاليوم هدّم ذاك القصر والسور

يا عمتاه قربوا الأجمال يرتحلوا

والرأس يقدمهم في الرمح مشهور

قومي نودع جثمان الحُسين فقد

حان الرحيل وما للقوم تأخير

فغردت برفيع الصوت عمتها

أما لزلتنا يا قوم تكبير

تسيرونا على الأقتاب عارية

شعثاً عراة لنا في السير تعثير

يا ليت أسماعنا من قبل ذا طرشت

جمعاً وأعيننا من رزئنا عور

بأي وجه تلاقي الله ويلك يا

حادي اتق الله أين الله محذور

فحين لـمّا أتو أرض الشام معاً

نحو اللعين وباب القصر محصور

وأقبلوا بالسبايا والرؤوس معاً

نحو اللعين وباب القصر محصور

فكبروا قال ما هذا فقيل له

رأس الحُسين فأنشأ وهو مسرور

أخذت ثأري بقتلي لابن فاطمة

ظلماً وخالفت ما في الكتب مسطور

فلعنة الله تغشاه ووالده

مخلد في أطباق النّار مدحور

وجاد أجداث آل الـمُصطفى أبداً

غيث مقيم مدى الأيام مهمور

٢٠٢

متى نرى الشمس من غرب وقد طلعت

لها شعاع على الآفاق مظهور

والعدل بالأرض والأيام باسمة

والظلم والفسق والطغيان مطمور

أنا العبد الذليل الدرمكي ومن

شخصي على فطرة الإسلام مفطور

صلّى الإله على من حبهم سكن

ومدحهم في جميع الكتب مسطور

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون والاُمناء الصّالحون , أجروا مياه العيون من مقرحات الجفون ، على هذا الخطب العظيم والمصاب الجسيم ، خطب يقلّ فيه بذل الأرواح ويهون فيه الضّرب والكفاح ، خطب أبكى الرّسول وأحرق كبد البتول. فوا عجباه ممّن تقدّم إليهم بذلك وخاض بنفسه تلك المهالك ! كيف لم تُحفظ فيهم القرابة والنّسب والشّرف والحسب , حتّى تركوا رجالهم بنجيع الدّماء مخضوبة , وأبدانهم على التّراب مسلوبة , ومخدراتهم سبايا منهوبة ؟ فكم من جرم اجترموه وعظيم أمر ارتكبوه ، فما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله.

فيا إخواني , كيف لا نبكي عليهم ونحن قلوبنا إليهم ؟ وقد ورد في الخبر عن الإمام الصّادق (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( مَن ذُكرنا عنده فبكى لما أصابنا من نوب الدّهر , غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر )). فلذلك يجب علينا لبس سراويل الجزع والأشجان وإرسال الدّموع الهتان ، وأن نضجّ ضجيج الثّكلى بين العباد ، ونواسي بهذا التّعداد عليّ بن الحُسين السّجاد ؛ لما روي أنّه بكى على أبيه الحُسين أربعين سنة , وما وضع بين يديه طعام إلّا وبكى ، حتّى قال مولى له : جُعلت فداك يا بن رسول الله ! إنّي أخشى عليك أن تكون من الهالكين. فيقول :( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (١) . ثمّ قال : (( إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا وخنقتني العبرة )) :

إن كنت محزوناً فما لك ترقد

هلاّ بكيت لمن بكاه محمد

ولقد بكته في السّماء ملائك

زهر كرام راكعون سجد

والشمس والقمر المنير كلاهما

حول النجوم تباكيا والفرقد

____________________

(١) سورة يوسف / ٨٦.

٢٠٣

أنسيت قتل المصطفين بكربلا

حول الحُسين ذبائح لم يلحدوا

فسقوه من جرع الحتوف بمشد

كثر العدو به وقل المسعد

ثم استناحوا الصائنات حواسراً

فالشمل من بعد الحُسين مبدد

كيف السلو وفي السبايا زينب

تدعو بحرقة قلبها يا أحمد

يا جد حولي من يتامى إخوتي

في الذل قد سلبوا القناع وجردوا

يا جد قد منعوا الفرات وقتلوا

عطشاً فليس لهم هناك مورد

يا جد من ثكلي وطول مصيبتي

ولما أعانيه أقوم وأقعد

يا جد لو أبصرتني ورأيتني

والخد منّي بالدماء مخدد

يا جد ذا نحر الحُسين مضرج

بالدم والجسم الشريف مجرد

يا جد ذا صدر الحُسين مرضض

والخيل تنزل من علاء وتصعد

يا جد ذا ابن الحُسين معلل

ومغلل في قيده ومصفد

يرنو لوالده وينظر حاله

وبنو اُميّة في العمى لم يهتدوا

يا جد ذا شمر يروم بفتكه

ذبح الحُسين فأي عين ترقد

ليحوز جائزة الزنيم عليه من

لعن المهيمن ما به يتضهد

حتى إذا أهوى عليه بسيفه

نادى بفاضل صوته يا واحد

يا خالقي أنت الرقيب عليهم

في فعلهم ظلماً وأنت الشاهد

وتعج طوراً بالنبي وآله

وتقول يا جدّه ألا يا أحمد

يا والدي الساقي على الـمُرتضى

نال العدو بنا كما قد مهدوا

يا أمي الزّهراء قومي جددي

وجميع أملاك السّماء لك ينجد

هذا حبيبك بالحديد قتلى مقطع

ومخضب بدمائه مستشهد

والطيبون بنوك قتلى حوله

فوق الصعيد مبضع ومجرد

هذا مصاب ما أصيب بمثله

بشر من المخلوق إلّا واحد

وإليكم من عبدكم ومحبكم

بعض النظام عساه فيه يسعد

صلّى الإله عليكم يا سادتي

ما دام طير في الغصون يغرد

روي عن نقلة الأخبار : أنّ اليوم الذي قُتل فيه مُسلم بن عقيل وهو يوم الثّلاثاء لثمان خلون من ذي الحجّة يوم التّروية، كان فيه خروج الحُسين من مكّة

٢٠٤

إلى العراق بعد أن طاف وسعى وأحلّ من إحرامه وجعل حجّة عمرة مفردة ؛ لأنّه (عليه‌السلام ) لم يتمكّن من إتمام الحج مخافة أن يُبطش به ؛ وذلك لأنّ يزيد لعنه الله أنفذ عمر بن سعد بن العاص في عسكر عظيم , وولاه أمر الموسم وأمره على الحاج كلّه , وكان قد أوصاه بقبض الحُسين (عليه‌السلام ) سرّاً , وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة. ثمّ إنّه لعنه الله دسّ مع الحجاج في تلك السّنة ثلاثين رجُلاً من شياطين بني اُميّة , وأمرهم بقتل الحُسين على كلّ حال اتفق , فلمّا علم الحُسين بذلك , حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة.

وعن بعض النّاقلين : أنّ مُحمّد بن الحنفيّة لـمّا بلغه الخبر أنّ أخاه الحُسين خارج من مكّة يُريد العراق , كان بين يديه طشت فيه ماء وهو يتوضّأ , فجعل يبكي بكاءاً شديداً حتّى سُمع , وكفّ دموعه في الطّشت مثل المطر ، ثمّ إنّه صلّى المغرب ثمّ سار إلى أخيه الحُسين , فلمّا صار إليه , قال له : يا أخي , إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبلك , وإنّي أخشى عليك أن تكون حالك كحال من مضى من قبلك , فإن أطعت رأيي , قم بمكّة وكُن أعزّ مَن في الحرم المشرّف.

فقال : (( يا أخي , إنّي أخشى أن تغتالني أجناد بني اُميّة في حرم مكّة , فأكون كالذي يُستباح دمه في حرم الله )). فقال : يا أخي , فسر إلى اليمن فإنّك أمنع النّاس به. فقال الحُسين : (( والله يا أخي , لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض , لاستخرجوني منه حتّى يقتلوني )). ثمّ قال : (( يا أخي سأنظر فيما قُلت )).

قال : فلمّا كان وقت السّحر , عزم الحُسين على الرّحيل إلى العراق , فجاءه أخوه مُحمّد بن الحنفيّة وأخذ بزمام ناقته التي هو راكبها ، وقال : يا أخي , ألم تعدني النّظر فيما أشرت به عليك ؟ فقال : (( بلى )). قال : فما حداك على الخروج عاجلاً ؟ فقال : (( يا أخي , إنّ جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أتاني بعدما فارقتك وأنا نائم , فضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عيني وقال : يا حُسين يا قُرّة عيني , اخرج إلى العراق , فإنّ الله عزّ وجلّ قد شاء أن يراك قتيلاً مخضّباً بدمائك )). فبكى ابن الحنفيّة بكاءاً شديداً , وقال له : يا أخي , إذا كان الحال هكذا , فما معنى حملك هذه النّسوة وأنت ماض إلى القتل ؟ فقال : (( يا أخي , قد قال لي جدّي أيضاً : إنّ الله عزّ وجلّ قد شاء أن يراهم سبايا مهتكات يسقن في أسر الذّل , وهن أيضاً لا يفارقنّني ما دمت حيّاً )). فبكى ابن الحنفيّة بكاءاً شديداً وجعل يقول : أودعتك الله

٢٠٥

يا حُسين , في وداعة الله يا حُسين.

ونُقل : أنّه لـمّا خرج من مكّة , اعترضه رسول عمر بن سعد وفيهم يحيى بن سعيد ليردّوه , فأبى عليهم , وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسّياط , ثمّ امتنع عليهم الحُسين امتناعاً شديداً ومضى لوجهه , فنادوه وقالوا : يا حُسين , ألا تتقي الله تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الاُمّة ؟ فقال لهم : (( لي عملي ولكم عملكم , أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بريء ممّا تعملون )).

وروي عن الطّرماح بن حكيم , قال : لقيت حُسيناً وقد امترت لأهلي ميرة ، فقلت : اذكر الله في نفسك , لا يغرّنك أهل الكوفة , والله إن دخلتها لتقتُلن , وأنّي أخاف أن لا تصل إليها , فإن كنت مجمعاً على الحرب , فانزل أجاء فإنّه جبل منيع , والله ما لنا فيه ذلّ قط , وعشيرتي جميعاً يرون نصرتك ما أقمت فيهم. فقال : (( إنّ بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفها , فإن يدفع الله , فقديماً ما أنعم علينا وكفى , وإن يكن ما لا بدّ منه , ففوز وشهادة إن شاء الله )). ومضى لوجهه.

ونُقل أيضاً : أنّ الحُسين (عليه‌السلام ) لـمّا عزم على الخروج إلى العراق من المدينة , جاءت إليه اُمّ سلمة - زوجة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) - وقالت له : يا بُني , لا تحزّني بخروجك إلى العراق , فإنّي سمعت من جدّك رسول الله يقول : (( يُقتل ولدي الحُسين بأرض العراق في أرض يُقال لها كربلاء )). فقال : (( يا اُمّاه , وأنا والله أعلم ذلك , وإنّي مقتول لا محالة وليس لي من هذا بدّ , وإنّي والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه وأعرف مَن يقتلني وأعرف البقعة التي اُدفن فيها , وإنّي أعرف من يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي , وإن أردت يا اُمّاه أريتك حفرتي ومضجعي ومكاني )). ثمّ أشار بيده الشّريفة إلى جهة كربلاء , فانخفضت الأرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع معسكره وموقفه ومشهده كما هو الآن , وهي من بعض فضائله صلوات الله وسلامه عليه.

فعند ذلك بكت اُمّ سلمة بكاءاً عظيماً وسلّمت أمرها إلى الله تعالى. فقال لها : (( يا اُمّاه , قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظُلماً وعدواناً , وقد شاء الله أن يرى حرمي ورهطي ونسائى مسبيين مشرّدين , وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين , وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا مُعيناً )):

فداؤك روحي يا حسين وعترتي

وأنت عفير في التراب جديل

وجسمك عريان طريح على الثرى

عليك خيول الظّالمين تجول

بناتك تسبى كالإماء حواسرا

وسبطك ما بين العداة قتيل

٢٠٦

ثمّ إنّ الحُسين (عليه‌السلام ) بعدما توجّه إلى العراق , كتب كتاباً إلى أهل العراق يقول فيه : (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : من الحُسين بن عليّ إلى إخوانه المؤمنين ، سلام عليكم , وإنّي أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو , أمّا بعد : فإنّ كتاب مُسلم بن عقيل أتاني يخبرني بحسن رأيكم واجتماع ملّتكم على نصرتنا والطّلب بحقّنا , فسألت الله أن يحسن لنا ولكم الصّنيع وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثّلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التّروية , فإذا قدم عليكم رسولي , فاكتموا أمركم وخذوا حذركم , فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه إن شاء الله تعالى , والسّلام )).

فلمّا أقبل الرّسول بالكتاب , اعترضه الحصين بن نمير وبعث به إلى ابن زياد , فاستخرج الكتاب فلم يقبل تسليمه إليه ومزّقه ولم يمكّنه منه , فقال ابن زياد : من أنت ؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين. قال : ممّن الكتاب وإلى مَن ؟ قال: من الحُسين إلى أهل الكوفة. فغضب ابن زياد , فقال له : اصعد على المنبر وسب الكذّاب ابن الكذّاب الحُسين بن عليّ. قال : لـمّا صعد المنبر : حمد الله وأثنى عليه وقال : أيّها النّاس , إنّ هذا الحُسين بن عليّ خير خلق الله ابن فاطمة الزّهراء بنت رسول الله , وأنا رسوله إليكم وقد فارقته بالحجاز , فأجيبوه. ثمّ لعن عُبيد الله بن زياد وأباه واستغفر لعليّ بن أبي طالب.

قال : فأمر ابن زياد بأن يُلقى من أعلى القصر. ففُعل به فمات من ساعته وعجّل الله بروحه إلى الجنّة.

قال الرّاوي : فبينما الحُسين في المسير , إذ طلع عليه ركب مقبلون من الكوفة وفيهم هلال بن نافع البجلي وعمرو بن خالد , فسألهما عن النّاس , فقال : أمّا الأشراف فقد استمالهم ابن زياد بالأموال ، وأمّا باقي النّاس فقلوبهم معك وسيوفهم عليك. وبلّغاه الخبر عن مُسلم بن عقيل وهانئ بن عروة أنّهما قُتلا. فقال : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون )). ثمّ قال للركب: (( ولكم عِلم برسولي ؟ )). قالوا : نعم ، قتله ابن زياد. فاسترجع وبكى ، وقال : (( جعل الله له الجنّة ثواباً , اللّهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً إنّك على كلّ شيء قدير )). ثمّ إنّه (عليه‌السلام ) قام خطيباً بالنّاس وقال : (( إنّه قد نزل بنا من الأمر ما ترون , وإنّ الدُنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها , ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة

٢٠٧

الإناء , ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُنتهى عنه , ليرغب المؤمنين في لقاء الله محقّاً , ولا يرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظّالمين إلّا برماً ))(١) . ثمّ سار (عليه‌السلام ) إلى نصف النّهار , فرقد واستيقظ وقال : (( رأيت هاتفاً يقول : أنتم تسيرون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة )). فقال له ابنه : يا أبتاه , ألسنا على الحقّ ؟ قال : (( يا بُني , أي والذي مرجع العباد إليه )). قال : إذاً لا نُبالي بالموت. ثمّ أنّه (عليه‌السلام ) سار حتّى أتى إلى موضع يُقال له زبالة , فنزل بها وخطب النّاس فقال : (( أيّها النّاس , إنّما جمعتكم على أنّ العراق لي(٢) وقد أتاني خبر فظيع عن ابن عمّي مُسلم, يدلّ على أنّ شيعتنا قد خذلتنا, فمَن كان منكم يصبر على حرّ السّيوف وطعن الأسنّة فليتم معنا, وإلّا فلينصرف عنّا )).

قال : فجعل القوم يتفرّقون يميناً وشمالاً حتّى لم يبق معه من أهل بيته ومواليه نيف وسبعون رجلاً , وهم الذين خرجوا معه من مكّة , فسار بهم إلى الثّعلبيّة , فاعترضهم الحرّ بن يزيد الرّياحي قادماً من نحو القادسية في أربعة آلاف فارس ، فلم يزل الحرّ يساير الحُسين حتّى جاء وقت الظّهر , فخرج وصلّى بالنّاس وقال : (( أيّها النّاس , المعذرة إلى الله وإليكم , اعلموا أنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم بـ : أنّ لك ما لنا وعليك ما علينا. فإن كنتم على ذلك فقد أتيتكم , وإن كنتم كارهين لقدومي انصرفت عنكم )). فقال له الحرّ : لا نعرف ما تقول ولا نعرف مَن كتب إليك ولا مَن أرسل , وإنّما اُمرنا أن لا نفارقك إلّا عند عُبيد الله بن زياد. فقال الحُسين : (( يا ويلك ! الموت أدنى إليكم من ذلك )). ثمّ إنّه (عليه‌السلام ) همّ بالرّجوع , فمنعه الحرّ أشدّ المنع , فلمّا كثر بينهم الخطاب , قال الحرّ : فإذا أبيت ذلك , فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يرجع بك إلى المدينة.

قال : فسار الحُسين (عليه‌السلام ) والحرّ يساره حتّى انتهى إلى قصر بني مقاتل , وإذا بفسطاط مضروب , فقال (عليه‌السلام ) : (( لِمَن هذا السّفطاط ؟ )). فقيل : لرجل يقطع الطّريق. فأرسل الحُسين إليه , فقال له : (( يا هذا , إنّك قد جمعت على نفسك ذنوباً كثيرة , فهل لك من توبة تمحّص بها عنك الذّنوب ؟ )). قال : فماذا ؟ قال : (( تنصر ابن بنت رسول الله )). فقال : والله , ما خرجت من الكوفة إلّا خوفاً أن تقدم إليها , فأكون أوّل من يحاربك مع ابن زياد , ولكن هذه فرسي وهذا سيفي واعفني من ذلك. فأعرض عنه الحُسين , فقال : (( إذا بخلت بنفسك , فلا حاجة لنا في مالك )). وتلا هذه الآية :( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) (٣) .

____________________

(١) هكذا ورد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في مناقب آل أبي طالب : ٣/٢٢٤, وفي غيره من الكتب هو : (( قد نزل ما ترون من الأمر , وأنّ الدّنيا قد تنكّرت وتغيّرت وأدبر معروفها , واستمرّت حتّى لم يبق منها إلا كصبابة الإناء ، وإلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون الحقّ لا يُعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله ، وإنّي لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظّالمين إلا برما )). (معهد الإمامين الحسنين).

(٢) هكذا ورد في الكتاب. (معهد الإمامين الحسنين).

(٣) سورة الكهف / ٥١.

٢٠٨

قال : سمعت جدّي رسول الله يقول : (( مَن سمع نداء أهل البيت ولم يجبه , أكبّه الله على منخريه في النّار )). ثمّ إنّه سار (عليه‌السلام ) فلمّا فارقه الرّجل , ندم على ما فاته من نصرة الحُسين.

قال : فبينما هم يسيرون , وإذا براكب على نجيب قد أقبل من نحو الكوفة , فلمّا وصل , سلّم على الحرّ ولم يُسلّم على الحُسين , ثمّ دفع إلى الحرّ كتاباً من ابن زياد يأمره فيه بالتّعجيل , فساروا جميعاً إلى أن انتهوا [إلى](١) أرض كربلاء , إذ وقف الجواد الذي تحت الحُسين ولم ينبعث من تحته , وكلّما حثّه على المسير لم ينبعث خطوة واحدة , فنزل عنه وركب غيره فلم ينبعث خطوة واحدة ، فقال الإمام (عليه‌السلام ) : (( يا قوم , ما يُقال لهذه الأرض ؟ )). فقالوا : نينوى. فقال : (( هل لها اسم غير هذا ؟ )). قالوا : نعم , شاطئ الفُرات. فقال : (( هل لها اسم غير هذا ؟ )). قالوا : نعم ، تُسمّى كربلاء. فعند ذلك تنفّس الصُعداء ، فقال : (( هذه والله كرب وبلاء , وههنا والله تُرمّل النّسوان وتُذبح الأطفال , وههنا والله تُهتك الحريم , فانزلوا بنا يا كرام , فههنا محلّ قبورنا , وههنا والله محشرنا ومنشرنا , وبهذه أوعدني جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ولا خلف لوعده )). ثمّ إنّه نزل عن فرسه وجلس بعد ذلك يصلح سيفه وهو يقول :

يا دهر أف لك من خليلي

كم لك بالإشراق والأصيل

من طالب وصاحب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وكل حي سالك سبيلي

ومنتهى الأمر إلى الجليل

ولم يزل يكرّر هذه الأبيات حتّى سمعت أخته زينب , فوثبت تجرّ ذيلها حتّى انتهت إليه , وقالت له : يا أخي وقرّة عيني , ليت الموت أعدمني الحياة , يا خليفة الماضين وثمال الباقين هذا كلام مَن أيقن بالموت , وا ثكلاه ! اليوم مات جدّي مُحمّد الـمُصطفى وأبي عليّ الـمُرتضى واُمّي فاطمة الزّهراء وأخي الحسن الرّضي.

قال لها : (( يا أختاه , لا يذهب بحلمك الشّيطان تعزّي بعزاء الله , فإنّ أهل السّماء والأرض يموتون , وكلّ شيء هالك إلّا وجهه ، أبي خير منّي وأخي خير منّي ولكلّ مسلم برسول الله أسوة )). فقالت : يا أخي , تُقتل وأنا أنظر إليك ؟ فردت غصته وتغرغرت عيناه بالدّموع. فقالت : يا أخي , ردنا إلى حرم جدّنا. فقال : (( لو ترك القطا لغفا ونام )). قالت : والله يا أخي , لا فرحت بعدك أبداً. ثمّ إنّها

____________________

(١) من إضافات المقوم. (معهد الإمامين الحسنين).

٢٠٩

لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشية عليها , ثمّ قام الحُسين إليها وقال لها : (( يا أختاه , بحقّي عليك إذا أنا قُتلت فلا تشقّي عليّ جيباً ولا تخمشي وجهاً ولا تدعين بالويل والثّبور )). ثمّ حملها حتّى أدخلها الخيمة , ثمّ خرج إلى أصحابه وأمرهم أن يقرّبوا البيوت بعضها إلى بعض , ففعلوا ذلك.

ثمّ إنّ ابن زياد لعنه الله نادى في عسكره : معاشر النّاس , مَن يأتيني برأس الحُسين وله الجائزة العُظمى , وأعطه ولاية الرّي سبع سنين ؟ فقام إليه عمر بن سعد لعنه الله , وقال : أصلح الله الأمير. وقال : امض إليه وامنعه من شرب الماء وآتني برأسه. فقال : أيّها الأمير أخّرني شهراً. قال : لا أفعل. قال : ليلتي هذه. قال : قد فعلت. ثمّ نهض من وقته وساعته ودخل مضربه ، فدخل عليه أولاد المهاجرين والأنصار وقالوا له : يابن سعد , تخرج إلى حرب الحُسين وأبوك سادس الإسلام ؟! فقال : لست أفعل ذلك. ثمّ جعل يفكّر في مُلك الرّي وقتل الحُسين , فأضلّه الشّيطان وأعمى قلبه فاختار قتل الحُسين (عليه‌السلام ) وملك الرّي , واستعدّ للحرب ومدّ العساكر إلى أن تكمّلت عشرين ألفاً , فضيّقوا على الحُسين وأصحابه.

ثمّ إنّ الحُسين قام متكئاً على سيفه وقال : (( أمّا بعد , أيّها النّاس , انسبوني مَن أنا وراجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها , هل يحلّ لكم سفك دمي وانتهاك حُرمي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن عمّه أولى النّاس بالمؤمنين من أنفسكم(٢) ؟ أو ليس حمزة سيّد الشّهداء عمّ أبي ؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله فيّ وفي أخي ؟ سلوا زيد بن أرقم وجابر بن عبد الله الأنصاري وسهل بن سعد السّاعدي وأنس بن مالك , يخبروكم عن هذا القول , فإن كنتم تشكّون إنّي ما أنا ابن بنت نبيّكم , فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري , والله , ما تعمدت الكذب منذ نشأت وعرفت أنّ الله يمقت الكذب وأهله , هل تطالبونني بقتل منكم قتلته أو بمال استهلكته أو بقصاص من جراحة ؟ )). فسكتوا.

فلمّا كان اليوم التّاسع من الـمُحرّم , دعاهم عمر بن سعد إلى المحاربة , فأرسل الحُسين (عليه‌السلام ) أخاه العبّاس يلتمس منهم التّأخير في تلك الليلة ، فقال أبن سعد للشمر : ما تقول ؟ فقال : أمّا أنا , فلو كنت الأمير لم أنظره. فقال عمر بن سلمة(٢) : سبحان الله ! والله لو كانوا من التّرك أو الدّيلم وسألوك هذا , ما كان لك أن تمنعهم , فيحنئذٍ أمهلهم. فكان لهم في تلك الليلة دويّ كدوي

____________________

(١) هكذا ورد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في الإرشاد للشيخ المفيد ٢/٩٧ , وغيره هو : ثمّ قال : أمّا بعد , فانسبوني فانظروا مَن أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيه وابن عمّه , وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله بما جاء به من عند ربّه ؟... (معهد الإمامين الحسنين).

(٢) ورد في كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي ٥/٩٨. : فقال رجل من أصحابه يُقال له عمرو بن الحجاج :... (معهد الإمامين الحسنين).

٢١٠

النّحل من الصّلاة والتّلاوة.

ثمّ إنّ الحُسين جمع أصحابه فحمد الله وأثنى عليه , ثمّ قال : (( أمّا بعد ، لا أعلم أنّ أصحاباً أوفى ولا أخير من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا فأنتهم في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وقد غشيكم الليل فاتخذوه ستراً جميلاً )). فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر : لا نفعل ذلك ولا نبقى بعدك , لا أرانا الله ذلك أبداً. فدعا لهم العبّاس وإخوته ثمّ بايعوه , وقال لبني مُسلم بن عقيل : (( حسبكم من القتل ما تقدّم في مُسلم , اذهبوا فقد أذنت لكم )). قالوا : لا والله , لا نفارقك أبداً حتّى نضرب بسيوفنا ونُقتل بين يديك.

ثمّ إنّ الحُسين ركب فرسه وتهيّأ للقتال ، ثمّ إنّ القوم أقبلوا يزحفون نحو الحُسين , فرمى عمر بن سعد إلى أصحاب الحُسين سهماً , وقال : اشهدوا لي عند الأمير إنّي أوّل مَن رمى. فقال الحُسين لأصحابه : (( قوموا إلى الموت الذي لا مفرّ لكم عنه )). فنهضوا جميعاً والتقى العسكران وامتاز الرّجال من الفرسان , واشتدّ الجدال بين العسكرين إلى أن علا النّهار , فاشتدّ العطش بالحُسين وأصحابه , فدعا بأخيه العبّاس وقال له : (( اجمع أهل بيتك واحفر بئراً )). ففعلوا ذلك فطمّوها ثمّ حفروا أُخرى فطمّوها , فتزايد العطش عليهم. فقال العبّاس لأخيه الحُسين : يا أخي , ما ترى ما حلّ بنا من العطش , وأشدّ الأشياء علينا عطش الأطفال والحرم ؟ فقال الإمام (عليه‌السلام ) : (( امض إلى الفُرات وآتنا بشيء من الماء )). فقال : سمعاً وطاعة. فضمّ إليه رجالاً وسار حتّى أشرفوا على المشرعة , فوثبوا عليهم الرّجال وقالوا لهم : ممّن القوم ؟ قالوا : نحن من أصحاب الحُسين. قالوا : وما تصنعون ؟ قالوا : فقد كضّنا العطش , وأشدّ ذلك علينا عطش الحرم والأطفال. فلمّا سمعوا ذلك , حملوا عليهم فمنعوهم ، فحمل عليهم العبّاس فقتل منهم رجالاً وجدّل أبطالاً حتّى كشفهم عن المشرعة , ونزل فملأ قربته ومدّ يده ليشرب , فتذكّر عطش الحُسين (عليه‌السلام ) , فنفض يده وقال : والله لا ذقت الماء وسيّدي الحُسين عطشان. ثمّ صعد المشرعة فأخذه النّبل من كلّ مكان حتّى صار جلده كالقنفذ من كثرته , فحمل عليه رجل من القوم فضربه ضربة قطع بها يمينه , فأخذ السّيف بشماله فحمل عليه آخر فقطعها , فانكبّ وأخذ السّيف بفمه , فحمل عليه رجل فضربه بعمود من حديد على رأسه ففلق هامته , فوقع على

٢١١

الأرض وهو يُنادي : يا أبا عبد الله عليك منّي السّلام ! فلمّا رأى الحُسين أخاه وقد انصرع , صرخ : (( وا أخاه ! وا عبّاساه مهجة قلباه ! يعزّ والله عليَّ فراقك )). ثمّ حمل على القوم وكشفهم عنه , ثمّ نزل إليه فحمله على ظهر جواده , وأقبل به إلى الخيمة فطرحه وهو يبكي حتّى اُغمي عليه. ولله درّ مَن قال :

أحق الناس أن يبكى عليه

فتى أبكى الحُسين بكربلاء

أخوه وابن والده عليّ

أبو الفضل المضرج بالدماء

ومن ساواه لا يثنيه شيء

وجادله على ظمأ بماء

ومن قال أيضاً :

وما زال في حرب الطغاة مجاهداً

إلى أن هوى فوق الصعيد مجدلا

وقد رشقوه بالنبال وخرقوا

له القربة الماء الذي كان قد ملا

فنادى حسيناً والدموع هوامل

أيا ابن أبي قد خاب ما كنت آملا

عليك سلام الله يا بن مُحمّد

على الرغم منّي يا أخي نزل البلا

فلما رآه السبط ملقى على الثرى

يعالج كرب الموت والدمع أهملا

فجاء إليه والفؤاد مقرح

ونادى بقلب بالهموم قد امتلا

أخي كنت عوني في الأمور جميعها

أبا الفضل يا من كان للنفس باذلا

يعز علينا أن نراك على الثرى

طريحاً ومنك الوجه أضحى مرملا

عليك من الرحمن ألف تحية

فقدرك عندي يا أخي الآن قد علا

فأبشر بجنات من الله في غد

وبالحور والولدان والفوز والعلى

روي : أنّه لـمّا قُتل العبّاس , تدافعت الرّجال على أصحاب الحُسين (عليه‌السلام ) , فلمّا نظر ذلك , نادى : (( يا قوم , أما من مجير يجيرنا ؟ أما من مغيث يغيثنا ؟ أما من طالب حقّ فينصرنا ؟ أما من خائف من النّار فيذّب عنّا ؟ أما من أحد يأتينا بشربة من الماء لهذا الطّفل ؛ فإنّه لا يطيق الظّمأ ؟ )). فقام إليه ولده الأكبر - وكان له من العمر سبعة عشر سنة - فقال : أنا آتيك بالماء يا سيّدي. فقال : (( امض بارك الله فيك )). قال : فأخذ الرّكوة بيده ، ثمّ اقتحم الشّريعة وملأ الرّكوة وأقبل بها نحو أبيه , فقال : يا أبه , الماء لِمَن طلب , اسق أخي وإن بقى شيء فصبه علىَّ , فإنّي والله عطشان. فبكى الحُسين

٢١٢

وأخذ والده الطّفل فأجلسه على فخذه , وأخذ الرّكوة وقرّبها إلى فيه ، فلمّا همّ الطّفل أن يشرب , أتاه سهم مسموم فوقع في حلق الطّفل , فذبحه قبل أن يشرب من الماء شيئاً , فبكى الحُسين ورمى الرّكوة من يده ونظر بطرفه إلى السّماء ، وقال : (( أللّهمَّ أنت الشّاهد على قوم قتلوا أشبه الخلق بنبيّك وحبيبك ورسولك )) :

والله ما لي أنيس بعد فرقتكم

إلّا البكاء وقرع السن من ندم

ولا ذكرت الذي أبدى الزمان لكم

إلّا جرت أدمعي ممزوجة بدمي

ثمّ إنّه اشتدّ القتال بين الفريقين حتّى قتل مقتلة عظيمة ورجع إلى أبيه يستغيث من العطش , فقال له : (( اصبر قليلاً حتّى تلقى جدّك أمير المؤمنين فيسقيك بكفّه شربة لا ظمأ بعدها )). فرجع وحمل عليهم فقتل مقتلة عظيمة , ثمّ كمن له ملعون من أصحاب عمر بن سعد , فضربه ضربة على مفرق رأسه فانصرع , فنادى : يا أباه , هذا جدّي مُحمّد الـمُصطفى , وهذا جدّي عليّ الـمُرتضى , وهذه جدّتي فاطمة الزّهراء , وهذه جدّتي خديجة , وهم إليك مشتاقون. فأقبل الحُسين وفرّق القوم عنه وصاح بأعلى صوته , فتصارخن النّساء , فقال لهن الحُسين : (( اسكتن , فإنّ البكاء أمامكن )). فأخذ رأس ولده ووضعه في حجره , وجعل يمسح الدّم عن وجهه وهو يقول : (( قتلوك يا بني , ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرم رسول الله , قتل الله قوماً قتلوك يا بني )). واغرورقت عيناه بالدّموع.

قال مَن شهد الوقعة : كأنّي أنظر إلى امرأة خرجت من فسطاط الحُسين وهي كالشّمس الزّاهرة وهي تُنادي : وا ولداه ! وا قرّة عيناه ! فقلت : مَن هذه ؟ قالوا : زينب بنت عليّ.

فانظروا يا إخواني إلى أهل المكر والعناد , كيف حملهم الغل الكامن في الفؤاد على قتل أولاد الرّسول وثمرة فؤاد الزّهراء البتول , فتركوهم مصرعين على الرّمال في أذلّ الأحوال غير مراقبين فيهم ذا الجلال ، رؤوسهم في أعالي الرّماح وأجسادهم شاحبة تسفي عليها الرّياح ، فهم ما بين قتيل يجري منه الصّديد وأسيراً مكبّل بالحديد.

فيا عيوني سحّي دموعاً ويا فؤادي ذب كمداً وخشوعاً , فيحقّ على هؤلاء الأطائب أن يبكي الباكون ويندب النّادبون وتذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم:

٢١٣

القصيدة لسيف بن عمير (رحمه‌الله )

جل المصاب بمن أصبنا فاعذري

يا هذه ، وعن الملامة فاقصري

أفما علمت بأن ما قد نالنا

رزء عظيم مثله لم يذكر

رزء عظيم لا يقاس بمثله

رزء فلم تسمع به أو تبصر

رزء به عشر الإله مصابه

والشمس كاسفة ولما تزهر

رزء النّبي الـمُصطفى ومصيبة

جلت لدى الملك المجليل الأكبر

رزء الحُسين الطهر أكرم من برى

بارىء الورى من سوقة ومؤمر

من جدّه الهادي النّبي الـمُصطفى

وأبوه حيدرة عظيم المفخر

والبضعة الزّهراء فاطم أمه

حوراء طاهرة وبنت الأطهر

فأحق سبط الـمُصطفى وحبيبه

هذا الشبير وصنو ذاك الشبر

فأحق أن يرثى وأن نبكي له

بتفجع وتوجع وتحسر

وأحق من ألف ناء أو دمنة

درست معالمها بسطح المجحر

هذا الحُسين ملقى بشاطىء كربلاء

ظمآن دامي الخد ثمّ المنحر

عار بلا كفن ولا غسل سوى

مور الرياح ثلاثة لم يقبر

مقطوع رأس هشمت أضلاعه

وكسير ظهر كسره لم يجبر

ومباعد عن داره وحماته

ومنازل بحجوفها والمشعر

ويظام مضطهداً غريباً نازحاً

نائي المزار بذلة لم ينصر

ويذاد عن ماء الفرات ووردها

ذود البعير لخمسة لم يصدر

ويداس بعد ركوبه خير الورى

بحوافر وسنابك وبعسكر

ودق ثغر كان أحمد لم يزل

عن لثمه في الخد غير مفتر

وحريمه من حوله وحماته

ماتوا ضمأ فورودهم من كوثر

لم ينثنوا من نصره حتّى غدوا

أيدي سبا في سوء حال منكر

ما بين مضروب بأبيض صارم

أو بين مطعون بلدن أسمر

أو بين مسحوب ليذبح بالعرى

أو بين مشهور وآخر موسر

أو بين من يكبو لثقل قيوده

أو بين مغلول اليدين معفر

ورضيع حول بالحسام فطامه

وصغير سن عن أذى لم يكبر

٢١٤

هذا وزين العابدين مكتفاً

بالقيد بين عصابة لم تنظر

قد أثخنوه بضربهم وبقيدهم

قد أوثقوه فكان كالمتضور

فكأن مولاي الحُسين وقد غدا

متأهباً لقتالهم لم يحذر

ذو لبدة عز المعين مجاهداً

ثبت الجنان أشد كل غضنفر

يغشى النزال ولا يزال محامياً

حتّى رماه سهم رجس أبتر

فهوى الصعيد مجدلاً ومعفراً

ثبت الجنان أشد كل غضنفر

يدعو الإله ويستغيث بجده

في حاله المستضعف المستنصر

يومي إلى نحو الخيام وتارة

نحو العدو كخائف متحذر

فكأنما قد ألبسوه من الظبا

ثوبين بين معصفر ومزعفر

وأتاه أشقاها لقطع كريمه

ولحز أوداج وقطع الأبهر

لم يدر ذاك الرجس أي عظيمة

أم أي داهية أتى أم منكر

لما ابان الرأس بان به الهدى

وعلا الظلام على الضياء الأزهر

وهوى إلى السفل الحضيض مكرم

والظلم شاد وساد كل مغشمر

والجن ناحت شجوة في أرضها

والغيث غاض ماء الأبحر

وعليه أمطرت السّماء وقبله

يحيي دماً وسواهما لم تمطر

وهوى يدور الأُفق في أفلاكها

فكأنها من قبله لم تبدر

وكأنها أفلاكها في كربلاء

أو كربلاء صارت فريق المنبر

يا كربلاء حويت ما لم تحوه

أرض السواك من الضياء النير

غيبت بطن الأرض منك معظماً

وغدوت تفتخري بكل غنضفر

كنت مجازاً ثمّ صرت حقيقة

بين البلا والكرب للمتبصر

ومن العجائب بعد قتل المجتبى

بدع وأحداث لنسل الأطهر

نسل النّبي المـُصطفى وحريمه

تسبى كما تسبى بنات الأصفر

ويشهرون ويسلبون مدارعاً

ومقانعاً من بعد سلب المعجر

ويسيرون على المطايا كالإماء

أسرى كأنهم لأسرة قيصر

شعثا مثاكيل عطاشى جوعا

أسرى كأنهم لأسرة قصير

ويصغرون ويشتمون عداوة

بأوامر من كافر متجبر

٢١٥

لم أنس زينب وهي حسرى حائر

في نسوة متبرجات حسر

تمشي إلى نحو الحُسين وتشتكي

ما نالها من ظلم ذاك المعشر

تدعو وتندب يا ثمال أرامل

وربيع أيتام أطفال صغر

يا بن النّبي المـُصطفى خير الورى

وابن البتولة والإمام الأطهر

قد جل رزؤك يا أخي وجل ما

ألقاه من ثكل وطول تضرر

أأخي رزؤك ملبسي ثوب الضنا

ومغيراً جسمي بلون أصفر

أأخي مذ فارقت فارقني العرا

وعلى عليّ تحسري وتزفري

أأخي واصلني العزاء وهجرتني

ولقد عهدتك واصلاً لم تهجر

أأخي حالي بعد بعدك ما صفا

وحلاوتي ممزوجة بتمرمر

أأخي بعد البعد منك تقربت

منّي المصائب في الزمان الأعسر

أأخي دار أُمية معمورة

وديار فاطم عاطل لم تعمر

أأخي شمل أُمية مستجمع

وبنات أحمد شملهم يتكدر

أأخي أولاد لآل أُمية

مخفورة وبناتنا لم تخفر

يا سيّدي يا واحدي وموئلي

يا من إليه شكايتي وتجأري

يا غايتي يا بغيتي يا منيتي

يا من يقيني نائبات الأعصر

كم من أسى متهضم قد مسنا

من ظالم باغ علينا مفتر

كنا نعدك للحوادث ملجأ

فإذا فقدت فكسرنا لم يجبر

ظفر العدو بنا ونال مراده

لمـّا مضيت وقبل ذا لم يظفر

في ربع جدك آمنون وغفل

أخرجتنا لمصائب لم تشعر

فإذا ارعوت أهوت إليه تضمه

وقناعها سلب ولم تتخمر

وسكينة عنها السكينة فارقت

لمـّا ابتديت بفرقة وتغير

ورقية رق الحسود لضعفها

وغدا ليعذرها الذي لم يعذر

ولأم كلثوم يجد جديدها

لثم عثيب دموعها لم يكرر

لم أنسها وسكينة ورقية

يبكينه بتحسر وتزفر

يدعون أُمهم البتولة فاطماً

دعوى الحزين الواله المتحير

يا أُمنا هذا الحُسين مجدلا

ملقى عفيراً مثل بدر مزهر

٢١٦

في تربها متعفراً ومضمخاً

جثمانه بنجيع دم أحمر

ظمآن فارق رأسه جثمانه

عريان مسلوب الرداء والمئزر

يا أمنا نوحي عليه وعولي

في قبرك المستور بين الأقبر

يا أمنا لو تعلمين بحالنا

لرأيت ذا حال قبيح المنظر

أما الرجال فمو سر ومعفر

والمحصنات ففي سبي وتشهر

هذا وكيف يحمل والعزا

منا عقيب مصابنا بالمنذر

أم كيف تسلو النفس عن تطلابه

بلا بالبكاء عليهم بتحسر

يا مؤمناً متشيعاً بولائه

يرجو النجا والفوز يوم المحشر

ابك الحُسين بلوعة وبعبرة

إن لم تجد هاذب فؤادك واكثر

وامزج دموعك بالدماء وقل ما

في حقه حقاً إذا لم تنصر

والبس ثياب الحزن يوم مصابه

ما بين أسود حالك أو أخضر

فعساك تحظى في المعاد بشربة

من حوضهم ماء لذيذ سكر

ويزيدني حزناً بأن رؤوسهم

تهدى إلى الطاغي يزيد المفتر

فكأنها فوق العوالي أنجم

زهرت بأنوار الهدى للمنظر

لما رأى الملعون أحوال النسا

والرأس ظل بحاله المستبشر

فعلى أمية كلها وعتيقها

ودلامها لعن أبي لم يحصر

هذا مصاب للنبي وآله

يوم الطفوف جرى بصحة مخبر

ما في الرزايا الهائلات رزية

بأجل منها في الأمور وأكبر

كل المصائب لو تعاظم شأنها

هي دون ذلك في المحل الأكبر

عدت على أفعال عاد واعتدت

ما عقر ناقة صالح من أحمر

وإليكم يا سادتي وأحبتي

شعر كنظم الدر أو الجوهر

حبرت ألفاظاً فجاءت درة

هذبتها بجوانحي وتفكري

ألبستها حلل المعاني فاغتدت

تسبي العقول بمسمع وبمنظر

أبهى واسنى من عروس تجتلي

وأرق من صهباء تروق بمحضر

سادات إذا قرئت على أمثالها

نظم يعيب لجرول ولحبتر

أرثي الحُسين بها وارجو منكم

يوم المعاد كرامتي وتوفري

٢١٧

والعفو عما قد جنيت من الخطا

وجرائم لولاكم لا تغفر

وعبيدكم سيف فتى ابن عميرة

عبد لعبد عبيد حيدر قنبر

وعليكم صلّى المهيمن ما سرى

أو سار ركب في دجى أو مقمر

الباب الثّالث

يا إخواني في الدّين , هل يحسن نوح النّائحين إلاّ على الذّرية الطّاهرة ؟ وهل يليق بكاء الباكين إلّا على أولاد عليّ أمير المؤمنين ؟ فوا حسرتاه على تلك الأجساد المرمّلة بالدّماء وعلى تلك الأفواه اليابسة من الظماء ! ويا لهفاه على مولاي الحُسين ينادي فلا يجاب قد شغله المصاب عن توديع الأولاد والأحباب ! زخرفوا له الأكاذيب وقالوا له أقدم على السّعة والتّرحيب وعلى النّزل الخصيب , فنحن لك ما تريد أرقّاء وعبيد ، فحين أناخ برحلهم وحطّ بمحلّهم , سارعوا إليه بالسّيوف والرّماح وصارعوا في ميدان الكفاح , فجاهدهم بمن معه من أبنائه وأهل بيته وأحبابه إلى أن سقوا الحتوف رشقاً بالنّبال , وطعناً بالرّماح وضرباً بالسّيوف.

فيا ويلهم ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله , ولكن سيعلمون أيّ منقلب ينقلبون. فبالله عليكم يا إخواني , أديموا عليهم الحزن الطّويل فإنّ مصابهم عظيم جليل :

يا نفس صبراً فكل نائبة

سوى مصاب الحُسين تحتمل

ويا جفوني سحي عليه فلي

عن كل رزء برزئه شغل

لهفي له يشتكي الأوام وللبيض

المواضي من نحره بلل

لهفي لذاك الجبين معفراً

كالشمس أنى بدا لها الخجل

لهفي لنسوانه وقد كشفت

عن صدرهن السجوف والكلل

هذي تنادي أخي وتلك أبي

والدمع فوق الخدود منهمل

وزينب مستجيرة ولها

على أخيها ندب ومرتجل

تصيح من حسرة ومن أسف

والقلب منها مرّوع وجل

أين عليّ بن الحُسين ألا

أين المحامي والفارس البطل

وفاطم تستغيث عمتها

صارخة دمع عينها خضل

يا سادتي يا بني النّبي ومن

عليهم في المعاد أتكل

٢١٨

ما عنكم لابن حرة عوض

وليس منكم ملعارف بدل

وأين عنكم بالولاء لكم

تمحى الخطايا ويغفر الزلل

فلا يفرح الظّالمون بما هُم عليه عاكفون وسيعلمون إلى ما إليه يرجعون , فتبّاً لمن أعمتهم أطماعهم الدّنيويّة وأهواؤهم المرديّة الرّديّة ، جعلوا يركضون في أودية الضّلال على مطايا الأطماع , فنكستهم إلى الأذقان في أمر حمله لا يستطاع , ولكن لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور , ألا ترون يا إخواني إلى أوّل الرّجلين عند نزول الموت حيث قال , كما نقله الثّقات من الرّجال : يا ليتني كنت تبنة في لبنة. وهل هذا إلاّ نظير قوله تعالى :( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) (١) . وإلى الثّاني حيث قال : لو أنّ لي ملئ الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطّلع. وهل هذا إلّا مثل قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (٢) . فشتّان ما بين ذين وبين مَن قال حين ضُرب على اُمّ رأسه : (( فزت وربّ الكعبة )).

ولعمري , إنّ نسبة هؤلاء وأضرابهم إليه افتراء على الله وعليه. فيا سعد من تمسّك بذراريه , ويا فلاح من اعتقده وكان من حزبه ومواليه , بنوه المعصومين سادات الدُنيا وشفعاء الخلق في الآخرة , أزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله في العالمين , فبذلك استحقّوا منه العذاب المهين واللعنة إلى يوم الدّين.

نُقل : أنّه لمـّا قُتل عليّ بن الحُسين في طفّ كربلاء , أقبل عليه الحُسين وعليه جبّة خزّ دكناء وعمامة مورّدة وقد أرخى لها غرّتين , فقال مخاطباً له : (( أما أنت يا بني , فقد استرحت من كرب الدُنيا وغمّها وما أسرع اللحوق بك )). ثمّ وثب على قدميه ببردة رسول الله والتّحف بها , وأفرغ عليه درعه الفاضل وتقلّد سيفه , واستوى على متن جواده وهو غائص في الحديد , فأقبل على اُمّ كلثوم وقال لها : (( أوصيك يا اُخيّه بنفسك خيراً , وإنّي بارز إلى هؤلاء القوم )). فأقبلت سكينة وهي صارخة وكان يحبّها حبّاً شديداً , فضمّها إلى صدره ومسح دموعها بكمّه وقال :

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي

منك البكاء إذا الحمام دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة

ما دام منّي الروح في جثماني

فإذا قتلت فأنت أولى بالذي

تأتينه يا خيرة النسوان

ونقل آخر وهو : أنّه لمّا قُتل أصحاب الحُسين كلّهم وتفانوا وابيدوا ولم يبق

____________________

(١) سورة النّبأ / ٤٠.

(٢) سورة الزّمر / ٤٧.

٢١٩

أحد , بقي (عليه‌السلام ) يستغيث فلا يُغاث وأيقن بالموت , أتى إلى نحو الخيمة وقال لأخته : (( آتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد من القوم أجعله تحت ثيابي ؛ لئلا اُجرّد منه بعد قتلي )).

قال : فارتفعت أصوات النّساء بالبكاء والنّحيب , ثمّ أوتي بثوب فخرّقه ومزّقه من أطرافه وجعله تحت ثيابه , وكان له سروال جديد فخرّقه أيضاً ؛ لئلا يُسلب منه , فلمّا قُتل , عمد إليه رجل فسلبهما منه وتركه عرياناً بالعراء مجرّداً على الرّمضاء , فشلّت يداه في الحال وحلّ به العذاب والنّكال.

قال : فلمّا لبس الحُسين (عليه‌السلام ) ذلك الثّوب المخرّق , ودّع أهله وأولاده وداع مفارق لا يعود , قال : وكان عبد الله بن الحسن الزّكي واقفاً بإزار الخيمة وهو يسمع وداع عمّه الحُسين , فخرج في أثره وهو يبكي ويقول : والله لا أفارق عمّي. فلحقته زينب لتحبسه ؛ لأنّه صغير لم يبلغ الحُلم والحُسين يقول لها : (( يا أختي احبسيه )). فانفلت الصّبي من يدها وقال : والله لا أفارق عمّي. فأقبل حرملة بن كاهل اللعين إلى الحُسين (عليه‌السلام ) , فضرب الصّبي بالسّيف فأطنّ يمينه إلى الجلد , فإذا هي معلّقة , فصاح الصّبي : يا عمّاه أدركني ! فأخذه الحُسين وضمّه إليه وقال : (( يابن أخي , صبراً على ما نزل بك يا ولدي )). فبينما هو يخاطبه , إذ رماه اللعين حرملة بسهم فذبحه في حجره , فصاحت زينب : وابن أخاه , ليت الموت أعدمني الحياة , ليت السّماء أطبقت على الأرض , وليت الجبال تدكدكت على السّهل. وكان عمر بن سعد اللعين قريباً منها , فقالت : ويحك يا عمر , يُقتل ابن بنت رسول الله وأنت تنظر إليه ؟! فلم يجبها.

قال من شهد الوقعة : ثمّ إنّ الحُسين (عليه‌السلام ) أقبل على عمر بن سعد , وقال له : (( أخيّرك في ثلاث خصال )). قال : وما هي ؟ قال : (( تتركني حتّى أرجع إلى المدينة إلى حرم جدّي رسول الله )). قال : ما لي إلى ذلك سبيل. قال : (( اسقوني شربة من الماء , فقد نشفت كبدي من الظّمأ )). فقال : ولا إلى الثّانية سبيل. قال : (( وإن كان لا بدّ من قتلي , فليبرز إليّ رجل بعد رجل )). فقال : ذلك لك.

فحمل على القوم وهو يقول :

أن ابن عليّ الطهر من آل هاشم

كفاني بهذا مفخر حين أفخر

وفاطم أمي ثمّ جدّي مُحمّد

وعمي يدعى ذا الجناحين جعفر

بنا بيّن الله الهدى من ضلالة

ويغمر بنا آلاءه ويطهر

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272