المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ٢

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)21%

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 272

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 272 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35119 / تحميل: 5547
الحجم الحجم الحجم
المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

منزله. قال سلمان : فتبعته حتّى دخل حجرته وأنا معه , فقلت : يا رسول الله , سمعتك تقول : (( إذا فقدتم الشّمس فتمسّكوا بالقمر , وإذا فقدتم القمر فتمسّكوا بالفرقدين , وإذا فقدتم الفرقدين فتمسّكوا بالنّجوم الزّاهرة )). فما الشّمس وما القمر وما الفرقدان , وما النّجوم الزّاهرة ؟ فقال النّبي : (( أنا الشّمس وعليّ القمر , فإذا فقدتموني فتمسّكوا به , وأمّا الفرقدان فهما الحسن والحُسين , فإذا افتقدتم القمر فتمسّكوا بهما , وأمّا النّجوم الزّواهر , فهم الأئمة التّسعة من نسل الحُسين تاسعهم قائمهم )). ثمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّهم هُم الأولياء والأوصياء والخُلفاء من بعدي , أئمة أبرار وأوصياء أطهار , وهُم بعدد أسباط يعقوب (عليه‌السلام ) وعدد حواري عيسى وعدد نُقباء بني إسرائيل )). فقلت : سمهم لي يا رسول الله , فقال : (( أوّلهم وسيّدهم عليّ بن أبي طالب وسبطاه بعده , وبعدهُما عليّ بن الحُسين زين العابدين , وبعده مُحمّد الباقر للعلم , وبعده الصّادق جعفر , وبعده الكاظم موسى سمي النّبي بن عمران , والذي يُقتل مسموماً بأرض الغُربة على دينه وإيمانه وإنّه عليّ بن موسى الرّضا , وابنه مُحمّد الجواد , والصّادقان عليّ والحسن , ثمّ الحجة القائم بالأمر الـمُنتظر. فإنّهم ؛ عترتي ولحمي ودمي ومخّي وعظمي وعروقي , علمهم علمي وحكمهم حكمي , فمَن آذاني فيهم فلا أناله الله شفاعتي يوم القيامة )) :

فلله أمر فادح شمل الورى

ورزء على الإسلام منه خمول

وخطب جليل جل في الأرض وقعه

عظيم على أهل السّماء ثقيل

بنو الوحي في أرض الطفوف حواسر

وأبناء حرب في الديار نزول

ويسري بزين العابدين مقيداً

على النزل مأسور اللثام عليل

ويصبح في تخت الخلافة جالساً

يزيد وفي الطف الحُسين قتيل

ويقتل ظلماً ظامياً سبط أحمد

إمام لخير الأنبياء سليل

حبيب النّبي المجتبى خامس العبا

وقرة عين للنبي رسول

أمولاي آمالي تؤمل نصركم

وقلبي إليكم بالولاء يميل

وقد طال عمر الصبر في أخذ ثاركم

أما آن للظلم المقيم رحيل

متى ينطوي حر الغليل ويشتفي

فؤادي بآلام المصاب عليل

ويجبر هذا الكسر في ظل دولة

لها النصر جند والأمان دليل

وينشر للمهدي عدل وينطوي

به الظلم حتماً والعناد يزول

٢١

هناك يضحى دين آل مُحمّد

عزيزاً ويمسي الكفر وهو ذليل

فيا آل طه الطاهرين رجوتكم

ليوم به فصل الخطاب طويل

عليكم سلام كل ما ذكر اسمكم

وذاك مدى الأيام ليس يزول

روي عن اُمّ أيمن (رضي‌الله‌عنه ا) , قالت : مضيت ذات يوم إلى منزل ستّي ومولاتي فاطمة الزّهراء (عليها‌السلام ) ؛ لأزورها في منزلها , وكان يوماً حارّاً من أيّام الصّيف , فأتيت إلى باب دارها , وإذا أنا بالباب مُغلق , فنظرت من سقوف الباب , وإذا بفاطمة الزّهراء (عليها‌السلام ) نائمة عند الرّحى , ورأيت الرّحى تطحن البرّ وهي تدور من غير يد تديرها , والمهد أيضاً إلى جانبها والحُسين (عليه‌السلام ) نائم فيه , والمهد يهتزّ ولم أر من يهزّه , ورأيت كفّاً يُسبّح لله تعالى قريباً من كفّ فاطمة الزّهراء. قالت اُمّ أيمن : فتعجّبت من ذلك , فتركتها ومضيت إلى سيّدي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وسلّمت عليه وقلت له : يا رسول الله , إنّي رأيت عجباً ما رأيت مثله أبداً , فقال لي : (( ما رأيت يا اُمّ أيمن ؟ )). فقلت : إنّي قصدت منزل ستّي فاطمة الزّهراء , فلقيت الباب مُغلقاً وإذا بالرّحى تطحن البرّ وهي تدور من غير يد تديرها , ورأيت مهد الحُسين (عليه‌السلام ) يهتزّ من غير يد تهزّه , ورأيت كفّاً يُسبّح لله تعالى قريباً من كفّ فاطمة ولم أر شخصه , فتعجّبت من ذلك يا سيّدي. فقال : (( يا اُمّ أيمن , اعلمي أنّ فاطمة الزّهراء صائمة وهي متعبة جائعة والزّمان قيّض , فألقى الله عليها النّعاس فنامت , فسبحان مَن لا ينام , فوكّل الله ملكاً يطحن عنها قوت عيالها , وأرسل الله ملكاً آخر يهزّ مهد ولدها الحُسين ؛ لئلا يزعجها من نومها , ووكّل الله ملكاً آخر يُسبّح لله عزّ وجلّ قريباً من كفّ فاطمة , يكون ثواب تسبيحه لها ؛ لأنّ فاطمة لم تفتر عن ذكر الله عزّ وجلّ , فإذا نامت جعل الله ثواب تسبيح ذلك الملك لفاطمة )). فقلت : يا رسول الله , أخبرني مَن يكون الطّحان ومَن الذي يهزّ مهد الحُسين ويناغيه ومَن يُسبّح ؟ فتبسّم النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ضاحكاً وقال : (( أمّا الطّحان فجبرائيل ، وأمّا الذي يهزّ مهد الحُسين فهو ميكائيل ، وأمّا الملك الـمُسبّح فهو إسرافيل )) :

أتسبل دمع العين بالعبرات

وبت تقاسي شدة الزفرات

وتبكي لآثار لآل مُحمّد

فقد ضاق منك الصدر بالحسرات

ألا فابكهم حقاً وبل عليهم

عيوناً لريب الدهر منسكبات

٢٢

ولا تنس في يوم الطفوف مصابهم

وداهية من أعظم النكبات

سقى الله أجداثاً على أرض كربلا

مرابيع أمطار من المزنات

وصلّى على روح الحُسين حبيبه

قتيلاً لدى النهرين بالفلوات

قتيلاً بلا جرم فجعنا بفقده

فريداً ينادي أين أين حماتي

أنا الظامي العطشان في أرض غربة

قتيل ومظلوم بغير ترات

وقد رفعوا رأس الحُسين على القنا

وساقوا نساء ولهى حسرات

فقل لإبن سعد عذب الله روحه

ستلقى عذاب النّار باللعنات

سأقنت طول الدهر ما هبت الصبا

وأقنت بالإيصال والغدوات

على معشر ضلوا جميعاً وضيعوا

مقال رسول الله بالشبهات

روي : أنّ المتوكل من خُلفاء بني العبّاس كان تحت ملكه (بسرّ من رأى) , فاستدعى الإمام عليّ الهادي إلى مجلسه , وأعرض عليه جميع عساكره وحجّابه ونوابّه وأرباب دولته ؛ ليرهبه بهم , وأمر كلّ فارس من جنده أن يملأ مخلاة فرسه تراباً ويطرحه في مكان واحد , فصار كالجبل العظيم وسمّاه ( تلّ المخالي ) , وهو حتّى الآن موجود بسرّ من رأى. قال : ثمّ إنّ المتوكل أخذ بيد الإمام عليّ الهادي (عليه‌السلام ) وصعد معه إلى الجبل , وقال له : ما أصعدتك معي إلى هُنا إلّا لترى خيولي وعسكري وقومي وجندي. وكان قد ألبس عسكره الدّروع المجلية واعتلوا بالرّماح الخطّية وتقلّدوا بالسّيوف الهندية ، وأمرهم أن يعرضوا على الإمام الهادي بأحسن زينة وأتمّ عدّة وأعظم هيبة , وهو مع ذلك جالس مع الإمام (عليه‌السلام ) , فقال له الإمام (عليه‌السلام ) : (( يا خليفة الزّمان , أتحبّ أن أعرض عليك عسكري كما عرضت عليّ عسكرك ؟ )). فقال المتوكل : ومن أين لك عسكر مثل عسكري ؟ فإن كان لك عسكر فأرينه ؟ فقال له : (( انظر يميناً )). فنظر , فرأى الملائكة بعدد الرّمل والنّمل وهم محيطون بالدُنيا بصور مختلفة , وبأيديهم حراب من نار لا يحصي عددهم إلّا الله تعالى ، فغشي الخليفة ؛ من شدّة رعب دخله منهم ، فلمّا أفاق من غشيته , قال له الإمام : (( يا خليفة الزّمان , إنّا نحن لا نشاجركم على زينة الدُنيا وزخارفها , وإنّا نحن مشغولون عنكم باُمور الآخرة )).

وكذلك الحُسين (عليه‌السلام ) لـمّا أحاط به الكفرة اللئام بنو

٢٣

اُميّة , أتته أفواج كثيرة من الملائكة وفي أيديهم أعمدة من نار وحراب من نار , وهم راكبون على نجب من نجب الجنّة , وقالوا له : يا حُسين , أنت حجّة الله على الخلق بعد جدّك وأبيك , وإنّ الله عزّ وجلّ قد أمدّ جدّك وأباك بنا في سائر الحروب , وإنّ الله تعالى قد أمدّك بنا ؛ لننصرك على عدوّك , فمرنا بأمرك نقتل عدوّك. فقال : (( أما قرأتم قوله تعالى :( لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى‏ مَضَاجِعِهِمْ ) (١) ؟ وإنّ الله تعالى كتب عليّ القتل , فإذا قتلتم أعدائي فبما يبتلي الله هذا الخلق المتعوس ؟ ومَن ذا يكون ساكناً بحفرتي في أرض كربلاء وقد اختارها الله يوم دحو الأرض , وقد جعلها معقلاً لشيعتي وزوّاري , وتكون لهم أماناً في الدُنيا والآخرة ؟ ولكن تحضرون عندي يوم العاشر من شهر عاشوراء , ففي آخره اُقتل ولا يبقى بعدي مطلوب من أهل بيتي , ويُسار برأسي إلى يزيد لعنه الله تعالى )). فقالت له الملائكة : يابن رسول الله , لو لا أنّ أمرك طاعة وإنّه لا يجوز لنا مخالفتك , لقتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك بسوء أبداً , حتّى لا يبقى على وجه الأرض منهم أحداً. فقال لهم : (( جزيتم خيراً , ولكن نحن والله أقدر منكم عليهم , والله على كلّ شيء قدير )).

فعلى الأطائب من أهل البيت فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ ابن حماد (رحمه‌الله )

أآمر بالصبر أسرفت في أمري

أيؤمر مثلي لا أبا لك بالصبر

أفي يوم عاشورا ألام على البكا

ولو أن عيني دمعها من دمي يجر

إذا لم أقم في يوم عاشوراء مأتماً

ولم أندب الأطهار فيه فما عذر

أأنسى حسيناً حين أصبح مفرداً

غريباً بأرض الطف في مهمه قفر

وشمر عليه لعنة الله راكب

على صدره أكرم بذلك من صدر

يقطع أوداج الحُسين بسيفه

على حنق منه يهبر بالنحر

برزن نساء السبط يمشين حسراً

على عجل حتّى تعلقن بالشمر

وقلن له يا شمر فرقت بيننا

والبستنا ثوب الأسى أبد الدهر

أتقتل أولاد النّبي مُحمّد

وترجو بأن تحضى الشفاعة في الحشر

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٥٤.

٢٤

وقد فرّ ينعاه إلى الأهل مهره

سليباً فلمّا أن نظرن إلى المهر

هتكن حجاب الخدر عنهن جهرة

يعز عليهن الخروج من الخدر

وبادرن حتّى إذ رأين مكانه

وشيبته مخضوبة من النحر

فلما رأين الرأس في رأس ذابل

كبدر الدجى إذ لاح في رابع العشر

سقطن على حر الوجوه بدهشة

وأيقن بالتهتيك والسبي والكسر

وقد قبضت أحشائها بيمينها

وقد قبضت إحدى يديها على العشر

تضم علياً تارة نحو صدرها

وفاطمة الصغرى مدامعها تجر

وتدعو حسيناً يا ابن أم تركتني

وفي كبدي ثكل أحر من الجمر

أخي لو ترانا في السبايا ولو تر

بناتك حولي بالمذلة والأسر

سأبكيك دهراً يابن بنت مُحمّد

وأسعد من يبكيك ما مد في عمر

متى ينجز الوعد الذي قد وعدته

وتأتي به الأجناد في غابر الدهر

حقيق على الرحمن إنجاز وعده

وتبلغه حتّى نرى راية النصر

قيام إمام لا محالة قائم

يقيم عماد الدين بالبيض والسمر

لعل ابن حماد يجرد سيفه

ويقتص من أعدائه باقي الدهر

فإن قصرت كفاي عن قتلهم غداً

سأقتلهم باللعن في محكم الشعر

أيا شيعة الأطهار صبراً على الأذى

فإن منال النجح عاقبة الصبر

عليكم سلام الله يا آل أحمد

سلام محب دائم مدة العمر

٢٥

المجلس الثّاني

في اليوم السّادس من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

لو صفّت أفكار المتفكّرين لأشرقت عليها أنوار اليقين , ولو طُلب طريق الحقّ بالتّحقيق لأدرك الطّالب سؤاله وخرج عن المضيق ، ولكن كثرة الشّوائب يصدر عنها الرّأي العازب , كيف وقد شهد بفضلهم التّوراة والإنجيل وبمدحهم العظيم الجليل في مُحكم التّنزيل.

يا إخواني , أيّ شرف أعظم من شرف من يخدم بالملائكة المقرّبين إلى ربّ العالمين ، أخلاقهم طاهرة ومعجزاتهم ظاهرة ودولتهم مستمرّة دائمة إلى الرّشاد , إمام الصّادقين البررة قاتل الجاحدين الكفرة , نور الله في العالمين مدمّر النّاكثين والقاسطين والمارقين , أصل الفخار غرّة شمس النّهار , شجرة أصلها النّبي المختار وفرعها بنوه المعصومون الأطهار , في مدحه نزل القُرآن وفي التّمسك به يكمل الإيمان :

كم بين من شك في عقيدته

وبين من قيل أنه الله

روي عن كعب بن مُحمّد القرطي , قال : افتخر طلحة بن عبد الدّار والعبّاس بن عبد الـمُطّلب وعليّ بن أبي طالب (ع) , فقال طلحة : معي مفتاح الكعبة ولو شئت أبت بها. وقال العبّاس : أنا صاحب السّقاية القائم عليها ولو شئت أبت في المسجد. فقال عليّ (عليه‌السلام ) : (( ما أدري ما تقولان ؟! لقد صلّيت إلى القبلة ستة

٢٦

أشهر قبل النّاس , وأنا صاحب الجهاد الأكبر )). فأنزل الله تعالى فيه :( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَيَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ ) (١) :

يقولون لي قل في عليّ مدائحاً

فإن أنا لم أفعل يقولوا معاند

وما صنعت عنه الشعر عن ضعف هاجر

ولا إنني عن مذهب الحق حائد

ولكن عن الأشعار والله صنت من

عليه بني قرآننا والمساجد

فلو أن ماء الأبحر السبعة التي

خلقن مداداً والسماوات كاغد

وأشجار خلق الله أقلام كاتب

إذا الخط أفناهن عادت عوائد

وكان جميع الجن والإنس كتبا

إذا كل منهم واحد قام واحد

وخطوا جميعاً منقب بعد منقب

لـمّا خط من تلك المناقب واحد

فوا عجباً ممّن أنكر الوصية بالأمر إليه وخالف في النّص بالخلافة عليه , مع اعترافهم بعصبة الرّسول التي دلّ عليهم المعقول والمنقول ! ووا عجباً كيف ينكرون نصّه عليه يوم غدير خم في حجّة الوداع وقد ملأ بذلك الأسماع ! أما قال له عمر : بخ بخ لك أصبحت مولى كلّ مؤمن ! كأنّهم زعموا أنّ ذلك كان في النّوم فغفلوا عن ذلك اليوم , كلا ولكنّهم رجعوا على الأعقاب كما وعدهم به في الكتاب الله العزيز الوهاب , يقول :( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) (٢) . تركوا أخا الرّسول وعكفوا على الأوّل كقوم موسى حيث تركوا أخاه وعكفوا على العجل , تصديقاً لكلام الرّسول حيث يقول : (( تحذو اُمّتي حذو بني إسرائيل النّعل بالنّعل والقذّة بالقذّة )).

ومن طريقهم ما رواه أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك , قال : قُلت لسلمان : سلّ النّبي (ص) عن وصيّه. وقال سلمان : مَن وصيّك ؟ فقال (ص) : (( يا سلمان , مَن كان وصي موسى (عليه‌السلام ) ؟ )). فقال : يوشع بن نون. قال , فقال (ص) : (( وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز وعدي عليّ بن أبي طالب )). فقد هبلت الهبول شانىء آل الرّسول :

إذا كان كل الناس سبعين فرقة

ونيفاً كما قد جاء في واضح النقل

____________________

(١) سورة التّوبة / ١٩.

(٢) سورة آل عمران / ١٤٤.

٢٧

ولم يك منهم ناجياً غير فرقة

فماذا ترى يا ذا البصيرة والعقل

أفي الفرقة الناجين آل مُحمّد

أم الفرقة الهلاك أيهما قل لي

رضيت علياً لي إماماً وسيداً

وأنت من الباقين في سائر الحل

فابشروا أيّها الإخوان بموالات مولاكم الذي هو سبب هديكم وبه تحصلون الفوز في آخرتكم , واعلموا أنّه لا بدّ لكم من معاينته في سياق الموت وكربته كما أشار إليه في قوله سلام الله عليه يقول :

يا حار همدان من يمت يرني

من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني شخصه وأعرفه

بعينه واسمه وما فعلا

وأنت يا حار إن نمت ترني

فلا تخف عثرة ولا زللا

أسقيك من بارد على ظمأ

تخاله في الحلاوة العسلا

أقول للنار حين تعرض للحشر

ذريه لا تقربي الرجلا

ذرية لا تقربيه إن له

حبلاً بحبل الوصي متصلا

روي من طريقهم عن أبي مريم عن عليّ (عليه‌السلام ) , قال : (( انطلقت أنا والنّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتّى انتهينا إلى الكعبة , فقال لي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : اجلس. فصعد على منكبي وذهبت أنهض به فرأى منّي ضعفاً , فجلس لي نبي الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وقال : اصعد على منكبي. فصعدت على منكبيه , قال (ع) : فنهض فيّ , فخُيّل لي أنّي لو شئت لنلت اُفق السّماء , حتّى سقطت على البيت وعليه تمثال صفراً ونحاس , فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتّى استمسكت منه , فقال لي رسول الله : نستيق(١) أقذف به. فقذفت به فتكسّر كالقوارير , ثمّ نزلت وانطلقت أنا ورسول الله نستيق(٢) , حتّى توارينا بالبيوت ؛ خشية أن يلقانا أحد من النّاس )).

وروي من طرقهم أيضاً عن ابن عبّاس , قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( لو أنّ الرّياض أقلام والبحر مداد والجن حساب والإنس كتاب , ما أحصوا فضائل عليّ (عليه‌السلام ) )) :

وإذا الدر زان حسن نحور

كان للدر حسن بحرك زينا

وتزين طيب الطيب طيباً

عند ذكراك أين مثلك أينا

فضائله لا تُحصى ومناقبه لا تُستقصى , ولو لم يكُن إلّا مبارزته لعمرو بن ودّ

____________________

(١) لم أجد هذه الكلمة في المصادر الاُخرى , ولعلّها من اشتباهات النّساخ. المقوم.

(٢) هذا ما ورد في الكتاب , ولكن الوارد في مسند احمد : ١/٨٤ , ينابيع المودة لذوي القربى ٣/٢٣٣ , وغيرهم : نستبق... (معهد الإمامين الحسنين).

٢٨

الذي قال فيها النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( برز الإسلام كلّه إلى الشّرك كلّه )). فلمّا قتله قال : (( ضربة عليّ لعمرو , توازي عمل اُمّتي إلى يوم القيامة )). ولقد اُحصيت برزاته (عليه‌السلام ) بين يدي النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فكانت ألفاً وسبعين. فإذا كان جزء واحد من نيف وسبعين من قوّته العمليّة , بمقدار عمل جميع أهل الإسلام إلى يوم القيامة , فما ظنّك بباقي أعماله صلوات الله عليه في سائر أحواله.

فتبّاً لقوم غرّتهم الدُنيا فاختاروها على الأخرى وهو الآفة الكبرى , كان منتهاهم إلى الذّل والهوان وفي الآخرة عذاب النّيران.

روي : أنّ عمرو بن العاص قال لمعاوية بن أبي سفيان : يا معاوية , ما أشدّ حُبّك للمال ؟ فقال : ولِمَ لا أحبّه وأنا استعبد به مثلك وأبتاع به دينك ومروّتك ؟ فلعمري , ما ربحوا بل خسروا وما جبروا بل كسروا وسيندمون ويعلمون أيّ منقلب ينقلبون.

روي : أنّ معاوية بن أبي سفيان لـمّا مرض الموت , رقي المنبر وخطب النّاس - وكانت آخر خطبة خطبها للنّاس في جامع بني اُميّة - وأنّه قال : أيّها النّاس , إنّ من زرع قد استحصد , وإنّي وليتكم ولم يتولكم أحد من بعدي إلّا مَن هو شرّ منّي كما كان من قبلي هو خير منّي , يا ليتني رجُلاً من قُريش ولم أتوّل من أمور النّاس شيئاً. ثمّ قال :( يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ ) (١) . فوالله , لو علمت هكذا عمري قصيراً ما فعلت. ثمّ بكى وقال : وا بُعد سفراه ! وا قلّة زاداه ! ثمّ نزل عن المنبر ودخل داره وثقل حاله وازدادت علّته , فعادوه إخوانه وجلسوا حوله وقالوا له : يا معاوية , أوصي إلينا بما تريد. فقال : يا إخواني , أحذّركم مصرعي هذا , فإنّه لا بدّ لكم منه. ثمّ قال : اجلسوني وسندوني. فأجلسوه وسندوه , فقال : إلهي , أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت. ثمّ قال: الآن تذكر ربّك يا معاوية بعد الهرم والانحطاط , فلِمَ لا كان هذا وغصن الشّباب نظر ريّان ؟! فقيل له : يا معاوية , كأنّك تحبّ الحياة ؟ فقال : لا , ولكن القدوم على الله شديد. قال : ودخل عليه قوم آخرون , فقالوا له : كيف أصبحت يا معاوية ؟ فقال : أصبحت من الدُنيا راحلاً وللإخوان مفارقاً ولسوء عملي ملاق. ثمّ انصرف النّاس عنه, قالت زوجته : فسمعته يقول عند موته :( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (٢) . ثمّ سكت فجعلت لا أسمع له كلاماً أبداً , فقلت لوصيف كان عنده : انظر أنائم هو أم يقظان ؟ فنظر إليه فوجده قد مات.

وأمّا مروان بن الحكم

____________________

(١) سورة الحاقة /٢٧- ٢٨.

(٢) سورة القصص / ٨٣.

٢٩

لـمّا مرض مرضه الذي مات فيه , مرّ على غسّال يغسل ثياباً بجانب نهر في دمشق , فنظر إليه وهو يلوي ثوباً بيده ثمّ يضرب به في المسلّة , فقال مروان : ليتني كنت غسّالاً آكل من كسب يدي يوماً بيوم ولم أكن والياً على الـمُسلمين ! قال : فبلغ كلامه إلى أبي حازم الغسّال , فقال : الحمد لله الذي جعل الملوك إذا حضرهم الموت يتمنون ما نحن فيه من الغسل. قال : فدخلوا عليه إخوانه يعودونه في مرضه , فقالوا له : كيف نجدك يا أمير ؟ قال : تجدوني كما قال الله تعالى :( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى‏ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُم مَا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ) (١) . ثمّ بكى فقيل له : وما يبكيك يا أمير ؟ فقال : ما أبكي جزعاً على الدُنيا , ولكن عهد إلينا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنّه قال : (( يكون بلغة أحدكم من الدُنيا كزاد راكب )). ثمّ قال : وا بُعد سفراه ! وا قلّة زاداه ! ثمّ اُغمي عليه فماتلا رحمه‌ الله.

وأمّا عمرو بن العاص , فإنّه لـمّا دنت منه الوفاة وقد نظر إلى خزائنه وصناديق ماله , قال : مَن يأخذها بما فيها ؟ وليتني كنت أعيش أبداً. فبكت امرأته , فقال لها : إن كنت باكية فابكي على نفسك ؟ ثمّ اُغمي عليه فمات لا رحمه ‌الله تع الى.

وأمّا المأمون لـمّا ذنت منه الوفاة وأيس من الحياة , فرش رماداً واضطجع عليه وجعل يقول : يا مَن لا يزول ملكه, ارحم مَن قد زال ملكه. فقيل له : لا بأس عليك. فقال : ليس إلّا هذا , لقد ذهبت منّي الدُنيا والآخرة. ثمّ اُغمي عليه فمات لا رحمه ‌الله تعالى.

وأمّا الحجاج بن عُبيدة الثّقفي , فإنّه كان يقول عند موته : اللّهمّ اغفر لي , فإنّ الخلق مجتمعون على أنّك لا تغفر لي. ثمّ اُغمي عليه فما ت لا رحمه ‌الله تع الى.

وأمّا الشّمر اللعين , فإنّه كان عاقبته أن قتله الـمُختار أشرّ قتلة , وأحرق داره بمن فيها من أهله وعشيرته , ألا لعنة الله على الكافرين :

ستعلم أمة قتلت حسيناً

بأن عذاب قاتله وبيل

إذا عرضوا على الرحمن صفاً

وجاءت ثمّ فاطمة البتول

وفي يدها قميص السبط تشكو

ظلامتها فينصفها الجليل

ويهوي الظّالمين بها جميعاً

إلى قعر الجحيم لهم عويل

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته

____________________

(١) سورة الأنعام / ٩٤.

٣٠

الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ صالح بن عبد الوهاب

نوحوا يا شيعة المولى أبا الحسن

على الحُسين غريب الدار والوطن

وابكوا عليه طريحاً بالطفوف على

الرمضاء مختضب الأوداج والذقن

وابكوا على صدره بالطف ترضضه

خيول أهل الخنا والحقد والإحن

وابكوا على رأسه بالرمح مشتهراً

إلى يزيد اللعين الفاجر الكني

وابكوا بنات رسول الله بين بني

اللئام يشهرن في الأمصار والمدن

وابكوا على السيد السجاد معتقلاً

في أسره مستذلاً ناحل البدن

وا حر قلباه وا حزني لا بنته

سكينة حاسراً والدمع كالمزن

تقول واضيتي بعد الحُسين أبي

وا ذلتي وا عنا قلبي ووا حزني

أبعد صوني وخدري والحجاب أرى

جهراً وينظرني الطاغي ويرمقني

والطهر فاطمة الصغرى تنوح على

الحُسين نوح كئيب القلب ذي شجن

وتستغيث أباها يا أباه ترى

من ذا يجود على يتمي فيرحمني

وزينب أخته للخد لاطمة

تشكو إليه بقلب موجع حزن

أيا أخي يا ضيا عيني ويا أملي

فقدانكم يا كفيل اليوم ضيعني

يا واحدي يابن أمي يا حسين أما

ترى مقامي أيا حصني ومرتكن

أمسيت بين الأعادي لا كفيل ولا

مساعد في ملماتي يساعدني

يا كافلي يا أخي ما كان في خلدي

إنّي أراك ومنك الرأس في لدن

كلا ولا خلت يا حصني وملتجئي

هتكي وسبي ولا بعدي عن الوطن

يا ليت عيني قبل الآن قد عميت

وليتني قبل هذا اليوم لم أكن

أيا بن امي قد أورثتني كمداً

أو هي فؤادي وابلاني وانحلني

أيا كفيلي لقد عز الكفيل فمن

أرى نصيراً على الأعداء ينصرني

أيا نصيري لقد عز النصير فلا

أرى نصيرا على الأعداء ينصرني

وا ذلتي يا أخي من بعد عزك لي

هتكت بين أهل الظغن والأحن

يا ليتني قبل هذا ايوم في جدث

ولا أراك خضيب الشيب والذقن

وأم كلثوم تدعو وهي باكية

بمدمع هامل كالعارض الهتن

٣١

أخي أخي يابن أمي يا حسين لقد

تجددت لي أحزان على حزن

أخي أخي بعد جدّي والوصي أبي

وفقدكم لثياب الحزن ألبسني

أخي أخي بعدكم من ذا ألوذ به

ومن يساعدني في حادث الزمن

أخي أخي بعد صوني يا حسين لقد

أصبحت أسبى كسبي الروم في المدن

فآه يا ضيعتي من بعد فقدك يا

حصني الحصين ويا سؤلي ويا سكني

يا ليت عين رسول الله ناظرة

إلي والفاجر الملعون يسلبني

يا ليت عين أمير المؤمنين أتى

بين الأعادي بهذا اليوم تنظرني

حسري مجردة وا ويلتاه فلا

أرى كفيلاً بهذا اليوم يكفلني

وتستغيث إلى الزّهراء فاطمة

بنت النّبي ودمع العين كالمزني

يا أم قومي من الأجداث نادبة

على الحُسين مقيم الفرض والسنن

يا أم قومي وانظري رأس الحُسين أخي

كالبدر يشرق فوق الذبل اللدن

يا أم قومي انظري السجاد معتقلاً

يساق نحو يزيد الفاجر الكني

فيا لها حسرة لا تنقضي أبداً

حتّى ترى حجّة الرحمن ذا المنن

سمي خير الورى المختار من مضر

خليفة الله فينا صاحب الزمن

الآخذ الثأئر من أهل العناد ومفني

كل رجس خؤون غير مؤتمن

الناصر للدين والمحيي معالمه

الناشر العدل في الأطراف والمدن

يزيل ما أسس الأرجاس من بدع

بالإفك منهم وبالأحقاد والظغن

يا حجّة الله يابن العسكري إلى

متى تكابد أهل البغي والفتن

عجل وخلص محبيك الضعاف فقد

تشرد الناس عن أهل وعن وطن

وما لهم ناصر مولاي غيرك يا

محيي فرائض دين الله والسنن

فخذ بنصرهم واشفي الغليل وخذ

بثأر جدك يا سؤلي ومرتكني

أيا بني الوحي والتنزيل يا أملي

يا من ولاهم غداً في القبر يؤنسني

حزني عليكم جديداً دائماً أبداً

ما دمت حياً إلى أن ينقضي زمني

وما تذكرت يوم الطف رزءكم

إلا تجدد لي حزن على حزن

وأصبح القلب منّي وهو مكتئب

والدمع منسكب كالعارض الهتن

لكم لكم يا بني المختار ذا أسفي

لا للتنائي عن الأهلين والوطن

٣٢

فهماكموها ولاة الأمر مرثية

من الكئيب العبير القلب ذو الشجن

يا عدتي واعتمادي والرجا ومن

هم أنيسي إذا أدرجت في كفني

إني بحبكم أرجو النجاة غداً

إذا أتيت وذنبي قد تكابدني

وعاينت مقلتي ما قدمته يدي

من الخطيات في سر وفي علن

لأن حبكم زاد لآخرتي

به إلهي من النيران ينقذني

صلّى عليكم إله العرش ما سجعت

حمامسة أو شدى ورق على غضن

الباب الثّاني

يا إخواني في الدّين , لو أحاط النّاس بفضل أولاد أمير المؤمنين , لذهلت عقولهم وغدوا والهين , كيف وقد جُمعت فيهم فضائل الأنبياء الـمُتقدّمين خصوصاً على أبيهم عليّ أمير المؤمنين(ع) , وقد قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا عليّ , لو لا خوفي أن تقول النّاس فيك كما قالت النّصارى في عيسى بن مريم , لقلت فيك مقالاً لا تمر بأحد إلّا وأخذ التّراب من تحت قدميك )). ولهذا اُطلق عليهم لفظ الأشباح ؛ لأنّ الشّبح هو الذي ترى صورته ولا تعلم حقيقته. أو لا ترون يا أهل البصائر إلى رجل أخفى أعداءه فضائله ؛ بغضاً له , وستر أولياءه مناقبه ؛ خوفاً على أنفسهم , ثمّ ظهر بين هذين الاخفائين مناقب ملأت الخافقين ، ولقد أجاد ابن سرايا حيث ذكر له جمع بعض المزايا , حيث قال :

جمعت في صفاتك الأضداد

فلهذا عزت لك الأنداد

زاهد حاكم حليم شجاع

ناسك فاتك فقير جواد

خلق يشبه النسيم من اللطف

وبأس يذوب منه الجماد

شيم ما جمعن في بشر قط

ولا حاز مثلهم العباد

فلهذا تعمقت فيك أقوام

بأقوالهم فرانوا وزادوا

وغلت في صفات فضلك (يس

وطه) وآل ياسين وصاد

ظهرت منك للورى معجزات

فأقرت بفضلك الحساد

إن يكذب بها عداك فقد

كذب من قبل قوم لوط وعاد

أنت سر النّبي والصنو وبن

العم والصهر والأخ المستجاد

٣٣

لو رأى مثلك النّبي لآخاه

وإلّا فائط الإنتقاد

فيكم بأهل النّبي ولم

يلق لكم خامساً سواه يزاد

كنت نفساً له وعرسك وإبناك

لديه النساء والأولاد

جل معناك أن يحمل به البشر

ويحصي صفاته النقاد

إنما الله عنكم أذهب الرجس

فردت بغيضها الأضداد

ذاك مدح الإله فيكم فإن

فهت بمدح فذاك قول يعاد

روي من طرقهم عن أحمد بن سعيد الثّقفي , قال : كُنّا يوماً وقوفاً على باب أبي نعيم الفضل بن دكين , ونحن جماعة فينا أحمد بن حنبل وغيره من نقلة الحديث ؛ نتوقع خروجه لنسمع منه ، فاطلع علينا من خوخة على باب داره , فقال : إنّ لي وعكة وعلّة صداع , فاعذروا وانصرفوا مأجورين. فقام إليه رجل فقال : مسألة. فقال : هاتها وأوجز. فقال : ما تقول في رجُل شهد أن لا إله إلّا الله , وأقرّ أنّ مُحمّداً رسول الله , وأقام الصّلاة وأتى الزّكاة , وصام شهر رمضان وحجّ البيت مع الأركان , وجاهد عند دعاء الحاجة إلى الجهاد , وأمر بالمعروف ونهى عن الـمُنكر , واجتهد بعد ذلك في أفعال الخير , ثمّ مات وهو لا يعرف... أبي قحافة , هل مات مؤمناً ولا بأس فيما جهل. قال : فإن فعل مثل ذلك وهو لا يعرف الثّاني. فأجاب مثل الجواب الأول , قال : فإن فعل مثل ما تقدم ومات ولم يعرف عليّ بن أبي طالب. قال : لا يسعه ذلك , لأنّ الصّلاة لا تفتقر إلى ذكر غير عليّ كما تفتقر إلى ذكره , وقد كان من مُحمّد بمكان لا كغيره.

ومن طريقهم أيضاً عن سعد بن أبي وقاص , قال : أمر معاوية سعداً بالسّب , فأبى , فقال ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب ؟ فقال : ثلاث قالهن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فلن أسبّه , ولئن تكُن لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النّعم , سمعته يقول لعلي - وقد خلّفه في بعض مغازيه - فقال له عليّ (ع) : (( خلّفتني مع النّساء والصّبيان ؟ )). فقال له رسول الله (ص) : (( أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى , إلّا أنّه لا نبي بعدي ؟ )). وسمعته يقول (ص) يوم خيبر : (( لأعطينّ الرّاية غداً رجُلا يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله )). قال : فتطاولنا إليها , فقال : (( ادعوا إليّ عليّ )). فأتاه وبه رمد , فبصق في عينيه ودفع الرّاية إليه , ففتح الله عليه , ولـمّا نزلت( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ... ) (١) ، دعا رسول الله (ص) فاطمة وعليّاً والحسن والحُسين , فقال (ص) : (( اللّهمّ هؤلاء أهلي )).

____________________

(١) سورة آل عمران / ٦١.

٣٤

حديث الكساء

روي عن فاطمة الزّهراء (عليها‌السلام ) بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، قال : سَمِعتُ فَاطِمَةَ الزَّهراءِعليها‌السلام بِنتِ رَسُول اللهِ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أَنِّها قالَت : (( دَخَلَ عَلَيَّ أبي رَسُولُ اللهِ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فِي بَعضِ الأيَّامِ , فَقَالَ : أَلسَّلامُ عَلَيكِ يا فاطِمَةُ. فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ. قالَ : إنّي أَجِدُ في بَدَني ضَعفاً. فَقُلتُ لَهُ : أُعِيذُكَ باللهِ يا أَبَتاهُ مِنَ الضَّعفٍ. فَقَالَ : يا فاطِمَةُ إِيتيني بِالكِساءِ اليَمانِيِّ فَغَطّينِي بهِ. فَأَتَيتُهُ بِالكِساءِ اليَمانِيِّ فَغَطّيتُهُ بِهِ وَصِرتُ أَنظُرُ إِلَيهِ , وَإِذا وَجهُهُ يَتَلَأ لَأ كَأَنَّهُ البَدرُ فِي لَيلَةِ تمامِهِ وَكَمالِهِ.

فَما كَانَت إِلّا ساعَةً وإذا بوَلَدِيَ الحَسَنِ قَد أَقبَلَ وَقالَ : أَلسَّلامُ عَلَيكِ يا أُمّاهُ. فَقُلتُ : وَعَلَيكَ السَّلامُ يا قُرَّةَ عَيِني وَثَمَرَةَ فُؤادِي. فَقالَ : يا أُمّاهُ , إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ جَدِّي رَسُولِ اللهِ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ فَقُلتُ : نَعَم , إِنَّ جَدَّكَ تَحتَ الكِساء. فَأَقبَلَ الحَسَنُ نَحوَ الكِساء وَقالَ : أَلسَّلامُ عَلَيكَ يا جَدّاهُ يا رَسُولَ اللهِ , أَتَأذَنُ لي أَن أَدخُلَ مَعَكَ تَحتَ الكِساءِ ؟ فَقالَ : وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي وَيا صاحِبَ حَوضِي قَد أَذِنتُ لَكَ. فَدَخَلَ مَعَهُ تَحتَ الكِساءِ.

فَما كانَت إِلّا سَاعَةً وَإِذا بِوَلَدِيَ الحُسَينِ (عليه‌السلام ) أَقبَلَ وَقال : أَلسَّلامُ عَلَيكِ يا أُمّاهُ. فَقُلتُ : وَعَلَيكَ السَّلامُ يا قُرَّةَ عَيِني وَثَمَرَةَ فُؤادِي. فَقالَ : يا أُمّاهُ , إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ جَدّي رَسُولِ اللهِ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ فَقُلتُ : نَعَم , إِنَّ جَدَّكَ وَأَخاكَ تَحتَ الكِساءِ. فَدَنَا الحُسَينُ (عليه‌السلام ) نحوَ الكِساءِ وَقالَ : أَلسَّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّاهُ يا مَنِ أختارَهُ اللهُ ، أَتَأذَنُ لي أَن أَكونَ مَعَكُما تَحتَ الكِساءِ ؟ فَقالَ : وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي وَيا شافِع أُمَّتِي قَد أَذِنتُ لَكَ. فَدَخَلَ مَعَهُما تَحتَ الكِساء ، فَأَقبَلَ عِندَ ذلِكَ أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَبي طالِبٍ وَقال : أَلسَّلامُ عَلَيكِ يا بِنتَ رَسُولِ اللهِ. فَقُلتُ : وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَبَا الحَسَن وَيا أَمِيرَ الـمُؤمِنينَ. فَقالَ : يا فاطِمَةُ , إِنّي أَشَمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأَنَّها رائِحَةُ أَخي وَابِنِ عَمّي رَسُولِ اللهِ ؟ فَقُلتُ : نَعَم ها هُوَ مَعَ وَلَدَيكَ تَحتَ الكِساءِ. فَأقبَلَ عَلِيٌّ نَحوَ الكِساءِ وَقالَ : أَلسَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ اللهِ , أَتَأذَنُ لي أَن أَكُونَ مَعَكُم تَحتَ الكِساءِ ؟ قالَ لَهُ : وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَخِي وَيا وَصِيّيِ وَخَلِيفَتِي وَصاحِبَ لِوائِي , قَد أَذِنتُ لَكَ.

٣٥

فَدَخَلَ عَلِيٌّ تَحتَ الكِساءِ.

ثُمَّ أَتَيتُ نَحوَ الكِساءِ وَقُلتُ : أَلسَّلامُ عَلَيكَ يا أبَتاهُ يا رَسُولَ الله , أَتأذَنُ لي أَن أَكونَ مَعَكُم تَحتَ الكِساءِ ؟ قالَ: وَعَليكَ السَّلامُ يا بِنتِي وَيا بَضعَتِي , قَد أَذِنتُ لَكِ. فَدَخَلتُ تَحتَ الكِساءِ ، فَلَمَّا اكتَمَلنا جَمِيعاً تَحتَ الكِساءِ , أَخَذَ أَبي رَسُولُ اللهِ بِطَرَفَيِ الكِساءِ وَأَومَأَ بِيَدِهِ اليُمنى إِلىَ السَّماءِ , وقالَ : أَللّهُمَّ , إِنَّ هؤُلاءِ أَهلُ بَيتِي وخَاصَّتِي وَحَامَّتي ، لَحمُهُم لَحمِي وَدَمُهُم دَمِي ، يُؤلِمُني ما يُؤلِمُهُم وَيُحزِنُني ما يُحزِنُهُم ، أَنَا حَربٌ لِمَن حارَبَهُم وَسِلمٌ لِمَن سالَمَهُم , وَعَدوٌّ لِمَن عاداهُم وَمُحِبٌّ لِمَن أَحَبَّهُم ، إنًّهُم مِنّي وَأَنا مِنهُم , فَاجعَل صَلَواتِكَ وَبَرَكاتِكَ وَرَحمَتكَ وغُفرانَكَ وَرِضوانَكَ عَلَيَّ وَعَلَيهِم , وَاَذهِب عَنهُمُ الرَّجسَ وَطَهِّرهُم تَطهِيراً.

فَقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : يا مَلائِكَتي وَيا سُكَّانَ سَماواتي , إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنَّيةً وَلا أرضاً مَدحيَّةً , وَلا قَمَراً مُنيراً وَلا شَمساً مُضيِئةً , وَلا فَلَكاً يَدُورُ وَلا بَحراً يَجري وَلا فُلكاً يَسري , إِلّا في مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ الَّذينَ هُم تَحتَ الكِساء. فَقالَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ : يا رَبِّ , وَمَنْ تَحتَ الكِساءِ ؟ فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ : هُم أَهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَعدِنُ الرِّسالَةِ , هُم فاطِمَةُ وَأَبُوها وَبَعلُها وَبَنوها. فَقالَ جِبرائِيلُ : يا رَبِّ , أَتَأذَنُ لي أَن أَهبِطَ إلىَ الأَرضِ لأِكُونَ مَعَهُم سادِساً ؟ فَقالَ اللهُ : نَعَم قَد أَذِنتُ لَكَ.

فَهَبَطَ الأَمِينُ جِبرائِيلُ وَقالَ : أَلسَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ اللهِ ، العَلِيُّ الأَعلَى يُقرِئُكَ السَّلامَ ، وَيَخُصُّكَ بِالتًّحِيَّةِ وَالإِكرَامِ وَيَقُولُ لَكَ : وَعِزَّتي وَجَلالي , إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنيَّةً ولا أَرضاً مَدحِيَّةً , وَلا قَمَراً مُنِيراً وَلا شَمساً مُضِيئَةً , ولا فَلَكاً يَدُورُ ولا بَحراً يَجري وَلا فُلكاً تَسري , إِلّا لِأجلِكُم وَمَحَبَّتِكُم ، وَقَد أَذِنَ لي أَن أَدخُلَ مَعَكُم ، فَهَل تَأذَنُ لي يا رَسُول الله ِ؟ فَقالَ رَسُولُ الله : وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أَمِينَ وَحيِ اللهِ ، إِنَّهُ نَعَم قَد أَذِنتُ لَكَ. فَدَخَلَ جِبرائِيلُ مَعَنا تَحتَ الكِساءِ ، فَقالَ لأِبي : إِنَّ اللهَ قَد أَوحى إِلَيكُم يَقولُ :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١) .

فَقالَ : عَلِيٌّ لِأَبِي : يا رَسُولَ اللهِ , أَخبِرنِي ما لِجُلُوسِنا هَذا تَحتَ الكِساءِ مِنَ الفَضلِ عِندَ اللهِ ؟ فَقالَ النَّبيُّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): وَالَّذي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيّاً وَاصطَفانِي بِالرِّسالَةِ نَجِيّاً ، ما ذُكِرَ خَبَرُنا هذا فِي مَحفِلٍ مِن مَحافِل أَهلِ الأَرَضِ ,

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٣٣.

٣٦

وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَ مُحِبِيِّنا , إِلّا وَنَزَلَت عَلَيهِمُ الرَّحمَةُ ، وَحَفَّت بِهِمُ الـمَلائِكَةُ وَاستَغفَرَت لَهُم إِلى أَن يَتَفَرَّقُوا. فَقالَ عَلِيٌّ (عليه‌السلام ) : إذَاً وَاللهِ فُزنا وَفازَ شِيعَتنُا وَرَبِّ الكَعبَةِ. فَقالَ أَبي رَسُولُ اللهِ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : يا عَلِيُ , وَالَّذي بَعَثَني بِالحَقِّ نَبِيّاً وَاصطَفاني بِالرِّسالَةِ نَجِيّا ، ما ذُكِرَ خَبَرُنا هذا في مَحفِلٍ مِن مَحافِلِ أَهلِ الأَرضِ , وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبّيِنا وَفِيهِم مَهمُومٌ , إِلّا وَ فَرَّجَ اللهُ هَمَّهُ وَلا مَغمُومٌ إِلّا وَكَشَفَ اللهُ غَمَّهُ وَلا طالِبُ حاجَةٍ إِلّا وَقَضى اللهُ حاجَتَهُ. فَقالَ عَلِيٌّ (عليه‌السلام ) : إذَاً والله فُزنا وَسُعِدنا ، وَكَذلِكَ شِيعَتُنا فَازوا وَسُعِدوا في الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَ رَبِّ الكَعبَةِ )).

ولله درّ بعض من قال من الرّجال في مدح عليّ (عليه‌السلام ) حين طاف حول قبره (عليه‌السلام ) :

هو الشمس ام نور الضريح يلوح

هو المسك أم طيب الوصي يفوح

وبحر ندى أم روضة حوت الهدى

وآدم أم سر المهيمن نوح

وداود هذا أم سليمان بعده

وهارون ام موسى العصى ومسيح

وأحمد هذا الـمُصطفى أم وصيه

على نماه هاشم وذبيح

حبيب حبيب الله بل سر سره

وعين الورى بل للخلائق روح

له النص من يوم الغدير ومدحه

من الله في الذكر المبين صريح

إمام إذا ما المرء جاد يحبه

فميزانه يوم المعاد رجيح

له شيعة مثل النجوم زواهر

إذا جادلت تلقى العدو طريح

عليك سلام الله يا راية الهدى

سلام سليم يغتدي ويروح

روي عن سلمان الفارسي , قال : اُهدي إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قطف من العنب في غير أوانه , فقال لي : (( يا سلمان , آتيني بولدي الحسن والحُسين ؛ ليأكلا معي من هذا العنب )). قال سلمان الفارسي : فذهبت أطرق عليهما منزل اُمّهما فلم أرهما , فأتيت منزل أختهما اُمّ كلثوم فلم أرهما , فجئت فخبرت النّبي بذلك , فاضطرب ووثب قائماً وهو يقول : (( وا ولداه ! وا قرّة عيناه ! مَن يرشدني عليهما فله على الله الجنّة )). فنزل جبرائيل من السّماء وقال : يا مُحمّد , علام هذا الانزعاج ؟ فقال : (( على ولدي الحسن والحُسين ؛ فإنّي خائف عليهما من كيد اليهود )). فقال جبرائيل : يا

٣٧

مُحمّد , بل خف عليهما من كيد الـمُنافقين ؛ فإنّ كيدهم أشدّ من كيد اليهود ، واعلم يا مُحمّد , إنّ ابنيك الحسن والحُسين نائمان في حديقة أبي الدّحداح. فسار من وقته وساعته إلى الحديقة وأنا معه حتّى دخلنا الحديقة , وإذا هُما نائمان وقد اعتنق أحدهما الآخر , وثعبان في فيه طاقة ريحان يروح بها وجهيهما ، فلمّا رأى الثّعبان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ألق ما كان في فيه , وقال : السّلام عليك يا رسول الله , لست أنا ثعباناً ولكنّي ملك من ملائكة الله المكروبين , غفلت عن ذكر ربّي طرفة عين , فغضب عليّ ربّي ومسخني ثعبان كما ترى , وطردني من السّماء إلى الأرض , ولي منذ سنين كثيرة أقصد كريماً على الله فأسأله أن يشفع لي عند ربّي ؛ عسى أن يرحمني ويعيدني ملكاً كما كنت أوّلاً إنّه على كلّ شيءٍ قدير. قال فجثي النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقبّلهما حتّى استيقظا , فجلسا على ركبتي النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقال لهما النّبي (ص) : (( انظرا يا ولدي , هذا ملك من ملائكة الله المكروبين , قد غفل عن ذكر ربّه طرفة عين , فجعله الله هكذا , وأنا مستشفع إلى الله تعالى بكما فاشفعا له )). فوثب الحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) فاصبغا الوضوء وصلّيا ركعتين , وقالا : (( اللّهمّ , بحقّ جدّنا الجليل الحبيب مُحمّد الـمُصطفى , وبأبينا عليّ الـمُرتضى, وباُمّنا فاطمة الزّهراء , إلّا ما رددته إلى حالته الأولى )). قال : فما استتم دعاؤهما , وإذا بجبرائيل قد نزل من السّماء في رهط من الملائكة , وبشرّ ذلك برضى الله عليه وبردّه إلى سيرته الأولى ، ثمّ ارتفعوا به إلى السّماء وهم يُسبّحون الله تعالى ، ثمّ رجع جبرائيل (عليه‌السلام ) إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وهو مُبتسم وقال : يا رسول الله , إنّ ذلك الملك يفتخر على ملائكة السّبع السّماوات , ويقول لهم : مَن مثلي وأنا في شفاعة السّيدين السّبطين.

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم فلتذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ عبد الله بن داوُد الدّرمكي

أسهر طرفي وانحل البدنا

واجتاح صبري وزادني حزنا

وحول القلب من مساكنه

وصير النايبات لي سكنا

ذكر غريب الطفوف يوم سرى

بالأهل والمال يعنف البدنا

إلى الذي كاتبوه واجتهدوا

أن يقتلوه ويخربوا الوطنا

٣٨

فحين لـمّا أتى مخبرهم

بأنه قد أجابهم ودنا

تألبوا للقتال واجتهدوا

واتخذوا دون ربهم وثنا

فقال مولاي لا أبا لكم

لم خنتم عهدنا وموثقنا

أما كتبتم إلى أنكم

من بعض أنصارنا وشيعتنا

قالوا له كف ما لنا كتب

ولا بعثنا بأن تقاربنا

لكن زورت ما أتيت به

تريد يا بن البتول تخدعنا

نسيت في يوم بدر ما صنعت

كف عليّ وفي حنين بنا

أباد أبطالنا بصارمه

وقدّ بالمشرفي ساداتنا

فاصبر لأخذ الحقوق منك فقد

أوقعك الدهر في مخالبنا

فقال لي صبراً على جلادكم

فالله حرب لمن يحاربنا

إن قيل من أشرف الورى نسباً

وأصبر العالمين قلت أنا

أنظر إلى ماء الفرات كيف به

الخنزير والكلب يمرغ البدنا

ولم أذق منه شربة وإذا

سطوت في الحرب ما ونيت أنا

إن كان أغررتم بكثرتكم

فلا نولي إذا لقلتنا

وصطفت القوم للقتال معاً

وكل ضد لضدّه كمنا

وامتد جنح القيام بينهما

فما ترى العين للنهار سنا

ما كان إلّا هنيئة فإذا

السبط وحيد وما له قرنا

ينظر أصحابه على ظما

بين ذبيح وطائح طعنا

قد صبغ الترب من دمائهم

وما غنوا عن الحُسين غنا

فقال وا حسرتاه لفقدكم

فرقنا الدهر بعد الفتنا

وأم نحو الخيام مبتدراً

ودمع عينيه يحرق الردنا

يقول ودعتكم إلاهكم

يا أهل بيتي أرى الفراق دنا

فلتاح للطاهرين منطقة

منكسر القلب باكياً حزنا

فأقبلت زينب تقول له

في يد من يا حسين تتركنا

أراك يا بن البتول منكسر

بمثل هذا الكلام تزعجنا

فقال أنصارنا غدو زمراً

وانتهكت بالطفوف حرمتنا

٣٩

أوصيك خيراً إذا قتلت فلا

تقاربوا كل من يدنسنا

فنشركم للشعور نكرهه

وشقكم للجيوب يوكسنا

نحن بنو الـمُصطفى وعترته

والله قد عزنا وشرفنا

فاستعلى الصبر دائماً أبداً

فالصبر في النائبات شيمتنا

قالت عزيز عليّ يا أملي

صبري على حزننا وغربتنا

من ذا يفك الأسير بعدك أو

يكفل أيتامنا ويؤنسنا

ويشترينا ببذل مهجته

أو يتقي الله عن هضيمتنا

فضمها رحمة وقبلها

وقال سيري إلى مضاربنا

فمذ رأته النساء يلثمها

وهي تناديه وا شقاوتنا

مالوا إلى جزهم شعورهم

وأكثروا من مقال وا حزنا

فانتحب السبط رحمة لهم

وقال للنائبات مقدمنا

لا تحرقوني بدمعكم فلقد

أبيح للمعضلات جانبنا

والله ضرب السيوف في جسدي

أهون من ذلنا وشهرتنا

أخاف بعد الخدور تنهتكوا

في يد من خاننا وخادعنا

قالوا له يا حسين راجعهم

لعلهم يعرفون موضعنا

ويوصلونا بشربة فلقد

أحرق حرّ الأوام مهجتنا

قال عسى الله وانثنى عجلاً

يقول هل ناصر فينصرنا

هل فيكم محسن نلوذ به

هل فيكم راحم فيرحمنا

نموت يا قوم بينكم عطشاً

ما تحذروا الله في تعطشنا

قالوا له يا حسين مت ظمأ

لا تعترينا ولا تماطلنا

نسقيك طعن الرماح في عجل

وأوجع الضرب من صوارمنا

ودارت القوم حوله حلقاً

كل يناديه صرت في يدنا

وانتهبوا بالنبال جثته

وخبطوا من دمائه الذقنا

وجاءه الشمر مسرعاً عجلاً

ورجله فوق منكبيه ثنى

فاقبلت زينب تقول له

يا شمر يا شمر خل سيدنا

يا شمر نفديه النفوس فإن

قتلته فالمصاب يقتلنا

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإنسان أوَّله نُطفة وآخره جِيفة

ونموذج آخر نجده في قِصَّة المهلب بن أبي صفرة، والي عبد الملك على خُراسان، فقد كان في بعض الأيَّام مُرتدياً ثوباً مِن الخَزِّ، ويسير بكِبرياء في الطريق ويتبختر، فقابله رجل مِن عامَّة الناس، وقال له: يا عبد الله، إنَّ هذه المشية مَبغوضة مِن قِبَل الله ورسوله.

فقال له المهلب: أما تَعرِفني؟

قال: بلى أعرفك... أولك نُطفة مَذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تَحمل العَذرة.

فمضى المهلب، وترك مشيته تلك دون أنْ يتعرَّض للرجل بسوء (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٨١

يجمع كلَّ الناس خير الآباء آدم وأفضل الأديان الإسلام

روي عن موسى بن جعفر (عليه السلام)، أنَّه مَرَّ برجل مِن أهل السَّواد، دميم المنظر، فسلَّم عليه، ونزل عنده، وحادثه طويلاً، ثمَّ عرض عليه القيام بحاجته إنْ عُرِضت له، فقيل له: يا ابن رسول الله، أتنزل إلى هذا، ثمَّ تسأله عن حوائجه، وهو إليك أحوج؟!

فقال (عليه السلام): (عبد مِن عبيد الله، وأخٌ في كتاب الله، وجارٌ في بلاد الله، يجمعنا وإيَّاه خير الآباء آدم، وأفضل الأديان الإسلام) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٨٢

الرَّبُّ واحد والجزاء بالأعمال

عن رجل مِن أهل بَلخ قال: كنت مع الرضا (عليه السلام) في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه مِن السودان وغيرهم.

فقلت: جُعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة!!

فقال: (مَه، إنَّ الرَّبَّ تبارك وتعالى واحد، والأُمُّ واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٨٣

قولوا السَّداد مِن القول ولا تغلوا

عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج على نفرٍ مِن أصحابه، فقالوا:

مرحباً بسيدنا ومولانا.

فغضب رسول الله غَضباً شديداً، ثمَّ قال:

لا تقولوا: هكذا، ولكنْ قولوا: مرحباً بنبيِّنا ورسول رَبِّنا، قولوا السَّداد مِن القول، ولا تغلوا في القول فتمرقوا) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٨٤

أخاف أنْ يَدخلني ما دخلك

لقد كان أكثر أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فُقراء في صدر الإسلام، لكنَّ القرآن الكريم تعهَّد بتربيتهم على عِزَّة النفس، وقوَّة الشخصيَّة؛ بحيث لم يكونوا يخسرون أنفسهم مُقابل الزَّخارف المادِّيَّة، بالرَّغم مِمَّا كانوا عليه مِن الفَقر.

وكشاهد صريح على ما أقول، نذكر القصة التالية: روي أنَّ رجلاً موسِراً، دخل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمَّ دخل رجل فقير، وجلس إلى جنبه، فجمع الموسِر ملابسه...

كان النبي مُنتبهاً إلى ذلك، فسأل الموسِر: (أخشيت مِن اتِّصال فقره بك؟!).

ـ كَلاَ.

ـ (أخشيت مِن انتقال شيءٍ مِن ثروتك إليه؟!).

ـ كَلاَ.

ـ (أخشيت مِن تلوِّث ملابسك؟!).

ـ كَلاَ.

ـ (فلِمَ جمعت ملابسك؟).

ـ الثروة التي تُلازمني في كلِّ حين، منعتني مِن رؤية الحَقِّ، وحبَّبت إليَّ عيوبي؛ ولأتدارك هذا فقد وهبت له نِصف ما أملِك.

فقال رسول الله للفقير: (أتقبل؟).

قال: لاَ.

فقال له الرجل: ولِمَ؟!!

قال: أخاف أنْ يدخلني ما دخلك!! (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٨٥

الطِّيرَة ليست بحَقٍّ

ولِدت طفلة في اليوم الثالث عشر مِن الشهر، وعندما شَبَّت وترعرعت، وعلمت بأنَّ ولادتها تُصادف اليوم الثالث عشر؛ بدأ الاضطراب يَدبُّ في نفسها.

كانت تتصوَّر أنَّ نحوسة يوم ولادتها (اليوم الثالث عشر) تؤدِّي إلى تعاستها، وقد اضطرَّ الوالدان؛ لتهدئة الفتاة إلى أخذها إلى عيادة طبيب نفساني، وبَذَلَ الطبيب كلَّ جهوده؛ لاقتلاع جذور القَلق مِن نفس الفتاة، ولكنَّ جهوده باءت بالفَشل في جميع مُحاولاته.

تزوَّجت هذه الفتاة بعد إنهاء دراستها الجامعيَّة، وولدت طفلاً، ولكنَّها بقيت تحترق بنار القَلق والاضطراب.

وصادف يوماً أنْ كانت في سيَّارتها، بصُحبة زوجها وطفلها، حين شاهدها الطبيب النفساني، فاستوقفهم واقترب مِن الشابَّة، وقال لها: أرأيت كيف صَدقت أقوالي فيك، وأنَّ اضطرابك كان لا مُبرِّر له؟

انظري كيف أنَّك سعيدة بجوار زوجك وطفلك.

أجهشت الشابَّة بالبكاء، وقالت: سيِّدي الطبيب، إنِّي مُتيقِّنة مِن أنَّ نَحْس العدد (13) ستؤدِّي إلى تعاستي ودماري!!

يعتقد علماء النفس، أنَّ التشاؤم وليد جهل الإنسان، وليس خطراً حقيقيَّاً، أو آفة واقعيَّة، إنَّهم يقولون: إنَّه عِبارة عن إيحاء مؤلِم، يؤدِّي إلى إضعاف الروح، ويُسيطر على قلب المُعتقد به وفكره.

كذلك الأئمَّة عليهم السلام، فإنَّهم اعتبروا التشاؤم حقيقة نفسيَّة، قد تؤدِّي إلى أمراض ومشاكل كثيرة.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (الطِّيرَة ليست بحَقٍّ) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٨٦

يا رَبِّ أنت حولي ومِنك قوَّتي

أبو طيَّار تاجر مِن تُجَّار الكوفة، وتدهور وضعه المالي مَرَّة، فذهب إلى المدينة، وتشرَّف بلقاء الإمام الصادق (عليه السلام)، وذكر حالته له، وطلب مِن الإمام عِلاجاً لذلك.

أوَّل سؤال بَدأ به الإمام (عليه السلام)، هو أنَّه: (هل عندك حانوت في السوق؟).

قال: نعم، ولكنِّي هجرته مُنذ مُدَّة؛ لأنَّي لا أملك ما أبيع فيه.

فقال (عليه السلام): (إذا رجعت إلى الكوفة، فاقعُد في حانوتك واكنسه).

لا يوجد طريق لتدارك التدهور الاقتصادي، الذي أصاب تاجراً، بغير استعادة العمل والنشاط، وهذا لا يحصل مع اليأس والتردُّد، بلْ لا بُدَّ مِن العَزْم والاستقرار؛ ولذلك فإنَّ الإمام (عليه السلام) قال له: (إذا أردت أنْ تخرج إلى سوقك، فصَلِّ رَكعتين، ثمَّ قُلْ في دُبُر صلاتك:

توجَّهت بلا حول مِنِّي ولا قوَّة، ولكنْ بحولك يا رَبِّ وقوَّتك، فأنت حولي ومِنك قوَّتي).

عَمِل أبو طيَّار بوصيَّة الإمام (عليه السلام)، ففتح حانوته، ولم تمض ساعة حتَّى جاء إليه بزَّاز، وطلب منه أنْ يؤجِره نِصف حانوته، فوافق على ذلك شَريطة أنْ يدفع أُجرة الحانوت كلِّه، فجاء البزَّاز وبسط أمتعته في نِصف الحانوت، وهذا جعل الحانوت يبدو بشكل جديد.

كان البزَّاز يملك عِدَّة عِدول مِن القماش لم تفتح بعد، فطلب أبو طيَّار منه أنْ يسمح له ببيع عِدل منها، على أنْ يأخذ الأُجرة لنفسه، ويُعيد لجاره قيمة العِدل، فوافق على ذلك، وسلَّمه عِدلاً، فأخذ أبو طيَّار العدل وعرضه في النِّصف الآخر مِن الحانوت، وصادف أنَّ الجوَّ أصبح بارداً جِدَّاً في ذلك اليوم، بحيث أقبل الناس على

٨٧

السوق يشترون الأقمشة؛ لوقاية أجسامهم مِن البرد، وما أنْ غرُبت الشمس، حتَّى كانت الأقمشة كلُّها قد بيعت.

وفي هذا يقول أبو طيَّار: فما زلت آخذ عِدلاً وأبيعه وآخذ فضله، وأردُّ عليه رأس المال، حتَّى ركبت الدوابَّ واشتريت الرَّقيق وبنيت الدور (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٨٨

في أحد الأيَّام، وبينما كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يُصلِّي بالناس صلاة الصبح في المسجد، وعندما فَرغ مِن الصلاة، التفت إلى شابٍّ كان يُصلِّي خلفه، وقد اصفرَّ وجهه، وبدا عليه التعب مِن كثرة السَّهر، وبدا عليه أنَّه لم يَنمْ طوال الليل، فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

(كيف أصبحت يا حارث؟).

فأجابه الشابُّ: لقد أصبحت وأنا على يقين.

فتعجَّب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن كلام الشابِّ وقال له: (إنَّ كلَّ يقين يقترن بحقيقة، فما هي حقيقة يقينك؟).

قال الشابُّ: يا رسول الله، إنَّ يقيني هو ما دعاني أنْ أسهر الليل، وأنْ أتغاضى عن مُغريات الدنيا. كأنِّي أنظر إلى عرش رَبِّي قد نصب للحساب، وحَشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأنِّي أنظر إلى أهل الجَنَّة يتنعَّمون فيها ويتعارفون على الأرائك مُتَّكئين، وكأنِّي أنظر إلى أهل النار، فيها مُعذِّبون ويصطرخون، وكأنِّي أسمع الآن زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (هذا عبد نوَّر الله قلبه بالإيمان)، ثمَّ قال له: (إلزم ما أنت عليه).

فقال الشابُّ: ادعُ الله لي يا رسول الله، أن أُرزق الشهادة معك.

فدعا له بذلك، فلم يلبث أنْ خرج في بعض غزوات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاستُشهد بعد تسعة نفرٍ وكان هو العاشر (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

٨٩

جاءت مجموعة مِن قريش بينهم العتبة بن ربيعة، وأُبي بن خلف، والوليد بن المغيرة، والعاص بن سعيد جاؤوا إلى النبي، وتحدَّثوا أمامه عن المعاد بطريقة تنمُّ عن إنكارهم له، ثمَّ تقدَّم أُبي بن خلف نحو النبي، وهو يحمل بيده قطعة عَظم فهشَّمها بين أنامله بقوَّة، ثمَّ نفخ فيها فتناثرت ذرَّاتها في الهواء وقال:

أتزعم أنَّ رَبَّك يُحيي هذا بعد ما ترى؟!

لقد تصوَّر أُبيّ بن خلف، أنَّ تهشيمه قطعة العَظم، ونثر ذرَّاتها في الهواء، قد أقام الدليل القاطع على عدم وجود المَعاد واستحالته؛ ولهذا نراه يقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): بعد الذي شاهدته، هل لازلت مُصرَّاً على رأيك، بأنَّ الناس يُبعثون يوم القيامة؟

وهنا جاء الرَّدُّ الإلهي مِن خِلال القرآن الكريم: ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (يس) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

٩٠

لقِّنوا موتاكم شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله والولاية

عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر (عليهما السلام) قال: كنَّا عنده، وعنده حَمران، إذ دخل عليه مولى له، فقال: جُعلت فِداك هذا عَكرمة في الموت.

وكان يرى رأي الخوارج، وكان مُنقطعاً إلى أبي جعفر.

ـ (أنظروني حتَّى أرجع إليكم).

فقلنا: نعم. فما لبث أنْ رجع.

فقال: (أما إنِّي لو أدركت عَكرمة، قبل أنْ تقع النفس موقعها لعلَّمته كلمات ينتفع بها، ولكنِّي أدركته، وقد وقعت النفس موقعه).

قلت: جُعلِت فِداك، وما ذاك الكلام؟

قال: (هو - والله - ما أنتم عليه، فلقِّنوا موتاكم شهادة أنْ لا إله إلاّ الله والولاية).

فالإمام الباقر (عليه السلام) يقول: لو أنِّي وصلت إلى عَكرمة، قبل أنْ تصل روحه إلى مكانها وموقعها الروحاني، في عالم ما بعد الموت، لعلَّمته كلمات يستفيد منها، وهنا سأله أبو بصير:

وما هو الكلام الذي أردت أنْ تُعلِّمه له؟

فقال الباقر (عليه السلام): والله، أردت أنْ أُعلِّمه الذي تؤمنون به أنتم، أيْ: إنَّ الإمام أراد أنْ يُعرِّف السائل، ويُلفت انتباهه إلى المقام الشامخ لولاية علي (عليه السلام)، ويُطلعه على الخطأ الذي ارتكبه الخوارج بحَقِّ عليٍّ (عليه السلام)، لعلَّه يرجع عن تأييده لموقف الخوارج، ويُنزِّه ويُطهِّر ضميره مِن سوء الظَّنِّ بالإمام عليٍّ (عليه السلام)، ويُغادر هذه الدنيا بقلب سليم ونقي ٍّ (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

٩١

مَن يتَّقِ الله يجعل له مَخرجاً

ذكر أحد القُضاة في مدينة همدان: أنَّه تعرَّف إلى شخصٍ مرموقٍ في هذه المدينة، واقترض هذا مبلغاً مِن المال مِن أحد الأشخاص، وأعطاه إيصالاً بخطِّ يده، تعهَّد فيه بتسديد مبلغ القرض في التاريخ الفُلاني، وفي التاريخ المُحدَّد أحضر المَدين المبلغ الذي اقترضه، وجاء إلى الدائن؛ ليُسلِّمه المبلغ، ويسترجع منه الإيصال، ولكنَّ الدائن قال له: إنِّي لا أدري أين وضعت إيصالك، وإذا توافق فإنِّي أُعطيك إيصالاً آخر، بدل إيصالك القديم. ووافق المَدين واستلم الإيصال مِن الدائن.

يقول القاضي: إنِّي كنت على علم بهذه القضيَّة، وبعد فترة توفِّي صديقي، وبعدها عثر الشخص الذي أُعطي القرض (الدائن) على الإيصال، الذي سبق أنْ أعطاه له المَدين (المُتوفَّى) فأخذ الإيصال، وذهب إلى زوجة المُتوفَّى، وطالبها بالمبلغ المذكور في الإيصال، وبما أنَّ الزوجة كانت على علم بالأمر، قالت للدائن: إنَّ زوجي عندما كان على قيد الحياة، دفع لك ما بذمَّته واستلم منك إيصالاً بذلك. فقال لها الدائن: إذنْ، أعطيني إيصالي. ولكنَّ الزوجة لم تعثر على الإيصال، فأقام الدائن دعوى أمام المحكمة ضِدَّ المَدين (المُتوفَّى) ، وطلب مِن قاضي المحكمة - وهو صديق المُتوفَّى - النظر في القضيَّة، والقاضي كان يعلم بأنَّ صديقه قد سَدَّد دينه، ولكنَّه وافق على النظر في القضيَّة؛ استناداً إلى القوانين القضائيَّة، وأبلغ زوجة صديقه المُتوفَّى بأنَّ عليها أنْ تعثر على إيصال المُدَّعي، وتُسلِّمه إلى المحكمة.

بحثت الزوجة كثيراً عن الإيصال، ولكنْ دون جدوى، وكان القاضي على وَشك أنْ يُصدِّر حُكمه لصالح المُدَّعي، عندها رأت الزوجة زوجها في المنام وسألته: هل سَدَّدت قرض فُلان؟

٩٢

فقال لها: نعم، سَدَّدت الدَّين، واستلمت إيصالاً مِن الدائن، فسألته زوجته: إذنْ، أين الإيصال؟ لقد فتَّشت جميع أرجاء البيت ولم أعثر عليه.

قال لها الزوج: الإيصال ليس في البيت، لقد أعطيته لفلان المُحامي، الذي وضع الإيصال داخل كتاب الدُّعاء، اذهبي إليه وخُذي الإيصال منه.

وفي صباح اليوم التالي، ذهبت الزوجة إلى بيت المُحامي، الذي أخرج الإيصال مِن الكتاب، كما أخبر بذلك زوجها، وسلَّمه للزوجة التي سلَّمته بدورها للمَحكمة، وأُغلق بذلك ملفَّ القضية (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

٩٣

إنْ كان كما نقول نجونا ونجوتَ

ابن أبي العوجاء، كان دهريَّاً معروفاً في زمن الإمام الصادق (عليه السلام)، وكان يعيش في المدينة، وكثيراً ما كان يتشرَّف بلقاء الإمام الصادق (عليه السلام)، ويطرح عليه بعض الأسئلة، ويستفيد مِن الأجوبة التي كان يُقدِّمها الإمام. وكان ابن أبي العوجاء في بعض السنين، يذهب إلى مَكَّة في موسم الحَجِّ، لكي يُشاهد ما يفعله الناس. ولكنَّه بقي ماديَّاً حتَّى آخر حياته، ولم يؤمن بالله خالق هذا الكون، كما لم يؤمن بتعاليم الإسلام، وفي آخر سنة مِن حياته ذهب إلى مَكَّة أثناء موسم الحَجِّ، وكانت هي المَرَّة الأُولى التي يلتقي فيها بالإمام، وهو في طريقه إلى الحَجِّ، حيث أدَّى واجب الاحترام وخاطبه عبارة: (يا سيدي ومولاي) .

فقال له الإمام: (ما جاء بك إلى هذا الموضع؟).

قال: عادة الجَسد، وسُنَّة البلد؛ ولننظر ما الناس فيه مِن الجنون والحَلق ورمي الحِجارة.

قال الإمام: (أنت بعد على عتوِّك وضلالك يا عبد الكريم).

فذهب يتكلَّم، فقال الإمام له: (لا جِدال في الحَجِّ)، ونفض رِداءه مِن يده وقال: (إنْ يكن الأمر كما تقول - وليس كما تقول - نجونا ونجوت، وإنْ يكن الأمر كما نقول - وهو كما نقول - نجونا وهلكت).

فأقبل عبد الكريم على مَن معه فقال: وجدت في قلبي حَزازة فردُّوني.

فردُّوه فمات (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

٩٤

لو عاينتم ما قد عاين مَن مات منكم

لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم

قبل سنوات تعرَّفت على رجل مُثقَّف ومؤمن، كان يُتقن ثلاث لُغات، ويُحبُّ المُطالعة كثيراً، وكان يُحاول دائماً الحصول على مزيد مِن الكتب والمَجلاَّت العلميَّة، التي تصدر في مُختلف دول العالم؛ ليطَّلع مِن خلالها على الاختراعات والاكتشافات العلميَّة الجديدة في العالم، ولأنَّه كان رجلاً مُتديِّناً ومؤمناً؛ فإنَّه كان يأتي إلى بين الحين والآخر؛ ليسألني حول موضوع جديد قرأه في الكُتب والمَجلاَّت، وما إذا كان القرآن الكريم والأئمَّة (عليهم السلام) قد تطرَّقوا إلى مِثل هذا الموضوع أم لاَ.

وفي ظهيرة أحد أيَّام الصيف الحارَّة اتَّصل بي، وقال: أُريد أنْ أراك بسُرعة؛ حيث لديَّ موضوع جديد، أُريد أنْ أُطلعك عليه.

وبعد عِدَّة ساعات جاءني الرجل، وهو يحمل في يده مَجلَّة أجنبيَّة، ثمَّ فتح المَجلَّة وإذا فيها صورة رجل جالس على كرسيٍّ، وعلى رأسه قُبَّعة خاصَّة، تتفرَّع منها أسلاك عديدة تتَّصل بلوحة قريبة مِن الكُرسي، وفي نفس الصفحة مِن المَجلَّة عدد مِن لوحات الحفر الزنكوكرافي (الغرافر) مساحة كلَّ واحد منها، كمساحة علبة كبريت، وتظهر على كلِّ واحد منها خطوط بيضاء مُنكسرة، عريضة ورفيعة، ورفيعة جِدَّاً مُتباعدة ومُتقاربة، ومُتقاربة جِدَّاً، وهي تختلف مِن حيث قطرها وسماكتها وأشكالها.

لقد قاموا بتصميم وصنع هذه الأجهزة؛ لتقوم بتسجيل الموجات المُنبعثة مِن دماغ المريض، على شريط مِن ورق، يوضع تحت تصرُّف الطبيب؛ ليتمكَّن بواسطته مِن التعرَّف على طبيعة المرض الدماغي، الذي يُعاني منه المريض، وبالتالي وصف العلاج الذي تتطلَّبه حالة المريض، ولكنَّ لوحات الغرافر المطبوعة في هذه المجلَّة

٩٥

لا تصلح لأمراض الدماغ، بلْ إنَّهم قاموا بتسجيل هذه الموجات الدماغيَّة؛ ليعرفوا كيف تكون عليه موجات دماغ الإنسان، في حالات الهيجان: كالغضب، والخوف، والاضطراب، والتألُّم وسائر الحالات الأُخرى المُماثلة.

إذاً، فعمليَّة تخطيط الدماغ أو الرأس (وهي عمليَّة تسجيل الموجات الكهربائيَّة المُختلفة المُنبعثة مِن أجزاء الدماغ) تتمُّ لهذا الغرض، فهم قد أخذوا أجزاءً صغيرة مِن الأشرطة، المُسجَّلة عليها هذه الموجات الدماغيَّة الكهربائيَّة، على شكل لوحات الحفر الزنكوكرافي (الغرافر)، وطبعوها في هذه المجلَّة، وكتبوا تحت كلِّ لوحة مِن لوحات الكرافر عبارة: هذا هو شكل الموجات الدماغيَّة، لشخص في حالة الغضب، أو في حالة الخوف، أو في حالة الاضطراب، أو في حالات أُخرى مُشابهة.

وكتب أيضاً في تلك الصفحة مِن المجلَّة، بأنَّه مِن المُمكن إجراء تخطيط لدماغ إنسان، وهو في حالة النوم، وبالتالي التأكُّد مِمَّا إذا كان هذا الشخص النائم، هو في عالم الرؤيا، أو في وضع عادي، أو في حالة اضطراب وقلق وهيجان، وهل أنَّه يرى الآن أحلاماً مُزعجة ومُرعبة (كوابيس) أم لا؟

والأمر المُثير للانتباه، هو أنَّ الصفحة الأخيرة مِن تلك المِلَّة، تضمَّنت لوحة الحفر الزنكوكرافي - الكليشية - وعليها خطوط تختلف مِن حيث العدد، ومِن حيث الشكل مع تلك المرسومة على سائر اللوحات الغرافر الأُخرى، بحيث إنَّ لوحة الغرافر هذه محشوَّة ومُكتظَّة بالخطوط الكثيرة، وكتب تحتها عبارة هذه موجات دماغ إنسان مُحتضر (يُنازع الموت).

الوضع الاستثنائي، الذي كان يُشير إليه المُخطَّط البياني (الغرافر)، للشخص الذي يُنازع الموت، يُشير إلى هذه الحقيقة: وهي أنَّ الضغوط التي يتعرَّض لها الفرد المُحتضر، هي مِن الشِّدَّة والقوَّة، بحيث لا يُمكن مُقارنتها مع أقوى الضغوط التي يتعرَّض لها الإنسان، نتيجة الغضب والخوف والألم، وسائر الاضطرابات التي يواجهها خلال حياته.

وبعد أنْ قدَّم هذا الصديق المُحترم، توضيحاته حول لوحات الغرافر سألني

٩٦

قائلاً: ماذا تقول الروايات والأحاديث المنقولة عن الأئمَّة (عليهم السلام) عن مصاعب وشدائد الموت؟

قلت له: هناك روايات وأحاديث كثيرة في هذا المجال، مذكورة في نهج البلاغة، وفي سائر كتب الحديث، وقرأت عليه هذه الكلمة للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):

(... فإنَّكم لو عاينتم ما قد عاين مَن مات منكم؛ لجزعتم ووهلتم، وسمعتم وأطعتم، ولكنْ محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يُطرح الحِجاب) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

٩٧

إنَّ الله يُحبُّ عبداً إذا عمل عملاً أتقنه

أُخبِر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في يوم مِن الأيَّام، بأن سعد بن معاذ قد توفِّي؛ فنهض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن مكانه على الفور، ولحق به الصحابة الذين كانوا معه، فأمر بتغسيل سعد وتكفينه، وسار خلف جنازته، وهو يحمل الطرف الأيسر مِن النعش تارة، والطرف الأيمن تارة أُخرى، حتَّى وضعوا الجنازة إلى جانب القبر، فنزل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه إلى داخل القبر، وأخذ جسد سعد ووضعه في اللحد، وأخذ يُغطِّي اللحد بالحَجر والطين، ويَسدُّ المنافذ الموجودة فيه.

لعلَّ البعض مِن الذين شاهدوا ما قام به رسول الله، تساءلوا مع أنفسهم:

ما الفائدة مِن سَدِّ منافذ القبر بالأحجار والطين، طالما أنَّ اللِّحد سوف ينهار ويتلاشى تلقائيَّاً، عندما يُغطَّى بالأحجار والتراب؛ وذلك بسبب ثقل هذه الطبقة مِن الأحجار والتراب؟

بعد أنْ انتهى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن وضع التراب على القبر، قال للحاضرين ما معناه: إنِّي أعلم بأنَّ القبر سينهار ويتلاشى، ولكنَّ الله يُحبُّ عبداً إذا عمل عملاً أتقنه .

في أحد الأيَّام كنت أتحدَّث على المنبر، فقرأت هذا الحديث الشريف، وكان المجلس يعجُّ بالحاضرين، فجلست قليلاً حتَّى يفتح الطريق ويخفُّ الازدحام، وفي هذه الأثناء جاءني أحد الأشخاص، مِن الذين حضروا المجلس، وسلَّم عليّ وقال لي: إنِّي لم أفهم حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل جَيِّد، وأرجو أنْ توضِّح لي هذا الحديث.

فقلت: لا بأس، اجلس إلى جانبي.

٩٨

ثمَّ قلت له: إنَّني غالباً ما أسأل الأشخاص الذين لديهم أسئلة، يُريدون طرحها عليَّ، غالباً ما أسألهم عن طبيعة أعمالهم ومِهنهم التي يعملون فيها؛ وذلك لكي أذكر لهم بعض الأمثلة مِن نفس المجال، الذي يعملون فيه، الأمر الذي يُساعدهم على فهم الأجوبة التي أُعطيها لهم، فهل توافق على أنْ أسألك عن طبيعة عملك؟

قال: إنِّي أعمل طبيباً جرَّاحاً.

فكَّرت للحظة، وقلت في نفسي: إنَّ المِهنة التي يُزاولها هذا الشخص، يُمكن أنْ تُعينني على توضيح هذا الحديث، وبالتالي إفهامه فقلت: يا دكتور، إنَّ الشخص المحكوم عليه بالإعدام مِن قِبَل المحكمة، إذا أُصيب بمرض قبل تنفيذ حُكم الإعدام، تتمُّ مُعالجته ثمَّ يُنفَّذ فيه حُكم الإعدام، وهو بصحَّة جَيِّدة. والآن نفترض أنَّك رئيس قسم الجراحة في المَشفى، والشخص المحكوم مِن المُقرَّر أنْ يُعدم في الساعة الرابعة فجراً، ولكنَّه في الساعة العاشرة مساءً استلزم نقله إلى المَشفى، بعارضٍ مرضيٍّ شديد، فذهبت إلى المَشفى، ونُقل المريض إلى غرفة العمليَّات، فهل تُجري له العمليَّة الجراحيَّة بشكل دقيق، ووفقاً للأصول العلميَّة والطبيَّة المُتعارفة أم لا؟

أجاب الجراح: نعم بالتأكيد.

قلت: ولماذا تُجري له العمليَّة بدِقَّة وعناية، أليس هذا الشخص يجب أنْ يُعدم بعد عِدَّة ساعات؟

أجاب: إنَّ الإعدام لا عَلاقة له بعملي، فالعمليَّة الجراحيَّة يجب أنْ تتمَّ بصورة صحيحة ودقيقة، سواء أُعْدِم الشخص بعد ذلك أم لاَ.

قلت له: إنَّ هذا هو ما يُريد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ يقوله؛ فهو يُريد القول: بأنَّ خراب وانهيار القبر لا عَلاقة له بعملي؛ لأنَّ الله يُحبُّ عبداً إذا عَمِل عملاً أنْ يُتقنه، ومِثل هذا الشخص الذي يُحبُّه الله لا يتخلَّى عن التدريب على إتقان العمل، تحت أيِّ ظرفٍ مِن الظروف.

٩٩

شكرني الطبيب الجرَّاح، على الجواب الذي قدَّمته له وانصرف.

وبعد أنْ انتهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن دفن سعد بن معاذ، خاطبت أُمُّ سعد ولدها قائلة له: هنيئاً لك الجَنَّة.

فقال رسول الله: (يا أُمَّ سعد، مَهْ، لا تجزمي على رَبِّك، فإنَّ سعداً قد أصابته ضَمَّة).

ورجع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمُشيِّعون مِن المقبرة، فسأله البعض: يا رسول الله، لقد بالغت في إكرام سعد بن معاذ، وقُمتَ مِن أجله بعمل لم تَقُمْ بمثله مع أحدٍ غيره، وقلت بعد ذلك: إنَّ سعداً تعرَّض لضغطة القبر!

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم، إنَّه كان في خُلُقه مع أهله سوء) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272