مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ١

مقتل الحسين للخوارزمى16%

مقتل الحسين للخوارزمى مؤلف:
المحقق: الشيخ محمد السماوي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-6223-01-X
الصفحات: 360

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18383 / تحميل: 4844
الحجم الحجم الحجم
مقتل الحسين للخوارزمى

مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ١

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٦٢٢٣-٠١-X
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

عبد الرحمن بن أحمد ـ بقراءتي عليه ـ ، حدثنا عبد الله بن أحمد الفارسي ، حدثنا أحمد بن بديل ، حدثنا وهب بن إسماعيل ، حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيهعليهما‌السلام ، عن جابر ، قال : كنا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه الحسين بن عليّ ، فعطش فطلب له النبيّ ماء فلم يجده ، فأعطاه لسانه فمصّه حتّى روي.

٢٥ ـ وروي في «المراسيل» أن ـ شريحا ـ قال : دخلت مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا الحسين بن عليّ فيه ساجد يعفر خده على التراب ، وهو يقول : «سيدي! ومولاي! المقامع لحديد خلقت أعضائي ، أم لشرب الحميم خلقت أمعائي؟ إلهي! لئن طالبتني بذنوبي لاطالبنّك بكرمك ، ولئن حبستني مع الخاطئين لأخبرنهم بحبّي لك ، سيدي! إنّ طاعتك لا تنفعك ، ومعصيتي لا تضرّك ، فهب لي ما لا ينفعك ، واغفر لي ما لا يضرّك ، فإنك أرحم الراحمين».

٢٦ ـ وقيل : تهاجر ـ الحسن والحسين ـ فأراد قوم أن يصلحوا ما بينهما فسألوا الحسين أن يبدأ بالحسن ، فقال : «إنّ أبا محمّد ـ يعني : الحسن ـ ، أكبر مني ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما من اثنين تهاجرا ثمّ بدأ أحدهما بمصالحة الآخر إلّا كانت درجته أعلى من درجة الآخر ، وإني لا احبّ أن تكون درجتي أعلى من درجة أخي ، فأخبروا الحسن بذلك ، فقال : صدق» ، فقام إليه وبدأ بالسّلام عليه.

٢٧ ـ وقيل : سأل رجل الحسين حاجة ، فقال له : «يا هذا! سؤالك إياي يعظم لديّ ، ومعرفتي بما يجب لك يكبر عليّ ، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله ، والكثير في ذات الله قليل ، وما في ملكي وفاء بشكرك ، فإن قبلت بالميسور ، دفعت عنّي مرارة الاحتيال لك ، والاهتمام بما أتكلف من واجب حقّك».

٢٢١

فقال الرجل : أقبل ، يا ابن رسول الله! اليسير ، وأشكر العطيّة ، وأعذر على المنع ، فدعا الحسين بوكيله ، وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها ، ثم قال له : «هات الفاضل من الثلاثمائة ألف»؟ فأحضر خمسين ألفا ، قال : «فما فعلت الخمسمائة دينار»؟ قال : هي عندي ، قال : «أحضرها» ، قال : فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل ، وقال : «هات من يحمل معك هذا المال ، فأتاه بالحمالين فدفع إليهم الحسين رداءه لكراء حملهم ، حتى حملوه معه. فقال مولى له : والله ، ما بقي عندنا درهم واحد ، فقال : «لكني أرجو أن يكون لي بفعلي هذا أجر عظيم».

٢٨ ـ وقيل : خرج الحسنعليه‌السلام إلى سفر فأضلّ طريقه ليلا ، فمرّ براعي غنم فنزل عنده فألطفه وبات عنده ، فلمّا أصبح دلّه على الطريق.

فقال له الحسن : «إني ماض إلى ضيعتي ، ثمّ أعود إلى المدينة» ، ووقّت له وقتا ، وقال له : تأتيني به ، فلمّا جاء الوقت شغل الحسن بشيء من اموره عن قدوم المدينة ، فجاء الراعي وكان عبدا لرجل من أهل المدينة ، فصار إلى الحسين وهو يظنه الحسن ، فقال : أنا العبد الذي بت عندي ليلة كذا ، ووعدتني أن أصير إليك في هذا الوقت ، وأراه علامات عرف الحسين أنّه الحسن ، فقال الحسين له : «لمن أنت يا غلام»؟ فقال : لفلان ، فقال : كم غنمك؟ قال : ثلاثمائة ، فأرسل إلى الرجل فرغبه حتّى باعه الغنم والعبد ، فأعتقه ووهب له الغنم مكافأة لما صنع مع أخيه ، وقال : «إن الذي بات عندك أخي ، وقد كافأتك بفعلك معه».

٢٩ ـ وقال الحسن البصري : كان الحسين بن عليّ سيدا زاهدا ورعا صالحا ناصحا حسن الخلق ، فذهب ذات يوم مع أصحابه إلى بستانه ، وكان في ذلك البستان غلام له ، اسمه «صاف» فلما قرب من البستان رأى الغلام

٢٢٢

قاعدا يأكل خبزا ، فنظر الحسين إليه وجلس عند نخلة مستترا لا يراه ، فكان يرفع الرغيف فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه الآخر ، فتعجّب الحسين من فعل الغلام ، فلما فرغ من أكله قال : الحمد لله ربّ العالمين ، اللهمّ! اغفر لي واغفر لسيدي ، وبارك له كما باركت على أبويه برحمتك يا أرحم الراحمين!.

فقام الحسين وقال : يا صافي! فقام الغلام فزعا وقال : يا سيدي! وسيد المؤمنين! إني ما رأيتك فاعف عني ، فقال الحسين : «اجعلني في حلّ يا صافي! لأني دخلت بستانك بغير إذنك» ، فقال صافي : بفضلك يا سيدي! وكرمك وسؤددك تقول هذا ، فقال الحسين : «رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب ، وتأكل النصف الآخر فما معنى ذلك»؟ ، فقال الغلام : إنّ هذا الكلب ينظر إليّ حين آكل ، فاستحي منه يا سيدي! لنظره إليّ ، وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء فأنا عبدك ، وهذا كلبك ، فأكلنا رزقك معا.

فبكى الحسين وقال : «أنت عتيق لله ، وقد وهبت لك ألفي دينار ، بطيبة من قلبي» ، فقال الغلام : إن اعتقتني فأنا اريد القيام ببستانك ، فقال الحسين : «إنّ الرجل إذا تكلم بكلام فينبغي أن يصدقه بالفعل ، فأنا قد قلت : دخلت بستانك بغير إذنك ، فصدقت قولي ، ووهبت البستان وما فيه لك ، غير أن أصحابي هؤلاء جاءوا لأكل الثمار والرطب ، فاجعلهم أضيافا لك ، وأكرمهم من أجلي أكرمك الله يوم القيامة ، وبارك لك في حسن خلقك وأدبك» ، فقال الغلام : إن وهبت لي بستانك ، فأنا قد سبلته لأصحابك وشيعتك.

قال الحسن : فينبغي للمؤمن أن يكون كنافلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

__________________

(١) النافلة : الذرية من الأحفاد والأسباط.

٢٢٣

٣٠ ـ وذكر السيد أبو طالب ، بإسنادي إليه ، عن محمد بن محمد بن العبا ، عن علي بن شاكر ، عن عبد الله بن محمد الضبي ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن إبراهيم ، عن أبي رافع قال : كنت ألاعب الحسينعليه‌السلام وهو صبي بالمداحي(١) ، فإذا أصابت مدحاتي مدحاته ، قلت : احملني ، قال لي : «ويحك ، أتركب ظهرا حمله رسول الله» فأتركه ، وإذا أصابت مدحاته مدحاتي ، قلت : لا أحملك كما لا تحملني.

قال : «أما ترضى أن تحمل بدنا حمله رسول الله»؟ قال : فأحمله.

٣١ ـ وروي : أنّ الحسين بن عليّعليهما‌السلام حجّ خمسا وعشرين حجة ماشيا ، وكان يجالس المساكين ، ويقرأ : «إن الله لا يحبّ المتكبرين» ومرّ على صبيان معهم كسرة ، فسألوه أن يأكل معهم فأكل ، ثمّ حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم ، وقال : «إنهم أسخى مني ، لأنهم بذلوا جميع ما قدروا عليه ، وأنا بذلت بعض ما أقدر عليه».

٣٢ ـ وروي : أنّ أعرابيا من البادية قصد الحسينعليه‌السلام فسلم عليه ، فردعليه‌السلام ، وقال : «يا أعرابي! فيم قصدتنا»؟ قال : قصدتك في دية مسلمة إلى أهلها ، قال : «أقصدت أحدا قبلي»؟ قال : عتبة بن أبي سفيان ، فأعطاني خمسين دينارا فرددتها عليه ، وقلت : لأقصدنّ من هو خير منك ، وأكرم. فقال عتبة : ومن هو خير مني وأكرم لا أمّ لك؟ فقلت : إما الحسين بن علي وإما عبد الله بن جعفر ، وقد أتيتك بدءا لتقيم بها عمود ظهري ، وتردّني إلى أهلي.

فقال الحسين : «والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، وتجلّى بالعظمة ، ما في ملك بن بنت نبيك إلّا مأتا دينار فأعطه إياها يا غلام! وإني أسألك عن

__________________

(١) المدحاة : خزفة يلعب بها الصبيان.

٢٢٤

ثلاث خصال إن أنت أجبتني عنها أتممتها خمسمائة دينار ، وإن لم تجبني ألحقتك فيمن كان قبلي». فقال الأعرابي : أكل ذلك احتياجا إلى علمي ، أنتم أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة؟

فقال الحسين : «لا ، ولكن سمعت جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : اعطوا المعروف بقدر المعرفة» ، فقال الأعرابي : فسل ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

فقال الحسين : ما أنجى من الهلكة؟ فقال : التوكل على الله ، فقال : ما أروح للمهم؟ قال : الثقة بالله ، فقال : أي شيء خير للعبد في حياته؟ قال : عقل يزينه حلم ، فقال : فإن خانه ذلك ، قال : ما يزينه سخاء وسعة ، فقال : فإن أخطأه ذلك ، قال : الموت والفناء خير له من الحياة والبقاء ، قال : فناوله الحسين خاتمه ، وقال : بعه بمائة دينار ، وناوله سيفه ، وقال : بعه بمائتي دينار ، واذهب فقد أتممت لك خمسمائة دينار ، فأنشأ الأعرابي يقول :

قلقت وما هاجني مقلق

وما بي سقام ولا موبق

ولكن طربت لآل الرسول

ففاجأني الشعر والمنطق

فأنت الهمام وبدر الظلام

ومعطي الأنام إذا أملقوا

أبوك الذي فاز بالمكرمات

فقصر عن وصفه السبق

وأنت سبقت إلى الطيبات

فأنت الجواد وما تلحق

بكم فتح الله باب الهدى

وباب الضلال بكم مغلق

وجاءت هذه الحكاية بألفاظ اخرى ، فروي : أنّ هذا الأعرابي سلّم على الحسين بن عليّ ، فسأله حاجة ، وقال : سمعت جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة : إما من عربي شريف ؛ أو مولى كريم ؛ أو حامل القرآن ؛ أو ذي وجه صبيح.

فأما العرب ـ فشرفت بجدّك ؛ وأما الكرم ـ فدأبكم وسيرتكم ؛ وأمّا

٢٢٥

القرآن ـ ففي بيوتكم نزل ؛ وأما الوجه الصبيح ـ فإني سمعت جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إذا أردتم أن تنظروا إلي فانظروا إلى الحسن والحسين».

فقال الحسين له : «ما حاجتك»؟ فكتبها على الأرض ، فقال له الحسين : «سمعت أبي علياعليه‌السلام يقول : قيمة كلّ امرئ ما يحسنه ؛ وسمعت جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : المعروف بقدر المعرفة ، فأسألك عن ثلاث خصال ، فإن أجبتني عن واحدة ، فكل ثلث ما عندي ؛ وإن أجبتني عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي ؛ وإن أجبتني عن الثلاث ، فلك كلّ ما عندي ؛ وقد حملت إليّ صرة مختومة ، وأنت أولى بها».

فقال : سل ، عما بدا لك ، فإن أجبت وإلّا تعلمت منك ، فأنت من أهل العلم والشرف ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم.

فقال الحسين : أي الأعمال أفضل؟ قال : الإيمان بالله ، والتصديق برسوله ، قال : فما نجاة العبد من الهلكة؟ فقال : الثقة بالله ، قال : فما يزين المرء؟ قال : علم معه حلم ، قال : فإن أخطأه ذلك؟ قال : فمال معه كرم ، قال : فإن أخطأه ذلك؟ قال : ففقر معه صبر ، قال : فإن أخطأه ذلك؟ قال : فصاعقة تنزل عليه من السماء فتحرقه.

فضحك الحسينعليه‌السلام ، ورمى له بالصرّة ، وفيها ألف دينار ، وأعطاه خاتمه وفيه فص قيمته مائتا درهم ، وقال : «يا أعرابي! اعط الذهب إلى غرمائك ، واصرف الخاتم في نفقتك» ، فأخذ ذلك الأعرابي ، وقال : «الله أعلم حيث يجعل رسالته».

وجاءت رواية اخرى ، بسندي المتّصل : أنّ أعرابيا جاء إلى الحسين بن عليّ ، فقال له : يا ابن رسول الله! إني قد ضمنت دية كاملة ، وعجزت عن أدائها ، فقلت في نفسي : أسأل أكرم النّاس ، وما رأيت أكرم من أهل بيت

٢٢٦

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال الحسين : «يا اخا العرب! أسألك عن ثلاث مسائل ، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال ، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال ، وإن أجبت عن كلّ أعطيتك المال كلّه».

فقال الأعرابي : يا ابن رسول الله! أمثلك يسأل من مثلي ، وأنت من أهل العلم والشرف؟

فقال الحسين : بلى ، سمعت جدي رسول الله يقول : المعروف بقدر المعرفة. فقال الأعرابي : سل عما بدا لك ، فإن أجبت ، وإلّا تعلمت الجواب منك ، ولا قوة إلّا بالله.

فقال الحسين : «أي الأعمال أفضل؟ فقال : الإيمان بالله ، قال : فما النجاة من الهلكة؟ قال : الثقة بالله ، قال : فما يزين الرجل؟ قال : علم معه حلم ، قال : فإن أخطأه ذلك؟ قال : فمال معه مروءة ، قال : فإن أخطأه ذلك؟ قال : ففقر معه صبر ، قال : فإن أخطأه ذلك؟ قال : فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه.

فضحك الحسين ، ورمى بصرة إليه فيها ألف دينار ، وأعطاه خاتمه وفيه فص قيمته مائتا درهم ، وقال له : «يا أعرابي اعط الذّهب لغرمائك ، واصرف الخاتم في نفقتك» فأخذ الأعرابي ذلك منه ومضى وهو يقول : «الله أعلم حيث يجعل رسالته».

٢٢٧
٢٢٨

الفصل الثامن

في اخبار

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الحسين وأحواله

٢٢٩
٢٣٠

١ ـ أخبرنا جار الله العلّامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري ، حدثنا الإمام الفقيه أبو علي الحسن بن عليّ بن أبي طالب الفرزادي بالري ، أخبرنا الفقيه أبو بكر طاهر بن الحسين بن علي السمان ، حدثنا عمي الشيخ الزاهد الحافظ أبو سعد إسماعيل بن عليّ بن الحسين السمان الرازي ، أخبرنا أبو عبد الله الجعفي بالكوفة ـ بقراءتي عليه ـ ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمّد ، حدثنا عباد بن يعقوب ، أخبرنا عليّ بن هاشم ، عن موسى الجهني ، عن صالح بن أربد النخعي ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لام سلمة (رضي الله عنها) : «اجلسي على الباب فلا يلجن عليّ أحد» ، فجاء الحسين وهو وحف(١) .

قال : فذهبت أمّ سلمة تناوله فسبقها ، قالت أمّ سلمة : فلمّا طال عليّ خفت أن يكون قد وجد عليّ ، فتطلعت من الباب ، فوجدته يقلّب بكفيه شيئا ، والصبيّ نائم على بطنه ودموعه تسيل. فلما أمرني أن أدخل ، قلت :

__________________

(١) الوحف : المسرع.

٢٣١

يا نبي الله! إن ابنك جاء فذهبت أتناوله فسبقني ، فلما طال عليّ خفت أن تكون قد وجدت عليّ ، فتطلعت من الباب فوجدتك تقلّب بكفيك [تعني شيئا] ودموعك تسيل والصبيّ نائم على بطنك.

فقال : «إنّ جبرئيل أتاني بالتربة التي يقتل عليها ، وأخبرني أنّ امتي تقتله».

٢ ـ وأخبرنا الشيخ الإمام الزاهد الحافظ أبو الحسن عليّ بن أحمد العاصمي ، أخبرنا شيخ القضاة أبو عليّ إسماعيل بن أحمد البيهقي ، أخبرنا والدي شيخ السنة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، حدثنا أبو عبد الله الحافظ ـ إملاء ـ ، أخبرنا محمّد بن عليّ الجوهري ، حدثنا أبو الأحوص ، حدثنا محمّد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي ، عن شداد بن عبد الله ، عن أمّ الفضل بنت الحرث : أنها دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله! إني رأيت حلما منكرا الليلة؟

قال : وما هو؟ قالت : إنّه شديد ، قال : وما هو؟ قالت : رأيت كأنّ قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «رأيت خيرا ، تلد فاطمة إن شاء الله غلاما ، فيكون في حجرك». فولدت فاطمة الحسين ، فكان في حجري ، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدخلت يوما على رسول الله فوضعته في حجره ، ثمّ حانت مني التفاتة ، فإذا عينا رسول الله تهريقان الدموع ، فقلت : يا نبي الله! بأبي أنت وأمي مالك؟

فقال : «أتاني جبرئيل ، فأخبرني أنّ امتي ستقتل ابني هذا» ، فقلت : هذا ، فقال : «نعم ، وأتاني بتربة من تربته حمراء».

قال وفي ـ رواية أمّ سلمة ـ : «أخبرني جبرئيل أنّ هذا يقتل بأرض

٢٣٢

العراق ـ يعني : الحسين ـ ، فقلت : يا جبرائيل! أرني تربة الأرض التي يقتل بها؟ قال : فهذه تربتها».

٣ ـ وبهذا الإسناد ، عن أبي عبد الله الحافظ ، أخبرنا أحمد بن علي المقري ، حدثنا محمّد بن عبد الوهاب ، حدثني أبي عبد الوهاب بن حبيب ، حدثني إبراهيم بن أبي يحيى المدني ، عن عمارة بن يزيد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي سلمة ، عن عائشة : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أجلس ـ حسينا ـ على فخذه ، فجاء جبرئيل إليه ، فقال : هذا ابنك؟ قال : «نعم» ، قال : أما إنّ امتك ستقتله بعدك؟ فدمعت عينا رسول الله ، فقال جبرئيل: إن شئت أريتك الأرض التي يقتل فيها؟ قال : «نعم» ، فأراه جبرئيل ترابا من تراب الطّف.

٤ ـ وبهذا الإسناد ، عن أبي عبد الله الحافظ ، أخبرني خلف بن محمد البخاري ، حدثني صالح بن محمد الحافظ ، حدثني محمد بن يحيى الذهلي ، حدثني سعيد بن عبد الملك ، حدثني عطاء بن مسلم ، عن أشعث ـ ـ يعني : ابن سحيم ـ ، عن أبيه ، عن أنس ـ يعني ابن الحرث ـ ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّ ابني هذا ـ يعني : الحسين ـ ، يقتل بأرض العراق ، فمن أدركه منكم فلينصره» ، قال : فقتل أنس بن الحرث مع الحسين بن عليعليهما‌السلام .

٥ ـ وبهذا الإسناد ، عن أبي عبد الله الحافظ ، حدثني أبو بكر محمّد بن أحمد ، حدثني إبراهيم بن عبد الله بن الحجاج ، حدثني حجاج بن نصير ، حدّثني قرّة بن خالد ، حدّثني عامر بن عبد الواحد ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس قال : ما كنّا نشك أهل البيت ، وهم متوافرون : أنّ الحسين بن علي يقتل بالطف.

٢٣٣

٦ ـ وأنبأني الإمام صدر الحفّاظ أبو العلاء الحسين بن أحمد الهمداني ، أخبرني زاهر بن طاهر الكاتب ، أخبرني محمّد بن عبد الرحمن الخبزرودي ، أخبرني محمد بن أحمد بن حمدان الخيري ، أخبرني أحمد بن عليّ بن المثنى ، حدثني شيبان ، حدثني عمارة بن زاذان ، حدثني ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : استأذن ملك ـ القطر والمطر ـ ربّه أن يزور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأذن تعالى له ، وكان في يوم أمّ سلمة ، فقال النبيّ : «يا أمّ سلمة! احفظي علينا الباب ، لا يدخل علينا أحد».

قال : فبينما هي على الباب ، إذ جاء ـ الحسين بن علي ـ فاقتحم الباب فدخل ، فجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يلتزمه ويقبّله ، فقال الملك : أتحبه؟ قال : «نعم» ، قال : إنّ أمّتك ستقتله ، إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه؟ قال : «نعم» ، فقبض قبضة من المكان الذي يقتل فيه ، فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر ، فأخذته أمّ سلمة فجعلته في ثوبها.

قال ثابت : فكنّا نقول : إن ـ الحسين ـ يقتل ، فقتل في «كربلاء».

٧ ـ وبهذا الإسناد ، عن أبي العلاء هذا ، أخبرنا محمد بن إسماعيل الصيرفي ، أخبرنا أحمد بن محمّد بن الحسين ، أخبرنا سليمان بن أحمد اللخمي ، أخبرنا الحسن بن عباس الرازي ، حدثنا سليم بن

منصور بن عمّار ، حدثنا أبي [ح] ، قال سليمان بن أحمد : وحدثني أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي ، حدثني عمرو بن بكير القعيني ، حدثني مجاشع بن عمرو ، قالا : حدثنا عبد الله بن لهيعة ، عن أبي قبيل ، حدّثني عبد الله بن عمرو بن العاص : أنّ معاذ بن جبلة أخبره قال : خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مصفر اللون ، فقال : «أنا محمّد اوتيت جوامع الحكم فواتحها وخواتمها فأطيعوني ما دمت بين أظهركم ، فإذا ذهب بي فعليكم : بكتاب اللهعزوجل

٢٣٤

أحلوا حلاله وحرّموا حرامه ، أتتكم الموتة ، أتتكم بالروح والراحة ، كتاب من الله سبق ، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم ، كلّما ذهب رسل جاء رسل ، تناسخت النبوة ، فصارت ملكا ، رحم الله من أخذها بحقها ، وخرج منها كما دخلها ، أمسك يا معاذ! واحص».

قال : فلما بلغت خمسة بالاحصاء ، قال : «يزيد! لا بارك الله في يزيد» ، ثمّ ذرفت عيناه بالدّموع ، ثم قال : «نعي إليّ الحسين ، ثمّ أتيت بتربته ، وأخبرت بقتله ؛ وقاتله أو قتلته ، والذي نفسي بيده ، لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلّط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا ، ثم قال : آه لفراخ آل محمّد من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف ، امسك يا معاذ»!

فلمّا بلغت عشرة قال : «الوليد اسم فرعون هادم شرائع الإسلام يبوء بدمه رجل من أهل بيته ، يسل الله سيفه فلا غماد له ، ويختلف النّاس فكانوا هكذا ـ وشبك بين أصابعه ـ ، ثم قال : وبعد العشرين والمائة موت سريع ؛ وقتل ذريع ؛ فيه هلاكهم ، ويلي عليهم رجل من ولد العبّاس».

٨ ـ وبهذا الإسناد ، عن سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي ، حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا حيان بن علي ، عن سعد بن طريف ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ ، عن أبيهعليهم‌السلام ، عن أمّ سلمة قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يقتل الحسين على رأس ستين من مهاجري».

٩ ـ وبهذا الإسناد ، عن سليمان بن أحمد ، حدثنا محمّد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا محمّد بن يحيى بن أبي سمينة ، حدثنا يحيى بن حماد ، عن أبي عوانة ، عن عطاء بن السائب ، عن ميمون بن مهران ، عن شيبان بن

٢٣٥

محزم ـ وكان عثمانيا ـ قال : إني لمع عليّ إذ أتى كربلاء ، فقال : «يقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم شهداء ليس مثلهم شهداء ، إلا شهداء بدر».

فقلت : بعض كذباته ، ثمّ رأيت رجل حمار ميت ، فقلت لغلامي : خذ رجل هذا الحمار ، فأوتدها في مقامه ، وعينها ، ثمّ ضرب الدهر ضربانه ، ولمّا قتل الحسين انطلقت ومعي أصحاب لي ، فإذا جثة الحسين على رجل ذاك الحمار ، وإذا أصحابه ربض حوله.

١٠ ـ وذكر شيخ الإسلام الحاكم الجشمي : أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما سار إلى «صفين» نزل «بكربلاء» ، وقال لابن عبّاس : «أتدري ما هذه البقعة»؟ قال : لا ، قال : «لو عرفتها لبكيت بكائي» ، ثم بكى بكاء شديدا ، ثمّ قال : «ما لي ولآل أبي سفيان»؟ ثم التفت الى ـ الحسين ـ ، وقال : «صبرا يا بني! فقد لقي أبوك منهم مثل الذي تلقى بعده».

١١ ـ وذكر الإمام أحمد بن أعثم الكوفي في «تاريخه» بأسانيد له كثيرة ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منها : ما ذكر من حديث ابن عباس ؛ ومنها : ما ذكر من حديث أمّ الفضل بنت الحرث ـ حين أدخلت حسينا على رسول الله ، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وبكى ، وأخبرها : بقتله إلى أن قال : ثم هبط جبرئيل في قبيل من الملائكة ، قد نشروا أجنحتهم ، يبكون حزنا على الحسين ؛ وجبرئيل معه قبضة من تربة الحسين تفوح مسكا أذفر ؛ فدفعها إلى النبي وقال : يا حبيب الله! هذه تربة ولدك الحسين بن فاطمة؟ وسيقتله اللعناء بأرض كربلاء.

فقال النبي : «حبيبي جبرئيل وهل تفلح أمّة تقتل فرخي وفرخ ابنتي»؟ فقال جبرئيل: لا ، بل يضربهم الله بالاختلاف ، فتختلف قلوبهم وألسنتهم آخر الدهر.

٢٣٦

١٢ ـ وقال شرحبيل بن أبي عون : إن الملك الذي جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إنما كان ـ ملك البحار ـ ، وذلك أنّ ملكا من ملائكة الفراديس نزل إلى البحر ، ثم نشر أجنحته عليه ، وصاح صيحة قال فيها : يا أهل البحار! البسوا ثياب الحزن ، فإن فرخ محمد مقتول مذبوح ، ثمّ جاء إلى النبي فقال : يا حبيب الله! تقتتل على هذه الأرض فرقتان من امتك : احداهما ظالمة متعدية فاسقة تقتل فرخك الحسين ابن ابنتك بأرض ـ كرب وبلاء ـ ، وهذه التربة عندك ، وناوله قبضة من أرض «كربلاء» ، وقال له : تكون هذه التربة عندك حتى ترى علامة ذلك ، ثم حمل ذلك الملك من تربة الحسين في بعض أجنحته ، فلم يبق ملك في سماء الدنيا إلا شمّ تلك التربة ، وصار لها عنده أثر وخبر.

قال : ثم أخذ النبي تلك القبضة التي أتاه بها الملك ، فجعل يشمها ويبكي ، ويقول في بكائه : «اللهمّ! لا تبارك في قاتل ولدي ، وأصله نار جهنم» ثم دفع تلك القبضة إلى أمّ سلمة وأخبرها بقتل الحسين ـ بشاطئ الفرات ـ ، وقال : «يا أمّ سلمة! خذي هذه التربة إليك ، فإنها إذا تغيرت وتحوّلت دما عبيطا ، فعند ذلك يقتل ولدي الحسين».

فلما أتى على الحسين من ولادته سنة كاملة ، هبط على رسول الله اثنا عشر ملكا : أحدهم على صورة الأسد ، والثاني : على صورة الثور ، والثالث : على صورة التنين ، والرابع : على صورة ولد آدم ، والثمانية الباقون : على صور شتى ، محمرة وجوههم ، قد نشروا أجنحتهم ، وهم يقولون : يا محمد! سينزل بولدك الحسين ما نزل بهابيل من قابيل ، وسيعطى مثل أجر هابيل ، ويحمل على قاتله مثل وزر قابيل.

قال : ولم يبق في السماء ملك إلا ونزل على النبي يعزيه بالحسين ، ويخبره : بثواب ما يعطى ، ويعرض عليه تربته ، والنبي يقول : «اللهمّ!

٢٣٧

اخذل من خذله ، واقتل من قتله ، ولا تمتعه بما طلبه».

١٣ ـ وقال المسوّر بن مخرمة : ولقد أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملك من ملائكة الصفيح الأعلى ، لم ينزل إلى الأرض منذ خلق الله الدّنيا ، وإنما استأذن ذلك الملك ربّه ، ونزل شوقا منه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلما نزل إلى الأرض ، أوحى اللهعزوجل إليه : أيها الملك! اخبر محمدا بأنّ رجلا من امته يقال له : «يزيد» يقتل فرخك الطّاهر وابن الطاهرة ـ نظيرة البتول مريم ابنة عمران ـ ، فقال الملك : إلهي! وسيدي! لقد نزلت وأنا مسرور بنزولي إلى نبيّك ، فكيف اخبره بهذا الخبر؟ ليتني لم أنزل عليه ، فنودي الملك من فوق رأسه : أن امض لما امرت.

فجاء وقد نشر أجنحته حتى وقف بين يديه ، فقال : السلام عليك يا حبيب الله! إني استأذنت ربي في النزول إليك ، فليت ربي دقّ جناحي ولم آتك بهذا الخبر ، ولكني مأمور يا نبي الله! اعلم أن رجلا من امتك يقال له : يزيد يقتل فرخك الطاهر ابن فرختك الطاهرة نظيرة البتول مريم ابنة عمران ، ولم يمتع من بعد ولدك ، وسيأخذه الله معافصة على أسوأ عمله ، فيكون من أصحاب النار.

قال : ولما أتت على الحسين من مولده سنتان كاملتان ، خرج النبي في سفر ، فلما كان في بعض الطريق وقف فاسترجع ودمعت عيناه ، فسئل عن ذلك ، فقال : «هذا جبرئيل ، يخبرني عن أرض ـ بشاطئ الفرات ـ يقال لها «كربلاء» يقتل فيها ولدي الحسين بن فاطمة» ، فقيل : من يقتله يا رسول الله؟ فقال : «رجل يقال له يزيد لا بارك الله في نفسه ، وكأني أنظر إلى منصرفه ومدفنه بها ، وقد اهدي رأسه ، والله ما ينظر أحد إلى رأس ولدي الحسين فيفرح إلّا خالف الله بين قلبه ولسانه» ، يعني : ليس في قلبه ما يكون بلسانه

٢٣٨

من الشهادة.

قال : ثمّ رجع النبيّ من سفره ذلك مغموما ، فصعد المنبر فخطب ووعظ والحسين بين يديه مع الحسن ، فلمّا فرغ من خطبته ، وضع يده اليمنى على رأس الحسين ورفع رأسه إلى السماء وقال : «اللهمّ إني محمّد عبدك ونبيك ، وهذان أطائب عترتي ، وخيار ذريتي وارومتي ، ومن أخلفهما في امتي ، اللهم! وقد أخبرني جبرئيل : بأنّ ولدي هذا مقتول مخذول ، اللهم! فبارك لي في قتله ، واجعله من سادات الشهداء ، إنّك على كل شيء قدير ، اللهم! ولا تبارك في قاتله وخاذله».

قال : فضجّ النّاس في المسجد بالبكاء ، فقال النبيّ : «أتبكون ولا تنصرونه؟ اللهمّ! فكن له أنت وليا وناصرا».

١٤ ـ وقال ابن عبّاس : خرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل موته بأيام يسيرة إلى سفر له ، ثمّ رجع وهو متغير اللون ، محمّر الوجه ، فخطب خطبة بليغة موجزة ، وعيناه تهملان دموعا ، قال فيها : «أيّها النّاس! إني خلفت فيكم الثقلين : كتاب الله ؛ وعترتي ؛ وارومتي ؛ ومزاج مائي ؛ وثمرتي ؛ ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، ألا وإني أنتظرهما ، ألا وإني أسألكم في ذلك إلا ما أمرني ربي أن أسألكم به المودّة في القربى ، فانظروا لا تلقوني على الحوض وقد أبغضتم عترتي ، وظلمتوهم.

ألا وإنه سترد عليّ في القيامة ـ ثلاث رايات ـ من هذه الامة : راية سوداء مظلمة : فتقف عليّ ، فأقول : من أنتم؟ فينسون ذكري ، ويقولون : أهل التوحيد من العرب ، فأقول : أنا أحمد نبيّ العرب والعجم ، فيقولون : نحن من امتك يا أحمد! فأقول لهم : كيف خلفتموني من بعدي في أهلي وعترتي وكتاب ربي؟ فيقولون : أما الكتاب ـ فضيعناه ومزّقناه ؛ وأما

٢٣٩

عترتك ـ فحرصنا على أن ننبذهم عن جديد الأرض ، فأولّي وجهي عنهم ، فيصدرون ظماء عطاشا مسودة وجوههم.

ثم ترد عليّ راية اخرى أشد سوادا من الاولى ، فأقول لهم : من أنتم؟ فيقولون كالقول الأوّل ، بأنهم من أهل التوحيد ، فإذا ذكرت لهم اسمي عرفوني ، وقالوا : نحن أمّتك ، فاقول له : كيف خلفتموني في الثقلين : الأكبر والأصغر؟ فيقولون : أما الأكبر ـ فخالفناه ، وأما الأصغر ـ فخذلناه ومزّقناهم كل ممزق ، فأقول لهم : إليكم عني ، فيصدرون ظماء عطاشا مسودة وجوههم.

ثم ترد عليّ راية اخرى تلمع نورا ، فأقول لهم : من أنتم؟ فيقولون : نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى ، نحن أمّة محمد ، ونحن بقية أهل الحقّ الذين حملنا كتاب ربنا فحللنا حلاله ، وحرمنا حرامه ، وأحببنا ذريّة محمد فنصرناهم بما نصرنا به أنفسنا ، وقاتلنا معهم ، وقتلنا من ناوأهم ، فأقول لهم : ابشروا ، فأنا نبيكم محمّد ، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتم ، ثم أسقيهم من حوضي فيصدرون رواء.

ألا وإن جبرئيل قد أخبرني بأن امتي تقتل ولدي ـ الحسين ـ بأرض كرب وبلاء ، ألا فلعنة الله على قاتله وخاذله آخر الدّهر».

قال : ثم نزل عن المنبر ، ولم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلّا وتيقن بأنّ الحسين مقتول حتّى إذا كان في أيام ـ عمر بن الخطاب ـ وأسلم كعب الأحبار ، وقدم المدينة جعل أهل المدينة يسألونه عن الملاحم التي تكون في آخر الزمان ، وكعب يحدثهم بأنواع الملاحم والفتن.

فقال كعب لهم : وأعظمها ملحمة هي الملحمة التي لا تنسى أبدا وهو الفساد الذي ذكره الله تعالى في الكتب ، وقد ذكره في «كتابكم» في قوله :

٢٤٠

وقال الفضل(١) :

قد عرفت أنّ خالق الشيء غير فاعله ومباشره(٢) ، فالفعل تارة يطلق ويراد به : الخلق ، كما يقال : الله تعالى فاعل كلّ شيء ، وقد يطلق ويراد به :

المباشرة والاعتمال.

وعلى التقديرين فإنّ الخالق للشيء لا يكون موصوفا بذلك الشيء الذي خلقه ، وإن كان المخلوق من جملة الصفات كما قدّمنا(٣) .

فمن خلق الظلم لا يقال : إنّه ظالم.

وقد ذكرنا أنّه لم يفرّق بين هذين المعنيين(٤) ، ولو فرّق لم يستدلّ بأمثال هذا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٨٠.

(٢) انظر الصفحتين ٩٣ و ١٧٣ من هذا الجزء.

(٣) تقدّم في الصفحتين ١٦٥ و ٢٢٠ من هذا الجزء.

(٤) راجع الصفحة ١٤٩ من هذا الجزء.

٢٤١

وأقول :

إذا أقرّ بإطلاق الفعل على الخلق ، وأنّه يقال : فاعل كلّ شيء ، ويراد خالقه ، فقد صارا مترادفين ، وبطل قوله : إنّ خالق الشيء غير فاعله.

ولو سلّم فلا يرتفع الإشكال بمجرّد هذا الاصطلاح ، إذ يكفينا أن نقول : إنّ من أوجد الظلم والفساد يسمّى ظالما مفسدا لغة وعرفا ، فيلزمهم الإشكال.

وأمّا قوله : « وعلى التقديرين ، فإنّ الخالق للشيء لا يكون موصوفا بذلك الشيء »

فغلط ظاهر ، ضرورة أنّ أكثر صفات الله سبحانه من أفعاله ، كالعادل والرحمن والهادي والمحيي والمميت ونحوها ، بل صفات الذات أيضا من مخلوقاته بزعمهم ؛ لأنّها مغايرة له وصادرة عنه بالإيجاب.

ثمّ إنّ مراد المصنّفرحمه‌الله ب‍ « الآخر » في قوله : « ولهذا لا يصحّ إثبات أحدها إلّا حال نفي الآخر » هو الآخر الضدّ ، لا مطلقا.

وحينئذ فلو ثبت الظلم لأحد لم يصحّ إثبات العدل له في مورد ثبوت الظلم له ، فلا يصحّ وصف الله سبحانه بالعادل حال خلقه للظلم وثبوته له ، وهو كفر آخر.

* * *

٢٤٢

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم منه المحال ؛ لأنّه لو كان هو الخالق للأفعال ، فإمّا أن يتوقّف خلقه لها على قدرتنا ودواعينا ، أو لا ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل : فلأنّه يلزم منه عجزه سبحانه عمّا يقدر عليه العبد ، ولأنّه يستلزم خلاف المذهب ، وهو وقوع الفعل منه والداعي من العبد ، إذ لو كان من الله تعالى لكان الجميع من عنده ، ولأنّه القدرة والداعي إن أثّرا فهو المطلوب ، وإلّا كان وجودهما كوجود لون الإنسان وطوله وقصره.

ومن المعلوم بالضرورة أنّه لا مدخل للّون والطول والقصر في الأفعال ، وإذا كان هذا الفعل صادرا عنه جاز وقوع جميع الأفعال المنسوبة إلينا منّا.

وأمّا الثاني : فلأنّه يلزم منه أن يكون الله تعالى أوجد ـ أي خلق ـ تلك الأفعال من دون قدرتهم ودواعيهم ، حتّى توجد الكتابة والنساجة المحكمتان ممّن لا يكون عالما بهما ، ووقوع الكتابة ممّن لا يد له ولا قلم ، ووقوع شرب الماء من الجائع في الغاية ، الريّان في الغاية ، مع تمكّنه من الأكل.

ويلزم تجويز أن تنقل النملة الجبال ، وأن لا يقوى الرجل الشديد القوّة على رفع تبنة ، وأن يجوز من الممنوع المقيّد العدو ، وأن يعجز القادر

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٨.

٢٤٣

الصحيح عن تحريك الأنملة(١) .

وفي هذا زوال الفرق بين القوي والضعيف ، ومن المعلوم بالضرورة الفرق بين الزّمن والصحيح.

* * *

__________________

(١) الأنملة ـ بالفتح ـ : المفصل الأعلى الذي فيه الظفر من الإصبع ؛ انظر لسان العرب ١٤ / ٢٩٥ مادّة « نمل ».

٢٤٤

وقال الفضل(١) :

نختار القسم الثاني ، وهو أنّ خلقه تعالى لأفعالنا لا يتوقّف على دواعينا وقدرتنا ، وما ذكره من لزوم وجدان الكتابة بدون اليد وغيره من المحالات العادية ، فهي استبعادات ، والاستبعاد لا يقدح في الجواز العقلي.

نعم ، عادة الله جرت على إحداث الكتابة عند حصول اليد والقلم ، وإن أمكن حصوله وجاز حدوثه عقلا بدون اليد والقلم ، ولكن هو من المحالات العادية كما مرّ غير مرّة(٢) .

وما ذكر أنّه يلزم أن تكون القدرة والداعي إذا لم يكونا مؤثّرين في الفعل ، كاللون والطول والقصر بالنسبة إلى الأفعال ، فهو ممنوع

للفرق بأنّ الفعل يقع عقيب وجود القدرة ، كالإحراق الذي يقع عقيب مساس النار عادة ، ولا يقال لا فرق بالنسبة إلى الإحراق بين النار وغيرها ، إذ لا تجري العادة بحدوث الإحراق عقيب مساس الماء.

فكذلك لم تجر عادة الله تعالى بإحداث الفعل عقيب وجود اللون ، بل عقيب حصول القدرة والداعي مع أنّهما غير مؤثّرين.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٨٢.

(٢) راجع الصفحة ٢١٤ من هذا الجزء.

٢٤٥

وأقول :

لا يخفى أنّ مقصود المصنّف هو : إنّه يلزم انتفاء الفرق في صحّة نسبة الكتابة إلى ذي اليد أو مقطوعها ؛ لأنّ المفروض عدم دخل القدرة وآلاتها في وجود الأفعال ، وذلك باطل بالضرورة.

وكذا الكلام في تأثير الداعي ، وليس المقصود امتناع حصول الكتابة مثلا بدون الآلات ، فإنّه لا ينكر إمكانه ، بل وقوعه في اللوح وغيره.

وأمّا ما ذكره من الفرق بين القدرة والداعي ، وبين اللون والطول والقصر بجريان العادة ، فليس في محلّه ؛ لأنّ المصنّفرحمه‌الله أراد لزوم عدم الفرق في عدم المدخلية والتأثير ، لا لزوم عدم الفرق أصلا ، وإلّا فالفروق كثيرة.

ولا ريب أنّ عدم الفرق بعدم المدخلية والتأثير خلاف الضرورة ، فإنّ كلّ عاقل يدرك مدخلية القدرة والداعي في الفعل وتأثيرهما فيه ، دون اللون والطول والقصر.

* * *

٢٤٦

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : تجويز أن يكون الله تعالى جاهلا أو محتاجا ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ؛ لأنّ في الشاهد فاعل القبيح إمّا جاهل ، أو محتاج ، مع إنّه ليس عندهم فاعلا في الحقيقة ، فلأن يكون كذلك في الغائب ـ الذي هو الفاعل في الحقيقة ـ أولى.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٩.

٢٤٧

وقال الفضل(١) :

قد مرّ أنّ الخالق غير الفاعل ، بمعنى الكاسب والمباشر(٢) ، وخالق القبيح لا يلزم أن يكون جاهلا أو محتاجا ، حيث لا قبيح بالنسبة إليه ، كما في خلقه لما هو قبيح بالنسبة إلى المخلوق ، فلا يلزم منه جهل ولا احتياج.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٨٣.

(٢) انظر الصفحتين ٩٣ و ١٧٣ من هذا الجزء.

٢٤٨

وأقول :

ضرورة العقلاء قاضية بأنّ خلق القبيح وإيجاده أولى بالقبح من كسبه ، بمعنى محلّيّة المحلّ له بلا تأثير ، بل لا معنى لنسبة قبح الفعل الاختياري إلى غير المؤثّر.

فلا محالة يلزم من خلق القبيح أحد الأمرين : الجهل ، والاحتياج ، ولا عبرة بالسفسطات.

* * *

٢٤٩

قال المصنّف ـ رفع الله منزلته ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم منه الظلم ؛ لأنّ الفعل إمّا أن يقع من العبد لا غير

أو من الله تعالى

أو منهما بالشركة ، بحيث لا يمكن تفرّد كلّ منهما بالفعل ، أو لا من واحد منهما

والأوّل : هو المطلوب.

والثاني : يلزم منه الظلم ، حيث فعل الكفر وعذّب من لا أثر له فيه ألبتّة ، ولا قدرة موجدة له ، ولا مدخل له في الإيجاد ، وهو أبلغ أنواع الظلم.

والثالث : يلزم منه الظلم ؛ لأنّه شريك في الفعل ، وكيف يعذّب شريكه على فعل فعله هو وإيّاه؟!

وكيف يبرّئ نفسه من المؤاخذة مع قدرته وسلطنته ، ويؤاخذ عبده الضعيف على فعل فعل هو مثله؟!

وأيضا : يلزم منه تعجيز الله تعالى ، إذ لا يتمكّن من الفعل بتمامه ، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد.

وأيضا : يلزم المطلوب ، وهو أن يكون للعبد تأثير في الفعل ، وإذا جاز استناد أثر ما إليه ، جاز استناد الجميع إليه.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١١٩.

٢٥٠

فأيّ ضرورة تحوج إلى التزام هذه المحالات؟!

فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص التي نزّه الله تعالى نفسه عنها وتبرّأ منها!

* * *

٢٥١

وقال الفضل(١) :

نختار أنّ الفعل ـ بمعنى الخلق ـ يصدر من الله تعالى ، والعبد كاسب للفعل ، مباشر له ، ولا تأثير لقدرته في الفعل.

قوله : « يلزم منه الظلم ».

قلنا : قد سبق أنّ الظلم لا يلزم أصلا ؛ لأنّه يتصرّف في ما هو ملك له ، والتصرّف في الملك كيف شاء المالك لا يسمّى ظلما ، ثمّ إنّ تعذيب العاصي بواسطة كونه محلّا للفعل الموجب للعذاب(٢) .

وأمّا قوله : « فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربّهم إلى هذه النقائص ».

فنقول : أنا أخبره بالذي دعاهم إلى تخصيص الخلق بالله تعالى ، وهو الهرب والفرار من الشرك الصريح الذي لزم المخالفين ممّن يدّعون أنّ العبد خالق مثل الربّ ، وهذا فيه خطر الشرك ، وهم يهربون من الشرك!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٨٤.

(٢) انظر الصفحتين ٩٣ و ٢٣٠ من هذا الجزء.

٢٥٢

وأقول :

لا يمكن أن يكون مجرّد الملك مصحّحا لعذاب من لا ذنب له ؛ لما سبق من أنّه ليس من أحكام الملكيّة جواز إضرار المالك بملكه الحسّاس ، بلا جرم منه ، ولا فائدة له ، بل هو مناف لمقتضى الملكيّة من رعاية المملوك وحمايته عمّا يضرّه(١) .

وأمّا ما أخبر به من الأمر الداعي لأصحابه ، فلو صدق فيه ، فلم أثبتوا لأنفسهم قدرة وإرادة وغيرهما من الصفات الزائدة بزعمهم على الذات ، وأثبتوا لأنفسهم أيضا ملكيّة؟!

وادّعوا مشاركة الله سبحانه في الكلّ! والحال أنّ المشاركة فيها أعظم من المشاركة في الفعل ، بل لو كان الشرك مطلقا باطلا لم تصحّ مشاركة الله تعالى في الوجود والشيئية ، وفي ثبوت الهوية.

فالحقّ ـ كما سبق ـ أنّ المشاركة في ما لا نقص به على الله سبحانه من الأمور التي لا توجب الإلهية ، ولا المعارضة ، أو المماثلة له ، جائزة وواقعة ، كما في محلّ النزاع.

وكيف يكون فيها نقص؟! وهي من مظاهر القدرة الربّانيّة ، ودلائل النزاهة ، حيث جعل قدرة العبيد الفعّالة دليلا على قدرته العظمى ، وطريقا إلى نزاهته عن أفعالهم القبيحة!

نعم ، أنا أخبره أنّ الذي دعاهم إلى الالتزام بذلك وسلوك أسوأ

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٩٥ من هذا الجزء.

٢٥٣

المسالك ، هو التعصّب للأسلاف ، والاقتداء بآثار الآباء.

ومن المضحك أنّه في مقام إنكار تأثير العبيد يثبت التأثير لهم فيقول :

« أنا أخبره بالذي دعاهم » فأشرك بمذهبه ، وأساء باعتقاده إلى ربّه!

وما زال يعاقب المصنّف عقاب الفاعلين للفاعلين المؤثّرين!

أعاذنا الله من مخالفة العمل للقول ، والتعرّض لسخطه ، إنّه أرحم الراحمين.

* * *

٢٥٤

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم مخالفة القرآن العظيم والسنّة المتواترة والإجماع وأدلّة العقل.

* أمّا الكتاب فإنّه مملوء من إسناد الأفعال إلى العبيد ، وقد تقدّم بعضها(٢) .

وكيف يقول الله تعالى :( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٣) ولا خالق سواه؟!

ويقول :( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (٤) ولا تحقّق لهذا الشخص ألبتّة؟!

ويقول :( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) (٥)

( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (٦)

( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٧)

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٠.

(٢) تقدّم في الصفحة ١٥٢ ـ ١٥٣ من هذا الجزء.

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٤) سورة طه ٢٠ : ٨٢.

(٥) سورة فصّلت ٤١ : ٤٦ ، سورة الجاثية ٤٥ : ١٥.

(٦) سورة النجم ٥٣ : ٣١.

(٧) سورة الكهف ١٨ : ٧.

٢٥٥

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (١)

( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (٢) ولا وجود لهؤلاء؟!

ثمّ كيف يأمر وينهى ولا فاعل؟! وهل هو إلّا كأمر الجماد ونهيه؟!

* وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إعملوا ، فكلّ ميسّر لما خلق له »(٣)

«نيّة المؤمن (٤) خير من عمله »(٥)

«إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى »(٦)

* والإجماع دلّ على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى ، فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب الرضا به ، والرضا بالكفر حرام بالإجماع.

فعلمنا أنّ الكفر ليس من فعله تعالى ، فلا يكون من خلقه.

* * *

__________________

(١) سورة الجاثية ٤٥ : ٢١.

(٢) سورة ص ٣٨ : ٢٨.

(٣) صحيح البخاري ٦ / ٢٩٨ ح ٤٤٦ وج ٩ / ٢٨٤ ح ١٧٦ ، صحيح مسلم ٨ / ٤٧ ، سنن أبي داود ٤ / ٢٢٨ ح ٤٧٠٩ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٠ ح ٧٨ ، سنن الترمذي ٤ / ٣٨٨ ح ٢١٣٦ ، مسند أحمد ١ / ٨٢ ، التوحيد ـ للصدوق ـ : ٣٥٦ ح ٣ ، مجمع البحرين ـ للطريحي ـ ٣ / ٥٢١ مادّة « يسر ».

(٤) كان في الأصل : « المرء » ، وهو تصحيف ، والمثبت من المصادر.

(٥) تقدّم تخريجه في الصفحة ١٢٣ ه‍ ٥ ، فراجع.

(٦) تقدّم تخريجه في الصفحة ١٢٣ ه‍ ٤ ، فراجع.

٢٥٦

وقال الفضل(١) :

قد عرفت في ما سبق أجوبة كلّ ما استدلّ به من آيات الكتاب العزيز(٢) .

ثمّ إنّ كلّ تلك الآيات معارضة بالآيات الدالّة على أنّ جميع الأفعال بقضاء الله وقدره وإيجاده وخلقه ، نحو :

( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (٣) أي عملكم

و( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٤) وعمل العبد شيء

( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) (٥) وهو يريد الإيمان إجماعا ، فيكون فعّالا له ، وكذا الكفر ، إذ لا قائل بالفصل.

وأيضا : تلك الآيات معارضة بالآيات المصرّحة بالهداية والضلال والختم ، نحو :

( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) (٦)

و( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ) (٧) وهي محمولة على حقائقها كما هو الظاهر منها.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٨٦.

(٢) انظر الصفحة ١٥٤ من هذا الجزء.

(٣) سورة الصافّات ٣٧ : ٩٦.

(٤) سورة الزمر ٣٩ : ٦٢.

(٥) سورة هود ١١ : ١٠٧.

(٦) سورة البقرة ٢ : ٢٦.

(٧) سورة البقرة ٢ : ٧.

٢٥٧

وأنت تعلم أنّ الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها ، خصوصا في المسائل العقلية ، ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقلية القطعية.

وقد ذكرنا في ما سلف من الكلام ما يغني في إثبات المقصد.

وأمّا ما استدلّ به على تعدّد الخالقين من قوله تعالى :( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) ، فالمراد بالخالقين هناك : ما يدّعي الكافرون من الأصنام.

فكأنّه يقول : تبارك الله الذي هو أحسن من أصنامكم الّذين تجعلونهم الخالقين المقدّرين بزعمكم ، فإنّهم لا يقدرون على شيء ، والله يخلق مثل هذا الخلق البديع المعجب.

أو المراد من الخالقين : المقدّرين للخلق ، كالمصوّرين ، لا أنّه تعالى أثبت لنفسه شركاء في الخلق.

ولكنّ المعتزلة ومن تابعهم يناسب حالهم ما قال الله تعالى :( وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٤٥.

٢٥٨

وأقول :

قد ظهر ممّا سبق أنّ أجوبته لا تصلح أن توسم باسم الجواب(١) ، ودعواه هنا المعارضة بالآيات الأخر باطلة.

أمّا قوله تعالى :( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٢) ، فقد عرفت في أوّل المطلب الأوّل أنّ المراد به السماوات والأرض ، وما فيهما من الأجسام والأعراض والأجرام ، لا ما يشمل أفعال العباد ، فراجع(٣) .

وأمّا قوله تعالى :( أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (٤) فالمراد فيه ب‍ ( ما يعملون ) هو : ما ينحتونه من الأصنام لا عملهم(٥) ، إذ لا معنى للإنكار على عبادتهم لما ينحتون بحجّة أنّه خلقهم وأعمالهم التي منها عبادتهم التي أنكر عليها!

وأمّا قوله تعالى :( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) ، فالظاهر أنّ معناه أنّه تعالى فعّال لما يريد فعله وتكوينه.

ومن أوّل الدعوى أنّه يريد تكوين الإيمان ، وإنّما يريده تكليفا وتشريعا.

وأمّا المعارضة بالآيات الواردة في الهداية والإضلال والختم ، فمبنيّة

__________________

(١) انظر الصفحة ١٥٦ من هذا الجزء.

(٢) سورة الرعد ١٣ : ٦١ ، سورة الزمر ٣٩. ٦٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٢.

(٣) راجع ج ٢ / ٣٤٣.

(٤) سورة الصافّات ٣٧ : ٩٥ و ٩٦.

(٥) انظر : تفسير الماوردي ٥ / ٥٨ ، الكشّاف ٣ / ٣٤٥ ، مجمع البيان ٨ / ٢٨١.

تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٥١.

٢٥٩

على أنّ المراد بالهداية والإضلال : خلق الهدى والضلال ، وهو ممنوع ؛ بل المراد بالهداية أحد أمور :

الأوّل : الدلالة والإرشاد ، كما في قوله تعالى : إنّا( هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (١) ( إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) (٢) .

وقوله تعالى :( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) (٣)

وقوله تعالى :( إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٤) .

.. إلى غيرها من الآيات الكثيرة.

الثاني : الإثابة والإنعام ، كما في قوله تعالى :( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ) (٥) .

فإنّ المراد هنا بالهداية : الإثابة ؛ لوقوعها بعد القتل والموت ، كما إنّ المراد هنا بالإضلال : إبطال أعمالهم.

ومثلها في إرادة الإثابة قوله تعالى :( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (٦) .

الثالث : التوفيق وزيادة الألطاف ، كما في قوله تعالى :( مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) (٧) ، ونقيضه الإضلال بأن يكلهم إلى أنفسهم ، ويمنعهم زيادة

__________________

(١) سورة البلد ٩٠ : ١٠.

(٢) سورة الإنسان ٧٦ : ٣ ، وتمام الآية :( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) .

(٣) سورة فصّلت ٤١ : ١٧.

(٤) سورة الشورى ٤٢ : ٥٢.

(٥) سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ٤٧ : ٤ و ٥.

(٦) سورة يونس ١٠ : ٩.

(٧) سورة الإسراء ١٧ : ٩٧.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360