مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ١

مقتل الحسين للخوارزمى16%

مقتل الحسين للخوارزمى مؤلف:
المحقق: الشيخ محمد السماوي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-6223-01-X
الصفحات: 360

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18316 / تحميل: 4839
الحجم الحجم الحجم
مقتل الحسين للخوارزمى

مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ١

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٦٢٢٣-٠١-X
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الآية

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) )

التّفسير

طوق الأسر الثّقيل :

تبيّن الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة ، أولئك الذين يبذلون غاية الجهد في جمع الثّروة ثمّ يمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله ، ولصالح عباده.

والآية هذه وإن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق والفرائض المالية ، إلّا أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وكذا أقوال المفسرين خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد بمانعي الزكاة ، ويؤيده التشديد المشهود في الآية ، فإن أمثال هذا التشديد والتغليظ لا يتناسب مع الإنفاق المندوب المستحب.

تقول الآية أوّلا :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ) ثمّ تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا :( سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها طوقا في

٢١

أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب.

ومن هذه الجملة يستفاد أن الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها ، ولم ينتفع بها المجتمع ، بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية ، وربّما صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني ، أو كدست دون أي مبرر ولم يستفد منها أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان ، أي أنّها ـ طبقا لقانون تجسم الأعمال البشرية ـ ستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه.

إنّ تجسّم مثل هذه الأموال التي تطوق بها أعناق ذويها إشارة إلى الحقيقة التالية، وهي أن كل إنسان يتحمل ثقل مسئوليتها كاملا دون أن يكون هو قد انتفع بها.

إنّ الأموال الوفيرة التي تجمع بشكل جنوني وتكنز ولا تصرف في خدمة المجتمع لا تكون سوى أغلال وسجون لأصحابها ، لأن للاستفادة ـ كما نعلم ـ من الأموال والثروة الشخصية حدودا ، فإذا تجاوزها الإنسان عادت عليه نوعا من الأسر الثقيل ، والوزر الضّار،اللهم إلّا أن يستفيد من آثارها المعنوية وذلك حينما يوظفها في الأعمال الإيجابية الصالحة.

ثمّ إن هذه الأموال لا تشكل طوقا ثقيلا في أعناق أصحابها في الآخرة فحسب ، بل تكون كذلك في هذه الدنيا أيضا ، غاية الأمر أن هذا المعنى يكون أكثر ظهورا في الآخرة،بينما يكون في شيء من الخفاء في هذه الحياة ، فأية حماقة ـ ترى ـ أكبر من أن يتحمل المرء مسئولية جمع الثّروة مضافة إلى مسئولية الحفاظ عليها وحسابها والدّفاع عنها وما يلازم ذلك من مشاق تثقل كاهله ، في حين لا ينتفع بها هو أبدا ، وهل الأموال حينئذ إلّا طوق أسر ثقيل لا غير؟

ففي تفسير العياشي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنه قال : «الذي يمنع الزكاة يحول الله

٢٢

ماله يوم القيامة شجاعا(1) من نار ثمّ يقال له : ألزمه كما لزمك في الدنيا».

والملفت للنظر التعبير عن المال في هذه الآية( بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) الذي يفهم منه أن المالك الحقيقي لهذه الأموال ومصادرها هو الله سبحانه ، وإن ما أعطاه لأيّ واحد من الناس فإنّما هو من فضله ، ولهذا ينبغي أن لا يبخل ، أن ينفق من تلك الأموال في سبيل صاحبها الحقيقي.

ثمّ إنّ بعض المفسرين يرى أن مفهوم هذه العبارة يعم جميع المواهب الإلهية ومنها العلم، ولكن هذا الاحتمال لا ينطبق مع ظاهر التعبيرات الواردة في الآية.

ثمّ إنّ الآية تشير إلى نقطة أخرى إذ تقول :( وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) يعني أن الأموال سواء أنفقت في سبيل الله أو لم تنفق فإنّها ستفصل في النهاية عن أصحابها،ويرث الله الأرض والسماء وما فيهما ، فالأجدر بهم ـ والحال هذه ـ أن ينتفعوا من آثارها المعنوية ، لا أن يتحملوا وزرها وعناءها ، وحسرتها وتبعتها.

ثمّ تختم الآية بقوله تعالى :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي أنّه عليم بأعمالكم ، يعلم إذا بخلتم ، كما يعلم إذا أنفقتم ما أوتيتموه من المال في السبيل الصالح العام وخدمة المجتمع الإنساني ، ويجازي كلا على عمله بما يليق.

* * *

__________________

(1) الشّجاع العظيم الخلقة من الحيات.

٢٣

الآيتان

( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) )

سبب النّزول

هذه الآية نزلت ردّا على مقالة اليهود وتوبيخا لهم.

فعن ابن عباس أنّه قال : كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا إلى يهود «بني قينقاع» دعاهم فيه لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا لله «والمراد منه الإنفاق في سبيل الله وإنما عبر عنه بالإقراض لتحريك المشاعر وإثارتها لدى الناس قدرا أكبر) فدخل رسول النّبي إلى بيت المدارس (حيث يتلقى اليهود دروسا في دينهم) وسلم كتاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى «فنحاص» وهو من كبار أحبار اليهود فلمّا قرأه قال مستهزءا : لو كان ما تقولونه حقا فإن الله إذن لفقير ونحن أغنياء ، ولو كان غنيا لما استقرض منّا (وهو يشير إلى قوله تعالى:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً

٢٤

حَسَناً ) (1) هذا مضافا إلى أن «محمّدا» يعتقد أنّ الله نهاكم عن أكل الرّبا، وهو يعدكم أن يضاعف لكم إذا أنفقتم أضعافا مضاعفة ، وهو يشير إلى قوله تعالى :( يُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (2) .

ولكنّ «فنحاص» أنكر أنّه قال شيئا من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان المذكورتان أعلاه(3) .

التّفسير

تقول الآية الأولى( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ) .

أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أن يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإن الله قد سمعها ويسمعها حرفا بحرف فلا مجال لإنكارها ، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جدا أو الأصوات العالية جدا :( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ) .

إذن فلا فائدة ولا جدوى في الإنكار ، ثمّ يقول سبحانه :( سَنَكْتُبُ ما قالُوا ) أي أن ما قالوه لم نسمعه فحسب ، بل سنكتبه جميعه.

ومن البديهي أن المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة والتدوين ، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون بقاء «الطاقة ـ المادة».

بل وحتى كتابة الملائكة الموكّلين من قبل الله بالبشر لضبط تصرفاتهم ، هو الآخر نوع من حفظ العمل الذي هو مرتبة أعلى من الكتابة المتعارفة.

ثمّ يقول :( وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ ) أي أنّنا لا نكتفي بكتابة مقالاتهم الكافرة

__________________

(1) الحديد ، 11.

(2) البقرة ، 276.

(3) أسباب النزول للواقدي ، ص 99 وتفسير روح البيان في تفسير هذه الآية.

٢٥

الباطلة فحسب ، بل سنكتب موقفهم المشين جدا وهو قتلهم للأنبياء.

يعني أن مجابهة اليهود ، ومناهضتهم للأنبياء ليس بأمر جديد ، فليست هذه هي المرّة الأولى التي تستهزء يهود برسول من الرسل ، فإن لهم في هذا المجال باعا طويلا في التاريخ،وصفحة مليئة بنظائر هذه الجرائم والمخازي ، فإن جماعة بلغت في الدناءة والشراسة والقحة والجرأة أن قتلت جماعة من رسل الله وأنبيائه ، فلا مجال للاستغراب من تفوهها بمثل هذه الكلمات الكافرة.

ويمكن أن يقال في هذا المقام : إن قتل الأنبياء مسألة لم ترتبط باليهود في عصر الرسالة المحمّدية ، فلما ذا حمل وزرها عليهم؟ ولكننا نقول ـ كما أسلفنا أيضا ـ أنّ هذه النسبة إنّما صحّت لأنّهم كانوا راضين بما فعله وارتكبه أسلافهم من اليهود ، ولهذا أشركوا في إثمهم ووزرهم وفي مسئوليتهم عن ذلك العمل الشنيع.

وأمّا تسجيل وكتابة أعمالهم فلم يكن أمرا اعتباطيا غير هادف ، بل كان لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة ، ونقول لهم : ها هي نتيجة أعمالكم قد تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول :( ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

إنّ هذا العذاب الأليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم ، فأنتم ـ أنفسكم ـ قد ظلمتم أنفسكم( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) (1) ( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

بل لو أنكم وأمثالكم من المجرمين لم تنالوا جزاء أعمالكم ولم تروها بأمّ أعينكم، ووقفتم في عداد الصالحين لكان ذلك غاية في الظلم ، ولو أنّ الله سبحانه لم يفعل ذلك لكان ظلاما للناس.

__________________

(1) إنّما أضيف أعمال الإنسان إلى يده وإن كانت الذنوب تكتسب بجميع الجوارح لأن أكثر ما يكسبه الإنسان إنما يكسبه بيده ، ولأن العادة قد جرت بإضافة الأعمال التي يقوم بها الإنسان إلى اليد وإن اكتسبها بجارحة أخرى.

٢٦

ولقد نقل عن الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة أنّه قال : «وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها لأن الله ليس بظلام للعبيد».

إنّ هذه الآية تعدّ من الآيات التي تفنّد ـ من جهة ـ مقولة الجبريين ، و ـ تعمم ـ من جهة اخرى ـ أصل ـ العدالة وتسحبه على كل الأفعال الإلهية ، فتكون جميعا مطابقة للعدالة.

وتوضيح ذلك : إنّ الآية الحاضرة تصرّح بأنّ كلّ جزاء ـ من ثواب أو عقاب ـ ينال الناس من جانب الله سبحانه فإنّما هو جزاء أعمالهم التي ارتكبوها بمحض إرادتهم واختيارهم( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

وتصرّح من جانب آخر بأن( اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) وإنّ قانونه في الجزاء يدور على محور العدل المطلق ، وهذا هو نفس ما تعتقد به العدلية (وهم القائلون بالعدل الإلهي،وهم الشيعة وطائفة من أهل السنة المسمّون بالمعتزلة).

غير أنّ هناك في الطرف الآخر جماعة من أهل السنة «وهم الذين يسمّون بالأشاعرة» لهم اعتقاد غريب في هذا المجال فهم يقولون : إنّه تعالى هو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنّة لم يكن حيفا ، ولو أدخلهم النّار لم يكن جورا فلا يتصوّر منه ظلم ، ولا ينسب إليه جور(1) .

والآية الحاضرة تفند هذا النوع من الآراء والمقالات تفنيدا باتا ومطلقا وتقول بصراحة لا غبش فيها ولا غموض :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

__________________

(1) الملل والنحل للشهرستاني ، طبعة بيروت ، ج 1 ، ص 101 ، تحقيق محمّد سيد كيلاني.

٢٧

على أنّ لفظة «ظلام» صيغة مبالغة ، وتعني من يظلم كثيرا ، ولعل اختيار هذه الصيغة في هذا المكان مع أنّ الله سبحانه لا يظلم حتى إذا كان الظلم صغيرا ، لأجل أنّه إذا أجبر الناس على الكفر والمعصية ، وخلق فيهم دواعي العمل القبيح ودوافعه ، ثمّ عاقبهم على ما فعلوه بإجباره وإكراهه لم يكن بذلك قد ارتكب ظلما صغيرا فحسب ، بل كان «ظلاما».

* * *

٢٨

الآيتان

( الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) )

سبب النّزول

حضر جماعة من أقطاب اليهود عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : يا محمّد إنّ الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن زعمت أنّ الله بعثك إلينا فجئنا به نصدقك ، فأنزل الله هاتين الآيتين.

التّفسير

مغالطات اليهود وتعللاتهم :

كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيرا بهدف التملص من الانضواء تحت راية الإسلام.

ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول :( الَّذِينَ قالُوا

٢٩

إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) .

قال المفسرون : إن اليهود كانت تزعم أنّه يجب أن يكون للأنبياء خصوص هذه المعجزة ، وهي أن يقربوا قربانا فتنزل النّار من السماء وتأكل قربانهم ، ففي ذلك دلالة على صدق المقرب (أي صاحب القربان).

ولو أن اليهود كانوا صادقين في هذا الطلب ، وكانوا يريدون ـ حقّا ـ مثل هذا الأمر من باب إظهار الإعجاز ، وليس من باب العناد واللجاجة والمغالطة لكان من الممكن إعذارهم ، ولكن تاريخهم الغابر ، وكذا مواقفهم المشينة مع نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تثبت الحقيقة التالية ، وهي أنّهم لم يكونوا أبدا طلاب حقّ وبغاة علم ، بل كانوا يأتون كل يوم بمغالطة واقتراح جديد لمواجهة الجو الضاغط عليهم ، وما كان يخلقه القرآن من وضع محرج لهم بفضل ما كان يقيمه من براهين ساطعة وقوية ، وذلك فرارا من قبول الإسلام ، والانضواء تحت رايته ، وحتى لو أنّهم حصلوا على مقترحاتهم فإنّهم كانوا يمتنعون عن الإيمان ، بدليل أنهم كانوا قد قرءوا في كتبهم كل علائم نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنهم مع ذلك أبوا إلّا رفض الحقّ،وعدم الإذعان له.

يقول القرآن في مقام الردّ عليهم :( قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ؟ وفي ذلك إشارة إلى زكريا ويحيى وطائفة من الأنبياء الذين قتلوا على أيدي بني إسرائيل.

هذا ويذهب بعض متأخري المفسرين (مثل كاتب تفسير المنار) إلى احتمال آخر حول مسألة القربان خلاصته : إن مقصودهم لم يكن إن على النّبي أن يذبح قربانا وتنزل من السماء نار بطريقة إعجازية وتحرق ذلك القربان ، بل كان مرادهم هو أنّه كان في تعاليم دينهم نوع من هذا القربان الذي يذبح بطريقة خاصّة وفي مراسيم معينة ، ثمّ يحرق بالنّار وهو ما جاء شرحه في الفصل الأوّل من سفر «اللاويين» من التوراة (العهد القديم).

٣٠

إنّهم كانوا يقولون : إنّ الله عهد إلينا أن يبقي مثل هذا التعليم ، ومثل هذا القربان في كل دين سماوي ، وحيث إنّنا لا نجد مثل هذا الأمر في التعاليم الإسلامية لذلك فإننا لا نؤمن لك.

ولكن هذا الاحتمال بعيد عن تفسير الآية جدا لأنّه :

أوّلا : إنّ هذه الجملة قد عطفت في الآية الحاضرة على «البيّنات» ويظهر من ذلك أن مرادهم كان عملا إعجازيا،وهو لا ينطبق مع هذا الاحتمال.

وثانيا : إنّ ذبح حيوان ثمّ حرقه بالنار عمل خرافي ولا يمكن أن يكون من تعاليم الأنبياء وشرائعهم السماوية.

ثمّ يعقب سبحانه على الآية السابقة بقوله :( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) .

وفي هذه الآية يسلي الله سبحانه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : إن كذبتك هذه الجماعة فلا تقلق لذلك ولا تحزن ، فذلك هو دأبهم مع أنبياء سبقوك حيث كذبوهم ، وعارضوا دعوتهم بصلابة وعناد.

ولم يكن هؤلاء الأنبياء غير مزودين بما يبرهن على صدقهم ، بل( جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ ) .

وهنا لا بدّ من الانتباه إلى أن «زبر» وهو جمع (زبور) يعني كتابا أحكمت كتابة مواضيعه ، لأن الزبر أصلا من الكتابة ، لا مطلق الكتابة ، بل الكتابة المتقنة المحكمة.

وأمّا الفرق بين «الزبر» و «الكتاب المنير» مع أنّهما من جنس واحد هو الكتاب،فيمكن أن يكون بسبب أن الاوّل إشارة إلى كتب الأنبياء قبل موسىعليه‌السلام ، والثّاني إشارة إلى التوراة والإنجيل ، لأنّ القرآن الكريم عبر عنهما في سورة المائدة الآية 44، و 46 بالنّور إذ قال :( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ) ( وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُور ) .

٣١

هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من «الزّبور» هو تلك الكتب السماوية التي تحتوي على المواعظ والزواجر خاصّة (كما كان عليه الزبور المنسوب إلى داود الذي هو الآن بين الأيدي والذي يحتوي بأسره على المواعظ والزواجر) ولكن «الكتاب المنير» أو الكتاب السماوي فيطلق على ما يحتوي على التشريعات والقوانين والأحكام الفردية والاجتماعية.

* * *

٣٢

الآية

( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) )

التّفسير

الموت وقانونه العام :

تعقيبا على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية إلى قانون «الموت» العام وإلى مصير الناس في يوم القيامة ، ليكون ذلك تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين، وتحذيرا ـ كذلك ـ للمعارضين العصاة.

فهذه الآية تشير ـ أوّلا ـ إلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون وتقول :( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) .

والناس ، وإن كان أكثرهم يحب أن ينسى مسألة الفناء ويتجاهل الموت ، ولكن هذا الأمر حقيقة واقعة إن حاولنا تناسيها والتغافل عنها ، فهي لا تنسانا ، ولا تتغافل عنّا.

إنّ لهذه الحياة نهاية لا محالة ، ولا بدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه الموت كل أحد ، ولا يكون أمامه ـ حينئذ ـ إلّا أن يفارق هذه الحياة.

٣٣

إن المراد من «النفس» في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح ، وإن كانت النفس في القرآن تطلق أحيانا على خصوص «الرّوح» أيضا.

والتعبير بالتذوق إشارة إلى الإحساس الكامل ، لأن المرء قد يرى الطعام بعينيه أو يلمسه بيده ، ولكن كل هذه لا يكون ـ والأحرى لا يحقق الإحساس الكامل بالشيء، نعم إلّا أن يتذوق الطعام بحاسة الذوق فحينئذ يتحقق الإحساس الكامل ، وكأن الموت ـ في نظام الخلقة ـ نوع من الغذاء للإنسان والأحياء.

ثمّ تقول الآية بعد ذلك( وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي أنّه ستكون بعد هذه الحياة مرحلة أخرى هي مرحلة الثواب والعقاب ، وبالتالي الجزاء على الأعمال ، فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.

وعبارة «توفون» التي تعني إعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إعطاء الإنسان أجر عمله ـ يوم القيامة ـ وافيا وبدون نقيصة ، ولهذا لا مانع من أن يشهد الإنسان ـ في عالم البرزخ المتوسط بين الدنيا والآخرة ـ بعض نتائج عمله ، وينال قسطا من الثواب أو العقاب،لأن هذا الجزاء البرزخي لا يشكل الجزاء الكامل.

ثمّ قال سبحانه :( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ ) .

وكلمة «زحزح» تعني محاولة الإنسان لإخراج نفسه من تحت تأثير شيء ، وتخليصها من جاذبيته تدريجا.

وأمّا كلمة «فاز» فتعني في أصل اللغة «النجاة» من الهلكة ، ونيل المحبوب والمطلوب.

والجملة بمجموعها تعني أنّ الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية النّار ودخلوا الجنّة فقد نجوا من الهلكة ، ولقوا ما يحبونه ، وكأن النّار تحاول بكلّ طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها حقّا أنّ هناك عوامل عديدة تحاول أن تجذب الإنسان إلى نفسها،وهي على درجة كبيرة من الجاذبية.

أليس للشهوات العابرة ، واللذات الجنسية الغير المشروعة ، والمناصب،

٣٤

والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية؟؟

كما أنّه يستفاد من هذا التعبير أن الناس ما لم يسعوا ويجتهدوا لتخليص أنفسهم وتحريرها من جاذبية هذه العوامل المغرية الخداعة فإنّها ستجذبهم نحو نفسها تدريجا، وسيقعون في أسرها في نهاية المطاف.

أمّا إذا حاولوا من خلال تربية أنفسهم وترويضها ، وتمرينها على مقاومة هذه الجواذب والمغريات وكبح جماحها ، وبلغوا بها إلى مرتبة «النفس المطمئنة» كانوا من النّاجين الواقعيين، الذين يشعرون بالأمن والطمأنينة.

ثمّ يقول سبحانه في نهاية هذه الآية :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) .

وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنها تقول : إنّ هذه الحياة مجرّد لهو ومتاع تخدع الإنسان من بعيد ، فإذا بلغ إليها الإنسان ونال منها ولمسها عن كثب وجدها ـ على الأغلب ـ فراغا في فراغ وخواء في خواء ، وما متاع الغرور إلّا هذا.

هذا مضافا إلى أن اللذائذ المادية تبدو من بعيد وكأنها خالصة من كل شائبة ، وخالية من كل ما يكدرها ، حتى إذا اقترب إليها الإنسان وجدها ممزوجة بكل ألوان العناء والعذاب، وهذا جانب آخر من خداع الحياة المادية.

كما أنّ الإنسان ينسى ـ في أكثر الأحيان ـ طبيعته الفانية ، ولكنه سرعان ما ينتبه إلى أنّها سريعة الزوال ، قابلة للفناء.

إنّ هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيرا ، والهدف منها جميعا شيء واحد هو أن لا يجعل الإنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة الفانية الزّائلة هدفه الأخير،ومقصده الوحيد النّهائي الذي تكون نتيجته الغرق والارتطام في شتى ألوان الجريمة والمعصية، والابتعاد عن الحقيقة وعن التكامل الإنسانى ، وأمّا الانتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إلى التكامل الإنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط ، بل هو ضروري وواجب.

* * *

٣٥

الآية

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) )

سبب النّزول

عند ما هاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم ، راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إلى ممتلكاتهم ، وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها ، وإيذاء كلّ من وقعت عليه أيديهم والإيقاع فيه بالجهاء والاستهزاء.

وعند ما جاؤوا إلى المدينة ، واجهوا أذى اليهود القاطنين في المدينة ، خاصّة «كعب بن الأشرف» الذي كان شاعرا سليط اللسان ، فقد كان كعب هذا يهجو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ويحرض المشركين عليهم حتى أنّه كان يشبب بنساء المسلمين ويصف محاسنهن ويتغزل بهن.

وقد بلغت وقاحته مبلغا دفعت بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يأمر بقتله ، فقتل على أيدي المسلمين غيلة.

٣٦

والآية الحاضرة ـ حسب بعض الأحاديث المنقولة عن المفسرين ـ تشير إلى هذه الأمور وتحث المسلمين على مواصلة الصمود والمقاومة.

التّفسير

لا تتبعكم المقاومة :

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) أجل إنّ هذه الحياة ـ أساسا ـ ساحة اختبار ودار إمتحان ، فلا بدّ أن يتهيأ الإنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة،وهذا في الحقيقة تنبيه وتحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأن الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت ، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء ، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه ، وشعره.

ولهذا قال سبحانه :( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً ) .

إنّ مسألة التعرض الأذى المشركين اللساني وسبهم وشتمهم وهجائهم وإن كانت من إحدى الابتلاءات التي جاء ذكرها في مطلع الآية ، ولكنه ذكر هنا بخصوصه للأهمية الفائقة،لأن مثل هذا قلّما يتحمله الشرفاء من الناس لعظيم أثره في أرواحهم ونفوسهم ، ومن قديم قال الشاعر :

جراحات السنان لها التيام

ولا يلتام ما جرح اللسان

ثمّ أنّه سبحانه عقب على هذا الإنذار والتنبيه بقوله :( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) .

وبهذا يبيّن القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة ، ويدعوهم إلى

الصبر والاستقامة والصمود والتزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلنا بأن هذه الأمور من الأمور الواضحة النتائج،

٣٧

ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.

والعزم في اللغة هو «القرار المحكم» وربّما يطلق على مطلق الأمور المحكمة ، وعلى هذا فإن «عزم الأمور» يعني الأعمال البينة الرشد التي يجب على كل إنسان عاقل العزم عليها أو بمعنى كل أمر محكم يطمأن إليه.

واقتران الصبر بالتقوى في هذه الآية لعله إشارة إلى أن بعض الأشخاص قد يصبرون ولكنهم مع ذلك يظهرون الشكوى ، ويبدون التبرم بما لقوا ، ولكن المؤمنين الصادقين هم الذين يمزجون الصبر بالتقوى دائما وأبدا ويتجنبون مثل ذلك السلوك.

* * *

٣٨

الآية

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) )

التّفسير

بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إلى واحدة أخرى من تلك الأعمال والمخالفات ، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول :( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ) ، أي اذكروا إذ أخذ الله مثل هذا الميثاق منكم.

والملفت للنظر أن عبارة «لتبيّننه» جاءت مع لام القسم ، ونون التأكيد الثقيلة،وذلك نهاية في التأكيد.

ثمّ أردفها ـ مع ذلك ـ بقوله : «ولا تكتمونه» الذي هو أمر صريح بعدم الكتمان والإخفاء.

ومن كل هذه التعابير يتضح أو يستفاد أن الله سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب لإظهار الحقائق ، وبيانها ، ولكنّهم رغم كل ذلك ـ خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق ، وأخفوا ما أرادوا

٣٩

إخفائه من حقائق الكتب السماوية ، ولهذا قال سبحانه عنهم( فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ ) أنّها كناية رائعة عن عدم العمل بالواجب وتناسيه ، لأن الإنسان إذا عزم على العمل بشيء وأراد جعله ملاكا له ، فإن يجعله قدامه ، وينظر إليه مرة بعد اخرى ، ولكنه إذا لم يرد العمل به وأراد تناسيه بالمرة أزاحه من وجهه ، وألقاه خلف ظهره.

ثمّ أنّه سبحانه أشار إلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إذ يقول :( وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ) .

إن حبّهم الشديد للدنيا الذي بلغ حد العبادة ، وانحطاطهم الفكري آل بهم إلى أن يكتموا الحقائق لقاء مكاسب مادية ، ولكن الآية تقول : أنهم لم يشتروا بذلك ولم يكسبوا إلّا ثمنا قليلا ، وبئس ما يشترون.

ولو أنهم قد حصلوا لقاء كتمان الحقائق ـ هذه الجريمة الكبرى ـ على ثروة عظيمة وطائلة لكان ثمّة مجال لأن يقال : إنّ عظمة المال والثروة قد أعمت أبصارهم وأسماعهم،ولكن الذي يدعو إلى الدهشة والعجب أنّهم باعوا كلّ ذلك لقاء ثمن بخس ومتاع قليل ، (طبعا المقصود هنا هو علماؤهم الدنيئو الهمة).

العلماء والوظيفة الكبرى :

إن الآية الحاضرة وإن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إلّا أنّها في الحقيقة تحذير وإنذار لكل علماء الدين ورجاله بأن عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإلهية ، وتوضيحها وإظهارها بجلاء ، وإن ذلك ممّا كتبه الله عليهم،وأخذ منهم ميثاقا مؤكدا وغليظا.

إنّ كلمة «لتبيّننه» وما اشتقت منه في أصل اللغة في هذه الآية تكشف عن أنّ المقصود ليس هو فقط تلاوة آيات الله أو نشر ما احتوت عليه الكتب السماوية من كلمات وعبارات ، بل المقصود هو عرض ما فيها من الحقائق على الناس ،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

تلقفها يزيد عن أبيه

ودونكها معاوي عن يزيدا

أديروها ـ بني حرب ـ عليكم

ولا ترموا بها الغرض البعيدا

فإن دنياكم بكم اطمأنت

فأولوا أهلها خلقا جديدا

وإن عصفت عليكم فاعصفوها

عصافا تستقم لكم شديدا

ثم نزل يزيد في قبة خضراء لأبيه ، وهو معتم بعمامة خزّ سوداء ، متقلد بسيف أبيه ، فلما دخل نظر ، فإذا قد فرش له فيها فرش كثير ، بعضه على بعض ، فرقى عليها بالكرسي ، وصعد حتى جلس على تلك الفرش ، فدخل الناس عليه يهنونه بالخلافة ويعزونه ، وهو يقول : نحن أهل الحقّ ، وأنصار الدّين فابشروا يا أهل الشام! فإن الخير لم يزل فيكم ، وسيكون بينكم وبين أهل العراق ملحمة ، فإني رأيت في منامي قبل ثلاث ليال ، كأنّ بيني وبين أهل العراق نهرا يطرد بالدم العبيط ، ويجري جريا شديدا ، وجعلت أجهد في منامي أن أجوز ذلك النهر ، فلم أقدر على ذلك ، حتى جاءني ـ عبيد الله بن زياد ـ فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه.

فأجابه أهل الشّام وقالوا : امض بنا يا أمير المؤمنين! حيث شئت ، فنحن بين يديك ، وسيوفنا هي التي عرفها أهل العراق في يوم «صفين» ، فقال لهم : أنتم لعمري ، كذلك ، ثمّ قال : أيها الناس! إن معاوية كان عبدا من عباد الله ، أنعم الله عليه ، ثمّ قبضه إليه ، وهو خير ممن كان بعده ، ودون من كان قبله ، ولا ازكيه على الله ، فهو أعلم به مني ، فإن عفا عنه فبرحمته ، وإن عاقبه فبذنبه ، وقد وليت هذا الأمر من بعده ولست اقصر عن طلب حقّ ، ولا أعتذر من تفريط في باطل ، وإذا أراد الله شيئا كان.

فصاح الناس من كل جانب : سمعنا وأطعنا ، يا أمير المؤمنين!

قال : وبايعه النّاس كلهم ، وبايعوا ابنه ـ معاوية بن يزيد ـ بعده ،

٢٦١

وفتح بيوت الأموال ، فأخرج لأهل الشام أموالا جزيلة وفرقها عليهم ، وكتب إلى جميع البلاد بأخذ البيعة له ، فكان على المدينة يومئذ مروان بن الحكم فعزله وولى مكانه ابن عمّه ـ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ وكتب إليه :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة :

أما بعد ، فإن معاوية كان عبدا من عبيد الله أكرمه واستخلفه ومكن له ، ثمّ قبضه إلى روحه وريحانه ورحمته وثوابه ، عاش بقدر ومات بأجل ، وقد كان عهد إلي وأوصاني : أن أحذر ـ آل أبي تراب ـ وجرأتهم على سفك الدّماء ، وقد علمت يا وليد أن الله تعالى منتقم للمظلوم عثمان بن عفان من آل أبي تراب بآل سفيان ، لأنهم أنصار الحقّ وطلاب العدل ، فإذا ورد عليك كتابي هذا ، فخذ البيعة لي على جميع أهل المدينة.

قال : ثمّ كتب ـ صحيفة صغيرة ـ كأنها اذن فارة فيها :

أما بعد ـ فخذ الحسين ؛ وعبد الله بن عمر ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ وعبد الله بن الزبير ، بالبيعة أخذا عنيفا ليست فيه رخصة ، فمن أبى عليك منهم ، فاضرب عنقه ، وابعث إلي برأسه والسّلام.

٧ ـ أخبرني سيد الحفاظ أبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي ـ فيما كتب إلي من همدان ـ ، أخبرني زاهر بن طاهر النيسابوري ، أخبرني عبد الرحمن بن محمد الخسروردي ، أخبرني أحمد بن محمد بن حمدان ، أخبرني أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي ، عن الحكم بن موسى ، عن الوليد ابن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن أبي عبيدة بن الجراح قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يزال أمر امتي قائما بالقسط ، حتى يكون أول من

٢٦٢

يثلمه رجل من بني أميّة يقال له : يزيد». قال الحافظ : وأخرج هذا الخبر الحافظ ابن أبي اسامة ؛ وابن منيع في «مسنديهما».

٨ ـ أخبرني أبو منصور هذا ، أخبرنا أبو علي الحداد ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، أخبرنا العتابي ، أخبرنا أبو بكر بن عاصم ، حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثني أبي ، حدثني عوف ، عن المهاجر بن مخلد ، عن أبي العالية ، عن أبي ذرّ ، أنه قال ليزيد بن معاوية : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «أوّل من يبدل ديني رجل من بني اميّة».

٩ ـ قال أحمد بن أعثم الكوفي : فلمّا ورد الكتاب على الوليد بن عتبة وقرأه ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، يا ويح الوليد! ممن أدخله في هذه الامارة؟ مالي وللحسين بن فاطمة؟ ثمّ بعث إلى مروان فدعاه وأقرأه الكتاب فاسترجع مروان ، ثمّ قال : يرحم الله أمير المؤمنين معاوية ، فقال له الوليد : أشر عليّ برأيك في أمر هؤلاء القوم ، فقال مروان : أرى أن تبعث إليهم الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم ، وكففت عنهم ، وإن أبوا قدّمتهم وضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية ، فإنهم إن علموا بذلك ، وثب كلّ واحد منهم ، وأظهر الخلاف ، ودعا الى نفسه ، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به وما لا تقوم به ، إلا عبد الله بن عمر فإنه لا أراه ينازع في هذا أحد ، إلّا أن تأتيه الخلافة فيأخذها عفوّا ، فذر عنك ابن عمر ، وابعث الى الحسين بن علي ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ وعبد الله بن الزبير ، فادعهم إلى ـ البيعة ـ ، مع أني أعلم أن الحسين خاصة لا يجيبك إلى بيعة يزيد أبدا ، ولا يرى له عليه طاعة ، وو الله ، إني لو كنت بموضعك لم اراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب عنقه كائنا في ذلك ما كان.

٢٦٣

فأطرق الوليد برأسه إلى الأرض ساعة ، ثمّ رفع رأسه ، وقال : ليت الوليد لم يولد ، ولم يكن شيئا مذكورا ، ثم دمعت عيناه ، فقال له مروان : أيها الأمير! لا تجزع ممّا ذكرت لك ، فإن ـ آل أبي تراب ـ هم الأعداء من قديم الدهر ، ولا يزالون ، وهم الذين قتلوا عثمان ، وهم الذين ساروا إلى أمير المؤمنين معاوية فحاربوه ، وبعد فإني لست آمن أيها الأمير! إن لم تعاجل الحسين بن علي خاصة ، أن تسقط منزلتك من أمير المؤمنين يزيد؟

فقال له الوليد : مهلا ، ويحك دعني من كلامك هذا ، وأحسن القول في ـ ابن فاطمة ـ فإنّه بقيّة ولد النبيين ، ثم بعث الوليد إلى الحسين بن علي ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ وعبد الله بن عمر ؛ وعبد الله بن الزبير ؛ فدعاهم وأقبل إليهم رسوله ، وهو عمرو بن عثمان ـ ، فلم يصب القوم في منازلهم ، فمضى نحو ـ المسجد ـ فإذا هم عند قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فسلم عليهم ، ثم قال : الأمير يدعوكم فصيروا إليه.

فقال الحسين : «نفعل ذلك إذا نحن فرغنا من مجلسنا إن شاء الله».

قال : فانصرف الرسول إلى الوليد وأخبره بذلك ، وأقبل ـ عبد الله بن الزبير ـ على ـ الحسين ـ فقال : يا أبا عبد الله! إنّ هذه ساعة لم يكن الوليد بن عتبة يجلس فيها للناس ، وإني قد أنكرت بعثه إلينا ودعاءه إيانا في مثل هذا الوقت ، أفترى لما ذا بعث إلينا؟

فقال له الحسين : «أنا اخبرك : أظن أنّ معاوية قد مات ، وذلك إني رأيت البارحة في منامي كأنّ معاوية منكوس ، ورأيت النّار تشتعل في داره ، فتأولت ذلك في نفسي أن قد مات معاوية». فقال ابن الزبير : فاعلم أنّ ذلك كذلك ، فما ذا ترى نصنع يا أبا عبد الله! إن دعينا إلى ـ بيعة يزيد ـ.

فقال الحسين : «أما أنا فلا ابايع أبدا ، لأن الأمر كان لي بعد أخي

٢٦٤

الحسن ، فصنع معاوية ما صنع ، وكان حلف لأخي الحسن : أن لا يجعل الخلافة لأحد من ولده ، وأن يردّها عليّ إن كنت حيا ، فان كان معاوية خرج من دنياه ولم يف لي ، ولا لأخي بما ضمن ، فقد جاءنا ما لا قرار لنا به ، أتظن أبا بكر! أني ابايع ليزيد ، ويزيد رجل فاسق ، معلن بالفسق ، يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب والفهود ، ونحن بقية آل الرسول ، لا ، والله ، لا يكون ذلك أبدا».

قال : فبينا هما كذلك في المحاورة إذ رجع الرسول فقال : أبا عبد الله! إنّ الأمير قاعد لكما خاصة ، فقوما إليه ، فزبره الحسين وقال : «انطلق إلى أميرك لا أمّ لك ، فمن أحب أن يصير إليه منا فإنه صائر إليه ، فأما أنا فإني أصير إليه الساعة إن شاء الله ، ولا قوة إلّا بالله».

فرجع الرسول أيضا إلى الوليد ، فقال : أصلح الله الأمير ، أما الحسين ابن عليّ خاصة ، فإنه صائر إليك في أثري فقد أجاب ، فقال مروان : غدر والله الحسين ، فقال الوليد : مهلا ، فليس مثل الحسين يغدر ، ولا يقول شيئا ثمّ لا يفعل.

قال : ثمّ إن الحسين أقبل على من معه ، وقال : «صيروا إلى منازلكم ، فإني صائر إلى الرجل فانظر ما عنده ، وما يريد»؟ ، فقال له ابن الزبير : جعلت فداك! إني خائف عليك أن يحبسوك عندهم ، فلا يفارقونك أبدا ، دون أن تبايع أو تقتل.

فقال الحسين : «إني لست أدخل عليه وحدي ، ولكني أجمع إلي أصحابي وخدمي وأنصاري وأهل الحق من شيعتي ، ثمّ آمرهم أن يأخذ كلّ واحد منهم سيفه ، مسلولا تحت ثيابه ، ثم يصيروا بازائي ، فإذا أنا أومأت إليهم ، وقلت : يا آل الرسول! ادخلوا ، فعلوا ما أمرتهم به ، فأكون على

٢٦٥

الامتناع دون المقادة والمذلة في نفسي ، فقد علمت ، والله أنه جاء من الأمر ما لا أقوم به ، ولا أقرّ له ، ولكن قدر الله ماض ، وهو الذي يفعل في أهل بيت رسول الله ما يشاء ويرضى».

ثم قام وصار إلى منزله ، فدعا بماء فتطهر واغتسل ، وصلّى ركعتين ، ودعا ربه بما أحبّ أن يدعو به ، فلما انفتل من صلاته أرسل إلى فتيانه وعشيرته ومواليه وأهل بيته ، وأعلمهم شأنه ، وقال : «كونوا بباب هذا الرجل ، فإني ماض إليه ومكلّمه ، فإن سمعتم صوتي وكلامي قد علا مع القوم ، وصحت بكم : يا آل الرسول! فاقتحموا بغير إذن ، ثمّ اشهروا السيوف ولا تعجلوا ، فإن رأيتم ما تخشون فضعوا سيوفكم فيهم ، واقتلوا من أراد قتلي».

ثمّ خرج الحسين من منزله وفي يده قضيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في ثلاثين رجلا من أهل بيته ومواليه وشيعته ، فوقفهم على باب الوليد ، ثمّ قال : «انظروا ما أوصيتكم به ، فلا تعدوه ، وأنا أرجو أن أخرج إليكم سالما إن شاء الله» ، ثمّ دخل على الوليد فسلّم عليه بالإمرة ، وقال : كيف أصبح الأمير اليوم؟ وكيف حاله؟ فردّ عليه الوليد ردا حسنا ، ثمّ أدناه وقربه ، ومروان هنالك جالس ، وقد كان بين مروان والوليد منافرة ومنازعة ، فلما نظر الحسين إلى مروان جالسا في مجلس الوليد ، قال : «أصلح الله الأمير ، الصلاح خير من الفساد ، والصلة خير من الشحناء ، وقد آن لكما أن تجتمعا ، فالحمد لله الذي أصلح ذات بينكما» ، فلم يجيباه في هذا بشيء ، فقال الحسين : هل ورد عليكم من معاوية خبر ، فإنه كان عليلا ، وقد طالت علته ، فكيف هو الآن ، فتأوّه الوليد وتنفس الصعداء ، وقال : يا أبا عبد الله! آجرك الله في معاوية ، فقد كان لكم عمّ صدق ووالي عدل ، لقد ذاق الموت ،

٢٦٦

وهذا كتاب أمير المؤمنين يزيد.

فقال الحسين : «إنا لله وإنا إليه راجعون ، وعظّم الله لك الأجر أيها الأمير! ، ولكن لما ذا دعوتني»؟ فقال : دعوتك للبيعة التي قد اجتمع الناس عليها ، فقال الحسين : «أيها الأمير! إنّ مثلي لا يعطي بيعته سرا ، وإنما يجب أن تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة ، فإذا دعوت النّاس غدا إلى البيعة دعوتنا معهم ، فيكون الأمر واحدا» ، فقال الوليد : أبا عبد الله! والله ، لقد قلت فأحسنت القول ، وأجبت جواب مثلك ، وهكذا كان ظني بك ، فانصرف راشدا ، وتأتينا غدا مع النّاس.

فقال مروان : أيها الأمير! إن فارقك الساعة ولم يبايع ، فإنك لم تقدر منه على مثلها أبدا ، حتّى تكثر القتلى بينك وبينه ، فاحبسه عندك ، ولا تدعه يخرج ، أو يبايع وإلا فاضرب عنقه.

فالتفتّ إليه الحسين وقال : «ويلي عليك ، يا ابن الزرقاء! أتأمر بضرب عنقي ، كذبت والله ، ولؤمت ، والله لو رام ذلك أحد لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك ، فإن شئت ذلك فرم أنت ضرب عنقي إن كنت صادقا» ثمّ أقبل الحسين على الوليد ، فقال : «أيها الأمير! إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ؛ ومختلف الملائكة ؛ ومهبط الرحمة ؛ بنا فتح الله وبنا ختم ؛ ويزيد رجل فاسق شارب خمر ؛ قاتل نفس ؛ معلن بالفسق ، فمثلي لا يبايع لمثله ولكن نصبح وتصبحون ؛ وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»؟

قال : وسمع من بالباب صوت الحسين ، وقد علا فهمّوا أن يقتحموا عليهم بالسيوف ، ولكن خرج إليهم الحسين ، فأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ، وذهب إلى منزله.

فقال مروان للوليد : عصيتني أيها الأمير! حتى أفلت الحسين من

٢٦٧

يديك ، أم والله ، لا تقدر منه على مثلها أبدا ، وو الله ، ليخرجنّ عليك وعلى أمير المؤمنين فاعلم ذلك ، فقال الوليد لمروان : ويحك ، إنك قد أشرت عليّ بقتل الحسين ، وفي قتله : ذهاب ديني ودنياي ، والله ، إني لا احب أن أملك الدّنيا بأسرها شرقها وغربها وإني قتلت ـ الحسين بن فاطمة ـ ، والله ، ما أظن أحدا يلقى الله يوم القيامة بدمه إلّا وهو خفيف الميزان عند الله ، لا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.

قال : وأصبح الحسين من غده يستمع الأخبار فاذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه ، فقال : أبا عبد الله! إني لك ناصح فأطعني ترشد وتسدد ، فقال : «وما ذاك؟ قل أسمع» ، فقال : إني أرشدك لبيعة يزيد ، فإنها خير لك في دينك وفي دنياك ، فاسترجع الحسين ، وقال : «إنا لله وإنا إليه راجعون ، وعلى الإسلام السّلام إذا بليت الامة براع مثل يزيد ، ثم قال : يا مروان! أترشدني لبيعة يزيد ، ويزيد رجل فاسق ، لقد قلت شططا من القول وزللا ، ولا ألومك فإنك ـ اللعين ـ الذي لعنك رسول الله ، وأنت في صلب أبيك ـ الحكم بن العاص ـ ، ومن لعنه رسول الله فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد ، إليك عني يا عدو الله! فإنّا أهل بيت رسول الله ، الحقّ فينا ينطق على ألسنتنا ، وقد سمعت جدّي رسول الله يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فأبقروا بطنه ، ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول الله فلم يفعلوا به ما امروا ، فابتلاهم بابنه يزيد».

فغضب مروان من كلام الحسين فقال : والله ، لا تفارقني حتّى تبايع ليزيد صاغرا ، فإنكم ـ آل أبي تراب ـ قد ملئتم شحناء ، واشربتم بغض ـ آل أبي سفيان ـ ، وحقيق عليهم أن يبغضوكم.

٢٦٨

فقال الحسين : «إليك عني ، فإنك رجس ، وإني من أهل بيت الطهارة قد أنزل الله فينا :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) » الأحزاب / ٣٣ ، فنكس رأسه ولم ينطق. ثمّ قال له الحسين : «ابشر ، يا ابن الزرقاء! بكل ما تكره من رسول الله ، يوم تقدم على ربّك فيسألك جدي عن حقي وحق يزيد» ، فمضى مروان الى الوليد وأخبره بمقالة الحسين.

قال : وكان ـ عبد الله بن الزبير ـ مضى إلى مكة حين اشتغلوا بمحاورة الحسين ، وتنكب الطريق ، فبعث الوليد بثلاثين رجلا في طلبه ، فلم يقدروا عليه ، فكتب الوليد إلى يزيد يخبره بما كان من أمر ابن الزبير ؛ ومن أمر الحسين ، وأنّه لا يرى عليه طاعة ولا بيعة.

فلما ورد الكتاب على يزيد غضب غضبا شديدا ، وكان إذا غضب احولّت عيناه ، فكتب إلى الوليد :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة

أما بعد ، فإذا ورد عليك كتابي هذا ، فخذ البيعة ثانية على ـ أهل المدينة ـ توكيدا منك عليهم ، وذر عبد الله بن الزبير فإنه لن يفوتنا ، ولن ينجو منا أبدا ما دمنا أحياء ، وليكن مع جواب كتابي هذا رأس الحسين ، فإن فعلت ذلك ، جعلت لك أعنة الخيل ، ولك عندي الجائزة العظمى ؛ والحظ الأوفر ، والسّلام.

فلما ورد الكتاب على الوليد أعظم ذلك ، وقال : والله ، لا يراني الله ، وأنا قاتل الحسين بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو جعل لي يزيد الدنيا وما فيها.

قال : وخرج الحسين من منزله ذات ليلة وأتى قبر جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «السلام عليك يا رسول الله! أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ،

٢٦٩

وسبطك والثقل الذي خلفته في امتك ، فاشهد عليهم ، يا نبيّ الله! أنهم قد خذلوني ، وضيّعوني ، ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك ـ صلّى الله عليك». ثم صفّ قدميه ، فلم يزل راكعا ساجدا.

قال : وأرسل الوليد بن عتبة إلى منزل الحسين لينظر : أخرج من المدينة أم لا؟ فلم يصب في منزله ، فقال : الحمد لله إذ خرج ولم يبتلني الله في دمه ، قال : ورجع الحسين إلى منزله عند الصبح.

وذكر الثقة ، عن أبي سعيد المقبري ، أنه قال : رأيت الحسين يدخل مسجد المدينة معتمدا على رجلين يمينا وشمالا ، حين ورد خبر وفاة معاوية فسمعته ينشد :

لا ذعرت السوام في فلق الصبح

مغيرا ولا دعيت يزيدا

يوم اعطي مخافة الموت كفّا

والمنايا يرصدنني أن أحيدا

قال أبو سعيد : فعلمت حين سمعت ذلك منه أنّه سيمتنع.

رجعنا إلى حديث ابن أعثم الكوفي ، قال : فلما كانت الليلة الثالثة خرج إلى القبر أيضا ، فصلّى ركعات ، فلما فرغ من صلاته جعل يقول : «اللهمّ! إنّ هذا قبر نبيك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا ابن بنت نبيك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللهمّ! إني احب المعروف وأنكر المنكر ، وإني أسألك يا ذا الجلال والإكرام! بحق هذا القبر ومن فيه إلّا اخترت لي من أمري ما هو لك رضى ، ولرسولك رضى ، وللمؤمنين رضى».

ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريبا من الصبح ، وضع رأسه على القبر فأغفى ، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله ، وبين يديه ومن خلفه ، فجاء حتى ضم الحسين إلى صدره ، وقبّل بين عينيه ، وقال : «حبيبي يا حسين! كأني أراك عن قريب مرملا بدمائك ،

٢٧٠

مذبوحا بأرض كربلاء ، بين عصابة من امتي ، وأنت في ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم في ذلك يرجون شفاعتي ، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة؟ وما لهم عند الله من خلاق ، حبيبي يا حسين! إن أباك وامك وأخاك قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون ، وان لك في الجنّة لدرجات لن تنالها إلّا بالشهادة».

قال : فجعل الحسين في منامه ينظر إلى جده محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ويسمع كلامه ، ويقول له : «يا جداه! لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك إلى قبرك» ، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا حسين! لا بدّ لك من الرجوع الى الدّنيا حتى ترزق الشهادة ، وما قد كتب الله لك من الثواب العظيم ، فإنك ؛ وأباك ؛ وامّك ؛ وأخاك ؛ وعمك ؛ وعمّ أبيك ، تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنّة».

قال : فانتبه الحسين من نومه فزعا مرعوبا ، فقص رؤياه على أهل بيته ؛ وبني عبد المطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في شرق ولا غرب قوم أشد غماء من أهل بيت رسول الله ولا أكثر باكيا ولا باكية. قال : وتهيأ الحسينعليه‌السلام ، وعزم على الخروج من المدينة ، ومضى في جوف اللّيل الى قبر أمه ، فصلّى عند قبرها وودعها ، ثم قام من قبرها ، وصار إلى قبر أخيه الحسنعليه‌السلام ففعل كذلك ، ثم رجع إلى منزله في وقت الصبح ، فأقبل إليه أخوه ـ محمد بن الحنفية ـ ، فقال له : يا أخي! فديتك نفسي أنت أحبّ الناس إلي وأعزهم عليّ ، ولست والله أدخر النصيحة لأحد من الخلق ، وليس أحد أحق بها منك لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري ، وكبير أهل بيتي ، ومن وجب طاعته في عنقي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد شرفك وجعلك من سادات أهل الجنّة ، إني اريد أن اشير عليك فاقبل مني.

٢٧١

فقال له الحسين : «قل ، يا أخي! ما بدا لك»؟ فقال : اشير عليك أن تتنحى بنفسك عن يزيد بن معاوية ، وعن الأمصار ما استطعت ، وأن تبعث رسلك إلى الناس فتدعوهم إلى بيعتك ، فإن بايعك الناس حمدت الله على ذلك ، وقمت فيهم بما كان يقومه رسول الله ، والخلفاء الراشدون المهديون من بعده ، حتى يتوفاك الله وهو عنك راض ، والمؤمنون عنك راضون ، كما رضوا عن أبيك وأخيك ، وإن اجتمع الناس على غيرك حمدت الله على ذلك وسكت ولزمت منزلك ، فإني خائف عليك أن تدخل مصرا من الأمصار ، أو تأتي جماعة من النّاس فيقتتلون ، فتكون طائفة منهم معك ، وطائفة عليك فتقتل بينهم.

فقال له الحسين : «يا أخي! فإلى أين أذهب»؟ قال : تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار بها ، فذاك الذي تحب ، وإن تكن الاخرى خرجت إلى ـ بلاد اليمن ـ فإنهم أنصار جدك وأبيك وأخيك ، وهم أرأف وأرق قلوبا ، وأوسع الناس بلادا ، وأرجحهم عقولا ، فإن اطمأنت بك ـ أرض اليمن ـ فذاك ، وإلّا لحقت بالرمال ، وشعوب الجبال ، وصرت من بلد إلى بلد ، حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.

فقال له الحسين : «يا أخي! والله ، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى ، لما بايعت يزيد بن معاوية ، قد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهمّ! لا تبارك في يزيد ، فقطع محمد الكلام وبكى ، فبكى معه الحسين ساعة ، ثم قال : «يا أخي! جزاك الله عني خيرا ، فلقد نصحت ، وأشرت بالصواب ، وأرجو أن يكون رأيك موفقا مسددا ، وأنا عازم على الخروج إلى مكة ، وقد تهيأت لذلك : أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ، ممن أمرهم أمري ورأيهم رأيي ، وأما أنت ، يا أخي! فلا عليك أن تقيم في ـ المدينة ـ فتكون لي عينا عليهم ،

٢٧٢

ولا تخف عليّ شيئا من امورهم». ثم دعا الحسينعليه‌السلام بدواة وبياض ، وكتب فيها هذه الوصية لأخيه محمد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

«هذا ما أوصى به ـ الحسين بن عليّ بن أبي طالب ـ إلى أخيه ـ محمد ابن علي ـ المعروف «بابن الحنفية» ، إن الحسين بن علي يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، جاء بالحق من عند الحق ، وأن الجنّة والنار حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور.

إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمّة جدي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي محمد ، وسيرة أبي علي بن أبي طالب ، وسيرة الخلفاء الراشدين.

فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحقّ ، ومن ردّ عليّ هذا ، صبرت حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ ، ويحكم بيني وبينهم ، وهو خير الحاكمين. هذه وصيتي إليك ، يا أخي! وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه انيب ، والسلام عليك ، وعلى من اتّبع الهدى ، ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم».

ثمّ طوى الحسين كتابه هذا ، وختمه بخاتمه ، ودفعه إلى أخيه محمّد ، ثمّ ودّعه وخرج في جوف اللّيل يريد «مكّة» في جميع أهل بيته ، وذلك لثلاث ليال مضين من شهر شعبان سنة ستين ، فلزم الطريق الأعظم فجعل يسير وهو يتلو هذه الآية :( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) القصص / ٢١.

٢٧٣

فقال له ابن عمه ـ مسلم بن عقيل بن أبي طالب ـ : يا بن رسول الله! لو عدلنا عن الطريق ، وسلكنا غير الجادة ، كما فعل ـ عبد الله بن الزبير ـ كان عندي خير رأي ، فإني أخاف أن يلحقنا الطلب.

فقال له الحسين : «لا ، والله يا ابن عم! لا فارقت هذا الطريق أبدا ، أو أنظر إلى أبيات مكة ويقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى».

فبينا ـ الحسين ـ كذلك بين ـ مكة والمدينة ـ إذ استقبله ـ عبد الله بن مطيع العدوي ـ ، فقال له : اين تريد؟ يا أبا عبد الله! جعلني الله فداك ، فقال : «أما في وقتي هذا ، فإني اريد مكة فإذا صرت إليها استخرت الله في أمري بعد ذلك» فقال له عبد الله بن مطيع : خار الله لك ، يا ابن رسول الله! فيما قد عزمت عليه ، غير أني اشير عليك بمشورة فاقبلها مني ، فقال له الحسين : «وما هي؟ يا ابن مطيع! فقال : إذا أتيت مكة فاحذر أن يغرك ـ أهل الكوفة ـ فإنّ فيها قتل أبوك ؛ وطعن أخوك بطعنة كادت أن تأتي على نفسه فيها ، فالزم الحرم فأنت سيد العرب في دهرك هذا ، فو الله ، لئن هلكت ليهلكن أهل بيتك بهلاكك!.

فودعه الحسين ودعا له بالخير ، وسار حتى وافى مكة فلما نظر إلى جبالها من بعيد ، جعل يتلو هذه الآية :( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ) القصص / ٢٢ ، انتهى.

٢٧٤

الفصل العاشر

في ما جرى من أحوال الحسينعليه‌السلام مدة

مقامه بمكة وما ورده من كتب أهل الكوفة

وارسال مسلم بن عقيل الى الكوفة ومقتله بهاقدس‌سره

٢٧٥
٢٧٦

١ ـ قال الإمام أحمد بن أعثم الكوفي : ولما دخل الحسين مكة ، فرح به أهلها فرحا شديدا ، وجعلوا يختلفون إليه غدوة وعشية ، وكان قد نزل بأعلى مكة وضرب هناك فسطاطا ضخما ، ونزل ـ عبد الله بن الزبير ـ داره «بقيقعان».

ثم تحوّل الحسين إلى ـ دار العباس ـ حوله إليها ـ عبد الله بن عباس ـ ، وكان أمير مكّة من قبل ـ يزيد ـ يومئذ ـ عمر بن سعد بن أبي وقاص ـ ، فأقام الحسين مؤذنا يؤذن رافعا صوته فيصلي بالناس ، وهاب ابن سعد أن يميل الحجاج مع الحسين لما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق ، فانحدر إلى المدينة ، وكتب بذلك إلى ـ يزيد ـ ، وكان ـ الحسين ـ أثقل خلق الله على عبد الله بن الزبير لأنه كان يطمع أن يتابعه أهل مكة ، فلما قدم الحسين اختلفوا إليه وصلوا معه ، ومع ذلك فقد كان عبد الله يختلف إليه بكرة وعشية ويصلّي معه.

قال : وبلغ أهل الكوفة : إن الحسين صار إلى مكة ، وأقام الحسين بمكة

٢٧٧

باقي شهر شعبان ؛ وشهر رمضان ؛ وشوال ؛ وذي القعدة ، وبمكة يومئذ ـ عبد الله بن عبّاس ؛ وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، فأقبلا جميعا وقد عزما أن ينصرفا إلى المدينة ، حتى دخلا على الحسين ، فقال عبد الله بن عمر : يا أبا عبد الله! اتّق الله ، رحمك الله الذي إليه معادك ، فقد عرفت عداوة هذا البيت لكم ؛ وظلمهم إياكم ؛ وقد ولي النّاس هذا الرجل يزيد بن معاوية ، ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء فيقتلوك ، ويهلك فيك بشر كثير ، فإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «حسين مقتول ، فلئن خذلوه ولم ينصروه ليخذلنهم الله إلى يوم القيامة» ، وأنا اشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه النّاس ، وتصبر كما صبرت لمعاوية من قبل ، فلعلّ الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين.

فقال له الحسين : «يا أبا عبد الرّحمن! أنا ابايع يزيد ، وأدخل في صلحه ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أبيه ما قاله».

فقال ابن عبّاس : صدقت ، يا أبا عبد الله! قد قال النبي : «مالي وليزيد ، لا بارك الله في يزيد ، فإنه يقتل ولدي ، وولد ابنتي الحسين بن علي ، فو الذي نفسي بيده ، لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه ، إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم» ، ثمّ بكى ابن عباس وبكى معه الحسين.

ثمّ قال له : «يا بن عباس! أتعلم أني ابن بنت رسول الله»؟ فقال : اللهمّ! نعم ، لا نعرف في الدنيا أحدا هو ابن بنت رسول الله غيرك ، وإن نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصيام والزكاة ؛ التي لا تقبل إحداهما دون الأخرى.

فقال الحسين : «يا بن عبّاس! فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله من وطنه وداره ؛ وموضع قراره ومولده ؛ وحرم رسوله ؛

٢٧٨

ومجاورة قبره ؛ ومسجده ؛ وموضع مهاجرته وتركوه خائفا مرعوبا : لا يستقر في قرار ، ولا يأوي إلى وطن ، يريدون بذلك قتله ، وسفك دمه ، وهو لم يشرك بالله شيئا ، ولا اتخذ دون الله وليا ، ولم يتغير عما كان عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفاؤه من بعده».

فقال ابن عباس : ما أقول فيهم ، إلّا أنهم كفروا بالله ورسوله( وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى ) التوبة / ٥٤ ،( يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ) النساء / ١٤٢ و ١٤٣ ، فعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى ، وأما أنت أبا عبد الله! فإنّك رأس الفخار ، ابن رسول الله ، وابن وصيه ، وفرخ الزهراء نظيرة البتول ، فلا تظن يا ابن رسول الله بأنّ الله غافل عما يعمل الظالمون ، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك ومجاورة بنيك( وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) البقرة / ٢٠٠.

فقال الحسين : اللهمّ! اشهد ، فقال ابن عباس : جعلت فداك ، يا ابن رسول الله! كأنك تنعى إليّ نفسك ، وتريد مني أن أنصرك ، فو الله ، الذي لا إله إلّا هو لو ضربت بين يديك بسيفي حتى ينقطع وتنخلع يداي جميعا لما كنت أبلغ من حقك عشر العشير ، وها أنا بين يديك فمرني بأمرك.

فقال ابن عمر : اللهمّ! عفوا ، ذرنا من هذا يا ابن عباس! ثم اقبل ابن عمر على الحسين ، وقال له : مهلا ، أبا عبد الله عما أزمعت عليه ، وارجع معنا إلى المدينة ، وادخل في صلح القوم ، ولا تغب عن وطنك ، وحرم جدّك ، ولا تجعل لهؤلاء القوم الذين لا خلاق لهم على نفسك حجّة وسبيلا ، وإن أحببت أن لا تبايع فإنك متروك حتّى ترى رأيك ، فإنّ يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلّا قليلا ، فيكفيك الله أمره.

فقال الحسين : «اف لهذا الكلام أبدا! ما دامت السماوات والأرض ،

٢٧٩

أسألك بالله يا أبا عبد الرّحمن! أعندك أني على خطأ من أمري هذا ، فإن كنت على خطأ فردني عنه ، فإني أرجع وأسمع وأطيع».

فقال ابن عمر : اللهمّ! لا ، ولم يكن الله تبارك وتعالى ليجعل ابن بنت رسوله على خطأ ، وليس مثلك في طهارته وموضعه من الرسول ، أن يسلم على يزيد بن معاوية باسم الخلافة ، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف ، وترى من هذه الامة ما لا تحب ، فارجع معنا إلى المدينة ، وإن شئت أن لا تبايع فلا تبايع أبدا ، واقعد في منزلك.

فقال له الحسين : «هيهات ، يا بن عمر! إنّ القوم لا يتركوني ، إن أصابوني وإن لم يصيبوني ، فإنهم يطلبوني ابدا حتى ابايع وأنا كاره ، أو يقتلوني ، ألا تعلم ، أبا عبد الرحمن! أنّ من هوان هذه الدنيا على الله أن يؤتى برأس ـ يحيى بن زكريا ـ إلى بغي من بغايا بني إسرائيل ، والرأس ينطق بالحجة عليهم ، فلم يضر ذلك يحيى بن زكريا بل ساد الشهداء ، فهو سيدهم يوم القيامة؟ ألا تعلم ، أبا عبد الرحمن أن ـ بني إسرائيل ـ كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ـ سبعين نبيا ـ ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون ، كأنهم لم يصنعوا شيئا ، فلم يعجل الله عليهم ، ثم أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام؟ فاتّق الله ، يا أبا عبد الرحمن! ولا تدعن نصرتي ، واذكرني في صلاتك ، فو الذي بعث جدي محمدا بشيرا ونذيرا ، لو أن أباك ـ عمر بن الخطاب ـ أدرك زماني ، لنصرني كما نصر جدي ، ولقام من دوني كقيامه من دون جدي ، يا بن عمر! فإن كان الخروج معي يصعب عليك ويثقل ، فأنت في أوسع العذر ، ولكن لا تتركن لي الدعاء في دبر كلّ صلاة واجلس عن القوم ولا تعجل بالبيعة لهم ، حتّى تعلم ما تؤول إليه الامور». ثم أقبل على عبد الله بن عبّاس ، وقال له :

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360