مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ١

مقتل الحسين للخوارزمى16%

مقتل الحسين للخوارزمى مؤلف:
المحقق: الشيخ محمد السماوي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
ISBN: 964-6223-01-X
الصفحات: 360

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18382 / تحميل: 4844
الحجم الحجم الحجم
مقتل الحسين للخوارزمى

مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ١

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٦٢٢٣-٠١-X
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

والإدلال به، أمّا السرور به مع التواضع للّه تعالى، والشكر له على توفيقه لطاعتِه، فذلك ممدوحٌ ولا ضيرَ فيه.

مساوئ العجُب:

للعجُب أضرارٌ ومساوئ:

١ - إنّه سببُ الأنانيّة والتكبّر، فمَن أُعجِب بنفسه إزدهاه العُجُب، وتعالى على الناس، وتجبّر عليهم، وذلك يُسبّب مقت الناس وهوانهم له.

٢ - إنّه يعمي صاحبه عن نقائصه ومساوئه، فلا يهتم بتجميل نفسه، وملافاة نقائصه، ممّا يجعله في غمرة الجهل والتخلّف.

٣ - إنّه باعث على استكثار الطاعة، والإدلال بها، وتناسي الذنوب والآثام، وفي ذلك أضرارٌ بليغة، فتناسي الذنوب يُعيق عن التوبة والإنابة إلى اللّه عزّ وجل منها، ويعرّض ذويها لسخطِه وعقابه، واستكثار الطاعة والعبادة يكدّرها بالعُجب والتعامي عن آفاتها، فلا تنال شرف الرضا والقبول من المولى عزّ وجل.

علاج العُجُب:

وحيث كان العُجب والتكبر صنوين من أصل واحد، وإن اختلفا في الاتجاه، فالعجب كما أسلفنا استعظام النفس مجرداً عن التعالي، والتكبر

١٤١

هما معاً، فعلاجهما واحد، وقد أوضحناه في بحث التكبّر.

وجدير بالمعجَب بنفسه، أنْ يدرك أنّ جميع ما يبعثه على الزهو والإعجاب، من صنوف الفضائل والمزايا، إنّما هي نِعَمٌ إلهيّة يُسديها المولى إلى مَن شاء مِن عباده، فهي أحرى بالحمد، وأجدَر بالشكر مِن العُجب والخُيَلاء.

وهي إلى ذلك عُرضةً لصروف الأقدار، وعوادي الدهر، فما للإنسان والعجُب !!

ومِن طريف ما نُقِل عن بعض الصُلَحاء في ملافاة خواطر العجُب:

قيل: إنّ بعضهم خرَج في جُنح الظلام متّجهاً إلى بعض المشاهد المشرّفة، لأداء مراسم العبادة والزيارة، فبينا هو في طريقه إذ فاجأه العجُب بخروجه سَحَرَاً، ومجافاته لذّة الدفء وحلاوة الكَرى مِن أجل العبادة.

فلاح له آنذاك، بائع شلغم فانبرى نحوه، فسأله كم تربح في كسبك وعناء خروجك في هذا الوقت ؟ فأجابه: دِرهَمين أو ثلاث، فرجع إلى نفسه مخاطباً لها علام العجُب ؟ وقيمة إسحاري لا تزيد عن دِرهَمين أو ثلاث.

ونُقِل عن آخر: أنّه عمِل في ليلة القدر أعمالاً جمّةً مِن الصلوات والدعوات والأوراد، استثارت عُجُبه، فراح يُعالِجه بحكمةٍ وسداد: فقال لبعض المتعبّدين: كم تتقاضى على القيام بأعمال هذه الليلة، وهي كيت وكيت. فقال: نصف دينار، فرجع إلى نفسه مؤنّباً لها وموحياً إليها، علام العُجُب وقيمة أعمالي كلّها نصف دينار ؟

١٤٢

اليقين

وهو: الاعتقاد بأُصول الدين وضروراته، اعتقاداً ثابتاً، مطابقاً للواقع، لا تُزَعزِعه الشُبَه، فإنْ لم يُطابق الواقع فهو جهلٌ مركّب.

واليقين هو غرّة الفضائل النفسيّة، وأعزّ المواهب الإلهيّة، ورمز الوعي والكمال، وسبيل السعادة في الدارَين. وقد أولته الشريعة اهتماماً بالغاً ومجّدت ذويه تمجيداً عاطراً، وإليك طرفاً منه:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الإيمان أفضل من الإسلام، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان، وما مِن شيءٍ أعزّ مِن اليقين )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند اللّه مِن العمل الكثير على غير يقين )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مِن صحّة يقين المرء المسلم، أنْ لا يُرضي الناس بسخطِ اللّه، ولا يلومَهم على ما لم يأته اللّه، فإنّ الرزق لا يسوقه حِرصُ حريص، ولا يردّه كراهيّة كاره، ولو أنّ أحدَكم فرّ مِن رزقه كما يفرّ مِن الموت، لأدركه رِزقه كما يدركه الموت ).

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٥٧ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٦٠ عن الكافي.

١٤٣

ثمّ قال: ( إنّ اللّه بعدلِه وقسطه جعَل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحُزن في الشكّ والسخط )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: ( لا يَجدُ عبدٌ طعمَ الإيمان، حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يَكن ليُصيبه، وأنّ الضارّ النافع هو اللّه تعالى )(٢).

وسُئل الامام الرضاعليه‌السلام عن رجلٍ يقول بالحقّ ويُسرف على نفسه، بشرب الخمر ويأتي الكبائر، وعن رجلٍ دونه في اليقين وهو لا يأتي ما يأتيه، فقالعليه‌السلام : ( أحسنهما يقيناً كالنائم على المحجّة، اذا انتبه ركبَها، والأدوَن الذي يدخله الشكّ كالنائم على غير طريق، لا يدري اذا انتبه أيّهما المحجّة )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شابٍّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّاً لونه، قد نحُف جِسمه، وغارَت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه: كيف أصبحت يا فلان ؟ قال: أصبحت يا رسول اللّه موقناً، فعجِب رسول اللّه مِن قوله، وقال له: إنّ لكلِّ يقينٍ حقيقة، فما حقيقة يقينك ؟

فقال: إنّ يقيني يا رسول اللّه، هو الذي أحزَنني، وأسهرَ ليلي، وأظمأ هواجري، فعزِفَت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتّى كأنّي أنظر إلى

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٤ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٥٤ عن الكافي.

(٣) سفينة البحار ج ٢ ص ٧٣٤ عن فقه الرضا.

١٤٤

عرش ربّي، وقد نصب للحساب، وحُشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون، على الأرائك متّكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذَّبون، مصطفون، وكأنّ الآن استمع زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه: هذا عبدٌ نوّر اللّه قلبَه بالإيمان، ثُمّ قال له: إلزَم ما أنت عليه، فقال الشاب: أدع اللّه لي يا رسول اللّه أنْ أُرزق الشهادةَ معك، فدعا له رسول اللّه فلم يلبث أنْ خرَج في بعض غزَوَات النبيّ فاستُشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر )(١).

خصائص الموقنين:

متى ازدهرت النفس باليقين، واستنارت بشُعاعِه الوهّاج، عكَسَت على ذويها ألواناً مِن الجمال والكمال النفسيَّين، وتسامت بهم إلى أوجٍّ روحيٍّ رفيع، يتألّقون في آفاقه تألُّق الكواكب النيّرة، ويتميّزون عن الناس تميّز الجواهر الفريدة مِن الحصا.

فمَن أبرَز خصائصهم ومزاياهم، أنَك تجدهم دائبين في التحلّي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وتجنّب رذائلها ومساوِئها، لا تخدعهم زخارف الحياة، ولا تُلهيهم عن تصعيد كفاءاتهم ومؤهّلاتهم الروحيّة لنيل الدرجات الرفيعة، والسعادة المأمولة في الحياة الاخرويّة، فهم متفانون في طاعة اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٣٣ عن الكافي.

١٤٥

عزّ وجل، ابتغاء رضوانه، وحسن مثوبته، متوكّلون عليه، في سرّاء الحياة وضرّائها، لا يرجون ولا يخشون أحداً سِواه، ليقينهم بحسن تدبيره وحكمة أفعاله.

لذلك تُستجاب دَعَواتهم، وتظهر الكرامات على أيديهم، وينالون شرف الحظوة والرعاية مِن اللّه عزّ وجل.

درجات الايمان:

ويحسن بي وأنا أتحدّث عن اليقين أنْ أعرض طَرفاً مِن مفاهيم الإيمان ودرجاته، وأنواعه إتماماً للبحث وتنويراً للمؤمنين.

يتفاضل الناس في درجات الإيمان تفاضلاً كبيراً، فمنهم المجلّي السباق في حلَبة الايمان، ومنهم الواهن المتخلف، ومنهم بين هذا وذاك كما صوّرته الرواية الكريمة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الايمان عشر درجات، بمنزلة السُلّم، يُصعَد منه مرقاةً بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لَستَ على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشرة، فلا تُسقط مَن هو دونك، فيسقطك مَن هو فوقَك، وإذا رأيت مَن هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملَنّ عليه ما لا يطيق فتكسِره، فإنّ مَن كسَر مؤمناً فعليه جبْرُه )(١).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٣٠ عن الكافي.

١٤٦

أنواع الايمان:

ينقسم الايمان الى ثلاثة أنواع: فطريّ، ومستَودَع، وكَسْبي.

١ - فالفطريّ: هو ما كان هِبةً إلهيّة، قد فطر عليه الإنسان، كما في الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، فإنّهم المثلُ الأعلى في قوّة الإيمان، وسموّ اليقين، لا تخالجهم الشكوك، ولا تعروهم الوساوس.

٢ - المستودَع: وهو ما كان صوريّاً طافياً على اللسان، سرعان ما تزعزعه الشبَه والوساوِس، كما قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ العبد يصبح مومناً، ويُمسي كافراً، ويصبح كافراً، ويُمسي مؤمناً، وقوم يعارون الإيمان ثُمّ يلبسونه، وُيسَمَّون المُعارين )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ اللّه تعالى جبَل النبييّن على نبوّتهم، فلا يرتدّون أبداً، وجَبَل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدّون أبداً، وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدّون أبداً، ومنهم مَن أُعير الإيمان عاريةً، فاذا هو دعا وألحّ في الدعاء مات على الإيمان )(٢).

وهكذا تعقّب الامام الصادقعليه‌السلام على حديثَيه السالفَين بحديثٍ ثالثٍ بجعلِه مِقياساً للتمييز بين الإيمان الثابت من المستودع، فيقول: ( إنّ الحسرة والندامة والويل كلّه لِمَن لم ينتفع بما أبصره، ولم يدرِ ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أنفْعٌ له أم ضرّ )، قلت ( الراوي ): فَبِم يُعرَف الناجي مِن هؤلاء جُعِلت فداك ؟

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٥٠ عن الكافي.

١٤٧

قال: ( مَن كان فعله لقوله موافقاً، فأثبتُ له الشهادةَ بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً، فإنما ذلك مستودع»(١).

٣ - الكَسْبي: وهو الايمان الفطري الطفيف الذي نمّاه صاحبه واستزاد رصيده حتى تكامل وسمى الى مستوى رفيع، وله درجات ومراتب.

وإليك بعض الوصايا والنصائح الباعثة على صيانة الجُزء الفطريّ مِن الإيمان، وتوفير الكسبي منه:

١ - مصاحبة المؤمنين الأخيار، ومجانبة الشقاة والعصاة، فإنّ الصاحب متأثّر بصاحبه ومُكتسِب مِن سلوكه وأخلاقه، كما قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المرء على دين خلِيله، فلينظر أحدُكم مَن يُخالِل ).

٢ - ترك النظر والاستماع إلى كتب الضلال، وأقوال المضلّين، المولَعين بتسميم أفكار الناس وحَرْفِهم عن العقيدة والشريعة الإسلاميّتين، وإفساد قِيم الإيمان ومفاهيمه في نفوسهم.

٣ - ممارسة النظر والتفكّر في مخلوقات اللّه عزّ وجل، وما اتّصفت به مِن جميلِ الصنع، ودقّة النظام، وحكمة التدبير، الباهرة المدهشة:( وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (٢).

٤ - ومن موجبات الإيمان وتوفير رصيده، جهاد النفس، وترويضها على طاعة اللّه تعالي، وتجنّب معاصيه، لتعمر النفس بمفاهيم الإيمان، وتُشرِق بنوره الوضّاء، فهي كالماء الزلال، لا يزال شفافاً رِقراقاً، ما لم تُكدّره

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٠ عن الكافي.

(٢) الذاريات (٢٠ - ٢١ ).

١٤٨

الشوائب فيغدو آنذاك آسِناً قاتِماً لا صفاءَ فيه ولا جمال. ولولا صدَأ الذنوب، وأوضار الآثام التي تنتاب القُلوب والنفوس، فتجهّم جمالها وتخبّئ أنوارها، لاستنار الأكثرون بالإيمان، وتألّقت نفوسُهم بشُعاعِه الوهّاج:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أذنَب الرجل خرَج في قلبه نُكته سَوداء، فإنْ تاب انمحت، وإنْ زاد زادت، حتّى تغلّب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً )(٢).

_____________________

(١) الشمس ( ٧ - ١٠ ).

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

١٤٩

الصبر

وهو: احتمال المكاره مِن غير جزَع، أو بتعريفٍ آخر هو: قَسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل أوامِراً ونَواهياً، وهو دليل رَجاحة العقل، وسِعة الأفق، وسموّ اخلق، وعظمة البطولة والجَلَد، كما هو معراج طاعة اللّه تعالى ورضوانه، وسبَب الظفَر والنجاح، والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحسّاد.

وناهيك في شرف الصبر، وجلالة الصابرين، أنّ اللّه عزّ وجل، أشاد بهما، وباركهما في نَيف وسبعين موطناً من كتابه الكريم:

بشّر الصابرين بالرضا والحبّ، فقال تعالى:( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (١).

ووعدهم بالتأييد:( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٢) .

وأغدق عليهم ألوان العناية واللطف:( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*

____________________

(١) آل عمران: ١٤٦.

(٢) الأنفال: ٤٦.

(٣) الزمر: ١٠.

١٥٠

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١).

وهكذا تواترت أخبار أهل البيتعليهم‌السلام في تمجيد الصبر والصابرين.

قال الصادقعليه‌السلام :

( الصبرُ مِن الإيمان بمنزلة الرأس مِن الجسَد، فإذا ذهَب الرأس ذهَب الجسَد، وكذلك إذا ذهَب الصبر ذهَب الإيمان )(٢).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( الجنّة محفوفةٌ بالمكاره والصبر، فمَن صبَر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفةٌ باللذات والشهَوات، فمَن أعطى نفسه لذّتها وشهَوتها دخل النار )(٣).

وقالعليه‌السلام : ( لمّا حضَرت أبي الوفاة ضمّني إلى صدره، وقال: يا بُني، إصبر على الحقّ وإنْ كان مرّاً، تُوفّ أجرك بغير حساب )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن ابتُليَ مِن المؤمنين ببلاءٍ فصبَر عليه، كان له أجرُ ألف شهيد )(٥).

_____________________

(١) البقرة: ( ١٥٥ - ١٥٧ ).

(٢) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٣) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٤) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٥) الوافي ج ٣ ص ٦٦ عن الكافي ).

١٥١

ورُبَّ قائلٍ يقول: كيف يُعطى الصابر أجرَ ألف شهيد، والشهداء هُم أبطال الصبر على الجهاد والفداء ؟

فالمراد: أنّ الصابر يستحقّ أجر أُولئك الشهداء، وإنْ كانت مكافأتهم وثوابهم على اللّه تعالى أضعافاً مضاعفة عنه.

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( من لم يُنجه الصبر، أهلكه الجزع )(١).

أقسام الصبر

ينقسم الصبر باعتبار ظروفه ومقتضياته أقساماً أهمّها:

(١) الصبر على المكاره والنوائب:

وهو أعظم أقسامه، وأجلّ مصاديقه الدالّة على سموّ النفس، وتفتح الوعي، ورباطة الجأش، ومضاء العزيمة.

فالإنسان عرضةً للمآسي والارزاء، تنتابه قسراً واعتباطاً، وهو لا يملك إزائها حولاً ولا قوّة، وخير ما يفعله المُمتَحَن هو التذرّع بالصبر، فإنّه بلسم القلوب الجريحة، وعزاء النفوس المعذّبة.

ولولاه لانهار الإنسان، وغدا صريع الأحزان والآلام، من أجلّ ذلك حرّضت الآيات والأخبار على التحلّي بالصبر والاعتصام به:

قال تعالى:( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا

_____________________

(١) نهج البلاغة.

١٥٢

لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنْ صبَرت جرى عليك القدَر وأنت مأجور، وإنْ جزعت جرى عليك القَدرُ، وأنت مأزور )(٢).

وممّا يجدر ذكره أنّ الصبر الجميل المحمود، هو الصبر على النوائب التي لا يستطيع الإنسان دفعها والتخلّص منها، كفقد عزيز، أو اغتصاب مال، أو اضطهاد عدوّ.

أمّا الاستسلام للنوائب، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملافاتها فذلك حُمقٌ يستنكره الإسلام، كالصبر على المرَض وهو قادر على علاجه، وعلى الفقر وهو يستطيع اكتساب الرزق، وعلى هضم الحقوق وهو قادرٌ على استردادها وصيانتها.

ومِن الواضح أنّ ما يجرّد المرء مِن فضيلة الصبر، ويخرجه عن التجلّد، هو الجزَع المُفرِط المؤدّي إلى شقّ الجيوب، ولطم الخدود، والإسراف في الشكوى والتذمّر.

أمّا الآلام النفسيّة، والتنفيس عنها بالبكاء، أو الشكاية مِن متاعب المرض وعنائه فإنّها مِن ضرورات العواطف الحيّة، والمشاعر النبيلة، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله عند وفاة ابنه ابراهيم: ( تدمع العين، ويَحزَن القلب، ولا نقول ما يُسخِط الربّ ).

_____________________

(١) البقرة ( ١٥٥ - ١٥٧ ).

(٢) نهج البلاغة.

١٥٣

وقد حكت لنا الآثار طرَفاً رائعاً ممتعاً من قصص الصابرين على النوائب، ممّا يبعث على الإعجاب والإكبار، وحُسن التأسّي بأُولئك الأفذاذ.

حُكي أنّ كسرى سخَط على ( بزرجمهر ): فحبَسه في بيتٍ مظلم، وأمَر أنْ يُصفّد بالحديد، فبقيّ أيّاماً على تلك الحال، فأرسل إليه مَن يسأله عن حاله، فإذا هو منشرح الصدر، مطمئنّ النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة مِن الضيق ونراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستّة أخلاط وعجنتها واستعملتها، فهي التي ابقتني على ما ترون.

قالوا: صِف لنا هذه لعلّنا ننتفع بها عند البلوى، فقال: نعم.

أمّا الخَلط الأوّل: فالثقة باللّه عزّ وجل.

وأمّا الثاني: فكلّ مقدرٍّ كائن.

وأمّا الثالث: فالصبرُ خير ما استعمله الممتَحن.

وأمّا الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي بالجزَع.

وأمّا الخامس: فقد يكون أشدّ ممّ أنا فيه.

وأمّا السادس، فمِن ساعة إلى ساعة فرج.

فبلغ ماقاله كسرى فأطلقه وأعزّه(١).

وعن الرضا عن أبيه عن أبيهعليهم‌السلام قال: ( إنّ سليمان بن داود قال ذات يوم لأصحابه: إنّ اللّه تبارك وتعالى قد وهَب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ مِن بعدي: سخّر لي الريح، والإنس، والجنّ، والطير، والوحش، وعلّمني منطق الطير، وآتاني مِن كلّ شيء، ومع جميع ما أوتيتُ

_____________________

(١) سفينه البحار ج ٢ ص ٧.

١٥٤

مِن الملك ما تمّ لي سرورٌ يوم إلى الليل، وقد أحبَبت أنْ أدخل قصري في غد، فأصعَد أعلاه، وأنظر إلى ممالِكي، فلا تأذنوا لأحدٍ عليّ لئلاّ يردّ عليّ ما ينغّص عليّ يومي. قالوا: فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده، وصعد إلى أعلى موضع قصره، ووقَف متّكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما أُوتي، فرِحاً بما أعطي، اذ نظر إلى شابٍّ حسن الوجه واللباس قد خرَج عليه مِن بعض زوايا قصره، فلمّا بصر به سليمانعليه‌السلام ، قال له: من أدخَلك إلي هذا القصر، وقد أردت أنْ أخلو فيه اليوم، فبإذن مَن دخلت ؟

فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربّه، وبإذنه دخلت.

فقال: ربّه أحقّ به منّي، فمَن أنت ؟

قال: أنا ملَك الموت، قال: وفيما جئت ؟

قال: جئت لأقبض روحك.

قال: إمض لِما أُمِرت به، فهذا يومُ سروري، وأبى اللّه أنْ يكون لي سرور دون لقائه. فقبض ملك الموت روحه وهو متّكئ على عصاه...)(١) .

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦١٤ عن عيون أخبار الرضا.

١٥٥

(٢) الصبر على طاعة اللّه والتصبّر عن عصيانه:

مِن الواضح أنّ النفوس مجبولةٌ على الجُموح والشرود مِن النُّظُم الإلزاميّة والضوابط المحدّدة لحُريّتها، وانطلاقها في مسارح الأهواء والشهَوات، وإنْ كانت باعثةً على إصلاحها وإسعادها.

فهي لا تنصاع لتلك النظُم، والضوابط، إلاّ بالإغراء، والتشويق، أو الإنذار والترهيب. وحيث كانت ممارسة طاعة اللّه عزّ وجل، ومجافاة عصيانه، شاقّين على النفس، كان الصبر على الطاعة والتصبّر عن المعصية من أعظم الواجبات، وأجلّ القُرُبات.

وجاءت الآيات الكريمة وأحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مشوّقة إلى الأُولى ومحذّرة مِن الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصيته، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولاحزناً، وما لم يأتِ فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة، فكأنّك قد اغتبطت )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة، يقوم عُنقٌ مِن الناس، فيأتون باب الجنّة فيضربونه، فيُقال لهم: مَن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

١٥٦

الصبر. فيُقال لهم: على ما صبرتم ؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه، ونصبر عن معاصي اللّه، فيقول اللّه تعالى: صدَقوا أدخلوهم الجنّة، وهو قوله تعالى:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( الزمر: ١٠ )(١)

وقالعليه‌السلام :

( الصبر صبران: فالصبر عند المصيبة، حَسَنٌ جميل، وأفضل مِن ذلك الصبر عمّا حرّم اللّه عزّ وجل، ليكون لك حاجزاً )(٢).

(٣) الصبر على النِّعَم:

وهو: ضبط النفس عن مسوّلات البطَر والطُّغيان، وذلك من سِمات عظمة النفس، ورجاحة العقل، وبُعد النظر.

فليس الصبر على مآسي الحياة وأرزائها بأَولى مِن الصبر على مسرّاتها وأشواقها، ومفاتنها، كالجاه العريض، والثراء الضخم، والسلطة النافذة، ونحو ذلك. حيث إنّ إغفال الصبر في الضرّاء يفضي إلى الجزع المدمّر، كما يؤدّي إهماله في السرّاء إلى البطَر والطغيان:( إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) ( العلق: ٦ - ٧ ) وكلاهما ذميمٌ مقيت.

والمراد بالصبر على النِّعَم هو: رعاية حقوقها، واستغلالها في مجالات

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٥ عن الفقيه.

١٥٧

العطف والإحسان المادّية، أو المعنويّة: كرعاية البؤساء، وإغاثة المُضطهدين، والاهتمام بحوائج المؤمنين، والتوقّي مِن مزالق البطَر والتجبّر.

وللصبر أنواعٌ عديدةٌ أٌخرى:

فالصبر في الحرب: شجاعة، وضدّه الجُبْن.

والصبر عن الانتقام: حِلم، وضدّه الغضب.

والصبر عن زخارف الحياة: زُهد، وضدّه الحِرص.

والصبر على كتمان الأسرار: كتمان، وضدّه الإذاعة والنشر.

والصبر على شهوَتَيّ البطن والفرج: عفّة، وضدّه الشرَه.

فاتّضح بهذا أنّ الصبر نظام الفضائل، وقُطبها الثابت، وأساسها المكين.

محاسن الصبر:

نستنتج من العرض السالف أنّ الصبرَ عِماد الفضائل، وقُطب المكارم، ورأس المفاخر.

فهو عصمة الواجد الحزين، يخفّف وَجده، ويلطّف عناءه، ويمدّه بالسكينة والاطمئنان.

وهو ظمانٌ من الجزَع المدمّر، والهلَع الفاضح، ولولاه لانهار المصاب، وغدا فريسة العلل والأمراض، وعرضة لشماتة الأعداء والحسّاد.

وهو بعد هذا وذاك الأمل المرجّى فيما أعدّ اللّه للصابرين، من عظيم المكافآت، وجزيل الأجر والثواب.

١٥٨

كيف تكسب الصبر:

وإليك بعض النصائح الباعثة على كسب الصبر والتحلّي به:

١ - التأمّل في مآثر الصبر، وما يفيء على الصابرين من جميل الخصائص، وجليل العوائد والمنافع في الحياة الدنيا، وجزيل المثوبة والأجر في الآخرة.

٢ - التفكّر في مساوئ الجزَع، وسوء آثاره في حياة الإنسان، وأنّه لا يشفي غليلاً، ولا يردُّ قضاءً، ولا يُبدّل واقعاً، ولاينتج إلاّ بالشقاء والعناء. يقول ( دليل كارنيجي ): ( لقد قرأتُ خلال الأعوام الثمانية الماضية كلّ كتاب، وكلّ مجلّة، وكلّ مقالة عالجت موضوع القلَق، فهل تريد أنْ تعرف أحكَم نصيحة، وأجداها خرجْتُ بها مِن قراءتي الطويلة ؟ إنّها: ( إرض بما ليس منه بدّ ).

٣ - تفهم واقع الحياة، وأنّها مطبوعة على المتاعب والهموم:

طبعت على كدر وأنت تريدها

صفواً مِن الأقذار والأكدار

فليست الحياة دار هناء وارتياح، وإنّما هي: دار اختبار وامتحان للمؤمن، فكما يُرهق طلاّب العلم بالامتحانات إستجلاء لرصيدهم العلمي، كذلك يُمتحن المؤمن إختباراً لأَبعاد إيمانه ومبلغ يقينه.

قال تعالى:( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ

١٥٩

الكاذبين ) ( العنكبوت: ٢ - ٣ ).

٤ - الاعتبار والتأسّي بما عاناه العظماء، والأولياء، من صنوف المآسي والأرزاء، وتجلّدهم فيها وصبرهم عليها، في ذات اللّه، وذلك من محفّزات الجلَد والصمود.

٥ - التسلية والترفيه بما يُخفّف آلام النفس، ويُنَهنِه عن الوجد: كتغير المناخ، وإرتياد المناظر الجميلة، والتسلّي بالقصَص الممتعة، والأحاديث الشهيّة النافعة.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ثم قال للمرأة : رحمك الله ، وجزاك خيرا ، اعلمي أني ابتليت من قبل ابنك ، فافتحي الباب ففتحته ، وخرج مسلم في وجوه القوم كالأسد المغضب ، فجعل يضاربهم بسيفه حتى قتل جماعة ، وبلغ ذلك ابن زياد ، فأرسل إلى محمد بن الأشعث : سبحان الله ، أبا عبد الرحمن! بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به ، فثلم من أصحابك ثلمة عظيمة ، فأرسل إليه محمد ابن الأشعث : أيها الأمير! أتظن أنك بعثتني إلى بقال من بقاقيل الكوفة أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ، أفلا تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام ؛ وبطل همام ؛ في كفه سيف حسام ، يقطر منه الموت الزؤام؟ فأرسل إليه ابن زياد : أن اعطه الأمان فانّك لن تقدر عليه إلّا بالأمان المؤكد بالايمان.

فجعل محمد بن الأشعث يناديه : ويحك ، يا بن عقيل! لا تقتل نفسك ، لك الأمان ، فيقول مسلم : لا حاجة لي في أمان الغدرة الفجرة وينشد :

أقسمت لا اقتل إلّا حرّا

وإن رأيت الموت شيئا مرّا

كل امرئ يوما ملاق شرّا

ردّ شعاع النفس فاستقرّا

أضربكم ولا أخاف ضرّا

ضرب همام يستهين الدهرا

ويخلط البارد سخنا مرّا

ولا اقيم للأمان قدرا

أخاف أن اخدع أو اغرّا

فناداه محمد بن الأشعث : ويحك ، يا مسلم! إنّك لن تغر ، ولن تخدع والقوم ليسوا بقاتليك ، فلا تقتل نفسك ، فلم يلتفت إليه ، فجعل يقاتلهم حتى اثخن بالجراح ، وضعف عن الكفاح ، وتكاثروا عليه من كل جانب ، وجعلوا يرمونه بالنبل والحجارة. فقال مسلم : ويلكم ، مالكم

٣٠١

ترموني بالحجارة ، كما ترمى الكفار؟ وأنا من أهل بيت النبي المختار ، ويلكم ، أما ترعون حقّ رسول الله ، ولا حقّ قرباه ، ثمّ حمل عليهم في ضعفه فهزمهم وكسرهم في الدروب والسكك ، ثم رجع وأسند ظهره على باب دار من تلك الدور ورجع القوم إليه فصاح بهم محمد بن الأشعث : ذروه ، حتّى اكلمه بما اريد ، فدنا منه ، وقال : ويحك ، يا ابن عقيل! لا تقتل نفسك ، أنت آمن ، ودمك في عنقي ، وأنت في ذمتي.

فقال مسلم : أتظن يا ابن الأشعث! إني اعطي بيدي ، وأنا أقدر على القتال؟ لا ، والله ، لا يكون ذلك أبدا ، ثم حمل عليه فألحقه بأصحابه ، ثم رجع إلى موضعه ، وهو يقول : اللهمّ! إنّ العطش قد بلغ مني فلم يجترئ أحد أن يسقيه الماء ويدنو منه ، فقال ابن الأشعث لأصحابه : إن هذا لهو العار والشنار ، أتجزعون من رجل واحد هذا الجزع؟ احملوا عليه بأجمعكم حملة رجل واحد ، فحملوا عليه وحمل عليهم وقصده رجل من أهل الكوفة ، يقال له : «بكير بن حمران الأحمري» فاختلفا بضربتين ، ضربه «بكير» على شفته العليا ، وضربه مسلم فبلغت الضربة جوفه ، فأسقطه قتيلا ، وطعن من ورائه فسقط إلى الأرض ، فاخذ أسيرا ، ثم اخذ فرسه وسلاحه ، وتقدم رجل من بني سليم يقال له : «عبيد الله بن العباس» فأخذ عمامته ، فجعل يقول : اسقوني شربة من الماء ؛ فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : لا ، والله ، لا تذوق الماء ، يا ابن عقيل! حتى تذوق الموت ، فقال له مسلم : ويلك ، ما أجفاك ، وأفظك ، وأقسى قلبك؟ أشهد عليك إن كنت من قريش فإنّك ملصق ، وإن كنت من غير قريش فأنت دعي ، من أنت؟ يا عدو الله! قال : أنا من عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح الإمام إذ غششته ، وأطاع إذ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له مسلم : لامّك الهبل ، يا ابن

٣٠٢

باهلة! أنت أولى بالحميم ؛ والخلود في نار الجحيم ؛ إذ آثرت طاعة آل أبي سفيان على طاعة آل محمد.

ثم قال : ويحكم ، يا أهل الكوفة! اسقوني شربة من ماء ، فأتاه غلام لعمرو بن حريث المخزومي بقلة فيها ماء وقدح من قوارير ، فصب القلّة في القدح وناوله ، فأخذ مسلم القدح بيده ، فكلما أراد أن يشرب امتلأ القدح دما ، فلم يقدر أن يشرب من كثرة الدم ، وسقطت ثنيتاه في القدح ، فامتنع من شرب ذلك الماء.

وفي رواية : أن محمد بن الأشعث لما أعطاه الأمان رمى بسيفه ، فأخذوه وحملوه على بغلة فدمعت عيناه ، فقال محمّد : إني لأرجو أن لا بأس عليك ، فقال : ويحك ، ما هو إلّا الرجاء ، فأين أمانكم؟ إنا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى فقال ـ عبيد الله بن العبّاس السلمي ـ : من يطلب مثل الذي طلبت لا يبكي ، فقال : إني ، والله ، ما على نفسي أبكي ، لكني أبكي على أهلي المقبلين إليكم ، أبكي على الحسين وآل الحسين.

ولما ركب على البغلة ونزع منه السيف استرجع وقال : هذا أوّل الغدر ، وآيس من نفسه ، وعلم أن لا أمان له من القوم ، فقال لمحمد بن الأشعث : إني لأظنك أن تعجز عن أماني ، أفتستطيع أن تبعث رجلا عن لساني يبلغ حسينا فإني لا أراه إلّا قد خرج إلى ما قبلكم ، هو وأهل بيته ، فيقول له : إنّ مسلما بعثني إليك ، وهو أسير في يد العدو ، يذهبون به إلى القتل ، فارجع بأهلك ولا يغرنّك أهل الكوفة ، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل. إن أهل الكوفة قد كذبوني ، فكتبت إليك وليس لمكذوب رأي ، فقال محمد : والله ، لأفعلن ، ودعا ـ بإياس الطائي ـ وكتب معه إلى الحسين ما قاله مسلم عن لسان مسلم ، وأعطاه راحلة

٣٠٣

وزادا ، فذهب فاستقبل الحسين بزبالة ، وكان مسلم حين تحول إلى دار هانئ كتب إلى الحسين كتابا ذكر فيه : كثرة من بايعه ، فهو قوله : كذبوني فكتبت إليك ، ثم اتي به فادخل على ابن زياد فاوقف ولم يسلم عليه ، فقال له الحرسي : سلّم على الأمير ، فقال مسلم : أسكت لا أم لك مالك والكلام ما هو لي بأمير فأسلّم عليه ، واخرى ما ينفعني سلامي وهو يريد قتلي ، فإن استبقاني فسيكثر.

فقال ابن زياد : لا عليك ، سلمت أو لم تسلم ، فإنّك مقتول ، فقال مسلم : إن قتلتني فلقد قتل من هو شرّ منك من هو خيرا مني ، ثمّ قال له : إن القوم قد آمنوني ، فقال محمد بن الأشعث إني قد آمنته ، فقال ابن زياد : وما أنت وذاك؟ كأني إنما أرسلتك لتؤمنه ، ثمّ قال لمسلم : يا شاق يا عاق! خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة ، فقال : كذبت يا ابن زياد إنما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وإنما ألقح الفتنة أنت وأبوك زياد بن عبيد بن علاج من ثقيف ، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريته ، فو الله ، ما خلعت وما غيرت ، وإنما أنا في طاعة الحسين ابن علي وابن فاطمة بنت رسول الله ، فهو أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد ، فقال له ابن زياد : يا فاسق! ألم تكن تشرب الخمر بالمدينة؟ فقال مسلم : الله يعلم أني ما شربتها قط ، وأحق مني بشرب الخمر من يقتل النفس الحرام ، ويقتل على الغضب والعداوة والظن ، وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا.

فقال له ابن زياد : يا فاسق! منتك نفسك أمرا حال الله دونه ، وجعله لأهله ، فقال مسلم : ومن أهله يا ابن مرجانة؟ فقال له : يزيد بن معاوية ، فقال مسلم : الحمد لله ، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم ، فقال ابن زياد :

٣٠٤

أتظن أنّ لك من الأمر شيئا ، فقال : لا ، والله ، ما هو بالظن ولكنّه اليقين ، فقال ابن زياد له : قتلني الله إن لم أقتلك شرّ قتلة ، فقال له مسلم : أما انّك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الفعلة لأحد غيرك أولى منك ، والله ، لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم ، وقدرت على شربة ماء ، لطال عليك أن تراني في هذا القصر ، ولكن إن كنت قد عزمت على قتلي فأقم لي رجلا من قريش حتّى أوصي إليه بما اريد.

ثم نظر مسلم إلى ـ عمر بن سعد بن أبي وقاص ـ ، فقال له : إنّ بيني وبينك قرابة فاسمع مني ، فامتنع ، فقال له ابن زياد : ما يمنعك من الاستماع لابن عمك؟ فقام عمر إليه ، فقال له مسلم : اوصيك بتقوى الله فإنّ التّقوى درك كلّ خير ، ولي إليك حاجة ، فقال عمر : قل ما أحببت ، فقال : حاجتي إليك أن تسترد فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه ، وتقضي عني سبعمائة درهم استدنتها في مصركم هذا ، وأن تستوهب جثتي إن قتلني هذا الفاسق ، فتواريني في التراب ، وأن تكتب للحسين : أن لا يقدم ، فينزل به ما نزل بي ، فقال عمر بن سعد : أيها الأمير! إنه يقول كذا وكذا ، فقال ابن زياد : يا ابن عقيل! أما ما ذكرت من دينك فإنما هو مالك ، تقضي به دينك ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت ، وأما جسدك فإنا إذا قتلناك فالخيار لنا ولسنا نبالي ما صنع الله بجثتك ، وأما الحسين فإنه إن لم يردنا لم نرده ، وان أرادنا لم نكف عنه.

وفي رواية : أنه قال : وأما الحسين فلا ولا كرامة ، ولكن اريد أن تخبرني يا بن عقيل! لما ذا أتيت أهل هذا البلد ، وأمرهم جميع ، وكلمتهم واحدة ، فأردت أن تفرّق عليهم أمرهم ، وتحمل بعضهم على بعض؟ فقال له مسلم : ليس لذلك أتيت ، ولكن أهل هذا المصر زعموا أن ـ أباك ـ قتل

٣٠٥

خيارهم ، وسفك دماءهم ، وأن معاوية حكم فيهم ظلما بغير رضى منهم ، وغلبهم على ثغورهم التي أفاء الله بها عليهم ، وأن عاملهم يتجبر ويعمل أعمال كسرى وقيصر ، فأتينا لنأمر بالعدل ، وندعو إلى الحكم بكتاب الله إذ كنا أهله ، ولم تزل الخلافة لنا ، وإن قهرنا عليها ، رضيتم بذلك أم كرهتم ، لأنكم أول من خرج على إمام هدى وشق عصا المسلمين ، ولا نعلم لنا ولكم مثلا ، إلّا قول الله تعالى :( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) الشعراء / ٢٢٧.

قال : فجعل ابن زياد يشتمه ، ويشتم عليا ؛ والحسن ؛ والحسين ، فقال مسلم : أنت وأبوك أحقّ بالشتم والسبّ ، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله! فنحن أهل بيت موكل بنا البلاء ، فقال ابن زياد : اصعدوا به إلى أعلى القصر ، واضربوا عنقه ، واتبعوا رأسه جسده ، فقال مسلم : أم والله ، يا ابن زياد! لو كنت من قريش أو كان بيني وبينك رحم لما قتلتني ، ولكنك ابن أبيك ، فازداد ابن زياد غضبا ، ودعا برجل من أهل الشام قد كان مسلم ضربه على رأسه ضربة منكرة ، فقال له : خذ مسلما إليك واصعده إلى أعلى القصر ، وأضرب أنت عنقه بيدك ، ليكن ذلك أشفى لصدرك.

قال : فأصعد مسلم إلى أعلى القصر ، وهو يسبّح الله ويستغفره ، ويقول : اللهم! احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا ، حتى اتي به إلى أعلى القصر ، فتقدم ذلك الشامي ، وضرب عنقه ، ثمّ نزل الشامي وهو مذعور مدهوش ، فقال له ابن زياد : ما شأنك أقتلته؟ قال : نعم ، إلّا أنه عرض عارض ، فأنا به مرعوب ، قال : وما الذي عرض؟ قال : رأيت ساعة قتلته رجلا بحذائي : أسود شديد السواد ؛ كريه المنظر ، عاضا على إصبعه أو قال شفته ، ففزعت منه فزعا لم افزع مثله قط ، فتبسم ابن زياد ، وقال : دهشت

٣٠٦

من شيء لم تعتده قبل ذلك.

قال : ثم أمر ابن زياد بهانئ بن عروة أن يخرج فيلحق بمسلم بن عقيل ، فقال محمد بن الأشعث : أصلح الله الأمير! إنّك قد عرفت منزلته في المصر ، وشرفه وعشيرته ، وقد علم به قومه أني وأسماء بن خارجة جئنا به إليك ، فانشدك الله أيها الأمير! إلّا وهبته لي ، فإني أخاف عداوة أهل بيته فإنهم سادات أهل الكوفة وأكثرهم عددا ، قال : فزبره ابن زياد وأخرج هانئ إلى السوق إلى موضع تباع فيه الغنم وهو مكتوف ، فعلم هانئ أنه مقتول ، فجعل يقول : وا مذحجاه! وأين مني مذحج؟ وا عشيرتاه! وأين مني عشيرتي؟ ثمّ أخرج من الكتاف يده للمدافعة ، وقال : أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يجاحش به الرجل عن نفسه ، فوثبوا إليه وشدّوه ، ثمّ قالوا له : امدد عنقك ، فقال : ما أنا بها سخي ، ولا بمعينكم على نفسي ، فضربه غلام تركي لعبيد الله بن زياد بالسيف ضربة لم يصنع بها شيئا ، فقال هاني : إلى الله المعاد والمنقلب ، اللهم! إلى رحمتك ورضوانك ، اللهم! اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي ، فإني إنما غضبت لابن نبيك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتقدم إليه أيضا الغلام التركي واسمه «رشيد» فضربه فقتله.

ثم أمر ابن زياد بمسلم وبهانئ فصلبنا منكسين.

٢ ـ أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد أبو الحسن عليّ بن أحمد العاصمي ، أخبرنا شيخ القضاة أبو علي إسماعيل بن أحمد بن الحسين البيهقي ، عن أبيه ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا أبو عمرو بن السّماك ، حدثنا حنبل بن إسحاق ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدّثنا عمرو ابن دينار ، قال : أرسل الحسينعليه‌السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، وكان مثل الأسد لقد كان من قوته أنه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت إلى أن

٣٠٧

قتل بالكوفة. عدنا إلى ما نحن فيه.

٣ ـ قال الإمام أحمد بن أعثم الكوفي في «تاريخه» : ولما صلب مسلم ابن عقيل ؛ وهانئ بن عروة ، قال فيهما عبد الله بن الزبير الأسدي :

إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانئ بالسوق وابن عقيل

الى بطل قد هشم السيف وجهه

وآخر يهوي من طمار قتيل

ترى جسدا قد غير الموت لونه

ونضح دم قد سال كل مسيل

فتى كان أحي من فتاة حييّة

وأقطع من ذي شفرتين صقيل

وأشجع من ليث بخفان مصحر

وأجرأ من ضار بغابة غيل

أصابهما أمر الأمير فأصبحا

أحاديث من يسري بكل سبيل

أيركب أسماء الهماليج آمنا

وقد طلبته مذحج بذحول

تطوف حواليه مراد وكلهم

على رقبة من سائل ومسول

فإن أنتم لم تثأروا لأخيكم

فكونوا بغايا ارضيت بقليل

قال : ثم كتب ابن زياد إلى يزيد : بسم الله الرّحمن الرّحيم لعبد الله يزيد ـ أمير المؤمنين ـ من عبيد الله بن زياد : الحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه ، وكفاه مئونة عدوّه ، ثمّ ذكر قدوم مسلم بن عقيل ، وذكر هانئ بن عروة ، وكيف أخذهما؟ وكيف قتلهما؟ ثمّ قال : وقد بعثت برأسيهما مع هانئ بن حيّة الوداعي ؛ والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل الطاعة والسنّة والجماعة ، فليسألهما أمير المؤمنين عما أحبّ ، فإنّ عندهما علما وفهما وصدقا وورعا.

فلما ورد الكتاب والرأسان جميعا نصبهما على باب دمشق ، ثمّ كتب لابن زياد :

أما بعد ـ فإنّك عملت عمل الحازم ، وصلت صولة الشجاع الرابط

٣٠٨

الجاش ، فكفيت ووفيت ، وقد سألت رسوليك فوجدتهما كما زعمت ، وقد أمرت لكلّ واحد منهما بعشرة آلاف درهم وسرّحتهما إليك ، فاستوص بهما خيرا ، وقد بلغني : أنّ الحسين بن علي قد عزم على المصير إلى العراق ، فضع المراصد والمناظر والمسالح ، واحترس واحبس على الظن ، واقتل على التهمة ، واكتب في ذلك إليّ كلّ يوم بما يحدث من خبر.

قال : وبلغ الحسين : أنّ مسلم بن عقيل قد قتل ، وذلك أنه قدم عليه رجل من أهل الكوفة ، فسأله : عن مسلم؟ فقال : والله ، يا ابن رسول الله! ما خرجت من الكوفة ، حتى نظرت إلى مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة المذحجي ، قتيلين جميعا مصلوبين منكسين في سوق القصابين ، وقد وجّه برأسيهما إلى يزيد.

فاستعبر الحسين باكيا ، ثمّ قال : «إنا لله وإنا إليه راجعون» ، وعزم على المسير الى العراق ، فدخل عليه ـ عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي ـ ، فقال : يا ابن رسول الله! أتيتك لحاجة اريد أن أذكرها لك ، وأنا غير غاش لك فيها ، فهل لك أن تسمعها؟ فقال : «قل : ما أحببت» فقال : أنشدك الله ، يا ابن عم! أن لا تخرج إلى العراق ، فإنهم من قد عرفت ، وهم أصحاب أبيك ، وولاتهم عندهم ، وهم يجبون البلاد ، والناس عبيد المال ، ولا آمن أن يقاتلك من كتب إليك يستقدمك.

فقال الحسين : «سأنظر فيما قلت ، وقد علمت أنك أشرت بنصح ، ومهما يقض الله من أمر فهو كائن البتة ، أخذت برأيك أم تركت» فانصرف عنه عمر بن عبد الرّحمن ، وهو يقول :

ربّ مستنصح سيعصي ويؤذي

ونصيح بالغيب يلفى نصيحا

وقدم ابن عباس في تلك الأيام إلى مكة ، وقد بلغه أن الحسين عزم

٣٠٩

على المسير ، فأتى إليه ودخل عليه مسلّما ، ثم قال له : جعلت فداك! إنّه قد شاع الخبر في الناس ، وارجفوا بأنّك سائر الى العراق ، فبين لي ما أنت عليه؟

فقال : «نعم ، قد أزمعت على ذلك في أيامي هذه إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم» ، فقال ابن عباس : اعيذك بالله ، من ذلك فإنك إن سرت إلى قوم قتلوا أميرهم ، وضبطوا بلادهم ، واتقوا عدوهم ، ففي مسيرك إليهم لعمري الرشاد والسداد ، وإن سرت إلى قوم دعوك إليهم ، وأميرهم قاهر لهم ، وعمالهم يجبون بلادهم ، فإنما دعوك إلى الحرب والقتال ، وأنت تعلم أنّه بلد قد قتل فيه أبوك ؛ واغتيل فيه أخوك ؛ وقتل فيه ابن عمّك ، وقد بايعه أهله ، وعبيد الله في البلد يفرض ويعطي ، والناس اليوم عبيد الدينار والدرهم ، فلا آمن عليك أن تقتل ، فاتّق الله والزم هذا الحرم ، فإن كنت على حال لا بدّ أن تشخص ، فصر إلى اليمن فإن بها حصونا لك ، وشيعة لأبيك ، فتكون منقطعا عن الناس.

فقال الحسين : «لا بدّ من العراق» ، قال : فإن عصيتني فلا تخرج أهلك ونساءك ، فيقال : إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك ، فو الله ، ما آمن أن تقتل ونساؤك ينظرن كما قتل عثمان.

فقال الحسين : «والله يا ابن عم! لئن أقتل بالعراق أحبّ إليّ من أن اقتل بمكة ، وما قضى الله فهو كائن ، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون».

وأقبل إليه ـ عبد الله بن مطيع العدوي ـ ، فقال : جعلت فداك ، يا ابن رسول الله! لا تخرج إلى العراق فإنّ حرمتك من الله حرمة ، وقرابتك من رسول الله قرابة ، وقد قتل ابن عمّك بالكوفة ، وإنّ بني اميّة إن قتلوك لم يرتدعوا عن حرمة الله أن ينتهكوها ، ولم يهابوا أحدا بعدك أن يقتلوه ، فالله ، الله ، أن تفجعنا بنفسك ، فلم يلتفت الحسين إلى كلامه.

٣١٠

ثمّ أقبل عبد الله بن الزبير فسلّم عليه ، وجلس ساعة ، ثمّ قال : أما والله ، يا بن رسول الله! لو كان لي بالعراق مثل شيعتك لما أقمت بمكة يوما واحدا ، ولو أنك أقمت بالحجاز ما خالفك أحد ، فعلى ما ذا نعطي هؤلاء الدنية ، ونطمعهم في حقنا ، ونحن أبناء المهاجرين وهم أبناء المنافقين؟ قال : وكان هذا الكلام مكرا من ابن الزبير لأنّه لا يحبّ أن يكون بالحجاز أحد يناويه ، فسكت عنه الحسين وعلم ما يريد.

ثم عاد عليه ابن عباس مرّة ثانية ، فأشار عليه بما أشار عليه أوّلا ، ونهاه أن يخرج إلى العراق ، وأن يخرج بنسائه وأهله فيقتل وهم ينظرون إليه ، كما قتل عثمان وأهله ينظرون إليه ، فلا يقدرون له على حيلة ، ثمّ قال : والله ، يا ابن رسول الله! لقد أقررت عيني ابن الزبير بخروجك عن مكة ، وتخليتك إياه في هذه البلدة ، فهو اليوم لا ينظر إليه أحد ، وإذا خرجت نظر النّاس إليه بعدك. فقال الحسين : «فإني أستخير الله في هذا الأمر وأنظر ما يكون» فخرج ابن عبّاس ، وهو يقول : وا حسيناه! ثمّ إن ابن عبّاس مرّ بابن الزبير في طريقه ، وقال له :

يا لك من قبرة بمعمر

خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري

إن ذهب الصائد عنك فابشري

قد رفع الفخ فما من حذر

هذا الحسين سائر فانتشري

ثمّ قال له : قرّت عيناك يا ابن الزبير! فهذا الحسين يخرج إلى العراق ، ويخليك والحجاز ، واتصل الخبر بالمدينة ، وبلغهم أنّ الحسين عزم على الخروج إلى العراق ، فكتب إليه ـ عبد الله بن جعفر الطيار ـ :

بسم الله الرّحمن الرّحيم للحسين بن عليّ من عبد الله بن جعفر :

أما بعد ـ فإني انشدك الله أن تخرج من مكة ، فإني خائف عليك من

٣١١

هذا الأمر الذي قد أزمعت عليه أن يكون فيه هلاكك ، واستئصال أهل بيتك ، فإنّك إن قتلت خفت أن يطفأ نور الله ، فأنت علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالمسير إلى العراق ، فإني آخذ لك الأمان من يزيد ومن جميع بني اميّة لنفسك ولمالك وأولادك وأهلك ، والسلام.

فكتب إليه الحسين :

«أما بعد ـ فإنّ كتابك ورد عليّ فقرأته وفهمت ما فيه ، اعلم أني قد رأيت جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في منامي ، فأخبرني بأمر أنا ماض له ؛ كان لي الأمر أو عليّ ، فو الله ، يا ابن عم! لو كنت في حجر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني ، وو الله ، ليعتدن عليّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت ، والسّلام».

وكتب إليه ـ عمرو بن سعيد بن العاص ـ من المدينة :

أما بعد ـ فقد بلغني أنك قد عزمت على الخروج إلى العراق ، ولقد علمت ما نزل بابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته ، وأنا اعيذك بالله تعالى من الشقاق ، فإني خائف عليك منه ، ولقد بعثت إليك بأخي ـ يحيى بن سعيد ـ فأقبل إليّ معه ، فلك عندنا الأمان والصلة ، والبر والإحسان وحسن الجوار ، والله بذلك عليّ شهيد ووكيل ، وراع وكفيل ، والسلام.

فكتب إليه الحسين :

«أما بعد ـ فإنّه لم يشاق من دعا إلى الله وعمل صالحا ، وقال : إنني من المسلمين ، وقد دعوتني إلى البر والإحسان ، وخير الأمان أمان الله ، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لا يخافه في الدّنيا ، ونحن نسأله لك ولنا في هذه الدنيا عملا يرضى لنا يوم القيامة ، فإن كنت بكتابك هذا إليّ أردت بري وصلتي ، فجزيت بذلك خيرا في الدّنيا والآخرة ، والسلام».

٣١٢

ثم أتى كتاب من يزيد بن معاوية إلى عمرو بن سعيد ، يأمره فيه : أن يقرأه على أهل الموسم وفيه :

يا أيها الراكب الغادي لطيته

على عذافرة في سيرها قحم

أبلغ قريشا على نأي المزار بها

بيني وبين الحسين الله والرّحم

وموقف بفناء البيت ينشده

عهد الإله وما توفي به الذمم

عنيتم قومكم فخرا بامكم

أم لعمري حصان عمّها الكرم

هي التي لا يداني فضلها أحد

بنت الرسول وكلّ النّاس قد علموا

وفضلها لكم فضل وغيركم

من قومكم لهم من فضلها قسم

إني أظن وخير القول أصدقه

والظن يصدق أحيانا وينتظم

إن سوف يترككم ما تدعون به

قتلى تهاداكم العقبان والرخم

يا قومنا! لا تشبوا الحرب إذ سكنت

واستمسكوا بحبال الخير واعتصموا

قد عضت الحرب من قد كان قبلكم

من القرون وقد بادت بها الامم

فأنصفوا قومكم لا تشمخوا بذخا

فربّ ذي بذخ زلّت به القدم

وأتى مثله إلى ـ أهل المدينة ـ من قريش وغيرهم ، قال الشعبي : لكأنه ينظر إلى مصارع القوم ، قال : فوجه أهل المدينة بهذه الأبيات إلى الحسين ، ولم يعلموه أنها من يزيد ، فلما نظرها الحسين علم أنها منه ، وكتب إليهم في الجواب : «بسم الله الرّحمن الرّحيم( وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) يونس / ٤١.

٤ ـ أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد الحافظ أبو الحسن عليّ بن أحمد العاصمي ، عن شيخ القضاة إسماعيل بن أحمد ، عن والده أحمد بن الحسين البيهقي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله السكري ـ ببغداد ـ ، أخبرنا إسماعيل بن أحمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن

٣١٣

عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، قال : سمعت ـ ابن عبّاس ـ يقول : استشارني الحسين بن علي في الخروج من مكة ، فقلت : لو لا أن يزري بي وبك لتشبثت بيدي في رأسك ، قال : فقال : «ما احبّ أن تستحلّ بي» ـ يعني : مكّة.

٥ ـ قال : وبهذا الإسناد ، عن والدي ، أخبرنا أبو الحسين بن الفضل ، أخبرنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا أبو بكر الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبد الله بن شريك ، عن بشر بن غالب ، قال : قال عبد الله بن الزبير للحسين بن عليعليه‌السلام : أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك ، وطعنوا أخاك؟! فقال له الحسين : «لأن اقتل بمكان كذا وكذا ، أحبّ إليّ من أن تستحلّ بيّ» ـ يعني مكّة.

[انتهى «الفصل العاشر» والحمد لله ربّ العالمين]

٣١٤

الفصل الحادى عشر

في خروجه من مكة

الى العراق وما جرى عليه في

طريقه ونزوله بالطف من كربلاء ومقتلهعليه‌السلام

٣١٥
٣١٦

١ ـ قال الإمام الأجل والشيخ المبجل أحمد بن أعثم الكوفي في «تاريخه» : ثمّ جمع الحسينعليه‌السلام أصحابه الذين عزموا على الخروج معه إلى العراق ، فأعطى كل واحد منهم : عشرة دنانير ، وجملا يحمل عليه رحله وزاده ، ثمّ إنه طاف بالبيت ، وطاف بالصفا والمروة ، وتهيأ للخروج ، فحمل بناته وأخواته على المحمل ، وفصل من مكة يوم الثلاثاء ـ يوم التروية ـ لثمان مضين من ذي الحجّة ، ومعه اثنان وثمانون رجلا من شيعته ومواليه وأهل بيته.

فلمّا خرج اعترضه أصحاب الأمير عمرو بن سعيد بن العاص فجالدهم بالسياط ، ولم يزد على ذلك فتركوه ، وصاحوا على أثره : ألا تتق الله تخرج من الجماعة ؛ وتفرق بين هذه الامّة؟ فقال الحسين : «لي عملي ولكم عملكم» ، وسارعليه‌السلام حتّى مرّ «بالتنعيم» فلقي هناك عيرا تحمل الورس والحلل إلى يزيد بن معاوية من عامله باليمن ـ بحير بن ريسان الحميري ـ ، فأخذ الحسين ذلك كلّه ، وقال لأصحاب الإبل : «لا أكرهكم : من أحبّ أن

٣١٧

يمضي معنا للعراق أوفيناه كراه ، وأحسنا صحبته ، ومن أحبّ أن يفارقنا من مكاننا هذا ، أعطيناه من الكرى ما قطع من الأرض».

فمن فارقه منهم حوسب وأوفاه حقّه ، ومن مضى معه أعطاه كراه وكساه ، ثمّ سار حتى إذا صار «بذات عرق» لقيه رجل من ـ بني أسد ـ يقال له : بشر بن غالب ، فقال له الحسين : «ممّن الرجل»؟ قال : من بني أسد ، قال : «فمن أين أقبلت»؟ قال : من العراق ، قال : «فكيف خلفت أهل العراق»؟ فقال : يا ابن رسول الله! خلفت القلوب معك ، والسيوف مع بني اميّة ، فقال له الحسين : «صدقت يا أخا بني أسد! إنّ الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد» ، فقال له الأسدي : يا بن رسول الله! أخبرني عن قول الله تعالى :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) الإسراء / ٧١ ، فقال له الحسينعليه‌السلام : «نعم ، يا أخا بني أسد! هما إمامان : إمام هدى دعا إلى هدى ؛ وإمام ضلالة دعا إلى ضلالة ، فهذا ومن أجابه إلى الهدى في الجنّة ، وهذا ومن أجابه إلى الضلالة في النار».

قال : واتصل الخبر ـ بالوليد بن عتبة ـ أمير المدينة : بأنّ الحسين بن عليّ توجه إلى العراق ، فكتب إلى عبيد الله بن زياد : أما بعد : فإن الحسين ابن علي قد توجه إلى العراق ، وهو ابن فاطمة البتول ، وفاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاحذر يا ابن زياد! أن تأتي إليه بسوء فتهيج على نفسك في هذه الدنيا ما لا يسدّه شيء ، ولا تنساه الخاصة والعامة أبدا ما دامت الدنيا.

قال : فلم يلتفت عدوّ الله إلى كتاب الوليد بن عتبة.

٢ ـ أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد الحافظ أبو الحسن عليّ بن أحمد العاصمي ، أخبرنا شيخ القضاة إسماعيل بن أحمد البيهقي ، أخبرنا والدي أحمد بن الحسين ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا محمد بن يعقوب ،

٣١٨

حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا يحيى بن إسماعيل الأسدي ، قال : سمعت الشعبي يحدث ، عن ابن عمر : أنه كان بماء له ، فبلغه : أن ـ الحسين بن علي ـ توجه إلى العراق ، فلحقه على مسيره ثلاث ليال ، فقال له : أين تريد؟ قال : «العراق» وإذا معه طوامير وكتب ، فقال : «هذه كتبهم وبيعتهم». فقال : لا تأتهم ، فأبى ، فقال : إني محدّثك حديثا : أنّ جبرئيلعليه‌السلام أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فخيره بين الدنيا والآخرة ، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا ، وأنتم بضعة من رسول الله لا يليها أحد منكم ، وما صرفها الله عنكم إلّا للذي هو خير لكم ، قال : فأبى أن يرجع ، فاعتنقه ابن عمر وبكى ، وقال : أستودعك الله من قتيل.

٣ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن الحسين هذا ، أخبرنا أبو الحسين بن الفضل ، أخبرنا عبد الله بن جعفر ، أخبرنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا أبو بكر الحميدي ، حدثنا سفيان [ح] قال أحمد بن الحسين : أخبرنا عبد الله بن يحيى ، حدثنا إسماعيل بن محمد ، حدثنا أحمد بن منصور بن عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، حدثنا لبطة بن الفرزدق ، عن أبيه الفرزدق بن غالب قال : خرجنا حجاجا ، فلمّا كنا «بالصفاح» إذا نحن بركب عليهم اليلامق(١) ومعهم الدرق ، فلمّا دنوت منهم ، إذا أنا بالحسين بن عليعليه‌السلام فقلت : أبو عبد الله! وسلمت عليه.

فقال : «ويحك ، يا فرزدق! ما وراك»؟ فقلت : خير ، أنت أحبّ الناس إلى الناس ، والقضاء في السماء ، والسيوف مع بني أميّة ، ثم فارقناه وسرنا ، فلما قضينا حجنا وكنا ـ بمنى ـ ، قلنا : لو أتينا عبد الله بن عمرو فسألناه عن الحسين ، وعن مخرجه ، فأتينا منزله فإذا نحن بصبية له سود

__________________

(١) اليلامق : جمع يلمق وهو القباء.

٣١٩

مولدين ، فقلنا : أين أبوكم فقالوا : في الفسطاط يتوضأ ، فلم يلبث أن خرج إلينا ، فسألناه عن الحسين ومخرجه ، فقال : أما إنّه لا يحيك(١) فيه السلاح ، فقلت له : أتقول هذا فيه ، وأنت بالأمس تقاتله وأباه؟ فسبني فسببته ، وخرجنا من عنده ، فأتينا ماء لنا ، يقال له : «تعشار» فجعل لا يمر بنا أحد إلّا سألناه عن الحسين حتّى مرّ بنا ركب ، فسألناهم : ما فعل الحسين؟ قالوا : قتل ، فقلت : فعل الله ـ بعبد الله بن عمرو ـ وفعل.

وفي رواية ـ عبد الرزاق ـ قال : فرفعت يدي ، وقلت : اللهم! افعل بعبد الله بن عمرو إن كان قد سخر بي.

قال الحميدي : قال سفيان : أخطأ الفرزدق التأويل ، إنما أراد ـ عبد الله بن عمر ـ وبقوله : لا يحيك فيه السلاح : أنه لا يضره السلاح مع ما قد سبق له ، ليس أنه لا يقتل ، كقولك : حاك في فلان ما قيل فيه.

٤ ـ وبهذا الإسناد ، قال أحمد بن الحسين : والذي يؤكد قول سفيان من اعتقاد ـ عبد الله بن عمرو ـ في الحسين بن علي ، ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني مسلم بن الفضل الآدمي ـ بمكة ـ ، حدثني أبو شعيب الحراني ، حدثني داود بن عمرو ، حدثني علي بن هاشم بن البريد ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن أبيه ، قال : كنت في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حلقة فيها : أبو سعيد الخدري ؛ وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فمرّ بنا ـ الحسين بن عليّ ـ فسلّم فردّ عليه القوم ، فسكت عبد الله بن عمرو حتى إذا فرغوا رفع عبد الله بن عمرو صوته ، فقال : وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته ، ثمّ أقبل على القوم فقال : ألا اخبركم بأحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قالوا : بلى ، قال : هذا هو المقتفي ، والله ، ما كلمني بكلمة من

__________________

(١) يحيك : أي يؤثر.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360