المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٣

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 202

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 202
المشاهدات: 49135
تحميل: 3988


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49135 / تحميل: 3988
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 3

مؤلف:
العربية

فقال : قد استُجيبت دعوتك في ابنة الشريد ، وقد كُفيتَ شرّ لسانها ، مرّت بحِمص فقتلها الطاعون. قال معاوية : فنفسك فبشرّ ؛ فإنّ موتها لم يكن على أحد أروح منه عليك ، ولَعمري، ما انتصفت منها حين أفرغت عليك شؤبوباً وبيلاً. فقال الأسود : ما أصابني من حرارة لسانها شيء ، إلّا وقد أصابك مثله ، وأشدّ منه.

أقول : وعمرو بن الحمق هذا من خيار أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ومن السّابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، وأخلصوا في محبته.

وكتب الحسين (عليه‌السلام ) إلى معاوية - بعد قتله عمرو بن الحمق - جواباً عن كتاب : (( أوَلست قاتلَ عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحُل جسمه واصفرّ لونه ، بعدما أمّنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لَو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس جبل ، ثمّ قتلته ؛ جرأةً على ربّك ، واستخفافاً بذلك العهد ؟! )).

وقُتل عمرو ببلاد الموصل ، وقُطع رأسه واُرسل إلى معاوية ، فأرسله معاوية - كما سمعت - إلى امرأته وهي في السجن ، وأمر أنْ يُطرح في حجرها. وبه اقتدى ولده يزيد في قطع رؤوس سادات المسلمين ، وحملها إليه من بلد إلى بلد ، فإنّه لـمّا قُتل الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه ، أمر عامله عبيد الله بن زياد أنْ يحمل إليه رأس الحسين (عليه‌السلام ) ، ورؤوس أصحابه ، وسبايا أهل بيت النّبوّة ففعل. وكان الرأس الشريف بمرأى ومنظر من نساء الحسين (عليه‌السلام ) ، وأخواته ، وبناته طول مدة الطريق ، من العراق إلى الشام.

وكما طرح معاوية رأس عمرو بن الحمق في حجر زوجته بعد قتله ؛ بغياً وعتوّاً ، وشدّة بغضه لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) وشيعته ، أحضر ولده يزيد رأس الحسين (عليه‌السلام ) بين يديه ، بمحضرٍ من نساء الحسين (عليه‌السلام ) ، وأخواته وبناته ، فأخذت الرباب زوجة

٨١

الحسين (عليه‌السلام ) الرأسَ الشريف ، ووضعته في حجرها وقبّلته ، وقالت :

وآ حُسينا فلا نَسيتُ حُسيناً

أقصَدتْهُ أسنَّةُ الأعداءِ

غادَرُوهُ بكربَلاءَ صَريعاً

لا سقَى اللهُ جانِبي كربلاءِ

وأما زينب (عليها‌السلام ) ، لـمّا رأت رأس أخيها بين يدي يزيد ، هوت إلى جيبها فشقّته ، ثمّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب : يا حسيناه ! يا حبيب رسول الله ! يابن مكّة ومنى ! يا بن فاطمة الزهراء سيّدة النّساء ! يابن بنت المصطفى ! فأبكت كلّ مَن كان حاضراً في المجلس.

رقَّ لهَا الشامتُ ممّا بِها

ما حالُ مَنْ رقَّ لها الشامتُ

* * *

المجلس الرابع والسّبعون بعد المئة

قال الـمُرزُباني ، قال الحسن البصري : أربع خصال كنّ في معاوية ، لو لم يكنّ فيه إلّا واحدة منهن ، كانت موبقة : انتزاؤه على هذه الاُمّة بالسُفهاء ، وفيها بقايا الصحابة وذوو الفضل ، وادّعاؤه زياداً ، وقد قال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( الولد للفراش ، وللعاهر الحجر )) ، واستخلافه يزيداً من بعده ، سكّيراً خمّيراً ، يزوج بين الدّب والذئب ، والكلب والضبع ؛ ينظر ما يخرج بينهما ، وقتله حجر بن عدي وأصحابه. فيا ويله ! ثمّ يا ويله !

قال الـمُرزُباني : كان حِجر بن عدي بن الأدبر الكندي - رحمة الله عليه - وفد على النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وشهد القادسية ، وهو الذي فتح مَرج عذراء. وشهد مع علي (عليه‌السلام ) الجمل وصفّين ، وهو من العُبّاد الثقات المعروفين ، روى عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وتكلّم زياد بن أبيه يوماً على المنبر ، فقال : إنّ من حقّ أمير المؤمنين ، أعادها

٨٢

مراراً ، فقال حِجر : كذبت ، ليس كذلك. فسكت زياد ساعة ، ثمّ أخذ في كلامه حتّى غاب عنه ما جرى ، فقال : إنّ من حقّ أمير المؤمنين ، فأخذ حِجر كفاً من حصى فحصبه ، وقال : كذبت ، عليك لعنة الله. فانحدر زياد عن المنبر ودخل دار الإمارة ، وانصرف حِجر ، فبعث إليه زياد الخيل والرجال ، فقالوا : أجب. فقال : إنّي والله ، ما أنا بالذي يخاف ، ولا آتيه أخافه على نفسي.

وقال ابن سيرين : لو مال لمال أهل الكوفة معه ، غير أنّه كان رجلاً ورعاً. وأبى زياد أنْ يرفع عنه الخيل حتّى سلسله ، وأنفذه مع اُناس من أصحابه - وكانوا ثلاثة عشر(١) - إلى معاوية. فلمّا سار حِجر ، أتبعه زياد بريداً ، فقال : اركض إلى معاوية ، وقل له : إنْ كان لك في سلطانك حاجة ، فاكفني حِجراً. فلمّا قدم عليه حِجر ، قال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين. قال : وأمير المؤمنين أنا ! وجعل يكرر ذلك ، وأمر بإخراج حِجر وأصحابه إلى عذراء ، وقتلهم هناك.

قال ابن الأثير : كان حجر وأصحابه - الذين بعث بهم زياد إلى معاوية - أربعة عشر رجلاً ، فحُبسوا بمرج عذراء ، وتشفّع أصحاب معاوية في ستّة منهم فأطلقهم ، وتشفّع بعضهم في حِجر فلم يطلقه ، وطلب اثنان منهم أنْ يرسلوهما إلى معاوية ، وقالا : إنّا نقول في هذا الرجل - أي:علي - مثل مقالته. فقال لأحدهما : ما تقول في علي ؟ قال : أقول فيه قولك. قال : أتبرأ من دين علي الذي يدين الله به ؟ فسكت ، فتشفّع فيه بعض الحاضرين ، فنفاه إلى الموصل فمات بها.

وقال للآخر : ما تقول في علي ؟ قال دعني لا تسألني ، فهو خير لك. قال : والله لا أدعك. قال : أشهد أنّه كان من الذاكرين الله كثيراً ، من الآمرين بالحقّ ، والقائمين بالقسط ، والعافين عن النّاس... إلى أنْ

____________________

(١) سيأتي في رواية ابن الأثير : إنّهم أربعة عشر ، فلعّل مراد المُرزُباني : إنّهم ثلاثة عشر ، ما عدى حجر ، ومعه أربعة عشر.

٨٣

قال له معاوية : قتلت نفسك. قال : بل إيّاك قتلت. فردّه إلى زياد وأمره أن يقتله شرّ قتلة ، فدفنه حيّاً ، ثمّ قُتل حجر وأصحابه بمرج عذراء ، وكانوا ستّة ، والذي دفنه زياد حيّاً ، فهؤلاء سبعة ونجا منهم سبعة.

وبعث معاوية رجلاً أعور اسمه هدبة القضاعي ، ومعه رجلان ليقتلوا مَن أمروا بقتله ، فأتوا مساءً ، فقالوا لهم : إنّا قد اُمرنا أنْ نعرض عليكم البراءة من علي (عليه‌السلام ) واللّعن له ، فإنْ فعلتم تركناكم ، وإنْ أبيتم قتلناكم. فقالوا : لسنا فاعلي ذلك. فحُفرت لهم القبور واُحضرت الأكفان، وقام حِجر وأصحابه يُصلّون عامّة الليل ، كما قام الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه ليلة العاشر من الـمُحرّم يصلّون عامّة الليل ، ويذكرون الله تعالى ويدعون ويستغفرون ، وهم يعلمون أنّهم في صبيحة تلك الليلة مقتولون لا محالة ، كما يعلم حِجر وأصحابه أنّهم في صبيحة ليلتهم مقتولون لا محالة ، فما أشبه الأبناء بالآباء ، والخلف بالسلف.

وكان للحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه في تلك الليلة دوي كدوي النّحل ، وباتوا ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد :

سمةُ العبيدِ منَ الخشوعِ عليهمُ

للهِ إنْ ضمَّتهُمُ الأسحارُ

فإذا ترجَّلت الضُّحَى شهِدتْ لهُمْ

بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ

ولـمّا كان الغد ، قُدّم حجر وأصحابه الستّة فقُتلوا ، وصُلّي عليهم ودُفنوا ، ولـمّا كان الغد من يوم عاشوراء ، وقُتل الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه ، لم يُصلّى عليهم ولم يُدفنوا ، بل إنّ عمر بن سعد صلّى على أصحابه ودفنهم ، وترك الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه مطرَّحين على الرمضاء بغير دفن ، جثثاً بلا رؤوس حتّى جاء بنو أسد بعد ثلاثة أيام ، فصلّوا على تلك الجثث الطواهر الزواكي ودفنوها.

فيا أقبُراً خُطَّتْ على أنجُمٍ هوتْ

وفُرّقنَ في الأطرافِ مُغترباتِ

وليسَ قبوراً هُنّ بل هُنّ روضةٌ

مُنوَّرةٌ مُخضرَّةُ الجنباتِ

٨٤

المجلس الخامس والسّبعون بعد المئة

قال الأعمش : أوّل قتيل قُتل في الإسلام صبراً حِجر بن عدي.

قال الـمُرزُباني : لـمّا بعث زياد بن أبيه بحِجر بن عدي وأصحابه إلى معاوية بالشام ، أمر معاوية بإخراجهم إلى عذراء وقتلهم هناك ، فلمّا قدم حِجر عذراء ، قال : ما هذه القرية ؟ فقيل: عذراء. فقال : الحمد لله ، أما والله ، إنّي لأوّل مسلم ذكر الله فيها وسجد ، وأوّل مسلم نبح عليه كلابها في سبيل الله ، ثمّ أنا اليوم اُحمل إليها مُصفّداً في الحديد.

ثمّ قال حجر للذي أمر بقتلهم : دعني اُصلّي ركعتين. فصلّى ركعتين خفيفتين ، فلمّا سلّم انفتل إلى النّاس ، فقال : لولا أنْ يقولوا جزع من الموت ، لأحببت أنْ تكونا أنفس ممّا كانتا ، وأيم الله ، لئن لم تكن صلاتي فيما مضى تنفعني ، ما هاتان بنافعتي شيئاً. ثمّ أخذ ثوبه فتحزّم به ، ثمّ قال لـمَن حوله من أصحابه : لا تحلّوا قيودي ، فإنّي أجتمع أنا ومعاوية على هذه المحجّة.

ثم مشى إليه هدبة الأعور بالسيف ، فشخص له حجر ، فقال : ألم تقل إنّك لا تجزع من الموت ؟ فقال : أرى كفناً منشوراً ، وقبراً محفوراً ، وسيفاً مشهوراً ، فما لي لا أجزع ؟! أما والله ، لئن جزعت ، لا أقول ما يسخط الربّ. فقال له : فابرأ من عليٍّ ، وقد أعدّ لك معاوية جميع ما تريد إنْ فعلت. فقال : ألم أقل إنّي لا أقول ما يسخط الربّ ؟ والله ، لقد أخبرني حبيبي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بيومي هذا. ثمّ قال : إنْ كنتَ أمرت بقتل ولدي(١) فقدّمه. فقدّمه فضربت عنقه ، فقيل له :

____________________

(١) لم يذكر غير الـمُرزُباني إنّ ولد حِجر كان من جملة المقتولين ، ولعلّه جاء مع أبيه لوداعه أو لغير ذلك فقُتل ، ولم يكن من الذين بعث بهم زياد ؛ فلذلك لم يذكره المؤرّخون ، والله أعلم. - المؤلّف -

٨٥

تعجّلت الثكل. فقال : خفت أنْ يرى هول السّيف على عنقي فيرجع عن ولاية علي (عليه‌السلام ) ، فلا نجتمع في دار المقامة التي وعدها الله الصابرين.

فلله درّ حِجر ! ما أعظم نفسه ، وأجلّ مقامه ، وأشدّ تهالكه في حبّ أهل بيت نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وفي طاعة ربه !

وإذا كانتْ النّفوسُ كِباراً

تعبتْ في جِوارها الأجسامُ

فانظر إليه كيف ثبت في هذا المقام الرهيب وسلّم نفسه للقتل ، ولم يبرأ من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ! مقام عظيم وأيَم الله ، وأيُّ مقام ! فتسليم النّفس للقتل ليس بالأمر الهيّن. ولم يكتفِ بتسليم نفسه للقتل حتّى قدّم ابنه للقتل أمامه ؛ خوفاً عليه من أنْ يرجع عن ولاية علي (عليه‌السلام ). والولد قطعة من الكبد ، ولا يعدل النفس شيئاً إلّا الولد.

ولهذا لـمّا برز علي الأكبر يوم كربلاء ، لم يملك أبوه الحسين (عليه‌السلام ) دمعته مع ما اُوتيه من الصبر العظيم ، وأرخى عينيه بالدموع وبكى ، ثمّ رفع سبابتيه نحو السّماء ، وقال : (( اللهمّ ، كُنْ أنت الشهيد عليهم ، فقد برز إليهم غلام أشبه النّاس خَلْقاً وخُلقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيَّك نظرنا إليه )).

يا كوكباً ما كان أقصرَ عُمرُهُ

وكذا تكونُ كواكبُ الأسحارِ

ولهذا أيضاً ، لـمّا وصل الخبر إلى بشر بن عمرو الحضرمي يوم عاشوراء : أنّ ابنه اُسّر بثغر الري ، قال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنت أحبّ أنْ يُؤسر وأبقى بعده. فسمع الحسين (عليه‌السلام ) مقالته ، فقال له : (( رحمك الله ، أنت في حلٍّ من بيعتي ، فاذهب واعمل في فكاك ابنك )). فقال : أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك. قال (عليه‌السلام ) : (( فأعطِ ابنك هذا هذه الأثواب البُرود ؛ يستعين بها في فداء أخيه )). فأعطاه خمسة أثواب بُرود قيمتها ألف دينار ، فحملها مع ولده.

٨٦

لقدْ صَبرُوا صبْرَ الكرامِ وقدْ قضَوا

على رغبةٍ منهُمْ حقوقَ المكارمِ

قساورةٌ يومَ القراعِ رماحُهُمْ

تكفَّلنَ أرزاقَ النّسورِ القشاعمِ

* * *

المجلس السّادس والسّبعون بعد المائة

لـمّا بعث زياد بن أبيه بحِجر بن عدي الكندي وأصحابه إلى معاوية بالشام ، أمر معاوية بأخذهم إلى عذراء - وهي قرية شرقي دمشق - وقتلهم هناك ، فحُملوا إليها.

قال الـمُرزُباني : فلمّا أرادوا قتلهم ، اجتمع إلى حِجر أصحابه ليودّعوه ، فأنشأ حِجر يقول :

فمَنْ لكُمُ مثلي لدَى كلِّ غارةٍ

ومَنْ لكمُ مثلي إذا البأسُ أصحَرا

ومَن لكُمُ مثلي إذا الحربُ قُلّصتْ

وأوضع فيها الـمُسْتميتُ وشمَّرا

و لـمّا حُمل عبد الرحمن بن حسّان العنزي ، وكريم بن عفيف الخثعمي - وكانا من أصحاب حجر - ، قال العنزي : يا حِجر ، لا تبعُد ولا يبعُد ثوابك ، فنعم أخو الإسلام كنت ! وقال الخثعمي : يا حِجر ، لا تبعُد ولا تُفقد ، ولقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ثمّ ذُهب بهما إلى القتل ، فأتبعهما حِجر بصره ، وقال :

كفَى بسفاهِ القبرِ بُعداً لهالكٍ

وبالموتِ قطّاعاً لحبلِ القرائِنِ

قال الـمُرزُباني : لـمّا قُتل حِجر بنُ عدي ، قالت امرأة من كندة ترثيه :

ترفَّعْ أيُّها القمرُ الـمُنيرُ

لعلّكَ أنْ ترَى حِجْراً يسيرُ

٨٧

يسيرُ إلى معاويةَ بنِ صخرٍ

ليقتلُهُ كما زعمَ الأميرُ

ألا يا حجْرُ حجْرَ بني عديٍّ

ومَنْ أخلاقُهُ كرمٌ وخيرُ(١)

ألا يا ليتَ حِجراً مات موتاً

ولمْ يُنحرْ كما نُحرَ البعيرُ

تجبَّرتْ الجبابرُ بعد حِجْرٍ

وطابَ لها الخورنقُ والسَّديرُ

وقالت عائشة لمعاوية حين قتل حِجراً وأصحابه : أما والله ، لقد بلغني أنّه سيُقتل بعذراء سبعة نفر ، يغضب الله لهم وأهل السّماء.

قال ابن الأثير : كان النّاس يقولون : أوّل ذلّ دخل الكوفة موت الحسن بن علي ، وقتل حِجر ، ودعوة زياد. وقيل : إنّ حِجراً لـمّا قُدّم ليُقتل ، قيل له : مد عنقك. فقال : ما كنتُ لأعين الظالمين.

ما أشبه ما جرى لحِجر بما جرى لهاني بن عُروة ، الذي قُتل في حبّ أهل البيت (عليهم‌السلام ) ونصرتهم ؛ فإنّه لـمّا جيء به ليُقتل ، قيل له : امدد عنقك. فقال : ما أنا بها سخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي. فضربه مولى لعبيد الله بن زياد تركي ، اسمه رشيد ، بالسّيف فلم يصنع شيئاً، فقال له هاني : إلى الله المعاد. اللهمّ ، إلى رحمتك ورضوانك. ثمّ ضربه اُخرى فقتله.

فإنْ كُنتِ لا تدرينَ ما الموتُ فانظُري

إلى هانئٍ في السّوقِ وابنِ عقيلِ

إلى بطلٍ قدْ هشَّمَ السَّيفُ وجهَهُ

وآخرَ يهوِي منْ طمارِ قتيلِ

تَرَي جسداً قدْ غيَّرَ الموتُ لونَهُ

ونضْحَ دمٍ قدْ سال كلَّ مسيلِ

_____________________

(١) هذا البيت لم يذكره الـمُرزُباني ، وأورد ابن الأثير بدل الشطر الأخير : ( تلقّتك السلامة والسُّرور ). - المؤلّف -

٨٨

فتىً كانَ أحَيا منْ فتاةٍ حييَّةٍ

وأقطعَ منْ ذي شفْرَتينِ صَقيلِ

* * *

المجلس السّابع والسّبعون بعد المئة

قال الـمُرزُباني : كان الأحنف بن قيس التميمي -رحمه‌الله - من خيار أصحاب علي (عليه‌السلام ). روي : أنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنفذ رجلاً يدعو بني سعد إلى الإسلام ، والأحنف فيهم ، فقال : والله ، إنّه يدعو إلى خير ، وما أسمع إلّا حسناً ، وإنّه ليدعو إلى مكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها. فذُكر ذلك الرجل للنبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مقاله ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( اللهمّ ، اغفر للأحنف )). وكان يقول : هذا منْ أرجى عملي عندي.

وحضر عند معاية فتكلّم جلساؤه ، والأحنف ساكت ، فقال له معاوية : ما لك لا تتكلّم يا أبا بحر ؟ فقال : أخاف الله إنْ كذبت ، وأخافكم إنْ صدقت. وقال له معاوية مرّة : أنت صاحبنا بصفّين ، ومخذّل النّاس عن اُمّ المؤمنين. فقال : والله ، إنّ قلوبنا التي أبغضناك بها يومئذ لفي صدورنا ، وإنّ سيوفنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن دنوت إلينا شبراً من غدر ، لندنونّ إليك ذراعاً من ختر ، ولئن شئت لتصفونّ لك قلوبنا بحلمك عنّا. قال : قد شئت.

وكان عنده يوماً ، إذ دخل رجل من أهل الشام ، فقام خطيباً ، فكان آخر كلامه أنْ سبّ عليّاً (عليه‌السلام ) ، فأطرق النّاس ، فتكلم الأحنف وقال مخاطباً لمعاوية : إنّ هذا القائل ما قال لو يعلم أنّ رضاك في شتم الأنبياء والمرسلين لما توقّف عن شتمهم ، فاتّقِ الله ودع عنك عليّاً ؛ فقد لقي ربّه بأحسن ما عمل عامل. كان والله ، المبرّز في سبقه ، الطاهر في خُلُقه ، الميمون النقيبة ، العظيم المصيبة ، أعلم العلماء

٨٩

وأحلم الحلماء ، وأفضل الفضلاء ، ووصي خير الأنبياء. فقال معاوية : لقد أغضيت العين عن القذى ، وقلت بما لا ترى ، وأيَم الله ، لتصعدنّ المنبر فتلعنه طوعاً أو كرهاً. فقال : إنْ تعفيني ، فهو خير لك ، وإنْ تجبرني على ذلك ، فوالله ، لا يجري به لساني أبداً. فقال : لا بدّ أنْ تركب المنبر وتلعن عليّاً. فقال : إذاً والله ، لأنصفنّك وأنصفنّ عليّاً. قال : تفعل ماذا ؟ قال : أحمد الله واُثني عليه واُصلّي على نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وأقول : أيها النّاس ، إنّ معاوية أمرني أنْ ألعن عليّاً ، وأنّ عليّاً ومعاوية اقتتلا وادّعى كلّ منهما أنّه كان مبغياً عليه وعلى فئته ، فإذا دعوت فأمّنوا على دعائي ، ثمّ أقول : اللهمّ ، العن أنت وملائكتك ، وأنبياؤك ورسلك ، وجميع خلقك ، الباغي منهما على الآخر ، والعن اللهمّ ، الفئة الباغية على الفئة المبغي عليها آمين ربّ العالمين. اللهمّ ، العنهم لعناً وبيلاً ، وجدد العذاب عليهم بكرة وأصيلاً. قال : بل أعفيناك يا أبا بحر.

وقال يوماً معاوية لجلسائه : ألستم تعلمون كتاب الله ؟ قالوا : بلى. فتلا قوله تعالى :( وَإِن مّن شَيْ‏ءٍ إِلّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومِ ) (١) . فقال : كيف تلومونني بعد هذا ؟ فقام الأحنف ، فقال : ما نلومك على ما في خزائن الله ، إنّما نلومك على ما أنزل الله لنا من خزائنه فأغلقت عليه بابك. فسكت معاوية ولم يحرِ جواباً.

هكذا تكون حال المخلصين في ولائهم ، الذين أخذوا على أنفسهم نصرة الحقّ في حالتي الأمن والخوف ، والشدّة والرخاء ، أمثال الأحنف من أهل النفوس الكبيرة والهمم السامية ، وأمثال أنصار الحسين (عليه‌السلام ) الذين تلقّوا السيوف والرماح والسّهام بنحورهم ووجوههم وصدورهم، لم يثنهم عن نصرة الحقّ خوف الردى ، ولم تتغير حالهم في تلك المواقف الرهيبة المخيفة.

ولـمّا خطبهم الحسين (عليه‌السلام ) بكربلاء ، فقال (عليه‌السلام ) : (( إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، ولم يبقَ منها إلّا صُبابة

____________________

(١) سورة الحِجر / ٢١.

٩٠

كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألَا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً ؛ فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً )).

قام زهير بن القين ، فقال : قد سمعنا - هداك الله - يابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها. ووثب نافع بن هلال الجملي ، فقال : والله ، ما كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نياتّنا وبصائرنا نوالي مَن والآك ، ونُعادي مَن عاداك. وقام برير بن خضير ، فقال : والله يابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا أنْ نقاتل بين يديك ، وتُقطع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.

وخطبهم ليلة العاشر من الـمُحرّم فقال (عليه‌السلام ) - من جملة خطبته - : (( ألّا وإنّي قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم؛ فإنّهم لا يُريدون غيري )). فقال له إخوته وأبناؤه ، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، وأتبعه الجماعة عليه ، فتكلّموا بمثله ونحوه.

وقام مسلم بن عوسجة الأسدي فقال : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدو ؟! وبمَ نعتذر إلى الله في أداء حقّك ؟! لا والله ، لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، واُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح اُقاتلهم به ، لقذفتهم بالحجارة ولم اُفارقك أو أموت معك. وقام سعيد بن عبد الله الحنفي ، فقال : لا والله يابن رسول الله ، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله إنّا قد حفظنا فيك وصية رسول الله محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). والله ، لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ اُحيا ، ثمّ اُحرق

٩١

حيّاً ثمّ اُذرّى ، يُفعل فيَّ ذلك سبعين مرّة ، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ؟! وقام زهير بن القَين ، وقال: والله يابن رسول الله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هولاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك.

وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً ، وقالوا : أنفسنا لك الفداء ! نقيك بأيدينا ووجوهنا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك ، نكون قد وفّينا لربّنا وقضينا ما علينا.

قَلَّ الصّحابةُ غيرَ أنّ

قليلهُمْ غيرُ القَليلِ

منْ كلِّ أبيضَ واضحِ الـ

ـحَسَبينِ مَعدُومِ المثيلِ

* * *

المجلس الثامن والسّبعون بعد المئة

قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : لم يكن أحد أحبّ إلى معاوية أنْ يلقاه من أبي الطفيل الكناني ، وهو عامر بن وائلة ، وكان فارس أهل صفّين وشاعرهم ، وكان من أخصّ النّاس بعلي (عليه‌السلام ). فقدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية ، فاُخبر معاوية بقدومه ، فأرسل إليه فأتاه ، وهو شيخ كبير ، فلمّا دخل عليه ، قال له معاوية : أنت أبو الطفيل عامر بن وائلة ؟ قال : نعم. قال معاوية : أكنت ممّن قتل أمير المؤمنين عثمان ؟ قال : لا ، ولكن ممّن شهده فلم ينصره. قال : ولمَ ؟ قال : لم ينصره المهاجرون والأنصار. فقال معاوية : أما والله ، إنّ نُصرته كانت عليك وعليهم حقّاً واجباً ، وفرضاً لازماً ، فإذا ضيّعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله ،

٩٢

وأصاركم إلى ما رأيتم. فقال أبو الطفيل : فما منعك يا أمير المؤمنين ، إذ تربّصت به ريب المنون، أنْ تنصره ، ومعك أهل الشام ؟ فقال معاوية : أوَما ترى طلبي لدمه ؟! فضحك أبو الطفيل ، وقال : ويلي ! ولكنّي وإيّاك كما قال عبيد بن الأبرص :

لأعرِفنّكَ بعدَ الموتِ تنْدبُني

وفي حَياتي ما زَوَّدتَني زادِي

فدخل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحكم ، فلمّا جلسوا نظر إليهم معاوية ، ثمّ قال : أتعرفون هذا الشيخ ؟ قالوا : لا. فقال معاوية : هذا خليل علي بن أبي طالب، وفارس صفّين ، وشاعر أهل العراق ، هذا أبو الطفيل. قال سعيد بن العاص : قد عرفناه، فما يمنعك منه وشتمه القوم ؟ فزجرهم معاوية ، وقال : مهلاً ، فربَّ يومٍ ارتفع عن السُّباب ، قد ضقتم به ذرعاً. ثمّ قال : أتعرف هؤلاء يا أبا الطفيل ؟ قال : ما أنكرهم من سوء، ولا أعرفهم بخير.

وأنشد شعراً :

فإنْ تكنْ العداوةُ قدْ أكنَّتْ

فشرُّ عداوةِ المرءِ السُّبابُ

فقال معاوية : يا أبا الطفيل ، ما أبقى لك الدهر من حبّ علي ؟ قال : حبّ اُمّ موسى ، وأشكو إلى الله التقصير. فضحك معاوية ، وقال : ولكن والله ، هؤلاء الذين حولك لو سُئلوا عنّي ما قالوا هذا. فقال مروان : أجل ، والله ، لا نقول الباطل. قال : ولا الحقّ تقولون ؟ ثمّ جهّزه معاوية وألحقه بالكوفة.

وسعيد بن العاص هذا ، هو والد عمرو بن سعيد بن العاص الذي كان والياً على المدينة من قِبل يزيد حين قُتل الحسين (عليه‌السلام ) ؛ فلمّا بلغه قتله ، وسمع واعية بني هاشم في دورهم على الحسين (عليه‌السلام ) حين سمعوا النداء بقتله ، ضحك وتمثّل بقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :

عجَّتْ نساءُ بني زيادٍ عجَّةً

كعجيجِ نسوتُنا غداةَ الأرنَبِ

٩٣

ثمّ قال عمرو : هذه واعية بواعية عثمان. ثمّ صعد المنبر وخطب النّاس ، وأعلمهم قتل الحسين (عليه‌السلام ) ، وقال في خطبته : إنّها لدمَة بلدمة وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة وموعظة بعد موعظة ، حكمة بالغة فما تُغني النّذر ، والله ، لوددت أنّ رأسه في بدنه وروحه في جسده ، أحياناً كان يسبّنا ونمدحه ، ويقطعنا ونصله كعادتنا وعادته ، ولمْ يكن من أمره ما كان ، ولكن كيف نصنع بمَن سلّ سيفه يريد قتلنا إلّا أنْ ندفعه عن أنفسنا.

فقام عبد الله بن السائب ، فقال : لو كانت فاطمة حيّةً ، فرأت رأس الحسين (عليه‌السلام ) لبكت عليه. فجبهه عمرو بن سعيد ، وقال : نحن أحقّ بفاطمة منك ؛ أبوها عمّنا ، وزوجها أخونا ، وابنها ابننا. لو كانت فاطمة حيّةً ، لبكت عينها ، وحرّت كبدها ، وما لامت مَن قتله ودفعه عن نفسه.

وأحالُوا على المقاديرِ في قَتْـ

ـلِكَ لو أنّ عذرَهُمْ مقبولُ

ما أطاعُوا فيكَ النَّبيَّ وقدْ ما

لتْ بأسيافهمْ إليكَ الدُخولُ

* * *

المجلس التاسع والسّبعون بعد المئة

كان خُزيمة بن ثابت -رضي‌الله‌عنه - من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد ، وجعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) شهادته كشهادة رجلين ؛ فسُمّي : ( ذو الشهادتين ). شهد مع أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) الجمل وصفّين ، واستشهد بين يديه بصفّين.

قال الـمُرزُباني : روي : أنّ ابن أبي ليلى قال : كنت بصفّين ، فرأيت رجلاً

٩٤

أبيض اللحية معتمّاً متلثّماً ، لا يُرى منه إلّا أطراف لحيته ، يُقاتل أشدّ قتال ، فقلت : يا شيخ ، تُقاتل المسلمين ؟! فحسر لثامه ، وقال : أنا خُزيمة ، سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول : (( قاتل مع عليٍّ جميعَ مَن يقاتل )).

ولخُزيمة :

إذا نحنُ بايَعْنا عليّاً فحسبُنا

أبو حسنٍ ممَّا نخافُ منَ الفِتَنْ

وجدناهُ أولَى النّاسِ بالنّاسِ إنّهُ

أطبُّ قُريشٍ بالكتابِ وبالسُّننْ

وفيه الذي فيهمْ من الخيرِ كلِّهِ

وما فيهمُ بعضُ الذي فيهِ منْ حَسَنْ

وله أيضاً :

ما كنتُ أحسبُ هذا الأمرَ مُنتقلاً

عنْ هاشمٍ ثُمَّ منها عنْ أبي حَسنِ

أليسَ أوّلَ مَنْ صلَّى لقبلتِهمْ

وأعلمَ النّاسِ بالقُرآن والسُّننِ

وآخرَ النّاسِ عَهداً بالنَّبيِّ ومَنْ

جبريلُ عونٌ لهُ في الغُسلِ والكَفَنِ

وفيهِ ما فيهمُ لا يَمتَرون بهِ

وليس في القومِ ما فيهِ منَ الحَسَنِ

ماذا الذي ردَّكُمْ عنهُ فنعلَمُهُ

ها إنَّ بيعتكُمْ منْ أغبنِ الغبَنِ(١)

وعن الأصبغ بن نباتة ، قال : نشد علي (عليه‌السلام ) النّاس : (( مَن سمع النبيَّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال يوم غدير خُمٍّ ما قال إلّا قام )). فقام بضعة عشر رجلاً ، فيهم : أبو أيوب الأنصاري ، وخُزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وسهل بن حنيف الأنصاري وغيرهم ، فقالوا : نشهد إنّا سمعنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، يقول : (( ألَا إنّ

____________________

(١) ورد المصراع الثاني بنحو آخر ، هو : ها إنّ ذا غَبَنٌ منْ أعظمِ الغَبَنِ.

٩٥

الله عزّ وجل وليِّي ، وأنا وليُّ المؤمنين ، ألَا فمَن كنتُ مولاه ، فعليٌّ مولاه. اللهمّ ، والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه ، وأحبَّ مَن أحبَّه ، وأبغض مَن أبغضه ، وأعنْ مَن أعانه )). كما عن اُسد الغابة في أحوال الصحابة وغيره.

ومن الصحابة الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) قرظة بن كعب الأنصاري ، كان من الرّواة، وحارب مع أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) وولاّه فارس. وولدُهُ عمرو بن قرظة الأنصاري كان من أنصار الحسين (عليه‌السلام ) الذين بالغوا في نصرته ، ولـمّا كان يوم عاشوراء ، استأذن الحسين (عليه‌السلام ) في القتال فأذن له ، فبرز وهو يقول :

قدْ عَلمَتْ كتيبَةُ الأنصارِ

أنّي سأحمي حوزةَ الذُّمّارِ

ضربَ غُلامٍ غيرِ نكسٍ شاري

دونَ حُسينٍ مُهجَتي وداري

فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السّماء حتّى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد ، وجمع بين سداد وجهاد. وكان لا يأتي إلى الحسين (عليه‌السلام ) سهمٌ إلّا اتّقاه بيده ، ولا سيف إلا تلقّاه بمهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين (عليه‌السلام ) سوء حتّى اُثخن بالجراح ، فالتفت إلى الحسين (عليه‌السلام ) ، وقال : يابن رسول الله ، أوَفيت ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فاقرأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عنّي السّلام ، وأعلمه أنّي في الأثر )). فقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه.

وتبادَرتْ تلْقَى الأسنَّةَ لا تَرى الْـ

ـغمرات إلّا المائِساتِ الغيدَا

وكأنّما قصدَ القنّا بنحورِهمْ

دُرراً يُفصِّلُها الفناءُ عُقودَا

* * *

٩٦

المجلس الثمانون بعد المئة

كان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري من أجلاّء الصحابة ، ومن المتفانين في حبّ علي (عليه‌السلام ) ونصره.

وفي الإستيعاب ، قال الواقدي : كان قيس بن سعد من كرام أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وأسخيائهم ودهاتهم. قال أبو عمرو : كان أحد الفضلاء الأجلّة ، وأحد دهاة العرب ، وأهل الرأي والمكيدة في الحرب ، مع النّجدة والبسالة ، والسخاء والكرم ، وكان شريف قومه غير مدافع، وكان يقول : اللهمّ ، ارزقني حمداً ومجداً ؛ فإنّه لا حمد إلّا بفعال ، ولا مجد إلّا بمال.

واستقرض منه رجل ثلاثين ألفاً ، فلمّا ردّها عليه أبى أنْ يقبلها ، وقال : إنّا لا نعود في شيء أعطيناه. وشكت إليه عجوز أنّه ليس في بيتها جرذ ، فقال : ما أحسن ما سألت ! أما والله ، لأكثرنّ جرذان بيتك ، فملأ بيتها طعاماً وأداماً. ولـمّا خرج أبوه من المدينة ، قسّم ماله بين أولاده ، وكان له حمل لا يعلم به ، فلمّا توفي أبوه ، طلبوا إلى قيس أنْ ينقض القسمة ، فقال : نصيبي للمولود ، ولا أنقض ما صنع أبي.

وكان لقيس دَينٌ كثيرعلى النّاس ، فمرض واستبطأ عوّاده ، فقيل : إنّهم يستحون من أجل دينك. فأمر فنودي : مَن كان لقيس عليه دَين فهو له ، فتزاحم النّاس على عيادته حتّى هدموا درجة كانوا يصعدون عليها إليه. وقال أنس بن مالك : كان قيس من النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير.

صحب قيس علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ، وشهد معه الجمل وصفّين والنّهروان هو وقومه ، ولم يفارقه حتّى قُتل. وكان علي (عليه‌السلام ) قد ولاّه على مصر ، فضاق به معاوية وكايد فيه عليّاً

٩٧

ففطن له ، فلم يزل به الأشعث وأهل الكوفة حتّى عزله ، وولّى محمّد بن أبي بكر ففسدت عليه مصر. وكان قيس مع الحسن (عليه‌السلام ) على مقدّمته ، ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم وتبايعوا على الموت ، فلمّا دخل الحسن (عليه‌السلام ) في بيعة معاوية أبى قيس أنْ يدخل.

قال أبو الفرج : إنّه نهض بمَن معه لقتال معاوية ، وخرج إليهم بُسر بن أرطأة في عشرين ألفاً ، فصاحوا بهم : هذا أميركم قد بايع ، وهذا الحسن (عليه‌السلام ) قد صالح ، فعَلامَ تقتلون أنفسكم ؟ فقال لهم قيس - أي : لأصحابه - : اختاروا أحد اثنين ؛ إمّا القتال مع غير إمام ، أو تبايعون بيعة ضلال ؟ فقالوا : بل نُقاتل بلا إمام. فخرجوا وضربوا أهل الشام حتّى ردّوهم إلى مصافهم.

وكتب معاوية إلى قيس يدعوه ويمنّيه ، فكتب إليه قيس : لا والله ، لا تلقاني أبداً إلّا وبيني وبينك السّيف والرمح. وجرت بنيهما مكاتبات أغلظ كلّ منهما فيها لصاحبه ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية : مهلاً ، إنْ كاتبته أجابك بأشدّ من هذا ، وإنْ تركته دخل فيما يدخل فيه النّاس. وقال قيس لأصحابه : إنْ شئتم جالدت بكم ، وإنْ شئتم أخذت لكم أماناً ؟ فقالوا : خذ لنا أماناً. فأخذ لهم وله أماناً ، ولم يأخذ لنفسه خاصّة شيئاً ، ثمّ لزم المدينة وأقبل على العبادة حتّى مات.

أقول : شتّان بين عبيد الله بن العبّاس وقيس بن سعد ، فهذا يسالم معاوية بعدما ذبح بُسر بن أرطأة أولاده الصغار على درج صنعاء حين أرسله معاوية ، ويبيع شرفه بالمال ، ويرضى بالذلّ والعار ، وقيس بن سعد يحلف أنْ لا يلقى معاوية إلّا بينه الرمح والسيف ، بعد ما بلغه أنّ الحسن قد صالح.

أبتْ الحميَّةُ أنْ تُفارقَ أهلَهَا

وأبَى العزِيزُ بأنْ يعيشَ ذلِيلا

ولـمّا نشر علي (عليه‌السلام ) لواءه يوم صفّين ، قال قيس : هذا والله ،

٩٨

اللواء الذي كنّا نحفّ به مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وجبرائيل لنا مدد. ثمّ قال :

هذا اللّواءُ الذي كُنّا نحفُّ بهِ

معَ النّبيِّ وجبرائيلٌ لنا مددُ

ما ضرَّ مَن كانَت الأنصارُ عَيبَتَهُ

أنْ لا يكونَ لهُ منْ غيرِهمْ أحدُ

قومٌ إذا حارَبُوا طالتْ أكفُّهُمُ

بالمشرفيَّةِ حتّى يُفتحَ البلدُ

يقول قيس -رحمه‌الله - كما سمعت :

هذا اللّواءُ الذي كُنّا نحفُّ بهِ

معَ النّبيِّ وجبرائيلٌ لنا مددُ

أجل ، إنّ اللّواء الذي حفّت به الأنصار يوم بدر هو الذي حفّت به يوم صفّين ؛ ولهذا كانت تقول عكرشة بنت الأطرش يوم صفّين - وكانت مع أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) - : هذه بدر الصغرى والعقبة الكبرى. واللّواء الذي حفّت به جماعة من الأنصار مع الحسين (عليه‌السلام ) يوم كربلاء ، هو الذي حفّوا به مع أبيه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يوم صفّين ، وحفّوا به مع جدّه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوم بدر ، ولولا تلك الإحن البدريّة ، والأحقاد الجاهليّة لما كان حرب صفّين وواقعة كربلاء.

قالت اُمّ الخير البارقيّة يوم صفّين - وكانت مع علي (عليه‌السلام ) - : إنّها إحن بدريّة ، وأحقاد جاهليّة وثب بها واثب حين الغفلة ، ليُدرك ثارات بني عبد شمس. وصرّح بذلك يزيد بن معاوية لـمّا وضع رأس الحسين (عليه‌السلام ) بين يديه ، فجعل ينكت ثناياه بقضيب خيزران ، ويقول : يوم بيوم بدر.

وقال أيضاً :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا

جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ

لأهلّوا واسْتهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

قدْ قتلْنا القَرمَ منْ ساداتِهمْ

وعَدلْناهُ ببدْرٍ فاعتَدَلْ

لعبتْ هاشمُ بالـمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزلْ

* * *

ثاراتُ بدرٍ اُدرِكتْ في كرْبَلا

لبني اُميّةَ من بني الزهراءِ

٩٩

المجلس الحادي والثمانون بعد المئة

قال ابن أبي الحديد : روي أنّ الوليد بن جابر بن ظالم الطائي كان ممّن وفد على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فأسلم ، ثمّ صحب عليّاً (عليه‌السلام ) وشهد معه صفّين ، وكان من رجاله المشهورين ، ثمّ وفد على معاوية بعد وفاة أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ودخل عليه في جملة النّاس ، فاستنسبه فانتسب له ، فعرفه معاوية ، فقال له : أنت صاحب ليلة الهرير ؟ قال : نعم. قال : والله ، لا تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة ، وقد علا صوتك أصوات النّاس ، وأنت تقول :

شُدّوا فداءً لكُمُ اُمِّي وأبِ

فإنّما الأمرُ غَداً لـمَنْ غلَبْ

هذا ابنُ عمِّ الـمُصطفَى والـمُنتَجبْ

تنْميهِ للعلياءِ ساداتُ العربْ

ليسَ بموصُومٍ إذا نُصَّ النَّسبْ

أوّلُ مَنْ صلَّى وصامَ واقتَرَبْ

قال : نعم ، أنا قائلها. قال : فلماذا قلتها ؟ قال : لأنّا كنّا مع رجل لا نعلم خصلة توجب الخلافة ، ولا فضيلة تصير إلى التقدمة إلّا وهي مجموعة له. كان أوّل النّاس سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأرجحهم حلماً. فات الجياد فلا يشقّ غباره ، واستولى على الأمد فلا يخاف عثاره ، وأوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره ، وسلك القصد فلا تدرس آثاره. فلمّا ابتلانا الله تعالى بافتقاده ، وحوّل الأمر إلى مَن يشاء من عباده ، دخلنا في جملة المسلمين ، فلم ننزع يداً عن طاعة ، ولم نصدع صفاة جماعة ، على أنّ لك منّا ما ظهر ، وقلوبنا بيد الله وهو أملك بها منك ، فاقبل صفونا وأعرض عن كدرنا ، ولا تُثر كوامن الأحقاد ؛ فإنّ النار تقدح بالزناد.

قال معاوية : وإنّك لتهددني يا أخا طيء ، بأوباش العراق ؟! أهل النفاق ومعدن الشقاق. فقال : يا معاوية ،

١٠٠