المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٣

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 202

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 202
المشاهدات: 49137
تحميل: 3988


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49137 / تحميل: 3988
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 3

مؤلف:
العربية

شباب أهل الجنة ، أحدهما شهيداً بالسُمّ ، ومُنع من دفنه عند جدّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ومضى أخوه الحسين شهيداً بالسّيف ، غريباً ظامياً بأرض كربٍ وبلاءٍ ، وسُبيت عيالُه وأطفالُه ، وداروا برأسه في البلدان مِنْ فوق عالي السّنان.

ليسَ هذا لرسولِ اللهِ يا

اُمَّةَ الطُّغيانِ والبغْي جَزَا

* * *

فَعلْتمْ بأبناءِ النَّبيِّ ورهطِهِ

أفاعيلَ أدْناهَا الخيانةُ والغدْرُ

* * *

المجلس التاسع والثمانون بعد المئة

روى مسلم في ( صحيحه ) ، وأحمد بن حنبل في ( مسنده ) بسنديهما ، عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فينا خطيباً بماء يُدعى : خماساً ، بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ، ثمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أمّا بعد ، أيّها النّاس ، فإنّما أنا بشر يوشك أنْ يأتيني رسول ربّي فاُجيب ، وأنا تاركٌ فيكم ثِقْلين ؛ أوّلهما كتاب الله فيه الهدى ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به )). فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( وأهل بيتي ، اُذكّركم الله في أهل بيتي ! اُذكّركم الله في أهل بيتي ! اُذكّركم الله في أهل بيتي ! )). فقال الراوي : ومَن أهل بيته يا زيد ؟ نساؤه من أهل بيته ؟ فقال : لا ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

وروى مسلم حديث الثقلين بثلاثة طرق اُخرى ، وفي أحدهما قلنا : منْ أهل بيته نساؤه ؟ قال: لا ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثمّ يُطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصلُه وعصبته.

وأخرج أحمد بن حنبل في ( مسنده ) حديث الثقلين بعدّة طرق ، عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنّه قال : (( إنّي قد تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به - أو تمسكتم به - لنْ تضلَوا بعدي ، الثقلين

١٢١

أحدهما أكبر من الآخر ؛ كتاب الله عزَّ وجل حبلٌ ممدودٌ من السّماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لَنْ يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا بِمَ تُخلّفوني فيهما؟ )) أو (( كيف تُخلّفوني فيهما ؟ )).

دلّت هذه الأحاديث على عصمة أهل البيت (عليهم‌السلام ) ؛ لأنّه عليه الصلاة والسّلام أوجب التمسك بالعترة كما أوجب التمسك بالكتاب ، وأخبر أنّ المتمسك بهما لنْ يضلّ ، وأنّهما لنْ يفترقا ، فلا يفارق الكتاب العترةَ ، ولا تفارق العترةُ الكتابَ إلى يوم القيامة ، ولا يكون ذلك إلّا مع عصمة العترة. فدلّ على أنّ المراد بالعترة : ليس جميع بني هاشم ؛ لأنّ كثيراً منهم تصدر منهم الذنوب ، ويفارقون القرآن ، فالمتمسك بهم لا يأمن من الضلال ، بل هم الأئمة الاثنا عشر؛ للاتّفاق على عدم عصمة غيرهم من بني هاشم.

وقد دلّ قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض )). على وجود إمام معصوم من العترة في كلّ زمان ، ولا توجد هذه الصفة في غير الأئمة الاثني عشر بالاتّفاق. ولشدّة اهتمام النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأهل بيته ، وتخوّفه من أنْ لا تقوم الاُمّة بواجب حقّهم ، كرّر قوله : (( اُذكّركم الله في أهل بيتي )) ثلاثاً.

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( فانظروا بِمَ تُخلّفوني فيهما ؟ )). أنا اُخبرك يا رسول الله بما خلّفتك الاُمّة في أهل بيتك : قتلوا وصيَّك وصهرك وابن عمّك عليّاً (عليه‌السلام ) ، وهو في محرابه بعدما دفعوه عن حقّه ، وحاربوه وجرّعوه الغصص ، وسمّوا ولدك الحسن (عليه‌السلام ) حتّى تقيّأ كبده في الطست ، وقتلوا ولدك الحسين (عليه‌السلام ) أفظع قتلةٍ وأفجعها ، وسبوا ذرّيّتك وبناتك على أقتاب الجمال من بلد إلى بلد حتّى صار جلساء يزيد يطلبون منه بعض بنات النّبوّة أنْ تكون خادمة لهم ؛ وحتى قال له طغام أهل الشام لـمّا استشارهم ما يصنع بأهل بيتك ؟ قالوا ممّا لا يطيق اللسان النّطق به.

وحُملت رؤوس أبنائك وذرّيّتك على الرماح ، وجعل ابن مرجانة وابن هند ينكتان ثغر ولدك الحسين (عليه‌السلام ) ، الذي

١٢٢

طالما قبّلته وشممته ، بالخيزران.

جاشَتْ على آلهِ ما ارتاحَ واحدُهُمْ

منْ قهرِ أعداه حتّى ماتَ مَقْهُورا

قضَى أخوهُ خضيبَ الرأسِ وابْنتُهُ

غَضْبَى وسبطاهُ مَسْموماً ومنْحُورا

* * *

المجلس التسعون بعد المئة

قال ابن حجر في ( صواعقه ) : جاء من طرق عديدة كثيرة يقوّي بعضُها بعضاً ، عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنّه قال : (( إنّما مثل أهل بيتي فيكم - أو مثل أهل بيتي فيكم - كمثل سفينة نوح ، مَن ركبها نجا )). وفي رواية مسلم : (( ومَن تخلّف عنها غرق )). وفي رواية : (( هَلك )). وأنّه قال : (( إنّما مثل أهل بيتي فيكم - أو مثل أهل بيتي - مثل باب حطّة في بني إسرائيل ، مَن دخله غُفر له )).

وروى ابن حجر في (صواعقه) عن أحمد بن حنبل وغيره ، عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنّه قال : (( النّجوم أمانٌ لأهل السّماء ، إذا ذهبت النّجوم ذهبوا ، وأهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض ، إنْ ذهب أهلُ بيتي ذهب أهل الأرض )). وقال ابن حجر : إنّه صحّ عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنّه قال : (( النّجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمانٌ لاُمّتي من الاختلاف )).

ولله در القائل :

هُمُ السَّفينةُ فازَ الرَّاكبُونَ بهَا

ومَنْ تخلَّفَ عنها ضلَّ في تَيهِ

وقد ورد في عدّة روايات ، عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنّه قال : (( إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسكتم به لنْ تضلّوا بعدي ، الثقلين ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا بما تُخلّفوني فيهما ؟ )) أو (( كيف تُخلّفوني فيهما ؟ )).

أنا اُخبرك يا رسول الله ، إنّ اُمّتك لم يُخلّفوك

١٢٣

بخير في عترتك وأهل بيتك ، تركوهم بين قتيل وشريد ، وأعظم ما فعلوه يا رسول الله ، قتلهم ولدك الحسين (عليه‌السلام ) ، ونساؤه ينظُرنّ إليه ، بعد أنْ منعوه من ماء الفرات الجاري ، تشربه اليهود والنّصارى ، وتلِغ فيه خنازير السّواد وكلابه ، وحملوا أبناءك ونساء أهل بيتك سبايا على أقتاب المطايا من بلد إلى بلد.

فَعلْتمْ بأبناءِ النَّبيِّ ورهطِهِ

أفاعيلَ أدْناهَا الخيانةُ والغدْرُ

فجئتُمْ بها بكراً عواناً ولمْ يكنْ

لها قبلَها مَثلاً عونٌ ولا بكرُ

المجلس الحادي والتسعون بعد المئة

ينبغ في الأزمان على تعاقبها نوابغ يمتازون عن سائر أهل زمانهم ، ولكن هؤلاء النوابغ متفاوتون في نبوغهم وصفاتهم التي ميّزتهم عمّن سواهم ، سُنّة الله في خلقه. ومهما تكثّر النابغون في الأزمان المتطاولة ، فنابغة الإسلام ، بل نابغة الكون المتفرّد في صفاته الفاضلة ومزاياه الكاملة ، في علمه وحلمه ، وسياسته وعدله ، وفصاحته وبلاغته ، وشجاعته وإقدامه ، وجهاده وصبره ، وجلده وقوته ، وأيده وزهده ، وعبادته واجتماع محاسن الأضداد فيه ؛ هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ، ربيب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أكمل الخلائق ، وخرّيجُه.

ذات علي (عليه‌السلام ) ذاتٌ فذّة ، يعسر أو يمتنع على الإنسان ، مهما أطال ومهما دقّق ، أنْ يُحيط بجميع ما فيها من سموٍّ وتميّز على سائر الخلق. ومهما حاول الإنسان أنْ يُحيط بجميع صفاته قعد به العجز ، واستولى

١٢٤

عليه البهر ، ولكن لا يُترك الميسور بالمعسور.

نشأ علي (عليه‌السلام ) في حجر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وتأدّب بآدابه ورُبّي بتربيته ، وسبق النّاس إلى الإسلام. بُعث النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوم الاثنين ، وأسلم عليٌّ (عليه‌السلام ) يوم الثلاثاء ، ثمّ أسلمت خديجة، وأقام مع النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بعد البعثة ثلاثاً وعشرين سنة ، منها : ثلاث عشرة سنة في مكّة قبل الهجرة ، مشاركاً له في مِحنه كلّها ، متحملاً عنه أكثر أثقاله ، وعشر سنين بالمدينة بعد الهجرة يُكافح عنه ويُجاهد دونه ، وقتل الأبطال ، وضرب بالسيف بين يدي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وهو بين العشرين إلى الخمس والعشرين سنة.

هاجر إلى المدينة في المهاجرين الأوّلين ، وشهد بدراً واُحداً ، والخندق وبيعة الرّضوان ، وجميع المشاهد مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلاّ تبوك ، وله في الجميع بلاء عظيم وأثر لم يكن لأحد من النّاس.

وإذا نظرنا إلى علمه ، وجدناه العالم الربّاني الذي يقول على ملاء من النّاس : (( سلوني قبل أنْ تفقدوني )). ومَن ذا الذي يجرؤ من النّاس أنْ يقول هذا الكلام ، فوق المنبر ، على حشدٍ من اُلوف الخلق ؟ وما يُؤمنه أنْ يسأله سائل سؤالاً لا يكون عنده جوابه فيخجله فيه ، لا يجرؤ على هذا القول إلّا مَن يكون واثقاً من نفسه بأنّ عنده جواب كلّ ما يُسأل عنه. وهل تنحصر المسألة في علم من العلوم ، أو ناحية من النّواحي حتّى يجرؤ أحد على هذا القول ، لا يكون مؤيَّداً بتأييد إلهي ، وواثقاً من نفسه كلّ الوثوق بأنّه لا يغيب عنه جواب مسألة مهما دقّت واُشكلت ؟ إنّ هذا المقام يقصر العقل عن الإحاطة به.

ويُسأل ، وهو على المنبر ، عن مسافة ما بين المشرق والمغرب ، فيُجيب بـ (( إنّه مسير يوم للشمس )). ويُسأل عمّا بين

١٢٥

الحقّ والباطل ، فيقول : (( مسافة أربع أصابع ؛ الحقّ أنْ تقول رأيت بعيني ، والباطل أنْ تقول سمعت باُذني )). ويُسأل عن رجلين جلسا يتغدّيان ، ومع أحدهما خمسة أرغفة ، ومع الآخر ثلاثة. فجلس معهما رجل وأكلوا الأرغفة الثمانية ، فطرح إليهما الرجل ثمانية دراهم عوضاً عمّا أكل. فقال صاحب الخمسة الأرغفة : لي خمسة دراهم ولك ثلاثة. فقال صاحب الثلاثة الأرغفة : لا أرضى إلّا أنْ تكون الدراهم بيننا نصفّين.

فيحكم علي (عليه‌السلام ) : (( إنّ لصاحب الثلاثة درهماً واحداً ، ولصاحب الخمسة سبعة دراهم)) ؛ وذلك لأنّ الثمانية الأرغفة : أربعة وعشرون ثُلثاً ، لصاحب الثلاثة منها تسعة أثلاث، أكل منها ثمانية وأكل الضيف واحداً ، ولصاحب الخمسة خمسة عشر ثُلثاً ، أكل منها ثمانية وأكل الضيف سبعة. فهذه المسألة لو أجاب عنها أمهر رجل في الحساب بعد طول الفكرة والرويّة ، وأصاب فيها ، لكان له الفخر.

ويُؤتى عمر بن الخطاب بامرأة ولدت لستّة أشهر ، فيهّم برجمها ، فيقول له علي (عليه‌السلام ) : (( إنْ خاصمتك بكتاب الله خصمتك ؛ إنّ الله تعالى يقول :( وَ حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ) (١) . ويقول :( وَ الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) (٢) . فإنْ كانت مدّة الرّضاعة حولين كاملين ، والحمل والفصال ثلاثون شهراً ، كان الحمل فيها ستّة أشهر )). فخلّى عمر سبيلها ، وثبت الحكم بذلك ، فعمل به الصحابة والتابعون ، ومَن أخذ عنهم إلى يومنا هذا.

ويُؤتى عمر بمجنونة زنت ، فيأمر بجلدها الحدّ ، فيقول له علي (عليه‌السلام ) : (( إنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق )). فيقول عمر : فرّج الله عنك ، لقد كدتُ أهلك في جلدها.

ويُؤتى عمر بحامل قد زنت ، فيأمر برجمها ، فيقول له علي (عليه‌السلام ) : (( هبْ أنّ لك سبيلاً عليها ، أي سبيل لك على ما في بطنها ؟ احتط عليها

______________________

(١) سورة الأحقاف / ١٥.

(٢) سورة البقرة / ٢٣٣.

١٢٦

حتّى تلد ، فإذا ولدت ، ووجدت لولدها مَن يكفّله ، فأقم عليها الحدّ )). فيقول عمر : لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن.

ويجيء أبو الأسود الدُّؤلي فيُخبره بأنّه سمع مَن يُلحن في القرآن ، فيضع له أصول النّحو في كلمات معروفة ، ويقول له : (( انحُ هذا النّحو )). فيزيد عليها أبو الأسود ، وتُضبط لغة العرب بعلم النَّحو إلى اليوم.

وإذا نظرنا إلى شجاعته ، وقد ضُربت بها الأمثال ، وجدنا أنّه باشر الحرب وعمره عشرون سنة أو فوقها بقليل ، وظهرت شجاعته الخارقة في مبيته على الفراش ليلة الغار ، والنّفر من قريش محيطون بالدار ليفتكوا بمَن في الفراش ، وظهرت شجاعته الخارقة أيضاً لـمّا سار بالفواطم عند الهجرة ، وليس معه إلّا أيمن بن اُمّ أيمن وأبو واقد الليثي ، فلحقه سبعة فرسان من قريش أمامهم جناح مولى حرب بن اُميّة ، فأهوى إليه جناح بالسّيف ، وهو فارس وعلي راجل ، فحاد علي (عليه‌السلام ) عن ضربته ، وضربه لـمّا انحنى على كتفه فقطعه نصفّين حتّى وصلت الضربة إلى قربوس فرسه ، وانهزم الباقون.

وقتل يوم بدر الوليد بن عتبة ، وشرك في قتل عتبة ، وقتل جماعة من صناديد المشركين حتّى رُوي أنّه قتل نصف المقتولين. وفي يوم أحد قتل أصحاب اللواء ، وهم سبعة. ولـمّا فرّ المسلمون، ثبت فيمن ثبت مع النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يحامي عنه ، وكلّما شدّ جماعة على النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، تقدّم إليهم فقاتلهم وقتل فيهم. وفي يوم الخندق بارز عمرو بن عبد ود بعدما جبن عنه النّاس جميعاً ، وانهزم المشركون بقتله. وفي يوم خيبر قتل مرحباً وهزم اليهود ، واقتلع الباب وفتح الحصن، وكان الفتح على يديه.

وفي جميع الوقائع والغزوات كان له المقام الأسمى في الشجاعة

١٢٧

والثبات. وفي يوم الجمل وصفّين والنّهروان باشر الحرب بنفسه ، وقتل صناديد الأبطال وجدّل أبطال الرجال ، ولم يهرب في موطن قط. وكانت ضرباته وتراً ، إذا علا قدَّ ، وإذا اعترض قطَّ.

ولم يُبارز قَرناً فسلم القرن منه ، ولا دُعي إلى مبارزة فنكل ، وهذا كلّه من الاُمور العجيبة التي لمْ تتفق لغير علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ). وشجاعته ملحقة بالبديهات ، يقبح بالإنسان إطالة الكلام فيها ، وإكثار الشواهد عليها.

وإذا نظرنا إلى حلمه ، كفانا لإثبات بلوغه أعلى درجات الحلم حلمه عن أهل الجمل عموماً ، وعن مروان بن الحكم وعبد الله بن الزّبير خصوصاً ، وشدّة عداوتهما له معلومة ، وإيصاؤه جيوشه بأنْ لا يتبعوا مُدبراً ، ولا يجهزوا على جريح ، وعدم منعه الماء لعسكر معاوية يوم صفّين لـمّا استولى عليه بعدما منعوه منه.

وإذا نظرنا إلى عدله لمْ نجد له نظيراً.

وفي ( الإستيعاب ) : إنّه كان إذا ورد عليه مال لمْ يُبقِ منه شيئاً إلّا قسّمه ، ولا يترك في بيت المال منه إلّا ما يعجزعن قسمته في يومه ذلك ، ولمْ يكن يستأثر من الفيء بشيء ، ولا يخصّ به حميماً ولا قريباً ، ولا يخصّ بالولايات ألّا أهل الديانات والأمانات ، واذا بلغه عن أحدهم خيانة ، كتب إليه : ((( قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) (١) .( أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) (٢) . أذا أتاك كتابي هذا ، فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتّى نبعث إليك مَن يتسلّمه منك )).

وإذا نظرنا إلى فصاحته وبلاغته ، وجدناه إمام الفصحاء وسيّد البلغاء ، وحسبُك أنْ يُقال في كلامه : إنّه بعد كلام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فوق كلام

______________________

(١) سورة يونس / ٥٧.

(٢) سورة هود / ٨٥ - ٨٦.

١٢٨

المخلوق ودون كلام الخالق.

ويقبح بنا أنْ نُقيم شيئاً من الشواهد والأدلّة على ذلك ؛ فإنّه كإقامة الدليل على الشمس الضاحية.

وليسَ يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ

إذا احتاجَ النَّهارُ الى دليلِ

ولا أدلّ على ذلك ممّا اُثر عنه وجمع من كلامه ، كنهج البلاغة وغيره.

وإذا نظرنا إلى زهده في الدّنيا ، أخذَنا العجب والبهر من رجل في يده الدنيا كلّها - عدا الشام - ؛ العراق وفارس ، والحجاز ومصر ، وهو يلبس الخشن ويأكل الجشب ؛ مواساة للفقراء، ويقول (( يا دُنيا غرِّي غيري )) !

ومِن عجيب أحواله ، إنّه اجتمعت في صفاته الأضداد ، فبينما هو يمارس الحروب ، ويبارز الأقران ويقتل الشجعان ، ومَن تكون هذه صفته لابدّ أنْ يكون قاسي القلب شرس الخُلق ، بينا نراه كذلك ، إذا به أعبد العُبّاد ؛ يقضي ليله بالصلاة والعبادة ، والتضرع والإبتهال والخشوع لله تعالى ، وإذا به أحسن النّاس خُلقاً ، وأرقّهم طبعاً ، وألينهم عَريكة.

لمْ يكن جهاد أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام ) وحروبه في الإسلام لغاية دنيويّة ؛ من طلب إمارة أو شهرة بين النّاس أو منزلة عندهم. ما كان جهاده ولا كانت حروبه إلّا نصرة للحقّ ومحاماة عن الدين. ولم يكن زهده في الدنيا طلباً لمدح أو منزلة في قلوب النّاس ، بل إرشاداً للاُمّة إلى ما يُصلحها ، وتعليماً لها ما ينفعها ، كيف لا ، وهو القائل لابن عبّاس في نعل كان يخصفها : (( والله ، لهي - أي : النعل - أحبّ إليّ منْ إمرتكم هذه ، إلّا أنْ اُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً )).

لكن هذه الاُمّة لمْ تعرف لعلي (عليه‌السلام ) حقّه في جهاده ،

١٢٩

ومحاماته عن الدّين في سبيل سعادتها ، وإرشادها إلى ما يُصلحها ، ولمْ تحفظه في أولاده وذرّيّته ، ولمْ ترعَ لهم حرمة من بعده ، فأخّرته عن مقامه ، وآل بها الأمر إلى أنْ قتلته وهو يُصلّي في محرابه ، بيد أشقى الأوّلين والآخرين ؛ عبد الرحمن بن ملجم المرادي.

وتركت ولديه من بعده ، سيّدي شباب أهل الجنّة ، بين قتيل بالسُّم ، ومُضرّج بالدّم ، فدسّت إلى ولده الحسن (عليه‌السلام ) ، أحد السّبطين والريحانتين ، السُّمَّ على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس حتّى لفظ كبده في الطست قطعاً ، وجهّزت الجيوش إلى أخيه الحسين (عليه‌السلام ) ، ثاني السّبطين والريحانتين ، بعدما قدّمت عليه يزيد الخمور والفجور ، اللاعب بالقرود والفهود ، وأحاطت به من كلّ جانب ، ومنعته الذهاب في بلاد الله العريضة ، وقتلت آله وأنصاره ، ومنعته من ورود الماء حتّى قتلته عطشان ظامياً ، وذبحت أطفاله ، وسبت نساءه وعياله :

يا اُمّةً باعتْ بضائعَ ديْنِها

يومَ الطُّفوفِ بخيْبةٍ وشَقاءِ

خانتْ عهودَ محمّدٍ في آلهِ

من بعدِهِ وجزتْهُ شرَّ جزاءِ

* * *

المجلس الثاني والتسعون بعد المئة

قال عُروة بن الزّبير : كنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فتذاكرنا أحوال أهل بدر ، وبيعة الرضوان ، فقال أبو الدّرداء : يا قوم ، ألَا اُخبركم بأقلِّ القوم مالاً ، وأكثرهم ورعاً ، وأشدهم اجتهاداً في العبادة ؟ قالوا : مَن هو ؟ قال : علي بن أبي طالب.

قال : فوالله ، إنْ كان في جماعة أهل المجلس

١٣٠

إلّا معرض عنه بوجهه ، ثمّ انتُدب له رجل من الأنصار ، فقال له : يا عُويمر ، لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها. فقال أبو الدرداء : يا قوم ، إنّي قائل ما رأيته ، وليقل كلُّ قوم ما رأوا. شهدت علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) بسويحات بني النّجار ، وقد اعتزل عن مواليه ، واختفى ممّن يليه ، واستتر ببُعيلات النّخل ، فافتقدته وبعُد عليَّ مكانه ، فقلت : لحق بمنزله. فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي ، وهو يقول : (( إلهي ، كمْ من موبقةٍ حملتُها فقابلتَها بنعمتك ، وكم من جريرة تكرّمتَ عن كشفها بكرمك. إلهي ، إنْ طال في عصيانك عُمري ، وعظم في الصُّحف ذنبي ، فما أنا مؤمّلٌ غير غفرانك ، ولا أنا براجٍ غير رضوانك )).

فشغلني الصوت ، واقتفيت الأثر ، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) بعينه ، فاستترت له لأسمع كلامه ، وأخملت الحركة ، فركع ركعات في جوف الليل الغابر ، ثمّ فزع إلى الدعاء والتّضرع والبكاء ، والبثّ والشكوى ، فكان ممّا به ناجى أنْ قال : (( إلهي ، اُفكّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي ، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليتي )). ثمّ قال : (( آهٍ إنْ أنا قرأت في الصحف سيئةً ، أنا ناسيها وأنت مُحصيها ! فتقول : خذوه. فيا له من مأخوذٍ لا تُنجيه عشيرتُه، ولا تنفعه قبيلتُه ، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنّداء )). ثمّ قال : (( آهٍ من نار تنضج الأكباد والكِلى ! آهٍ من نار نزّاعة للشوى ! آهٍ من غمرةٍ من مُلتهبات لظى ! )). ثمّ انغمر في البكاء ، فلمْ أسمع له حسّاً ولا حركة ، فقلتُ : غلب عليه النّوم لطول السهر ، اُوقظه لصلاة الفجر.

قال أبو الدّرداء : فأتيته ، فإذا هو كالخشبة الـمُلقاة ، فحرّكته فلمْ يتحرّك ، وزويته فلم ينزوِ. قلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، مات والله ، علي بن أبي طالب. فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (عليها‌السلام ) : (( يا أبا الدّرداء ، أخبرنا ما كان من شأنه وقصّته ؟ )). فأخبرتها الخبر ، فقالت : ((هي والله ، الغشية التي تأخذه من خشية الله )). ثمّ أتوه بماء

١٣١

فنضحوه على وجهه ، فأفاق ونظر إليَّ وأنا أبكي ، فقال : (( ممّ بكاؤك يا أبا الدّرداء ؟ )). فقلت : ممّا أراه تُنزله بنفسك. فقال : (( يا أبا الدّرداء ، فكيف لو رأيتني وقد دُعي بي إلى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكةٌ غلاظ وزبانية فظاظ ، فوقفتُ بين يدَي الملك الجبّار ، قد أسلمتني الأحبّاء ، ورحمني أهل الدنيا ، لكنتَ أشدَّ رحمة لي بين يديّ مَنْ لا تخفى عليه خافية )). قال أبو الدّرداء : فوالله ، ما رأيتُ ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

أقول : كلّ مَنْ يُغمى عليه يؤتى إليه بالماء ، فيُنضح على وجهه حتّى يفيق ، إلّا غريب كربلاء أبو عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) ؛ فإنّه لـمّا سقط عن ظهر جواده إلى الأرض ، واُغمي عليه ساعة ، لمْ يُنضح على وجهه الماء حتّى يفيق ، وإنّما أفاق على ضرب السّيوف وطعن الرماح ، وهو مع ذلك يطلب جرعة من الماء ، وهم يقولون : لنْ تذوق الماء - أبا عبد الله - حتّى تذوق الموت عطشاً.

فعزَّ أنْ تتلظَّى بينَهُمْ عَطشاً

والماءُ يصدرُ عنه الوحشُ ريّانا

ونظر أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ذات يوم إلى امرأة وعلى كتفها قربة ماء مملوءة ، فحملها معها إلى منزلها ، ثمّ سألها عن شأنها ، قالت : بعث علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) بصاحبي إلى بعض الثغور فقُتل ، وترك عليّ صبياناً يتامى وليس عندي شيء ، وقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة النّاس.

فمضى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) وبات تلك الليلة قلقاً ، فلمّا أصبح حمل زنبيلاً مملوءاً من الدقيق واللحم والتمر على كتفه ، فقال له بعض أصحابه : أعطني أحمل عنك هذا ؟ فقال : (( مَن يحمل عنّي وزري يوم القيامة ؟ )). ثمّ أتى إلى باب تلك الامرأة وقرع الباب ، قالت : مَن في الباب ؟ قال : (( أنا العبد الذي حمل معك القربة ، افتحي الباب ؛ فإنّ معي شيئاً للصبيان )). فقالت : رضي الله عنك ،

١٣٢

وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب. ثمّ فتحت له الباب ودخل ، وقال لها : (( يا أمة الله ، إنّي أحببت اكتساب الثواب ، فاختاري بين أنْ تعجني وتخبزي ، وبين أنْ تُعللي الصبيان لأخبز أنا لهم؟ )). قالت : يا عبد الله ، أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر ، دونك الصبيان فعلّلهم.

فعمدت الامرأة إلى الدقيق تعجنه ، وعمد أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) إلى اللحم فطبخه ، وجعل يُلقم الصبيان من ذلك اللحم والتمر ، وكلّما ناول صبياً منهم ، قال له : (( يا بُني ، اجعل علي بن أبي طالب في حلّ ممّا أمر في أمركم )). ولمّا اختمر العجين ، قالت الامرأة : قُم يا عبد الله ، اسجر التّنور. فلمّا أشعل النّار لفحت وجهه ، فجعل يقول : (( ذُق يا علي ، هذا جزاء مَن ضيَّع الأرامل واليتامى )). فدخلت امرأة من خارج الدار فعرفته ، فقالت : ويحك ! هذا الإمام علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ). فبادرت إليه الامرأة ووقعت على قدميه تُقبّلهما ، وهي تقول : وا حيائي منك يا أبا الحسن ! فقال : (( بل وا حيائي منك يا أمة الله ، فيما قصّرتُ في أمرك ! )).

أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) حمل اللحم والتمر والدقيق إلى يتامى بعض أصحابه ، فأين كان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) عن يتامى ولده أبي عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) ليلة الحادي عشر من الـمُحرّم ، حين باتوا تلك الليلة بلا محامٍ ولا كفيل ، وهم عطاشى جياعى ؟!

قمْ يا عليُّ فما هذا القعْودُ وما

عَهْدي تَغضُّ على الأقذاءِ أجفانَا

وانهضْ لعلّكَ منْ أسرٍ أضرَّ بنَا

تَفكَّنا أو تولَّى دفْنَ قتلانَا

هذا حسينٌ بلا غُسلٍ ولا كَفنٍ

عارٍ تجولُ عليه الخيلُ ميدانَا

١٣٣

المجلس الثالث والتسعون بعد المئة

في (غاية المرام) ، عن ابن المغازلي الشافعي في ( المناقب ) ، بعدّة طرق ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : أخذ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بعضد علي (عليه‌السلام ) ، وقال : (( هذا أمير البررة ، وقاتل الكفرة - أو الفجرة - منصور مَن نصره ، مخذول مَن خذله )). ثمّ مدّ بها صوته - أو قال : مدّ بصوته - فقال : (( أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ، فمَن أراد العلم - أو فمَن أراد المدينة - فليأتِ الباب )).

وفي رواية : (( أنا مدينة وعليٌّ بابها ، ولا تُؤتى البيوت إلّا من أبوابها )). وفي رواية : (( يا علي ، أنا مدينة العلم وأنت الباب ، كذب مَن زعم أنّه يصل إلى المدينة إلّا من الباب )). وفي ذلك يقول الصفي الحلّي – رحمه ‌الله تعالى - :

مدينةُ علمٍ وابنُ عمِّكَ بابُها

فمِنْ غيرِ ذاكَ البابِ لمْ يُؤتَ سُورُها

وفي (غاية المرام) ، عن مسند أحمد بن حنبل بسنده عن زيد بن أرقم ، قال : كان لنفر من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أبواب شارعة في المسجد ، فقال يوماً : (( سدّوا هذه الأبواب إلّا باب علي )). فتكلّم في ذلك اُناس ، فقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : (( أمّا بعد ، فإنّي أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي ، فقال فيه قائلكم. والله ، ما سددتُ شيئاً ولا فتحتُه ، ولكنّي اُمرتُ بشيء فاتّبعتُه )).

وفي رواية ابن المغازلي الشافعي : فأتاه العبّاس ، فقال : يا رسول الله ، سددت أبوابنا وتركت باب علي ؟! قال : (( ما أنا فتحتُها ، ولا أنا سددتُها )).

وروى ابن المغازلي الشافعي بسنده عن سعد بن أبي وقاص ، قال : كانت لعليٍّ مناقبُ لمْ تكن لأحد ؛ كان يبيت في المسجد ، وأعطاه النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الراية يوم خيبر ، وسدّ الأبواب كلّها إلّا باب علي.

وجاء في عدّة روايات ، عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنّه قال : (( يا علي ، أنت

١٣٤

قسيم النّار ؛ تقول : هذا لي ، وهذا لكِ )). وفي رواية : (( إنّك قسيم الجنّة والنّار )). وفي ذلك يقول الشاعر :

عليٌّ حُبهُ جُنَّةْ

قسيمُ النَّارِ والجَنَّةْ

وصيُّ الـمُصطفَى حقَّاً

إمامُ الإنسِ والجِنَّةْ

وفي (غاية المرام) ، عن موفق بن أحمد عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنّه قال لعلي (عليه‌السلام ) : (( أنا أوّل مَن تنشقُّ الأرض عنه يوم القيامة وأنت معي ، ومعي لواء الحمد ، وهو بيدك تسير به أمامي ، وتسبق به الأوّلين والآخرين )). وفيه ، عن الزمخشري في الفائق : إنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال لعلي (عليه‌السلام ) : (( أنت الذائدُ عن حوضي يوم القيامة ، تذود عنه الرجالَ كما يُذاد البعير الصاد(١) )).

ولهذا لـمّا ضيّق أهل الكوفة على الحسين (عليه‌السلام ) يوم كربلاء ، ومنعوه من الماء حتّى نال العطش منه ومن أصحابه ، قام متوكّئاً على قائم سيفه ، وذكّرهم بفضائله فاعترفوا بها ، فقال لهم: (( فبِمَ تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض ، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصاد عن الماء، ولواء الحمد في يد أبي يوم القيامة ؟! )). قالوا : قد علمنا ذلك كلّه ، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً.

قسَتْ القلوبُ فلمْ تَملْ لهدايةٍ

تبّاً لهاتيكَ القُلوبِ القاسيَهْ

ما ذاقَ طعْمَ فُراتِهمْ حتَّى قَضَى

عَطشاً وغُسِّلَ بالدِّماءِ القَانِيهْ

______________________

(١) أي : الذي به الصَّيَد ، وهو داء يلوي العُنق.

* * *

١٣٥

المجلس الرابع والتسعون بعد المئة

في غاية المرام : عن مسند أحمد بن حنبل بسنده ، عن سفينة مولى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : أهدت امرأة من الأنصار إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) طيرين بين رغيفين ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( اللهمّ ، ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك )). فجاء علي (عليه‌السلام ) فرفع صوته ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( مَن هذا ؟ )). فقلت : علي. قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( فافتح له )). ففتحت له فأكل مع النّبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من الطيرين حتّى كفيا.

وفي غاية المرام : عن ابن المغازلي الشافعي في المناقب بسنده ، عن أنس بن مالك قال : اُهدي إلى النِّبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نُحامة(١) ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( اللهمّ ، ابعث إليّ أحبّ خلقك إليك وإلى نبيّك ، يأكل معنا هذه المائدة )). قال : فأتى علي ، فقال : (( استأذن لي على رسول الله )). فقلت: النّبيُّ عنك مشغول. فرجع علي (عليه‌السلام ) ، ولمْ يلبث أنْ جاء ، فقال : (( استأذن لي على رسول الله )). فقلت : النّبيُّ عنك مشغول. فرجع علي (عليه‌السلام ) ولمْ يلبث أنْ جاء ، فهممت أنْ أقول مثل قولي الأوّل والثاني ، فسمع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من داخل الحجرة كلام علي (عليه‌السلام ) ، فقال : (( ادخل يا أبا الحسن ، ما الذي أبطأ بك عنّي ؟ )). قال (عليه‌السلام ) : (( قد جئتُ يا رسول الله مرّتين وهذه الثالثة ، كلّ ذلك يردّني أنس ، يقول : النّبيّ عنك مشغول )). فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا أنس ، ما حملك على هذا ؟ )). فقلت : يا رسول الله ، سمعت الدعوة فأحببت أن يكون رجلاً من قومي. فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( كلٌ يُحبّ قومه يا أنس )).

وروي حديث الطائر المشوي في غاية المرام أيضاً ، عن سنن

______________________

(١) النُّحَام : طائر كالأوز. وغلّظ الجوهري : في فتحه وشدّه. - المرلف -

١٣٦

أبي داود وموفّق بن أحمد الحموئي والسّمعاني وغيرهم ، بطرق كثيرة تبلغ الستّة وثلاثين طريقاً ، كلّها من طرق أهل السُّنّة ، ورواه بثمانية طرق من طرق أهل الشيعة خاصّة.

وقال الصاحب بن عبّاد – رحمه ‌الله تعالى - :

يا أميرَ المؤمنينَ الـمُرتَضى

إنّ قلبي عندكُمْ قدْ وَقَفَا

مَنْ كمولايَ عليٍّ زاهدٌ

طلَّقَ الدُّنيا ثلاثاً ووفَى

مَنْ دُعِي للطِّيرِ كيْ يأكلُهُ

ولنَا في بعضِ هذا مُكتَفَى

مَنْ وصيُّ الـمُصطفَى عندكُمُ

فوصيُّ الـمُصطَفَى مَنْ يُصْطفَى

وفضائل أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ومناقبه لا يُحيط بها الحصر. وقد احتجّ الحسين (عليه‌السلام ) على أهل الكوفة يوم كربلاء بفضائل أبيه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) - في جملة ما احتجّ به - ، فقال (عليه‌السلام ) : (( ألستُ ابنَ بنت نبيّكم ، ، وابنَ وصيّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين به والـمُصدِّقين برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وبما جاء به منْ عند ربّه ؟! )).

وقال (عليه‌السلام ) في مقام آخر : (( أنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ عليّاً كان أوّل القوم إسلاماً ، وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً ، وأنّه وليُّ كلِّ مؤمن ومؤمنة ). قالوا : اللهمّ نعم. قال (عليه‌السلام ): (( فبِمَ تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض ، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر(١) عن الماء ، ولواء الحمد بيد أبي يوم القيامة ؟ )). قالوا : قد علمنا ذلك كلّه ، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً.

قسَتْ القلوبُ فلمْ تَملْ لهدايةٍ

تبّاً لهاتيكَ القُلوبِ القاسيَهْ

ما ذاقَ طعْمَ فُراتِهمْ حتَّى قَضَى

عَطشاً وغُسِّلَ بالدِّماءِ القَانِيهْ

* * *

_____________________

(١) مرّ عن الزمخشري : أنّه الصاد. ووجدناه : الصادر ، وله وجهُ صحّةٍ فأبقيناه. - المؤلّف -

١٣٧

المجلس الخامس والتسعون بعد المئة

قال الله تعالى في سورة المائدة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَ الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَ مَن يَتَوَلّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (١) . اتّفق المفسرون على أنّها نزلت في حقّ علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) حين مرّ سائل، وهو راكع ، في المسجد فأعطاه خاتمه. ورُوي في الجمع بين الصحاح الستّة من صحيح النسائي، عن ابن سلام ، قال : أتينا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فقلنا : إنّ قومنا حادّونا لـمّا صدّقنا الله ورسوله ، وأقسموا أنْ لا يُكلّمونا. فأنزل الله تعالى :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) . ثُمّ أذّنَ بلال لصلاة الظهر ، فقام النّاس يُصلّون؛ فمِنْ بين ساجد وراكع وسائل ، إذ سائل يسأل ، فأعطاه علي (عليه‌السلام ) خاتمه وهو راكع ، فأخبر السّائل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فقرأ علينا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ... ) إلى آخر الآية.

وروى الثعلبي في تفسيره بسنده : إنّ أبا ذر -رضي‌الله‌عنه - قال : أيّها النّاس مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري ، أبو ذر الغفاري ، سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بهاتين - وإلّا صُمّتا - ورأيته بهاتين - وإلّا فعميتا - يقول : (( عليٌّ قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور مَن نصره ، مخذول مَن خذله )). أما إنّي صلّيت مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد فلَمْ يعطِه أحد ، فرفع السّائل يده إلى السّماء ، وقال : اللهمّ ، اشهد إنّي سألت في مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فلمْ يعطني أحدٌ شيئاً. وكان علي راكعاً ، فأومأ إليه بخنصره اليُمنى - وكان يتختّم فيها - ، فأقبل السّائل حتّى أخذ الخاتم من

____________________

(١) سورة المائدة / ٥٥ - ٥٦.

١٣٨

خنصره ، وذلك بعين النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فلمّا فرغ [ النبيُّ ] من صلاته ، رفع رأسه إلى السّماء ، وقال : (( اللهمّ ، موسى سألك فقال :( رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسّر لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً من لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَل لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) . فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً :( سَنَشُدّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ) (٢) . اللهمّ ، وأنا محمّد نبيّك وصفيّك. اللهمّ ، فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيراً عليّاً ، اشدد به ظهري )).

قال أبو ذر : فما استتم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الكلمة حتّى نزل جبرائيل (عليه‌السلام ) من عند الله تعالى ، فقال : يا محمّد ، اقرأ. قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ما أقرأ ؟ )). قال : اقرأ :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٣) .

وكما جاد أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) بخاتمه في صلاته ، جاد ولده الحسين (عليه‌السلام ) بخاتمه بعد قتله ؛ وذلك لـمّا أقبل القوم على سلب الحسين (عليه‌السلام ) فأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي. ولكنّ فرق عظيم بين المقامين ؛ فأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) أشار إلى السّائل - وهو في صلاته - أنْ يأخذ الخاتم من يده فأخذه ؛ وأمّا الحسين (عليه‌السلام ) ، فجاء بجدل بن سليم الكلبي ليسلبه بعد قتله - مع الذين جاؤوا إلى سلبه - فوجد الخاتم في يده وقد جمدت عليه الدماء ، فلمْ يستطعْ نزعه من يده الشريفة، فقطع إصبعه مع الخاتم.

ومُبدَّدُ الأوصالِ لازَمَ حزُنُهُ

شملَ الكمالِ فلازم التّبديدَا

ومجرحٌ ما غيَّرتْ منه القنَا

حُسناً وما أخلقْنَ منه جديدَا

____________________

(١) سورة طه / ٢٥ - ٣٢.

(٢) سورة القصص / ٣٥.

(٣) سورة المائدة / ٥٥.

١٣٩

المجلس السّادس والتسعون بعد المئة

في غاية المرام : عن مسند أحمد بن حنبل بسنده : أنّ النّبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) آخى بين النّاس وترك عليّاً، فقال (عليه‌السلام ) : (( يا رسول الله ، آخيت بين النّاس وتركتني ! )). قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ولِمَن تراني تركتك ؟ إنّما تركتك لنفسي. أنت أخي وأنا أخوك ، فإنْ فاخرك أحد ، فقل : أنا عبد الله وأخو رسول الله. لا يدّعيها أحدٌ غيرك إلّا كذاب )).

وفيه عن مسند أحمد بن حنبل أيضاً ، وذُكر مؤاخاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بين الصحابة ، فقال علي (عليه‌السلام ) للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري ، فإنْ كان هذا من سَخَطٍ منك ، فلك العُتبى والكرامة ؟ )). فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( والذي بعثني بالحقّ نبيّاً ، ما اخّرتك إلّا لنفسي ، فأنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي )). قال (عليه‌السلام ) : (( وما أرث منك يا رسول الله ؟ )). قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ما ورث الأنبياء قبلي )). قال (عليه‌السلام ) : (( ما ورث الأنبياء قبلك ؟ )). قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( كتاب الله وسنّة نبيّهم. وأنت معي في الجنّة ، وأنت أخي ورفيقي )). ثمّ تلا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) :( إِخْوَاناً عَلَى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (١) : الـمُتحابّون في الله ينظر بعضهم إلى بعض.

وقال صفي الدين الحلّي -رحمه‌الله - :

أنت سرُّ النّبيِّ والصنوُ وابنُ الـ

ـعمِّ والصهرُ والأخُ الـمُستَجادُ

لو رأى مثلَكَ النّبيُّ لآخا

هُ وإلّا فأخطَأَ الانتقادُ

وعن جابر بن عبد الله ، قال : سمعت عليّاً يُنشد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) شعراً :

أنا أخو الـمُصطفَى لا شكَّ في نسَبي

معْهُ رُبيتُ وسِبطاهُ هُما ولدِي

جدِّي وجدُ رسول الله منفردٌ(٢)

وفاطمٌ زوجَتي لا قول ذي فَنَدِ

____________________

(١) سورة الحجر / ٤٧.

(٢) هكذا وردت كلمة ( منفرد ) في أكثر من مصدر ، ولعل الصحيح ( مُتّحد ). ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين )

١٤٠