المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٣

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 202

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 202
المشاهدات: 49136
تحميل: 3988


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49136 / تحميل: 3988
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 3

مؤلف:
العربية

رجالاً من قريش وندفعهم إليك فتقتلهم ؟ فإنْ طلبت قُريظة رهناً ، فلا تُعطوهم.

فلمّا طلبت قُريظة منهم الرهن ، قالوا : صدق نعيم ، ولمْ يعطوهم. فقالت قُريظة : الذي قال نعيم حقّ. فلمْ تحارب معهم ، واجتمعت قريش ومَن تحزّب معها من قبائل العرب واليهود فكانوا عشرة آلاف ، وقصدوا المدينة ، كما قال الله تعالى :( جَآءُوكُمْ من فَوْقِكُمْ وَمن أَسْفَلَ منكُمْ ) (١) . فبلغ خبرهم النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فأخبر النّاس وندبهم وشاورهم ، فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة ، فأعجب ذلك المسلمين ، وقسّمه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بين كلّ عشرة أربعين ذراعاً ، فأحتق(٢) المهاجرون والأنصار في سلمان كلّ يقول منّا ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( سلمان منّا أهل البيت )). وجعلوا يحفرون الخندق مستعجلين حتّى أتمّوه في ستة أيام أو أكثر.

وجاء الأحزاب ونزلوا بجانب الخندق ، وخرج النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في ثلاثة آلاف ، فضرب معسكره إلى سفح سلع - وهو جبل فوق المدينة - وجعل سلعاً خلف ظهره والخندق بينه وبين القوم ، ولمْ يكن الخندق محيطاً بالمدينة من جميع جوانبها ، بل كان الجانب الذي من ناحية سلع مشبكاً بالبنيان لا يستطيع العدو أنْ يأتي منه ، وإنّما حُفر الخندق من الجانب الذي هو غير محصّن.

وعظم البلاء ، واشتدّ الخوف وساءت الظنون ، وهو قوله تعالى :( وَ إِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا ) (٣) . ونجم النّفاق حتّى قال بعض المنافقين : كان محمّد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أنْ يذهب إلى الغائط ، وهو قوله تعالى :( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلّا غُرُوراً ) (٤) ...( وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمنونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ ) (٥) .

_____________________

(١) سورة الأحزاب / ١٠.

(٢) أي : اختصموا.

(٣) سورة الأحزاب / ١٠.

(٤) سورة الأحزاب / ١٢.

(٥) سورة الأحزاب / ٢٢.

١٦١

وأيقنوا بالنّصر :( و ما زادهم ) ما رأوا من البلاء( إلّا إيمانا ) بالله( وتسليماً ) لقضائه.( من الْمُؤْمنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ ) (١) . بأنّهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ثبتوا وقاتلوا حتّى يُقتلوا أو ينتصروا :( فَمنهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ) . عن ابن عبّاس : هو حمزة ومَن قُتل معه :( وَمنهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً ) . عن علي (عليه‌السلام ) : (( فينا نزلت ، وأنا والله ، المنتظر وما بدّلت تبديلاً )).

ولـمّا اشتدّ البلاء ، ورآى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ضعف قلوب الأكثرين ، بعث إلى عيينة بن حصن ، وإلى الحارث بن عوف - وهما قائدا غَطْفان - فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أنْ يرجعا بمَن معهما ، وبعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فأخبرهما ، فقالا : يا رسول الله ، شيء أمرك الله به لا بدّ لنا منه ، أمْ شيء تصنعه لنا ؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( بل شيء أصنعه لكم )). فقال سعد بن معاذ : قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الِشرك وعبادة الأوثان ، وهم لا يطمعون أنْ يأكلوا منّا ثمرة إلّا قرى أو بيعاً ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزّنا بك وبه نُعطيهم أموالنا ؟ والله ، لا نعطيهم إلّا السّيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم.

وأقام المسلمون بضعاً وعشرين ليلة ، وعدوّهم محاصرهم ليس بينهم قتال إلّا الترامي بالنّبل والحجارة ، وجاءت فوارس من قريش ، منهم : عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة بن أبي جهل ، ونوفل بن عبد الله ، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميّان ، وضرار بن الخطاب الفهري ، فأقبلوا تعنق بهم خيلهم حتّى وقفوا على الخندق ، فصاروا إلى مكان ضيّق منه ، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه ، فجالت بهم بين الخندق وسلع.

قال الطبري وابن هشام وغيرهما : وخرج علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) في نفر معهم من المسلمين حتّى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا خيلهم منها ؛ وذلك أنّهم لـمّا عبروا الخندق ، بادر علي (عليه‌السلام ) فرابط عند الثغرة التي أقحموا خيلهم منها ليمنع مَن يريد عبور الخندق من ذلك المكان ؛ فإنّه لم يكن في الحسبان أنّ المشركين

_____________________

(١) سورة الأحزاب / ٢٣.

١٦٢

يعبرون الخندق ، فلمّا رأوهم عبروه على حين غفلة ، بادر علي (عليه‌السلام ) بمَن معه ليمنعوا غيرهم ، وليقاتلوهم إذا أرادوا الرجوع.

وهذه منقبة انفرد بها علي (عليه‌السلام ) في هذه الغزاة بمبادرته لحماية الثغرة دون غيره ، حين بدا لهم هذا الأمر الذي لم يكن في الحسبان ، وعلموا أنّ هؤلاء الذين اقتحموا الخندق بخيولهم ، وأقدموا على ما كان يخال أنّه ليس بممكن ، هم من أشجع الشجعان.

قال ابن هشام والطبري : وقد كان عمرو بن عبد ودّ قاتل يوم بدر حتّى أثبتته الجراحة ، فلمْ يشهد اُحداً ، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه.

قال صاحب السّيرة الحلبيّة : فقال عمرو : مَن يبارز ؟ فقام علي ، وقال : (( أنا له يا نبيّ الله ))(١) . فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( اجلس إنّه عمرو )). ثمّ كرر النّداء وجعل يوبّخ المسلمين ، ويقول : أين جنّتكم التي تزعمون أنّ مَن قُتل منكم دخلها ؟ أفلا يبرز إليّ رجل ؟ وقال :

ولقدْ بححتُ منَ الندا

ءِ بجمعِكُمْ هل منْ مُبارزْ

إنّي كذلكَ لمْ أزَلْ

مُتسرِّعاً نحو الهزاهزْ

إنّ الشجاعةَ في الفتَى

والجودَ منْ خيرِ الغرائزْ

فقام علي (عليه‌السلام ) ، وهو مقنع في الحديد ، فقال : (( أنا له يا رسول الله )). فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( اجلس إنّه عمرو )). ثمّ نادى الثالثة ، فقام علي (عليه‌السلام ) ، فقال : (( أنا له يا رسول الله )). فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّه عمرو )). فقال (عليه‌السلام ) : (( وإنْ كان عمراً )). فأذنَ له وأعطاه سيفه ذو الفقار ، وألبسه درعه وعمّمه بعمامته ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( اللهمّ ، أعنه عليه )). فبرز إليه علي ، وهو يقول :

لا تعجلنَّ فقدْ أتا

كَ مُجيبُ صوتِكَ غيرُ عاجزْ

_____________________

(١) الظاهر أنّ عليّاً (عليه‌السلام ) لـمّا سمع عمراً يطلب المبارزة ترك مكانه من الثغرة التي كان يحرسها ، وأبقى بها بعض أصحابه ، وجاء إلى النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فقام بين يديه ، وقال (عليه‌السلام ) : (( أنا له يا نبيّ الله )) ؛ فإنّه لم يكن ليبارزه بغير إذنه. - المؤلّف -

١٦٣

ذو نيةٍ وبصيرةٍ

والصدقُ مَنجى كلِّ فائزْ

إني لأرجُو أنْ اُقيـ

ـمَ عليكَ نائحةَ الجنائِزْ

منْ ضربةٍ نجلاءَ يبـ

ـقَى صيتُها بعد الهزاهزْ

فقال له عمرو : مَن أنت ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( أنا علي )). قال : ابن مَن ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( ابن عبد مناف ، أنا علي بن أبي طالب )). فقال : غيرك يابن أخي من أعمامك مَن هو أشدّ منك فانصرف ؛ فإنّي أكره أنْ أهريقَ دمك ؛ فإنّ أباك كان لي صديقاً وكنتُ له نديماً(١) . فقال علي (عليه‌السلام ) : (( لكنّي والله ، ما أكره أنْ أهريق دمك )). وقال له علي (عليه‌السلام ) : (( إنّك كنت تقول : لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلّا قبلتها )). قال : أجل. فدعاه إلى الإسلام ، فقال : أخّر عنّي هذه. قال (عليه‌السلام ) : (( واُخرى ترجع إلى بلادك ، فإنْ يكُ محمّد صادقاً كنت أسعد النّاس به ، وإنْ يكُ كاذباً كان الذي تريد )). قال : هذا ما لا تتحدث به نساء قريش أبداً ، كيف وقد قدرت على استيفاء ما نذرت ؟ - فإنّه نذرَ لـمّا أفلت هارباً يوم بدر وقد جُرح ، أنْ لا يمسّ رأسه دهناً حتّى يقتل محمّداً - قال : فالثالثة ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( البراز )). قال : هذه خصلة ما كنت أظنّ أنّ أحداً من العرب يخوّفني بها ، ولِمَ يابن أخي ؟ فوالله ، ما اُحبّ أنْ أقتلك. فقال علي (عليه‌السلام ) : (( ولكنّي والله ، اُحبّ أنْ أقتلك )). وقال له علي : (( كيف اُقاتلك وأنت فارس ؟ )). فاقتحم عن فرسه وضرب وجهه ، وسلّ سيفه كأنّه شعلة نار ، وأقبل على علي فتنازلا وتجاولا ، فاستقبله عليٌّ (عليه‌السلام ) بدرقته ، فضربه عمرو فيها فقدّها ، وأثبت فيها السّيف وأصاب رأسه فشجّه ، فضربه علي (عليه‌السلام ) على حبل عاتقه فسقط ، وكان جابر بن عبد الله الأنصاري قد تبع عليّاً لينظر ما يكون منه ومن عمرو.

قال : فثارث غبرة فما رأيتهما ،

_____________________

(١) وإنما قال هذا خوفاً منه ؛ فإنّه كان قد عرف قتلاه ببدر واُحد ، وعلم أنّه إنْ ناهضه قتله علي (عليه‌السلام ) ، فاستحيا أنْ يُظهر الفشل فأظهر الإبقاء والإرغاء ، وإنّه لكاذب كما حكاه ابن أبي الحديد عن شيخه أبي الخير. - المؤلّف -

١٦٤

فسمعت التكبير تحتها فعلمت أنّ عليّاً قد قتله ، وكان مع عمرو ابنه حسل فقتله علي (عليه‌السلام ).

ولـمّا قُتل عمرو ، فرّ الأربعة الذين كانوا معه حتّى اقتحمت خيلهم الخندق ، وتوطرت بنوفل فرسه ، فنزل إليه علي فقتله ، ضربه بالسّيف فقطعه نصفّين ، ولحق هبيرة فأعجزه ، وضرب قربوس سرجه فسقطت درع له كان قد احتقبها ، وفرّ عكرمة وضرار ، وانهزم المشركون بقتل عمرو ونوفل ، وذلك قوله تعالى :( وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمنينَ الْقِتَالَ ) (١) . كفاهم ذلك بعلي (عليه‌السلام ).

وعن ابن مسعود ، أنّه كان يقرأ : وكفى الله المؤمنين القتال بعلي.

قال جابر : فما شبّهت قتل علي عمراً إلّا بما قصّ الله من قصّة قتل داود جالوت ، حيث يقول الله جلّ شأنه :( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ) (٢) . وأقبل علي (عليه‌السلام ) برأس عمرو - ووجهه يتهلل - فألقاه بين يدي النّبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فقال له عمر : هلاّ سلبته يا علي درعه؛ فإنّه ليس في العرب درع مثلها ؟ فقال (عليه‌السلام ) : (( إنّي استحييت أنْ أكشف سوأة ابن عمّي )). ورجع علي إلى مقامه الأوّل يحمي الثغرة التي عبر منها عمرو وأصحابه ، وهو يقول :

نصرَ الحجارةَ منْ سفاهةِ رأيهِ

ونصرتُ دينَ محمّدٍ بصوابي

فضربتُهُ فتركتُهُ مُتجدّلاً

كالجذعِ بينَ دكادِكٍ ورَوابي

وعففتُ عنْ أثوابِهِ ولو انّنيْ

كُنتُ الـمُجدَّلَ بزَّني أثوابي

لا تحسبنَّ اللهَ خاذلَ دينَهُ

ونبيَّهُ يا معشرَ الأحزابِ

وروى المفيد في الإرشاد ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة بالإسناد عن ربيعة السّعدي ، قال : أتيت حذيفة بن اليمان ، فقلت له : يا أبا عبد الله ، إنّا لنتحدث عن علي ومناقبه ، فيقول لنا أهل البصرة : إنّكم لتفرّطون في علي ، فهل أنت محدثي بحديث فيه ؟ فقال حذيفة : يا ربيعة ، وما تسألني عن علي ؟

_____________________

(١) سورة السّجدة / ٢٥.

(٢) سورة البقرة / ٢٥٢.

١٦٥

فوالذي نفسي بيده ، لو وُضع أعمال جميع أصحاب محمّد في كفّة الميزان ، منذ بعث الله محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى يوم النّاس هذا ، ووُضع عمل واحد من أعمال علي في الكفّة الاُخرى ، لرجح عمل علي على جميع أعمالهم. فقال ربيعة : هذا الذي لا يُقام له ولا يقعد ولا يُحمل. فقال حذيفة : يا لُكَع ! وكيف لا يُحمل ؟! - وأين كان حذيفة وجميع أصحاب محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوم عمرو بن عبد ودّ ، وقد دعا إلى المبارزة فأحجم النّاس كلّهم ما خلا عليّاً ، فإنّه برز إليه وقتله الله على يده ؟ - والذي نفس حذيفة بيده ، لَعمله ذلك أعظم أجراً من أعمال اُمّة محمّد إلى يوم القيامة.

وقال ابن أبي الحديد : وإنّ خروجه إلى عمرو يوم الخندق أجلُّ من أنْ يُقال جليلة ، وأعظم من أنْ يُقال عظيمة ، وما هي إلّا كما قال أبو الهذيل ، وقد سأله سائل : أيّما أعظم منزلة عند الله علي أمْ غيره ؟ فقال : يا ابن أخي ، والله ، لَمبارزة علي عمراً يوم الخندق تعِدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعتهم ، وتُربي عليها ، فضلاً عن رجل واحد.

وروى الحاكم في المستدرك بسنده : أنّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : (( لَمبارزةُ علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق ، أفضل من أعمال اُمّتي إلى يوم القيامة )).

وفي رواية عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنّه قال : (( قتلُ عليٍّ لعمرو بن عبد ودّ أفضل من عبادة الثقلين )). وقال ابن تيمية - على عادته المعروفة - : كيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين الإنس والجن ، ومنهم الأنبياء ؟! بل إنّ عمرو بن عبد ودّ هذا لمْ يُعرف له ذكر إلّا في هذه الغزوة. وردّ عليه صاحب السّيرة الحلبيّة : بأنّ قتل هذا الكافر كان فيه نصرة للدين وخذلان للكافرين. وردّ صاحب السّيرة الحلبيّة أيضاً على قوله : أنّه لم يُعرف له ذكر إلّا في هذه الغزوة ، بما روي من أنّه قاتل يوم بدر حتّى أثبتته الجراحة ولمْ يشهد اُحداً ، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه ، وأنّه نذر أنْ لا يمسّ رأسه دهناً حتّى يقتل محمّداً.

وروى الحاكم في المستدرك : أنّه

١٦٦

كان ثالث قريش.

أقول : ويردّه أيضاً أنّه كان معروفاً بفارس يليل(١) ، وفي ذلك يقول مسافح الجمحي يرثي عمراً:

عمرو بنُ عبدٍ كانَ أوّلَ فارسٍ

جزعَ(٢) المذادَ(٣) وكان فارسَ يْليلِ

وأقلّ نظرة يلقيها الإنسان على تلك الغزوة ، فيرى عشرة آلاف محاصرين للمدينة ، حانقين أشدّ الحنق على المسلمين ، وهم دون الثلث من عسكر المشركين ، بينهم عدد كبير من المنافقين ، وبنو قُريظة إلى جنبهم يخافون منهم على ذراريهم ونسائهم ، وما أصاب المسلمين من الخوف والهلع الذي اضطر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنْ يصانع غَطْفان ليرجعوا عن معاونة قريش بثلث ثمار المدينة ، وتعظيم الله ذلك في القرآن بقوله تعالى :( وَ إِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمنونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ) (٤) . ووقوف عمرو ينادي بالمسلمين ويُقرّعهم ويوبّخهم ، ويطلب منهم المبارزة ولا يُجيبه أحد إلّا علي (عليه‌السلام ) وهم ثلاثة آلاف ، فيقتل عمراً وينهزم المشركون بقتله ، ويرتفع البلاء ويأتي الفرج بتلك الضربة.

وأقلّ نظرة يلقيها الإنسان على تلك الحال توصله إلى اليقين بأنّ ضربة علي (عليه‌السلام ) يومئذ أفضل من عبادة الجنّ والإنس والملائكة ، وملايين من العوالم أمثالهم لو كانت سواء ، أجاء الحديث بذلك عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أم لمْ يجىء. ومتى احتاج النّهار إلى دليل ؟ ولولا تلك الضربة لـمَا عُبد الله ، بل عُبدت الأوثان وانمحى أثر الإيمان.

قال ابن هشام والطبري : وبعث الله على المشركين الريح في ليالٍ شاتية شديدةِ البرد ، فجعلت تكفأ

_______________________

(١) اسم مكان كانت له فيه وقعة مشهورة.

(٢) جزع : اجتاز.

(٣) المذاد : موضع الخندق. - المؤلّف -

(٤) سورة الأحزاب / ١٠ - ١١.

١٦٧

قدورهم وتطرح أبنيتهم ، وذلك قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا ) (١) : وهي الملائكة ، فارتحلت قريش ورجعت غطفان إلى بلادها. ولـمّا كان الصباح ، انصرف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالمسلمين عن الخندق راجعاً إلى المدينة.

وقد افتخر جماعة من المشركين في أشعارهم التي رثوا بها عمرو بن عبد ودّ بأنّ قاتله علي بن أبي طالب ؛ منهم مسافح الجمحي ، قال :

فاذهَبْ عليٌّ فما ظفرتَ بمثلِهِ

فخراً فلا لاقيتَ مثلَ الـمُعضلِ

وقال هبيرة بن أبي وهب ، وكان مع عمرو وهرب :

فلا تبعدَنْ يا عمرو حيّاً وهالكاً

فقدْ بنتَ محمودَ الثَّنا ماجدَ الأصلِ

فمَنْ لِطرادِ الخيلِ تُقدَعُ بالقنا

وللفخرِ يوماً عند قرْقرةِ البُزْلِ

فعنك عليٌّ لا أرى مثلَ موقفٍ

وقفتَ على نَجْدِ المقدَّمِ كالفحلِ

فما ظفرتْ كفاك فخراً بمثلِهِ

أمِنْتَ بهِ ما عشتَ منْ زلّةِ النَّعلِ

ومنهم اُخته عمرة الـمُكنّاة : اُمّ كلثوم ، فإنّه لـمّا نُعي إليها ، قالت : مَن ذا الذي اجترأ عليه ؟ قالوا : ابن أبي طالب. فقالت : لمْ يعدُ موتُه أنْ كان على يد كفو كريم ، لا رقأت دمعتي إنْ هرقتها عليه ؛ قتل الأقران وكانت منيته على يد كفو كريم من قومه ، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر ، ثمّ أنشأت تقول :

لو كانَ قاتلُ عمرٍو غيرَ قاتلِهِ

لكنتُ أبكي عليهِ آخرَ الأبدِ

لكنّ قاتلَهُ مَنْ لا يُعابُ بهِ

قدْ كان يُدعَى أبوهُ بيضةَ البلدِ

منْ هاشمٍ في ذُراهَا وهي صاعدةٌ

إلى السّماءِ تُميتُ النّاسَ بالحسدِ

قومٌ أبى اللهُ إلّا أنْ يكون لهمْ

كرامةُ الدِّينِ والدُّنيا بلا لددِ

_____________________

(١) سورة الأحزاب / ٩.

١٦٨

وقالت أيضاً في قتل أخيها وذكر علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) :

أسدانِ في ضيْقِ المجالِ تصاوَلا

وكلاهُما كفوٌ كريمٌ باسلُ

فاذهبْ عليٌّ فما ظفرتَ بمثلِهِ

قولٌ سديدٌ ليس فيه تحاملُ

وهكذا كانت العرب تفتخر إذا كان قتلها بيد الأشراف ، وتأنف أنْ يكون قتلها بيد الأنذال الأرذال. ولـمّا اُقيم حُيي بن أخطب بين يدي علي (عليه‌السلام ) ليُقتل ، قال : قتلة شريفة بيد شريف. وكما هوّن على اُمّ كلثوم اُخت عمرو بن عبد ودّ قتل أخيها ، كونه بيد شريف كفو كريم وهو علي بن أبي طالب ، فقد زاد في حزن أخوات الحسين (عليه‌السلام ) ؛ زينب واُمّ كلثوم على أخيهما الحسين (عليه‌السلام ) أنّ قتله كان على يد أولاد الأدعياء ، وعلى يد شمر بن ذي الجوشن الرذل النّذل.

ولـمّا جاء الجواد إلى المخيم ، وهو خالي السّرج من راكبه ، وضعت اُمّ كلثوم يدها على اُمِّ رأسها ونادت : وا محمّداه ! وا جدّاه ! وا عليّاه ! وا جعفراه ! وا حمزتاه ! وا حسناه ! هذا حسين بالعراء ، صريع بكربلاء ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء. ثُمّ غُشي عليها ، وجعلت زينب تنادي بصوت حزين وقلب كئيب : يا محمّداه ! صلّى عليك مليك السّماء ، هذا حُسينك مرمّل بالدماء ، مقطوع الأعضاء ، وبناتك سبايا. يا محمّداه ! هذا حسين بالعراء ، تسفي عليه ريح الصبا ، قتيل أولاد البغايا ، بأبي مَن لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ! بأبي المهموم حتّى قضى ! بأبي العطشان حتّى مضى ! بأبي مَن شيبته تقطر بالدماء.

أدهى المصائِبِ في القلوبِ فجيعةً

قتْلُ الكِرامِ على يدِ الأنذالِ

تبّاً لدهرٍ مكَّنتْ أحداثُهُ

كفَّ الثعالبِ من أبي الأشبالِ

* * *

١٦٩

المجلس الثالث بعد المئتين

من كتاب لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) إلى معاوية جواباً ، وهو من محاسن الكتب : (( أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لدينه ، وتأييده إيّاه بمَن أيّده من أصحابه ، فلقد خبّأ لنا الدهر منك عجباً ، إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله عندنا ، ونعمته علينا في نبيّنا ، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر ، أو داعي مسدّده إلى النّضال. وزعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمراً إنْ تمّ اعتزلك كلّه ، وإنْ نقص لَمْ يلحقك ثلمه. وما أنت والفاضل والمفضول ، والسائس والمسوس ؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأوّلين ، وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم ؟!

هيهات ! لقد حنّ قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها مَن عليه الحكم لها ، ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخرّك القدر ؟ فما عليك غلبة المغلوب ولا ظفر الظافر. وإنّك لذّهاب في التيه ، روّاغ عن القصد ، ألَا ترى غير مخبر لك - ولكن بنعمة الله اُحدّث - أنّ قوماً استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين - ولكلٍّ فضل - حتّى إذا استشهد شهيدنا ، قيل : سيّد الشهداء ، وخصّه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بسبعين تكبيرةً عند صلاته عليه ؟ - يريد بذلك حمزة -.

أولاَ ترى أنّ قوماً قطعتُ أيديهم وأرجلهم في سبيل الله - ولكلٍّ فضل - حتّى إذا فُعل بواحدنا - يعني : جعفراً - ما فُعل بواحدهم ، قيل : الطيّار في الجنّة وذو الجناحين ؟ ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة ، تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجّها آذان السّامعين ، فدع عنك مَن مالت به الرمية ؛ فإنّا صنائع ربّنا والنّاس بعدُ صنائع لنا.

لَمْ

١٧٠

يمنعا قديم عزّنا ، ولا عادي طولنا على قومك أنْ خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ولستم هناك ، وأنّى يكون ذلك كذلك ومنّا النّبيّ ومنكم الـمُكذّب ، ومنّا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ، ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صبية النّار ، ومنّا خير نساء العالمين ومنكم حمّالة الحطب ، في كثير ممّا لنا وعليكم ؟! فإسلامنا قد سُمع ، وجاهليتنا لا تُدفع ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا ، وهو قوله تعالى :( واُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) (١) . وقوله تعالى :( إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهذَا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمنينَ ) (٢) . فنحن تارة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطاعة.

ولـمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فلجوا عليهم ، فإنْ يكن الفلجُ به فالحقّ لنا دونكم ، وإنْ يكن بغيره فالأنصار على دعواهم. وزعمت أنّي لكل الخلفاء حسدتُ ، وعلى كلّهم بغيتُ ، فإنْ يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك ، فيكون العذر إليك، وتلك شكاة ظاهر عنك عارُها.

وقلتَ : إنّي كنتُ اُقاد كما يُقاد الجمل المخشوش حتّى اُبايع ، ولَعمر الله ، لقد أردتَ أنْ تذمَّ فمدحت ، وأنْ تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة أنْ يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ، ولا مُرتاباً بيقينه ، وهذه حُجّتي إلى غيرك قصدها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها.

وذكرت : أنّه ليس لي ولا لأصحابي إلّا السّيف ، فلقد أضحكت بعد استعبار ! متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسّيف مُخوَّفين ؟ - لبّث قليلاً يلحق الهيجا حَمَلْ - فسيطلبك مَن تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد. وأنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار ، والتابعين لهم بإحسان ، شديدٌ زحامهم ، ساطعٌ قتامهم ، متسربلين بالموت ، أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم ، قد صحبَتْهم ذرّيّة بدريّة وسيوف هاشميّة ، قد عرفتَ

___________________

(١) سورة الأحزاب / ٦.

(٢) سورة آل عمران / ٦٨.

١٧١

مواقع نصالها في أخيك وخالك ، وجدّك وأهلك ، وما هي من الظالمين ببعيد )).

أخوه حنظلة بن أبي سفيان ، وخاله الوليد بن عتبة قتلهما أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يوم بدر ، وجدّه عتبة بن ربيعة الذي قتله حمزة يوم بدر ، وشرك في قتله أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، وما برحت أحقاد بدر في قلوب بني اُميّة حتّى أظهرها يزيد يوم جيء إليه برأس الحسين (عليه‌السلام ) ، فلمّا وُضع الرأس الشريف بين يديه ، دعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه‌السلام ) ، ثُمّ قال : يوم بيوم بدر. وكان عنده أبو برزة الأسلمي ، فقال : ويحك يا يزيد ! أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة ؟! أشهد لقد رأيت النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ، ويقول : (( أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة ، فقتل الله قاتلكما ، ولعنه وأعدّ له جهنم وساءت مصيراً )). فغضب يزيد وأمر بإخراجه ، فاُخرج سحباً.

وفي رواية : أنّه قال : أما إنّك يا يزيد ، تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ، ويجيء هذا ومحمّد شفيعه. ثُمّ قام فولّى.

أتنْكتُها شُلَّتْ يمينُك إنَّها

وجوهٌ لوجهِ اللهِ طالَ سُجُودُها

* * *

المجلس الرابع بعد المئتين

من وصيّة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) للحسن والحسين (عليهما‌السلام ) ، لـمّا ضربه ابن ملجم - لعنه الله - :

(( اُوصيكما بتقوى الله ، وأنْ لا تبغيا الدّنيا وإنْ بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا بالحقّ واعملا للأجر ، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً. اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ، ومَن بلغه

١٧٢

كتابي هذا من المؤمنين ، بتقوى الله ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ؛ فإنّي سمعت جدّكما (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام. والله الله في الأيتام ! فلا تغبّوا(١) أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم )).

بأبي واُمّي يا أمير المؤمنين ! توصي ولديك الحسنين (عليهما‌السلام ) بالأيتام ، فليتك لا غبت عن أيتام ولدك الحسين (عليه‌السلام ) ليلة العاشر من الـمُحرّم وقد باتوا جياعى عطاشى ، بلا محامٍ ولا كفيل سوى العليل زين العابدين (عليه‌السلام ) الذي نهكته العلّة فلا يستطيع النهوض ، وابنتك زينب (عليها‌السلام ) التي قامت تجمع العيال والأطفال وتحرسهم تلك الليلة ، وقد أحرق القوم الخيام ونهبوا ما فيها ، ولا شك أنّهم باتوا تلك الليلة على وجه الأرض بلا غطاءٍ ولا وطاءٍ تحت السّماء ، وهم ينظرون إلى القتلى مجزّرة كالأضاحي جثثاً بلا رؤوس.

مُجرَّدينَ على الرَّمضَاءِ قدْ لبسُوا

منَ المهابَةِ أثواباً لها قُشُبَا

مُغسَّلينَ بمحمرِّ النَّجيعِ بنَى

نبلُ العِدى والقنا منْ فوقِهمْ قُبَبا

والله الله في جيرانكم ! فإنّهم وصية نبيّكم ، ما زال يوصي بهم حتّى ظننا أنّه سيورّثهم ، والله الله في القرآن ! لا يسبقكم بالعمل به غيركم ، والله الله في الصلاة ! فإنّها عمود دينكم ، والله الله في بيت ربّكم ! لا تخلوه ما بقيتم ؛ فإنّه إنْ تُرك لَمْ تناظروا ، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله ! وعليكم بالتّواصل والتباذل ، وإيّاكم والتدابر والتقاطع. لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم.

يا بني عبد المطلب ، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً ، تقولون : قُتل أمير المؤمنين. ألا لا تقتلنّ بي إلّا قاتلي. انظروا : إذا أنا مِتُّ من

___________________

(١) أغبّ القوم : جاءهم يوماً وترك يوماً ، أي : لا تقطعوا الطعام عن أفواههم. - المؤلّف -

١٧٣

ضربته هذه ، فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يُمثّل بالرجل ؛ فإنّي سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول : إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور )).

ألا لعن الله أهل الكوفة ، فإنّه لم يكفهم قتل الحسين (عليه‌السلام ) حتّى مثّلوا به وبأهل بيته وأنصاره؛ قطعوا الرؤوس وشالوها على رؤوس الرماح من بلد إلى بلد ، ولمْ يكفهم ذلك حتّى داسوا بخيولهم صدر الحسين (عليه‌السلام ) وظهره حتّى هشّمت الخيل أضلاعه ، وطحنت جناجن صدره.

لمْ يشفِ أعداهُ مثلَ القتلِ فابتَدَرتْ

تجري على جسمِهِ الجُردُ المحاضيرَا

يا عقّرَ الله تلكَ الخيلَ إذْ جعلتْ

أعضاءَهُ لعوادِيها مضامِيرَا

* * *

المجلس الخامس بعد المئتين

قال أبو جعفر محمّد بن علي الباقر (عليه‌السلام ) لجابر : (( أيكفي مَنْ انتحل التشيع أنْ يقول بحبنّا أهل البيت ؟ فوالله ، ما شيعتنا إلّا مَن اتّقى الله. وما كانوا يُعرفون يا جابر ، إلّا بالتواضع والتخشّع وكثرة ذكر الله ، والصوم والصلاة ، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة ، والغارمين والأيتام ، وكفّ الألسن عن النّاس إلّا من خير ، فكانوا اُمناء عشائرهم في الأشياء )). فقال جابر : يابن رسول الله ، لستُ أعرف أحداً بهذه الصفة. فقال (عليه‌السلام ) : (( يا جابر ، لا تذهبنّ بك المذاهب ، حسب الرجل أنْ يقول : اُحبّ عليّاً وأتولاّه ، فلو قال : إنّي اُحبّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فرسول الله خير من

١٧٤

علي ، ثمّ لا يعمل عمله ولا يتبع سنته ، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً ، فاتّقوا الله واعملوا لِمَا عند الله. ليس بين الله وبين أحد قرابة. أحبّ العباد إلى الله وأكرمهم عليه أتقاهم له وأعملهم بطاعته. والله ، ما يُتقرّب إلى الله تعالى إلاّ بالطاعة. ما معنا براءة من النّار ولا على الله لأحد من حجة. مَن كان لله مُطيعاً فهو لنا ولي ، ومَن كان عاصياً فهو لنا عدو ، ولا تُنال ولايتنا إلّا بالورع والعمل )).

وقال أبو جعفر (عليه‌السلام ) : (( إنّما شيعة علي (عليه‌السلام ) الشاحبون الناحلون الذابلون ؛ ذابلة شفاهم ، خمص بطونهم ، متغيرة ألوانهم ، مصفرّة وجوههم ، إذا جنّهم الليل اتخذوا الأرض فراشاً، واستقبلوا الأرض بجباههم ؛ كثير سجودهم كثيرة دموعهم ، كثير دعاؤهم كثير بكاؤهم ، يفرح النّاس وهم يحزنون )). وقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) : (( ألا وإنّ لكلِّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألاَ وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد ، وعفّة وسداد ، فوالله ، ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً ، ولا حزت من أرضها شبراً )).

وهكذا كانت عادة أهل البيت (عليهم‌السلام ) وطريقتهم في الزهد في الدنيا الفانية ، والإيثار على أنفسهم ، وتفقّد الفقراء والمساكين ، وكثرة الصلاة ، وكثرة ذكر الله تعالى في الليل والنّهار ؛ ولذلك لـمّا زحف عمر بن سعد وأصحابه إلى الحسين (عليه‌السلام ) عشية اليوم التاسع من الـمُحرّم ، أرسل إليهم أخاه العبّاس وقال له : (( إنْ استطعتَ أنْ تُؤخِّرَهُمْ إلى غدْوَةٍ وتدفَعَهُمْ عنّا العشيّةَ ؛ لَعلَّنا نُصلِّي لربِّنا اللَّيلةَ ونَدعُوهُ ونَستغفِرُهُ ؛ فهو يعلمُ أنِّي كُنتُ اُحبُّ الصّلاةَ له وتلاوةَ كتابِهِ ، وكثرةَ الدُّعاءِ والاسْتغفارِ )).

فسألهم العبّاس ذلك ، فتوقّف ابن سعد ، فقال له عمرو بن الحجّاج : سبحان الله ! والله ، لو أنّهم من التُرك أو الدّيلم وسألونا مثل

١٧٥

ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمّد ! فأجابوهم الى ذلك. فقام الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه الليل كلّه يُصلّون ويستغفرون ، ويدعون ويتضرّعون ، وباتوا ليلة العاشر من الـمُحرّم ولهم دويّ كدويّ النّحل ؛ ما بين قائم وقاعد ، وراكع وساجد.

سمةُ العبيدِ من الخشوعِ عليهمُ

لله إنْ ضمّتْهُمُ الأسحارُ

فإذا ترجّلتِ الضُّحى شَهدتْ لهُمْ

بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ

ولمْ يشغلهم ما هم فيه من الشدائد وانتظار القتل عن ذكر ربّهم وعبادته ، والإقبال بقلوبهم عليه. ولـمّا كان يوم عاشوراء ، قال أبو ثمامة الصّيداوي للحسين (عليه‌السلام ) : يا أبا عبد الله ، نفسي لنفسك الفداء ، هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله ، لا تُقتل حتّى اُقتل دونك ، واُحبّ أنْ ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصّلاة. فرفع الحسين (عليه‌السلام ) رأسه إلى السّماء ، وقال : (( ذكرتَ الصّلاة جعلك الله من المصلّين الذّاكرين ، نعم هذا أوّل وقتها )). ثمّ قال : (( سلوهم أنْ يكفّوا عنّا حتّى نُصلّي )). ففعلوا ، فقال لهم الحُصين بن تميم : إنّها لا تُقبل. فقال له حبيب بن مظاهر : زعمتَ لا تُقبل الصّلاة من آل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأنصارهم ، وتُقبل منك يا خمّار !

وقال الحسين (عليه‌السلام ) لزهير بن القَين وسعيد بن عبد الله الحَنفي : (( تقدّما أمامي حتّى اُصلّي الظهر )). فتقدّما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف ، فوصل إلى الحسين (عليه‌السلام ) سهم ، فتقدّم سعيد بن عبد الله ووقف يقيه من النّبال بنفسه ما زال ولا تخطّى ، فما زال يُرمى بالنّبل حتّى سقط إلى الأرض ، وهو يقول : اللهمّ ، العنهم لعن عاد وثمود. اللهمّ ، أبلغ نبيّك عنّي السّلام ، وأبلغه ما لقيتُ من ألم الجراح ؛ فإنّي أردتُ ثوابك في نصر ذرّيّة نبيّك.

وفي رواية : أنّه قال : اللهمّ ، لا يعجزك شيء تريده ، فأبلغ محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نُصرتي ودفعي عن الحسين (عليه‌السلام ) ،

١٧٦

وارزقني مرافقته في دار الخلود. ثمّ قضى نحبه رضوان الله عليه ، فوُجِد فيه ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السّيوف وطعن الرّماح.

صالُوا وجالُوا وأدَّوا حقَّ سيِّدِهمْ

في موقفٍ عقَّ فيهِ الوالدَ الولدُ

وشاقهُمْ ثمرُ العُقبَى فأصبَح في

صدورِهمُ شجرُ الخطيِّ يختضدُ

* * *

المجلس السّادس بعد المئتين

من كتابٍ لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري ، وكان عامله على البصرة ، وقد بلغه أنّه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها : (( أمّا بعدُ يابن حنيف ، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعتَ إليها ، تُستطاب لك الألوان وتُنقل إليك الجفان ، وما ظننت أنّك تُجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيّهم مدعو ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجهه فنِلْ منه.

ألا وإنّ لكلِّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألَا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد، وعفّة وسداد ، فوالله ، ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً ، ولا حزت من أرضها شبراً. بلى ، كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلَّته السّماء ، فشحَّتْ عليها نفوس قوم ، وسخَتْ عنها نفوس قوم

١٧٧

آخرين ، ونِعمَ الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك ، والنّفس مظانُّها في غدٍ جَدَثٌ تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها ! وحفرة لو زِيد في فُسحتها ، وأوسعت يدَا حافرها ، لأضغَطها الحجر والمدر ، وسدّ فُرَجها التراب المتراكم ! وإنّما هي نفسي اُروّضُها بالتّقى لتأتيَ آمنةً يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب الـمَزْلَق.

ولو شئتُ لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، ولكن هيهات أنْ يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ، ولعلّ بالحجاز أو باليمامة مَن لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع. أوَ أبيتُ مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟! أوَ أكون كما قال القائل :

وحسبُكَ عاراً أنْ تبيت ببطنةٍ

وحولكَ أكبادٌ تحنُّ إلى القدِّ ؟!

أأقنع من نفسي بأنْ يُقال : أمير المؤمنين ، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش ؟! فما خُلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يُراد بها. أو أترك سدىً ، أو أهمل عابثاً ، أو أجرّ حبل الضلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة ؟!

وكأنّي بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب ، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان. ألا وإنّ الشجرة البرّيّة أصلب عوداً ، والروائع الخضرة أرقّ جلوداً ، والنّباتات البدويّة أقوى وقوداً وأبطأ خموداً ، وأنا من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كالصنوِ من الصنوِ ، والذراع من العضُد. والله ، لو تظاهرت العرب على قتالي لـمَا ولّيت عنها ، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها )).

فدىً لك نفسي وأهلي ومالي يا أمير المؤمنين ، ويا بطل المسلمين ، ويا قاتل النّاكثين والقاسطين والمارقين ، ويا مَن انتهت إليه الشجاعة والفروسيّة. واقتفى أثره في ذلك ولده أبو عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) ، فإنّ هذا الشبل من

١٧٨

ذلك الأسد ، وهذا الثمر من ذلك الشجر.

ولا عجبٌ أنْ يُشبهَ الليثُ شبلَهُ

وحقٌّ على ابنِ الصَّقرِ أنْ يُشبهَ الصَّقرا

فهو الذي اختار المنيّة على الدنيّة ، ومصارع الكرام على طاعة اللئام ، وموت العزّ على حياة الذل.

لهُ منْ عليٍّ في الحروبِ شجاعةٌ

و منْ أحمدٍ عندَ الخطابةِ قيلُ

وقد شهدت له بالصبر أعداؤه - والفضل ما شهدت به الأعداء - ؛ وذلك لـمّا دعا النّاس إلى البراز ، فلمْ يزل يقتل كلّ مَن برز إليه حتّى قتل مقتلةً عظيمةً ، وهو في ذلك يقول :

القتلُ أولَى منْ رُكوبِ العارِ

والعارُ أولَى منْ دخولِ النّارِ

قال بعض الرواة : فوالله ، ما رأيت مكثوراً ( أي : مغلوباً ) قطْ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً منه ، وإنْ كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب. ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : (( لا حول ولا قوّة إلّا بالله )).

فلمّا رأى شمر ذلك ، استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجّالة ، وأمر الرُماة أنْ يرموه فرشقوه بالسِّهام حتّى صار كالقنفذ ، فأحجم عنهم فوقفوا بإزائه ، وجاء شمر في جماعة من أصحابه فحالوا بينه وبين رحله الذي فيه ثقله وعياله ، فصاح (عليه‌السلام ) : (( ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان! إنْ لمْ يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عُرُباً كما تزعمون )). فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة ؟ قال (عليه‌السلام ) : (( أقول : إنّي اُقاتلكم وتقاتلونني ، والنّساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً )).

١٧٩

فقال شمر : لك ذلك يابن فاطمة. ثمّ صاح : إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه ، فلَعمري لهو كفؤ كريم. فقصده القوم ، وهو في ذلك يطلب شربة من الماء ، وكلّما حمل بفرسه على الفرات ، حملوا عليه بأجمعهم حتّى أجلوه عنه.

قال اقصدُوني بنفسِي واتْركُوا حَرَمي

قدْ حان حَينِي وقدْ لاحتْ لوائحُهُ

* * *

المجلس السّابع بعد المئتين

من كلام لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) : (( إليكِ عنّي يا دُنيا ، فحبلك على غاربك ، قد انسللتُ من مخالبك وأفلتُّ من حبائلك ، واجتنبت الذهاب في مداحضك. أين القرون الذين غررتهم بمداعبك ؟ أين الاُمم الذين فتنتهم بزخارفك ؟ فها هم رهائن القبور ومضامين اللحود. والله ، لو كنتُ شخصاً مرئيّاً وقالباً حسيّاً ، لأقمت عليك حدود الله في عبادٍ غررتهم بالأماني ، واُمم ألقيتهم في المهاوي ، وملوك أسلمتهم إلى التلف وأوردتهم موارد البلاء ، إذ لا ورد ولا صدر.

هيهات ! مَن وطئ دَحْضك زلِق ، ومَن ركب لُجَجك غرِق ، ومَن ازْوَرَّ عن حبائلك وُفِّق ، والسّالم منك لا يُبالي إنْ ضاق به مناخه ، والدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه. اعزُبي عنّي ، فو الله، لا أذلّ لك فتستذلّيني ، ولا أسلس لك فتقوديني ، وأيَم الله ، يميناً أستثني فيها بمشيئة الله ، لأروضنّ نفسي رياضةً تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً ، وتقنع بالملح مأدوماً ، ولأدَعنَّ مُقلتي كعين ماءٍ نضب معينها ، مستفرغة دموعها ، تمتلئ السّائمة من رعيها فتبرك ، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ،

١٨٠