المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٣

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة18%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 202

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54753 / تحميل: 4930
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد توفي والتدوين مباح للجميع، وامر عبد اللّه بن العاص ان يكتب عنه في حالتي الرضا والغضب، كما يدعون، انه دون صحيفته المسماة بالصادقة من اقواله وافعاله مباشرة(١) ومن البعيد ان تخفى هذه النصوص على الخليفة، واذا افترضنا بانه كان على علم بها، فلماذا منع من التدوين في حين انه لم يرد عن الخليفة الاول ما يشير الى انه نهى عن ذلك.

وجاء في بعض المصادر التي تعرضت لهذا الموضوع انه منعهم عن تدوين الاحاديث حرصاً على كتاب الله، وانه احرق كتبا ً كانت لبعض الصحابة لهذه الغاية.

فقد روى عنه عروة بن الزبير، انه اراد ان يكتب السنن، فاستفتى اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاشاروا عليه ان يكتبها فطفق عمر يستخير الله شهراً، ثم اصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: اني كنت اريد ان اكتب السنن، واني ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتباً فانكبوا عليها وتركوا كتاب الله، واني لا اشوب كتاب الله بشيء.

وجاء عنه انه لما حدث ابي بن كعب عن بيت المقدس واخباره انتهره عمر بن الخطاب، وهم بضربه، فاستشهد ابي بجماعة من الانصار ولما شهدوا بانهم سمعوا الحديث من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تركه، فقال له ابي بن كعب: اتتهمني على حديث رسول الله، فقال يا ابا المنذر: والله ما اتهمتك، ولكني كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً الى غير

____________________

(١)لقد تحدثنا عن هذه الصحيفة المزعومة مفصلاً في كتابنا تاريخ الفقه الجعفري، واثبتنا بالارقام انها ليست من احاديث الرسول، بل هي من الكتب التي استولى عليها المسلمون في معركة اليرموك، وكان هو يحدث عن تلك الكتب وينسبها الى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد جمع فيها طائفة من الاحاديث وادعى بانه اخذها من الرسول.

٢١

ذلك من المرويات الكثيرة التي تؤكد أن الخليفة لم يعتمد على الرسول في منعه عن التدوين، وانه قد تفرد بهذا التصرف حرصاً على كتاب الله ، ولكن الرواية التي تنص على انه قد انتهر ابي بن كعب لما حدث عن بيت المقدس، وقوله فيها: اني كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً، هذه الرواية تدل على انه كان حريصاً على ان لا ينتشر الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع العلم بان حديث الرسول مكمل للتشريع، ومبين لمجملات القرآن ومخصص لعموماته ومطلقاته، وقد تكفل لكثير من النواحي الاخلاقية والاجتماعية والتربوية، ولو تقصينا الاسباب التي يمكن افتراضها لتلك الرغبة الملحة في بقاء السنة في طي الكتمان لم نجد سبباً يخوله هذا التصرف، ولا نستبعد انه كان يتخوف من اشتهار احاديث الرسول في فضل علي وابنائه (ع).

ويؤكد ذلك ما رواه عبد الرحمن بن الاسود عن ابيه، ان علقمة جاء بكتب من اليمن او مكة تحتوي على طائفة من الاحاديث في فضل اهل البيت (ع)، فاستأذنا على عبد الله بن مسعود فدخلنا عليه ودفعنا اليه الكتب، قال: فدعا الجارية ثم دعا بطشت فيه ماء، فقلنا له: يا ابا عبد الله انظر فيها فان فيها احاديث حساناً، فلم يلتفت، وجعل يمثها في الماء ويقول: نحن نقصّ عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القرآن، القلوب اوعية فاشغلوها بالقرآن، وعبد الله بن مسعود كان منحرفاً عن علي (ع) ويساير المنحرفين عنه، كما تؤكد ذلك النصوص التاريخية.

ولو افترضنا ان الخليفة كان حسن النية في هذا الامر، وانه لم يمنع الا بدافع الحرص على كتاب الله، فقد كان من نتائجه، ان اتسع المجال للكذابين والمنحرفين عن المخطط الاسلامي، والمرتزقة ان يضعوا من الاحاديث ما توحيه اليهم الاهواء والمطامع، بالاضافة الى ما ضاع منها

٢٢

بسبب الحروب والغزوات، التي فتكت بالصحابة بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

على ان الذين يحاولون ان يعتذروا عنه، ويقرون المرويات التي تنص على انه خاف ان يختلط الحديث بالقرآن، هؤلاء يسيئون اليه من حيث لا يقصدون، لانه لم يكن قصير النظر ولا محدود التفكير ولا جاهلاً باساليب البيان وبلاغة القول، ويعلم جيداً ان القرآن قد استولى على النفوس وتحكم بمشاعرهم واحاسيسهم، وكان له الاثر البالغ في سير الدعوة وانتشارها، هذا بالاضافة الى وجود الفوارق الكثيرة بين الاسلوبين التي لا تخفى على احد منهم.

ومع التغاضي عن جميع ذلك، فقد كان بالامكان لو كانت النوايا طيبة التفرغ الى جمع الحديث وتدوينه بعد تدوين القرآن الكريم والتثبت من احصائه في مجموعة واحدة بواسطة لجنة مختارة من الامناء المعروفين بالوثاقة والاستقامة، ولو فعلوا ذلك لقطعوا الطريق على كل افاك اثيم، وعلى المرتزقة الذين شوهوا معالم السنة وطمسوا من اضوائها النيرة والصقوا فيها من الموضوعات التي جرت على المسلمين اسوأ انواع البلاء وفرقتهم شيعاً واحزاباً.

ومهما كانت الاسباب التي فرضت على الخليفة ان يقف من السنة هذا الموقف، فالنصوص التاريخية تؤكد بانه لم يكن موفقاً فيه ولم ينجح كل النجاح في هذا التدبير، فقد ظهرت بعض المدونات الاسلامية في فترات متعاقبة من عصر الصحابة وبعده للشيعة وغيرهم، ومن ذلك الجامعة التي الفها علي (ع) وقد تناول فيها جميع ابواب الفقه، واليها كان يرجع الائمة (ع) في احكامهم واقضيتهم في كثير من المناسبات، كما دون عبد الله بن العباس في الفقه والتفسير وغير ذلك من العلوم، وجاء

٢٣

في بعض المرويات انه ترك حمل بعير من مدوناته، وكان يحمل قسماً منها الى مجالسة وحلقات التدريس، وكتب سعيد بن جبير احد تلاميذه كل ما املاه عليه. ومجمل القول ان حركة التدوين بدأت تتسع في الشطر الاخير من عصر الصحابة ولكنها لم تنتشر بين المسلمين الا في اوائل القرن الثاني حينما امر عمر بن عبد العزيز ابا بكر محمد بن حزم بجمع الحديث وتدوينه، وجاء في المذكرة التي وجهها اليه. انظر ما كان من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله او سنة ماضية فاكتبه فاني خفت دروس العلم وضياعه، واكد عليه كما تنص بعض المرويات ان يدون ما روته عمرة بنت عبد الرحمن الانصارية والقاسم بن محمد بن ابي بكر(١) فهب الناس الى التدوين واحسوا بخطر الركود الذي مر عليه في القرن الاول واصبح من الضرورات الملحة بنظر الجميع، لا سيما وقد ندب اليه عمر بن عبد العزيز المعروف بالاعتدال والحرص على الآثار الاسلامية ولكن التدوين الذي كان يومذاك لم يكن مرتباً على ابواب الفقه وفصوله ولم يقتصر الكتاب على موضوع واحد، بل كان المؤلف يحشد في كتابه من جميع المواضيع والاصناف، بما في ذلك التفسير واللغة والادب ونحو ذلك من المواضيع اما التدوين المرتب على الابواب الفقهية فلم يكن قبل اواخر النصف الاول من القرن الثاني، ويدل على ذلك ما اورده الحافظ الذهبي في حوادث ص ١٤٣ قال: وفي هذا العصر شرع علماء الاسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير وغير ذلك من المواضيع، فصنف ابن جريح المتوفى ١٥٠ تصانيفه الكثيرة في مكة، وصنف ابن أبي عروبة المكنى بابي النظر العدوي، وفي خلال ذلك صنف ابو حنيفة في الفقه والرأي، كما صنف حماد بن سلمة وسفيان الثوري والاوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وغيرهم في فرات متعاقبة تتراوح بين سنة ١٥٠ و ١٧٥ عشرات الكتب

____________________

(١)انظر تاريخ الفقه الجعفري ص ١٧٦ والاضواء ص ٢٢٤

٢٤

في مختلف المواضيع واذا لاحظنا ما انتجته مدرسة الامامين الباقر والصادق (ع) في هذه الفترة من القرن الثاني تقريباً من المدونات التي بلغت ستة آلاف كما احصاها اكثر المؤلفين في هذا الموضوع من الشيعة واشرنا الى مصادرها في كتابنا ( المبادئ العامة في الفقه الجعفري) اذا لاحظنا ذلك ندرك اهمية هذا الدور من ناحية اتساع حركة التأليف وتدوين الآثار الاسلامية وغيرها من آثار الفرس واليونان في مختلف المواضيع، وقد احصى المؤلفون في احوال الرجال والتراجم عدداً كبيراً لجماعة من اصحاب الائمة كصفوان بن يحيى، وشعيب بن اعين الحداد، وهشام بن الحكم، واسماعيل بن موسى بن جعفر (ع) وعبد الله بن المغيرة البجلي الكوفي، وعبد الله بن سنان مولى بني هاشم، ومحمد بن عمير ويونس بن عبد الرحمن، واحمد بن محمد بن عيسى الاشعري، والفضل بن شاذان النيسابوري الى غير ذلك ممن تترواح مؤلفاتهم بين العشرين والثلاثين كتاباً.

وجاء عن محمد بن مسعود العياشي انه انفق على تدوين العلم ثلاثمائمة الف دينار، وان داره كانت تعج بالناس، وهم بين ناسخ وقارئ ومقارن ولو كتب البقاء لمؤلفات الشيعة في القرنين الثاني والثالث، لكانت دور الكتب اغنى ما تكون بالآثار الشيعية، ولكن الظروف التي احاطت بهم، والحروب الدامية التي كانت في الغالب تستهدف دمائهم وآثارهم كل ذلك قد ساهم في تبديد تلك الثورة الغنية بالكنوز والنفائس، وليس ادل على ذلك من اقدام الحكام والغزاة، وبخاصة الايوبيين منهم على حرق المكتبات الشيعية مباشرة. كمكتبة الطوسي، والوزير (نصر سابور بن اردشير) وزير بهاء الدولة، ومكتبة الازهر التي اسسها الفاطميون في مصر وحشدوا فيها مئات الالوف من المجلدات في مختلف المواضيع وبقيت اكثر من قرنين من الزمن منهلاً كريماً لرواد العلم من

٢٥

مختلف الاقطار الى ان جاء عهد الايوبيين الذي استهدف الشيعة وآثارهم اكثر من أي شيء آخر ذلك العهد الذي مثل فيه صلاح الدين وابناؤه الجريمة باقبح صورها واشكالها الى غير ذلك من دور الكتب التي كانت اكثر محتوياتها من كتب الشيعة وآثارهم.

ومهما كان الحال فلم يطرأ على التدوين تطور قبل نهاية القرن الثاني، وبنهايته شرع فريق من العلماء بتطويره فافردوا احاديث الرسول عن آراء الصحابة وأقضيتهم، ووزعوا الاحاديث على ابواب الفقه وفصوله حسب المناسبات ومضى العلماء على ذلك، فألف احمد بن حنبل جامعه، واسحاق بن راهويه وغيرهما عشرات الكتب وظلت حركة التدوين تتسع الى ان دخلت طوراً جديداً، هو طور الاختيار والتنقيح، وكان اول من اتجه الى هذه الناحية من السنة محمد بن اسماعيل البخاريرحمه‌الله .

قال الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري على صحيح البخاري، ولما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها وانتشق رياها واستجلى محياها وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت الصحيح وغيره والكثير منها يشمله التضعيف، حرك همته لجمع الحديث الصحيح، فألف كتابه المعروف بصحيح البخاري، كما الف كل من مسلم، وابو داود سليمان بن الاشعت السجستاني، والترمذي والنسائي، وابن ماجة، ومحمد بن يزيد كتبهم الستة المعروفة بين اعلام السنة بالصحاح خلال القرنين الثالث واوائل القرن الرابع، وكان لمحمد بن اسماعيل البخاري الفضل الاكبر في هذا الاتجاه من التأليف، لانه اول من حرك همته لتحري الاحاديث الصحيحة ودونها في صحيحه سنة ٢٥٠ تقريباً، وآخرهم النسائي احمد بن شعيب المتوفى سنة ٣٠٣ شهيداً في مكة كما في رواية الذهبي وغيره.

وجاء في سبب وفاته. انه خرج من مصر وافداً على دمشق فاجتمع

٢٦

عليه المحدثون والقراء وغيرهم، وفي بعض مجالسه سأله بعضهم، ايهما افضل علي ام معاوية؟ فقال على الفور: اما رضي معاوية ان يخرج رأساً برأس حتى يفضل، وجاء عنه انه قال: والله لا اعرف له فضيلة الا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله له: (لا اشبع الله بطنك) فداسوه بارجلهم واخرجوه من الشام مضروراً، فتوجه نحو مكة المكرمة وتوفي بها متأثراً بما اصابه، وجاء في ترجمته انه قال: دخلت الشام، والمنحرف عن علي (ع) بها كثير فصنفت كتاب الخصائص رجوت بذلك ان يهديهم الله(١) .

وفي هذا الدور الذي ظهر فيه اصحاب الصحاح ودونوا صحاحهم، نجد بين المؤلفين من الشيعة من هو اكثر انتاجاً واحسن تنظيماً من غيرهم، كما تؤكد ذلك كتب الرجال والحديث التي تعرضت لمؤلفات الشيعة في الفترة الواقعة بين عصر البخاري والنسائي، وبخاصة المؤلفات الفقهية الموزعة على ابواب الفقه وفصوله، واشتهر من بينهم القميون بتصلبهم وتشددهم على كل متهم بالانحراف عن العقيدة، كمحمد بن عيسى بن عبد الله الاشعري شيخ القميين في القرن الثالث على حد تعبير علماء الرجال ومحمد بن احمد بن ابي قولويه، ومحمد بن اسماعيل بن بشير البرمكي، ومحمد بن خالد الاشعري القمي، ومحمد بن علي بن محبوب احد الشيوخ الاجلاء في قم، وصاحب المؤلفات الكثيرة في مختلف المواضيع وقد احصى له النجاشي والمامقاني في تنقيح المقال نحواً من ثلاثين مؤلفاً وفي كتابه الجامع تعرض لجميع ابواب الفقه من الطهارة الى الديات والحدود، ومن هذه الطبقة محمد بن الحسن بن فروخ الصفار المعروف بالوثاقة وحسن السيرة وسلامة العقيدة، والمعاصر للامامين الهادي والعسكري (ع)، كما عاصر البخاري وغيره من اصحاب الصحاح، الى غير ذلك من العشرات الذين اتجهوا الى تصفية الحديث وتصنيفه على

____________________

(١)انظر شذرات الذهب لابن العماد ج ٢ ص ٢٤٠

٢٧

ابواب الفقه وفصوله، وقد احصى النجاشي لبعضهم اكثر من تسعين كتاباً.

وجاء في الفهرست لابن النديم: ان الفضل بن شاذان النيسابوري ترك نحواً من ١٨٠ كتاباً من مؤلفاته في مختلف المواضيع، وبلغ الحال بالقميين وغيرهم انهم كانوا يخرجون من قم كل متهم بالغلو والانحراف عن التشيع السليم ويرفضون مروياتهم مهما كان نوعها. وبالتالي فقد اتجهوا الى التأليف في احوال الرواة، ووضعوا اصول علم الرجال والدراية حتى لا تختلط مرويات المنحرفين والمتهمين بمرويات الموثوقين من الشيعة المعتدلين في تشيعهم وعقائدهم، ومن هؤلاء علي بن الحسين بن علي بن فضال. فقد جاء في الفهرست للشيخ الطوسي. انه ممن يعتمد على قوله في الرجال، ويستند اليه في الجرح والتعديل، واكد هذه الحقيقة في منتهى المقال، واستنتج بعضهم انه من المؤلفين في الرجال.

ومنهم الفضل بن شاذان، فقد نص جماعة ان له كتباً في الرجال واحوال الرواة، ومنهم محمد بن احمد بن داود بن علي شيخ القميين في زمانه كما نص على ذلك النجاشي، والعلامة في الخلاصة.

وجاء في الفهرست، انه الف كتاباً في الممدوحين، والمذمومين في رجال الحديث.

ومنهم محمد بن الحسن ابو عبد الله المحاربي، قال النجاشي، والعلامة في الخلاصة. انه كان خبيراً باحوال الرواة والف في هذا الموضوع كتاباً عرض فيه احوالهم ومراحل حياتهم.

ومنهم نصر بن الصباح المكني بابى قاسم من اهالي بلخ فقد الف كتاباً في احوال الرواة والناقلين للحديث كما الف في العقائد وغيرها.

٢٨

ومنهم محمد بن خالد البرقي ومحمد بن مسعود السمرقندي المعروف بالعياشي وغيرهم ممن نص اصحاب الفهارس على انهم قد الفوا في احوال الرجال ووضعوا اصول علم الدراية في القرن الثالث واوائل القرن الرابع، وقد اكد ذلك الشيخ الطوسي في العدة، وجاء فيها ان الطائفة ميزت الرجال الناقلين لهذه الاخبار فوثقوا الثقات منهم، وضعفوا الضعفاء، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته، ومن لا يعتمد عليه، ومدحوا الممدوحين، وذموا المذمومين، وقالوا فلان متهم في حديثه، التي وصفوا وفلان كذاب، وفلان مخلط ومخالف في المذهب والاعتقاد الى غير ذلك من الطعون التي وصفوا بها الرواة والمحدثين، واضاف الى ذلك انهم صنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى ان واحداً منهم اذا انكر حديثاً نظر في اسناده وضعفه بروايته واصبحت هذه الطريقة عادة لهم لا تنخرم ولولا ان العمل بما يسلم من الطعون جائز، لا يكون فائدة لما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق(١) هؤلاء وغيرهم من المؤلفين في الحديث واحوال الرجال وشروط الرواية واقسامها الذين بذلوا كل ما لديهم من الامكانيات لتصفية الحديث من الموضوعات ومن المشتبهات هؤلاء وضعوا الاساس للمتأخرين، وكانوا الركيزة التي اعتمدها المحمدون الثلاثة، محمد بن يعقوب الكليني، ومحمد بن بابويه الصدوق، ومحمد بن الحسن الطوسي في اختيار مجاميعهم الاربعة(٢) تلك المؤلفات التي اعتمد مؤلفوها على كتب القميين وغيرهم من اصحاب الائمة وتلاميذهم كالاصول الاربعة التي كانت بمجموعها محلاً لثقة الرواة والمحدثين، من حيث معرفتهم بمؤلفيها ووثوقهم بصحة ما فيها من المرويات، هذا بالاضافة

____________________

(١)ص ٥٣ من العدة.

(٢)الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي.

٢٩

الى القرائن الاُخرى التي اعتمد عليها المحمدون الثلاثة بالنسبة لبعض المرويات، وان لم تكن من حيث اسانيدها مستوفية لشروط العمل بالرواية، ومن جملتها مطابقة مضمون الرواية للنص القرآني، او للسنة الصحيحة، او لما اجمعت الطائفة عليه، او لموافقته لحكم العقل، او لغير ذلك من القرائن التي تؤكد مضمون الخبر وان رواه من لا يصح الاعتماد على مروياته(١) .

ومجمل القول ان المحدثين من الشيعة نشطوا في تصفية الحديث من الموضوعات ومن مرويات المنحرفين في عقائدهم والمندسين بين صفوف الشيعة ووضعوا النواة الاولى لعلمي الرجال والدراية والفوا فيهما، قبل ان يقوم البخاري ورفاقه من اصحاب الصحاح بمهمة تصفية الحديث وتصنيفه، واصبح علم الرجال والدراية من العلوم التي يتوقف عليها استنباط الاحكام من الادلة، لان الحديث هو المصدر الثاني للاحكام بعد كتاب الله، ولولاه لم يتم التشريع ولميبلغ تلك المرتبة العالية من الاحاطة والشمول التي تناولت جميع المواضيع ووضعت الحلول لجميع مشاكل الحياة على اختلاف تطورها ومراحلها.

____________________

(١)العدة للشيخ الطوسي ص ٥٣ .الفصل الثاني : في أصناف الحديث

٣٠

٣١

٣٢

الفصل الثاني: في أصناف الحديث

لقد قسم الباحثون في الحديث واحوال الرواة الخبر الى قسمين متواتر وآحاد، وتحدثوا عنهما من حيث معناهما، واقسامهما وشرائط الاعتماد عليهما باسهاب في مؤلفاتهم الموضوعة لهذه الغاية، واختلفت آراؤهم في كثير من النظريات والافكار المتعلقة بهذه المواضيع كما هو الحال في جميع المباحث التي يدخلها عنصر الاجتهاد، ومما لا شك فيه ان تحديد التواتر وشروطه، واخبار الآحاد واصنافها، وما يتعلق بذلك من المواضيع التي تتصل بعلمي الرجال والدراية مباشرة، هذه المواضيع وما يتعلق بها تتسع لاختلاف الانظار وتضارب الآراء ولذلك لا يصح ان ننسب رأياً الى الشيعة او السنة في هذه المواضيع وغيرها من المواضيع الاجتهادية الا اذا اتفق الاكثر عليه، او كان معبراً عن رأي الاغلبية منهم، اما نسبته الى احد الفريقين الشيعة او السنة لمجرد وجوده في كتاب، او لمجرد كونه يعبر عن رأي بعض الافراد، او الجماعات، فهو من الاغلاط التي وقع فيها اكثر المؤلفين.

وعلى جميع الاحوال فالتواتر هو عبارة عن اخبار جماعة كثيرة يستحيل عادة اتفاقهم على الكذب، ولو انضمت بعض القرائن الى المخبرين

٣٣

بحيث كان حصول العلم مستنداً الى المجموع لا يمنع ذلك من حجية التواتر.

ولو اخبر جماعة بشيء، ولكنهم لم يبلغوا الحد الموجب للعلم لا يصدق التواتر بالمعنى المصطلح عليه بينهم، كما وان العلم لو لم يستند الى الكثرة بان حصل العلم به من الخارج، او حصل العلم من اخبار ثلاثة او اربعة معروفين بالصدق والامانة، او كان خبر الكثيرين موافقاً لدليل مقطوع به ومعمول بمقتضاه كل ذلك ليس من التواتر المقابل للآحاد.

بل لا بد وان يكون العلم مستفاداً من اخبار جماعة يستحيل عليهم بحسب العادة ان يتفقوا على الكذب وكما ذكرنا لا يمنع من حصول التواتر وجود بعض القرائن المؤيدة لاخبارهم حتى ولو كان العلم الحاصل منه مستنداً الى الجميع.

وقال الشيخ الطوسي في تحديد معنى التواتر: ان الخبر اذا لم يكن من باب ما يجب وقوع العلم عند حصوله، واشتراك العقلاء، وجاز وقوع الشبهة به، هو ان يراد به جماعة قد بلغت من الكثرة حداً لا يصح معه ان يتفق الكذب منها عن المخبر الواحد، ولا بد بالاضافة الى ذلك من العلم بانه لم يجمعها على الكذب جامع كالتوطؤ وما يقوم مقامه، ولا بد ايضاً من العلم بان المخبر الاول على يقين من امره لم يخبر وهو متردد او غافل عما اخبر به، هذا اذا لم يكن بين الجماعة وبين المخبر الاول واسطة، فان كان بينهما واسطة لا بد من مراعاة هذه الشروط في جميع الوسائط حتى ينتهي الحال الى نفس المخبر الاول(١) .

____________________

(١)انظر العدة للطوسي ص ٣١

٣٤

ولا بد في العلم الحاصل من التواتر من الشروط التالية.

الاول ان لا يكون السامع عالماً بمضمون الخبر، كما لو اخبر الجماعة شخصاً عما شاهده وعلم به مباشرة، وقد عللوا ذلك بان خبر الجماعة لو افاد العلم في هذه الحالة، فاما ان يكون عين العلم الحاصل له بالمشاهدة، او غيره، فان كان عينه، يكون من تحصيل الحاصل، وان كان غيره يلزم اجتماع المثلين، ولا يصح في مثل هذا ان نفترض كون الخبر مؤكداً ومقوياً للعلم الحاصل عن طريق الحس والمشاهدة لان العلم الحاصل للسامع عن هذا الطريق يكون ضرورياً، والضروري لا يقبل الترديد والتشكيك ولا الزيادة والنقصان.

الشرط الثاني ان لا يكون الخبر مسبوقاً بشبهة تخالف مضمونه في ذهن السامع، وان لا يكون السامع معتقداً خلاف مدلوله تقليداً او لسبب آخر، اذ لا يمكن حصول العلم من الخبر غالباً الا اذا كان ذهن السامع خالياً عن الشبهة والمعتقدات المخالفة له مهما بلغ رواته من الكثرة.

الشرط الثالث ان يستند المخبرون الى الحس، فلو كان اخبارهم مستنداً الى حكم عقلي او نص قرآني او غيرهما لا يكون من التواتر المقابل للأحاد.

الرابع، ان تكون جميع الوسائط عالمة بمضمون الخبر، بنحو يستند علم الطبقة الاولى الى الحس والمشاهدة، والثانية الى التواتر الحاصل باخبار الطبقة الاولى، والثالثة من اخبار الثانية، وهكذا بالنسبة الى بقية الطبقات.

اما العدد الذي يتحقق به التواتر، فالظاهر ان اكثر المؤلفين في علم الحديث لا يشترطون عدداً معيناً فيه، وكل ما في الامر لا بد فيه من

٣٥

الكثرة التي يحصل من اخبارها العلم بمضمون الخبر، والعلم قد يحصل احياناً من اخبار العشرة، واحياناً لا يحصل من اخبار العشرين والثلاثين والاكثر من ذلك.

اما تحديدها باكثر من اربعة كما نسب الى القاضي الباقلاني، وباكثر من عشرة كما جاء عن (الاصطخري)، وباثني عشر مخبراً عدد نقباء بني اسرائيل، وباكثر من عشرين كما جاء عن أبي الهذيل العلاف، وبسبعين كما جاء عن بعض المحدثين وبثلاثمائة عدد اصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر كما نص على ذلك بعضهم، هذه التقديرات كلها لاهل السنة، ولا وجود لها في كتب الشيعة، والظاهر اتفاقهم على عدم تحديده بعدد معين(١) .

ومهما كان الحال فالخبر المتواتر، اما ان يكون متواتراً بلفظه ومعناه، كما لو اتفق المخبرون على نقل الحديث بلفظ واحد، واما ان يكون متواتراً من حيث المعنى، كما لو اختلفت الفاظ المخبرين مع وحدة المعنى، وحصل العلم بذلك المعنى من الفاظهم المختلفة بواسطة دلالة الخبر على المعنى بالتضمن او الالتزام، او بالمطابقة اذا كانت الالفاظ المختلفة مشتركة في معنى واحد، وهذا النوع من التواتر الذي اطلقوا عليه اسم التواتر المعنوي موجود ومطّرد بين المرويات في الفروع والاصول، اما التواتر اللفظي في جميع مراحله ووسائطه هذا النوع من التواتر ربما يكون قليلاً ونادراً بين المرويات عن الائمة والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كما يبدو ذلك بعد التتبع والاستقصاء، وقد بالغ بعضهم فانكر وجوده من الاساس.

قال الشيخ عبد الصمد في رسالته التي الفها في علم الدراية: المتواتر

____________________

(١)انظر مقباس الهداية للمامقاني، والعدة للطوسي وغيرهما من مؤلفات الشيعة في علم الحديث.

٣٦

هو ما رواه جماعة يحصل العلم بقولهم، للقطع بعدم امكان تواطؤهم على الكذب عادة، ويشترط ذلك في كل طبقاته صحيحاً كان أوْلا، واضاف الى ذلك: وهذا لا يكاد يعرفه المحدثون في الاحاديث لقلته، وهو كالقرآن وظهور النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والقبلة والصلات وعدد الركعات، والحج ونصب الزكوة ونحو ذلك(١) وتشبيه التواتر بهذه الامور الثابتة بالضرورة من دين الاسلام، هذا التشبيه يشعر بان التواتر في الحديث يكاد ان يكون في حكم المعدوم من حيث ندرته وعدم وجوده بين المرويات عن النبي والائمة (ع).

____________________

(١)انظر الوجيزة للشيخ عبد الصمد الحارثي ص ٧٦

٣٧

التواتر عند محدثي السنة

لا يجد المتتبع في المؤلفات الشيعية والسنية حول الحديث واصنافه وحالاته فروقاً جوهرية بين الفريقين في المراد في المتواتر وشروطه واقسامه، واذا استثنينا التقديرات المختلفة التي نقلناها عن السنة تلك التقديرات التي لا يتحقق التواتر باقل منها على حد زعمهم، اذا استثنينا هذه الناحية نجد انهم يلتقون التقاء كاملاً في جميع النواحي المتعلقة به

قال الدكتور صبحي الصالح في كتابه علوم الحديث: فالمتواتر هو الحديث الصحيح الذي يرويه جمع يحيل العقل والعادة تواطئهم على الكذب عن جمع مثلهم في اول السند وآخره ووسطه، واضاف الى ذلك. ان التواتر ينقسم الى لفظي ومعنوي فاللفظي هو ان يتفق المخبرون على الفاظ الحديث في جميع الوسائط، والمعنوي، يرجع الى اتفاقهم على المعنى مع الاختلاف في الالفاظ الحاكية للمعنى، ولم يستبعد الرأي الذي يرجح كثرة الاحاديث المتواترة لفظاً ومعنى، وعد منها حديث انشقاق القمر، وحديث من كذب عليّ معتمداً فليتبوأ مقعده من النار من حيث ان الذين رووا هذا الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بلغوا اثنين وسبعين صحابياً كما جاء عن بعض المحدثين وحديث الترغيب في بناء المساجد، والشفاعة، وانين الجذع، والمسح على الخفين، والاسراء، والمعراج، ونبع الماء بين اصابعه واطعام الجيش الكبير من الزاد القليل الذي لا يكفي عادة لاثنين

٣٨

او ثلاثة، الى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي نص جماعة من محدثي السنة على تواترها لفظاً ومعنى، كما جاء ذلك عن السيوطي في تدريب الراوي، والحافظ بن حجر في شرح النخبة وغيرهما.

وفي مقابل هؤلاء المغالين في اعطاء هذه المرويات صفة التواتر، نص جماعة على ندرة التواتر اللفظي، وارجع الامثلة التي ذكرناها الى القسم الثاني من قسمي التواتر، وهو المعنوي، نظراً للاختلاف الواقع في الفاظها بين المحدثين.

ومهما كان الحال، فلم اجد فيما ذكره الفريقان ما يشير الى بعد المسافة بينهما في هذه المسألة، وفيما يتعلق بكميات الاخبار المتواترة بين المرويات المدونة في كتب الحديث عند الطرفين، فكل منهما يدعي وجود كمية كبيرة من مروياته تحمل هذا الاسم، ولكن المحدثين من الشيعة يعترفون بندرة التواتر اللفظي بين مروياتهم عن الرسول والائمة (ع) بينما بالغ جماعة من محدثي السنة في كمية هذا النوع من التواتر بين مروياتهم.

٣٩

اخبار الآحاد واصنافها

لقد اصطلح المؤلفون في علم الحديث على تقسيم الخبر من حيث رواته الى متواتر وآحاد، وعدوا كل حديث لا تتوفر فيه شروط التواتر من نوع الآحاد، سواء كان الراوي له واحداً، او اكثر.

وخبر الواحد ينقسم من حيث رواته الى مستفيض ومشهور وغريب، وعزيز، كما ينقسم من حيث متنه الى اقسام كثيرة، كما سنبين ذلك في خلال هذا الفصل الذي وضعناه لبيان الحديث واقسامه واصنافه وحد المستفيض عندهم ان يرويه اكثر من ثلاثة في جميع مراحله، سواء رووه بلفظ واحد، او بالفاظ مختلفة مع وحدة المعنى، كما نص على ذلك اكثر المحدثين.

ونص بعضهم على انه لو اختلفت الفاظه يخرج عن كونه مستفيضاً، وفرق جماعة بين المشهور والمستفيض، بأن الخبر لا يوصف بالاستفاضة الا اذا رواه اكثر من ثلاثة في جميع مراحله حتى ينتهي الى الطبقة الاخيرة ويوصف بالشهرة ولو كان الراوي الاول له واحداً، على شرط ان يشتهر بين الطبقة الثانية، ويرويه جماعة عن الراوي الاول، وجماعة عن الطبقة الثانية وهكذا.

ومن امثلته الحديث المعروف المروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (الاعمال بالنيات) فان هذا الحديث معدود من الاحاديث المشهورة، مع ان الذي

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ويأكل علي من زاده فيهجع ! قرّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة ، والسّائمة المرعية. طوبى لنفس أدّت إلى ربّها فرضها ، وعركت بجنبها بؤسها ، وهجرت في الليل غمضها ، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفّها ، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم ، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم ، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم ،( اُولئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلَا إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) )).

كما فعل أصحاب الحسين (عليه‌السلام ) ليلة العاشر من الـمُحرّم ؛ فإنّهم قاموا الليل كلّه يُصلّون ويستغفرون ، ويدعون ويتضرّعون ، وباتوا ليلة العاشر من الـمُحرّم ولهم دويّ كدويّ النّحل ؛ ما بين قائم وقاعد ، وراكع وساجد.

سمةُ العبيدِ من الخشوعِ عليهمُ

لله إنْ ضمّتْهُمُ الأسحارُ

فإذا ترجّلتِ الضُّحى شَهدتْ لهُمْ

بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ

فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً ، فلمّا كان وقت السّحر خفق الحسين (عليه‌السلام ) برأسه خفقة ، ثمّ استيقظ فقال : (( رأيت كأنّ كلاباً قد قربت لتنهشني ، وفيها كلب أبقع رأيتُه أشدّها عليّ ، وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجل أبرص. ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ومعه جماعة من أصحابه ، وهو يقول : يا بُني ، أنت شهيد آل محمّد ، وقد استبشر بك أهل السّماوات وأهل الصفيح الأعلى ، فليكنْ إفطارك عندي الليلة ، عجّل ولا تتأخر ، هذا ملك قد نزل من السّماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء )).

إنْ يقتلُوكَ فلا عنْ فقدِ معْرفةٍ

الشمسُ مَعْروفةٌ بالعينِ والأثرِ

قدْ كُنتَ في مشرقِ الدُّنيا ومغرِبِها

كالحمدِ لمْ تُغنِ عنها سائرُ السُّورِ

___________________

(١) سورة المجادلة / ٢٢.

١٨١

المجلس الثامن بعد المئتين

عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه عن جدّه عن علي بن الحسين (عليهم‌السلام ) ، قال : (( بينما أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) جالسٌ ذاتَ يوم مع أصحابه يُعبّئهم للحرب ، إذ أتاه شيخ عليه هيئة السّفر فسلّم عليه ، ثمّ قال : يا أمير المؤمنين ، إنّي أتيتك من ناحية الشام وأنا شيخ كبير ، قد سمعت فيك من الفضل ما لا اُحصيه ، فعلّمني ما علّمك الله. قال : نعم يا شيخ ، مَن اعتدل يوماه فهو مغبون ، ومَن كانت الدنيا همّته كثُرت حسرته عند فراقها ، ومَن كان غده شرّاً من يومه فمحروم ، ومَن لمْ يُبالِ ما ذهب من آخرته إذا سلمت دنياه فهو هالك.

يا شيخ ، مَن خاف البيات قَلّ نومُه ، ما أسرع الليالي والأيام في عمر العبد ! فاخزن لسانك وعد كلامك. يا شيخ ، ارضَ للناس ما ترضى لنفسك ، وائت إلى النّاس ما تُحبّ أنْ يُؤتى إليك. ثمّ أقبل على أصحابه ، فقال : أيّها النّاس ، أمَا تَرَون إلى أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتّى ؟ فبين صريع يتلوّى ، وبين عائد ومعود ، وآخر بنفسه يجود ، وطالب للدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه ، وعلى أثر الماضي يصير الباقي.

فقال له زيد بن صوحان العبدي : يا أمير المؤمنين ، أيّ سلطان أغلب وأقوى ؟ قال : الهوى. قال : فأيّ ذُلّ أذل ؟ قال : الحرص على الدنيا. قال : فأيّ فقر أشد ؟ قال : الكفر بعد الإيمان. قال : فأيّ عمل أفضل ؟ قال : التّقوى. قال : فأيّ صاحب أشرّ ؟ قال : الـمُزيّن لك معصية الله. قال : فأيّ الخلق أشقى ؟ قال : مَن باع دينه بدنيا غيره. قال : فأيّ النّاس أحمق ؟ قال : المغتر بالدنيا وهو يرى ما فيها من تقلّب أحوالها. قال : فأيّ النّاس أشدّ حسرة ؟ قال : الذي حُرم

١٨٢

الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين. قال : فأيّ الخلق أعمى ؟ قال : الذي عمل لغير الله يطلب من عمله الثوابَ من عند الله. قال : فأيّ المصائب أشد ؟ قال : المصيبة بالدِّين. قال : فأيّ النّاس خير عند الله ؟ قال : أخوفهم له ، وأعملهم بالتّقوى ، وأزهدهم في الدنيا. قال : فأي الكلام أفضل عند الله ؟ قال : كثرة ذكره ، والتّضرع إليه ، ودعائه.

ثُمّ أقبل (عليه‌السلام ) على الشيخ ، فقال : يا شيخ ، إنّ الله عزّ وجل خلق خلقاً ضيّق الدنيا عليهم نظراً لهم ؛ فزهّدهم فيها وفي حطامها ، فرغبوا في دار السّلام ، وصبروا على ضيق المعيشة ، وصبروا على المكروه ، واشتاقوا إلى ما عند الله ، وبذلوا أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وكانت خاتمة أعمالهم الشهادة ، فلقوا الله وهو عنهم راض ٍ)).

كما فعل أنصار الحسين (عليه‌السلام ) حين بذلوا أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وكانت خاتمة أعمالهم الشهادة في سبيل الله وبين يدَي ابن بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؛ ففدوه بأنفسهم ، ووقوه بمهجهم حتّى قُتلوا عن آخرهم ، فمنهم : سعيد بن عبد الله الحنفي الذي وقف بين يدي الحسين (عليه‌السلام ) يقيه من النّبال بنفسه ما زال ولا تخطّى ، فما زال يُرمى بالنّبل حتّى سقط إلى الأرض ، وهو يقول : اللهمّ ، العنهم لعن عاد وثمود. اللهمّ ، أبلغ نبيّك عنّي السّلام ، وأبلغه ما لقيتُ من ألم الجراح ؛ فإنّي أردتُ ثوابك في نصر ذرّيّة نبيّك.

وفي رواية : أنّه قال : اللهمّ ، لا يعجزك شيء تريده ، فأبلغ محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نُصرتي ودفعي عن الحسين (عليه‌السلام ) ، وارزقني مرافقته في دار الخلود. ثمّ قضى نحبه رضوان الله عليه ، فوُجِد فيه ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السّيوف وطعن الرّماح.

نَصرُوا ابنَ بنتِ نَبيِّهمْ طُوبَى لهُمْ

نالُوا بنُصرتِهِ مراتبَ ساميهْ

قدْ جاورُوهُ ها هُنا بقبورِهُمْ

ولهمُ قصورٌ للحسينِ مُحاذيهْ

١٨٣

المجلس التاسع بعد المئتين

من خطبة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) : (( سبحانك خالقاً ومعبوداً ! بُحسن بلائك عند خلقك خلقت داراً ، وجعلت فيها مأدَبةً ؛ مشرباً ومطعماً ، وأزواجاً وخدماً ، وقصوراً وأنهاراً ، وزروعاً وثماراً. ثمّ أرسلت داعياً يدعو إليها ، فلا الداعي أجابوا ، ولا فيما رغَّبت فيه رَغبوا ، ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حُبِّها ، ومَن عشق شيئاً أعشى بصره وأمرض قلبه ؛ فهو ينظر بعينٍ غير صحيحة ، ويسمع باُذنٍ غير سميعة ؛ قد خرفت الشهوات عقله ، وأماتت الدُّنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ولا في يده شيء منها ، حيثما زالتْ زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها ، لا يزدجر من الله بزاجر ولا يتَّعظ منه بواعظ ، وهو يرى المأخوذين على الغِرّة حيث لا إقالة ولا رجعة ؛ كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، وجاءهم من فراق الدُّنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يُوعدون.

فغير موصوف ما نزل بهم ، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم، وتغيّرت لها ألوانهم ، ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجاً ، فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنّه لبينَ أهله ينظر ببصره ويسمع باُذنه ، على صحة من عقله وبقاء من لُبّه ، يُفكر فيمَ أفنى عمره وفيمَ أذهب دهره ، ويتذكّر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها ، وأخذها من مصرِّحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبعاتُ جمعها ، وأشرف على فراقها ، تبقى لمَن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها ؛ فيكون المهنأ لغيره والعبء على ظهره ، والمرء قد غلقت رهونه بها ، فهو يعضّ يده ندامةً على ما أصحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان

١٨٤

يرغب فيه أيام عمره ، ويتمنى أنّ الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه ، فلمْ يزل الموت يبالغ في جسده حتّى خالط لسانه وسمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ولا يسمع بسمعه ، يُردد طرفه بالنّظر في وجوههم ، يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم ، ثمّ ازداد الموت التياطاً به ، فقُبض بصره كما قُبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده ، فصار جيفة بين أهله ، قد اُوحشوا من جانبه وتباعدوا من قُربه ، لا يُسعد باكياً ولا يُجيب داعياً ، ثمّ حملوه إلى محطٍّ في الأرض ، وأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا عن زورته ، حتّى إذا بلغ الكاتب أجله والأمر مقاديره ، وألحق آخر الخلق بأوّله ، وجاء من أمر الله ما يُريده من تجديد خلقه ، أماد السّماء وفطرها ، وأرج الأرض وأرجفها ، وقلع جبالها ونسفها ، ودكّ بعضها بعضاً من هيبة جلاله ومخُوفِ سطوته ، وأخرج مَن فيها فجدّدهم [ بعد ] إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثمّ ميّزهم لـمِا يُريد من مسألتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال ، وجعلهم فريقين : أنعم على هؤلاء ، وانتقم من هؤلاء ؛ فأمّا أهل طاعته ، فأثابهم بجواره وخلّدهم في داره ، حيث لا يظعن النّزال ولا تتغير لهم الحال ، ولا تنوبهم الأفزاع ولا تنالهم الأسقام ، ولا تعرض لهم الأخطار ولا تشخصهم الأسفار ؛ وأمّا أهل المعصية ، فأنزلهم شرّ دار ، وغلّ الأيدي إلى الأعناق ، وقرن النّواصي بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران ومقطّعات النّيران ، في عذاب قد اشتدّ حرُّه ، وباب قد اُطبق على أهله في نار لها كَلَب ولجب ، ولهب ساطع وقصيف هائل ، لا يظعن مُقيمها ولا يُفادى أسيرها ، ولا تفصهم كبولها. لا مدّة للدار فتفنى ، ولا أجل للقوم فيقضى )).

مقام عظيم أبكى زين العابدين (عليه‌السلام ) وقال : (( ومالي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري ؟! وأرى نفسي تُخادعني وأيامي تُخاتلني ، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت. فمالي

١٨٥

لا أبكي ؟! أبكي لخروج نفسي ، أبكي لظلمة قبري ، أبكي لضيق لحدي ، أبكي لسؤالِ منكر ونكير إيّاي ، أبكي لخروجي من قبري عريان ذليلاً ، حاملاً ثقلي على ظهري ، أنظر مرّةً عن يميني واُخرى عن شمالي ، إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني ،( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) (١) وذلّةٌ)).

ولمْ يزل زين العابدين (عليه‌السلام ) ، وهو ذو الحلم الذي لا يبلغ الوصف إليه ، حزيناً على مصيبة أبيه الحسين (عليه‌السلام ) مدّة حياته بعد أبيه ، وهي أربعون سنة ، صائماً نهاره قائماً ليله ، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه ، فيقول : كُلْ يا مولاي. فيقول (عليه‌السلام ) : (( قُتل ابن رسول الله جائعاً ، قُتل ابن رسول الله عطشان )). فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتّى يبلّ طعامه من دموعه ، ثمّ يمزج شرابه بدموعه ، فلمْ يزلْ كذلك حتّى لحق بالله عزّ وجل.

فيا وقْعةً لمْ تُبلَ إلّا تجدّدتْ

وأحزانُها بين الضِّلوعِ رواسخُ

المجلس العاشر بعد المئتين

من كلام لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في صفة الأموات : (( سلكوا في بُطون البرزخ سبيلاً سُلِّطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومِهم وشربتْ من دمائهم ، فأصبحوا في فجَوات قبورِهم جماداً لا يَنْمون ، وضِماراً لا يُوجدُون ؛ لا يُفزعُهم ورودُ الأهوال ولا يحزنهم تنكُّر الأحوال ، ولا يحفلون بالرّواجف ولا يأذنون للقواصف. غُيّباً لا يُنتَظَرون وشهوداً لا يحضرُون ، وإنّما كانوا جميعا فتشتَّتوا واُلاَّفاً فافتَرقوا.

وما عن طول عهدهم ،

___________________

(١) سورة عبس / ٣٧ – ٤١.

١٨٦

ولا بُعد محلِّهم عَميتْ أخبارُهم وصَمَّت ديارُهم ، ولكنّهم سُقوا كأساً بدّلتهم بالنُّطق خَرَساً ، وبالسّمع صَمماً ، وبالحركات سُكوناً. جيرانٌ لا يتأنَّسون وأحبَّاء لا يتزاورون ، بَلِيت بينهم عُرى التّعارف وانقطعت منهم أسباب الإخاء ؛ فكُلّهم وحيدٌ وهم جميع ، وبجانب الهجرِ وهم أخلاّء.

لا يتعارفون لليلٍ صباحاً ولا لنهار مساء ، أيُّ الجديدين(١) ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً ، شاهدوا من أخطار دارهم أفظعَ ممّا خافوا ، ورأوا من آياتها أعظمَ ممّا قدَّروا. ولئن عميت آثارُهم وانقطعت أخبارُهم ، لقد رجعت فيهم أبصارُ العِبر ، وسمعت عنهم آذانُ العقول ، وتكلّموا من غير جهات النُّطق ، فقالوا : كَلَحت الوجوه النّواضر ، وخوت الأجسام النّواعم ، ولبسنا أهدام البِلى ، وتكاءَدَنا ضيق المضجع ، وتوارَثْنا الوحشة ، فانمحت محاسنُ أجسادنا ، وتنكّرت معارف صورنا ، وطالت في مساكن الوحشة إقامتُنا ، ولمْ نجدْ من كربٍ فرجاً ، ولا من ضيقٍ مُتّسعاً.

فلو مثّلتهم بعقلك ، أو كُشف عنهم محجوب الغطاء لك ، وقد ارتسختْ أسماعهم بالهوامِّ فاستكَّتْ ، واكتحلت أبصارُهم بالتّراب فخَسَفَتْ ، وتقطَّعتْ الألسنة في أفواههم بعد ذَلاقتها ، وهمدتْ القلوب في صدورهم بعد يقظتها ، وعاث في كلِّ جارحة منهم جديدُ بلىً سَمَّجَها ، وسهَّل طُرقَ الآفةِ إليها ، لرأيت أشجان قلوبٍ واقذاءَ عيون.

وكم أكلتْ الأرض من عزيزِ جسدٍ ، وأنيق لونٍ كان في الدّنيا غذيَّ ترفٍ وربيب شرف ! يتعلّل بالسّرور في ساعة حُزنه ، ويفزعُ إلى السّلوة إنْ مصيبةٌ نزلتْ به ؛ ضنّاً بغضارة عيشه ، وشَحاحةً بلهوه ولَعبه. فبينا هو يضحك إلى الدُّنيا وتضحك الدُّنيا إليه ، إذ وطئَ الدهر به حَسَكهُ ، ونقضت الأيّام قُواه ، فخالطه بثٌّ لا يعرفه ، ونجيُّ همٍّ ما كان يجدُه ،

___________________

(١) أيْ : الليل والنّهار.

١٨٧

وتولَّدت فيه فتراتُ عللٍ ، آنَسَ ما كان بصحَّته حتّى فتر مُعلِّله وذَهَل مُمرِّضُه ، وتعايا أهلُه بصفة دائه ، وخَرسوا عن جواب السّائلين عنه. فبينا هو كذلك على جَناحٍ من فراق الدُّنيا وترك الأحبّة، إذ عرض له عارضٌ من غُصصهْ ، فتحيَّرت نوافذ فِطنتهْ ، ويَبِستْ رطوبةُ لسانهْ. فكم من مهمٍّ من جوابه عرفه فعيَّ عن ردّه ! ودعاءٍ مُؤلمٍ لقلبه سَمعه فتصامَّ عنه ! من كبير كان يُعظِّمه ، أو صغيرٍ كان يرْحمُهْ. وإنّ للموت لَغمراتٍ هي أفظع منْ أنْ تستغرق بصفة ، أو تعتدلَ على قلوب أهل الدُّنيا )).

ولذلك سأل زين العابدين (عليه‌السلام ) مِن ربِّه الرحمة عند تلك الغمرات ، فقال : (( ارحم في هذه الدنيا غربتي ، وعند الموت كربتي ، وفي القبر وحدتي ، وفي اللّحد وحشتي ، وإذا نُشرت للحساب بين يديك ذلّ موقفي. وارحمني صريعاً على الفراش تُقلّبني أيدي أحبَّتي ، وتفضَّل عليَّ ممدوداً على المغتسل يُغسِّلُني صالحُ جيرتي ، وتحنَّنْ عليَّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطرافَ جنازتي ، وجُد عليَّ منقولاً قد نزلتُ بك وحيداً في حُفرتي ، وارحم في ذلك البيت الجديد غربتي )).

هذا كلام زين العابدين (عليه‌السلام ) وخوفه من أهوال الموت وغمراته ، وأهوال ما بعد الموت ، وهو إمام أهل البيت في عصره ، وزين العابدين الذي ضُرب بعبادته المثل ، ولمْ يكنْ يُشبه جدّه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في عبادته غيره ، فكيف بأمثالنا من أهل التقصير ؟!

وهذا الإمام ، الذي هذا كلامه وهذا خوفه من ربّه وهذه عبادته ، قد حُمل أسيراً إلى ابن مرجانة نغل زياد بن سُميّة بالكوفة ، ثمّ حُمل أسيراً إلى ابن هند بالشام والغلُّ في عُنقه. ولـمّا اُدخل على ابن زياد ، قال له : مَن أنت ؟ فقال : (( أنا علي بن الحسين )). فقال : ألَيس قد قتل الله عليَّ بن الحسين ؟ فقال (عليه‌السلام ) له : (( قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً قتله النّاس )). فقال : بل الله قتله. فقال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( الله يتوفَّى الأنفس حين موتها )). فغضب ابن زياد ، وقال : وبك جرأة لجوابي ! وفيك بقيّة للردّ عليّ ! اذهبوا به فاضربوا

١٨٨

عُنقه. فتعلّقت به عمّته زينب , وقالت : يابن زياد ، حسبُك من دمائنا. واعتنقته وقالت : لا والله ، لا اُفارقه ، فإنْ قتلته فاقتلني معه.

فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ، ثمّ قال : عجباً للرحم ! والله ، إنّي لأظنُّها ودّت أنْ قتلتُها معه ، دعوه فإنّي أراه لـمَا به - أي : إنّه شديد المرض -.

وفي رواية : أنّ علي بن الحسين (عليه‌السلام ) قال لعمّته : (( اسكتي يا عمّة حتّى اُكلّمه )). ثمّ أقبل عليه ، فقال : (( أبالقتل تُهددني يابن زياد ؟! أمَا علمت أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا الشهادة ؟ )).

نفرٌ حَوتْ جُملَ الثَّنا وتسنَّمتْ

ذُللَ الـمَعَالي والداً ووليدَا

مَنْ تلقَ منهُمْ تلقَ كهلاً أو فتَى

علمَ الهُدى بحرَ النَّدى المورودَا

المجلس الحادي عشر بعد المئتين

كان النّاس قبل الإسلام ، منهم مَن يعبد الأصنام كمشركي العرب وغيرهم ، ومنهم مَن يعبد النّار وهم المجوس ، ومنهم مَن يعبد النّجوم والكواكب ، ومنهم مَن يعبد الملائكة ، ومنهم مَن يعبد الآدميين ، ومنهم عبَدَة الأصنام والأوثان ، ومنهم مَن لا يؤمن بالبعث ويرى أنّ الأصنام تنفعه في دنياه ، ويقول :( إِنْ هِيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (١) . وقال في ذلك شاعرهم :

يُخبِّرُنا ابنُ كبشةّ أنْ سنُحْيا

وكيفَ حياةُ أصْدَاءٍ وهامِ

والذين كانوا على شرائع الأنبياء كانوا قد غيّروا وبدّلوا ، واتّخذوا رؤساءهم أرباباً من دون الله ؛ حلّلوا لهم حراماً ، وحرّموا عليهم حلالاً

___________________

(١) سورة الأنعام / ٢٩.

١٨٩

فاتَّبعوهم. وكانوا يأكلون الرّبا ويشربون الخمر ، ويطوفون بالبيت عراةً رجالاً ونساءً ، وقد فشا فيهم الزنا وارتكاب الفواحش ، ووأدوا البنات فدفنوهنّ أحياء :( وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِالاُنثَى‏ ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ) (١) .

ومُلئت الأرض من مشرقها إلى مغربها بالخرافات والسّخافات ، والبدع والقبائح وعبادة الأوثان، فبعث الله تعالى نبيّه محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على حين فترة من الرسل إلى النّاس كلّهم ، فقام في وجه العالم كافة ، ودعا إلى الإيمان بإله واحد ، آمراً بعبادته وحده لا شريك له ، مُبطلاً عبادة الأوثان والأصنام ، متمّما لمكارم الأخلاق ، حاثّاً على محاسن الصفات ، آمراً بكل حسن ، ناهياً عن كلّ قبيح. واكتفى من النّاس بأنْ يقولوا : لا إله إلّا الله محمّد رسول الله ، ويُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، ويصوموا شهر رمضان ، ويحجّوا البيت ، ويلتزموا بأحكام الإسلام.

وكان قول هاتين الكلمتين موجباً أنْ يكون لقائلهما ما للمسلمين وعليه ما عليهم ولو قالهما والسّيف على رأسه ؛ وأنزل عليه قرآناً عربياً مبيناً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ أعجز به بلغاء العرب وفصحاءهم ، وتحدّاهم فيه بالمعارضة فلم يستطيعوا معارضته. فحوى من أحكام الدين وأخبار الماضين ، وتهذيب الأخلاق ، والأمر بالعدل والنّهي عن الظُّلم ، وتبيان كلّ شيء. ما يزال يُتلى على كرّ الدهور ومرّ الأيام وهو غضّ طريّ ، يحير ببيانه القول ، ولا تملّه الطباع مهما تكرّرت تلاوته وتقادم عهدُه.

بعث النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالمساواة في الحقوق بين جميع الخلق ، وبالإخوّة بين جميع المؤمنين :( إِنّمَا الْمُؤْمنونَ إِخْوَةٌ ) (٢) . وبالعفو العام عمّن دخل في الإسلام ( الإسلام يجبّ ما قبله ) ، وسنّ شريعةً باهرة وقانوناً عادلاً ، فكان هذا القانون جامعاً لجميع ما يحتاجه النّاس في معاشهم ومعادهم ، فكان عباديّاً اجتماعيّاً سياسيّاً ، أخلاقيّاً اقتصاديّاً ، لا يشذّ عنه شيء ممّا يمكن

___________________

(١) سورة النّحل / ٥٨.

(٢) سورة الحجرات / ١٠.

١٩٠

وقوعه في الكون ويحتاج إليه بنو آدم. فما من واقعة تقع ولا حادثة تحدث إلّا ولها في الشريعة الإسلاميّة أصل مُسلّم عند المسلمين ترجع إليه ؛ وهذا ممّا امتازت به الشريعة الإسلاميّة ؛ وذلك لأنها خاتمة الشرائع ، وباقية إلى انقراض عمر الدنيا.

على أنّ العبادات في الدين الإسلامي لا تتمحض لمجرد العبادة ، ففيها منافع بدنية واجتماعيّة، وسياسيّة وأخلاقيّة ؛ فالطهارة تُفيد النّظافة ، وفي الصلاة رياضة روحيّة وبدنيّة ، وفي صلاة الجماعة والحجّ فوائد اجتماعيّة وسياسيّة ظاهرة ، وفي الصوم رياضة النّفس وصحة البدن ، وفي المعاملات حفظ نظام الاجتماع ، وفي أحكام التجارة حفظ الحقوق ، وفي النّكاح بقاء النّسل وقطع مادة الفساد ، وفي الميراث حبس أموال الميّت على أقربائه دون الغرباء ، وفي الوصيّة والوقف عدم حرمان المرء من منفعة ماله بعد وفاته ، وفي القضاء رفع الخصام على قاعدة العدل ، وفي الأخلاقيّات حُسن العشرة والآداب.

وفي السّياسيّات : الجهاد للدفاع عن الوطن ، والسّبق والرّماية لتعلُّم فنون الحرب ، والجنديّة والحدود والدِّيات لحفظ النّفوس والأموال وقمع الجرائم.

وأمرَ هذا الدِّين بتعلّم العلم وحثّ عليه :( هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ اُولُوا الألبَابِ ) (١) .( إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ من عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (٢) . (( طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مُسلمٍ ومُسلمة )). (( اطلبوا العلمَ ولو في الصِّين )). وأوجب تعلّم كلَّ علم نافع - دِيني أو صناعي - على الكفاية.

وأمرَ هذا الدين بالنّظر وإعمال العقل ، والأخذ بالدليل والبرهان ، وذمّ التقليد :( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى‏ طَعَامِهِ ) (٣) .( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ ) (٤) .( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السّماوات وَالأَرْضِ ) (٥) .( قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) (٦) .( وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّماوات وَالأَرْضِ ) (٧) .( أفلمْ

___________________

(١) سورة الزُّمر / ٩.

(٢) سورة فاطر / ٢٩.

(٣) سور عبس / ٢٤.

(٤) سورة الطارق / ٥.

(٥) سورة الأعراف / ١٨٥.

(٦) سورة الأنعام / ١١.

(٧) سورة آل عمران / ١٩١.

١٩١

يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ) (١) .

وحثّ على السّعي والجدّ والعمل :( وَأَن لّيْسَ لِلاْنسَانِ إِلّا مَا سَعَى ) (٢) .( فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللّهِ ) (٣) . وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( لأنْ يأخذ أحدكم حبلاً فيحتطب على ظهره ، خيرٌ من أنْ يأتيَ رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله ، أعطاه أو منعه )). وقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّ الله يُحبّ العبد يتّخذ المهْنة ليستغني بها عن النّاس )).

وآخى الإسلام بين كافّة أهله ؛ فآخى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أوّلاً بين المهاجرين ، ثمّ بين المهاجرين والأنصار ؛ لانحصار المسلمين فيهم يومئذ ، وأراد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بناء الإسلام على أساسٍ ثابتٍ وطيدٍ هو تأليف القلوب ، ورفع الشحناء من النَفوس ، والتّناصر والتعاون ؛ لأنّ ذلك هو السّبب الوحيد في نجاح الأعمال ورُقيّ الاُمم.

وأعلن الله تعالى في كتابه العزيز المؤاخاة بين عموم أهل الأسلام ؛ شريفهم ووضيعهم ، رجالهم ونسائهم ، فقال :( إِنّمَا الْمُؤْمنونَ إِخْوَةٌ ) (٤) . وبهذه الإخوّة ، وعلى أساسها المتين والمحافظة عليها ، قام الإسلام وظهر وانتشر ، وبالتهاون بها ضعف وتقهقر. وأردف قوله هذا بقوله :( فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (٥) . فجعل الإصلاح من مقتضى تلك الإخوّة وموجبها. وقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يُسلمه )).

فانظر بعين عقلك ، كم في هذه الإخوّة من منافع وفوائد ، ومصالح عامّة ؛ سياسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة ! وكم فيها من تأليف للقلوب وحفظ للنظام الاجتماعي ، وحرص على هناء العيش وسعادة البشر ! وهذه هي الإخوّة الصحيحة الشريفة النّافعة التي تفوق كلَّ ما يُسمّى بالإخوّة وتُغني عنه.

والشريعة الإسلاميّة يتساوى فيها جميع الخلق في الحقوق : الملك والرعية ، والشريف والوضيع ، والغني والفقير : (( لا يحلّ مالُ امرئٍ إلّا

___________________

(١) سورة الحج / ٤٦.

(٢) سورة النّجم / ٣٩.

(٣) سورة الجمعة / ١٠.

(٤) ، (٥) سورة الحُجرات / ١٠.

١٩٢

عن طيب نفسه )). (( لا شفاعة في حدٍّ )). (( العدل شاملٌ للكلّ )).( وَاُمِرْتُ لأِعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) (١) .( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان ) (٢) .( إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَى ‏ ) (٣) .( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (٤) .( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (٥) .( فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ ) (٦) .

وأوجب الشرع الإسلامي على القاضي أنْ يُسوّي بين الخصمين في الكلام والسّلام ، والمكان والنّظر والإنصات ، وحرّم الرَّشوة وقبول الهديّة ، وأنْ يُلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه. وبالغ الدِّين الإسلامي في حفظ الأمن ، والمحافظة على الأموال والدماء وشدّد فيه ، وفرضَ العقوبات الشديدة على مخالفيه :( إِنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوا أَوْ يُصَلّبُوا أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم من خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا من الأَرْضِ ) (٧) . وأمر بقطع يد السّارق ، وبقتل القاتل عمداً ، وتغريم الدّية في الخطأ ، و( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) (٨) .( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا اُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ ) (٩) .

واعتنى الدِّين الإسلامي بحفظ الصحة عنايةً فائقة ، فجعل النّظافة من الإيمان ، وأمر بقصّ الأظافر والشوارب وتسريح الشعر ، والوضوء عند كلّ صلاة ، وغسل الثياب والبدن والأواني من النّجاسة والقذارة ، ورخّص في ترك كلّ عبادة يُخاف منها الإضرار بالصحة ، وحرّم تناول كلَّ طعام أو شراب يضرّ بالصحة ، وحرّم الزيادة في الأكل على الشبع. وقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (( المعدةُ بيت الداء ، والحميّة رأس الدواء )).

وأمر أنْ لا يجلس الإنسان على الطعام إلّا وهو يشتهيه ، وأنْ يقوم عنه وهو يشتهيه. وقال الله تعالى

___________________

(١) سورة الشورى / ١٥.

(٢) سورة النّحل / ٩٠.

(٣) سورة المائدة / ٨.

(٤) سورة الأنعام / ١٥٢.

(٥) سورة النّساء / ٥٨.

(٦) سورة الحجرات / ٩.

(٧) سورة المائدة / ٣٣.

(٨) سورة المائدة / ٤٥.

(٩) سورة البقرة / ١٧٩.

١٩٣

( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ) (١) . فجمع بذلك أساس علم الطبِّ وحفظ الصحة وأهمّ اُموره.

وأوجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وأمرَ بالصدق وأداء الأمانة والوفاء بالعهد ، وصلة الأرحام وحسن الجوار ، وبرّ الوالدين ، وأنْ يحبّ المرء لأخيه ما يُحبّ لنفسه ، ومعاونة الضعيف وحفظ مال اليتيم ، والرأفة والحنوِّ على السّائل.

ومن أحكام الشرع الإسلامي وأوامره في حفظ الحقوق والأموال : الأمر بكتابة الدَّين والإشهاد عليه ، وأخذ الرهن إنْ لمْ تكن الكتابة ، وسنَّ قانون كاتب العدل الذي اتّبعت فيه جميع دول الأرض قانون الإسلام :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوْا إِذَا تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ إِلَى‏ اَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ... وَاسْتَشْهِدُوا شَاهِدَيْنِ... وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى‏ أَجَلِهِ * وَإِن كُنْتُمْ عَلَى‏ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (٢) .

وحرّم الدِّين الإسلام كلَّ ما فيه مفسدة ومضرّة ؛ فحرّم الرِّبا والزِّنا والفواحش ، وشرب الخمر وكلَّ مسكر والقمار ، والغيبة والنّميمة ، والحسد والكذب إلّا في الإصلاح ورفع الضرر ، وكتمان الشهادة والسّرقة ، وقتل النّفس وقطع الطريق ، والغشّ والخيانة ، والفتنة والبغي ، والرشا وخلف العهد ، والإسراف وتضييع المال وأكل المال بالباطل ، ونهى عن التنازع والتنابز بالألقاب ، وبخس المكيال والميزان.

فكم ترى من المفاسد في الرِّبا بذهاب الثروات ! وفي الزِّنا من اختلاط الأنساب وفساد نظام العائلة وتفشِّي الأمراض الـمُهلكة ! وفي شرب الخمر من زوال العقل وصيرورة المرء اُضحوكة ، ووصوله إلى أقصى دركات المهانة والسّفالة ، ومن هلاك

___________________

(١) سورة الأعراف / ٣١.

(٢) سورة البقرة / ٢٨٢ - ٢٨٣.

١٩٤

النّفوس وتلف الأموال ، والإضرار بالبدن والنّسل حتّى أنّ دولة أميركا حرّمته بعد مضي أكثر من ألف وثلاثمئة سنة من تحريم الإسلام ! وفي القمار من تلف الأموال وهياج الشرّ ! وفي الغيبة والنّميمة من حصول العداوات والفتن ، والإخلال بالمجتمع البشري !

ولمْ يكتفِ الشرع الإسلامي في جملةٍ من الـمُحرّمات بالنّهي والتحريم والعقاب في الآخرة حتّى فرض عليها التأديب والعقوبة في الدنيا ؛ فأوجب الحدَّ على الزاني بالضرب أو الرجم ، وعلى شارب الخمر بالضرب ، وعلى السّارق بقطع اليد ، وعلى مخالف العهد واليمين بغرامة ماليّة ، وفرض العقوبات التأديبيّة غير المحدودة في شتّى المواضع ، وأباح كلَّ لذَّة وزينة وتنعّم في الدُّنيا لا تخلّ بالآداب ، ولا تضرّ بالمجتمع الإنساني.

واعتنى الشرع الإسلامي بالمرأة عنايةً كبيرةً حتّى نزلت في القرآن الكريم سورة أكثرها في الوصاية بالنّساء والعناية باُمورهنّ ؛ فسُمّيت : سورة النّساء. وأوجب على الزوج القيام بكلِّ ما تحتاج إليه الزوجة من إسكانٍ وإخدام ، وكسوةٍ وطعام ، وجعل نفقتها مقدّمةً على نفقة أبويه ، العظيمُ حقُّهما عليه ، وعلى نفقة أولاده ، وأوجب معاشرتها بالمعروف :( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (١) .

وأبطل العادات الجائرة التي سنّتها الجاهليّة في حقّ النّساء ؛ فكان الرجل إذا زوّج أمةً أخذ صداقها دونها ، وكانوا لا يورّثون المرأة. وأكدّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الوصاية بالمرأة في مواضع كثيرة.

ولم يضيِّقْ الدِّين الإسلامي على المرأة فيما يجلب ترويح النّفس ، مع مراعاة الحشمة والآداب ، والبعد عمّا يوجب الظنّة والارتياب ، وعدم الاختلاط بالأجانب ومجانبة ما يوقع في الفساد. فالإسلام قد أكرم المرأة كرامةً ليس عليها من مزيد ، وصانها الصيانة التي تليق بكرامتها.

___________________

(١) سورة النّساء / ١٩.

١٩٥

أمّا الذين يدعون إلى السّفور وهتك الحجاب ، واختلاط الرجال بالنّساء ، فهم الذين يُريدون أنْ لا يكون بين بني آدم وحوّاء وبين البهائم فرق ، والذين يُريدون أنْ يتّخذوا لأنفسهم طريقاً سهلةً ، ووسيلةً قريبةً لقضاء شهواتهم والوصول إلى لذّاتهم. فأيّ أحكام عباديّة واجتماعيّة ، وسياسيّة وأخلاقيّة أسمى وأرقى ، وأنفع وأجمع ، وأصلح وأنجع ، وأسهل وأعدل ، وأنزه وأرفه وأقرب إلى تهذيب الأخلاق وسعادة البشر وهناء العيش من هذه الأحكام ؟ أمْ أيّ أحكام تُدانيها في جميع الشرائع والأديان ؟

ولِما في هذا الدِّين من محاسن وموافقة أحكامه للعقول وسهولتها وسماحتها ، ولِما في تعاليمه من السّموِّ والحزم والجدّ ، دخل النّاس فيه أفواجاً ، وقضى أهله على أعظم ممالك الأرض ؛ مملكة الأكاسرة ومملكة الروم ، واخترق شرق الأرض وغربها ودخل جميع أقاليمها وأقطارها ، ودانت به الاُمم على اختلاف عناصرها ولغاتها. وأصبح هذا الرجل الذي فرّ من مكّة مستخفياً ، وأصحابه يُعذّبون ، يدخل مكّة بأصحابه هؤلاء ظاهراً على رغم جبابرة قريش ، فاتحاً لها ، مالكاً رقاب أهلها.

وسمت نفسه إلى مكاتبة ملوك الأرض ؛ كسرى وقيصر ومَن دونهما ، ودعاهم إلى الإسلام ، وظهر دينه على الدِّين كلّه كما وعده ربّه ، وفتح أتباعه ممالك الدُّنيا. ولمْ يقمْ هذا الدِّين بالسّيف والقهر كما يُصوّره أعداؤه ؛ بل كما قال الله تعالى :( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) .( لَا إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تَبَيّنَ الرّشْدُ من الْغَيّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى‏ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) .

ولمْ يحارب أهل مكّة والعرب حتّى حاربوه وأرادوا قتله وأخرجوه ، وأقرّ أهل الأديان التي نزلت بها الكتب السّماويّة على أديانهم ، ولمْ يجبرهم على الدخول في الإسلام ، وأجبر الوثنيّين على ذلك.

___________________

(١) سورة النّحل / ١٢٥.

(٢) سورة البقرة / ٢٥٦.

١٩٦

ولمْ يكن تأخُّرُ أتباع هذا الدين وضعفهم ناشئاً إلاّ عن عدم تمسّكهم بتعاليم دينهم ، ولمْ يكن فتح العدو لبلادهم إلاّ لتهاونهم بما أمر الله تعالى به ، بقوله :( وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعْتُم من قُوّةٍ وَمن رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (١) . وعدم فهمهم مغزى قوله تعالى :( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ ) (٢) .

ولمْ يطلب النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على ما أسداه إلينا من هذه النّعم العظيمة ، وكابده من المحن في سبيل تبليغ الرسالة أجراً ، إلّا المودّة في القربى :( قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٣) .

عن ابن عبّاس : لـمّا نزلت هذه الآية ، قالوا : يا رسول الله ، مَن هؤلاء الذين أمرنا الله بمودَّتهم ؟ قال : (( عليٌّ وفاطمةٌ وولْدُهما )).

وروى الحاكم في كتاب شواهد التنزيل : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( لو أنّ عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ، ثمّ ألف عام ، ثمّ ألف عام حتّى يصير كالشّن البالي ، ثمّ لمْ يُدرك محبَّتنا ، أكبّه الله على منخريه في النّار )). ثمّ تلا :( قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) .

وروي عن علي (عليه‌السلام ) ، قال : (( فينا في آل حم آية ، لا يحفظ مودَّتنا إلاّ كلّ مؤمن )). ثمّ قرأ هذه الآية.

وإلى هذا أشار الكميت بقوله :

وجدنَا لكُمْ في آلَ حاميمَ آيةً

تأوَّلها منَّا تقيٌّ ومُعربُ

وقال المؤلف :

أنتمْ وُلاةُ الورَى حقّاً وحُبُّكمُ

فرضٌ أكيدٌ بنصِّ الذّكرِ قدْ وَجَبا

وقال أيضاً :

وقدْ فرضَ الرَّحمنُ حُبَّهمُ على

جميعِ البرايَا في الكتابِ وأوجَبا

وحسبك قول الإمام الشافعي محمّد بن إدريس في ذلك :

يا أهلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبُّكمُ

فرضٌ منَ اللهِ في القُرآنِ أنزَلَهُ

___________________

(١) سورة الأنفال /٦٠.

(٢) سورة الحديد / ٢٥.

(٣) سورة الشورى / ٢٣.

١٩٧

كفاكُمُ من عظيمِ القدرِ أنَّكُمُ

مَنْ لا يُصلِّي عليكُمْ لا صلاةَ لهُ

وقال الشيخ مُحي الدِّين بن عربي :

رأيتُ ولائي آلَ طه فريضةً

على رغمِ أهلِ البُعدِ يُورثُني القُرْبا

فما طلبَ المبعوثُ أجراً على الهُدى

بتبليغِهِ إلّا الموَدَّةَ في القُربى

ولكن هذه الاُمّة لمْ تُجازِ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على تبليغ الرسالة بالمودّة في قُرباه - كما أمرها الله - ، بل بالبغضة والشنآن ، والمحاربة والعدوان ، والقتل والأسر ، وجرّعتهم الغصص ، وأذاقتهم أنواع البلايا والمحن ؛ فحاربت ابن عمّه عليّاً (عليه‌السلام ) وآل أمرها إلى أنْ قتلته وهو يصلّي في محرابه ، وسبّته على منابر الإسلام عشرات الأعوام في الأعياد والجماعات ، وما قامت أعواد تلك المنابر إلّا بسيفه.

أعلَى المنابرِ تُعلنونَ بسبِّهِ

وبسيفِهِ نُصبَتْ لكُمْ أعوادُهَا

وقتلت ولده الحسن (عليه‌السلام ) أحد السّبطين بالسّمِّ ، ومنعت من دفنه عند جدّه ، وقتلت ولده الحسين (عليه‌السلام ) ثاني السّبطين بالسّيف ، غريباً ظامياً ، وحيداً فريداً ، بعدما قتلت أنصاره وسبعة عشر رجلاً من أهل بيته ، ليس لهم على وجه الأرض شبيه ، وقدّمت عليه يزيد السّكّير الخميّر ، صاحب القرود والفهود ، والمتجاهر بالكفر والفجور ، حتّى تطرّق العار إلى هذه الاُمّة بولاية يزيد عليها.

وقال أبو العلاء المعري :

أرَى الأيامَ تفعلُ كلَّ نُكرٍ

فما أنا في العجائبِ مُستزيدُ

أليسَ قُريشكُمْ قتَلتْ حُسيناً

وكان علَى خلافتِكُمْ يزيدُ

ولمْ تكتفِ بقتله حتّى سبت نساءه وعياله وأطفاله ، وحملتهم على أقتاب الجِمال من بلد إلى بلد ، ودارت برأسه في البلدان.

لهفي لـمَنْ وُدُّهمْ أجرُ الرِّسالةِ لمْ

يرَوا سِوى علَمِ الشَّحناءِ منْشورَا

١٩٨

وليكن هذا آخر الجزء الثالث من المجالس السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النّبويّة ، ويليه الجزء الرابع. ولمْ نألُ جهداً في اختياره وانتقائه وترتيبه حسبما وصلت إليه مقدرتنا القاصرة ، حتّى جُمع بين دفَّتيه من مهمّات الأخبار والحروب ، والفوائد والاحتجاجات ما لم يجمعه كتاب. والله المسؤول أنْ ينفع به إخوان الدين ، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم ، ويحشرنا في زمرة محمّد وآله الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

ووافق الفراغ منه في شهر ربيع الثاني سنة ١٣٤٣ من الهجرة ، بمدينة دمشق المحميّة ، ووافق الفراغ من إعادة النّظر فيه ثانياً ، والزيادة عليه وتغيير ترتيبه إلى أحسن ، وتهيئته للطبع للمرّة الثانية عصر يوم الاثنين ١٣ من شهر رمضان المبارك سنة ١٣٦٢ ه بمنزلي في دمشق الشام - صانها الله عن طوارق الأيام - ، ووافق الفراغ من إعادة النّظر فيه وتهئيته للطبع للمرّة الثالثة ، بقرية الشياح من ضواحي بيروت في أواسط جمادى الأولى سنة ١٣٦٩ ه. وكتب بيده الفانية مؤلفه الفقير إلى عفو ربّه الغني محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي نزيل دمشق ، تجاوز الله عن سيئاته ، حامداً مُصليّاً مُسلّماً.

* * *

١٩٩

الفهرس

المجلس الرابع والأربعون بعد المئة ٣

المجلس الخامس والأربعون بعد المئة ٦

المجلس السّادس والأربعون بعد المئة ٨

المجلس السّابع والأربعون بعد المئة ١١

المجلس الثامن والأربعون بعد المئة ١٣

المجلس التاسع والأربعون بعد المئة ١٦

المجلس الخمسون بعد المئة ٢٠

المجلس الحادي والخمسون بعد المئة ٢٣

المجلس الثاني والخمسون بعد المئة ٢٥

المجلس الثالث والخمسون بعد المئة ٢٧

المجلس الرابع والخمسون بعد المئة ٢٩

المجلس الخامس والخمسون بعد المئة ٣١

المجلس السّادس والخمسون بعد المئة ٣٣

المجلس السّابع والخمسون بعد المئة ٣٥

المجلس الثامن والخمسون بعد المئة ٣٩

المجلس التاسع والخمسون بعد المئة ٤١

المجلس الستّون بعد المئة ٤٥

المجلس الحادي والستّون بعد المئة ٤٨

المجلس الثاني والستّون بعد المئة ٥١

المجلس الثالث والستّون بعد المئة ٥٥

المجلس الرابع والستّون بعد المئة ٥٧

٢٠٠

201

202