المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٣

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 202

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 202
المشاهدات: 49164
تحميل: 3988


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49164 / تحميل: 3988
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 3

مؤلف:
العربية

قال معاوية : هذا الإقرار فأين الغير ؟ قال مروان : أيّ غير تريد ؟ قال : اُريد أنْ يشجر بالرماح. فقال : والله ، إنّك لهازل ولقد ثقلنا عليك. فقال الوليد بن عقبة في ذلك :

يقولُ لنا معاويةُ بنُ حربٍ

أمَا فيكُمْ لِواترِكُمْ طَلُوبُ

يشدُّ على أبي حسنٍ عليٍّ

بأسمرَ لمْ تُهجِّنهُ الكُعوبُ

فقلتُ لهُ أتلعبُ يابنَ هندٍ

كانَّك وسْطَنا رجلٌ غريبُ

أتأمرُنا بحيَّةِ بطنِ وادٍ

إذا نَهشَتْ فليس لها طبيبُ

وما ضَبُعٌ أقام ببطنِ وادٍ

اُتيح له بهِ أسدٌ مَهيبُ

بأضعفَ حيلةً منّا إذا ما

لَقيناه وذا منَّا عَجيبُ

سِوى عمرٍو وقَتْهُ خُصيتاهُ

نجا ولِقلبِهِ منها وَجيبُ

لعمر أبي معاويةَ بن حربٍ

وما ظنِّي ستلحقهُ العيوبُ

لقد ناداهُ في الهيجا عليٌّ

فأسمعهُ ولكنْ لا يُجيبُ

فغضب عمرو ، وقال : إنْ كان الوليد صادقاً ، فليلقَ عليّاً أو ليقف حيث يسمع صوته. وقال عمرو :

يُذكِّرُني الوليدُ دُعَا عليٍّ

وبطنُ المرءِ يملؤهُ الوعيدُ

مَتى تذكُرْ مشاهدَهُ قُريشٌ

يَطِرْ منْ خوفهِ القلبُ الشديدُ

فأمّا في اللقاءِ فأين منهُ

معاويةُ بنُ حربٍ والوليدُ

وعيَّرَني الوليدُ لقاءَ ليثٍ

إذا ما زارَ هابَتْهُ الاُسودُ(١)

لقيتُ ولستُ أجهلُهُ عليّاً

وقدْ بُلّتْ من العَلَقِ الكُبُودُ

فأطعنُهُ ويطعنُني خِلاساً

وماذا بَعد طعنتِهِ اُريدُ

_____________________

(١) إنّ مفردة ( زار ) هنا مخففة عن ( زأر ) التي بمعنى : صاح عن صدره. (موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

٢١

فرُمْها منهُ يابنَ أبي مُعَيْطٍ

وأنتَ الفارسُ البطلُ النَّجيدُ

فاُقسِمُ لو سمعتَ نِدَا عليٍّ

لطارَ القلبُ وانتفَخَ الوريدُ

ولو لاقيتَهُ شُقَّتْ جُيوبٌ

عليك ولُطِّمتْ فيك الخُدودُ

وما زالت أضغان بني اُميّة كامنةً في صدورهم بقتل مَن قتله منهم أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، يوم كانوا يقودون الجيوش لحرب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ومحو الإسلام في يوم بدر واُحد والأحزاب ، ويُظهرونها لعلي (عليه‌السلام ) وأولاده ، ويجهدون في محوهم عن جديد الأرض كلّما سنحت لهم الفرصة، ويُظهرون الشماتة والفرح بما يُصيب آل بيت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من المصائب.

فمِن ذلك لـمّا جاء الخبر إلى المدينة بقتل الحسين (عليه‌السلام ) ، وكان الأمير عليها من بني اُميّة وهو عمرو بن سعيد بن العاص ، فلمّا سمع أصوات نساء بني هاشم يبكين على الحسين (عليه‌السلام ) ويندبنه ، ضحك وتمثل بقول بعض العرب :

عجَّتْ نساءُ بني زيادٍ عجَّةً

كعجيجِ نسوتِنا غَداةَ الأرنبِ

ثم خطب النّاس ، وقال في خطبته : إنّها لدمةٌ بلدمة وصدمة بصدمة ، كمْ خطبة بعد خطبة ، وموعظة بعد موعظة ، حكمة بالغة فما تُغني النّذر.

ومن ذلك لـمّا وُضع رأس الحسين (عليه‌السلام ) ورؤوس أهل بيته وأصحابه بين يدي يزيد ، دعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه‌السلام ) ، ثم قال : يوم بيوم بدر. وقيل : إنّ مروان بن الحكم أخذ الرأس الشريف وتركه بين يديه ، وقال :

يا حبَّذا بُردُك في اليَدينِ

ولونُكَ الأحمرُ في الخدَّينِ

كأنّما حفَّ بوردَتينِ

شفيتُ نفسي من دمِ الحُسينِ

والله , لكأنّي أنظر إلى أيام عثمان.

٢٢

قومٌ قَتلتُمْ على الإسلامِ أوّلَهُمْ

حتّى إذا اسْتمكَنُوا جازوا على الكُفُرِ

أبناءُ حرْبٍ ومروانٍ واُسرتُهمْ

بنو مُعيطٍ وُلاةُ الحُقدِ والوَغَرِ

* * *

بني اُميّةَ ما الأسيافُ نائمةً

عن ساهرٍ في أقاصي الأرضِ مَوتورِ

أكلُّ يومٍ لآلِ الـمُصطفَى قمرٌ

يهوي بوقعِ العوالي والمبَاتيرِ

المجلس الحادي والخمسون بعد المئة

من مواقف أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في وقعة صفّين ، ما كان يوم الهرير.

قال بعض الرواة : فوالذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً ، ما سمعنا برئيس قوم ، منذ خلق الله السّماوات والأرض ، أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب علي (عليه‌السلام ) ؛ إنّه قتل - فيما ذكر العادّون - زيادةً على خمسمئة من أعلام العرب ، يخرج بسيفه منحنياً ، فيقول : (( معذرة إلى الله وإليكم من هذا ، لقد هممت أنْ أفلقه(١) ولكن يحجزني عنه أنّي سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، يقول: لا سيف إلّا ذو الفقار ، ولا فَتَى إلّا علي. وأنا اُقاتل دونه )).

قال : فكنّا نأخذه فنقوّمه ، ثمّ يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصفّ ، فلا والله ، ما ليثٌ بأشد نكاية منه في عدوه ، وكان في أوائل أيام صفّين يسهر الليل كلَّه إلى الصباح يُعبئ الكتائب ، ويأمر الاُمراء ، ويعقد الألوية. ومرّ في اليوم السّابع ، ومعه بنوه ، نحو الميسرة والنّبل يمرّ بين عاتقيه ومنكبيه ، وما من بنيه إلّا مَن يقيه بنفسه ، فيكره علي (عليه‌السلام ) ذلك ، ويتقدّم نحو أهل الشام ويؤخر الذي يقيه إلى ورائه.

وجاء أحمر مولى بني اُميّة يوم صفّين ، وقال لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) : قتلني الله إنْ لمْ أقتلك. فخرج إليه كيسان مولى علي (عليه‌السلام )

_____________________

(١) أي : أكسره.

٢٣

فقتله أحمرُ ، وأراد أن يضرب أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) بالسّيف ، فانتهزه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ووضع يده في جيب درع أحمر ، فجذبه عن فرسه وحمله على عاتقه.

قال الراوي : فوالله ، لكأنّي أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي (عليه‌السلام ) ، ثمّ ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ، وشدّ الحسين ومحمد بن الحنفيّة (عليهما‌السلام ) فضرباه بأسيافهما حتّى برد ، وبقي الحسن (عليه‌السلام ) واقفاً مع أبيه ، فقال (عليه‌السلام ) له : (( ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك ؟ )). قال : (( كفياني يا أمير المؤمنين )).

ثمّ دنا أهل الشام من أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يريدونه. قال الراوي : فوالله ، ما يزيده قربهم منه ودنوهم إليه سرعة في مشيه. فطلب منه الحسن (عليه‌السلام ) أن يسرع في مشيه ليلحق بربيعة ، فقال له : (( يا بني ، إنّ لأبيك يوماً لنْ يعدوه ، ولا يُبطئ به عنه السَّعي ، ولا يُقرِّبه إليه الوقوف. إنّ أباك لا يُبالي إنْ وقع على الموت أو وقع الموتُ عليه )). ومن هذه الشجاعة ورث ولده الحسين (عليه‌السلام ) ، وعلى نهجها نهج ، وفي سبيلها درج :

فهو ابنُ حيدرةَ البطِينِ الأنْزَعِ الـ

ـمُفني الاُلوفَ بحومةِ الهيْجاءِ

* * *

لهُ منْ عليٍّ في الحُروبِ شجاعةٌ

ومنْ أحمدٍ عندَ الخطابةِ قيلُ

ولـمّا كان يوم عاشوراء دعا النّاس إلى البراز ، فلم يزل يقتل كلّ مَن يبرز إليه حتّى قتل مقتلة عظيمة ، ثمّ حمل على الميمنة ، وهو يقول :

القتلُ أولَى منْ رُكوبِ العارِ

والعارُ أولَى منْ دُخولِ النّارِ

واللهِ مِنْ هذا وهذا جاري

ثمّ حمل على الميسرة ، وهو يقول :

أنا الحُسينُ بنُ عليْ

آليتُ أنْ لا أنْثَنِي

أحمِي عِيالاتِ أبي

أمضي على دينِ النّبيْ

٢٤

قال بعض الرواة : فوالله ، ما رأيت مكثوراً ( أي : مغلوباً ) قطْ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً ، ولا أمضى جناناً ، ولا أجرأ مقدماً منه. والله ، ما رأيت قبله ولا بعده مثله ؛ إنْ كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إنْ شدّ فيها الذئب. ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : (( لا حول ولا قوّة إلا بالله )). وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد ، وكلمّا حمل بفرسه على الفرات ، حملوا عليه بأجمعهم حتّى أجلوه عنه.

منعُوهُ من ماء الفُراتِ ووردِهِ

وأبوُهُ ساقي الحوضِ يومَ جزاءِ

حتّى قضى عَطشاً كما اشْتهتِ العِدى

بأكفِّ لا صيدٍ ولا أكفاءِ

المجلس الثاني والخمسون بعد المئة

لـمّا كان يوم صفّين جاء علي أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، ومعه بنوه نحو رايات ربيعة ، فنادى (عليه‌السلام ) بأعلى صوته : (( لـمَنْ هذه الرّايات ؟ )). قالوا : هذه رايات ربيعة. فقال (عليه‌السلام ) : (( بل هي رايات الله ، عصم الله أهلَها ، وصبَّرهمْ وثبَّت أقدامهمْ )). ثمّ قال (عليه‌السلام ) للحضين بن المنذر : (( يا فتى ، ألا تدني رايتك هذه ذراعاً ؟ )). فقال له : نعم والله ، وعشرة أذرع. فأقبل بها حتّى أدناها ، فقال له : (( حسبُك مكانك )).

وقال الحضين بن المنذر : أعطاني علي الراية ، وقال : (( سِرْ

٢٥

على اسم الله يا حضين ، واعلم أنّه لا يخفق على رأسك راية مثلها أبداً ؛ لأنّها راية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) )). وزحف الحضين بن المنذر برايته ، وكانت حمراء ، فأعجب عليّاً زحفُه وثباته ، فأنشأ (عليه‌السلام ) يقول :

لـمَنْ رايةٌ حمراءُ يخْفقُ ظلُّها

إذا قِيل قدِّمهَا حُضينُ تَقدَّما

ويدنُو بها في الصَّفِّ حتّى يَديرها

حِمامُ المنايا تَقطُر الموتَ والدَّما

تراهُ إذا مَا كان يومُ عظيمةٍ

أبى فيهِ إلّا عِزَّةً وتكرُّما

جزى اللهُ قوماً صابَرُوا في لقائِهمْ

لَدَى البأسِ حُرّاً ما أعفّ وأكرَما

وأحزمَ صبْراً حِينَ تُدعَى إلى الوغَى

إذا كانَ أصواتُ الكُماةِ تغمْغُما

ربيعةَ أعني إنّهُمْ أهلُ نجدةٍ

وبأسٍ إذا لاقَوا خميساً عرَمْرما

فلمّا أصبحوا في اليوم العاشر ، أصبحوا وربيعة محدقة بعلي (عليه‌السلام ) ، إحداق بياض العين بسوادها.

قال عتاب بن لقيط : إنْ اُصيب علي فيكم افتضحتم ؛ وقد لجأ إلى راياتكم. وقال لهم شقيق بن ثور : يا معشر ربيعة ، ليس لكم عذر في العرب إن اُصيب علي فيكم ومنكم رجل حيّ ، فقاتلوا قتالاً شديداً. وقام خالد بن المعمّر السَّدوسي ، فنادى : مَن يُبايع على الموت ويشري نفسه لله ؟ فبايعه سبعة آلاف على أنْ لا ينظر رجل منهم خلفه حتّى يردوا سرادق معاوية. فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وقد كسروا جفون سيوفهم ، فلمّا نظر إليهم معاوية قد أقبلوا ، قال:

إذا قلتُ قدْ ولَّتْ ربيعةُ أقبَلَتْ

كتائبُ منهُمْ كالجبالِ تُجالدُ

ثمّ خرج عن سرادقه هارباً إلى بعض مضارب العسكر فدخل فيه.

ونذر معاوية سبي نساء ربيعة إنْ ظفر بهم ، وقتل رجالهم ، فقال في

٢٦

ذلك خالد بن المعمّر :

تمنَّى ابنُ حرْبٍ نذْرَةً في نِسْائِنا

ودونَ الذي ينْوي سيوفٌ قواضبْ

ولمْ يرث يزيد سبي نساء المسلمين عن كلالة ، بل ورث ذلك عن أبيه ، فكما نذر أبوه سبي نساء ربيعة إنْ ظفر بهم ، سبى هو نساء سادات المسلمين وعقائل بيت النّبوّة ، وأمر بحملهنّ إليه من العراق إلى الشام ، فحُملوا إليه على أقتاب الجمال ، وساروا بهنّ كما يُسار بسبايا الكفّار.

يُسار بها عُنْفاً بلا رِفقِ مَحْرَمٍ

بها غير مغلولٍ يحنُّ على صَعْبِ

ولـمّا وردوا دمشق ، اُوقِفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي ، وبينهم زين العابدين (عليه‌السلام ) وهو مغلول بغُلٍّ إلى عنقه ، وهو إمام أهل البيت الطاهر ، ووارث علوم جده الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). ثمّ اُدخلوا على يزيد ، وهم مُقرَّنون في الحبال وزين العابدين (عليه‌السلام ) مغلول ، فلمّا وقفوا بين يديه ، وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (عليه‌السلام ) : (( أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، لو رآنا على هذه الصفة ؟! )). فلمْ يبقَ في القوم أحد إلّا وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (عليه‌السلام ) :

خلتْ الحميَّةُ يا اُميّةُ فاخلَعِي

حُلَل الحَيا وبثوبِ بغْيكِ فارْفُلي

سوّدْتِ وجهَ حَفائظِ العَربِ التي

كرُمتْ إذا ظفرتْ برحلٍ مُفْضِلِ

المجلس الثالث والخمسون بعد المئة

كان عبد الله بن بُديل الخزاعي مع علي (عليه‌السلام ) يوم صفّين ،

٢٧

وعليه سيفان ودرعان ، وجعل يضرب النّاس بسيفه قُدُماً(١) وهو يقول :

لمْ يبقَ غيرُ الصَّبرِ والتَّوكُّلِ

والتِّرسِ والرُّمحِ وسيفٍ مِصقَلِ

ثُمّ التَّمشِّي في الرَّعيلِ الأوَّلِ

مَشِي الجمالِ في حِياضِ المنْهَلِ

فلمْ يزل يضرب بسيفه حتّى انتهى إلى معاوية ، فأزاله عن موقفه ، ومع معاوية عبد الله بن عامر واقفاً ، فأقبل أصحاب معاوية على عبد الله بن بديل يرضخونه بالصخر حتّى أثخنوه وقتلوه، وأقبل إليه معاوية وعبد الله بن عامر ؛ فأمّا عبد الله بن عامر فألقى عمامته على وجهه وترحّم عليه ، وكان له أخاً وصديقاً. فقال له معاوية : اكشف عن وجهه. فقال عبد الله : والله ، لا يُمثّل به وفيّ الروح. فقال له معاوية : اكشف عن وجهه ، فقد وهبته لك. فكشف عن وجهه ، فقال معاوية : هذا كبش القوم وربّ الكعبة. اللهمّ ، ظفّرني بالأشتر النّخعي والأشعث الكندي ، والله ، ما مثل هذا إلّا كما قال الشاعر :

أخو الحربِ إنْ عضَّتْ بهِ الحرْبُ عَضَّها

وإنْ شمٍرتْ عنْ ساقِها الحربُ شمَّرا

ويحْمِي إذا ما الموتُ كان لقَاؤهُ

لدى الشرِّ يحْمِي الأنْفَ أنْ يتأخَّرا

كليثِ هِزْبرٍ كانَ يحْمِي ذِمارَهُ

رَمتْهُ المنايَا فصدَّها فتَقطَّرا

مع أنّ نساء خُزاعة لو قدرت على أن تقاتلني - فضلاً عن رجالها - فعلت.

أمَا كان يوم كربلاء رجل مثل عبد الله بن عامر ، فيضع عمامته على وجه الحسين (عليه‌السلام ) ، ليمنع أهل الكوفة من أن يمثّلوا به

____________________

(١) قُدُماً ، بضمتين : المضي أمام أمام. كذا في القاموس. - المؤلّف -

٢٨

وبأصحابه ؛ وذلك لـمّا أمر ابن سعد - لعنه الله - بقطع رأس الحسين (عليه‌السلام ) ورؤوس أصحابه ، ففعل أهل الكوفة ما أمرهم به ، فقطعوا الرؤوس وحملوها على رؤوس الرماح ، وبعث بها من كربلاء إلى الكوفة - إلى عبيد الله بن زياد - مع خولي بن يزيد الأصبحي ، وحميد بن مسلم ، وشمر بن ذي الجوشن ؟! ولمْ يكفهم ذلك حتّى نادى عمر بن سعد في أصحابه : مَن ينتدب للحسين ، فيوطئ الخيل صدره وظهره ؟ فانتدب منهم عشرة فوارس ، فداسوا جسد الحسين (عليه‌السلام ) بحوافر خيولهم حتّى رضّوا صدره وظهره ، وجاؤوا حتّى وقفوا على ابن زياد - لعنه الله - فقال أحدهم :

نحنُ رضَضْنا الصَّدرَ بعدَ الظَّهرِ

بكلِّ يَعْبُوبٍ شدِيدِ الأسْرِ

* * *

تطأُ الصَّواهلُ جسْمَهُ وعلى القنَا

منْ رأسِهِ المرْفُوعِ بدْرُ سمَاءِ

المجلس الرابع والخمسون بعد المئة

روى غير واحد من المؤرخين ، عن أبي الأغر التميمي قال : إنّي لَواقف يوم صفّين ، إذ مرّ بي العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وهو شاكٍ في السّلاح ؛ على رأسه مغفر ، وبيده صفيحة يمانية يقلّبها ، وهو على فرس له أدهم ، وكأنّ عيناه عيني أفعى. فبينا هو يروّض فرسه ويلين من عريكته ، إذ هتف به هاتف من أهل الشام يُقال له غرار : هلمّ يا عبّاس إلى البزاز. قال : فالنّزول إذاً ؛ فإنّه أبأس من القفول. فنزل الشامي وهو يقول :

إنْ ترْكَبُوا فركوبُ الخيلِ عادتُنَا

أو تَنْزلُوا فإنّا معْشرٌ نُزُلُ

وثنى العبّاس رجله ، ثمّ عصب فضلات درعه في حجزته(١) ،

____________________

(١) أي : في وسطه.

٢٩

ودفع فرسه إلى غلام له أسود ، ودلف كلّ واحد منهما إلى صاحبه.

قال أبو الأغر : فذكرت قول أبي ذؤيب :

فتَنازلا وتواقَفتْ خيلاهُمَا

وكلاهُمَا بطلُ اللّقاءِ مُجدِّعُ

ثمّ تكافحا بسيفهما مليّاً ، لا يصل واحد منهما إلى صاحبه ؛ لكمال لامته ، إلى أنْ لحظ العبّاس وهناً في درع الشامي ، فأهوى إليه بيده فهتكه إلى صدره ، ثمّ عاد لمجاولته وقد أصحر له مفتق الدرع ، فضربه العبّاس ضربة انتظم بها جوانح صدره ، وخرّ الشامي صريعاً لخلده ، وسما العبّاس في النّاس ، وكبّر النّاس تكبيرة ارتجّت لها الأرض.

قال أبو الأغر : فسمعت قائلاً يقول من ورائي :( يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ) (١) . فالتفت فإذا هو أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، فقال (عليه‌السلام ) : (( يا أبا الأغر ، مَن المبارز لعدوّنا؟ )). قلت : العبّاس بن ربيعة. قال (عليه‌السلام ) : (( يا عبّاس )). قال : لبيك. قال (عليه‌السلام ) : (( ألمْ أنهك ، وحسناً وحسيناً ، وعبد الله بن جعفر ، أنْ تخلّوا بمراكزكم وأنْ تُباشروا حرباً ؟ )). قال : أفاُدعى يا أمير المؤمنين إلى البزار ، فلا اُجيب جعلت فداك ؟! قال (عليه‌السلام ) : (( نعم ، طاعةُ إمامِك أولى. ودّ معاوية أنّه ما بقي من بني هاشم نافخُ ضرمة إلّا طُعن في قلبه ؛( إطفاءً لنور الله ، وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٢) )).

وبلغ الخبر إلى معاوية ، فقال : ألا رجل يطلب بدم غرار ؟ فانتدب له رجلان من لَخم ، فقال معاوية : أيّكما قتل العبّاس ، فله كذا. فأتيا العبّاس ، فقال : إنّ لي سيّداً اُؤامره. فأتى إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) فأخبره ، فقال (عليه‌السلام ) : (( ناقلني سلاحك بسلاحي )). فناقله ، وركب عليٌ فرس العبّاس ، فلم يشكّ الشاميان أنّه العبّاس ، فقالا له : أذنَ لك سيّدك ؟ فقال :( أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنّ اللّهَ عَلَى‏ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) (٣) . فبرز إليه أحدهما فكأنّما اختطفه ، ثمّ برز إليه الثاني فألحقه بالأوّل وانصرف ، وهو يقول :( الشَّهْرُ

____________________

(١) سورة التوبة / ١٤ - ١٥.

(٢) سورة التوبة / ٣٢.

(٣) سورة الحجّ / ٣٩.

٣٠

الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى‏ عَلَيْكُمْ ) (١) . فبلغ ذلك معاوية ، فقال : قبّح الله اللجاج ؛ ما ركبته ألّا خُذلت. فقال عمرو بن العاص : المخذول والله ، اللخميان لا أنت.

أقول : إنّ الذي خفته يا أمير المؤمنين على بني هاشم يوم صفّين ، فكنت تقيهم بنفسك ، ولا تأذن لهم في المبارزة ؛ خوفاً عليهم ، قد أدركه منهم بنو اُميّة يوم كربلاء ، فأفنوهم قتلاً ، ولمْ يتركوا منهم نافخ ضرمة ؛ قتلوا ولدك الحسين (عليه‌السلام ) وذبحوه كما يُذبح الكبش ، وقتلوا معه سبعة عشر رجلاً من أهل بيتك من بني هاشم ، ما لهم على وجه الأرض شبيه. ولئن نجا منهم - بسببك - ابن عمّك العبّاس بن ربيعة يوم صفّين ، فلم ينجُ منهم ولدك أبو الفضل العبّاس يوم كربلاء :

قطَعُوا يَديهِ وهامُهُ فَلَقُوهُ في

عَمَدِ الحديدِ فَخرَّ خيرُ طَعينِ

ومشَى إليهِ السّبطُ ينْعاهُ كسَرْ

تَ الآنَ ظهْري يا أخي ومُعيني

عباسُ كبشَ كَتيْبَتي وكِنانَتي

وسريَّ قومي بلْ أعزّ حُصوني

فرسٌ ملكتَ بها الشَّريعةَ إنّها

عادَتْ إليَّ بصفقةِ المغْبُونِ

المجلس الخامس والخمسون بعد المئة

روى نصر بن مزاحم في كتاب صفّين ، عن عمّار بن ربيعة قال : صلّى علي (عليه‌السلام ) بالنّاس صلاةَ الغَداة بصفّين ، ثمّ زحف إلى أهل الشام ، وكانت الحرب أكلت الفريقين ، ولكنّها في أهل الشام أشدّ نكايةً وأعظم وقعاً ، فقد ملّوا الحرب وكرهوا القتال ، وتضعضعت أركانهم. فخرج من أهل العراق رجل على فرس كميت ذَنوب ، عليه السّلاح ، لا يرى منه إلّا عيناه ، وبيده الرمح ، فجعل يضرب رؤوس أصحاب علي بالقناة ويقول : سوّوا

____________________

(١) سورة البقرة / ١٩٤.

٣١

صفوفكم. حتّى إذا عدّل الصفوف والرايات ، استقبلهم بوجهه وولّى أهل الشام ظهره ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : الحمد لله الذي جعل فيكم ابن عم نبيّكم ، أقدمهم هجرة وأوّلهم إسلاماً ، سيفٌ من سيوف الله صبّه على أعدائه. فانظروا إليّ : إذا حمي الوطيس ، وثار القتام ، وتكسّر المرّان ، وجالت الخيل بالأبطال ، فلا أسمع إلاّ غمغمة أو همهمة ، [ فاتبعوني وكوني في إثري ]. ثمّ حمل على أهل الشام وكسر فيهم رمحه ثمّ رجع ، فإذا هو الأشتر.

وزحف النّاس بعضهم إلى بعض ، فارتموا بالنّبل حتّى فنيت ، ثمّ تطاعنوا بالرماح حتّى كُسرت واندقّت ، ثمّ مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسّيوف وعمد الحديد ، فلم يسمع السّامع إلاّ وقع الحديد على الحديد.

قال : وانكسفت الشمس ، وثار القتام ، وضلّت الألوية والرايات ، والأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة ، فيأمر كلّ قبيلة أو كتيبة من القرّاء بالإقدام على التي تليها. قال : فاجتلدوا بالسّيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل ، لمْ يُصلّوا لله صلاة ، فلمْ يزل يفعل ذلك الأشتر بالنّاس ، وافترقوا على سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم وتلك الليلة ، وهي ليلة الهرير.

وقُتل يوم صفّين عبد الله بن كعب ، فمرّ به الأسود بن قيس بآخر رمق ، فقال : عزّ والله ، عليَّ مصرعك. أما والله ، لو شهدتك لآسيتك ولدافعت عنك ، ولو أعرف الذي صرعك ، لأحببت أن لا يزايلني حتّى يُلحقني بك. ثمّ نزل إليه ، فقال : والله ، إنْ كان جارك ليأمن بواثقك، وإنْ كنت من الذاكرين الله كثيراً ، أوصني رحمك الله. قال : اُوصيك بتقوى الله ، وأن تناصح أمير المؤمنين ، وأنْ تُقاتل معه المحلّين حتّى يظهر الحقّ أو تلحق بالله. وأبلغه عنّي السّلام ، وقُل له : قاتل على المعركة حتّى تجعلها خلف ظهرك ؛ فإنّه من أصبح والمعركة خلف ظهره كان الغالب. ثمّ لم يلبث أنْ مات.

فأقبل الأسود إلى علي (عليه‌السلام ) فأخبره ، فقال (عليه‌السلام ) : ((رحمه‌الله ، جاهد معنا عدونا في الحياة،

٣٢

ونصح لنا في الوفاة )).

ما أشبه وصيّة عبد الله للأسود بوصية مسلم بن عوسجة لحبيب بن مظاهر ؛ وذلك لـمّا صرع ابن عوسجة فمشى إليه الحسين (عليه‌السلام ) ، ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( رحمك الله يا مسلم ،( فَمِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً ) (١) )). ودنا منه حبيب ، فقال : عزّ عليَّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنّة. فقال له مسلم قولاً ضعيفاً : بشرّك الله بخير. ثمّ قال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي في الأثر من ساعتي هذه ، لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك. فقال له مسلم : فإنّي اُوصيك بهذا - وأشار إلى الحسين (عليه‌السلام ) - فقاتل دونه حتّى تموت. فقال له حبيب : لأنعمنّك عيناً. ثمّ مات رضوان الله عليه :

إنّ امرأً يمشِي لمصرَعِهِ

سبطُ النَّبيِّ لَفاقدُ التِّربِ

أوصَى حبيباً أنْ يجُودَ لهُ

بالنَّفسِ من مِقَةٍ ومنْ حُبِّ

أعززْ علينا يابنَ عَوْسجةٍ

منْ أنْ تفارقَ ساحةَ الحربِ

عانقْتَ بيضَهُمُ وسمرهُمُ

ورجعتَ بعدُ مُعانقَ التَّربِ

أبكي عليكّ وما يُفيدُ بُكا

عيني وقدْ أكلَ الأسَى قلبي

* * *

المجلس السّادس والخمسون بعد المئة

عن ابن عبّاس ، قال : عقمُت النّساء أنْ يأتين بمثل علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ! فوالله ، ما كشفت ذيولهنّ عن مثله ، وقد شهدته يوم صفّين وعلى رأسه عمامة سوداء ، وعيناه كأنّهما سراجاً سليطاً يتوقّدان من تحتها ، وهو يقف على كلّ شِرْذِمة يحرّضهم على الحرب ، إذْ طلعت علينا خيل لمعاوية ، وهي عشرة آلاف دارع على عشرة آلاف أشهب ، فاقشعرّ النّاس

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٢٣.

٣٣

لـمّا رآوها ، وانحاز بعضهم إلى بعض. قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) : (( فيمَ الهلعُ والنَّخعُ يا أهل العراق ! هل هي إلّا أشخاصٌ ماثلة فيها قلوبٌ طائرة ، لو مسّتها سيوف أهل الحقِّ لتهافتت تهافت الفراش في النّار ، سفّتها الريح في يوم عاصف ، فادَّرعوا الصَّبر وغُضّوا الأصوات ، وقلقلوا الأسياف في الأغماد ، وصلوا السّيوف بالخُطا ، والرماح بالنّبال ؛ فإنّكم بعين الله ومع أخي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). وعليكم بهذا السّرادق الأدلم ، والرواق الـمُظلم ، فاضربوا ثبجه ؛ فإنّ الشيطان راقد في كسره ، نافج حضنيه ، مفترش ذراعيه ، قد قدّم للوثبة يداً ، وأخَّر للنكوص رجلاً. ألا إنّ خِضاب النّساء الحَنّاء ، وخضاب الرجال الدماء ، فصمداً صمداً حتّى ينجلي لكم عمود الحقِّ وأنتم الأعلَون ، فشِدّوا على اسم الله تعالى )). ثمّ حمل (عليه‌السلام ) وتبعته خويلة لم تبلغ المئة فارس ، وهو (عليه‌السلام ) يقول :

دبُّوا دَبيْبَ النَّملِ لا تفُوتُوا

وأصبِحُوا بحربِكُمْ وبيتُوا

حتّى تنالُوا الثأرَ أو تَموتُوا

أو لا فإنّي طالما عُصِيتُ

قال : فأجالها أبو الحسن جَوَلان الرّحا ، فارتفعت عجاجة منعتني النّظر ، فلم أرَ إلّا رأساً نادراً ويداً طائحة ، فما كان أسرع من أنْ ولّى أهل الشام مدبرين :( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) (١) . وإذا بأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يمسح العلق عن ذراعيه ، وسيفه ينطف دماً ، ووجهه كشقة القمر الطالع ، وهو يقول :( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) (٢) .

فلا سيْفَ إلّا ذُو الفقَارِ ولا فَتَى

سوى حيدرِ الكرْارِ مُردي القسَاورِ

فيا ليتَهُ لا غابَ عنْ يومِ كربَلاْ

فتلكَ لعَمْرُ اللهِ اُمُّ الكبائِرِ

____________________

(١) سورة المدّثر / ٥٠ - ٥١.

(٢) سورة التوبة / ١٢.

٣٤

إي والله ، يا ليته لا غاب عن يوم كربلاء ليرى عزيزه الحسين (عليه‌السلام ) ، وقد أحاط به ثلاثون ألفاً من أهل الكوفة ، وهو ينادي : (( هل منْ ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ هل منْ مُوحد يخاف الله فينا ؟ هل منْ مغيث يرجو الله في إغاثتنا ؟ هل منْ مُعين يرجو ما عند الله في إعانتنا ؟ )). فارتفعت أصوات النّساء بالعويل ، وحمل النّاس عليه عن يمينه وشماله ، فحمل على الذين عن يمينه فتفرّقوا ، ثمّ حمل على الذين عن يساره فتفرّقوا.

قال بعض الرواة : فوالله ، ما رأيت مكثوراً ( أي : مغلوباً ) قطْ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه ، أربط جأشاً ، ولا أمضى جناناً ، ولا أجرأ مقدماً منه. والله ، ما رأيت قبله ولا بعده مثله ؛ إنْ كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إنْ شدّ فيها الذئب. ولقد كان يحمل فيهم ، وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً ، فينهزمون من بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : (( لا حول ولا قوّة إلا بالله )). وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد ، وكلمّا حمل بفرسه على الفرات ، حملوا عليه بأجمعهم حتّى أجلوه عنه.

وعادَ ريحانَةُ الـمُختارِ مُنفرِداً

بينَ العِدى ما لَهُ حامٍ ولا عَضدُ

يكرُّ فيهِمْ بماضِيهِ فيهزمُهُمْ

وهُمْ ثلاثون ألفاً وهوَ مُنفَردُ

* * *

المجلس السّابع والخمسون بعد المئة

كان عمّار بن ياسر رضوان الله عليه من السّابقين الأوّلين ، هاجر الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وصلّى إلى القبلتين ، وشهد بدراً واليمامة وأبلى فيهما بلاءً حسناً. وكان هو واُمّه ممّن يُعذَّب في الله ، فأعطاهم عمّار

٣٥

ما أرادوا بلسانه ، فنزل فيه :( إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ ) (١) . وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) - كما رواه ابن حجر في الإصابة - : (( مَن عادى عمّاراً عاداه الله ، ومَن أبغض عمّاراً أبغضه الله )). قال : وتواترت الأحاديث عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّ عمّاراً تقتله الفئة الباغية)). وأجمعوا على أنّه قُتل مع علي (عليه‌السلام ) بصفّين.

وفي الإستيعاب : هذا من إخباره (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالغيب وإعلام نبوّته ، وهو من أصحّ الأحاديث. وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّ عمّاراً مُلئَ إيماناً إلى مشاشه(٢) )). ويُروى : (( إلى أخمص قدميه )). وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( عمّارٌ جلدةٌ ما بين عيني )). ورآه النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوم بناء المسجد يحمل لبنتين لبنتين ، وغيره لبنة لبنة ، فجعل ينفض التراب عنه ، ويقول : (( ويح عمّار ! يدعوهم إلى الجنّة ، ويدعونه إلى النّار )).

وقيل لحذيفة حين احتضر - وقد ذكر الفتنة - : إذا اختلف النّاس بمَن تأمرنا ؟ قال : عليكم بابن سُميّة - يعني : عمّاراً - ؛ فإنّه لنْ يفارق الحقّ حتّى يموت. وروى نصر بن مزاحم : أنّه لـمّا كانت وقعة صفّين ، ونظر عمّار إلى راية عمرو بن العاص ، قال : والله ، هذه الراية قد قاتلتها ثلاث عركات ، وما هذه بأرشدهن. ولـمّا كان يوم صفّين خرج عمّار إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، فقال : يا أخا رسول الله ، أتأذن لي في القتال ؟ فقال (عليه‌السلام ) : (( مهلاً ، رحمك الله )). فلمّا كان بعد ساعة ، أعاد عليه الكلام ، فأجابه بمثله ، فأعاده ثالثاً ، فبكى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، فنظر إليه عمّار ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّه اليوم الذي وصفه لي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ فنزل أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) عن بغلته ، وعانق عمّاراً وودّعه ، ثمّ قال : (( يا أبا القيظان ، جزاك الله عن الله وعن نبيك خيراً ، فنعمَ الأخُ كُنتْ ! ونعمَ الصاحبُ كُنتْ ! )). ثمّ بكى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) وبكى عمّار ، ثمّ ركب أمير المؤمنين (عليه‌السلام )

____________________

(١) سورة النّحَل / ١٠٦.

(٢) المشاش ، جمع مشاشة : وهي رأس العظم الممكن المضغ. - المؤلّف -

٣٦

وركب عمّار. ما أشبه حالة أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) حين استأذنه عمّار في المبارزة ، بحالة الحسين (عليه‌السلام ) حين استأذنه ولده علي الأكبر في المبارزة ؛ وكان علي من أصبح النّاس وجهاً وأحسنهم خلقاً ، وكان عمره تسع عشرة سنة ، فاستأذن أباه في القتال فأذن له ، ثمّ نظر إليه نظرة آيس منه، وأرخى عينيه فبكى ، ثمّ رفع سبابتيه نحو السّماء ، وقال (عليه‌السلام ) : (( اللهمّ ، كُنْ أنت الشهيد عليهم ، فقد برز إليهم غُلام أشبه النّاس خَلْقاً وخُلْقاً ومَنْطقاً بنبيّك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه. اللهمّ ، امنعهم بركات الأرض ، وفرِّقهم تفريقاً ومزِّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قِدداً ، ولا تُرضِ الولاةَ عنهم أبداً ؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ، ثمّ عدوا علينا يُقاتلوننا )).

قال : وبرز عمّار إلى القتال ، وكان قد جاوز التسعين ، وأنشأ يقول :

نحنُ ضربناكُمْ على تَنْزيلِهِ

فاليوم نضربكُمْ على تأويلِهِ

ضرباً يُزيلُ الهامَ عنْ مَقيلِهِ

ويُذهلُ الخليلَ عنْ خليلِهِ

أو يَرجِع الحقُّ إلى سبيلِهِ

ثمّ قال : والله ، لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا سعفات هَجَر ، لعلمنا أنّا على الحقِّ وأنّهم على الباطل. ثمّ قال : الجنّة تحت ظلال الأسنّة.

اليومَ ألقَى الأحبَّهْ

مُحمّداً ثُمّ حزْبَهْ(١)

واشتدّ به العطش فاستسقى ، فاُتي إليه بلبن فشربه ، ثمّ قال : هكذا عَهد إليّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنْ يكون آخر زادي من الدّنيا شربة من لبن. وحمل عليه ابن جون السكسكي ، وأبو العادية الفزاري ؛ فأمّا أبو العادية فطعنه ؛ وأمّا ابن جون فاحتزّ رأسه.

وكما حمل عمّار على النّاس وارتجز ، حمل علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) على النّاس ، وجعل يرتجز ويقول :

أنا عليُ بنُ الحُسينِ بنِ عليْ

نحنُ وبيتِ اللهِ أوْلَى بالنَّبيْ

____________________

(١) لم تردْ ( ثُمّ ) في أصل الرَّجَز ، وقد أضفناها ؛ لاستقامة الوزن. ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين )

٣٧

تاللهِ لا يحكُمُ فيْنا ابنُ الدَّعيْ

أضربُ بالسَّيفِ اُحامِي عنْ أبي

ضربَ غُلامٍ هاشِميٍّ عَلَوي

ولكن لـمّا اشتدّ العطش بعمّار رجع واستسقى فسُقي اللّبن ، ولـمّا اشتدّ العطش بعلي الأكبر رجع إلى أبيه ، وهو يقول : يا أبتِ ، العطش قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربةٍ من الماء سبيل ؟ فبكى الحسين (عليه‌السلام ) وقال : (( وآ غوثاه ! يا بُنَي ، من أين آتي لك بالماء ؟ قاتِل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً )). فجعل يكرّ كرّة بعد كرّة والأعداء يتّقون قتله ، فطعنه مُرّة بن منقذ فصرعه ، فنادى : يا أبتاه عليك السّلام ، هذا جدّي يُقرِئك السّلام ، ويقول لك : (( عجّل القدوم علينا )). واعتوره النّاس فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين (عليه‌السلام ) حتّى وقف عليه وقال : (( قتل الله قوماً قتلوك يا بُنَي ، ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول ! على الدّنيا بعدك العفا )).

وخرجت زينب بنت علي (عليهما‌السلام ) وهي تنادي : يا حبيباه ! ويابن أخاه ! فأكبّت عليه ، فجاء الحسين (عليه‌السلام ) فأخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط ، وأقبل بفتيانه ، وقال : (( احملوا أخاكم )). فحملوه من مصرعه حتّى وضعوه بين يدَي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.

يا كوكباً مَا كان أقصرَ عُمرَهُ

وكذا تكونُ كواكِبُ الأسْحارِ

جاورتُ أعْدائي وجاوَر ربَّهُ

شتّان بينَ جِوارِهِ وجِواري

ولـمّا قُتل عمّار صلّى عليه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ودفنه بثيابه ، وهو مقطوع الرأس ؛ وذلك لأنّ الشهيد يُدفن بثيابه ودمائه ، ولا تُنزع عنه ثيابه ولا يُغسّل ؛ ليخاصم مَن قتله بين يدي ربّه وهو كذلك.

أجل ، فمَن صلّى على شهيد كربلاء أبي عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) ، وهو مقطوع الرأس ، ودفَنه ؟ لمْ يُصلِّ عليه أحد ولم يدفنه ، بل تُرِك

٣٨

ثلاثاً على وجه الصعيد بغير دفن ، ولـمّا دُفن لمْ يُدفن بثيابه ، لماذا ؟ لأنّه لم يكن عليه ثياب ، بل كان عارياً ، قد سُلبت منه ثيابُه كلُّها حتّى الثوب الذي خرقه ووضعه تحت ثيابه ؛ لئلاّ يُسلب منه ، فلم يتركوه له ، وسلبوه إيّاه وتركوه عارياً :

للهِ مُلقىً علَى الرَّمضاءِ غصَّ بهِ

فَمُ الرَّدَى بين أقدامٍ وتشْمِيرِ

تحنُو عليهِ الرُّبى ظلاّ ًوتسْترُهُ

عنْ النَّواظرِ أذيالُ الأعاصِيرِ

تهابُهُ الوحشُ أنْ تدنُوا لمصرَعِهِ

وقدْ أقامَ ثلاثاً غيرَ مقْبُورِ

* * *

المجلس الثامن والخمسون بعد المئة

لـمّا كان يوم صفّين دفع علي (عليه‌السلام ) الراية إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص ، ويُسمّى : المرقال ؛ لأنّه كان يرقل بالراية إرقالاً. وكان عليه درعان ، وكان من خيار أصحاب أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) وشجعانهم ، وكان أعور ، فقال له علي (عليه‌السلام ) كالـمُمازح : (( أمَا تخشى أنْ تكون أعورَ جباناً ؟ )). قال : ستعلم يا أمير المؤمنين ، والله ، لألفنّ بين جماجم القوم لفّ رجل ينوي الآخرة. فأخذ رمحاً فهزّه فانكسر ، ثمّ أخذ آخر فوجده جاسياً فألقاه ، ثمّ أخذ رمحاً ليّناً فشدّ به اللواء وهزّه ، وقال :

أعْوَرُ يبْغي رُمْحهُ محَلاَّ

قَدْ عالجَ الحياةَ حتّى ملاَّ

لا بُدَّ أنْ يَغُلَّ أو يُغلاَّ

أشلُّهُمْ بذي الكُعوبِ شَلاَّ

معَ ابنِ عمِّ أحمدَ الـمُعلَّى

فيهِ الرَّسولُ بالهُدَى استَهلاَّ

أوّلُ مَنْ صَدَّقهُ وصلَّى

فجاهدَ الكُفّارَ حتّى أبلَى

٣٩

وجعل عمّار بن ياسر يتناوله بالرمح ، ويقول : اقدم يا أعور ، لا خيرَ في أعور لا يأتي الفزعْ.

وكان هاشم عالماً بالحرب ، فجعل عمرو بن العاص يقول : إنّي لأرى لصاحب الراية السّوداء عملاً ، لئن دام على هذا ، ليفنينّ العرب اليوم. وزحف هاشم بالراية ، واقتتل النّاس قتالاً شديداً لم يُسمع بمثله ، وجعل هاشم يقول :

أعْوَرُ يبْغي نفسَهُ خَلاصَا

مثلُ الفنِيقِ لابِساً دِلاصَا

قدْ جرَّبَ الحربَ ولا أناصَا

لا ديَّةً يخْشَى ولا قِصاصَا

كلُّ إمرئٍ وإنْ كبَا وحاصَا

ليسَ يرَى منْ مَوتِهِ مَناصَا

وقاتل هاشم وأصحابه قتالاً شديداً ، فحمل عليه الحارث التنوخي فطعنه فسقط ، وبعث إليه علي (عليه‌السلام ) : (( أنْ قدّم لواءَك )). فقال للرسول : انظر إلى بطني ، فإذا هو قد انشق. ومرّ عليه رجل وهو صريع ، فقال له : اقرأ أمير المؤمنين السّلام ، وقُل له : أنشدك بالله ، إلّا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى ؛ فإنّ الغلبة تكون لـمَن غلب على القتلى. فسار علي (عليه‌السلام ) في الليل حتّى جعل القتلى خلف ظهره ، وكانت له الغلبة عليهم.

ولـمّا قُتل هاشم ، جزع النّاس عليه جزعاً شديداً ، وقُتل معه جماعة من [ قبيلة ] أسلَم من القُرّاء ، فمرّ بهم علي (عليه‌السلام ) وهم قتلى ، فقال :

جزَى اللهُ خَيراً عُصبةً أسلميَّةً

صِباحَ الوجوهِ صُرِّعُوا حولَ هاشمِ

يزيدٌ وعبدُ اللهِ بشرٌ ومعْبدٌ

وسُفيانَ وابنا هاشمٍ ذي المكَارمِ

وعُرْوةُ لا يُبعَدْ ثَناهُ وذكْرُهُ

إذا اختَرطتْ يوماً خفافُ الصَّوارمِ

لله درّ هاشم المرقال ! ما أشد حبّه لأمير المؤمنين ، وأصدق ولاءه ! نصر أمير المؤمنين في حياته وعند مماته. ويُشبهه في ذلك من أنصار الحسين (عليه‌السلام ) مسلم بن عوسجة الأسدي ؛ فإنّه لـمّا صُرع وبقي به

٤٠