المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٣

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 202

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 202
المشاهدات: 49165
تحميل: 3988


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49165 / تحميل: 3988
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 3

مؤلف:
العربية

يوم صفّين ، وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب ، وتحرّضين على القتال ؟ قالت : نعم. قال: فما حملك على ذلك ؟ قالت : إنّه قد مات الرأس ، وبُتر الذنب ، والدّهر ذو غِيَر ، ومَن تفكّر أبصر ، والأمر يحدث بعده الأمر. فقال : صدقتِ ، فهل تحفظين ما قلتِ ؟ قالت : لا والله. قال : لله أبوك ! فلقد سمعتك تقولين : أيها النّاس ، إنّ المصباح لا يضيء في الشمس ، وإنّ الكواكب لا تُضيء مع القمر ، وإنّ البغل لا يسبق الفرس ، ولا يقطع الحديد إلّا الحديد. ألا مَن استرشد أرشدناه ، ومَن سألنا أخبرناه ، إنّ الحقّ كان يطلب ضالّة فأصابها ، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار ، فكأنّكم وقد التأم شمل الشتات ، وظهرت كلمة العدل ، وغلب الحقُّ باطله، فإنّه لا يستوي المحقُّ والمبطل.( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ) (١) . فالنّزال النّزال ! والصبر الصبر ! ألا وإنّ خضاب النّساء الحنّاء ، وخضاب الرجال الدماء ، والصبر خير الاُمور عاقبةً. ائتوا الحرب غير ناكصين ، فهذا يوم له ما بعده.

يا زرقاء ، أليس هذا قولك وتحريضك ؟ قالت : لقد كان ذلك. قال : لقد شاركت عليّاً في كلّ دم سفكه. فقالت : أحسن الله بشارتك ، مثلك مَن يُبشّر ويسرّ جليسه. فقال معاوية : وقد سرّك ذلك ؟! قالت : أي والله ، وأنّى لي بتصديقه ؟ فقال : والله ، لوفاؤكم لعلي بعد موته ، أعجب إليّ من حبكم له في حياته ، فاذكري حوائجك ، تُقضى. فقالت : إنّي آليت على نفسي أنْ لا أسأل أحداً بعد عليٍّ (عليه‌السلام ) حاجة ، ومثلك مَن أعطى من غير مسألة. قال : فأعطاها كسوةً ودراهم ، وأعادها إلى وطنها سالمةً مكرمة.

هكذا جرت عادة الملوك والاُمراء ، إنّهم إذا قدمت عليهم امرأة جليلة القدر ، يأمرون بإكرامها. أجل ، أيّ نساء أجلّ قدراً من بنات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ونساء ولده أبي عبدالله الحسين (عليه‌السلام ) ؟! وأيّ امرأة أجلّ قدراً ، وأرفع شأناً من زينب بنت أمير المؤمنين (عليهما‌السلام ) ؟! جدّها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، أبوها أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، اُمّها

_____________________

(١) سورة السّجدة / ١٨.

٦١

فاطمة الزهراء بنت محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، أخواها وشقيقاها الحسن والحسين (عليهما‌السلام ) ، مع ما لها من الفضل في نفسها. ومع ذلك فإنّ الدعي ابن الدعي ، عبيد الله بن زياد - لعنه الله - لمْ يُكرّمها بشيء ، بل أمر بإحضارها في مجلسه مع سائر عيالات أبي عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) ، وأسمعها أخشن الكلام وأسوأه ، فكان ممّا قاله لها : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت (عليها‌السلام ) : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا. فقال لها : كيف رأيت صنع الله بأخيك ، وأهل بيتك ؟ فقالت : ما رأيت إلّا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ، فانظر لـمَن الفلج يومئذ ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة!

فغضب ابن زياد واستشاط ، وكأنّه همّ بها ، فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها. فاراد ابن زياد ان يُحرق قلبها ، فقال لها : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين ، والعصاة الـمَرَدة. فرقّتْ زينب وبكتْ ، وقالت له : لَعمري ، لقد قتلتَ كهلي وأبرزتَ أهلي ، وقطعتَ فرعي واجتثثتَ أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت.

تُصانُ بنتُ الدَّعيِّ في كللِ الـمُلْـ

ـكِ وبنتُ الرَّسولِ تُبتَذلُ

يُرجى رضَى الـمُصطَفَى فواعجباً

تُقتَلُ أولادُهُ ويحتَملُ

* * *

المجلس السّادس والستّون بعد المئة

في العقد الفريد ، وبلاغات النّساء ، قال : حبس مروان ، وهو والي المدينة ، غلاماً في جناية، فأتته اُمّ سنان بنت خيثمة المذحجيّة ، جدّة الغلام :

٦٢

اُمّ أبيه ، فكلّمته فيه ، فأغلظ لها ، فخرجت إلى معاوية ، فدخلت عليه فعرفها ، فقال لها : مرحباً يابنة خيثمة ، ما أقدمك أرضنا ، وقد عهدتك تشتميننا ، وتحضّين علينا عدونا ؟! قالت : إنّ لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرةً ، وأحلاماً وافرةً ، لا يجهلون بعد علم ، ولا يسفهون بعد حلم ، ولا ينتقمون بعد عفو ، وإنّ أولى النّاس باتّباع ما سَنّ آباؤه لأنت. قال : صدقت ، فكيف قولك:

عَزَب الرُّقادُ فمقْلَتي لا تَرقدُ

والليلُ يُصدِرُ بالهُمومِ ويُوردُ

يا آلَ مَذْحجَ لا مُقامَ فشَمِّروا

إنّ العدوَّ لآلِ أحمدَ يَ-قصدُ

هذا عليٌّ كالهِلالِ تَحُفُّهُ

وسطَ السَّماءِ منَ الكواكبِ أسعدُ

خيرُ الخلائقِ وابنُ عمِّ محمّدٍ

إنْ يهدكُمْ بالنُّورِ منهُ تَهتَدُوا

ما زالَ مُذْ عرفَ الحُروبَ مُظَفَّراً

والنَّصرُ فوقَ لِوائِهِ ما يُفْقَدُ

قالت : كان ذلك ، وأرجو أنْ تكون لنا خَلفاً. فقال رجل من جلسائه : كيف ، وهي القائلة:

إمَّا هلكتَ أبا الحُسينِ فلَمْ تَزلْ

بالحقِّ تُعْرَفُ هادياً مهْدِيّا

فاذهَبْ عليك صلاةُ ربِّكَ ما دَعَتْ

فوقَ الغُصونِ حمامةٌ قُمْريّا

قدْ كُنتَ بعدَ مُحمّدٍ خَلَفاً كما

أوصَى إليكَ بنا فكُنتَ وفيّا

فاليوم لا خلفاً نُؤمِّلُ بعدَهُ

هيهات نمدحُ بعدَهُ إنسيّا

قالت : لسان نطق وقول صدق ، ولئن تحقق ما ظننّا ، فحظّك الأوفر. والله ، ما ورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلّا هؤلاء ، فادحض مقالتهم وأبعد منزلتهم ؛ فإنّك إنْ فعلت ذلك ، تزدد من الله قُرباً ، ومن المؤمنين حبّاً. قال : وإنّكِ لتقولين ذلك ؟! قالت : سبحان الله ! والله ، ما مثلك مُدح بباطل ، ولا اعتُذر إليه بكذب ، وإنّك لتعلم ذلك من رأينا. كان والله ، عليٌّ أحبّ إلينا منك ، وأنت أحبّ إلينا من غيرك. قال : فما حاجتك ؟ قالت : إنّ مروان

٦٣

تبنَّك بالمدينة تبنُّك مَن لا يُريد منها البراح ؛ لا يحكم بعدل ، ولا يقضي بسُنّة ، حبس ابن ابني فأتيته ، فقال : كيت وكيت ، فأسمعته أخشن من الحجر ، وألقمته أمرّ من الصّاب ، ثمّ رجعت إلى نفسي باللائمة ، وقلت : لمَ لا أصرف ذلك إلى مَن هو أولى بالعفو منه ، فأتيتك. قال : صدقتِ ، لا أسألك عن ذنبه ، والقيام بحجّته ، اكتبوا لها بإطلاقه. قالت : يا أمير المؤمنين ، وأنّى لي بالرجعة ، وقد نفد زادي وكلّت راحلتي ؟! فأمر لها براحلة ، وخمسة آلاف درهم.

وولده يزيد ، لـمّا قَدمت عليه نساء الحسين (عليه‌السلام ) ، كان إكرامه لهنّ أنْ التفت إلى سكينة بنت الحسين (عليه‌السلام ) ، وقال لها : كيف رأيت صنع الله بكم ؟ قالت له : اقصر عن كلامك يا بن الطليق ، حرمُك وجوارك خلف السّتور ، وبنات رسول الله سبايا ! ثمّ التفت إلى اُمّ كلثوم ، وقال : كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين ، الذي أراد أن يأخذ مُلكي ، فخيّب الله أمله وقطع رجاه ؟ فقالت : يا يزيد ، لا تفرح بقتل أخي الحسين ؛ فإنّه كان مطيعاً لله ولرسوله ، ودعاه الله إليه فأجابه ؛ وأمّا أنت يا يزيد ، فاستعدَّ للمسألة جواباً ، وأنّى لك بالجواب ؟!

فويلُ يزيدٍ منْ عذابِ جهنَّمِ

إذا أقبلَتْ في الحشرِ فاطمةُ الطّهرُ

ملابِسُها ثوبٌ منَ السُّمِ أخضرُ

وآخرُ قانٍ منْ دمِ السِّبطِ مُحمَرُ

المجلس السّابع والستّون بعد المئة

* * *

في العقد الفريد : دخلت عكرشة بنت الأطرش على معاوية متوكّئة على عكّاز ، فسلّمت عليه بالخلافة ، ثمّ جلست ، فقال معاوية : الآن صرتُ

٦٤

عندكِ أمير المؤمنين ! قالت : نعم ، إذ لا عليٌّ حيٌّ. قال : ألستِ المتقلّدة حمائل السّيوف بصفّين ، وأنت واقفة بين الصفّين تقولين : أيها النّاس ، عليكم أنفسكم ، لا يضرّكم مَن ضلَّ إذا اهتديتم. إنّ الجنّة لا يرحل مَن أوطنها ، ولا يهرم مَن سكنها ، ولا يموت مَن دخلها ، فابتاعوها بدارٍ لا يدوم نعيمُها ، ولا تنصرم همومُها ، وكونوا قوماً مستبصرين في دينهم ، مستظهرين بالصبر على طلب حقّهم.

إنّ معاوية دَلف إليكم بعجم العرب ، غُلف القلوب ، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة ؛ دعاهم بالدّنيا فأجابوه ، واستدعاهم إلى الباطل فلبّوه. فالله الله عباد الله في دين الله ! إيّاكم والتواكل ؛ فإنّ ذلك ينقض عُرى الإسلام ، ويُطفئ نور الحقّ. هذه بدر الصغرى ، والعقبة الاُخرى يا معشر المهاجرين والأنصار ، امضوا على بصيرتكم ، واصبروا على عزيمتكم ، فكأنّي بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام كالحُمُر الناهقة [ تصقع صقع البقر ، وتروث روث العتاق ]. فكأني أراكِ على عصاك هذه ، وقد انكفأ عليك العسكران يقولون : هذه عكرشة بنت الأطرش، فإنْ كدتِ لتقتلين أهل الشام ، لولا قدّر الله ، وكان أمر الله قدَراً مقدوراً. فما حملك على ذلك ؟

قالت : إنّ اللبيب إذا كره أمراً لا يُحب إعادته. قال : صدقت ، اذكري حاجتك. قالت : إنّها كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فتُردّ على فقرائنا ، وإنّا قد فقدنا ذلك ؛ فما يجير لنا كسير ، ولا ينعش لنا فقير ، فإنْ كان ذلك عن رأيك ، فمثلك تنبّه عن الغفلة وراجع التوبة ، وإنْ كان عن غير رأيك ، فما مثلك استعان بالخَوَنة ولا استعمل الظَّلَمة. قال : يا هذه ، إنّه ينوبنا من اُمور رعيتنا اُمور. قالت : يا سبحان الله ! والله ، ما فرض الله لنا حقّاً ، فجعل فيه ضرراً على غيرنا ، وهو علاّم الغيوب. قال معاوية : يا أهل العراق ، نبّهكم علي بن أبي طالب فلم تُطاقوا. ثمّ أمر بردّ صدقاتهم فيهم ، وأنصفها.

وهكذا جرت عادة

٦٥

الملوك والحكّام - وإنْ كانوا من الظلمة - في الإحسان إلى النّساء ، وإنْ كُنّ من أعدى الأعداء ، حتّى آل الأمر إلى يزيد بن معاوية ، وعامله عبيد الله بن زياد ، فلم يجريا على ما يوجبه الدّين الإسلامي من إكرام نساء آل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ولا على ما تقتضيه الشيمة العربيّة حتّى قابلوا بنات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بما تقشعرّ منه الجلود ، وينفطر منه قلب كلّ مسلم.

فمن ذلك ، قول عبيد الله بن زياد لزينب بنت أمير المؤمنين (عليهما‌السلام ) : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا.

ومن ذلك ، قول يزيد لسكينة بنت الحسين (عليه‌السلام ) : كيف رأيت صنع الله بكم ؟ قالت له : اقصر عن كلامك يا بن الطليق ، حرمُك وجوارك خلف الستور ، وبنات رسول الله سبايا ! ثمّ التفت إلى اُمّ كلثوم ، وقال : كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين ، الذي أراد أن يأخذ مُلكي ، فخيّب الله أمله وقطع رجاه ؟ فقالت : يا يزيد ، لا تفرح بقتل أخي الحسين ؛ فإنّه كان مطيعاً لله ولرسوله ، ودعاه الله إليه فأجابه ؛ وأمّا أنت يا يزيد ، فاستعدَّ للمسألة جواباً ، وأنّى لك بالجواب؟!

وأعظمُ ما يُشجي الغيورَ دخولُها

إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ والخمْرا

يقارضُها فيهِ يزيدُ مَسبَّةً

ويَصرفُ عنها وجهَهُ مُعرضاً كِبرا

* * *

المجلس الثامن والستّون بعد المئة

في العقد الفريد : حجّ معاوية ، فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحُجون ، يقال لها: دارميّة الحجونيّة ، وكانت سوداء كثيرة اللحم.

٦٦

فاُخبر بسلامتها ، فبعث إليها فجيء بها ، فقال : ما جاء بك يابنة حام ؟ فقالت : لستُ لحامٍ إنْ عبتني ؛ أنا امرأة من بني كنانة. قال : صدقت ، أتدرين لمَ بعثت إليك ؟ قالت : لا يعلم الغيب إلّا الله. قال : بعثت إليك لأسألك : عَلامَ أحببتِ عليّاً وأبغضتني ؟ وواليته وعاديتني؟ قالت : أوَتعفيني ؟ قال : لا أعفيك. قالت : أمّا إذا أبيت ، فإنّي أحببتُ عليّاً على عدله في الرعيّة ، وقسمه بالسويّة ، وأبغضتك على قتال مَن هو أولى منك بالأمر ، وطلبتك ما ليس لك بحقّ. وواليتُ عليّاً على ما عقد له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من الولاء ، وحبّه المساكين ، وإعظامه لأهل الدين ، وعاديتك على سفك الدماء ، وجورك في القضاء ، وحكمك في الهوى.

قال : فلذلك انتفخ بطنك ، وعظم ثدياك ، وربت عجيزتك. قالت : يا هذا ، بهند والله ، كان يُضرب المثل في ذلك لا بي. قال معاوية : يا هذه ، أربعي فإنّا لم نقلْ إلّا خيراً ، إنّه إذا انتفخ بطن المرأة تمّ خلق ولدها ، وإذا عظم ثدياها تروّى رضيعها ، وإذا عظمت عجيزتها رَزن مجلسها. فرجعت وسكتت.

[ ثم ] قال لها : يا هذه ، هل رأيت عليّاً ؟ قالت : إي والله. قال : فكيف رأيته ؟ قالت : رأيته والله ، لم يفتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النّعمة التي شغلتك. قال : فهل سمعت كلامه؟ قالت : نعم والله ، فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيتُ صدأ الطست. قال : صدقت، فهل لك من حاجة ؟ قالت : أوَتفعل إذا سألتك ؟ قال : نعم. قالت : تعطيني مئة ناقة حمراء ، فيها فحلها وراعيها. قال : تصنعين بها ماذا ؟ قالت : أغذو بألبانها الصغار واستحيي بها الكبار ، واكتسب بها المكارم وأصلح بها بين العشائر. قال : فإنْ أعطيتك ذلك ، فهل أحلُّ عندكِ محلَّ علي بن أبي طالب ؟ قالت : سبحان الله ! أوَ دونه ؟! فأنشأ معاوية يقول:

إذا لمْ أعدْ بالحلمِّ مني عليكُمُ

فمَنْ ذا الذي بعدي يُؤمَّلُ للحلمِ

خُذِيها هَنيئاً واذكُرِي فِعلَ ماجدٍ

جزاكِ على حربِ العداوةِ بالسّلمِ

٦٧

ثمّ قال : أما والله ، لو كان عليٌّ حيّاً ما أعطاك منها شيئاً. قالت : لا والله ، ولا وبرة من مال المسلمين.

وحِلْم ولده يزيد - لعنه الله - على بنات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، أنْ أمر بهنّ فحُملن إليه من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشام ، سبايا على أقتاب المطايا ، كأنّهنّ من سبايا الروم ! وهنّ حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. ثمّ أمر بهنّ فاُدخلن إلى مجلسه على حالة تنفجّر لها العيون ، وتتصدّع لها القلوب ، وهم مُقرَّنون في الحبال ، وزين العابدين (عليه‌السلام ) مغلول. فلمّا وقفوا بين يديه ، وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (عليه‌السلام ) : (( أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لو رآنا على هذه الصفة ؟ )). فلم يبق في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغلّ عن زين العابدين (عليه‌السلام ) :

أبناتُ النّبيِّ تُهدَى سبايا

لبني الأدْعِيا تُقاسي جفاهَا

لابنِ مرجانةَ الدَّعيِّ وطَوراً

لابنِ هندٍ تُهدى بذلِّ سباهَا

* * *

المجلس التاسع والستّون بعد المئة

في العقد الفريد ، عن الشعبي قال : كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أنْ يحمل إليه اُمّ الخير بنت الحريش بن سراقة البارقية ، وأعلمه أنّه مجازيه بالخير خيراً ، وبالشرِّ شرّاً بقولها فيه. فركب إليها وأقرأها الكتاب ، فقالت : أمّا أنا فغير زائغة عن طاعة ، ولا معتلّة بكذب ، ولقد كنت اُحبّ لقاءه لاُمورٍ تختلج في صدري ، فلمّا شيّعها وأراد مفارقتها ، قال لها : يا اُمّ الخير ، إنّ معاوية كتب إليّ أنّه مجازيني بالخير خيراً ، وبالشرّ شراً ، فمالي

٦٨

عندَكِ ؟ قالت : يا هذا ، لا يُطمعك برّك بي أنْ أسرّك بباطل ، ولا تؤيسك معرفتي بك أنْ أقول فيك غير الحقّ.

فسارت خير مسير حتّى قدمت على معاوية ، فأنزلها مع حرمه ثلاثاً ، ثمّ أدخلها عليه في اليوم الرابع ، وعنده جلساؤه ، فسلّمت عليه بالخلافة ، فقال : وعليك السّلام يا اُمّ الخير. بحقٍّ ما دعوتني بهذا الاسم ؟ قالت : لكل أجلٍ كتاب. قال : صدقت ، فكيف حالك يا خالة ؟ وكيف كنت في مسيرك ؟ قالت : لم أزل في خير وعافية حتّى صرتُ إليك ، فأنا في مجلس أنيق ، عند ملك رفيق. قال معاوية : بحسن نيّتي ظفرت بكم ؟ قالت : يعيذك الله من دحض المقال وما تؤدّي عاقبته. قال : ليس هذا أردنا ، أخبرينا كيف كان كلامك إذ قُتل عمّار بن ياسر ؟ قالت: لم أكنْ زوّرته قبلُ ولا رويته بعدُ ، وإنّما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة ، فإنْ أحببت أنْ أحدث لك مقالاً غير ذلك فعلت. فالتفت معاوية إلى جلسائه ، فقال : أيّكم يحفظ كلامها ؟ فقال رجل منهم : أنا أحفظ بعض كلامها. قال : هات. قال : كأنّي بها بين بردين كثيفي النسيج ، وهي على جمل أرمك(١) ، بيدها سوط منتشر الظفيرة ، وهي كالفحل يهدر في شقشقته ، تقول :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) (٢) . إنّ الله أوضح لكم الحقّ ، وأبان الدليل وبيّن السبيل ، ولم يدعكم في عمياء مدلهمّة ، فأين تريدون رحمكم الله ؟ أفراراً عن أمير المؤمنين ؟ أمْ فراراً من الزحف ؟ أمْ رغبة عن الإسلام ؟ أمْ ارتداداً عن الحقّ ؟ أمَا سمعتم الله جلّ ثناؤه ، يقول :( وَ لَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّى‏ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَ الصّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ ) (٣) .

ثمّ رفعت رأسها إلى السّماء ، وهي تقول : اللهمّ ، قد عيل الصبر ، وضعف اليقين ، وانتشرت الرغبة ، وبيدك يا ربّ أزمّة القلوب ، فاجمع اللهمّ ، بها الكلمة على التّقوى ، وألّف القلوب على الهدى ، واردد الحقّ إلى أهله. هلّموا - رحمكم الله - إلى الإمام العادل ، والرضي التّقي ، والصدّيق الأكبر ؛ إنّها

____________________

(١) الأرمك : الرمادي اللون.

(٢) سورة الحجّ / ١.

(٣) سورة محمّد / ٣١.

٦٩

إحنٌ بدرية ، وأحقاد جاهليّة ، وثب بها واثبٌ حين الغفلة ، ليدرك ثارات بني عبد شمس.

ثمّ قالت :( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) (١) . صبراً يا معشر المهاجرين والأنصار ، قاتلوا على بصيرة من ربّكم ، وثبات من دينكم ، فكأنّي بكم غداً ، وقد لقيتم أهل الشام كحُمرٍ مستنفرةٍ فرّت من قسورة ، لا تدري أين يُسلك بها من فجاج الأرض ، باعوا الآخرة بالدّنيا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وعمّا قليل ليصبحنّ نادمين حين تحلّ بهم النّدامة، فيطلبون الإقالة ، ولات حين مناص.

إنّه مَن ضلّ - والله - عن الحقّ وقع في الباطل ، ألَا إنّ أولياء الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها ، واستطابوا الآخرة فسمَوا لها ، فالله الله أيها النّاس ، قبل أنْ تُبطل الحقوق ، وتُعطّل الحدود ، وتقوى كلمة الشيطان ، فإلى أين تريدون - رحمكم الله - عن ابن عمّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وصهره ، وأبي سبطيه ؟ خُلق من طينته ، وتفرّع عن نبعته ، وجعله باب دينه ، وأبان ببغضه المنافقين ، وها هو ذا مفلّق الهام ومكسّر الأصنام. صلّى والنّاس مشركون ، وأطاع والنّاس كارهون ، فلم يزل في ذلك حتّى قتل مبارزيه ، وأفنى أهل اُحد ، وهزم الأحزاب ، وقتل الله به أهل خيبر ، فيالها من وقائع زرعت في القلوب نفاقاً وردّة وشقاقاً ، وزادت المؤمنين إيماناً ! قد اجتهدتُ في القول وبالغت في النّصيحة ، وبالله التوفيق ، والسّلام عليكم ورحمة الله.

فقال معاوية : يا اُمّ الخير ، ما أردت بهذا الكلام إلّا قتلي ، ولو قتلتكِ ما حُرجت في ذلك. قالت : والله ، ما يسؤني أنْ يجري قتلي على يدي مَن يُسعدني الله بشقائه. قال : هيهات يا كثيرة الفضول ! ما تقولين في عثمان ؟ قالت : وما عسيت أنْ أقول فيه ! استخلفه النّاس وهم به راضون ، وقتلوه وهم له كارهون. قال : هذا ثناؤك الذي تثنين ؟ ثمّ سألها عن الزّبير ، فأجابته ، ثمّ قالت : أسألك بحقّ الله أنْ تعفيني من هذه المسائل ، وتسألني عمّا شئت من غيرها. فأعفاها، وأمر لها

____________________

(١) سورة التوبة / ١٢.

٧٠

بجائزة رفيعة ، ورّدها مُكرّمة.

وابن زياد ، لـمّا اُدخلت عليه حوراء النّساء ، زينب بنت أمير المؤمنين (عليهما‌السلام ) ، لم يعفها من مخاطبته ، فإنّها لـمّا جلست متنكّرة ، وعليها أرذل ثيابها ، قال ابن زياد : مَن هذه ؟ فلمْ تجبه ، فأعاد القول ثانياً ، وثالثاً يسأل عنها ، فلمْ تجبه ، فقال له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فأقبل عليها ابن زياد ، فقال : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت (عليها‌السلام ) : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا. فقال لها : كيف رأيت صنع الله بأخيك ، وأهل بيتك ؟ فقالت : ما رأيت إلّا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ، فانظر لـمَن الفلج يومئذ ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة !

فاستشاط اللعين غضباً ، وكأنّه همّ بها ، فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها. فقال ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين ، والعصاة الـمَرَدة من أهل بيتك. فرقّتْ زينب وبكتْ ، وقالت له : لَعمري ، لقد قتلتَ كهلي وأبرزتَ أهلي، وقطعتَ فرعي واجتثثتَ أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت.

أبنتُ رسولِ اللهِ تُهدَى سبيّةً

لنغلِ زيادِ الرّجسْ أعظِمْ بهِ خطبَا

* * *

المجلس السّبعون بعد المئة

في العقد الفريد ، بسنده : إنّ أروى بنت الحارث بن عبد المطلب

٧١

دخلت على معاوية ، وهي عجوز كبيرة ، فلمّا رآها معاوية ، قال : مرحباً بك وأهلاً يا خالة ، فكيف كنت بعدنا ؟ فقالت يابن أخي ، لقد كفرتَ يد النعمة ، وأسأت لابن عمّك الصُحبة ، وتسمّيت بغير اسمك ، وأخذت غير حقّك ، من غير دين كان منك ولا من آبائك ، ولا سابقة في الإسلام بعد أنْ كفرتم برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فأتعس الله منكم الجدود ، وأضرع منكم الخدود ، وردّ الحقّ إلى أهله ولو كره المشركون.

وكانت كلمتنا هي العليا ، ونبيّنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) هو المنصور ، فوليتم علينا من بعده ، وتحتجّون بقرابتكم من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر ، فكنّا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، وكان علي (عليه‌السلام ) بعد نبيّنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بمنزلة هارون من موسى ، فغايتنا الجنّة ، وغايتكم النّار.

فقال لها عمرو بن العاص : كُفّي أيتها العجوز الضالّة ، واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك، إذ لا تجوز شهادتك وحدك. فقالت له : وأنت يابن النّابغة ، تتكلم واُمّك كانت أشهر امرأة تُغنّي بمكّة ، وآخذهنّ لاُجرة ! إدعاك خمسةُ نفرٍ من قريش ، فسُئلت اُمّك عنهم ، فقالت : كلّهم أتاني ، فانظروا أشبههم به. فألحقوه به ، فغَلب عليك شبه العاص بن وائل ، فلحقت به.

فقال مروان : كُفّي أيتها العجوز ، واقصري لما جئت له. فقالت : وأنت أيضاً يابن الزرقاء ، تتكلم ! ثمّ التفتت إلى معاوية ، فقالت : والله ، ما جرّأ عليّ هؤلاء غيرك ، فإنّ اُمّك القائلة في قتل حمزة :

نحنُ جزيْناكُمْ بيَومِ بدْرِ

والحرْبُ بعدَ الحرْبِ ذاتَ سَعْرِ

ما كانَ عنْ عُتبةَ ليْ مِنْ صبْرِ

وشُكْر وحشيٍّ عليَّ دَهْري

حتى ترمَّ أعظُمِي في قبري

فأجابتها بنت عمّي ، وهي تقول :

٧٢

خُزِيتِ في بدرٍ وبعدَ بدرِ

يابنةَ جبَّارٍ عظيمِ الكُفرِ

فقال معاوية : عفا الله عمّا سلف يا خالة ، هاتِ حاجتك. قالت : ما لي إليك حاجة. وخرجت عنه.

هذه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب ، حرّكتها الغيرة الهاشميّة ، وهي امرأة ، فقابلت معاوية وعمراً ومروان ، بما قابلتهم به. كما حرّكت الغيرة الهاشميّة زينب بنت أمير المؤمنين (عليهما‌السلام ) ، لـمّا وضع رأس أخيها الحسين (عليه‌السلام ) بين يدي يزيد بن معاوية ، وجعل ينكثه بقضيب الخيزران ، وهو يقول :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا

جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ

لأهلّوا واسْتهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

قدْ قتلْنا القَرمَ منْ ساداتِهمْ

وعدلْناهُ ببدْرٍ فاعتَدَلْ

لعبتْ هاشمُ بالـمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزلْ

لستُ من خِندفَ إنْ لم أنتقمْ

مِن بني أحمدَ ما كانَ فعلْ

فقامت زينب بنت أمير المؤمنين عليها وعلى أبيها السّلام ، وخطبت تلك الخطبة العظيمة المشهورة ، إلى أنْ قالت في آخر خطبتها : تهتف بأشياخك ، زعمت أنّك تناديهم ، فلتردنّ وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنّك شُللت وبُكمت ، ولم تكن قلتَ ما قُلتْ ، وفعلتَ ما فعلت. ثمّ قالت (عليها‌السلام ) : اللهمّ ، خذ لنا بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا. فوالله ، ما فريت إلّا جلدك ، وما حززت إلّا لحمك ، ولتردنّ على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيّته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، ويأخذ لهم بحقِّهم :( وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

فقال يزيد متشمّتاً بها :

________________

(١) سورة آل عمران / ١٦٩.

٧٣

يا صيْحةً تُحمْدُ منْ صوائحِ

ما أهونَ النَّوحِ على النَّوائحِ

* * *

المجلس الحادي والسّبعون بعد المئة

عن رجل من بني اُميّة قال : حضرت معاوية يوماً وقد أذن للناس إذناً عامّاً ، فدخلوا عليه لمطالبهم وحوائجهم ، فدخلت عليه امرأة من بني ذكوان كأنّها قلعة ، ومعها جاريتان لها ، ثمّ قالت : الحمد لله - يا معاوية - الذي خلق اللّسان فجعل فيه البيان ، ودلّ به على النِّعم ، وأجرى به القلم فيما أبرم وحتم ، وذرأ وبرأ ، وحكم وقضى ، وصرف الكلام باللّغات المختلفة على المعاني المتفرقّة ، ألّفها بالتقديم والتأخير ، والأشباه والمناكر ، والموافقة والتزايد ؛ فأدّته الآذان إلى القلوب ، وأدّته القلوب إلى الألسن بالبيان.

استدلّ به على العلم ، وعُبد به الربّ ، واُبرم به الأمر ، وعُرفت به الأقدار ، وتمّت به النِّعم ، وكان من قضاء الله وقدره أنْ قرّبتَ زياد ، وجعلت له بين آل أبي سفيان نسباً ، ثمّ ولّيته أحكام العباد ؛ يسفك الدماء بغير حلّها ولا حقّها ، ويهتك الحرم بلا مراقبة الله فيها ؛ خؤون غشوم ، كافر ظلوم ، يتخيّر من المعاصي أعظمها ، ولا يرى لله وقاراً ، ولا يظنّ أنّ له معاداً ، وغداً يُعرض عمله في صحيفتك ، وتُوقف على ما اجترم بين يدي ربّك ، ولك برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) اُسوة ، وبينك وبينه صهر ، فلا الماضين من أئمة الهدى اتبعت ، ولا طريقتهم سلكت ؛ جعلت عبد ثقيف على رقاب اُمّة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يدبر اُمورهم ، ويسفك دماءهم ، فماذا تقول لربّك يا معاوية ، وقد مضى من أجلك أكثره ، وذهب خيره وبقي وِزره ؟!

إنّي امرأة من بني ذكوان ، وثب زياد الـمُدَّعى إلى أبي سفيان على ضيعتي التي ورثتها عن أبي

٧٤

واُمّي ، فغصبنيها وحال بيني وبينها ، وقتل مَن نازعه فيها من رجالي ، فأتيتك مستصرخة ، فإنْ أنصفت وعدلت ، وإلّا وكلتك أنت وزياد إلى الله عزوجل ، فلنْ تبطل ظلامتي عندك ولا عنده ، والمُنصف لي منكما حكم عدل.

فبُهت معاوية ، ينظر إليها متعجباً من كلامها ، ثمّ قال : ما لزياد ! لعن الله زياداً ؛ فإنّه لا يزال يبعث على مثالبه مَن ينشرها ، وعلى مساويه من يُثيرها. ثمّ أمر كاتبه بالكتاب إلى زياد ، يأمره بالخروج إليها من حقِّها ، وإلّا صرفه مذموماً مدحوراً ، ثمّ أمر لها بعشرين ألف درهم. وعجب معاوية ، وجميع مَن حضره من مقالتها ، وبلوغها حاجتها.

هكذا جرت سيرة الملوك والاُمراء في الحلم عن النّساء والضعفاء ، والإحسان إليهنّ في الجاهليّة والإسلام ، حتّى آل الأمر إلى ابن زياد ، واُدخلت عليه حوراء النّساء زينب ، فأقبل إليها ، وقال: الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت (عليها‌السلام ) : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا. فقال لها : كيف رأيت فعل الله بأخيك ، وأهل بيتك ؟ فقالت : ما رأيت إلّا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ، فانظر لمَن الفلج يومئذ ، هبلتك اُمّك يابن مرجانة !

فغضب ابن زياد واستشاط ، وكأنّه همّ بها ، فقال له عمرو بن حريث : أيها الأمير ، إنّها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ، ولا تُذم على خطئها. فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين ، والعصاة الـمَرَدة من أهل بيتك. فرقّتْ زينب وبكتْ ، وقالت له: لَعمري ، لقد قتلتَ كهلي وأبرزتَ أهلي ، وقطعتَ فرعي واجتثثتَ أصلي ، فإنْ كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت. فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولَعمري ، لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت: ما

٧٥

للمرأة والسّجاعة ؟! إنّ لي عن السّجاعة لشغلاً ، ولكنّ صدري نفث بما قلت :

تُصانُ بنتُ الدَّعيِّ في كللِ الـمُلْـ

ـكِ وبنتُ الرَّسولِ تُبتَذلُ

يُرجى رضَى الـمُصطَفَى فواعجباً

تُقتَلُ أولادُهُ ويحتَملُ

* * *

المجلس الثاني والسّبعون بعد المئة

في المحاسن والمساوئ للبيهقي ، قيل : لـمّا بلغ غانمة بنت غانم سبُّ معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم ، قالت لأهل مكّة : أيها النّاس ، إنّ بني هاشم أطول النّاس باعاً ، وأمجد النّاس أصلاً، وأحلم النّاس حلماً ، وأكثر النّاس عطاءً ، منّا عبد مناف الذي يقول فيه الشاعر :

كانتْ قُريشٌ بيْضةً فتَفلَّقتْ

فالـمُحّ(١) خالصه لعبدِ مُنافِ

وولده هاشم الذي هَشم الثريد لقومه ، وفيه يقول الشاعر :

هَشَمَ الثّريدَ لقومِهِ وأجارَهُمْ

ورجالُ مكّةَ مُسنتونَ عِجافُ

ثمّ منّا عبد المطلب الذي سُقينا به الغيث ، وفيه يقول الشاعر :

ونحنُ سنيَّ الـمَحْلِ قامَ شَفِيعُنا

بمكّةَ يدعُو والمياهُ تغُورُ

ومنّا أبو طالب عظيم قريش وسيّدها ، وفيه يقول الشاعر :

وأتيتُهُ مَلِكاً فقامَ بحاجَتي

وترَى العُلَيِّجَ خائباً مذْموماً

ومنّا العبّاس بن عبد المطلب ، أردفه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فأعطاه ماله ، وفيه يقول الشاعر :

________________

(١) الـمُح ، بالميم المضمومة والحاء المهملة : صفرة البيض. - المؤلّف -

٧٦

رديفُ رسولِ اللهِ لمْ أرَ مثلَهُ

ولا مثلُهُ حتّى القيامةِ يُوجد(١)

ومنّا حمزة سيّد الشهداء ، وفيه يقول الشاعر :

أبا يَعْلَى لكَ الأركانُ هُدّتْ

وأنتَ الماجدُ البرُّ الوَصولُ

ومنّا جعفر ذو الجناحين ، أحسن النّاس حسناً ، وأكملهم كمالاً ، ليس بغدّار ولا ختّار ، بدّله الله جلّ وعزّ بكل يدٍ له جناحاً يطير به في الجنة ، وفيه يقول الشاعر :

هاتُوا كجعْفَرِنا ومثلِ عليِّنا

أليسا أعزَّ النّاسِ عندَ الخلائقِ(٢)

ومنّا أبو الحسن علي بن أبي طالب ، أفرس بني هاشم ، وأكرم من احتفى وانتعل بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ومن فضائله ما قصر عنكم أنباؤها ، وفيه يقول الشاعر :

وهذا عليٌّ سيّدُ النّاسِ فاتَّقُوا

عليّاً بإسلامٍ تقدَّمَ منْ قبلُ

ومنّا الحسن بن علي ، سبط رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وسيّد شباب أهل الجنة ، وفيه يقول الشاعر:

ومَنْ يكُ جدُّهُ حقّاً نبيّاً

فإنّ لهُ الفضيلةَ في الأنامِ

ومنّا الحسين بن علي ، حمله جبرائيل (عليه‌السلام ) على عاتقه ، وكفى بذلك فخراً ، وفيه يقول الشاعر :

نفَى عنهُ عيبَ الآدميينَ ربُّهُ

ومِنْ مجدِهِ مجدُ الحُسينِ الـمُطهَّرِ

ثمّ قالت : يا معشر قريش ، والله ، ما معاوية بأمير المؤمنين ، ولا هو كما يزعم ، هو والله ، شانئ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، إنّي آتية معاوية وقائلة له بما يعرق منه جبينُه ، ويكثر منه عويلُه.

فكتب عامل معاوية إليه بذلك ، فلمّا قربت من المدينة ، استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه ، فلمّا دخلت المدينة ، أتت

________________

(١) وردتْ مفردة ( حتّى ) في المصدر الأساس ( يوم ) ، ولعل ما أثبتناه أوفق لمقصود الشاعر إنْ لم يكُن هو المراد. ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين )

(٢) ورد المصراع الثاني من البيت بهذا النحو : إنّا أعزُّ النّاسِ عندَ الخالقِ ، والتغيير من بعض المصادر الاُخرى. ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين )

٧٧

دار أخيها عمرو بن غانم ، فقال لها يزيد : إنّ أبا عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى دار ضيافته - وكانت لا تعرفه -. فقالت له : مَن أنت ؟ قال : يزيد بن معاوية. قالت : فلا رعاك الله يا ناقص. فأتى أباه فأخبره ، فقال : هي أسنّ قريش وأعظمهم. قال : كانت تعدّ على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أربعمئة عاماً.

فلمّا كان من الغد ، أتاها معاوية فسلّم عليها ، فقالت : على المؤمنين السّلام ، وعلى الكافرين الهوان. ثمّ قالت : مَن منكم ابن العاص ؟ قال عمرو : ها أنا ذا. فقالت : وأنت تسبّ قريشاً وبني هاشم ، وأنت أهل السبّ يا عمرو ! إنّي والله ، لعارفة بعيوبك وعيوب اُمّك. وأمّا أنت يا معاوية ، فما كنت في خير ولا ربيت في خير ، فما لك ولبني هاشم ؟ أنساء بني اُميّة كنسائهم ؟ أمْ اُعطي اُميّة ما اُعطي هاشم في الجاهليّة والإسلام ؟ وكفى فخراً برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فقال معاوية : أيّتها الكبيرة ، أنا كافٍّ عن بني هاشم.

ذكّرني خطاب غانمة الهاشميّة بذلك اللسان العضب الهاشمي ، والقلب الجريء ، غير هيّابة ولا وجلة ، خطاب فخر الهاشميّات زينب بنت علي ( (عليهما‌السلام )) ، شبيهة أبيها أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، لولده يزيد حين خطبت تلك الخطبة العظيمة ، وخاطبت يزيد بكلام كحدود السّيوف، مستحقرة له ، غير مبالية بما هو فيه من الملك والسّلطان ، قائلةً له - من جملة كلامها - : ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك ، لكن العيون عَبرى والصدور حَرّى. ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشيطان الطلقاء ! ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنّنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلاّم للعبيد ، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.

فكد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله ، لا تمحو ذكرنا ولا تُميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ولا تدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فَنَد ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد ، يوم يُنادي المنادي : ألا

٧٨

لعنة الله على الظالمين :

فيا وقعةً لمْ يُحدثْ الدَّهرُ مثْلَها

يَبيدُ الليالي ذكرُهَا وهو خالدُ

لألبستِ هذا الدِّينَ أثوابَ ذلَّةٍ

ترثُّ لها الأيامُ وهيَ جدَائدُ

* * *

المجلس الثالث والسّبعون بعد المئة

في كتاب بلاغات النّساء : إنّه لـمّا قُتل علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ، بعث معاوية في طلب شيعته ، فكان في مَن طلب عمرو بن الحمق الخزاعي ، فراغ منه ، فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد ، فحبسها في سجن دمشق سنتين ، ثمّ إنّ عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة ، فقتله وبعث برأسه الى معاوية ، وهو أوّل رأس حُمل في الإسلام.

قال الأعمش : أوّل رأس اُهدي من بلد إلى بلد في الإسلام ، رأس عمرو بن الحمق.

فلمّا أتى معاوية الرسولُ بالرأس ، بعث به إلى آمنة في السجن ، وقال للحرَسي : احفظ ما تتكلم به حتّى تؤدّيه إليّ ، واطرح الرأس في حجرها. ففعل هذا ، فارتاعت له ساعةً ، ثمّ وضعت يدها على رأسها وقالت : نفيتموه عنّي طويلاً ، وأهديتموه إليّ قتيلا ً، فأهلاً وسهلاً بمَن كنتُ له غير قالية ، وأنا له اليوم غير ناسية. ارجع به أيها الرسول إلى معاوية ، فقل له : أيتمَ الله وُلدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنباً.

فرجع الرسول إلى معاوية فأخبره بما قالت ، فأرسل إليها فأتته ، وعنده نفر فيهم أياس بن حسل ، وكان في شدقيه انتفاخ لعظم كان في لسانه. فقال لها معاوية : أأنت يا عدوّة الله ، صاحبة الكلام الذي بلغني ؟ قالت : نعم ، غير نازعة عنه ولا

٧٩

معتذرة منه ولا منكرة له ، فلَعمري ، لقد اجتهدت في الدعاء إنْ نفع الإجتهاد ، وإنّ الحقّ لـمِن وراء العباد ، وما بلغت شيئاً من جزائك ، وإنّ الله بالنّقمة من ورائك.

فأعرض عنها معاوية ، فقال أياس : اقتل هذه يا أمير المؤمنين ، فوالله ، ما كان زوجها أحقّ بالقتل منها. فالتفتت إليه ، وقالت : تباً لك ! ويلك ! بين لحييك كجثمان الضفدع ، ثمّ أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس ،( إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) (١) ! فضحك معاوية ، ثم قال : لله درّك ! اخرجي ، ثمّ لا أسمع بك في شيء من الشام. قالت : وأبي ، لأخرجنّ ، ثمّ لا تسمع بي في شيء من الشام ، فما الشام لي بحبيب ، ولا أعرج فيها على حميم ، وما هي لي بوطن ، ولا أحنّ فيها إلى سكن ، ولقد عظم فيها ديني ، وما قرّت فيها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة.

فأشار معاوية إليها ببنانه اخرجي ، فخرجت وهي تقول : وآعجبي لمعاوية ! يكفّ عنّي لسانه، وهو يشير إلى الخروج ببنانه ! أما والله ، ليعارضنّه عمرو بكلام مؤيّد سديد ، أوجع من نوافذ الحديد ، أو ما أنا بابنة الشريد. فخرجت وتلقّاها الأسود الهلالي ، وكان أسود أصلع أبرص ، فسمع مقالها ، فقال : لمَن تعني هذه - عليها لعنة الله - ؟ فقالت : خزياً لك وجدعاً ، أتلعنني واللعنة بين جنبيك ! وما بين قرنيك إلى قدميك ! اخسأ يا هلمة الصعل ، ووجه الجعل. فبهت الأسود ينظر إليها ، ثمّ سأل عنها فاُخبر ، فأقبل يعتذر إليها ؛ خوفاً من لسانها.

ثمّ التفت معاوية إلى عبيد بن أوس ، فقال : ابعث إليها ما تقطع به عنّا لسانها ، وتقضي به ما ذكرت من دَينها ، وتخفّ به إلى بلادها. فلمّا أتاها الرسول بما أمر به معاوية ، قالت : يا عجبي لمعاوية ! يقتل زوجي ، ويبعث إليّ بالجوائز ! فأخذت ذلك وخرجت تريد الجزيرة ، فمرّت بحِمص فقتلها الطاعون. فبلغ ذلك الأسود ، فأقبل إلى معاوية كالمبشرّ له ،

________________

(١) سورة القصص / ١٩.

٨٠