المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٤

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 142

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 142
المشاهدات: 37034
تحميل: 3898


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 142 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37034 / تحميل: 3898
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 4

مؤلف:
العربية

المجلس السادس والخمسون بعد المئتين

إنّ فضيلة العلم وارتفاع درجته أمرٌ كفى انتظامه في سلك الضّرورة مؤنة الاهتمام ببيانه ؛ وما يورد في فضله إنّما هو لتحريك النّفوس وتنبيه الغافل , ويدلُّ على فضل العلم بعد الضّرورة عند جميع العقلاء , قوله تعالى :( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (١) . افتتح كلامه المجيد بذكر نعمة الإيجاد وأتبعه بذكر نعمة العِلم , فلو كان بعد نعمة الإيجاد نعمة أعلى من العلم لكانت أجدر بالذّكر , وقوله :( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) . يدلّ على أنّه سبحانه اُختص بوصف الأكرميّة ، وقوله :( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ... ) إلى آخره ، يدلّ على أنّ اختصاصه بوصف الأكرميّة ؛ لأنّه علّم الإنسان العِلم, وكفى بذلك دليلاً على فضل العِلم.

وقال تعالى :( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (٢) .( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (٣) .( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ ) (٤) . فقرن العلماء بنفسه وملائكته :( يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (٥) . والآيات الدالّة على فضل العلم كثيرة جداً.

وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مُسلمٍ ومُسلمة )). (( اطلبوا العلمَ ولو بالصّين )). (( فضلُ العالِمِ على العابد كفضلِ القمرِ على سائر النّجوم ليلة البدر )). (( فضلُ العالِمِ على العابد كفضلي على أدناكم )). (( نومُ العالِمِ أفضلُ من عبادة العابد )). (( نومٌ مع علمٍ خيرٌ من صلاة مع جهل )). (( ساعةُ العالِم يتَّكئ على فراشه ينظرُ في علمٍ خيرٌ من عبادة سبعين سنة )). (( فقيهٌ واحد أشدُّ على

____________________

(١) سورة العلق / ١ - ٥.

(٢) سورة الزّمر / ٩.

(٣) سورة فاطر / ٢٨.

(٤) سورة آل عمران / ١٨.

(٥) سورة المـُجادلة / ١١.

١٢١

الشّيطان من ألف عابد )).

وقال الباقر (عليه‌السلام ) : (( عالمٌ يُنتفع بعلمه أفضلُ من سبعين ألف عابد )). وقال أيضاً : (( العالمُ كمَن معه شمعة تُضيء للنّاس , فكلّ مَن أبصر بشمعته دعا له بخير )). وكذلك : (( العالمُ معه شمعة ، يزيل بها ظلمة الجهل والحيرة )).

وقال الصّادق (عليه‌السلام ) : (( عُلماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته ، يمنعونهم من الخروج على ضعفاء شيعتنا , ألا فمَنْ انتصب لذلك كان أفضل ممّن جاهد ألف ألف مرّة ؛ لأنّه يدفع عن أديان محبِّينا ، وذلك يدفع عن أبدانهم )).

وقال الرضا (عليه‌السلام ) : (( يُقال للعابد يوم القيامة : نِعم الرجل كُنت ! همّتك ذات نفسك , وكفيت النّاس مؤنتك , فادخل الجنة. ويُقال للفقيه : قف حتّى تشفع لكلِّ مَن أخذ عنك أو تعلّم منك , ومَن أخذ ممّن أخذ عنك إلى يوم القيامة )).

وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( العلماءُ ورثة الأنبياء , إنّ الأنبياء لم يُورّثوا ديناراً ولا درهماً ( لأنّهم يموتون فقراء لزهدهم في الدُّنيا ) ، ولكنْ ورّثوا العلم )). وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( النّظر إلى العالِمِ عبادة )).

وقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) : (( كفى بالعلمِ شرفاً أنْ يدّعيه مَن لا يُحسنه ويفرح به إذا نُسب إليه , وكفى بالجهل ذمّاً أنْ يبرأ منه مَن هو فيه )).

وأيّ عالم أعلم من الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) وارث علوم جدّه وأبيه (صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما) , ولم ترعَ له هذه الاُمّة حرمة ولم تعرف له حقّاً , بل ظلمته وأخّرته عن مقامه , وقدّمت عليه يزيد الفجور والخمور ، والقرود والفهود , وأرادته أنْ يبايع له بإمرة المؤمنين؟!

ويزيدُ لا مُتهوِّدٌ

فيهمْ ولا مُتبصِّرُ

يُدعَى أميرَ المؤمنيـ

ـنَ يُطاعُ فيما يأمرُ

وكيف يُبايع سليل بيت الوحي ، وربيب حجر النّبوّة لسكّير بني اُميّة , ويعترف لأمير الكافرين والفاسقين بأنّه أمير المؤمنين ؟! إنّ هذا ما لا يجوز ولا يكون , فأبى عن بيعته وتوجّه نحو الكوفة , فأسلمه أهلها

١٢٢

إلى عدوّه بعد ما بايعه منهم عشرات الاُلوف , فقُتل شهيداً ظامياً ، غريباً وحيداً , وقُتلت أنصاره وأهل بيته ، وذُبحت أطفاله وسُبيت عياله.

خطبٌ تصاغرَ عندَهُ

كلُّ الخُطوبِ ويكبَرُ

لو كانَ أحمدُ حاضراً

لَشجاهُ ذاكَ المحضرُ

المجلس السابع والخمسون بعد المئتين

من الأخلاق النّبيلة المحمودة عند العقل وفي الشّرع الصّبر , وقد مُدح في القرآن الكريم في نيف وسبعين موضعاً , وأضاف الله تعالى أكثر الدرجات والخيرات إلى الصّبر وجعلها ثمرة له , فقال عزّ مَن قائل :( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) (١) .( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ) (٢) .( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) .( اُولئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) (٤) .

وما من قربة إلّا وأجرها بتقدير وحساب إلّا الصّبر , قال الله تعالى :( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٥) . ووعد الله الصّابرين بأنّه معهم , فقال تعالى :( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٦) . وعلّق النّصرة على الصّبر ، فقال :( بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) (٧) . وجمع الله تعالى للصابرين بين اُمور لم يجمعها لغيرهم , فقال :( وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَاُولئك هُمْ الْمُهْتَدُونَ ) (٨) . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في مدح الصّبر.

وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( الصّبر نصف الإيمان )). وسُئل النّبيُّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عن الإيمان ، فقال: (( الصّبر

____________________

(١) سورة السّجدة / ٢٤.

(٢) سورة الأعراف / ١٣٧.

(٣) سورة النّحل / ٩٦.

(٤) سورة القصص / ٥٤.

(٥) سورة الزّمر / ١٠.

(٦) سورة البقرة / ١٥٣.

(٧) سورة آل عمران / ١٢٥.

(٨) سورة البقرة / ١٥٥ - ١٥٧.

١٢٣

والسّماحة )). وهذا معنى كونه نصف الإيمان. وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( الصّبر كنز من كنوز الجنّة )). وأوحى الله تعالى إلى داود (عليه‌السلام ) : (( تخلّق بأخلاقي أنا الصّبور )).

وإنّ الإمام أبا عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) من خير مَن تجلّى بالصّبر ، ولـمّا لقيه أبو هرّة الأزدي وقال له : يابن رسول الله , ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدِّك محمَّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ قال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( ويحك يا أبا هرّة ! إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت , وشتموا عرضي فصبرت, وطلبوا دمي فهربت. وأيمُ الله , لتقتلني الفئة الباغية , وليلبسنّهم الله ذلاّ ً شاملاً وسيفاً قاطعاً )).

وأعظم من هذا صبره يوم عاشوراء على قتال ثلاثين ألفاً بفئة قليلة , وعدم خنوعه للذلِّ والضّيم , وصبره على ضرب السّيوف وطعن الرماح ، ورمي السّهام حتّى قُتل عطشان ظامياً ، غريباً وحيداً.

وباسمِ الثَّغرِ والأبطالُ عابسةٌ

كأنَّ جدَّ المنايا عندهُ لَعبُ

المجلس الثامن والخمسون بعد المئتين

قال الله تعالى مُخاطباً لنبيِّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ومُثنياً عليه :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) . وسأل رجل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عن حسن الخُلق , فتلا قوله تعالى :( خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ) (٢) . ثمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( هو أنْ تصل مَن قطعك ، وتُعطي مَن حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك )). وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّما بُعثت لاُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق )). وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أثقلُ ما يُوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله ، وحُسنُ الخُلق )). وقال رجل لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : أوصني. فقال : (( اتَّقِ اللهَ حيثُ كُنت )). قال : زدني. قال : (( اتبع السّيئةَ الحسنة تمحها )). قال : زدني. قال :

____________________

(١) سورة القلم / ٤.

(٢) سورة الأعراف / ١٩٩.

١٢٤

(( خالق النّاس بخُلق حسن )). وقيل له : يا رسول الله , إنّ فلانة تصوم النّهار وتقوم الليل وهي سيّئة الخُلق , تُؤذي جيرانها بلسانها. قال : (( لا خيرَ فيها , هي من أهل النّار )). وقال أبو الدّرداء : سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول : (( أوّل ما يُوضع في الميزان حسن الخُلق والسّخاء )). وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّكم لنْ تسعوا النّاس بأموالكم , فسعوهم ببسط الوجه وحُسن الخُلق )). وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّ أحبَّكم إليَّ وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة , أحسنكم أخلاقاً )).

وقد فصّل الإمام زين العابدين (عليه‌السلام ) مكارم الأخلاق ، ومرضى الأفعال في بعض أدعية الصّحيفة الكاملة , فقال : (( وَأَغْنِنِي وَلَا تَفْتِنِّي بِالبطَرِ ، وَأَعِزَّنِي وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلَا تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ ، وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيَّ الْخَيْرَ ، وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ ، وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأخْلاَقِ ، وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ ، وَلا تَرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَةً إلّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا ، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِرَاً إلّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا.

أللَّهُمَّ ، لا تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إلّا أَصْلَحْتَهَا ، وَلا عَائِبَةً اُؤَنَّبُ بِهَا إلّا حَسَّنْتَهَا ، وَلَا اُكْرُومَةً فِيَّ نَاقِصَةً إلّا أَتْمَمْتَهَا ، وَوَفِّقْنِي لِطَاعَةِ مَنْ سَدَّدَنِي وَمُتَابَعَةِ مَنْ أَرْشَدَنِي ، وَسَدِّدْنِي لأنْ اُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ ، وَاُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ ، وَاُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ ، واُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلَى حُسْنِ الذِّكْرِ ، وَأَنْ أَشْكرَ الْحَسَنَةَ وَاُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ ، وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ.

وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ الـمُتَّقِينَ فِيْ بَسْطِ الْعَدْلِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ ، وَإطْفَاءِ النَّائِرَةِ ، وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ ، وَإصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَإفْشَاءِ الْعَارِفَةِ ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ ، وَسُكُونِ الرِّيحِ ، وَطِيْبِ الْمُخَالَقَةِ ، وَالسَّبْقِ إلَى الْفَضِيلَةِ ، وإيْثَارِ التَّفَضُّلِ ، وَتَرْكِ التَّعْيِيرِ وَالإفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ ، وَالقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإنْ عَزَّ ، وَاسْتِقْلاَلِ الخَيْرِ وَإنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَاسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وَإنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي ،

١٢٥

وامنعني مِنْ السَّرَفِ ، وحصّنْ رزقي مِنْ التَّلفِ )).

وأهل بيت الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) هم أحسن النّاس أخلاقاً , لا يلحقهم في ذلك لاحق , ولا يسبقهم سابق ، ومنهم تعلّم النّاس مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ، ومنهم مولانا الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) , وله في مكارم الأخلاق أخبار كثيرة تنبو عن الحصر , منها : إنّه مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً على كساء فسلّم عليهم , فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم ، وقال : (( لولا أنّه صدقة لأكلتُ معكم )). ثمّ قال : (( قوموا إلى منزلي )). فأطعمهم وكساهم ، وأمر لهم بدراهم.

ومن مكارم أخلاقه ، إنّه جنى غلامٌ له جناية توجب العقاب فأمر بضربه , فقال : يا مولاي ,( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) . قال : (( خلّو عنه )). فقال : يا مولاي ,( وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ ) . قال : (( قد عفوتُ عنك )). قال : يا مولاي ,( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١) . قال : (( أنت حُرٌّ لوجه الله , ولك ضعف ما كُنتُ أعطيك )).

وحيّته جارية بطاقة ريحان , فقال لها : (( أنت حرّة لوجه الله تعالى )). فقيل له : تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها ! قال : (( كذا أدّبنا الله ، قال الله تعالى :( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) (٢) . وكان أحسنَ منها عتقُها )).

أمثل هذا الإمام في فضائله التي لا تُبارى , يُزال عن حقّه وتتعدّى عليه بنو اُميّة ، وتخفيه حتّى أخرجته من حرم جدّه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى حرم الله , ثمّ دسّت إليه الرجال لتغتاله في الحرم ، فخرج إلى العراق فجهّز إليه الدعيُّ ابن الدعيِّ عبيد الله بن زياد الجيوش - بأمر يزيد بن معاوية - وضيّق عليه , ومنعه التوجّه في بلاد الله العريضة حتّى قُتل عطشان ظامياً ، وحيداً فريداً غريباً , وقُتلت أنصاره وسُبيت عياله ؟!

فعلتُمْ بأبناءِ النَّبيِّ ورهطهِ

أفاعيلَ أدناها الخيانةُ والغدرُ

* * *

____________________

(١) سورة النّساء / ٨٦.

(٢) سورة آل عمران / ١٣٤.

١٢٦

المجلس التاسع والخمسون بعد المئتين

أوجب الله تعالى التوبة على كلّ مذنب بقوله :( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ) (١) . ومعنى التّوبة : هي النّدم على الذّنب والعزم على عدم العود إليه. ووجوبها ثابت بالعقل والنّقل , وهي واجبة على الفور بدون تأخير. وقد وعد الله تعالى بقبول التّوبة ، بقوله :( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السّيِّئَاتِ ) (٢) . وقوله تعالى :( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (٣) .

ومِن كرم الله تعالى وفضله على عباده , إنّ مَن نوى منهم السّيئة ولم يفعلها لم تُكتب عليه , فإنْ فعلها انتظره الملك الموكّل بكتابة السّيئات سبع ساعات , فإنْ تاب قبل مضي سبع ساعات لم تُكتب عليه , وإنْ يتُب كُتبت عليه سيئة واحدة , وإذا نوى الحسنة ولم يفعلها , كُتبت له حسنة واحدة , فإنْ فعلها كُتبت له عشر حسنات.

وقال زين العابدين (عليه‌السلام ) في دعاء وداع شهر رمضان من أدعية الصّحيفة الكاملة , مشيراً إلى التّوبة : (( أَنْتَ الَّذِيْ فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَاباً إلَى عَفْوِكَ وَسَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ ، وَجَعَلْتَ عَلَى ذلِكَ البَابِ دَلِيلاً مِنْ وَحْيِكَ لِئَلاَّ يَضِلُّوا عَنْهُ ، فَقُلْتَ تَبَارَكَ اسْمُكَ :( تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) (٤) . فَمَا عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ ذلِكَ الْمَنْزِلِ بَعْدَ فَتْحِ الْبَابِ وَإقَامَةِ الدَّلِيْلِ ؟ )).

وأشار (عليه‌السلام ) إلى شيء من حدود التّوبة وشروطها في دعائه في ذكر التّوبة وطلبها من أدعية الصّحيفة , فقال : (( أللَّهُمَّ ، إنِّي أَتُوبُ إلَيْكَ فِي مَقَامِي هَذَا مِنْ كَبَائِرِ ذُنُوبِي وَصَغَائِرِهَا ، وَبَوَاطِنِ سَيِّئآتِي وَظَوَاهِرِهَا ، تَوْبَةَ مَنْ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَعْصِيَة ، وَلاَ يُضْمِرُ أَنْ يَعُودَ فِي خَطِيئَة ،

____________________

(١) سورة النّور / ٣١.

(٢) سورة الشّورى / ٢٥.

(٣) سورة طه / ٨٢.

(٤) سورة التحريم / ٨.

١٢٧

وَقَدْ قُلْتَ يَا إلهِي فِي مُحْكَمِ كِتابِكَ إنَّكَ تَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِكَ ، وَتَعْفُو عَنِ السَّيِّئآتِ ، وَتُحِبُّ التَّوَّابِينَ ، فَاقْبَلْ تَوْبَتِي كَمَا وَعَدْتَ ، وَأعْفُ عَنْ سَيِّئآتِي كَمَا ضَمِنْتَ ، وَأَوْجِبْ لِي مَحَبَّتَكَ كَمَا شَرَطْتَ ، وَلَكَ يَا رَبِّ شَرْطِي أَلّا أَعُودَ فِي مَكْرُوهِكَ ، وَضَمَانِي أَلّا أَرْجِعَ فِي مَذْمُومِكَ ، وَعَهْدِي أَنْ أَهْجُرَ جَمِيعَ مَعَاصِيكَ.

أللَّهُمَّ ، وَإنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِي بِالتَّوْبَةِ إلَّا بِعِصْمَتِكَ ، وَلا اسْتِمْسَاكَ بِي عَنِ الْخَطَايَا إلَّا عَنْ قُوَّتِكَ. أللَّهُمَّ ، أَيُّما عَبْد تَابَ إلَيْكَ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ فَاسِخٌ لِتَوْبَتِهِ ، وَعَائِدٌ فِي ذَنْبِهِ وَخَطِيئَتِهِ ، فَإنِّي أَعُوذُ بِكَ أنْ أَكُوْنَ كَذلِكَ ، فَاجْعَلْ تَوْبَتِي هَذِهِ تَوْبَةً لا أَحْتَاجُ بَعْدَهَا إلَى تَوْبَة ، تَوْبَةً مُوجِبَةً لِمَحْوِ مَا سَلَفَ ، وَالسَّلاَمَةِ فِيمَا بَقِيَ.

أللَّهُمَّ ، وَإنِّي أَتُوبُ إلَيْكَ مِنْ كُلِّ مَا خَالَفَ إرَادَتَكَ مِنْ خَطَرَاتِ قَلْبِي ، وَلَحَظَاتِ عَيْنِي ، وَحِكَايَاتِ لِسَانِي. أَللَّهُمَّ ، إنْ يَكُنِ النَّدَمُ تَوْبَةً إلَيْكَ فَأَنَا أَنْدَمُ اْلنَّادِمِينَ ، وَإنْ يَكُنِ التَّرْكُ لِمَعْصِيَتِكَ إنَابَةً فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنِيبينَ ، وَإنْ يَكُنِ الاسْتِغْفَارُ حِطَّةً لِلذُّنُوبِ فَإنِّي لَكَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ)).

وكان الحُرّ بن يزيد التميمي اقترف ذنباً عظيماً في خروجه لحرب الحسين (عليه‌السلام ) , ومنعه عن الرّجوع وضيّق عليه , ثمّ لـمّا تاب تاب الله عليه واستشهد بين يدي الحسين (عليه‌السلام ) , فرافق الحسين وجدّه وأباه (صلوات الله عليهم) في أعلى درجات الجنان , وذلك لـمّا رأى الحُرُّ أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين (عليه‌السلام ) , قال لعمر بن سعد : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟! قال : أي والله , قتالاً أيسره أنْ تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.

فأخذ الحُرّ يدنو من الحسين (عليه‌السلام ) قليلاً قليلاً ، وأخذه مثل الأفكل ( وهي : الرّعدة ) ، فقال له المهاجر بن أوس : إنّ أمرك لمريب ! والله ، ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا ! ولو قيل لي : مَن أشجع أهل الكوفة ؟ ما عدوتك , فما هذا الذي أرى منك ؟! فقال الحُرّ : إنّي والله , اُخيّر نفسي بين الجنّة والنّار ، فوالله , لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت وحُرّقت. ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين (عليه‌السلام )

١٢٨

ويده على رأسه ، وهو يقول : اللهمّ , إليك اُنيت فتب عليّ , فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيّك.

وقال للحسين (عليه‌السلام ) : جعلت فداك يابن رسول الله , أنا صاحبك الذي حبستك عن الرّجوع , وسايرتك في الطّريق , وجعجعت بك ( أي : ضيّقت عليك ) في هذا المكان , وما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم , ولا يبلغون منك هذه المنزلة. والله , لو علمتُ أنّهم ينتهون منك إلى ما أرى , ما ركبت مثل الذي ركبت ، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي وإلى ربّي , مواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك , فهل ترى لي من توبة ؟ فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( نعم يتوب الله عليك , فانزل )). قال : أنا لك فارساً خير منّي راجلاً , اُقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النّزول يصير آخر أمري. فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( فاصنع يرحمك الله ما بدا)). فقاتل حتّى قُتل , وفاز بالشّهادة.

ولـمّا جيء بسبايا أهل البيت إلى دمشق ، واُوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السّبي , جاء شيخ فدنا من نساء الحسين (عليه‌السلام ) وعياله , وتكلّم بما كان من عظم الذّنوب , ثمّ لـمّا وعظه زين العابدين (عليه‌السلام ) وأبان له ما كان يجهله , تاب فتاب الله عليه ونال درجة الشّهادة؛ وذلك أنّه قال لهم : الحمد لله , الذي أهلككم وقتلكم , وأراح البلاد من رجالكم , وأمكن أمير المؤمنين منكم.

فلم يقابله زين العابدين (عليه‌السلام ) بسبٍّ ولا شتم حيث علم أنّه جاهل ، بل جاءه باللين والموعظة الحسنة , وقال : (( يا شيخ , هل قرأت القرآن ؟ )). قال : نعم. قال : (( فهل عرفت هذه الآية :( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) ؟ )). قال : نعم. قال : (( فنحن القُربى )). (( فهل قرأت : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ(٢) ؟ )). قال : نعم. قال : (( فنحن القُربى)). (( فهل قرأت :( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٣) ؟ )). قال : نعم. قال : (( فنحن القُربى )). (( وهل قرأت :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٤) ؟ )). قال : نعم. قال : (( فنحن أهل البيت الذين اختصنا الله بآية

____________________

(١) سورة الشّورى / ٢٣.

(٢) سورة الإسراء / ٢٦.

(٣) سورة الأنفال / ٤١.

(٤) سورة الأحزاب / ٣٣.

١٢٩

الطّهارة )). فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به ، وقال : بالله إنّكم هم ؟! قال (عليه‌السلام ) : (( تالله ، إنّا لنحن هم من غير شكّ ، وحقِّ جدّنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) )).

فبكى الشيخ ورمى عمامته ، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وقال : اللهمَّ ، إنّي أبرأ إليك من عدوِّ آل محمَّد من جنّ وإنس. ثمّ قال : هل لي من توبة ؟ فقال له : (( نعم , إنْ تبت تاب الله عليك, وأنت معنا )). فقال : أنا تائب. فبلغ يزيدَ خبرُه فأمر به فقُتل.

ذرِّيَّةٌ مثلُ ماءِ الـمُزنِ قدْ طَهرُوا

وطُيِّبوا فصفتْ أوصافُ ذاتِهمُ

أئمَّةٌ أخذَ اللهُ العهودَ لهُمْ

على جميعِ الورَى منْ قبلِ خلقِهمُ

المجلس الستّون بعد المئتين

الحسد من الصّفات الذّميمة , وهو أيضاً من الذّنوب الكبيرة , والحسد : هو التّألم من وجود نعمة على الغير أو صفة كمال فيه ، وتمنّي زوالها. وهو مذموم في الكتاب العزيز والسّنّة الـمُطهّرة , قال تعالى :( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (١) .( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ ) (٢) . وأمر الله تعالى نبيّه أنْ يستعيذ من شرّ الحاسد بقوله تعالى :( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) (٣) .

وقال النّبيُّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إيّاكم والحسد ؛ فإنّه يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب )). والحسد أساس كلّ شر ومنبع كلّ بلاء ؛ حسد إبليس آدم حين أمر الله تعالى الملائكة بالسّجود تعظيماً لآدم (عليه‌السلام ) , فحمل الحسد إبليس على التّكبر عن السجود لآدم ، فكان ذلك سبباً لسخط الله تعالى على إبليس ولعنه الدّائم ، وتسلّطه على بني آدم , وسبباً لأكل آدم وحواء من الشّجرة بوسوسة إبليس ،

____________________

(١) سورة النّساء / ٥٤.

(٢) سورة البقرة / ١٠٩.

(٣) سورة الفلق / ٥.

١٣٠

وخروجهما من الجنّة.

والحسد أوّل معصية وقعت على وجه الأرض ، حسد قابيل أخاه هابيل ؛ لأنّ الله تعالى قبل قربان هابيل ولم يقبل قربانه ، والحسد هو الذي كان سبب إلقاء إخوة يوسف أخاهم يوسف في الجبّ وإرادة هلاكه.( إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) (١) .

والحسد هو الذي كان السّبب في إنكار اليهود نبوّة محمَّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وكانوا عرفوا صفته في كتبهم , حكاه الله تعالى عنهم بقوله :( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (٢) . كانوا يقولون لـمُشركي قريش : هذا نبيّ قد أطلّ زمانه , سيُبعث ونؤمن به فينصرنا عليكم. فلمّا ظهر أنكروه حسداً ؛ لأنّه من غيرهم وهم يريدونه منهم , وقالوا : ليس هذا الذي كُنّا نخبركم به. وهم يعتقدون أنّه هو.

والحسد هو الذي دعا بني اُميّة إلى بغض بني هاشم ومنابذتهم ؛ فحارب جدُّهم أبو سفيان النّبيَّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عدّة حروب حتّى ظهر أمر الله وهو كاره , فأظهر الإسلامَ مُكرهاً ونفسه منطوية على خلافه ، واقتدى به ولده معاوية , فحارب أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) يوم صفّين ونابذه , وفرّق كلمة المسلمين ، ومشي على أثره ولده يزيد , فجيّش الجيوش على ابن بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وسبطه حتّى قتله , وقتل أهل بيته وأنصاره , وسبى نساءه وعياله وحملهم إليه من الكوفة إلى الشّام , وأوقفهم على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السّبي , وقابلهم بكلِّ جفاء وغلظة.

ألا يابنَ هندٍ لا سَقَى اللهُ تُرْبةً

ثويتَ بِمثواهَا ولا اخضَرَّ عودُها

* * *

____________________

(١) سورة يوسف / ٨ - ٩.

(٢) سورة البقرة / ٨٩.

١٣١

المجلس الواحد والستّون بعد المئتين

قال الله سبحانه وتعالى( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (١) . وقال تعالى مخاطباً لنبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وناعياً إليه نفسه :( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (٢) .

واشترى اُسامة بن زيد جارية بمئة دينار إلى شهر , فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ألا تعجبون من اُسامة الـمُشتري إلى شهر ! إنّ اُسامة لطويل الأمل. والذي نفسي بيده , ما طرفتْ عيناي إلّا ظننتُ أنّ شفريَّ لا يلتقيان حتّى يقبض الله روحي , ولا رفعتُ طرفي وظننتُ أنّي خافضه حتّى اُقبض , ولا تلقّمتُ لقمةً إلّا ظننتُ أنّي لا أسيغها ، أنحصر بها من الموت )). ثم قال (( يا بني آدم , إنْ كُنتم تعقلون فعدّوا أنفسكم من الموتى ، والذي نفسي بيده ،( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) (٣) )).

وقال أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام ) في بعض خطبه : (( وَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً ، أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلاً لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ (عليه‌السلام ) ، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ ، فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ ، وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ ، وَأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً ، وَالْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً ، وَوَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً.

أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ ؟! أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ ؟! أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ ، وَأَطْفَؤوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ ؟! أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَهَزَمُوا بِالأُلُوفِ ، وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَمَدَّنُوا الْمَدَائِنَ ؟! ))

وخطب الحسين (عليه‌السلام ) لـمّا عزم على الخروج إلى العراق , فقال : (( الحمدُ لله وما شاء الله ولا قوّة إلّا بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خُطَّ الموتُ على وُلد آدمَ مَخَطَّ القَلادةِ على جيد الفتاةِ، وما أولهني

____________________

(١) سورة القصص / ٨٨.

(٢) سورة الزمر / ٣٠.

(٣) سورة الأنعام / ١٣٤.

١٣٢

إلى أسلافي اشتياقُ يعقوبَ إلى يوسفَ ، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقطّعها عَسْلانُ الفلوات بين النّواويس وكربلاء ، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً ، لا مَحيصَ عن يومٍ خُطّ بالقَلَمْ ، رِضَى اللهُ رضانا أهلَ البيتِ ، نصبرُ على بلائِهِ ويُوفّينا أجورَ الصّابرين ، لنْ تَشُذَّ عن رسول اللهِ لَحمتُهُ ، بل هي مجموعةٌ لهُ في حظيرةِ القُدْسِ ، تُقرُّ بِهمْ عينُه ويُنجزُ بهم وعدَه.

مَنْ كان باذلاً فينا مُهجَتَه ، ومُوَطِّناً على لقاءِ اللهِ نفسَه فليرحل معنا ، فإنّني راحلٌ مُصبحاً إنْشاءَ اللهُ تعالى )).

وما قال الحسين (عليه‌السلام ) : (( كأنّي بأوصالي تُقطّعها عَسْلانُ الفلوات )) : أي ذئابها , إلّا لعلمه أنّه سيُقتل ويبقي بلا دفن كما أخبره جدّه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). ومن عادة القتيل الذي لم يُدفن أنْ يجري عليه ذلك , فساق كلامه على مجرى العادة , وإلّا فجسمه الشّريف وإنْ لم يحفظ من ذئاب أهل الكوفة وكلابهم أتباع بني اُميّة , إلّا أنّه محفوظ من الذّئاب الوحشيّة كما قال السيّد الرّضيرضي‌الله‌عنه :

تَهابُهُ الوَحشُ أَنْ تَدنو لِمَصرَعِهِ

وَقَد أَقامَ ثَلاثاً غَيرَ مَقبورِ

تَحنو عَلَيهِ الرُبى ظِلاّ ً وَتَستُرُه

عَنِ النَّواظِرِ أَذيالُ الأَعاصيرِ

المجلس الثاني والسّتون بعد المئتين

الأخوات اللواتي أصابتهُنَّ سهام الدّهر وفُجعن بإخوتهنّ كثيرات , لكن أشدّهنَّ أشجاناً ، وأعظمهنَّ أحزاناً أربعة : اثنتان في الشّرك , واثنتان في الإسلام ، وكلّ منهنّ وقفت على جسد أخيها فرأته صريعاً مضرّجاً بالدّم.

فأمّا اللتان في الشّرك , فإحداهنَّ : ليلى اُخت عمرو بن عبد ود

١٣٣

العامري , فإنّها لـمّا قُتل أخوها عمرو , برزت من خدرها وهي صارخةٌ معولةٌ حتّى وقفت على جسده , فرأته مقطوع الرأس ولم تُسلب منه ثيابُه ولا درعُه , فتعجَّبت من ذلك وقالت : مَن هو قاتل أخي ؟ فقيل لها : هو علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ). فاستبشرت وقالت : لَعمري , لهو كفو كريم. والله , لا أرثي أخي ولا أندبه. ثمّ أنشأت تقول :

لو كانَ قاتلُ عمرٍو غيرَ قاتلِهِ

لكنتُ أبكي عليهِ آخرَ الأبدِ

لكنّ قاتلَهُ مَنْ لا يُعابُ بهِ

قدْ كان يُدعَى أبوهُ بيضةَ البلدِ

منْ هاشمٍ في ذُراهَا وهي صاعدةٌ

إلى السّماءِ تُميتُ النّاسَ بالحسدِ

قومٌ أبى اللهُ إلّا أنْ يكون لهمْ

كرامةُ الدِّينِ والدُّنيا بلا لدد

وأمّا الثّانية : فهي صفيّة اُخت مرحب , فإنّه بعد ما قتله أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , أخذها أسيرة وبعث بها إلى النّبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مع بلال , فمرّ بها بلال على مصرع أخيها فرأته صريعاً مُلطّخاً بدمه, ثمّ جاء بها إلى النّبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأوقفها بين يديه , وهي مذعورة وقد ارتعدت فرائصها , فقال لها النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ما بالِك ؟ )). قالت : يا رسول الله , اعلم أنّ هذا العبد مرّ بي على مصرع قومي , فاعتراني ما ترى. فلامه النّبيُّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأمر بإطلاقها.

وأمّا اللتان في الإسلام ، فإحداهنّ صفيّة عمّة النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فإنّه لـمّا قُتل أخوها حمزة بن عبد المطّلب في وقعة اُحد , وقفت عليه فرأته صريعاً مُلطّخاً بدمه , وقد خُرق جوفه واستُخرجت كبده , وقد غطّاه النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بردائه , فلم يستر جسده بل بقيت رجلاه مكشوفتين , فستره النّبيُّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالحشيش , فوقفت عليه اُخته صفيّة , فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لولدها الزّبير : (( قُل لاُمّك لتَكفّنّ عن البكاء , ولترجع إلى خدرها )).

وأمّا الثّانية ، فهي زينب بنت أمير المؤمنين (عليهما‌السلام ) , وهي أعظمهنَّ شجناً وأشدَّهنّ حُزناً ، وأكثرهنَّ كرباً وأوجعهنَّ قلباً ؛ وذلك

١٣٤

لِمَا رأت من المصائب التي لم تُسبق ولم تُلحق بمثلها أبداً , ولـمّا قُتل أخوها الحسين (عليه‌السلام ) ، حمل ابن سعد نساءه وبناته وأخواته ومَن كان معه من الصّبيان , وساقوهم كما يُساق سبي التّرك والرّوم , فقالت النّسوة : بحقِّ الله , إلّا ما مررتم بنا على مصرع الحسين (عليه‌السلام ). فمرّوا بهم على الحسين وأصحابه (عليهم‌السلام ) وهم صرعى , فلمّا نظرت النّسوة إلى القتلى , صحن وضربن وجوههنَّ.

قال الرّاوي : فوالله , لا أنسى زينب بنت علي (عليهما‌السلام ) وهي تندب الحسين (عليه‌السلام ) , وتُنادي بصوت حزين وقلب كئيب : يا مُحمّداه ! صلّى عليك مليك السّماء ، هذا حُسينك مرمّل بالدماء ، مقطوع الأعضاء ، وبناتك سبايا - إلى أن قالت - بأبي مَن لا غائب فيُرتجى ، ولا جريح فيُداوى ! بأبي المهموم حتّى قضى ! بأبي العطشان حتّى مضى ! بأبي مَن شيبته تقطر بالدماء.

أمّا اُخت عمرو ، فهوّن حزنها على أخيها أنّ قاتله رجل شريف جليل وهو علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ، وافتخرت بذلك , وكانت العرب تفتخر بكون القاتل شريفاً , ويزيد في حزنها على القتيل كون قاتله وضيعاً ؛ وأمّا اُخت مرحب , فهوّن ما بها إكرام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لها ؛ وأمّا اُخت حمزة , فهوّن حزنها على أخيها أنْ بقي لها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

أمّا زينب ، فزاد في حزنها وعظيم مصابها أنّ قاتل أخيها شمر بن ذي الجوشن النّذل الرّذل , ولم يبقَ لها مَن تتسلّى به إلّا زين العابدين (عليه‌السلام ) , وقد نهكته العلّة وأضرّ به المرض , فما أعظم مصيبتها ، وأجلّ رزيتها !

لَمْ أدرِ أيَّ رزاياهُمْ اُعدِّدُها

هيهاتَ لمْ اسْتَطعْ عَنهُنَّ تَعبيرَا

* * *

١٣٥

المجلس الثالث والستّون بعد المئتين

النّساء اللّواتي فُجعن بإخوتِهنَّ في الجاهليّة والإسلام كثيرات , ولكنْ اشتهر من بينهنّ عدّة , فمنهنّ : الخنساء اُخت صخر , وكان أخوها قد طُعن في بعض الحروب بطعنة , ثمّ اعتلّ منها فمات , فقالت اُخته ترثيه :

أَلا يا صَخرُ إِنْ أَبكَيتَ عَيني

لَقَد أَضحَكتَني دَهراً طَويلا

بَكَيتُكَ في نِساءٍ مُعوِلاتٍ

وَكُنتُ أَحَقَّ مَن أَبدى العَويلا

دَفَعتُ بِكَ الجَليلَ وَأَنتَ حَيٌّ

فَمَن ذا يَدفَعُ الخَطبَ الجَليلا

إِذا قَبُحَ البُكاءُ عَلى قَتيلٍ

رَأَيتُ بُكاءَكَ الحَسَنَ الجَميلا

ولها أيضاً ترثيه :

تَبكي خُناسٌ عَلى صَخرٍ وَحُقَّ لَها

إِذ رابَها الدَّهرُ إِنَّ الدَّهرَ ضَرّارُ

يا صَخرُ وَرّادَ ماءٍ قَد تَناذَرَهُ

كلُّ البَريَّةِ ما في وِردِهِ عارُ

مَشى السَّبَنتى إِلى هَيجاءَ مُعضِلَةٍ

لَهُ سِلاحانِ أَنيابٌ وَأَظفارُ

وَما عَجولٌ عَلى بَوٍّ تُطيفُ بِهِ

لَها حَنينانِ إِعلانٌ وَإِسرارُ

يَوماً بِأَوجَدَ مِنّي يَومَ فارَقَني

صَخرٌ وَلِلدَّهرِ إِحلاءٌ وَإِمرارُ

وَإِنَّ صَخراً لَوالِينا وَسَيِّدُنا

وَإِنَّ صَخراً إِذا نَشتو لَنَحّارُ

وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِهِ

كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ

ومنهنّ : ليلى بنت طريف الشّيبانيّة , وكان أخاها الوليد قتله يزيدُ بن مزيد الشّيباني في بعض الحروب , فقالت اُخته ترثيه :

١٣٦

أيا شجرَ الخابورِ ما لكَ مُورقا

كَأنّك لَم تَجزعْ عَلى ابنِ طريفِ

فَتىً لا يُحبُّ الزَّاد إلّا منَ التُّقى

وَلا المالَ إلّا من قناً وسيوفِ

ولا الذّخرَ إلّا كلَّ جرداءَ صلدمٍ

معاودةً للكرِّ بين صفوفِ

فَقَدناكَ فُقدانَ الرَّبيعِ ولَيتنا

فَدَيناك مِن ساداتنا باُلوفِ

حَليف النَّدى إِنْ عاشَ يرضى به النَّدى

وَإِنْ ماتَ لا يرضى النَّدى بحليفِ

وَما زالَ حتّى أزهق الموتُ نفسَهُ

شَجاً لعدوٍّ أو نجاً لضعيفِ

فَإِنْ يكُ أَرداهُ يزيدُ بنُ مزيد

فرُبَّ زَحوفٍ لفَّها بزحوفِ

ألا يا لقومي للحِمامِ وللبَلَى

وللأرضِ هَمَّتْ بعدَهُ برحيفِ

وَللّيثِ فوقَ النَّعشِ إِذ يَحملونه

إِلى حُفرةٍ ملحودةٍ وسقوفِ

ومنهنَّ : اُمّ كلثوم اُخت عمرو بن عبد ود العامري , فإنّه لـمّا قتل أخاها عليٌّ (عليه‌السلام ) يوم الخندق , وقفت عليه فرأته لم تُسلب منه ثيابُه ولا درعه , فسألت عن قاتله , فقيل لها علي بن أبي طالب , فأنشأت تقول :

لو كانَ قاتلُ عمرٍو غيرَ قاتلِهِ

لكنتُ أبكي عليهِ آخرَ الأبدِ

لكنّ قاتلَهُ مَنْ لا يُعابُ بهِ

قدْ كان يُدعَى أبوهُ بيضةَ البلدِ

منْ هاشمٍ في ذُراهَا وهي صاعدةٌ

إلى السّماءِ تُميتُ النّاسَ بالحسدِ

قومٌ أبى اللهُ إلّا أنْ يكون لهمْ

كرامةُ الدِّينِ والدُّنيا بلا لددِ

يا أمّ كلثومَ ابكيهِ ولا تَدَعي

بُكاءَ معولةٍ حرّى على ولد

وقالت أيضاً :

أسدانِ في ضيْقِ المجالِ تصاوَلا

وكلاهُما كفوٌ كريمٌ باسلُ

فَتَخالَسا سلبَ النُّفوسِ كِلاهما

وَسط المجالِ مجالدٌ ومقاتلُ

١٣٧

وَكِلاهما حسرَ القناعَ حفيظةً

لَم يثنهِ عَن ذاك شغلٌ شاغلُ

فاذهبْ عليٌّ فما ظفرتَ بمثلِهِ

قولٌ سديدٌ ليس فيه تحاملُ

ومنهنّ : وهي أعظمهنَّ وجداً وأشدّهنّ حزناً , عقيلة بني هاشم زينب بنت أمير المؤمنين (عليهما‌السلام ) , التي رأت أخاها الحسين (عليه‌السلام ) جثّة بلا رأس , مرضوض الجسم بحوافر الخيل , وقفت عليه وجعلت تندبه وتُنادي بصوتٍ حزين وقلبٍ كئيب : يا مُحمّداه ! صلّى عليك مليك السّماء ، هذا حُسينك مرمّل بالدماء ، مُقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، وذُرّيّتك مُقتّلة تسفي عليهم ريح الصبا ، وهذا حسينٌ محزوز الرأس من القفا , مسلوب العمامة والرّداء. بأبي مَن لا هو غائب فيُرتجى ، ولا جريح فيُداوى ! بأبي المهموم حتّى قضى ! بأبي العطشان حتّى مضى ! بأبي مَن شيبته تقطر بالدّماء.

وثواكلٍ بالنّوحِ تُسعدُ مثلَها

أرأيتَ ذا ثكلٍ يكونُ سَعيدَا

حنَّتْ فلَمْ تَرَ مثلَهنَّ نوائحاً

إذْ ليسَ مثلُ فقيدِهنَّ فقيدَا

إنْ تنْعَ أعطَتْ كلَّ قلبٍ حَسْرةً

أو تدْعُ صدَّعتِ الجِبالَ المِيدَا

وليكن هذا آخر الجزء الرّابع من المجالس السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النّبويّة , وبه تمّ القسم المتعلّق بمُصيبة الحسين (عليه‌السلام ) من الكتاب.

ولمْ نألُ جهداً في اختياره وانتقائه وترتيبه حسبما وصلت إليه مقدرتُنا القاصرة ، والله المسؤول أنْ ينفع به إخوان الدِّين ، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم ، ويحشرنا في زمرة محمّد وآله الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

ووافق الفراغ منه آخر نهار الاثنين , الثّامن من شهر ذي القعدة الحرام سنة ١٣٤٣ من الهجرة، بمدينة دمشق المحميّة ، ووافق الفراغ من إعادة النّظر فيه ثانياً ، والزيادة عليه عصر يوم السّبت الرّابع والعشرين من شهر رمضان

١٣٨

المبارك سنة ١٣٦٢ من الهجرة بمدينة دمشق أيضاً ، حماها الله تعالى , وكتب بيده الدّاثرة مؤلفه الفقير إلى عفو ربّه الغني محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي نزيل دمشق، تجاوز الله عنه ، حامداً مُصليّاً مُسلّماً.

كان الفراغ من طبع هذا الجزء للمرة الثّالثة يوم الخميس ، الواقع في السّادس عشر من شهر جمادى الاُولى سنة ١٣٧٣ هجرية.

* * *

والحمد لله رب العالمين

١٣٩

الفهرس

المجلس الثّاني عشر بعد المئتين ٣

المجلس الثّالث عشر بعد المئتين ٦

المجلس الرّابع عشر بعد المئتين ١١

المجلس الخامس عشر بعد المئتين ١٤

المجلس السّادس عشر بعد المئتين ١٨

المجلس السّابع عشر بعد المئتين ٢٣

المجلس الثّامن عشر بعد المئتين ٢٤

المجلس التاسع عشر بعد المئتين ٢٦

المجلس العشرون بعد المئتين ٢٨

المجلس الواحد والعشرون بعد المئتين ٢٩

المجلس الثّاني والعشرون بعد المئتين ٣٤

المجلس الثّالث والعشرون بعد المئتين ٣٥

المجلس الرّابع والعشرون بعد المئتين ٤٠

المجلس الخامس والعشرون بعد المئتين ٤٣

المجلس السّادس والعشرون بعد المئتين ٥٢

المجلس السّابع والعشرون بعد المئتين ٥٥

المجلس الثّامن والعشرون بعد المئتين ٥٦

المجلس التاسع والعشرون بعد المئتين ٥٧

المجلس الثّلاثون بعد المئتين ٥٩

المجلس الواحد والثّلاثون بعد المئتين ٦٠

المجلس الثّاني والثّلاثون بعد المئتين(١) ٦٣

١٤٠