المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٤

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 142

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 142
المشاهدات: 37074
تحميل: 3898


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 142 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37074 / تحميل: 3898
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 4

مؤلف:
العربية

أعدائه , حتّى أنّ إنساناً وقف للحجّاج ، وصاح : أيّها الأمير , إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً , وإنّي فقير بائسٌ ، وأنا إلى صلة الأمير مُحتاج. فتضاحك له الحجّاج ، وقال : لَلطف ما توسّلت به, قد ولّيتُك موضع كذا.

مثل الحجّاج كان ابن زياد ؛ فإنّه بعد أنْ أفنى آل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قتلاً يوم كربلاء , لم يرقّ قلبه لعلي بن الحسين (عليهما‌السلام ) ( كفيل نساء آل محمَّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وبناته ) حين اُدخلوا عليه بالكوفة حتّى أمر بقتله , فقال : يا غلمان , خذوه فاضربوا عنقه. فتعلّقت به عمّته زينب (عليها‌السلام ) , وذلك حين عُرض عليه علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) , فقال : مَن أنت ؟ فقال : (( عليُّ بن الحسين )). فقال : أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين ؟ فقال له عليٌّ (عليه‌السلام ) : (( قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً , قتله النّاس )). قال : بل الله قتله. فقال علي بن الحسين (عليه‌السلام ) :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) .

فغضب ابن زياد ، وقال : وبك جرأة لجوابي , وفيك بقيّة للردِّ عليَّ ! اذهبوا به فاضربوا عنقه. فتعلّقت به عمّته زينب , وقالت : يابن زياد , حسبُك من دمائنا. واعتنقته ، وقالت : لا والله لا اُفارقه ، فإنْ قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ، ثمّ قال : عجباً للرحم ! والله ، إنّي لأظنُّها ودّت أنْ قتلتُها معه ، دعوه فإنّي أراه لـمَا به ( أي : إنّه شديد المرض ).

وفي رواية : أنّ علي بن الحسين (عليه‌السلام ) قال لعمّته : (( اسكتي يا عمّة حتّى اُكلّمه )). ثمّ أقبل عليه ، فقال : (( أبالقتل تُهدّدُني يابن زياد ؟! أمَا علمت أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا الشّهادة ؟ )).

أآلَ رسولِ اللهِ لابني سُميّةٍ

وهندٍ على الأقتاب تُسبَى وتُؤسرُ

ولا منْ رجالِ الـمُسلمينَ مُغيرٌ

لشيءٍ ولا فيهمْ لذلكَ مُنْكِرُ

فمالتْ على أبنائهِ الغُرِّ اُمّة

تُصلِّي لدَى ذكرِ اسمهِ حينَ يُذكرُ

أهُمْ يا لقَومي في الورَى خيرُ اُمّةٍ

وقد قتلوا ابنَ الـمُصطفَى وتجبَّروا

أذلكَ أجرُ الـمُصطفَى وجزاؤهُ

على الفعلِ منكُمْ حينَ يُجزَى ويُؤجرُ

____________________

(١) سورة الزُّمر / ٤٢.

٨١

المجلس الأربعون بعد المئتين

كان سعيد بن جُبير من خيار التّابعين الموالين لأهل البيت (عليهم‌السلام ) , وكان يأتمّ بعليِّ بن الحسين زين العابدين (عليه‌السلام ) , وكان علي بن الحسين (عليه‌السلام ) يُثنى عليه ؛ ولأجل ذلك قتله الحجّاج.

قال ابن قتيبة في الإمامة والسّياسة وغيره : أرسل عبد الملك بن مروان خالد بن عبد الله القسري والياً على مكّة , وكتب معه : قد برئت الذمّة من رجل آوى سعيد بن جُبير. وحلف خالدٌ : لا يجده في دار أحد إلّا قتله وهدم داره ودور جيرانه. فأخبره رجل : أنّه مختفٍ في وادٍ من أودية مكّة ، فأرسل في طلبه , فقال له الرسول : إنّما اُمرت بأخذك , وأتيت لأذهب بك إليه , وأعوذ بالله من ذلك , فالحقْ بأي بلدٍ شئت وأنا معك. قال : يُؤخذ أهلُك وولدك. قال : فإنّي أكلهم إلى الله. قال سعيد : لا يكون هذا. فأتى به إلى خالد , فشدّه وثاقاً وأرسله إلى الحجّاج , فقيل له : إنّ الحجّاج كان قد شعر به فأعرض عنه , فلو تركته لكان أزكى من كلِّ عمل. فقال : والله , لو علمت أنّ عبد الملك لا يرضى عنّي إلّا بنقض الكعبة حجراً حجراً , لنقضتُها.

فلمّا قدم على الحجّاج , قال : ما اسمك ؟ قال : سعيد. قال : ابنُ مَن ؟ قال : ابنُ جبير. قال : بل أنت شقيُّ بن كسير. قال : اُمّي أعلم باسمي. قال : شُقيتَ وشُقيت اُمّك. قال : الغيب يعلمه غيرُك. قال : لأوردنّك حياض الموت. قال : أصابت إذاً اُمّي اسمي. قال : لأبدلنّك بالدُّنيا ناراً تلظّى. قال : لو أعلم أنّ ذلك بيدك لاتخذتُك إلهاً. قال : فما قولك في محمَّد ؟ قال : نبيُّ الرّحمة. قال : فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لستُ عليهم بوكيل. قال : أيّهم أعجب أليك ؟ قال : أرضاهم لخالقه. قال : فأيّهم أرضاهم لخالقه ؟ قال : علمُ ذلك عند مَن يعلم سرَّهم ونجواهم. قال : فما قولك في عليٍّ , أفي الجنة

٨٢

هو أم في النّار ؟ قال : لو دخلتُ الجنَّة فرأيتُ أهلَها علمتُ مَن فيها , ولو دخلتُ النّار فرأيتُ أهلَها علمتُ مَن فيها. قال : فأيّ رجل أنا يوم القيامة ؟ قال : أنا أهون على الله من أنْ يُطلعني على الغيب. قال : أبيت أنْ تصدقني ؟ قال : بل لم أرد أنْ اُكذبك. قال : مالك لم تضحك قط؟ قال : كيف يضحكُ مخلوق من طين , والطّين تأكله النّار ومنقلبه إلى الجزاء , ويُصبح ويُمسي في الابتلاء ؟! قال : فأنا أضحك. قال : كذلك خلَقَنا الله أطواراً. قال : هل رأيت اللّهو؟ قال : لا أعلمه.

فدعا الحجّاج بالعود والنّاي , فلمّا ضرب بالعود ونفخ في النّاي بكى سعيد , قال الحجّاج : ما يُبكيك ؟ قال : أمّا هذه النّفخة فذكّرتني يوم النّفخ في الصّور ؛ وأمّا هذا العود فنبَتَ بحقٍّ وقُطع لغير حقٍّ. قال : أنا قاتلك. قال : قد فرغ مَنْ تسبب [ في ] موتي. قال : أنا أحبُّ إلى الله منك ؟ قال : لا يقدم أحدٌ على ربّه حتّى يعرف منزلته منه. قال : كيف لا ، وأنا مع إمام الجماعة , وأنت مع إمام الفرقة والفتنة ؟ قال : ما أنا بخارجٍ عن الجماعة ولا راضٍ بالفتنة. قال : كيف ترى ما نجمع لإمير المؤمنين ؟ قال : لم أره.

فدعا بالذهب والفضة ، والكسوة والجوهر فوُضع بين يديه , قال : هذا حَسَنٌ إنْ قُمت بشرطه. قال : ما شرطه ؟ قال : أنْ تشتري له [ بما تجمع ] الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة ، ولا ينفعه إلّا ما طاب منه. قال : أترى جمعنا طيّباً ؟ قال : برأيك جمعتَه وأنت أعلم بطيّبه. قال : أتحبُّ أنّ لك شيئاً منه ؟ قال : لا أحبُّ ما لا يُحبّ الله. قال : ويلك ! قال : الويل لـمَنْ زُحزج عن الجنّة فاُدخل النّار.

قال : اذهبوا به فاقتلوه. قال : إنّي أشهدك أنْ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له , وأنّ محمَّداً عبده ورسوله. فلمّا أدبر ضحك , قال الحجّاج : ما يضحكك ؟ قال : عجبت من جرأتك على الله , وحلم الله عليك. قال : اضربوا عنقه. قال : حتّى اُصلي ركعتين.

فاستقبل القبلة وهو يقول :( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) (١) . قال : اصرفوه عن القبلة إلى قبلة النّصارى الذين تفرّقوا ؛ فإنّه من

____________________

(١) سورة الأنعام / ٧٩.

٨٣

حزبهم. فصُرف عن القبلة , فقال :( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) (١) . ثمّ قال : اللهمّ ، لا تترك له ظلمي واطلبه بدمي , واجعلني آخر قتيل يقتله من اُمّة محمَّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فضُربت عنقه.

وكم من قتيل وشهيد ، وسجين وشريد على أيدي بني اُميّة وأتباعهم أمثال سعيد بن جُبير ، لم يكن لهم ذنب إلّا حب أهل بيت نبيِّهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وليس ذلك بعجيب من قوم حاربوا الإسلام بما استطاعوا , فكانت في أيديهم رايات الكفّار مقابل راية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في جميع المواقف , فلمّا ظهر أمر الله وهم كارهون , دخلوا في الإسلام كُرهاً وأسرّوا النّفاق , فلمّا أمكنتهم الفرصة , وثبوا على أهل بيت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعلى كلِّ مَن أحبّهم ووالاهم , فأوسعوهم قتلاً وحبساً وتشريداً :( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) (٢) .

فوثبوا على ابن عمِّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ووصيه وخليفته في اُمّته , ونازعوه حقّه ، وبغوه الغوائل، وجرّعوه الغُصص , وسفكوا دماء المسلمين حتّى قُتل صلوات الله عليه بسيف ابن ملجم مظلوماً مقهوراً , ووثبوا على ابنه من بعده وريحانة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الحسن بن علي (عليه‌السلام ) حتّى اضطرّوه - بفسادهم وبغيهم - إلى ترك حقِّه , وقتلوه شهيداً بالسُّمِّ ، وجيّشوا الجيوش على أخيه الحسين بن علي (عليه‌السلام ) أحد ريحانتي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وسبطيه , فأخرجوه عن حرم جدّه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعن حرم الله , وقتلوه بأرض كربلاء غريباً ظامياً ، وحيداً صابراً مُحتسباً ، كلّ هذا وهم يدّعون أنّهم على دين الإسلام !

أفتدَّعي الإسلامَ قومٌ حاربتْ

آلَ النَّبيِّ ولمْ تُراعِ وصاتا

* * *

ضَرَبوا بِسَيفِ مُحَمَّدٍ أَبناءَهُ

ضَربَ الغَرائِبِ عُدنَ بَعدَ ذِيادِها

____________________

(١) سورة البقرة / ١١٥.

(٢) سورة التّوبة / ٣٢.

٨٤

المجلس الواحد والأربعون بعد المئتين

في منتخب الطّريحي : حُكي عن الشّعبي الحافظ لكتاب الله تعالى , أنّه قال : استدعاني الحجّاج في يوم عيد الأضحى , فقال لي : أي يوم هذا ؟ فقلت : هذا يوم الاُضحية. قال : بِمَ يتقرّب النّاس في مثل هذا اليوم ؟ فقلتُ : بالاُضحية والصّدقة، وأفعال البرِّ والتّقوى. فقال لي : اعلم أنّي قد عزمت أنْ اُضحِّي برجلٍ حُسيني !

قال الشّعبي : فبينما هو يخاطبني إذ سمعت من خلفي صوت سلسلة وحديد , فخشيت أنْ ألتفت فيستخفّني , وإذا قد مثل بين يديه رجلٌ علوي وفي عنقه سلسلة ، وفي رجليه قيد من حديد , فقال له الحجّاج : ألست فلان بن فلان العلوي ؟ فقال : نعم , أنا ذلك الرجل. فقال له : أنت القائل إنّ الحسن والحسين من ذرّيّة رسول الله ؟ قال : ما قلتُ ولا أقول , ولكني أقول إنّ الحسن والحسين ولدا رسول الله على رغم أنفك يا حجّاج.

قال : وكان متّكئاً فاستوى جالساً ، وقد اشتدّ غيظه وغضبه ، وانتفخت أوداجه ، ثمّ قال للرجل : يا ويلك ! إنْ لم تأتني بدليل من القرآن يدلّ على ذلك قتلتُك شرَّ قتلة , وإنْ أتيتني بما يدلّ على ذلك , أعطيتك هذه البدرة التي بيدي وخلّيت سبيلك.

قال الشّعبي : وكنت حافظاً كتاب الله كلَّه ، فلم يخطر على بالي آية تدلُّ على ذلك , فحزنت وقلتُ في نفسي : يعزُّ عليّ والله , ذهاب هذا الرجل العلوي. قال : فابتدأ الرجل يقرأ الآية , فقال :بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . فقطع عليه الحجّاج قراءته , وقال : لعلّك تُريد أنْ تحتجَّ عليَّ بآية المباهلة ، وهي قوله تعالى :( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ) (١) ؟ فقال العلوي : هي والله حُجّة مؤكّدة معتمدة , ولكنِّي آتيك

____________________

(١) سورة آل عمران / ٦١.

٨٥

بغيرها. ثمّ ابتدأ يقرأ :( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى ) (١) . وسكت , فقال له الحجّاج : فلِمَ لا قُلت وعيسى ، أنسيت عيسى ؟ فقال : نعم صدقت يا حجّاج , فبأي شيء دخل عيسى في صلب نوح وليس له أب ؟ فقال له الحجّاج : إنّه دخل في صلبه من حيث اُمّه. فقال العلوي: وكذلك الحسن والحسين دخلا في صلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من حيث اُمّهما فاطمة الزهراء (عليها‌السلام ).

قال : فبقي الحجّاج ساكتاً كأنّما اُلقم حجراً , ثمّ قال له الحجّاج : ما الدليل على أنّ الحسن والحسين إمامان ؟ فقال العلوي : يا حجّاج , لقد ثبتت لهما الإمامة بشهادة النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في حقِّهما ؛ لأنّه قال في حقِّهما : (( ولداي هذان إمامان فاضلان إنْ قاما وإنْ قعدا , تميل عليهما الأعداء فيسفكون دمهما ، ويسبون حرمهما )). ولقد شهد النّبيُّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لهما بالإمامة أيضاً ، حيث قال : (( ابني هذا - يعني الحسين (عليه‌السلام ) - إمام ابن إمام ، أخو إمام ، أبو أئمَّةٍ تسعة )).

فقال الحجّاج : يا علوي , كم عمر الحسين في دار الدُّنيا ؟ فقال : ستٌّ وخمسون سنة. فقال له : وفي أي يوم قُتل ؟ قال : يوم العاشر من شهر عاشوراء بين الظّهر والعصر. فقال له : ومَن قتله ؟ فقال : لقد جنَّد الجنود ابن زياد بأمر يزيد , فلمّا اصطفّت العساكر لقتاله , قتلوا حُماته وأنصاره وأطفاله ، وبقي فريداً وحيداً يستغيث فلا يُغاث ، ويستجير فلا يُجار , يطلب جرعة من الماء ليُطفي بها حرَّ الظّمأ , فبينما هو واقف إذ جاء سنان فطعنه بسنانه ، ورماه خولي بسهم فوقع في لبّته وسقط عن ظهر الجواد إلى الأرض يخور في دمه ، فجاءه شمر فاحتزَّ رأسه بحسامه ورفعه فوق قناته.

فقال الحجّاج : خُذ هذه البدرة , لا بارك الله لك فيها. فأخذها العلوي وهو يقول : هذا من عطاء الله لا من عطائك يا حجّاج. ثمّ إنّ العلوي بكي وجعل يقول :

____________________

(١) سورة الأنعام / ٨٤ - ٨٥.

٨٦

صَّلى الإلهُ ومَنْ يحفُّ بعرشِهِ

والطّيّبونَ على النَّبيِّ النّاصحِ

وعلى قرابتِهِ الذينِ تهضَّموا

بالنَّائباتِ وكلِّ خطبٍ فادحِ

طلبوا الحقوقَ فاُبعدُوا عنْ دارِهمْ

وعوى عليهمْ كلُّ كلبٍ نابحِ

المجلس الثاني والأربعون بعد المئتين

كان زيد بن علي بن الحسين (عليهم‌السلام ) عين أخوته بعد أخيه أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام ) وأفضلهم, وكان عابداً ورعاً فقيهاً ، سخياً شجاعاً , وظهر بالسّيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويطلب بثارات الحسين (عليه‌السلام ).

وكان سبب خروجه ، مُضافاً إلى طلبه بدم الحسين (عليه‌السلام ) ، أنّه دخل على هشام بن عبد الملك وقد جمع له هشام أهل الشّام , وأمر أنْ يتضايقوا في المجلس حتّى لا يتمكّن من الوصول إلى قربه , فقال له زيد : إنّه ليس من عباد الله أحد فوق أنْ يُوصى بتقوى الله , ولا من عباده أحد دون أنْ يوصي بتقوى الله , وأنا اُوصيك بتقوى الله فاتّقه. فقال له هشام : ما فعل أخوك البقرة ؟ فقال : سمّاه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) باقر العلم وأنت تُسمِّيه بقرة ! لشدَّ ما اختلفتما في الدُّنيا ، ولتختلفان في الآخرة.

فقال له هشام : أنت الـمُؤهِّل نفسك للخلافة ، الراجي لها ؟ وما أنت وذاك لا اُمَّ لك ؟! وإنّما أنت ابن أمة. فقال له يزيد : إنّي لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبيٍّ بعثه وهو ابن أمة, فلو كان ذلك يقصر عن مُنتهى غايةٍ لم يُبعث , وهو إسماعيل بن إبراهيم (عليهما‌السلام ) , فالنّبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة يا هشام ؟ وبعد : فما يقصر برجل أبوه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وهو ابن عليٍّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ؟

فوثب هشام من مجلسه ودعا قهرمانه , وقال : لا يبيتنَّ

٨٧

هذا في عسكري. فخرج زيد وهو يقول : إنّه لم يكره قومٌ قطّ حدَّ السّيوف إلّا ذلّوا. فحُملت كلمتُه إلى هشام فعرف أنّه يخرج عليه , فأرسل معه مَن يُخرجه على طريق الحجاز ، ولا يدعه يخرج على طريق العراق.

فلمّا رجع عنه الـمُوكّلون به - بعد أنْ أوصلوه إلى طريق الحجاز - رجع إلى العراق حتّى أتى الكوفة , وأقبلت الشّيعة تختلف إليه وهم يُبايعونه حتّى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة , سوى أهل المدائن والبصرة ، وواسط والموصل ، وخراسان والرّي ، وجرجان والجزيرة، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي , فلمّا قامت الحرب , انهزم أصحاب زيد وبقي في جماعة يسيرة , فقاتلهم أشد القتال ، وهو يقول متمثّلاً :

فذلُّ الحياةِ وعزُّ المماتِ

وكُلاّ ً أراهُ طعاماً وبيلا

فإنْ كانَ لا بُدَّ منْ واحدٍ

فَسيرِي إلى الموتِ سَيْراً جمِيلا

وحال المساء بين الصفّين , وانصرف زيد وهو مُثخنٌ بالجراح وقد أصابه سهمٌ في جبهته ، وطلبوا مَن ينزع السّهم , فاُتي بحجّام فاستكتموه أمره ، فأخرج النّصل فمات من ساعته , فدفنوه في ساقية ماء ، وجعلوا على قبره التّراب والحشيش ، واُجري الماء على ذلك.

وحضر الحجّام - وقيل : عبدٌ سنديٌّ - مواراته فعرف الموضع , فلمّا أصبح مضى إلى يوسف فدلّه على موضع قبره ، فاستخرجه يوسف بن عمر وبعث برأسه إلى هشام ، وبعثه هشام إلى المدينة فنُصب عند قبر النّبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوماً وليلة. ولـمّا قُتل بلغ ذلك من الصّادق (عليه‌السلام ) كلَّ مبلغٍ، وحزن عليه حُزناً عظيماً , وفرّق من ماله في عيال مَن اُصيب معه من أصحابه ألف دينار.

وكتب هشام إلى يوسف بن عمر : أنْ اصلبه عريانَ. فصلبه في الكُناسة ، فنسجت العنكبوت على عورته من يومه , ومكث أربع سنين مصلوباً حتّى مضى هشام وبُويع

٨٨

الوليد بن يزيد , فكتب الوليد إلى يوسف بن عمر : أمّا بعد ، فإذا أتاك كتابي فاعمد إلى عجل أهل العراق , فأحرقه ثمّ انسفه في اليمِّ نسفاً. فأنزله وأحرقه ثمّ ذرّاه في الهواء.

وكما خُذل زيد بن علي ونُكثت بيعته , خُذل جدّه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) من قبله حتّى ألجأوه إلى قبول الحكومة يوم صفّين , ثمّ قتلوه وهو يُصلّي في محرابه , ثمّ خذلوا ولده الحسن (عليه‌السلام ) وراسلوا عدوَّه فاضطرّ إلى الصُّلح ؛ خوفاً على دمه ودماء شيعته , ثمّ كاتبوا ولده الحسين (عليه‌السلام ) ، فأرسل إليهم ابن عمّه مسلم بن عقيل , فبايعه منهم ثمانية عشر ألفاً أو أكثر , ثمّ خذلوا مسلماً وأمكنوا منه ابن زياد , فأخذه أسيراً وقتله.

ولـمّا جاءهم الحسين (عليه‌السلام ) , خذلوه وتألّب منهم ثلاثون ألفاً لقتاله مع عمر بن سعد حتّى قتلوه , ومِن شرب الماء منعوه ، وسبوا نساءه , وداروا برأسه ورؤوس أهل بيته وأصحابه في البلدان.

إذا ما سَقَى اللهُ البلادَ فلا سَقَى

معاهدَ كوفانٍ بنوِّ المرازمِ

أتتْ كتبهُمْ في طيِّهنَّ كتائبٌ

وما رُقِّمتْ إلّا بسُمِّ الأراقمِ

المجلس الثالث والأربعون بعد المئتين

روى المسعودي في مروج الذهب : أنّه لـمّا قُتل مروان بن محمَّد بن مروان بن الحكم الـمُلقّب بالحمار وبالجعدي ، حُملت بناته والأسارى إلى

٨٩

صالح بن علي بن عبد الله بن العبّاس - وهو عمُّ السّفّاح - فلمّا دخلن عليه , تكلّمت ابنة مروان الكبرى , فقالت : يا عمَّ أمير المؤمنين , حفظ الله لك الدُّنيا والآخرة , نحن بناتك وبناتُ أخيك فليسعنا من عدلكم ما وسعكم منْ جَورنا.

قال : إذاً لا نستبقي منكم أحداً رجلاً ولا امرأة ؛ ألم يقتل أبوك بالأمس ابن أخي إبراهيم بن محمَّد بن علي بن عبد الله بن العبّاس الإمام في محبسه بحرّان ؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وصلبه في كُناسة الكوفة , وقتل امرأة زيدٍ بالحيرة على يدي يوسف بن عمر الثقفي ؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان ؟ ألم يقتل عبيد الله بن زياد الدَّعيُّ مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة ؟ ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي على يدي عمر بن سعد مع مَن قُتل بين يديه من أهل بيته ؟ ألم يخرج بحرم رسول الله سبايا حتّى ورد بهم على يزيد بن معاوية , وبعث برأس الحسين بن علي على رأس رمح يُطاف به كور الشّام ومدائنها حتّى قدموا به على يزيد بدمشق , كأنّما بعث إليه برأس رجل من أهل الشّرك , ثمّ أوقف حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) موقف السّبي يتصفّحهنَّ جنود أهل الشّام الجفاة الطّغام , ويطلبون منه أنْ يهب لهم حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؛ استخفافاً بحقِّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وجرأة على الله عزّ وجل وكفراً لأنعمه ؟ فما الذي استبقيتم منّا أهل البيت أو عدلتم فيه علينا ؟!

قالت : يا عمَّ أمير المؤمنين , فليسعنا عفوكم إذاً. قال : أمّا العفو فنعم. قالت : تُلحقنا بحرّان. فألحقهنَّ بحرّان , فعلت أصواتُهنَّ عند دخولهنَّ بالبكاء على مروان , وشققن جيوبهنَّ وأعولن بالصّياح والنّحيب.

وشتّان بين دخولهنَّ حرّان - ولم يفعل بنو العبّاس ببني اُميّة إلّا بعض ما يستحقّونه - وبين دخول بنات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) المدينة بعد الرجوع من الشّام ! وأين ما جرى على بنات مروان جزاءً لأعمال بني اُميّة , ممّا جرى على بنات

٩٠

رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) جزاءً ليوم بدر ؟! وأين حزن بنات مروان من حزن الهاشميّات وعقائل بيت النّبوّة على الحسين (عليه‌السلام ) ؟!

قال الصّادق (عليه‌السلام ) : (( ما اكتحلت هاشميّةٌ ولا اختضبت ، ولا رُؤي في دار هاشميٍّ دخانٌ خمس سنين حتّى قُتل عبيد الله بن زياد )). وقالت فاطمة بنت أمير المؤمنين على أبيها وعليها‌السلام : ما تحنّأت امرأة منّا ، ولا أجالت في عينيها مروداً ، ولا امتشطت حتّى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد.

بَني أُمَيَّةَ ما الأَسيافُ نائِمَةً

عَن شاهِرٍ في أَقاصي الأَرضِ مَوتورِ

تُسبى بَناتُ رَسولِ اللَهِ بَينَهُمُ

وَالدّينُ غَضُّ الـمَبادي غَيرُ مَستورِ

المجلس الرابع والأربعون بعد المئتين

لـمّا كان زمن مروان بن محمَّد الـمُلقّب بالحمار ، آخر ملوك بني اُميّة , اجتمع بنو هاشم بالمدينة وبايعوا محمَّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم‌السلام ) , وفيهم السّفّاح والمنصور , ولم يبايعه جعفر بن محمَّد الصّادق (عليه‌السلام ) , فنسبه عبد الله بن الحسن إلى الحسد ، فقال الصّادق (عليه‌السلام ) : (( والله ، ما ذلك يحملني )). وأخبرهم أنّ الخلافة تصير إلى السّفّاح وإخوته وأبنائهم , وأخبرهم أنّ محمَّداً وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن مقتولان , وقال : (( إنّ صاحب الرّداء الأصفر - وهو المنصور - يقتل محمَّداً )).

فلمّا أفضى الأمر إلى المنصور بعد أخيه السّفّاح , كان يخاف من محمَّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ؛ لأنّه بايع محمَّداً , فحجّ المنصور وقال لعبد الله بن الحسن : أين ابنك محمَّد ؟ قال : لا أدري. قال : لَتأتينَّ به. قال : لو كان تحت قدمي

٩١

ما رفعتهما عنه. فحبسه بالمدينة سنتين , وولّى المدينة رجلاً يُقال له رياح , وأمره أنْ يقبض على بني حسن ويحبسهم , وكان عدوّاً لأهل البيت (عليهم‌السلام ) شرّيراً فحاشاً ؛ ولذلك ولاّه المنصور المدينة. فحبس منهم اثني عشر رجلاً غير عبد الله , فيهم صبي صغير ، وفيهم رجل عابد اسمه علي بن حسن جاء إلى رياح وطلب منه أنْ يحبسه معهم , فقيَّدهم وحبسهم ، وحبس معهم محمَّد بن عبد الله - من ولد عثمان - وكان أخاهم لاُمِّهم ( وهي : فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ) ، وولدان له.

ثمّ إنّ المنصور حجَّ وأمر بحملهم إلى العراق ، فحُملوا مكبَّلين مغلولين , فلمّا اُخرجوا وقف الصّادق (عليه‌السلام ) وراء ستر رقيق , فلمّا نظر إليهم , هملت عيناه حتّى جرى دمعه على لحيته , وقال : (( والله , لا يحفظ لله حرمة بعد هؤلاء )).

أقول : ما أدري ما كان يجري على مولانا الإمام جعفر بن محمَّد الصّادق (عليه‌السلام ) , لو نظر إلى جدِّه عليِّ بن الحسين (عليه‌السلام ) حين أمر به ابن زياد أنْ يُغلَّ بغلٍّ في عُنقه ؟ وفي رواية : في يديه ورقبته. وحمله مع عمّاته وأخواته ومَن تخلف من أهل بيته إلى يزيد في الشّام , وفيهم الحسن بن الحسن المثنى ، وأخواه زيد وعمر أبناء الحسن السّبط. وكان الحسن بن الحسن قد واسى عمّه في الصّبر على ضرب السّيوف وطعن الرماح , وكان قد نُقل من المعركة وقد اُثخن بالجراح وبه رمق فبرئ.

وساروا بهم كما يُسار بسبايا الروم حتّى اُدخلوهم على يزيد بالشّام وهم مُقرَّنون في الحبال ، وزين العابدين (عليه‌السلام ) مغلول ، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (عليه‌السلام ) : (( أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، لو رآنا على هذه الصّفة؟! )). فلمْ يبقَ في القوم أحد إلّا وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت ، وأمر بفكّ الغُلّ عن زين العابدين (عليه‌السلام ).

فلهفي لآلِ اللهِ أسرَى حواسراً

سبايا على الأكْوارِ سَبيَ الدَّيالمِ

ومِنْ بلدٍ تُسبَى إلى شرِّ بلدةٍ

ومِنْ ظالمٍ تُهدَى إلى شرِّ ظالمِ

٩٢

المجلس الخامس والأربعون بعد المئتين

لمـّا أمر المنصور بحمل بني الحسن إلى العراق , حملهم رياح - عامل المدينة - إلى الرّبذة , مكبّلين مغلولين عليهم المسوح , فخرج المنصور راكباً بغلة شقراء ومعه وزيره الربيع , فناداه عبد الله بن الحسن : يا أبا جعفر , ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر. فقال له المنصور : اخسأ. ولم يعرج عليه.

ثمّ إنّ المنصور حبسهم بالعراق في مكان يُقال له قصر ابن هبيرة - شرقي الكوفة - ، وكانوا لا يعرفون الليل من النّهار , ولا يعرفون أوقات الصّلاة إلّا بأحزابٍ من القرآن يقرأها بعضهم , وإذا مات منهم أحد تُرك في مكانه. فلمّا خرج عليه محمَّد بن عبد الله بن الحسن , أمر بهدم الحبس عليهم , ولـمّا اُدخل عليه محمَّد بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن ، وكان يُسمى الديباج لجماله ، نظر إليه المنصور , فقال له : أنت الديباج الأصغر ؟ قال : نعم. قال : أما والله ، لأقتلنّك قتلةً ما قتلتها أحداً من أهل بيتك. فأمر أنْ تُبنى عليه إسطوانة وهو حي.

وكان معهم رجل من ولد عثمان - وهو أخو عبد الله بن الحسن لاُمّه ؛ اُمّهما جميعاً فاطمة بنت الحسين بن علي (عليهما‌السلام ) - فلمّا اُدخل على المنصور , وعليه قميص وإزار رقيق تحت القميص , جرى بينهما كلام لا يليق ذكره , فغضب عليه المنصور وأمر بشقِّ ثيابه , فشُقَّ قميصه عن إزاره فأشف عن عورته(١) , ثمّ أمر به فضُرب مئتين وخمسين سوطاً , وهو في أثناء الضّرب يفتري عليه ويشتمه , فأصاب سوط منها وجهه ، فقال : ويحك ! اكفف عن وجهي ؛ فإنّ له حرمة برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فأغرى المنصور به الجلاّد , فقال : الرأس الرأس. فضرب على رأسه نحو من ثلاثين

____________________

(١) هكذا وردت العبارة في المصدر الأساس ، ولعلها ( فكُشفت عورته ). ( موقع معهد الإمامَين الحسنَين )

٩٣

سوطاً , فأصاب سوط منها إحدى عينيه فسالت , ثمّ اُخرج كأنّه زنجيٌّ ، قد غيّرت السّياط لونه وأسالت دمه , فقام مولى له وألقى عليه رداءه وأجلسه إلى جانب أخيه لاُمّه عبد الله بن الحسن , فعطش ممّا ناله فطلب ماء , فقال أخوه عبد الله : يا معشر المسلمين , مَن يسقي ابن رسول الله؟ فتحاماه النّاس , فما سقوه حتّى جاء خراساني بماء فسقاه.

الله أكبر ! أما كان يوجد يوم كربلاء رجل مثل عبد الله بن الحسن فيُنادي : يا معشر المسلمين, مَن يسقي إمامه وابنَ بنت نبيه ، وابن رسول الله الماء ؟! وما كان يوجد رجل مثل هذا الخراساني فتأخذه الغيرة من أبي عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) , فيأتي له بالماء ؟! بلى والله , لقد كثر طلب الماء يوم عاشوراء من أهل الكوفة للحسين (عليه‌السلام ) وعياله وأطفاله , فما رقّت قلوبهم. فممّن طلبه منهم برير بن خضير الهمداني ، فقالوا له : قد أكثرت الكلام يا برير , فوالله ، ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله.

وقد طلب منهم الحسين (عليه‌السلام ) الماء مراراً عديدة , وهم يقولون : والله , لا تذوق الماء حتّى تذوق الموت عطشاً. وآخر مرّة طلب فيها الماء وهو يجود بنفسه , فقال له قائل : والله , لا تذوق الماء حتّى ترد الحامية فتشرب من حميمها. فقال له : (( أنا أرد الحامية فأشرب من حميمها ؟! لا والله , بل أردُ على جدِّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مُقتدر , وأشرب من ماء غيرِ آسن , وأشكو إليه ما ارتكبتُم منّي وفعلتم بي )).

فعزَّ أنْ تتلظَّى بينَهُمْ عَطشاً

والماءُ يصدرُ عنهُ الوحشُ ريَّانا

المجلس السادس والأربعون بعد المئتين

روى الشّريف المرتضىرضي‌الله‌عنه في الغُرر والدُّرر , قال : قدم

٩٤

على الرشيد رجل من الأنصار يُقال له نفيع , فحضر باب الرشيد يوماً ومعه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز , وحضر موسى بن جعفر (عليهما‌السلام ) على حمار له , فتلقّاه الحاجب بالبشر والإكرام، وأعظمه مَن كان هناك وعجّل له الإذن , فقال نفيع لعبد العزيز : مَن هذا الشّيخ ؟ قال: أو ما تعرفه ؟! قال : لا. قال : هذا شيخ آل أبي طالب ؛ هذا موسى بن جعفر. فقال نفيع: ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم ( يعني : بني العبّاس ) , يفعلون هذا برجلٍ يقدر أنْ يُزيلهم عن السّرير , أما إنْ خرج لأسوأنّه. فقال له عبد العزيز : لا تفعل ؛ فإنّ هؤلاء أهل بيت قلّ ما تعرض لهم أحد في خطاب إلّا وسموه في الجواب سمةً يبقى عارها عليه مدى الدهر.

قال : وخرج موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) ، فقام إليه نفيع الأنصاري فأخذ بلجام حماره ، ثم قال له : مَن أنت ؟ فقال : (( يا هذا , إنْ كُنتَ تُريد النّسب , فأنا ابن محمَّد حبيب الله بن إسماعيل ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ، وإنْ كُنتَ تُريد البلد , فهو الذي فرض الله على المسلمين وعليك - إنْ كُنتَ منهم - الحجَّ إليه ، وإنْ كُنتَ تُريد المفاخرة , فوالله , ما رضي مشركو قومي مسلمي قومك أكفّاءً لهم حتّى قالوا : يا محمَّد , اخرج إلينا أكفّاءنا من قريش ، - وذلك لـمّا برز شيبة بن ربيعة ، وأخوه عتبة ، وولده الوليد بن عتبة يوم بدر وطلبوا الـمُبارة , فبرز إليهم جماعة من الأنصار, فقالوا : يا محمَّد , اخرج إلينا أكفّاءنا من قريش. فبرز إليهم حمزة بن عبد المطّلب ، وعبيدة بن الحارث بن المطّلب ، وعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) - وإنْ كُنتَ تُريد الصّيت والاسم , فنحنُ الذين أمر الله تعالى بالصّلاة علينا في الصّلوات الفرائض في قوله : اللهمّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد. ونحنُ آل محمَّد. خلِّ عن الحمار )). فخلّى عنه ويده ترتعد وانصرف بخزي , فقال له عبد العزيز : ألم أقل لك ؟

ثمّ آل الأمر بالرشيد إلى أنْ قبض على الإمام موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) وهو قائم يُصلّي عند رأس النّبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ,

٩٥

فقطع عليه صلاته وأخذه فحبسه , ثمّ أرسله إلى البصرة فحبسه فيها عند عيسى بن جعفر بن المنصور , فبقي محبوساً عنده سنة , ثمّ أخذه منه فحبسه عند الفضل بن الربيع , ثمّ سلّمه إلى السّندي بن شاهك فحبسه عنده حتّى مضت عليه أربع سنوات وهو محبوس , ثمّ سمّه الرشيد وهو في المجلس. فلمّا توفِّي في يد السّندي بن شاهك , حُمل على نعش ونودي : هذا إمام الرّافضة فاعرفوه. فلمّا اُتي به مجلس الشّرطة , أقام أربعة نفر فنادوا عليه بنداء فظيع : ألا مَن أراد أنْ يرى الخبيث ابن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج.

وخرج سُليمان بن المنصور - عمّ الرشيد - من قصره إلى الشّطِّ , فسمع الصّياح والضّوضاء , فقال لغلمانه وولده : ما هذا ؟ قالوا : السّندي بن شاهك يُنادي على موسى بن جعفر على نعشه. فقال لغلمانه وولده : يُوشك أنْ يفعل هذا به في الجانب الغربي , فإذا عبر به فانزلوا وخذوه من أيديهم , فإنْ مانعوكم فاضربوهم وخرّقوا عليهم سوادهم. فلمّا عبروا به , نزلوا إليهم وأخذوه من أيديهم ووضعوه في مفرق أربع طرق , وأقام سُليمان المنادين ينادون : ألا مَن أراد أنْ يرى الطّيب ابن الطّيب موسى بن جعفر فليخرج.

وحضر الخلقُ ، وغُسّل وحُنّط بحنوطٍ فاخر , وكفّنه سُليمان بكفن فيه حبرة استُعملت له بألفين وخمسمئة دينار عليها القرآن كلّه , واحتفى ومشى في جنازته مُتسلّباً مشقوق الجيب إلى مقابر قريش فدفنه هناك , وكتب إلى الرشيد بخبره , فكتب إليه الرشيد : وصلتك رَحمٌ يا عم , وأحسن الله جزاءك. واعتذر بأنَّ ما فعله السّندي لم يكن عن أمره.

أما كان يوجد يوم كربلاء رجل مثل سُليمان , فيُصلّي على الحسين (عليه‌السلام ) ويُشيّعه ويدفنه حتّى لا يبقى ثلاثة أيّام بلا دفن , تسفي عليه الرياح وتصهره الشّمس ؟!

ما إنْ بقيتَ منَ الهوانِ على الثَّرَى

مُلقىً ثلاثاً في رُبىً ووهادِ

إلّا لكَي تَقضي عليكَ صلاتَها

زُمرُ الملائكِ فوقَ سبعِ شدادِ

٩٦

المجلس السابع والأربعون بعد المئتين

روى الصّدوق في العيون بسنده : أنّ المأمون قال : أتدرون مَن علّمني التشيّع ؟ فقالوا : لا. قال : علّمنيه الرشيد. قالوا : كيف والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت ؟! قال : كان يقتلهم على الـمُلك , ولقد حججتُ معه سنة ، فلمّا ورد المدينة قال لحُجّابه : لا يدخلنَّ عليَّ رجلٌ إلّا نسب نفسه. فكان يُعطيهم على قدَرِ شرفهم وهجرة آبائهم ، من خمسة آلاف دينار إلى مئتي دينار.

فدخل عليه يوماً الربيع , فقال : على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر. فأقبل الرشيد عليَّ وعلى الأمين والمؤتمن والقوّاد , ونحن قيام على رأسه , فقال : احفظوا عليَّ أنفسكم. ثمّ قال لآذنِهِ : ائذن له ولا ينزل إلّا على بساطي.

فأقبل شيخٌ مُصفرُّ اللون قد نهكته العبادة ، وكلِمَ من السّجود وجهُهُ وأنفُه , فلمّا رأى الرشيد رمى بنفسه عن حمار كان راكبه , فقال الرشيد : لا والله , إلّا على بساطي. فمنعه الحُجّاب من الترجّل , ونظرنا إليه بالإجلال والإعظام , فما زال يسير على حماره حتّى صار إلى البساط , والحُجّاب والقوّاد محدقون به , فنزل فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط , وقبّل وجهه وعينيه ، وأخذ بيده فأجلسه معه في صدر المجلس , وجعل يُحدّثه ويُقبل بوجهه عليه ويسأله عن أحواله , ثم قال له : يا أبا الحسن , ما عليك من العيال ؟ قال : (( يزيدون على الخمسمئة )). قال : أولادك كلّهم ؟ قال : (( لا , أكثرهم موالي وحشم ؛ فأمّا الوِلد فلي نيف وثلاثون ، والذّكران منهم كذا والنّسوان كذا )). قال : فلِم لا

٩٧

تُزوج النّسوان من بني عمومتهنَّ وأكفائهنّ ؟ قال : (( اليد تقصر عن ذلك )). قال : فما حال الضّيعة ؟ قال : (( تُعطي في وقت وتمنع في آخر )). قال : فهل عليك دَين ؟ قال : (( نعم )). قال : كم ؟ قال : (( نحو من عشرة آلاف دينار )). فقال الرشيد : يابن عم , أنا اُعطيك من المال ما تُزوّج الذكران والنّسوان , وتقضي الدَّين وتُعمّر الضّياع. فقال له : (( وصلتك رحمٌ يابن عم , وشكر الله لك هذه النّية الجميلة. والرَّحمُ ماسَّة ، والقرابةُ واشجة ، والنّسب واحد , والعبّاس عمُّ النّبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وصنو أبيه , وعمُّ عليّ بن أبي طالب وصنو أبيه )). قال : أفعل ذلك يا أبا الحسن وكرامة.

ثمّ قام ، فقام الرشيد لقيامه وقبّل عينيه ووجهه , ثمّ أقبل عليَّ وعلى الأمين والمؤتمن , فقال : يا عبد الله ، ويا محمَّد ، ويا إبراهيم , امشوا بين يدي عمِّكم وسيّدكم ؛ خذوا بركابه وسوّوا عليه ثيابه وشيِّعوه إلى منزله. فأقبل عليَّ أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) سرّاً بيني وبينه ، فبشّرني بالخلافة , فقال لي : (( إذا ملكتَ هذا الأمر , فأحسنْ إلى وُلدي )). ثمّ انصرفنا.

وكنتُ أجرأ ولد أبي عليه , فلمّا خلا المجلس قلتُ : يا أمير المؤمنين , مَن هذا الرجل الذي قد أعظمته وأجللته , وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه , ثمّ أمرتنا بأخذ الركاب له ؟ قال : هذا إمام النّاس ، وحُجّةُ الله على خلقه ، وخليفتُهُ على عباده. فقلت : أوَ ليست هذه الصّفات كلها لك وفيك ؟ فقال : أنا إمام الجماعة في الظّاهر والغلبة والقهر , وموسى بن جعفر إمامٌ بحقّ. والله يا بُني , إنّه لأحقُّ بمقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) منّي ومن الخلق جميعاً. والله , لو نازعتني في هذا الأمر , لأخذتُ الذي فيه عيناك ؛ فإن الـمُلك عقيم.

فلمّا أراد الرحيل , أرسل إليه صرّة مع الفضل فيها مئتا دينار , وقال : قُل له , يقول لك أمير المؤمنين : نحن في ضيقة , وسيأتيك برّنا. فقلت : يا أمير المؤمنين , تُعطي سائر النّاس خمسة آلاف دينار إلى ما دونها , وتُعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مئتي دينار , أخسّ عطيّة

٩٨

أعطيتها أحداً من النّاس ! فقال : اسكُتْ لا اُمّ لك , لو أعطيته ما وعدته لم آمنه أنْ يضرب وجهي غداً بمئة ألف سيف من شيعته ومواليه , وفقرُ هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم.

فلمّا نظر إلى ذلك مخارق الـمُغنِّي اغتاظ ، فقال : يا أمير المؤمنين , أكثر أهل المدينة يطلبون منّي شيئاً ، فإنْ لم أقسم فيهم شيئاً لم يتبيّن لهم تفضّل أمير المؤمنين عليّ. فأمر له بعشرة آلاف دينار , فقال : بناتي اُريد أنْ اُزوّجهنّ. فأمر له بعشرة آلاف دينار , فقال : لا بدّ لي من غلّة. فأمر بإقطاعه ما غلَّته عشرة آلاف دينار وعجّلها له.

فقام مخارق من فوره وقصد موسى بن جعفر (عليه‌السلام ) , وقال له : قد وقفتُ على ما عاملك به هذا , وقد احتلتُ لك عليه وأخذتُ منه ثلاثين ألف دينار , وقطاعاً يغلّ عشرة آلاف دينار , ولا والله يا سيّدي , ما أحتاج إلى شيء منه وما أخذته منه إلّا لك. قال : (( بارك الله لك في مالك وأحسنَ جزاءك , ما كنتُ لآخذ منه درهماً واحداً , وقد قبلت صلتك وبرّك , فانصرِف راشداً ولا تُراجعني )). فقبّل يده وانصرف.

أمثل هذا الإمام في علمه وزهده وفضله , يُنقل من حبس إلى حبس ؛ فتارة في حبس عيسى بن المنصور , وتارة في حبس الفضل بن الربيع , وتارة في حبس السّندي بن شاهك حتّى مضت عليه أربع سنوات وهو محبوس , وهو إمام أهل البيت الطّاهر النّبوي في عصره , وسيّد بني هاشم، ووارث علوم جدّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟!

ولـمّا نُقل إلى السّندي بن شاهك ضيّق عليه في الحبس , ثمّ دسّ إليه الرشيد السّمَّ , فمضى إلى ربّه مسموماً شهيداً ، صابراً مُحتسباً ، كما مضى جدّه الحسين بن علي (عليهما‌السلام ) شهيداً بالسّيف ، قتيلاً ظامياً ، صابراً مُحتسباً , وفدى دين جدّه بنفسه.

فإنّ أهل البيت (عليهم‌السلام ) كما قال زين العابدين (عليه‌السلام ) , لـمّا أمر ابن زياد بقتله : (( أبالقتل تُهدّدُني ؟! أمَا علمت أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتَنا من اللهِ الشّهادة ؟ )).

٩٩

تَتبَّعُوكُمْ ورامُوا محْوَ فضلِكُمُ

وخيَّبَ اللهُ مَنْ في ذلكُمْ طَمَعا

أنَّى وفي الصّلواتِ الخمسِ ذكْركُمُ

لدَى التَّشهدِ للتوحيدِ قدْ شفَعَا

المجلس الثامن والأربعون بعد المئتين

روى المفيد في الإرشاد ، والصّدوق في العيون عن ياسر الخادم : إنّ المأمون كتب إلى الرضا (عليه‌السلام ) يستدعيه ويستقدمه إلى خراسان , فاعتلّ عليه بعلل كثيرة , فما زال المأمون يكاتبه ويسأله حتّى علم الرضا (عليه‌السلام ) أنّه لا يكفّ عنه ، فخرج فلمّا وصل إلى مرو , عرض عليه المأمون أنْ يتقلّد الخلافة ، فأبى ذلك , فقال المأمون : فولاية العهد. فأجابه إلى ذلك على شروط , فكتب الرضا (عليه‌السلام ) : (( إنّي أدخل في ولاية العهد , على أنْ لا آمر ولا أنهى ، ولا أقضي ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائم )). فأجابه المأمون إلى ذلك ، ودعا المأمون القضاة والقوّاد ، والشّاكرية وبني العبّاس إلى ذلك , فأضربوا عليه , فأخرج أموالاً كثيرة وأعطى القوّاد وأرضاهم , إلّا ثلاثة نفر أبوا ذلك فحبسهم.

وبويع الرضا (عليه‌السلام ) وكتب بذلك إلى البلدان , وضُربت الدنانير والدراهم باسمه ، وخُطب له على المنابر , وأنفق المأمون على ذلك أموالاً كثيرة. فلمّا حضر العيد , بعث المأمون إلى الرضا (عليه‌السلام ) يسأله أنْ يركب ويحضر العيد لتطمئنَّ قلوبُ النّاس ، ويعرفوا فضله ، وتقرّ قلوبهم على هذه الدولة المباركة , فبعث إليه الرضا (عليه‌السلام ) : (( قد علمتَ ما كان بيني وبينك من الشّروط في دخولي في هذا الأمر )). فقال المأمون : إنّما اُريد أنْ يرسخ في قلوب النّاس هذا الأمر ؛ فيقرّوا بما فضّلك الله تعالى به. فلمّا ألحّ عليه , قال : (( إنْ أعفيتني من ذلك فهو أحبُّ

١٠٠