المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٥

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 767

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 767
المشاهدات: 86398
تحميل: 4377


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 767 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86398 / تحميل: 4377
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 5

مؤلف:
العربية

الترمذي باسناد قوي قال رسول الله (ص) ما تريدون من علي ان علياً مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن من بعدي (وعن البيهقي) في فضائل الصحابة بسنده الى النبي (ص) انه قال من أراد أن ينظر الى آدم في علمه والى نوح في تقواه والى ابراهيم في حلمه والى موسى في هيبته والى عيسى في عبادته فلنيظر إلى علي بن ابي طالب (أقول) وفضائل أمير المؤمنين (ع) ومناقبه كثيرة لا يحيط بها بيان ولا يحصيها لسان ولا تدرك بعد ولا توصف بحد.

مناقب لجت في علو كأنما

تحاول ثاراً عند بعض الكواكب

محاسن من مجدمتى يقرنوا بها

محاسن اقوام تعد كالمعائب

وروى المفيد في الارشاد بسنده عمن سمع أشياخ كندة اكثر من عشرين مرة يقولون سمعنا علياً (ع) على المنبر يقول ما يمنع اشقاها ان يخضبها من فوقها بدم ويضع يده على لحيته (قال) وعن الأصبغ بن نباته قال خطبنا امير المؤمنين (ع) في الشهر الذي قتل فيه فقال اتاكم شهر رمضان وهو سيد الشهور وأول السنة وفيه تدور رحى السلطان الا وانكم حاجو العام صفاً

١٨١

واحداً و آية ذلك اني لست فيكم قال فهو ينعى نفسه (ع) ونحن لا ندري (وروى) المفيد ايضاً في الارشاد ان علياً (ع) قال لابنته ام كلثوم يا بنية اني اراني قل ما اصحبكم قالت وكيف ذاك يا ابتاه قال اني رأيت رسول الله (ص) في منامي وهو يمسح الغبار عن وجهي ويقول يا علي لا عليك قد قضيت ما عليك قالت فما مكثنا الا ثلاثا حتى ضرب تلك الضربة فصاحت ام كلثوم فقال يا بنية لا تفعلي فاني ارى ما لا ترين.

لقد صرع الاسلام ساعة قتله

فيامصرع الاسلام عظمت مصرعا

فكيف ودار الوحي اضحت ربوعها

خلاء وامسى منزل الدين بلقعا

المجلس السابع

قال رسول الله (ص) انا مدينة العلم وعلي بابها فمن اراد المدينة

١٨٢

فليأت الباب (او) فمن اراد العلم فليأت الباب (او) فليأته من بابه (او) من اراد بابها فليأت علياً (او) ولا تؤتى البيوت الا من ابوابها (او) وهل تدخل المدينة (او) تؤتى المدينة الا من بابها (او) كذب من زعم انه يصل الى المدينة الا من الباب (وفي رواية) انا مدينة الحكمة وعلي بابها (قال ص) اقاضاكم علي (وقال) علي (ع) وهو على المنبر سلوني قبل ان تفقدوني فما من آية الا وانا اعلم بليل انزلت او نهار او سهل او جبل (وروى) احمد ابن حنبل انه لم يكن احد من اصحاب رسول الله (ص) يقول سلوني غير علي بن ابي طالب وقال (ع) لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوارة بتوارتهم وأهل الانجيل بانجيلهم وكان (ع) مرجعاً لجميع الصحابة في مشكلاتهم ولم يرجع الى أحد (وقال) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي مع الحق والحق مع علي (وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) لعلي (ع) لا يحبك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق (وأمر) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسد الأبواب من المسجد الا باب علي وقال والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ولكني أمرت بشيء فاتبعته رواه أحمد ابن حنبل (وهو) صهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوج ابنته وبضعته سيدة نساء العالمين التي لم يكن لها كفؤ سواه وأبو ولديه الحسنين سيدي شباب اهل الجنة اللذين انحصر نسله فيهما (وهو) الذي لم يسبقه سابق ولم يلحقه لا حق في سعة علمه وغزارة فضله وفصاحته وشجاعته وعدله وسياسته وعبادته وجمعه لأنواع الفضائل ومتضاداتها (وهو) الذي صعد على منكب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورمى

١٨٣

الأصنام من فوق الكعبة (وهو) حامل لواء الحمد والساقي على الحوض وقسيم النار يقول هذا لي وهذا لك (وفي رواية) قسيم الجنة والنار قال الشاعر :

علي حبه جنه

قسيم النار والجنه

وصي المصطفى حقا

إمام الانس والجنه

(وقال) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي مني وأنا من علي (ولما) نزلت سورة براءة بعث النبي (ص) بعض أصحابه ليقرأها على المشركين في الموسم فنزل عليه جبرئيل فقال يا محمد لا يبلغ عنك الا أنت أو رجل منك فبعث علياً (ع) فأخذها منه (وقال) (ص) يوم غدير خم من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وادر الحق معه حيثما دار (وقال) له أنت ولي كل مؤمن من بعدي رواه ابن حجر في الاصابة (وهو) اول من آمن بالله وجاهد بين يدي رسول الله (ص). ونام على فراشه ليلة الغار ووقاه بنفسه. وبسيفه ثبت أساس الدين وارتفعت دعائم الاسلام وكان معه لواء رسول الله (ص) في المواقف كلها وثبت معه في كل موقف ولم يهرب في موقف قط ولا بارز احداً فسلم منه كانت ضرباته وترا اذا علا قد واذا اعترض قط. وقتل في يوم بدر صناديد قريش فقتل وحده نصف المقتولين من المشركين وقيل أزيد من النصف بواحد وقتل وقتل باقي المسلمين وثلاثة آلاف من الملائكة المسومين النصف الآخر وشرك علي (ع) في قتل العض من النصف الآخر وثبت مع

١٨٤

رسول الله (ص) يوم أحد بعد أن انهزم الناس عنه حتى نزل جبرئيل وقال يا رسول الله هذه هي المواساة فقال انه مني وانا منه فقال جبرئيل وانا منكما وقال جبرئيل في ذلك اليوم :

لا سيف الا ذو الفقا

رولا فتى الا علي

وقتل عمرو بن عبدود يوم الخندق بعد ما جبن عنه الناس وهزم الله بقتله الأحزاب وكفى الله المؤمنين القتال بعلي (ع) (وقال) رسول الله (ص) ضربة علي يوم الخندق تعدل عمل الثقلين الى يوم القيامة وذلك لأنه لو لا ضربة علي (ع) لغلب المسلمون وحصل أعظم ذل ووهن على الاسلام (قال) رسول الله (ص) يوم خيبر لأعطين الراية غداً رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كراراً غير فرار يأخذها بحقها لا يرجع حتى يفتح الله على يديه وكان علي (ع) أرمد فتفل على عينيه فبرىء وزحف بالراية واستقبله مرحب فضربه على هامته ضربة وصلت الى أضراسه وسمع اهل العسكر صوت ضربته وانهزمت اليهود وأغلقت الحصن فاجتذب بابه فألقاه واجتمع عليه سبعون رجلا حتى أعادوه (وثبت) في يوم حنين بعدما انهزم الناس عن رسول الله (ص) وحامى عنه حتى رجع الناس بثباته وثبات تسعة معه ثمانية من بني هاشم والتاسع أيمن بن أم أيمن وثبتت التسعة ثم قتل علي (ع) ابا جرول وانهزم المشركون بقتله (وهو) الذي جعل نفس رسول الله (ص) في قوله تعالى في آية المباهلة فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم فدعا (ص) عليا

١٨٥

وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام (وآخاه) النبي (ص) لما آخى بين اصحابه وهذا دليل على انه يكن له كفؤ بين أصحاب النبي (ص) وانه افضلهم قال صفي الدين الحلي رحمه ‌الله تع الى :

أنت سر النبي والصنو وابن الـ

ـعم والصهر والأخ المستجاد

لو رأى مثلك النبي لأخا

ه والا فأخطأ الانتقاد

(واخذ) النبي (ص) كساء فوضعه على علي وفاطمة والحسن والحسين وقال انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا وذلك في بيت ام سلمة فارادت أن تدخل معهم فمنعها رسول الله (ص) وقال انت الى خير (وعن) الترمذي في صحيحه ان رسول الله (ص) كان من وقت نزول هذه الآية الى قريب من ستة اشهر اذا خرج الى الصلاة يمر بباب فاطمة ثم يقول انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا (وهو) الذي طلق الدنيا ثلاثا وكان طعامه خبز الشعير ولباسه الكرابيس الغليظ ومات ولم يخلف صفراء ولا بيضاء وكانت الدنيا كلها بيده عدا الشام وكان يكنس بيت المال ويصلي فيه ويقول :

هذا جناي وخياره فيه

اذ كل جان يده الى فيه

(وفيه) انزل الله تعالى حين تصدق بخاتمه في صلاة انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون والزكاة الصدقة (واهدي) الى النبي (ص) طائر مشوي

١٨٦

فقال اللهم ائتني بأحب خلقك اليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء علي بن ابي طالب , وفيه وفي زوجته وابنيه نزلت يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا الآية وذلك حين تصدقوا بزادهم وهم صائمون , وفضائله كثيرة لا تحصى ومناقبه جليلة لا تستقصى.

قال فيه البليغ ما قال ذو العـ

ـي فكل بفضله منطيق

وكذلك العدو لم يعد ان قا

ل جميلا كما يقول الصديق

وروى المفيد في الارشاد بسنده عن الأصبغ بن نباته قال اتى ابن ملجم أمير المؤمنينعليه‌السلام فبايعه فيمن بايع ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين (ع) فتوثق منه وتوكد عليه ان لا يغدر ولا ينكث ففعل ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين (ع) ثانية فتوثق منه وتوكد عليه أن لا يغدر ولا ينكث ففعل ثم أدبر عنه فدعاه أمير المؤمنين (ع) الثالثة فتوثق منه وتوكد عليه ان لا يغدر ولا ينكث فقال ابن ملجم والله يا أمير المؤمنين ما أراك فعلت هذا بأحد غيري فقال أمير المؤمنين(ع):

اريد حياته (حباءه خ ل) ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد

امض يا ابن ملجم فوالله ما ارى ان تفي بما قلت. فلما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان ارتصده اللعين ابن ملجم

١٨٧

في مسجد الكوفة وقد خرج يوقظ الناس لصلاة الصبح فلما مر به في المسجد وهو مستخف بأمره مماكر باظهار النوم في جملة النيام قام اليه فضربه على ام رأسه بالسيف وكان مسموماً فمكث الى ليلة احدى وعشرين الى نحو ثلث الليل الأول ثم قضى نحبه شهيداً ولقي ربه مظلوما.

شهر الصيام بكت عين السماء دما

فيه وجبريل ما بين السماء نعى

هذا ابن ملجم قد اردى أبا حسن

اهل درى اليوم من اردى ومن صرعا

سيف اصيب به رأس الوصي لقد

اصاب قلب الهدى والعلم والورعا

المجلس الثامن

في كل ناحية من نواحي النفوس البشرية ملتقى بسيرة علي بن ابي طالب.

لان هذه السيرة تخاطب الانسان حيثما اتجه اليه الخطاب

١٨٨

البليغ من سير الابطال والعظماء , وتثير فيه أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتأمل.

في سيرة علي ملتقى بالعاطفة المشبوبة والاحساس المتطلع الى الرحمة والاكبار. لأنه الشهيد أبو الشهداء , يجري تاريخه وتاريخ أبنائه في سلسلة طويلة من مصارع الجهاد والهزيمة , ويتراءون للمتتبع من بعيد واحدا بعد واحد شيوخا جللهم وقار الشيب ثم جللهم السيف الذي لا يرحم , او فتيانا عوجلوا وهم في نضرة العمر يحال بينهم وبين متاع الحياة , بل يحال بينهم أحيانا وبين الزاد والماء , وهم على حياض المنية جياع ظماء.

وفي سيرة علي بن ابي طالب ملتقى بالخيال حيث تحلق الشاعرية الانسانية في الاجواء او تغوص في الأغوار. فهو الشجاع الذي نزعت به الشاعرية الانسانية منزع الحقيقة ومنزع التخيل , واشترك في تعظيمه شهود العيان وعشاق الاعاجيب. وتلتقي سيرته بالفكر كما تلتقي بالخيال والعاطفة , لأنه صاحب آراه التصوف والشريعة والاخلاق سبقت جميع الآراء في الثقافة الاسلامية.

وللذوق الأدبي - او الذوق الفني - ملتقى بسيرته كملتقى الفكر والخيال والعاطفة , لأنه كان أديبا بليغا له نهج من الأدب والبلاغة يقتدي به المقتدون , وقسط من الذوق مطبوع يحمده المذوقون , وان تطاولت بينه وبينهم السنون. فهو الحكيم

١٨٩

الاديب , والخطيب المبين , والمنشىء الذي يتصل انشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناثرين والناظمين.

والنفس الانسانية نواحيها الكثيرة غير نواحي العطف والتخيل والتفكير وتذوق الحسن الجميل من التعبير.

فمن نواحيها الكثيرة التي لم تنقطع قط في زمن من الأزمان , هي ناحية الخلاف بين الطبائع والأذهان ، أو ناحية الخصومة الناشئة أبداً على رأي من الآراء ، أو حق من الحقوق أو وطن من الأوطان.

فقد يفتر العقل والذوق بعض حين ، وقد يفتر الخيال والعاطفة بعض حين ، ولكن الذي لم يفتر قط ولا نخاله يفتر في حين من الأحايين خصام العقول وجدل الالسنة واختلاف المختلفين وتشيع المتشيعين.

وان ها هنا للمجال الرغيب القريب في سيرة هذا الامام الأوحد التي لا تشبهها سيرة في هذه الخاصة بين شتى الخواص ، وهو قد قال في ذلك أوجز مقال حين قال :

(ليحبني أقوام حتى يدخلوا النار في حبي ، ويبغضني أقوام حتى يدخلوا النار في بغضي) أو حين قال : (يهلك في رجلان محب مفرط بما ليس في ومبغض يحمله شنآني على ان يبهتني).

وصدق في غلو الطرفين من محبيه ومن مغضبيه ، فقد بلغ من

١٩٠

حب بعضهم اياه ان رفعوه إلى مرتبة الآلهة المعبودين ، وبلغ من كراهة بعضهم اياهم ان حكموا عليه بالمروق من الدين : هنا الغلاة يعبدونه وينهاهم عن عبادته فلا يطيعونه. ويستتيبهم فيصرون على ماهم فيه اي اصرار.

وهناك الخوارج يعلنون كفره ويطلبون منه التوبة إلى الله عن عصيانه. ويسبونه على المنابر كما سبه خصومه الأمويون الذين خالفوهم في العقيدة ووافقوهم على السباب.

ميدان من ميادين الملاحاة لم يتسع ميدان متسعه في تواريخ الأبطال المعرضين للحب والبغضاء يقول أناس : هو الله. ويقول اناس كافر مطرود من رحمة الله.

وناحية اخرة من نواحي النفس الكثيرة تلاقيها سيرة على في أكثر من طريق : وتلك هي ناحية الشكوة والتمرد أو ناحية التوق الى التجديد والاصلاح.

فلقد اصبح اسم علي علما يلتف به كل مغصوب. وصيحة ينادي بها كل طالب انصاف ، وجعل الغاضبون على كل مجتمع باغ ، وكل حكومة جائرة يلوذون بالدعوة العلوية كأنها الدعوة المرادفة لكلمة الاصلاح ، او كأنها المتنفس الذي يستروح اليه كل مكظوم. فمن نازع في رأي ، ففي اسم علي شفاء لنوازع نفسه ومن ثار على ضيم ففي اسم علي حافز لثورته ومرضاة لغضبه ، ومن واجه التاريخ الاسلامي بالعقل أو بالذوق أو بالخيال أو

١٩١

بالعاطفة فهناك ملتقى بينه وبين علي في وجه من وجوهه ، وعلى حالة من حالاته. وتلك هي المزية التي انفرد بها تاريخ علي بين تواريخ غيره ، فاصبحت بينه وبين قلوب الناس وشائج تخلقها الطبيعة الآدمية ان قصر في خلقها التاريخ والمؤرخون.

صفاته

كان علي أول هاشمي من أبوين هاشميين. فاجتمعت له خلاصة الصفات التي اشتهرت بها هذه الاسرة الكريمة وتقاربت سماتها وملامحها في كثير من اعلامها المقدمين ، وهي في جملتها النبل والايد والشجاعة المودة والمروءة والذكاء ، عدا المأثور في سماتها الجسدية التي تلاقت أو تقاربت في عدة من اولئك الاعلام.

وربما صح من أوصاف علي في طفولته ان كان طفلا مبكر النماء سابقا لأنداده في الفهم والقدرة ، فكانت ليه مزايا التبكير في النماء كما كانت له اعباؤه ومتاعبه التي تلازم أكثر المبكرين في شيخوخة الآباء.

ونشأ رجلا مكين البنيان في الشباب والكهولة ، وحافظا لتكوينه المكين حتى ناهز الستين.

وتدل أخباره - كما تدل صفاته - على قوة جسدية بالغة في المكانة والصلابة على العوارض والآفات. فربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض غير جاهد ولا حافل ويمسك بذراع الرجل

١٩٢

فكأنه أمسك بنفسه فلا يستطيع ان يتنفس ، واشتهر عنه انه لم يصارع احدا الا صرعة ، ولم يبارز احدا الا قتله ، وقد يزحزح الحجر الضخم لا يزحزحه الا رجال، ويحمل الباب الكبير يعيى بقلبه الأشداء.

وكان الى قوته البالغة ، شجاعاً لا ينهض له أحد في ميدان مناجزة ، فكان لجرأته على الموت لا يهاب قرنا من الأقران بالغاً ما بلغع من الصولة ورهبة الصيت ، واجترأ وهو فتى ناشىء على عمرو بن عبد ود فارس الجزيرة العربية الذي كان يقوم بالف رجل عند اصحابه وعند أعدائه.

وقد ازدانت شجاعته بأجمل الصفات التي تزين شجاعة الشجعان الاقوياء. فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها علي بغير كلفة ولا مجاهدة رأي. وهي التورع عن البغي ، والمروءة مع الخصم قويا أو ضعيفاً على السواء ، وسلامة الصدر من الضغن على العدو بعد الفراغ من القتال.

فمن تورع عن البغي ، مع قوته البالغة وشجعاعته النادرة ، انه لم يبدأ أجدا قط بقتال وله مندوحة عنه ، وكان يقول لابنه الحسن : ( لا تدعون الى مبارزة. فان دعيت اليها فأجب. فان الداعي اليها باغ والباغي مصروع ).

(المجلس الخامس)

١٩٣

وعلم ان جنود الخوارج يفارقون عسكره ليحاربوه ، وقيل له انهم خارجون عليك فبادرهم قبل ان يبادروك ، فقال : (( لا اقاتلهم حتى يقاتلوني. وسيفعلون )).

وكذلك فعل قبل وقعة الجمل ، وقبل وقعة صفين ، وقبل كل وقعة صغرت أو كبرت ووضح فيها عداء العدو أو غمض ، يدعوهم الى السلم وينهى رجاله عن المبادأة بالشر ، فما رفع يده بالسيف قط الا وقد بسطها قبل ذلك للسلام.

كان يعظ قوماً فبهرت عظته بعض الخوارج الذين يكفرونه فصاح معجبا اعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه ولا اعجابه : (( قاتله الله كافرا ما افقهه )) فوثب اتباعه فنهاهم عنه ، وهو يقول: انما هو سب بسب أو عو عن ذنب.

وقد رأينا انه كان يقول لعمرو بن عبد ود : اني لا اكره ان اهريق دمك. ولكنه على هذا لم يرغب في اهراق دمه الا بعد يأس من اسلامه ومن تركه حرب المسلمين. فعرض عليه ان يكف عن القتال فأنف ، وقال : اذن تتحدث العرب بفراري ، وناشده: ياعمرو. انك كنت تعاهد قومك الا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين الا اخذت منه احداهما. قال : أجل. قال : فاني ادعوك الى الاسلام أو إلى القتال. قال : ولم يا ابن اخي ؟. فوالله ما احب أن أقتلك. فلم يكن له بعد ذلك من احدى اثنتين : ان يقتله أو يقتل على يديه.

١٩٤

وعلى ما كان بينه وبين معاوية وجنوده من اللدد في العداء لم يكن ينازلهم ولا يأخذ من ثاراته وثارات أصحابه عندهم الا بمقدار ما استحقوه في موقف

الساعة : فاتفق في يوم صفين ان خرج من أصحاب معاوية رجل يسمى كريز بن الصباح الحميري فصاح بين الصفين : من يبارز ؟ فخرج اليه رجل

من أصحاب علي فقتله كريز ووقف عليه ونادى : من يبارز ؟ فخرج اليه آخر فقتله والقاه على الأول ، ثم نادي : من يبارز ؟ فخرج اليه الثالث فصنع به صنيعه بصاحبيه ، ثم نادي رابعة : من يبارز ؟ فأحجم الناس ورجع من كان في الصف الأول الى الصف الذي يليه ، وخشي علي ان يشيع لرعب بين صفوفه فخرج الى ذلك الرجل المدل بشجاعته وبأسه فصرعه ثم نادي نداءه حتى أتم ثلاثة صنع بهم صنيعه بأصحابه ، ثم رجع إلى مكانه.

أما مروءته في هذا الباب فكانت أندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان. فأبى على جنده وهم ناقمون ان يقتلوا مدبرا أو يجهزوا على جريح أو يكشفوا سترا أو يأخذوا مالا. وظفر بعد معركة الجمل بعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وهم الد أعدائه المؤلبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقبهم بسوء ، وظفر بعمرو بن العاص وه أخطر عليه من جيش ذي عدة فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاء لضربته. وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة صفين وهم يقولون له : ولا قطرة حتى تموت عطشا. فلما حمل عليهم

١٩٥

وأجلاهم عنه سوغ لهم ان يشربوا منه كما يشرب جنده ، وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل فصاحت به صفية ام طلحة الطلحات : ايتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي. فلم يرد عليها. قال رجل أغضبه مقالها : يا أمير المؤمنين ، اتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع ؟ فانتهره وهو يقول : ويحك ، إنا أمرنا ان نكف عن النساء وهن مشركات أفلا نكف عنهن وهن مسلمات ؟.

وانه لفي طريقه اذ أخبره بعض أتباعه عن رجلين ينالان من عائشة فأمر بجلدهما مائة جلدة. ثم ودع السيدة عائشة أكرم وداع وسار في ركبها أميالا وأرسل معها من يخدمها ويحف بها. قيل انه ارسل معها عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم ، وقلدهن السيوف. فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز ان يذكر به وتأففت وقالت : هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي فلما وصلت إلى المدينة القى النساء عمائمهن وقلن لها : انما نحن نسوة.

وكانت هذه المروءة سنته مع خصومه ، من استحق منهم الكرامة ومن لم يستحقها ، ومن كان في حرمة عائشة ومن لم تكن له قط حرمة ، وهي أندر مروءة عرفت من مقاتل في وغر القتال.

وتعدلها في النيل والندرة سلامة صدره من الضغن على أعدى

١٩٦

الناس له واضرهم له وأشهرهم بالضغن عليه. فنهى أهله وأصحابه ان يمثلوا بقاتله وان يقتلوا أحداً غيره ، ورثى طلحة الذي خلع بيعته وجمع الجموع لحربه رثاء محزون يفيض كلامه بالألم والمودة ، وأوصى أتباعه الا يقاتلوا الخوارج الذين شقوا صفوفه وأفسدوا عليه أمره وكانوا شراً عليه من معاوية وجنده ، لأنه رآهم مخلصين وان كانو مخطئين وعلى خطئهم مصرين.

وتقترن بالشجاعة - ولا سيما شجاعة الفرسان المقاتلين بأيديهم - صفة لازمة لها متممة لعملها قلما تنفصل عنها وكأنها والشجاعة أشبه شيء بالنضح للماء ، أو بالاشعاع للنور ، فلا تكون شجاعة الفروسية الا كانت معها تلك الصفة التي نشير اليها وهي صفة ( الثقة) أو الاعتزاز، أو الادراع بالهيبة والتهويل على الخصوم ولا سيما في مواقف النزال.

وقد يسميها بعض الناس زهوا وليست هي به ولا هي من معدنه وسمته ، وان شابهته في بعض الملامح والألوان.

فالزهو المذموم فضول لا لزوم له ولا خير فيه ، وهو لون خادع قد يوجد مع الضعف كما يوجد مع القوة ، وقد يبدو على الجبان كما يبدو على الشجاع.

أما هذ الاعتزاز الذي نشير اليه ، أو هذه الثقة التي تظهر لنا في صورة الاعتزاز فهي جزء من شجاعتة الفارس المقاتل لا يستغني عنه ولا يزال متصلا بعمله في مواجة خصومه ، وهو عرض للقوة

١٩٧

يساعد الفارس في ارهاب عدوه واضعاف عزيمة من يتصدى لحربه. مثله كمثل العروض الذي تعمد اليها الجيوش لاعلان باسها وتخويف الأعداء من الاستخفاف بها والهجوم عليها ، فهو كالشجاعة أداة ضرورية من أداة القتال لا تنفصل عنها ، وليس كل ما فيها ضربا من الخيلاء يرضي به الشجاع غروره ويتيه به في غير حاجة الى التيه.

ولهذا تحمس الناس للفخر العسكري من قديم الزمان وتحدثوا به وتناقلوه ، فسمحوا للفارس - بل لعلهم أوجبوا عليه - ان يروغ من خصمه بالفخر المرعب اذ يتقدم لنزاله.

وان يلاقيه وهو ينشد الاشعار في ذكر وقعاته والتهويل بضرباته والاشادة بغزواته ، وعلموا انهم - وقد احتاجوا الى شجاعته - محتاجون كذلك الى فخره وحماسته وايقاع الرعب في جنان قرنه فشاعت قصائد الفخر والحماسة كما شاعت قصائد الحب والمناجاة ، وهي أحب القصائد الى القلوب.

هذه الصفة لازمة لفرسان الميدان ولا سيما فرسان العصور الأولى الذين يقفون للقتال وجها لوجه ، وينظر أحدهم الى قرنه وهو يهجم عليه ، وكانت هذه الصفة صدرا بفضله ، وينكرها من ينفس عليه فيسميها الزهو أو يسميها الجفوة الخيلاء.

مر الزبير بن العوام مع رسول الله في بني غنم ، فرأى رسول

١٩٨

الله علياً على مقربة منه فضحك له رسول الله. فقال الزبير : لا يترك علي زهوه. فقال النبي : انه ليس به زهو ، ولتقاتلنه وأنت له ظالم.

فليس هو بالزهو المكروه ، ولكنها الشجاعة التي يمتلىء بها الشجاع والثقة التي تتراءى مكشوفة في صراحتها واستقامتها ، لأن صاحبها لم يتكلف مداراتها ولم يحس انه محتاج إلى مداراتها ولأنه هو لا يقصدها ولا يتعمد ابداءها.

وقد كان مدار الخلق في علي ثقة أصيلة فيه لم تفارقه منذ حبا ودرج. وقبل ان يبلغ مبلغ الرجال فما منعته الطفولة الباكرة يوماً ان يعلم انه شيء في هذه الدنيا وانه قوة لها جوار يركن لها المستجير. ولقد كان في العاشرة ونحوها يوم أحاط القوم القرشيون بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينذرونه وينكرونه وهو يقلب عينه في وجوههم ويسأل عن النصير ولا نصير. لو كان بعلي ان يرتاع في مقام نجدة او مقام هزيمة لارتاع يومئذ بين اولئك الشيوخ الذين رفعهم الوجاهة آداب القبيلة البدوية إلى مقام الخشية والخشوع. ولكنه كان علياً في تلك السن الباكرة كما كان علياً وهو في الخمسين أو الستين. فما تردد وهم صامتون مستهزئون ان يصيح صيحة الواثق الغضوب أنا نصيرك. فضحكوا منه ضحك الجهل والاستكبار ، وعلم القدر وحده في تلك اللحظة ان تأييد ذلك الغلام أعظم وأقوم من حرب أولئك القوم.

١٩٩

علي هذا هو الذي نام في فراش النبي ليلة الهجرة ، وقد علم ما تأتمر به مكة كلها من قتل الراقد على ذلك الفراش.

وعلى هذا هو الذي تصدى لعمرو بن عبدود مرة بعد مرة والنبي يجلسه ويحذره العاقبة التي حذرها فرسان العرب من غير تحذير ، يقول النبي :

اجلس. انه عمرو. فيقول : إذا كان عمراً ؟ ! كأنه لا يعرف أن يخاف ولا يعرف كيف يخاف ولا يعرف إلا الشجاعة التي هو ممتلىء بها واثق فيها في غير كلفة ولا اكتراث.

وتمكنت هذه الثقة فيه لطول مراس الفروسية التي هي كما أسلفنا جزء منها وأداة من أدواتها.

وزادها تمكينا حسد الحاسدين ولجاجة المنكرين ، وكلاهما خليق ان يعتصم المرء منه بثقة لا تتخذل ، وانفة لا تلين. فمن شواهد هذه الثقة بنفسه انه حملها من ميدان الشجاعة الى ميدان العلم والرأي حين كان يقول :(( اسألوني قبل ان تفقدوني )).

ومن شواهدها انه كان يقول والخارجون عليه يرمونه بالمروق : (( ما اعرف احدا من هذه الامة عبد الله بعد نبينا غيري ، عبدت الله قبل ان يعبده أحد من هذه الأمة تسمع سنين )).

وزاده اتهام من حوله معتصما بالثقة بنفسه ، وابدى هذه الخليقة منه انه كان لا يتكلف ولا يحتال على ان يتألف. بل كان يقول : (( شر الاخوان من تكلف له )) ويقول : (( اذا احتشم

٢٠٠