المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٥

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة10%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 767

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 767 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94489 / تحميل: 6024
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

تعمدوا إضرارك والإساءة إليك. فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك، وتدفع الأذى عنك، لأن الضرورة تقدر بقدرها. وقد مثل فقهاء الشيعة لذلك بأن يصلي الشيعي «متكتفاً»، أو يغسل رجليه في الوضوء بدلاً من مسحهما في بيئة سنية متعصبة، بحيث إذا لم يفعل لحقه الأذى والضرر.

هذي هي التقية في حقيقتها وواقعها عند الشيعة، وما هي بالشيء الجديد، ولا من البدع التي يأباها العقل والشرع. فقد تكلم عنها الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل الإسلام وبعده، تكلموا عنها وأطالوا، ولكن لا بعنوان التقية، بل بعنوان: «هل الغاية تبرر الواسطة؟» وما إلى ذاك، وتكلم عنها الفقهاء، وأهل التشريع في الشرق والغرب بعنوان: «هل يجوز التوصل إلى غاية مشروعة من طريق غير مشروع؟». وبعنوان «المقاصد والوسائل» وتكلم عنها علماء الأصول من السنة والشيعة بعنوان: «تزاحم المهم والأهم» واتفقوا بكلمة واحدة على أن الأهم مقدم على المهم، ارتكاباً لأقل الضررين، ودفعاً لأشد المحذورين، وتقديماً للراجح على المرجوح..

وهذه العناوين وما إليها تحكي التقية كما هي عند الإمامية، ولا تختلف عنها إلا في الأسلوب والتعبير. وكانت التقية وما زالت ديناً يدين به كل سياسي في الشرق والغرب، حتى المخلص الأمين.

وإذا سأل سائل: ما دام الأمر كذلك فلماذا عبر الشيعة بلفظ التقية، ولم يعبروا بلفظ المقاصد والوسائل، أو الغاية تبرر الواسطة؟

الجواب:

إن العبرة بالمعنى، لا باللفظ، وقديماً قال العارفون: «النقاش في الاصطلاحات اللفظية ليس من دأب المحصلين».

ثانياً: إن علماء الشيعة يأخذون - دائماً أو غالباً - ألفاظهم ومصطلحاتهم الشرعية من نصوص الكتاب والسنة، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بمادة الاتقاء، كما تدل الآية التالية:

ومهما يكن. فقد استدل الإمامية بالآية ٢٨ من سورة آل عمران: «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه

في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة». فالآية صريحة في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء إلا في حال

٤١

الخوف واتقاء الضرر والأذى، واستدلوا بالآية ١٠٦ من سورة النحل: «من كفر باللّه بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان».

قال المفسرون: إن المشركين آذوا عمار بن ياسر، وأكرهوه على قول السوء في رسول اللّه، فأعطاهم ما أرادوا. فقال بعض الأصحاب: كفر عمار. فقال النبي: كلا، ان عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه. وجاء عمار، وهو يبكي نادماً آسفاً، فمسح النبي عينيه، وقال له: لا تبك، إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت.

واستدلوا أيضاً بالآية ٢٨ من سورة غافر: «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه». فكتم الإيمان، وإظهار خلافه ليس نفاقاً ورياء، كما زعم من نعت التقية بالنفاق والرياء. وبالآية ١٩٥ من سورة البقرة: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».

ومن السنة استدلوا بحديث «لا ضرر ولا ضرار» وحديث « رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والوسوسة في الخلق». والحديثان مرويان في كتب الصحاح عند السنة. وقول الرسول الأعظم، «وما اضطروا إليه» صريح الدلالة على أن الضرورات تبيح المحذورات.

وقال الغزالي في الجزء الثالث من إحياء العلوم «باب ما رخص فيه من الكذب»: «إن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب».

وبعد أن نقل الرازي الأقوال في التقية، وهو يفسر قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» قال: روي عن الحسن أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان».

ونعى الشاطبي في الجزء الرابع من الموافقات ص ١٨٠ على الخوارج «إنكارهم سورة يوسف من القرآن، وقولهم بأن التقية لا تجوز في قول أو فعل على الإطلاق والعموم».

وقال جلال الدين السيوطي في كتاب «الأشباه والنظائر» ص ٧٦: «يجوز

أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر. ولو عم الحرام قطراً، بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه».

وقال أبو بكر الرازي الجصاص - من أئمة الحنفية - في الجزء الثاني من كتاب «أحكام القرآن» ص ١٠ طبعة ١٣٤٧هجري:

قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم

٤٢

بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم، وقد حدثنا عبد اللّه بن محمد بن اسحاق المروزي عن الحسن بن أبي الربيع الجرجاني عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون اللّه» قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى «من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان». وفي الجزء الثالث من السيرة الحلبية ص ٦١ مطبعة مصطفى محمد «لما فتح رسول اللّه خيبر قال له حجاج بن علاط: يا رسول اللّه إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك، وقلت شيئاً، فأذن له رسول اللّه أن يقول ما يشاء».

وهذا الذي قاله صاحب السيرة الحلبية عن النبي، ونقله الجصاص إلى الجمهور من أهل العلم هو بعينه ما تقوله الإمامية، إذن القول بالتقية لا يختص بالشيعة دون السنة. أما قصة نعيم بن مسعود الأشجعي فأشهر من أن تذكر.

ولا أدري كيف استجاز لنفسه من يدعي الإسلام أن ينعت التقية بالنفاق والرياء، وهو يتلو من كتاب اللّه، وسنة نبيه ما ذكرنا من الآيات والأحاديث، وأقوال أئمة السنة، وهي غيض من فيض مما استدل به علماء الشيعة في كتبهم، وكيف تنسب الشيعة إلى الرياء، وهم يؤمنون بأنه الشرك الخفي، ويحكمون ببطلان الصوم والصلاة والحج والزكاة إذا شابتها أدنى شائبة من رياء؟

وأود أن أوجه هذا السؤال لمن نسب الشيعة إلى النفاق والرياء من أجل التقية: ما رأيك فيمن قال - من علماء السنة - إن جبرئيل ليلة أسرى بالنبي إلى السماء جاءه بقدحين: أحدهما من لبن، وآخر من خمر، وخيره بين شرب

أيهما شاء (كتاب الفروق ج ١ ص ١٢ طبعة ١٣٤٥هجري وصحيح البخاري ج ٦ باب سورة بني إسرائيل).

وأيضاً ما رأيك فيمن أفتى - منهم - بأن من ترك الصلاة عمداً لا يجب عليه قضاؤها، ومن تركها نسياناً يجب عليه أن يقضي. (كتاب نيل الأوطار للشوكاني ج ٢ ص ٢٧ طبعة ١٩٥٢).

وغريبة الغرائب أن يُعذر المفتي على فتواه التي خالف بها الاجماع والقواعد والنص والقياس الجلي السالم عن المعارض، ولا يعذر من يفتي بالتقية مستنداً إلى كتاب اللّه وسنة رسوله. (الفروق للقرافي ج ٢ ص ١٠٩).

٤٣

وبالتالي، فإن التقية كانت عند الشيعة حيث كان العهد البائد، عهد الضغط والطغيان، أما اليوم حيث لا تعرّض للظلم في الجهر بالتشيع فقد أصبحت التقية في خبر كان.

في عام ١٩٦٠ أقامت الجمهورية العربية المتحدة مهرجاناً دولياً للغزالي في دمشق، وكنت فيمن حضر وحاضر، فقال لي بعض أساتذة الفلسفة في مصر فيما قال: أنتم الشيعة تقولون بالتقية.. فقلت له: لعن اللّه من أحوجنا إليها. إذهب الآن أنّى شئت من بلاد الشيعة فلا تجد للتقية عندهم عيناً ولا أثراً، ولو كانت ديناً ومذهباً في كل حال لحافظوا عليها محافظتهم على تعاليم الدين ومبادئ الشريعة.

البداء:

اتفق المسلمون بكلمة واحدة على جواز النسخ، ووقوعه في الشريعة الإسلامية، ومعناه في اصطلاح المفسرين وأهل التشريع أن اللّه يشرع حكماً كالوجوب أو التحريم، ويبلغه لنبيه، وبعد أن يعمل النبي وأمته بموجبه يرفع اللّه هذا الحكم وينسخه ويجعل في مكانه حكماً آخر، لإنهاء الأسباب الموجبة لبقاء الأول واستمراره، وهذا النوع من النسخ ليس بعزيز، فإنه موجود في الشرائع السماوية والوضعية، واستدل المسلمون على جوازه ووقوعه بأدلة، منها أن الصلاة كانت في بدء الإسلام لجهة بيت المقدس، ثم نسخت، وتحولت إلى جهة البيت الحرام، كما نطقت الآية ١٤٤ من سورة البقرة: «فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام».

ونتساءل: إذا جاز النسخ على اللّه بهذا المعنى في الأمور التشريعية فهل يجوز عليه ذلك في الأشياء الكونية والطبيعية، وذلك بأن يقدر اللّه ويقضي بإيجاد شيء في الخارج، ثم يعدل ويتحول عن قضائه وإرادته؟

اتفق المسلمون جميعاً على عدم جواز النسخ في الطبيعيات، لأنه يستلزم الجهل وتجدد العلم للّه، وحدوثه بعد نفيه عنه. تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ويسمى هذا بالبداء الباطل، وقد نسبه البعض إلى الإمامية جهلاً أو تجاهلاً، رغم تصريحاتهم المتكررة بنفيه.

روى الشيخ الصدوق في كتاب «إكمال الدين وإتمام النعمة» عن الإمام الصادق أنه قال: من زعم ان اللّه عز وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه.

وبعد أن نفى المسلمون جميعاً البداء بهذا المعنى أجازوا بداء لا يستدعي الجهل وحدوث العلم

٤٤

لذات اللّه، وهو أن يزيد اللّه في الأرزاق والأعمار، أو ينقص منهما بسبب أعمال العبد، قال المفيد شيخ الشيعة الإمامية في كتاب «أوائل المقالات» باب القول في البداء والمشيئة: «البداء عند الإمامية هو الزيادة في الآجال والأرزاق، والنقصان منهما بالأعمال».

وتدل على هذا الآية ٦٠ من سورة غافر: «وقال ربكم ادعوني أستجب لكم» وروى الترمذي في سننه باب لا يرد القدر إلا الدعاء أن النبي قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر(١) .

وبالتالي، فقد اتفق السنة والشيعة بكلمة واحدة على أن أية صفة تستدعي الجهل وتجدد العلم فهي منفية عن اللّه سبحانه بحكم العقل والشرع، سواء أعبّرنا عنها بالبداء أو بلفظ آخر، وعليه فلا يصدق القول بأن الشيعة أجازوا البداء على اللّه دون السنة، لأن المفروض أن البداء المستلزم للجهل باطل عند الفريقين، والبداء بمعنى الزيادة أو النقصان في الأرزاق والآجال جائز عند الفريقين. فأين محل النزاع والصراع؟

هذا، إلى أن الإمامية قد تشددوا في صفات الباري أكثر من جميع الفرق

_____________________

(١) انظر كتاب «البيان في تفسير القرآن» للسيد الخوئي ص ٢٧٧.

٤٥

والطوائف، وبالغوا في تنزيهه عن كل ما فيه شائبة الجهل والظلم والتجسيم والعبث، وما إليه. فلم يجيزوا على اللّه ما أجازه الأشاعرة وغيرهم من سائر الفرق الإسلامية الذين قالوا بأن الخير والشر من اللّه، وإنه سبحانه يكلف الإنسان بما لا يطاق، وإنه تعالى علواً كبيراً يأمر بما يكره، وينهى عما يحب، ويفعل بدون غرض (كتاب المواقف ج ٨ للإيجي وشرحه للجرجاني، وكتاب الفروق للقرافي ج ٢ وكتاب المذاهب الإسلامية لأبي زهرة). كما أن الإمامية قد نفوا التجسيم عن اللّه الذي قال به الحنابلة، ومنهم الوهابية الذين رووا عن النبي: «لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط. قط».(العقيدة الواسطية لابن تيمية المطبوعة مع الرسائل التسع سنة ١٩٥٧ ص ١٣٦).

الرجعة:

قال فريق من علماء الإمامية: إن اللّه سبحانه سيعيد إلى هذه الحياة قوماً من الأموات، ويرجعهم بصورهم التي كانوا عليها، وينتصر اللّه بهم لأهل الحق من أهل الباطل، وهذا هو معنى الرجعة. وأنكر الفريق الآخر ذلك، ونفاه نفياً باتاً.

ونقل هذا الاختلاف الشيخ الإمامي الثقة أبو علي الطبرسي في «مجمع البيان» عند تفسير الآية ٨٣ من سورة النمل: «ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون».

قال: استدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية. ووجه الدلالة - بزعم هؤلاء - أن اليوم الذي يحشر اللّه فيه فوجاً من كل أمة لا يمكن أن يكون اليوم الآخر بحال، لأن هذا اليوم يُحشر فيه جميع الناس لا فوج من كل أمة لقوله تعالى في الآية ٤٨ من سورة الكهف: «وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً». فتعين أن يكون الحشر في هذه الدنيا لا في الآخرة.

أما الذين أنكروا الرجعة من علماء الإمامية فقد قالوا: إن الحشر في الآية يراد به الحشر في اليوم الآخر، لا في هذه الحياة، والمراد بالفوج رؤساء الكفار والجاحدين، فإنهم يحشرون ويجمعون لإقامة الحجة عليهم.

ومهما يكن، فإن غرضنا الأول من نقل كلام الشيخ الطبرسي الإمامي هو التدليل على أن علماء الإمامية لم يتفقوا بكلمة واحدة على القول بالرجعة. وقد اعترف باختلافهم الشيخ أبو زهرة، حيث قال في كتاب «الإمام الصادق» ص ٢٤٠ ما نصه بالحرف: «ويظهر أن فكرة

٤٦

الرجعة على هذا الوضع ليست أمراً متفقاً عليه عند إخواننا الإثني عشرية، بل فيهم فريق لم يعتقده».

وقال السيد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص ٤٧٣ طبعة ١٩٥١: «الرجعة أمر نقلي، إن صح النقل به لزم اعتقاده، وإلا فلا». وقال ص ٥١٥ يتعلق بالبداء: «أجمع علماء الإمامية في كل عصر وزمان على أن البداء بهذا المعنى باطل ومحال على اللّه، لأنه يوجب نسبة الجهل إليه تعالى، وهو منزه عن ذلك تنزيهه عن جميع القبائح، وعلمه محيط بجميع الأشياء إحاطة تامة جزئياتها وكلياتها، لا يمكن أن يخفى عليه شيء، ثم يظهر له».

ولو كانت الرجعة من أصول الدين أو المذهب عن الإمامية لوجب الاعتقاد بها، ولما وقع بينهم الاختلاف فيها، أما الأخبار المروية في الرجعة عن أهل البيت فهي كالأحاديث في الدجال التي رواها مسلم في صحيحه القسم الثاني من الجزء الثاني ص ٣١٦ طبعة ١٣٤٨ هجري، ورواها أيضاً أبو داود في سننه ج ٢ ص ٥٤٢ طبعة ١٩٥٢، وكالأحاديث التي رويت عن النبي في أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الأموات (كتاب مجمع الزوائد للهيثمي ج ١ ص ٢٢٨ طبعة ١٣٥٢ هجري).

إن هذه الأحاديث التي رواها السنة في الدجال وعرض أعمال الأحياء على الأموات، وما إلى ذاك تماماً كالأخبار التي رواها الشيعة في الرجعة عن أهل البيت. فمن شاء آمن بها، ومن شاء جحدها، ولا بأس عليه في الحالين. وما أكثر هذا النوع من الأحاديث في كتب الفريقين(١) .

____________________

(١) ولنفترض أن الشيعة كلهم أو بعضهم يقولون بالرجعة. فماذا يكون؟. وهل هذا القول كفر وزندقة؟. لقد اعتقد المسلمون منذ أن وجدوا، حتى اليوم أن المسيح (ع) حي بروحه وجسده، ومع ذلك نشر شيخ الأزهر فضيلة الشيخ محمود شلتوت مقالاً مطولاً في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ ١٥ / ١١ / ١٩٦٣ قال فيه: إن عيسى قد مات حقيقة، كسائر الانبياء، ومع ذلك لم يكفر شيخ الأزهر، ولا كفره أحد، فعلام هذا التهويش حول الرجعة.

٤٧

الجفر:

جاء في بعض مؤلفات السنة والشيعة أن عند أهل البيت علم الجفر، وأنهم يتوارثونه إماماً عن إمام إلى جدهم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن كتب السنة التي جاء فيها ذكر الجفر المواقف للإيجي، وشرحه للجرجاني الحنفي، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي، وقال أبو العلاء المعري:

لقد عجبوا لأهل البيت لما

أروهم علمهم في مسك جفر

ومرآة المنجم وهي صغرى

أرته كل عامرة وقفر

ونفى أفراد من السنة والشيعة ذلك، ولم يعتقدوا بشيء يسمى الجفر عند أهل البيت ولا عند غيرهم.

ما هو علم الجفر؟

واختلف القائلون بوجود الجفر في تفسير معناه، فمن قائل بأنه نوع من علم الحروف تستخرج به معرفة ما يقع من الحوادث في المستقبل. ومن قائل بأنه كتاب من جلد(١) ، فيه بيان الحلال والحرام، وأصول ما يحتاج إليه الناس من الأحكام التي فيها صلاح دينهم ودنياهم، وعلى هذا فلا يمت الجفر إلى الغيب بصلة.

ومن الطريف أن يقول عالم كبير من علماء الأحناف، وهو الشريف الجرجاني بالأول، وإن الجفر الذي عند أهل البيت تستخرج منه الحوادث الغيبية، وأن يخالفه في ذلك عالم كبير من الإمامية، وهو السيد محسن الأمين، ويقول بالثاني، وإنه علم الحلال والحرام فقط.

قال الجرجاني في كتاب «المواقف وشرحه» ج ٦ ص ٢٢ ما نصه بالحرف: «الجفر والجامعة كتابان لعليرضي‌الله‌عنه ، وقد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث إلى انقراض العالم، وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما».

وقال السيد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص ٢٩٥: «ليس

________________________

(١) الجفر في أصل اللغة ولد الشاة إذا عظم واستكرش، ثم أطلق على جلد الشاة.

الجفر علماً من العلوم، وإن توهم ذلك كثيرون، ولا هو مبني على جداول الحروف، ولا ورد به خبر ولا رواية - إلى أن قال - ولكن الناس توسعوا في تفسيره، وقالوا فيه أقاويل لا تستند إلى مستند، شأنهم في أمثال ذلك».

٤٨

وقال في «أعيان الشيعة» قسم أول من ج ١ ص ٢٤٦ طبعة ١٩٦٠: «الظاهر من الأخبار أن الجفر كتاب فيه العلوم النبوية من حلال وحرام، وما يحتاج إليه الناس في أحكام دينهم، وصلاح دنياهم».

السيد الأمين الذي تثق الإمامية كافة بعلمه ودينه ينفي الجفر بمعنى علم الغيب عن أهل البيت، ويثبته علماً من أعلام الأحناف، ويقول: «عندهم علم ما يحدث إلى انقراض العالم». وبهذا يتبين ما في قول الشيخ أبي زهرة وغيره من الذين جعلوا القول بالجفر من اختصاص الإمامية، ونسبوا لهم الزعم بأن أهل البيت يستخرجون منه علم الغيب. إن غير الإمامية من الفرق الإسلامية يدّعون أمثال ذلك، ثم ينسبونه إلى الأمامية، لا لشيء إلا لشينعوا، ويهوشوا، وكذلك فعلوا في دعوى تحريف القران والنقص منه، ودعوى الإيحاء والإلهام.

هذا، إلى أن مسألة الجفر ليست من أصول الدين ولا المذاهب عند الإمامية، وإنما هي أمر نقلي، تماماً كمسألة الرجعة، يؤمن بها من تثبت عنده، ويرفضها إذا لم تثبت، وهو في الحالين مسلم سني، إن كان سنياً، ومسلم شيعي، إن كان شيعياً.

الخلاصة:

إن الإمامية يدينون بأن الإمامة تكون بالنص لا بالانتخاب، وإن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله نص صراحة على علي بن أبي طالب، وإنهم يوجبون العصمة للإمام، وينفون عنه علم الغيب، ويقولون بالتقية عند خوف الضرر، وينفون - متفقين - صفة البداء عن اللّه المستلزمة للجهل، وحدوث العلم، ويختلفون في الرجعة.

مصحف فاطمة:

نسب إلي الإمامية القول بأن عند فاطمة بنت الرسول مصحفاً، فيه زيادات عن هذا القرآن الكريم، وقبل أن نبين حقيقة هذه النسبة نشير إلى عقيدة المسلمين

في صيانة الكتاب العزيز.

اتفق المسلمون بكلمة واحدة على أنه لا زيادة في القرآن، ما عدا فرقة صغيرة شاذة من فرق الخوارج، فإنها أنكرت أن تكون سورة يوسف من القرآن، لأنها قصة غرام يتنزه عن مثلها كلام اللّه سبحانه. ونسب إلى بعض المعتزلة إنكار سورة أبي لهب، لأنها سب وطعن لا يتمشى مع منطق الحكمة والتسامح. ونحن لا نتردد، ولا نتوقف في تكفير من أنكر كلمة واحدة من القرآن، وأن

٤٩

جحود البعض، تماماً كجحود الكل، لأنه طعن صريح فيما ثبت عن النبي بضرورة الدين، واتفاق المسلمين.

أما النقصان بمعنى أن هذا القرآن لا يحتوي على جميع الآيات التي نزلت على محمد، فقد قال به أفراد من السنة والشيعة في العصر البائد، وأنكر عليهم يومذاك المحققون وشيوخ الإسلام من الفريقين، وجزموا بكلمة قاطعة أن ما بين الدفتين هو القرآن المنزل دون زيادة أو نقصان للآية ٨ من سورة الحجرات: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». والآية ٤١ من سورة فصلت: «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد». واليوم أصبح هذا القول ضرورة من ضرورات الدين، وعقيدة لجميع المسلمين، إذ لا قائل بالنقيصة، لا من السنة، ولا من الشيعة. فإثارة هذا الموضوع، والتعرض له - في هذا العصر - لغو وعبث، أو دس وطعن على الإسلام والمسلمين.

وإذا عذرنا محب الدين الخطيب والحفناوي والجبهان وأضرابهم من المأجوردين فإنا لا نعذر أبداً الشيخ أبا زهرة، لأنه في نظرنا أجلّ، وأسمى علماً وخلقاً من ألف خطيب وخطيب من أمثال محب الدين. لذا وقفنا حائرين متسائلين: ماذا أراد فضيلته من إثارة هذا الموضوع في كتاب «الإمام الصادق» مع علمه ويقينه أنه أصبح في خبر كان، وأنه لا قائل به اليوم من الشيعة ولا من السنة؟ ماذا أراد الشيخ أبو زهرة من حملته الشعواء على الشيخ الكليني صاحب

الكافي الذي مضى على وفاته أكثر من ألف سنة؟ هل يريد الشيخ أن يدخلنا في جدل عقيم، ونحن نطلب الوفاق والوئام معه ومع غيره؟ وحيثما أجلت الفكر في سبب هذه الحملة لم أجد لها تفسيراً إلا التأثر بالبيئة والوراثة.

وهل من شيء أدل على ذلك من قوله في ص ٣٦: «لا نستطيع قبول روايات

الكليني، لأنه الذي ادعى أن الإمام جعفر الصادق قد قال: إن في القرآن نقصاً وزيادة، وقد «كذبه» - كذا - كبار العلماء من الاثني عشرية، كالمرتضى والطوسي وغيرهما، ورووا عن أبي عبد اللّه الصادق نقيض ما ادعاه الكليني» وكرر هذه العبارة وما إليها في صفحات الكتاب مرات ومرات. إن أبا زهرة يصور الكليني، وكأنه قد تفرد بهذا القول دون غيره، وتصويره هذا بالتضليل أشبه، كما يتضح مما يلي:

ولست أدري كيف ذهل الشيخ عن وجه الشبه فيما نقله الكليني في الكافي، وما نقله كل من البخاري ومسلم في صحيحه؟ قال البخاري في ج ٨ ص ٢٠٩ طبعة سنة ١٣٧٧ هجري:

٥٠

«جلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن قام، فأثنى على اللّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي؟ فمن عقلها ووعاها فليحدث بها، حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي. إن اللّه بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول اللّه ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه، والرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه: «أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم». ونقل البخاري أيضاً في ص ٨٦ ج ٩ باب «الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء» عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللّه لكتبت آية الرجم بيدي».

هذا ما جاء على لسان الخليفة الثاني في صحيح البخاري، وروى هذا الحديث مسلم في صحيحه ص ١٠٧ القسم الأول من الجزء الثاني طبعة سنة ١٣٤٨ هجري، ولم يذكر فيه «أن لا ترغبوا عن آبائكم» إلخ مع العلم بأن ليس في القران ما يشعر بوجوب الرجم والرغبة عن الآباء. وقال السيوطي في «الإتقان» ج ١ ص ٦٠ مطبعة حجازي بالقاهرة: «أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان

الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عد ل، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت، فقال - أي أبو بكر - اكتبوها، فإن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل بشهادة رجلين، فكتب، وإن عمر أتى بآية الرجم، فلم يكتبها، لأنه كان وحده».

وإذا كان أبو زهرة لا يقبل أحاديث الكليني، لأنه روى حديث التحريف - كما قال - فعليه أن لا يقبل أحاديث البخاري جملة وتفصيلاً، لمكان هذا الحديث الصريح الواضح بالتحريف بشهادة عمر بن الخطاب. وإن ما ذكره الكليني في هذا الباب لا يختلف في النتيجة عما ذكره البخاري ومسلم. فلماذا تحامل الشيخ على الكليني، وسكت عنهما؟ بل قال أبو زهرة في كتاب الإمام زيد ص ٢٤٥: «والبخاري ذاته، وهو أصح كتب السنة إسناداً قد أخذت عليه أحاديث وما كان ذلك مسوغاً لتكذيب البخاري ولا مسوغاً لنقض الصحيح الذي رواه وعدم الأخذ به.

وأيضاً روى البخاري في الجزء الرابع «باب طفة إبليس وجنوده» عن عائشة أنها قالت: «سحر النبي، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله».

٥١

وقد كذبه في ذلك الجصاص أحد أئمة الحنفية، قال ما نصه بالحرف: «وقد أجازوا من فعل الساحر ما هم أطم وأفظع، ذلك أنهم زعموا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سحر، وأن السحر عمل فيه، حتى قال: إنه يخيل لي أني أقول الشيء، ولا أقوله، وأفعله، ولم أفعله - إلى أن قال الجصاص -: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين». (الجزء الأول من أحكام القرآن للجصاص ص ٥٥ طبعة سنة ١٣٤٧ هجري».

وكذب البخاري في ذلك أيضاً الشيخ محمد عبده في تفسيره لسورة الفلق، حيث قال: «وقد رووا أحاديث أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سُحر. حتى كأنه يفعل الشيء، وهو لا يفعله، أو يأتي شيئاً، وهو لا يأتيه. وهذا يصدق قول المشركين فيه. «إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً». وليس المسحور إلا من خولط في عقله، وخيل إليه أن شيئاً يقع، وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه، ولا يوحى إليه».

والآن، وبعد هذه الأرقام بماذا تجيب - أيها الشيخ -؟ قلت: إنك لا تقبل روايات الكليني، لأن الطوسي والمرتضى كذباه في رواية التحريف. ونقول

لك: إن الإمام الجصاص، والإمام عبده كذبا البخاري في رواية سحر النبي. وقال الأول: إن هذا من وضع الملحدين. وقال الثاني إن السحر يستلزم تصديق المشركين وتكذيب الرسول. وعليه فأنت بين أمرين: إما أن لا تقبل روايات البخاري والكليني معاً، وإما أن تقلبهما معاً، ولا أظنك تفعل هذا ولا ذاك. بل تقبل البخاري، دون الكليني، وتناقض نفسك بنفسك. وهذا هو منطق كل من رد وتحامل على علماء الإمامية.

لقد ذهل الشيخ أبو زهرة عن ذلك، وذهل أيضاً عن أن مخالفة المرتضى والطوسي للكليني إنما هي كمخالفة مالك لأبي حنيفة، والشافعي للاثنين، وأحمد للثلاثة في كثير من المسائل. وإذا كان اختلاف علماء الإمامية فيما بينهم يستدعي طرح أقوالهم كلاً أو بعضاً فكذلك الأمر بالنسبة إلى علماء السنة، وأئمة المذاهب. إن اختلاف أنظار العلماء في صحة الحديث وضعفه كاختلافها في الأحكام نفسها لا يستدعي تكذيبهم، وطرح أقوالهم. بل إن أبا زهرة صرح في كتاب «المذاهب الإسلامية» ص ٢١ بأن الخلاف الذي نتج عن الاستنباط كان محمود العاقبة حسن النتيجة. فهل هذا الحسن يختص بعلماء طائفة دون أخرى؟

وبعد هذه الوقفة القصيرة مع الشيخ أبي زهرة نعود إلى الحديث عن مصحف فاطمة، وقد جاء ذكره في أخبار أهل البيت مع تفسيره، وأنه كان من إملاء رسول اللّه على علي، قال الإمام

٥٢

الصادق: عندنا مصحف فاطمة، أما واللّه، ما فيه حرف من القرآن، ولكنه من إملاء رسول اللّه، وخط علي. قال السيد محسن الأمين في «الأعيان» قسم أول من ج ١ ص ٢٤٨: إن نفي الإمام الصادق أن يكون فيه شيء من القرآن لكون تسميته بمصحف فاطمة يوهم أنه أحد النسخ الشريفة، فنفى هذا الإيهام.

وفي كتاب الكافي أن المنصور كتب يسأل فقهاء أهل المدينة عن مسألة في الزكاة. فما أجابه عنها إلا الإمام الصادق، ولما سئل من أين أخذ هذا؟ قال: من كتاب فاطمة. إذن مصحف فاطمة كتاب مستقل وليس بقرآن. فنسبة التحريف إلى الإمامية على أساس قولهم بمصحف فاطمة جهل وافتراء.

والأولى نسبة هذا القول إلى الذين زعموا بأن لعائشة قرآنا، فيه زيادات عن هذا القرآن. قال جلال الدين السيوطي في كتاب «الإتقان» ج ٢ ص ٢٥ طبعة

حجازي بالقاهرة ما نصه بالحرف: «قالت حميدة بنت أبي يونس: قرأ أبي، وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة «إن اللّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً وعلى الذين يصلون الصفوف الأولى».

أرأيت كيف يتهمون غيرهم بما هم به أولى، تماماً كما فعلوا في مسألة الجفر، ومسألة الإيحاء وغيرهما..

وبالتالي، فإن غرضي من هذا الفصل، وما سبق من الفصول أن أثبت بالأرقام أنه لا شيء عند الإمامية إلا ويوجد له أصل عند السنة تفصيلاً أو إجمالاً، منطوقاً أو مفهوماً، وعليه فلا وجه لطعن أبي زهرة، ومن تقدم، أو تأخر. اللهم إلا التعصب وتأكد الأنقسام والاقتراق(١) .

____________________

(١) وقع في يدي كتاب، وأنا أحرر هذا الفصل، وكنت أبحث وأفتش في المكتبات التجارية وغيرها عن المصادر، واسم الكتاب «حركات الشيعة المتطرفين، وأثرهم في الحياة الاجتماعية والأدبية لمدن العراق إبان العصر العباسي الأول» لمحمد جابر عبد العال مدير الشؤون الاجتماعية بجامعة القاهرة، خبط فيه كاتبه خبط عشواء، وشحنه بالكذب والافتراء، شأنه في ذلك شأن أسلافه الكثيرين، ولكن كلمة حق ظهرت على فلتات قلمه، وهو يكتب مقدمة الكتاب من حيث يريد أو لا يريد، قال: «إننا نعلم أن بين أهل السنة من تعصب على الشيعة، وأمعن في ذلك إمعاناً جعله يرميهم دون تثبيت باتهامات يتبين لذي العين البصيرة أنها باطلة، أملاها التعصب والتشاحن المذهبي».

٥٣

الشّيعَة والفُرس

قال الدكتور طه حسين في كتاب «علي وبنوه»: إن خصوم الشيعة نسبوا إليهم «ما يعلمون وما لا يعلمون». وكرر ذلك في صفحات الكتاب، لشتى المناسبات. منها قوله في صفحة ١٨٧ طبعة دار المعارف بمصر:

لا يكتفي خصوم الشيعة من الشيعة بما يسمعون عنهم، أو بما يرون من سيرتهم، وإنما يضيفون إليهم أكثر مما قالوا، وأكثر مما سمعوا، ثم لا يكتفون بذلك، وإنما يحملون هذا كله على عليّ نفسه، وعلى معاصريه(١) .

وقال في صفحة ١٨٩:

وخصومهم واقفون لهم بالمرصاد يُحصون عليهم كل ما يقولون ويفعلون، ويضيقون إليهم أكثر مما قالوا، وما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال، ثم يتقدم الزمان، وتكثر المقالات، ويذهب أصحاب المقالات في الجدال كل مذهب، فيزداد الأمر تعقيداً وإشكالاً، ثم تختلط الامور بعد أن يبعد عهد الناس بالأحاديث، ويتجاوز الجدال خاصة الناس إلى عامتهم، ويتجاوز الذين يحسنونه إلى الذين لا يحسنونه، ويخوض فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فيبلغ الأمر أقصى ما يمكن أن يبلغ من الإيهام والإظلام، وتصبح الأمة في فتنة عمياء لا يهتدي فيها إلى الحق إلا الأقلون.

وقال في صفحة ٩٨ و ٩٩:

«إن ابن سبا كان متكلفاً منحولاً(٢) قد اخترع بآخرة حين كان الجدال بين

____________________

(١) وسنرى في الفصل التالي أن أحمد أمين في أيامه الأخيرة نقض أقواله بحق الشيعة التي سطرها في فجر الإسلام وضحاه. وهكذا يشهد قطبان كبيران بأن الشيعة اتهموا بأشياء كذباً وافتراء.

(٢) ألف السيد مرتضى العسكري كتاباً في ابن سبا أثبت بالأرقام أنه منحول لا وجود له في الواقع.

٥٤

الشيعة و غيرهم من الفرق الإسلامية. أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب - أي مذهب الشيعة - عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم، والتنكيل بهم. ان ابن سبا شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم، ولم يدخروه للخوارج».

هذي هي الصفات التي تميز خصوم الشيعة اليوم، وقبل اليوم: جدال بدون علم ومعرفة، واختراع أشخاص لا أساس لهم ولا أصل، لغاية الكيد والتنكيل، وافتراء الأعاجيب والأكاذيب، لإشاعة الفتنة والتضليل. أدرك ذلك كله، وشهد به الدكتور طه حسين حين بحث التاريخ موضوعياً وللحقيقة وحدها، مجرداً عن الأهواء والغايات، وأعلن هذه الحقيقة بلسان واضح مبين، وقدم الشواهد والدلائل، وقد أشرنا - فيما تقدم - إلى طرف منها، ونذكر الآن لوناً آخر من الأكاذيب التي تهدف فيما تهدف إلى اخراج الشيعة من الإسلام كلية:

لقد زعم خصوم الشيعة فيما زعموا أن التشيّع دين مستقل ابتدعه الفرس كيداً للإسلام الذي أزال ملكهم، وأباد سلطانهم، فأرادوا الانتقام منه، فلم يستطيعوا، فأدخلوا عليه البدع والضلال متسترين باسم التشيع.

وفند هذا الزعم بالأدلة والأرقام السيد محسن الأمين في الجزء الأول من «أعيان الشيعة»، والشيخ محمد حسين المظفر في «تاريخ الشيعة»، وكثير من المستشرقين، منهم فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» وآدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» وجولد تسهير في كتاب «العقيدة والشريعة»، وغيرهم. ويتلخص ما ذكروه من الردود، وما نضيفه إليها بما يلي:

١ - أثبتنا فيما تقدم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الباعث الأول لفكرة التشيع، وأرجعنا ما تدين به الإمامية إلى نصوص الكتاب والسنة، وذكرنا عدداً وافراً من الصحابة الذين قالوا بوجود النص على علي بالخلافة.

٢ - قال السيد الأمين في القسم الأول من الجزء الأول ص ٤٩ طبعة سنة ١٩٦٠:

«إن الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلا القليل منهم. وجل علماء السنة وأجلاؤهم من الفرس، كالبخاري والترمذي

والنسائي وابن ماجة، والرازي والبيضاوي وفخر الدين الرازي، وصاحب القاموس والزمخشري والتفتازاني، وأبي القاسم البلخي والقفال والمروزي والشاشي والنيسابوري والبيهقي، والجرجاني والراغب الأصفهاني والخطيب التبريزي، وغيرهم ممن لا يبلغهم الإحصاء.

٥٥

ومن دخل من الفرس وتشيع فحاله حال من تشيع من سائر الأمم، كالعرب والترك والروم وغيرهم لا باعث له إلا حب الإسلام، وحب آل الرسول، فأسلم وتشيع عن رغبة واعتقاد. وإذا جاز أن يقال: إن الفرس تشيعوا كيداً للإسلام، لأنه قهرهم جاز أن يقال: إن غير الفرس تسننوا كيداً للإسلام ، لأنه غلب وقهر الجميع لا الفرس وحدهم.

والحقيقة أن بعض الفرس دان بالتشيع للسبب الذي دان به غيرهم بالتشيع، وبعضهم دان بالتسنن للسبب الذي دان به غيرهم بالتسنن، سنة اللّه في خلقه. إن الذين نشروا التشيع في قم وأطرافها الأشعريون، وهم عرب صميمون هاجروا إليها من الكوفة في عصر الحجاج، وغلبوا عليها، واستوطنوها، وانتشر التشيع في خراسان بعد خروج إليها وزاد الانتشار واتسع في إيران في عصر الصفوية الذين نصروا التشيع، وهم عرب، لأنهم سادة أشراف من نسل الإمام موسى بن جعفر، لا يمكن بحال أن يتعصبوا للأكاسرة، والذين يجوز في حقهم ذلك هم قدماء الفرس، وهؤلاء جلهم كان على مذهب التسنن».

أثبت السيد الأمين أن الذين نشروا التشيع وناصروه في إيران هم بين عربي أصيل، كالإمام الرضا والأشعريين(١) أو من أصل عربي كالصفوية، وأن الذين دعموا التسنن وناصروه هم فرس أقحاح، كالبخاري والنسائي والرازي وغيرهم. فإن كان للفرس مقاصد وأهداف ضد الإسلام، كما زعم خصوم الشيعة فأولى ثم أولى أن يحاولوا تحقيق غاياتهم عن طريق التسنن لا التشيع، إذ

______________________

(١) في سنة ٨٣ هجري خرج ابن الأشعث على الحجاج، ثم هزم جيشه وتفرق في البلاد، وكان بينهم خمسة إخوة: عبد اللّه والأحوص وعبد الرحمن وإسحق ونعيم أبناء سعد بن مالك بن عامر الأشعري، فاجتمع الخمسة وتغلبوا على بعض القرى القريبة من قم، واجتمع إليهم بنو عمهم، وكان المتقدم من هؤلاء عبد اللّه وكان له ولد يتشيع، فانتقل من تلك القرى إلى قم، ونقل التشيع إلى أهلها (الكنى والألقاب) ترجمة القمي.

٥٦

المفروض أن سبب التشيع في إيران يرجع إلى عنصر عربي، والتسنن إلى عنصر فارسي صرف. ولكن خصوم الشيعة موهوا وضللوا، وعكسوا الآية، لا لشيء إلا للكيد والتنكيل، كما قال الدكتور طه حسين. وهكذا فعلوا في مسألة الجفر وعلم الغيب.

وقال الشيخ محمد حسين المظفر في «تاريخ الشيعة» ص ٨ المطبعة الزهراء بالنجف:

«كان للإمام ثلاثة حروب: الجمل، وصفين والنهروان. وكان جيشه كله عرباً أقحاحاً بين عدنانية وقحطانية. أكانت قريش من الفرس أم الأوس والخزرج، أم مذحج، أم همدان، أم طي، أم كندة، أم تميم، أم مضر، أم أشباهها من القبائل؟ وهل كان زعماء جيشه غير رؤساء هذه القبائل؟ أكان عمار فارسياً، أم هاشم المرقال، أم مالك الأشتر، أم صعصعة بن صوحان، أم أخوه زيد، أم قيس بن سعد، أم ابن عباس، أم محمد بن أبي بكر، أم حجر بن عدي بن حاتم، وأمثال هؤلاء من القواد؟».

أما أصحاب الحسن والحسين فكلهم عرب، وجلهم من أصحاب أبيهما أمير المؤمنين.

وقال المستشرق فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» ص ٢٤١ طبعة سنة ١٩٥٨ يرد على المستشرق دوزي الذي زعم أن التشيع كمذهب ديني إيراني الأصل:

«أما أن آراء الشيعة كانت تلائم الإيرانيين فهذا أمر لا سبيل إلى الشك فيه، أما كون هذه الآراء قد انبعثت من الإيرانيين فليست تلك الملاءمة دليلاً عليه، بل الروايات التاريخية تقول بعكس ذلك، إذ تقول: إن التشيع الواضح الصريح كان قائماً أولاً في الدوائر العربية، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي». وقال في ص ١٤٨: «كان جميع سكان العراق في عهد معاوية خصوصاً أهل الكوفة شيعة، ولم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل القبائل ورؤساء القبائل.

وهذا يعزز ما قاله السيد الأمين في الأعيان من أن التشيع في إيران جاء من أصل عربي لا من أصل فارسي».

وقال المستشرق آدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية» ص ١٠٢ وما بعدها

طبعة سنة ١٩٥٧ ما ملخصه:

«إن مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية، يخالف الإسلام. فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلها عدا المدن الكبرى، مثل مكة وتهامة وصنعاء، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً، مثل عمان وهجر وصعدة. أما إيران فكانت كلها سنة ما عدا

٥٧

«قم» وكان أهل أصفهان يغالون في معاوية، حتى اعتقد بعض أهلها أنه نبي مرسل، كما نقل المقدسي».

وإذا كان الفرس هم سبب التشيع في إيران وغير إيران، فهل جاء غلو بعض أهالي أصفهان في معاوية، ورفعه إلى منصب النبوة والرسالة، هل جاء هذا الغلو في معاوية نتيجة لتشيع الفرس؟ إنه لغريب حقاً منطق خصوم الشيعة، كما قال الدكتور طه حسين. قالوا: إن الغلو في علي جاء من الفرس. ثم ينقل عالم من علمائهم مثل المقدسي أن بعض الفرس غالى في معاوية، حتى جعلوه نبياً مرسلاً. ثم كيف ومن أين وصل التشيع إلى جزيرة العرب؟ هل جاء إليها من الفرس، والتاريخ يقول: إن الفرس كانوا على التسنن حين كان سكان الجزيرة العربية على التشيع؟ وهكذا يقع في التناقضات من يضفي على التاريخ صفته الذاتية العدائية، ثم يبني عليه آراءه وأحكامه.

وقال المستشرق جولد تسهير في كتاب «العقيدة والشريعة» ص ٢٠٤ طبعة ١٩٤٦:

«إن من الخطأ القول بأن التشيع في منشئه، ومراحل نموه يمثل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام، بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية. فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة(١) » وما هؤلاء

________________

(١) إن علماء المسلمين العرب هم الذين أدخلوا التشيع إلى فارس، وأرشدوا الفرس إليه. بشهادة الشيخ أبي زهرة، قال في كتاب «الإمام جعفر الصادق» ص ٩٤٥: «أما فارس وخراسان، وما وراءهما من بلدان الإسلام فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أولاً، ثم العباسيين ثانياً، وإن التشيع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً، قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها». فالفرس - إذن - تشيعوا على أيدي العرب، ولم يخلقوا التشيع من تلقائهم كيداً للإسلام.

٥٨

المستشرقون الثلاثة كل من نطق بهذه الحقيقة. فهناك كثيرون غيرهم قالوا هذا القول، دون أن يقصدوا الذب والدفاع عن الشيعة، وعقيدة التشيع، وإنما هدفهم الأول بيان الحقيقة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة. وكنا في غنى عن الاستشهاد بأقوالهم، لو تحرر خصوم الشيعة عن التعصب الأعمى، ونزوات الأهواء والأغراض.

هذا، إلى أن السنة قد أخذوا بعض العادات من غيرهم، كعيد رأس السنة الهجرية الذي أحدثوه في زماننا، وعيد المولد النبوي الشريف تقليداً للمسيحيين الذين يحتفلون بميلاد السيد المسيح، ورأس السنة الميلادية. وكان علماء السنة، في القرن الثامن الهجري يعدون الاحتفال بالمولد النبوي مخالفاً للسنة، لأنه لا عيد في الإسلام إلا عيد الأضحى وعيد رمضان، وصدرت فتاوى من شيوخهم بتحريمه، على اعتبار أنه بدعة وضلالة(١) . ولو أردنا أن نتعصب لقلنا: إن مذهب التسنن مأخوذ من المسيحيين، لا من الكتاب والسنة.

وبالتالي، فإن الذي اجتذب الفرس وغير الفرس إلى التشيع هو الإسلام الصحيح، وحب الرسول وآله، واستشهاد الأخيار في سبيله، وملاءمته للحياة، ومناصرته للضعفاء والمضطهدين، أجل، كان الفرس منذ عهد الصفويين، حتى اليوم من أقوى الدعائم للشيعة، ومذهب التشيع، وهذا هو السر الذي بعث خصوم الشيعة على أن يصوروا الفرس، وكأنهم أعدى أعداء الإسلام، مع العلم بأنه لولا الفرس لم يكن للمسلمين هذا العدد الضخم من العلماء الذين نفاخر بهم أمم الشرق والغرب، ولا كان للإسلام هذه المكتبة المتخمة بألوف المجلدات في شتى العلوم، ولسنا نعرف أمة خدمت الإسلام، ولغة القرآن كالفرس، ولو أحصيت المكتبة الإسلامية والعربية لكان سهم الفرس منها أوفى من أسهم بقية المسلمين مجتمعين. إن الفرس لم يتستروا باسم التشيع، ليكيدوا للإسلام، بل إن أعداء الإسلام تستروا باسمه، ليكيدوا للتشيع بعامة، والفرس بخاصة، لأنهم كانوا وما زالوا من أقوى أركان الإسلام وأنصاره.

وهل من شيء أدل على عداوة هؤلاء للحق والإسلام من تشنيعهم على الشيعة،

______________________

(١) نقله بعض المؤلفين عن كتاب «بيت الصديق» للبكري ص ٤٠٤ طبعة ١٣٢٣ هجري.

٥٩

وسكوتهم عن الخوارج الذين قال عنهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنهم يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. بل إن الشاطبي أوصى بالستر عليهم، وعدم التعرض لهم، مع اعترافه بمروقهم من الدين. قال في كتاب «الموافقات» ج ٤ ص ١٧٨ وما بعدها مطبعة الرحمانية بمصر ما ملخصه:

«قال النبي: إن من ضئضئي هذا - يعني ذا الخويصرة - قوماً يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. وقد بين النبي بهذا الحديث من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين: أحدهما: اتباع القرآن على غير تدبر، ولا نظر في مقاصده ومعاقده. ثانيهما: قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان.

وذكر الناس من آرائهم غير ذلك، كتكفيرهم لأكثر الصحابة وغيرهم، ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام، وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم بأنه حلال، أو حرام فليس بمؤمن. وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم، وأن التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الإطلاق والعموم، والقاذف للرجال لا يحد. وأن اللّه سيبعث نبياً من العجم بكتاب ينزله اللّه عليه جملة واحدة، ويترك شريعة محمد. وإنكارهم سورة يوسف من القرآن، وأشباه ذلك، وكلها مخالفات شرعية.

ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها، ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى. ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذي ينبغي أن يلتزم، ليكون ستراً على الأمة. وقد أمرنا بالستر على المذنبين». وإذا أمرنا بالستر على من خرج من الإسلام، فهل يجب التقبيح والتشنيع على من هم من الإسلام في الصميم؟! وغريب أن يقول عالم كالشاطبي: إن النبي أخرج الخوارج من الإسلام، ثم يزعم أن أمرهم مرجى إلى اللّه، ويوصي بالستر عليهم، والسكوت عنهم. أليس معنى هذا قال النبي، وأقول؟!

أحمَد أمين يعَترف في أيَّامه الأخِيرة

هاجم أحمد أمين في كتاب «فجر الإسلام» وضحاه الإمامية هجوماً عنيفاً، ورد عليه يومذاك علماؤهم رداً منطقياً، وأثبتوا بشهادة التاريخ وكتبهم العقائدية أنه أحل العاطفة محل العقل، والتعصب محل العدل، والخيال محل الواقع. ومن الذين تصدوا للرد عليه المرحوم كاشف الغطاء في كتاب «أصل الشيعة وأصولها».

وبعد مضي عشرين عاماً، أو أكثر على مهاجمته تلك أصيب بنظره، وعجز عن القراءة والكتابة، وفي أيامه الأخيرة - سنة ١٩٥٢ - استعان بغيره، وأملى عليه كتاباً أسماه «يوم الإسلام» اعترف فيه من حيث لا يحس ولا يشعر بما كان قد أنكره على الإمامية، من ذلك:

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

المؤمن أخاه فقد فارقه )) ، فكان الذين ينظرون منه الاصطناع والارضاء يخطئون ما انتظروه ، ولا سيما اذا هم انتظروه من ارزاق رعاياه وحقوقهم التي اؤتمن عليها ، فيحسبون انها الجفوة البينة وانه الزهو المقصود وما هو بهذا ولا بتلك. انما هي شجاعة الفارس بلوازمها التي لا تنفصل منها ، وانما هو امتعاض المغموط امسيء ضناً بمن حوله يتراءى على سجيته في غير مدارات ولا رياء. فما كان يتكلف اظهار تلك الخلائق زهواً كما يسمونه أو جفوة كما يحسبونها ، بل كان قصاراه ان لا يتكلف الاخفاء.

نعم كان ملاك الأمر في أخلاق علي ، انه كان لا يتكلف اظهار شيء ولا يتكلف اخفاء شيء ولا يقبل التكلف حتى من مادحيه ، فربما أفرط الرجل في الثناء عليه وهو متهم عنده حتى يعلن له طويته ويقول له : (( انا دون ما تقول وفوق ما في نفسك )).

وكانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقته الكبرى الشجاعة والبأس والامتلاء باثقة والمنعة. وكانت تسلك معه مسلك الحقيقة والمجاز على السواء. كأنه يعني ما يصنع وهو لا يعنيه وانما يجيء منه على البديهة كما تجيء الاشياء من معادنها : كان مثلا يخرج إلى مبارزيه حاسر الرأس ومبارزوه مقنعون بالحديد. افعجيب منه ان يخرج اليهم حاسر النفس وهم مقنعون بالحيلة والرياء ؟ وكان يغفل الخضاب احيانا ويرسل الشيب ناصعاً

٢٠١

وهو لا يحرم خضابه في غير ذلك من الاحيان. افعجيب منه ، مع هذا ، أن يقل اكتراثه لكل خضاب ساترا ما ستر ، أو كاشفاً ما كشف من رأي و خليقة.

بل كانت قلة التكلف هذه توافق منه خليقة اخرى كالشجاعة في وقتها ورسوخها. وهي قريبة للشجاعة في نفس الفارس وقلما تفارقها ، ونعني بها خليقة الصدق الصراح الذي يجترىء الرجل به على الضر والبلاء كما يجترىء به على المنفعة والنعماء. فما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه ، وبين صحبه أو بين أعدائه ، ولعله كان أحوج إلى المصانعة بين النصراء مما كان بين الأعداء ، لأنهم أرهقوه باللجاجة واعنتوه بالخلاف. فما عدا معهم قول الصدق في شدة ولا رخاء وكان ابدا عند قوله : (( علامة الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك ، على الكذب حيث ينفعك )).

وصدق في تقواه وايمانه كما صدق في عمل يمينه ومقالة لسانه.فلم يعرف أحد من الخلفاء أزهد منه في لذة الدنيا أو سيب الدولة وكان وهو أمير للمؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها ، قال عمر بن العزيز وهو من اسرة أمية التي تبغض علياً وتخلق له السيئات وتخفي ما توافر له من الحسنات : (( أزهد الناس في الدنيا علي بن ابي طالب )). وقال سفيان ((ان علياً لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة)) وقد ابي ان ينزل القصر الأبيض بالكوفة ايثاراً للخصائص التي يسكنها الفقراء.

٢٠٢

وعلى هذا الزهد كان علي أبعد الناس من كزازة طبع وضيق حظيرة وجفاء عشرة ، بل كانت فيه سماحة يتبسط فيها حتى يقال دعابة ، وروي عن عمر بن الخطاب انه قال له : لله ابوك لو لا دعابة فيك )) وانه قال لمن سألوه في الاستخلاف (( وان ولي علي ففيه دعابة )).

وأغرق عمرو بن العاص في وصف الدعابة فسماها (( دعابة شديدة )) وطفق يرددها بين أهل الشام ليقدح بها في صلاح علي للخلافة ، وانما نقول ان عمرو بن العاص أغرق في هذا الوصف ، وان الدعابة المعيبة لم تكن قط من صفات علي لأن تاريخ علي وأقواله ونوادره مع صحبه وأعدائه محفوظة لدنيا لا نرى فيها دليلا على خلق الدعابة فضلا عن الدليل على الافراط فيه. فان كان هذا الوصف أثر فربما كان مرجع ذلك ان علياً خلا من الشغل الشاغل سنين عدة ، فأعفاه الشغل الشاغل من صارمته واسلمه حينا إلى سماحته وأحاديث صحبه ومريديه فحسب هذه الدعة من الدعابة البريئة ثم بالغ فيها المبالغون ، ولم يثبتوها بقصة واحدة أو شاردة واحدة تجيز لهم ما تقولوه.

وقد كانت لعلي صفات ومزايا فكرية تناصي المشهور المتفق عليه من صفاته النفسية ومزياه الخلقية ، فاتفق خصومه وأنصاره على بلاغته واتفقوا على علمه وفطنته ، وتفرقوا فيها عدا ذلك من رأيه في علاج الأمور ودهائه في سياسة الرجال.

٢٠٣

والحق الذي لا مراء فيه ان علياً كان صاحب الفطنة النافذة وانه أشار على عمر وعثمان احسن المشورة في مشكلات الحكم والقضاء ، وكان يفهم أخلاق الناس فهم العالم المراقب لخفايا الصدور ويشرحها في عظاته وخطبه شرح الأريب اللبيب.

الى هنا متفق عليه لا يكثر فيه الخلاف ، ثم يفترق الناس في رأية رأيين ، فيقول اناس انه كان على قسط وافر من الفهم والمشورة ، ولكنه عند العمل لا يرى ما تقضي به الساعة الحازبة ولا ينتفع بما يراه. ويقول أناس بل هو الاضطرار والتحرج يقيدانه ولا يقيدان أعداءه وانهم لدونه في الفطنة والسداد. وهو قد اعتذر لنفسه بما شابه من هذا العذر حين قال : (( والله ما معاوية بادهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولو لا كراهية الغدر لكنت من ادهى الناس)).

ولكننا نستطيع ان نجزم هنا بحقيقتين لا نحسبهما تتسعان لجدال طويل ، وهما ان أحداً لم يثبت قط ان العمل بالآراء الخرى كان أجدى وانجع في فض المشكلات من العمل برأي الأمور خيراً من تصريفه ، لو وضعوا في موضعه واصطلحت عليهم المتاعب التي اصطلحت عليه.

هذه صفات تنتظم في نسق موصول : رجل شجاع لأنه قوي. وصادق لأنه شجاع ، وزاهد مستقيم لأنه صادق ، ومثار

٢٠٤

للخلاف لأن الصدق لا يدور بصاحبه مه الرضا والسخط والقبول والنفور ، وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق ان الناس قد أثبتوا له في حياته أجمل صفاته المثلى ، فلم يختلفوا على شيء منها الا الذي اصطدم بالمطامع وتفرقت حوله الشبهاب ، وما من رجل تتعسف المطامع أسباب الطعن فيه ثم تنفذ منه إلى صميم.

المجلس التاسع

مفتاح شخصيته

(( آداب الفروسية )) هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة الذي يفضي منها كل مغلق ويفسر منها كل ما احتاج الى تفسير.

وآداب الفروسية هي تلك الآداب التي نلخصها في كلمة واحدة ((النخوة)).

وقد كانت النخوة طبعاً في علي فطر عليه ، وادبا من آداب الاسرة الهاشمية نشأ فيه ، وعادة من عادات الفروسية العملية التي يتعودها كل فارس شجاع متغلب على الأقران ، وان لم يطبع عليها وينشأ في حجرها لأن الغلبة في الشجاع أنفة تابي عليه ان يسف الى ما يخجله ويشينه ولا تزال به حتى تعلمه النخوة تعلماً ،

٢٠٥

وتمنعه ان يعمل في السر ما يزرى به في العلانية. وهكذا كان علي في جميع أحواله واعماله : بلغت به نخوته الفرسية غايتها المثلى ، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء. فلم ينس الشرف قط ليغتنم الفرصة ، ولم يساوره الريب قط في الشرف والحق أنهما قائمان دائمان كانهما مودعان في طبائع الأشياء. فاذا صنع ما وجب عليه ، فلينس من شاء ما وجب عليهم ، وان أفادوا كثيراً وباء هو بالخسار.

أصاب المقتل من عدوه مرات فلم يهتبل الفرصة السانحة بين يديه ، لأنه أراد أن يغلب عدوه غلبة الرجل الشجاع الشريف ، ولم يرد ان يغلبه او يقتنص منه كيفما كان سبيل الغلب والقصاص.

قال بعض من شهدوا معركة صفين : لما قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين وجدناهم قد نزلوا منزلاً اختاروه مستويا بساطاَ واسعاً واخذوا الشريعة - اي مورد الماء - فهي في أيديهم ، وقد أجمعوا على ان يمنعونا الماء. ففزعنا الى أمير المؤمنين فخبرناه بذلك فدعى صعصعة بن صوحان فقال له : ائت معاوية وقل له انا سرنا مسيرنا اليكم ونحن نكره قتالكم قبل الاعذار اليكم ، وانك قدمت الينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل ان نقاتلك ، ونحن من رأينا الكف عنك ندعوك ونحتج ندعوك ونحتج عليك وهذه اخرى قد فعلتموها اذ حلتم بين الناس وبين الماء. والناس غير منتهين أو يشربوا فابعث الى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء ويكفوا

٢٠٦

ثم ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم له.

ثم قال راوي الخبر ما معناه ان معاوية سال أصحابه فأشاروا عليه ان يحول بين علي وبين الورود غير حافل بدعوته الى السلم ولا بدعوته الى المفاوضة في أمر الخلاف ، فأرسل معاوية مدداً الى حراس المورد يحمونه ويصدون من يقترب منه ، ثم كان بين العسكرين تراشق بالنبل فطعن بالرماح فضرب بالسيوف حتى اقتحم اصحاب علي طريق الماء وملكوه.

وهنا الفرصة الكبرى لو شاء علي ان يهتبلها ، وان يغلب اعداءه بالظمأ كما أرادوا ان يغلبوه قبل ساعة. وقد جاء اصحابه يقولون : والله لا نسقيهم. فكانما كان هو سفير معاوية وجنده اليهم يتشفع لهم ويستلين قلوبهم من أجلهم. وصاح بهم : (( خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا الى عسكركم وخلوا عنهم ، فان الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم )).

ولاحت له فرصة قبل هذه الفرصة في حرب أهل البصرة ، فأبي ان يهتبلها وأغضب أعوانه انصافاً لأعدائه ، لأنه نهاهم ان يسلبوا المال ويستبيحوا السبي وهو في رأيهم حلال. وقالوا اتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا اموالهم ؟ فقال : (( انما القوم امثالكم من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر )). وسن لهم سنة الفروسية أو سنة النخوة حين اوصاهم ان لا يقتلوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح ولا يكشفوا ستراً ولا يمدوا يداً الى مال.

٢٠٧

ومن الفرص التي أبت عليه النخوة ان يهتبلها فرصة عمرو بن العاص وهو ملقى على الارض مكشوف السوأة لا يبالي ان يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء ، فصدف بوجهه عنه آنفاً ان يصرع رجلا يخاف الموت هذه المخافة التي لا يرضاها من منازله في مجال صراع. ولوم غير علي اتيح له ان يقضي على عمرو لعلم انه قاض على جرثومة عداء ودهاء فلم يبال ان يصيبه حيث ظفر به.

لقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضا الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها ، فكان يعرف العدو عدواً حيثما رفع السيف لقتاله. ولكنه لا يعادي امرأة ولا رجل مولياً ولا جريحاً عاجزاً عن نضال ولا ميتاً ذهبت حياته ولو ذهبت في سبيل حربه. بل لعله يذكر ماضيه يومئذ فيقف على قبره ليبكيه ويرثيه ويصلي عليه. وهذه الروسية هي التي بغضت اليه ان ينال اعداءه بالسباب وليس من دأب الفارس ان ينال اعداءه بغير الحسام.

فلما سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حروبهم بصفين قال لهم : (( اني اكره ان تكونوا سبابين ، ولكنكم لو وصفتم اعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب الى القول ، وابلغ في العذر ، وقلتم مكان سبكم اياهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، واصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لج به )).

٢٠٨

ولد علي في داخل الكعبة ، وكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها ، فكأنما كان ميلاده ثمة ايذانا بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها.

وكاد علي ان يولد مسلماً. بل لقد ولد مسلماً على التحقيق اذا نحن نظرنا الى ميلاد العقيدة والروح ، لأنه فتح عينيه على الاسلام ، ولم يعرف قط عبادة الأصنام ، فهو تربى في البيت الذي خرجت منه الدعوة الاسلامية وعرف العبادة من صلاة النبي وزوجته الطاهرة قبل ان يعرفها من صلاة أبيه وأمه ، وجمعت بينه وبين صاحب الدعوة قرابة مضاعفة ومحبة أوثق من محبة القرابة ، فكان ابن عم محمد وربيبه الذي نشأ في بيته ونعم بعطفه وبره. وقد رأينا الغرباء يحبون محمداً ويؤثرونه على آبائهم وذويهم فلا جرم يحبه هذا الحب من يجمعه به جد ويجمعه به بيت ويجمعه به جميل معروف : جميل ابي طالب يؤديه محمد وجميل محمد يحسه ابن ابي طالب وياوي اليه.

وملأ الدين قلبا لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة ولم يخالطه شوب يكدر صفاءه ويرجع به الى بقاياه. فبحق ما يقال ان علياً كان المسلم الخالص على سجيته المثلى ، وان الدين الجديد لم يعرف قط أصدق اسلاماً منه ولا أعمق نفاذاً فيه.

كان المسلم حتى المسلم في عبادته ، وفي علمه وعمله ، وفي قلبه

٢٠٩

وعقله ، حتى ليصح ان يقال انه طبع على الاسلام فلم تزده المعرفة الا ما يزيده التعليم على الطباع.

كان عابداً يشتهي العبادة كانها رياضة تريحه وليست أمراً مكتوبا عليه.

وكان علي محجة في الاسلام لا يحيد عنها لبغية ولا لخشية. وآثر الخير كما يراه على الخير كما يراه الناس.

وكان دينه له ولعدو دينه فما كان الحق عنده لمن يرضاه دون من يقلاه ، ولكنه كان الحق لكل من استحقه وان بهته وآذاه.

وجد درعه عند رجل نصراني فاقبل به الى شريح - قاضيه - يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه ، وقال : انها درعي ولم ابع ولم أهب ، فسأل شريح النصراني : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين قال النصراني : ما الدرع الا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب فالتفت شريح الى علي يسأله. يا أمير المؤمنين هل من بينة ؟.

فضحك علي وقال : أصاب شريح. ما لي بينة. فقضى بالدرع للنصراني فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر اليه. الا ان النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول : اما انا فأشهد ان هذه أحكام أنبياء. امير المؤمنين يدينني الى قاضيه فيقضي عليه.

اشهد ان لا الله الا الله وان محمداً رسول الله ، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين. اتبعت الجيش وأنت منطلق الى صفين فخرجت من بعيرك الأوراق. فقال : اما اذا اسلمت فهي لك. وشهد الناس

٢١٠

هذ الرجل بعد ذلك وهو من اصدق الجند بلاء في قتال الخوارج يوم النهروان.

واحسن الاسلام علماً وفقهاً كما أحسنه عبادة وعملاً. فكانت فتاواه مرجعاً للخلفاء والصحابة في عهود الي بكر وعثمان وعمر. وندرت مسألة من مسائل الشريعة لم يكن له رأي فيها يؤخذ به أو تنهض له الحجة بين أفضل الآراء.

الا ان المزية التي امتاز بها علي بين فقهاء الاسلام في عصره انه جعل الدين موضوعاً من موضوعات التفكير والتأمل ولم يقصره على العبادة واجراء الاحكام ، فاذا عرف في عصره أناس تفقهوا في الدين ليصححوا عبادته ويستنبطوا منه أقضيته واحكامه فقد امتاز علي بالفقه الذي يراد به الفكر المحض والدراسة الخالصة ، وامعن فيه ليغوص في اعماقه على الحقيقة العلمية ، او الحقيقة الفلسفية كما نسميها هذه الأيام.

المجلس العاشر

تسري في صفحات التاريخ احكام مرتجلة يتلقفها من فم الى فم ، ويتوارثها جيل عن جيل ويتخذها السامعون قضية مسلمة مفروغاً

٢١١

من بحثها الاستدلال عليها ، وهي في الواقع لم تعرض قط على البحث والاستدلال ولم تتجاوز ان تكون شبهة وافقت ظواهر الأحوال ، ثم صقلتها الألسنة فعز عليها بعد صقلها ان تردها الى الهجر والاهمال. من تلك الأحكام المرتجلة قولهم ان علياً بن ابي طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بخدع الحرب والسياسة.

وقد يكون كذلك أو لا يكون فسنرى بعد البحث في ارائه وآراء المشيرين عليه أي هذين القولين أدنى الى الصواب.

ولكن هل خطر لأحد من ناقديه ، في عصره او بعد عصره أن يسأل نفسه : أكان في رسع علي أن يصنع غير ما صنع ؟

وهل خطر لأحد منهم ان يسأل بعد ذلك : هبه استطاع ان يصنع غير ما صنع فما هي العاقبة ؟. وهل من المحقق انه كان يفضي بصنيعه الى عاقبة أسلم من العاقبة التي صار اليها. ؟

لم نعرف أحداً من ناقديه ، خطر له ان يسأل عن هذا او ذاك ان السؤال عن هذا او ذاك هو السبيل الوحيد الى تحقيق الصواب والخطأ في رأيه ورأي مخالفيه ، سواء كانوا من الدهاة او غير الدهاة.

والذي يبدو لنا نحن من تقدير العواقب على وجوهها المختلفة ان العمل بغير الرأي الذي سيق اليه لم يكن مضمون النجاح ولا كان مأمون الخطر ، بل وربما كان الأمل في نجاحه أضعف والخطر في اتباعه أعظم ، لو أنه وضع في موضع العمل والانجاز وخرج

٢١٢

من حين النصح والمشورة.

وهذه هي المسائل التي خالفه فيها الدهاة ، او خالفه فيها نقدة التاريخ الذين نظروا اليها من الشاطىء ، ولم ينظروا اليها نظرة الربان في غمرة العواصف والامواج.

فالمآخذ التي من هذا القبيل ، يمكن ان تنحصر في المسائل التالية وهي :

١_ عزل معاوية.

٢_ معاملة طلحة والزبير.

٣_ عزل قيس بن سعد من ولاية مصر.

٤_ تسليم قتلة عثمان.

٥_ قبول التحكيم.

وهي كلها على الأقل للخلاف والاحتجاج من كلا الطرفين فان لم يكن خلاف وكان جزم قاطع. فهو على ما نعتقد أقرب الى رأي علي وابعد من آراء مخالفيه وناقديه.

قيل في مسألة معاوية ان علياً خالف فيها رأي المغيرة وابن عباس وزياد بن حنظلة التميمي وهم جميعاً من المشهورين بالحنكة وحسن التدبير.

تلك آراء المشيرين من ذوي الحنكة ، وذلك ما عمل به الامام وارتضاه ، فأيهما على خطأ وايهما على صواب ؟.

٢١٣

سبيل العلم بذلكان نعلم أولا : هل كان الامام مستطيعاً ان يقر معاوية في عمله بالشام ؟

وان نعلم بعد هذا : هل كان اقراره ادنى الى السلامة والوفاق لو انه استطاع ؟.

وعندنا ان الامام لم يكن مستطيعاً ان يقر معاوية في عمله لسببين : اولهما انه اشار على عثمان بعزله اكثر من مرة ، وكان اقراره واقرار امثاله من الولاة المستغلين اهم المآخذ على حكومة عثمان.

فاذا اقره وقد ولي الخلافة ، فكيف يقع هذا الاقرار عند اشياعه ؟ الا يقولون انه طالب حكم لا يعنيه اذا وصل الى بغيته ما كان يقول وما سيقوله الناس ؟

واذا هو اعرض عن رأيه الاول ، فهل في وسعه ان يعرض عن آراء الثائرين الذين بايعوه بالخلافة لتغيير الحال والخروج من حكم عثمان الى حكم جديد؟

فكيف تراهم يهدأون ويطيعون اذا علموا ان الولايات باقية على حالها ، وان الاستغلال الذي شكوا منه وسخطوا عليه لا تبديل فيه ؟

وندع هذا ونزعم ان اقرار معاوية بحيلة من الحيل مستطاع. فهل هو هذا الزعم اسلم وادنى الى الوفاق ؟

كلا على الارجح ، بل على الرجحان ، الذي هو في حكم

٢١٤

التحقيق. لأن معاوية لم يعمل في الشام عمل وال طوال حايته ، ويقنع بهذا النصيب ثم لا يتطاول الى ما وراءه ، لكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها ويدعمها له ولأبنائه من بعده.

فجمع الاقطاب من حوله ، واشترى الانصار بكل ثمن في يديه واحاط نفسه بالقوة والثروة ، واستعد للبقاء الطويل ، واغتنام الفرصة في حينها ، فأي فرصة هو واجدها خير من مقتل عثمان والمطالبة بثأره ؟

وانما كان مقتل عثمان فرصة لا يضيعها ، والا ضاع منه الملك وتعرض يوما من الأيام لضياع الولاية. وما كان مثل معاوية بالذي يفوته الخطر من عزله بعد استقرار الأمور ، ولو على احتمال بعيد فماذا تراه صانعاً اذا هو عزل بعد عام من مبايعته لعلي وتبرئته اياه من دم عثمان.

انما كان مثتل عثمان فرصة لغرض لا يقبل التأخير.

واذا كان هذا موقف علي ومعاوية عند مقتل عثمان ، فماذا كان علي مستفيداً من اقراره في عمله وتعريض نفسه لغضب أنصاره.

لقد كان معاوية أحرى ان يستفيد بهذا من علي ، لأنه كان يغنم به حسن الشهادة له وتزكية عمله في الولاية ، وكان يغنم ان يفسد الأمر على علي بين أنصاره ، فتعلو حجته من حيث تسقط حجة علي. وأصدق ما يقال بعد عرض الموقف على هذا الوجه من ناحيتيه ان صواب علي في مسألة معاوية كان ارجح من صواب

٢١٥

مخالفيه. فان لم تؤمن بها على التقدير والترجيح ، فاقل ما يقال ان الصواب عنده وعندهم سواء.

والتقدير في مسألة طلحة والزبير أيسر من التقدير في مسألة معاوية ، لأن الرأي الذي عمل به على معروف ، والآراء التي تخالفه لا تعدو واحداً من ثلاثة ، كلها أغمض عاقبة ، واقل سلامة واضعف ضمانا من رأيه الذي ارتضاه.

فالرأي الأول ان يوليهما العراق واليمن او البصرة والكوفة وكان عبد الله بن عباس على هذا الرأي فانكره الامام لأن البصرة والكوفة بهما الرجال والأموال ومتى تملكا رقاب الناس يستميلان السفيه بالطمع ويضربان الضعيف بالبلاء ، ويقويان على القوي بالسلطان ، ثم ينقلبان عليه أقدى مما كانا بغير ولاية وقد استفادا من اقامة الامام لهما في الولاية تزكية يلزمانه بها الحجة ، ويثيران بها انصاره عليه.

والرأي الثاني ان يوقع بهما ليفترقا ولا يتفقا على عمل ، وهو لا ينجح في الوقيعة بينهما الا باعطاء أحدهما وحرمان الآخر ، فمن أعطاه لا يضمن انقلابه مع الغرة السانحة ، ومن حرمه لا يأمن ان يهرب إلى الاثرة كما هرب غيره ، فيذهب إلى الشام ليساوم معاوية ، أو يبقى في المدينة على ضغينة مستورة.

على انهما لم يكونا قط متفقين حتى في مسيرهما من مكة إلى البصرة ، فوقع الخلاف في عسكرهما على من يصلي بالناس ، ولو لا

٢١٦

سعي السيدة عائشة بالتوفيق بين المختلفين لافترقا من الطريق خصمين متناقضين.

ولم تطل المحنة بهما متفقين أو مختلفين ، فانهزما بعد أيام قليلة وخرج علي من حربهما أقوى وأمنع مما كان قبل هذه الفتنة ، ولو بقيا على السلم المدخول لما انتفع بهما بعض انتفاعه بهذه الهزيمة العاجلة.

والرأي الثالث أن يعتقلهما اسيرين ، ولا يبيح لهما الخروج من المدينة إلى مكة حين سألاه الاذن بالمسير اليها ، ثم خرجا منها الى البصرة ليشنا الغارة عليه.

والواقع ان علياً قد استراب بما نوياه حين سألاه الاذن بالسفر الى مكة. فقال لهما ( ما العمرة تريدان ، وانما تريدان الغدرة ).

ولكنه لم يحبسهما ، لأن حبسهما لن يغنيه عن حبس غيرهما من المشكوك فيهم ، وقد تركه عبد الله بن عمرو ولم يستأذنه في السفر ، وسلل إلى الشام أناس من مكة ومن المدينة ولا عائق لهم أن يتسللوا حيث شاءوا ، ولو انه حبسهم جميعاً لما تسنى له ذلك بغير سلطان قاهر ، وهو في ابتداء حكمه لما يظفر بشيء من ذلك السلطان ، وأغلب الظن ان سواء الناس كانوا يعطفون عليهم وينقمون حبسهم قبل ان تثبت له البينة بوزرهم. وما أكثر المتحرجين في معسكر الامام علي من حبس الأبرياء بغير برهان ؟ لقد كان هؤلاء خلقاء ان ينصروهم عليه وقد كانوا

٢١٧

ينصرونه عليهم ، وخير له مع طلحة والزبير ان يعلنوا عصيانهم فيغلبهم من ان يكتموه فيغلبوه ويشككوا بعض انصاره في عدله وحسن مجاملته معهم.وعلى هذا كله ، حاسنوه ولم يصارحوه بعداء.

لم يكن الجيش الذي خرج من مكة الى البصرة بيائس من الخروج اليها إذا لم يصحبه طلحة والزبير فقد كانت (( العثمانية )) في مكة حزبا موفور العدد والمال. فهي مسألة تلتبس فيها الطرائق ، ولا يسعنا ان نجزم بطريقة منها أسلم ولا أضمن عاقبة من الطريقة التي سلكها علي وخرج منها غالباً عل الحجاز والعراق ، وما كان وشيكا ان يغلب عليهما لو بقي معه طلحة والزبير على فرض من جميع الفروض التي قدمناها.

أما عزل قيس بن سعد من ولاية مصر مع ان قيساً بن سعد كان أقدر أصحابه على ولاية مصر وحمايتها ، وكان كفؤا لمعاوية وعمرو بن العاص في الدهاء والمداورة ، فعزله علي لأنه شك فيه ، وشك فيه لأن معاوية أشاع مدحه بين أهل الشام ، وزعم انه من حزبه والمؤتمرين في السر بأمره.

وكان أصحاب علي يحرضونه على عزله ، وهو يستمهلهم ويراجع رأيه فيه حتى اجتمعت الشبهات لديه. فعزله وهو غير واثق من التهمة ولكنه كذلك غير واثق من البراءة. وشبهاته مع ذلك لم تكن بالقليلة ولا بالضعيفة ، فان قيساً

٢١٨

ابن سعد لم يدخل مصر الا بعد ان مر بجماعة من حزب معاوية ، فأجازوه ولم يحاربوه وهو في سبعة رجال لا يحمونه من بطشهم ، فحسبوه حي أجازوه منه العثمانية الهاربين الى مصر من دولة علي في الحجاز.

ولما بايع المصريون علياً علي يديه ، بقي العثمانيون لا يبايعون ولا يثورون ، وقالوا له : (( أمهلنا حتى يتبين لنا الأمر )) فامهلهم وتركهم وادعين حيث طاب لهم المقام بجوار الاسكندرية.

ثم أغراه معاوية بمناصرته والخروج على علي ، فكتب اليه قيس كلاماً لا الى الرفض ولا الى القبول ، ويصح لمن سمع بهذا الكلام ان يحسبه مراوغاً لمعاوية أو يحسبه مترقباً لساعة الفصل بين الخصمين اذ كان ختام كتابه إلى معاوية : (( أما متابعتك فانظر فيها ، وليس هذا مما يسرع اليه وأنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه ، حتى نرى وترى )).

وأراد عل ان يستيقن من الخصومة بين قيس ومعاوية فأمر قيساً ان يحارب المتخلفين عن البيعة. فلم يفعل وكتب اليه :(( متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوك ، وهم الآن معتزلون والرأي تركهم)).

فتعاظم شك علي وأصحابه ، وكثر المشيرون عليه بعزل قيس واستقدامه إلى المدينة. فعزله واستقدمه ، وتبين بعد ذلك انه أشار بالرأي والصواب ، وان ترك المتخلفين عن البيعة

٢١٩

في عزلتهم خير من التعجيل بحربهم ، لأنهم هزموا محمداً بن أبي بكر والي مصر الجديد ، وجرؤوا عليه من كان يصانعه ويواليه.

ولكننا نبالغ على كل حال ، اذا علقنا على هذا التصرف الجرائر التي أصابت علياً من بعدها.

ومن عجائب هذه القصة ان معاوية ندم على تقريب قيس من جوار علي ، وقال :(( لو أمددته بمائة الف لكانوا أهون علي من قيس )) لأنه ينفعه وهو قريب منه في عامة أموره ولا ينحصر نفعه له في سياسة مصر وحدها.

ثم تأني مسألة القصاص من قتلة عثمان التي كانت أطول المسائل جدلا بين علي وخصومه ، فاذا هي أقصرها جدلا مع براءة المقصد من الهوى وخلوص الرغبة في الحقيقة.

فقد طالبوه بالعقوبة ولم يبايعوه ، مع ان العقوبة لا تكون الا من ولي الأمر المعترف له باقامة الحدود.

وطالبوه به ولم يعرفوا من القتلة ، ومن هو الذي يؤخذ بدم عثمان من القبائل أو الأفراد.

واعنتوه بهذا الطلب لأنهم علموا انه لا يستطاع قبل ان تثوب السكينة إلى عاصمة الدولة ، واعفوا أنفسهم منه - وهم ولاة الدم كما يقولون - يوم قبضوا على عنان الحكم وثابت السكينة الى جميع الأمصار.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767