المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٥

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 767

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 767
المشاهدات: 86396
تحميل: 4377


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 767 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86396 / تحميل: 4377
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 5

مؤلف:
العربية

منهم بين الضلوع فمن قائل وا أباه وا عليا وا أمير المؤمنيناه وا شهيدا وا مقتولاه ومن قائلة وا أبتاه وا سيداه وا جداه وا محمدا وا فاطمتا وا حمزتاه وا جعفراه. ولا بأس على المؤمن إذا واسى ساداته وأهل بيت نبيه في مصابهم فبكى طويلا ونادى وا سيداه واماماه وا علياه وا شهيدا وا مظلوماه.

يا فارس الهيجا يضرّاب

يا بو الحسن يا داحي الباب

يمذلل الكوم الصعاب

يا جاتلا مرحب وما هاب

والعامري بيوم الأحزاب

كيف المرادي اراداك بصواب

وخضب شيبتك والدم الخضاب

وطبر هامتك ويلي بوسط محراب

لمن غبت بدر الهدى غاب

والعيش من بعدك فلا طاب

* * *

قل لابن ملجم والأقدار غالبة

هدمت ويلك للاسلام أركانا

قتلت أفضل من يمشي على قدم

وأول الناس إسلاماً وايمانا

المجلس الخامس عشر

روى الشيخ في الأمالي بسنده عن حبيب بن عمرو قال

٢٤١

دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ((ع)) بعد ما ضربه ابن ملجم فحل عن جراحته فقلت يا أمير المؤمنين ما جرحك هذا بشيء وما بك من بأس فقال لي يا حبيب انا والله مفارقكم الساعة قال فبكيت عند ذلك وبكت أم كلثوم وكانت قاعدة عنده فقال لها ما يبكيك يا بنية فقالت ذكرت يا ابه أنك تفارقنا الساعة فبكيت فقال لها يا بنية لا تبكي فوالله لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت قال حبيب فقلت ما الذي ترى يا أمير المؤمنين فقال يا حبيب أرى ملائكة السماوات والنبيين بعضهم في أثر بعض وقوفاً الى أن يتلقوني وهذا أخي محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس عندي يقول اقدم فان أمامك خيراً مما أنت فيه (وفي البحار عن بعض الكتب) ثم تزايد ولوج السم في جسده الشريف حتى نظرنا الى قدميه وقد احمرتا جميعاً فكبر ذلك علينا وأيسنا منه ثم عرضنا عليه المأكول والمشروب فابى ونظرنا الى شفتيه وهما يختلجان بذكر الله وجعل وجعل جبينه يرشح عرقاً وهو يمسحه فقال له ابن الحنفية أراك تمسح جبينك فقال يا بني ان سمعت رسول الهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ان المؤمن اذا نزل به الموت عرق جبينه وسكن أنينه ثم نادى أولاده كلهم بأسمائهم صغيراً وكبيراً واحداً بعد واحد وجعل يودعهم ويقول الله خليفتي عليكم استودعكم الله وهم يبكون فقال له الحسن ((ع)) يا أبه ما دعاك الى هذا فقال له يا بني اني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامي قبل هذه الكائنة بليلة فشكوت اليه ما أنا فيه من التذلل والأذى من هذه الأمة

٢٤٢

فقال لي ادع عليهم فقلت اللهم ابدلهم بي شراً مني وابدلني بهم خيراً منهم فقال لي قد استجاب الله دعاءك وسينقلك الينا بعد ثلاث وقد مضت الثلاث يا أبا محمد أوصيك بأبي عبد الله خيراً فانتما مني وأنا منكما ثم التفت الى أولاده الذين من غير فاطمة ((ع)) وأوصاهم ان لا يخالفوا أولاد فاطمة يعني الحسن والحسينعليهما‌السلام ثم قال أحسن الله لكم العزاء الا واني منصرف عنكم في ليلتي هذه ولاحق بحبيبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما وعدني ثم اغمي عليه ساعة وأفاق وقال هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلهم يقولون عجل قدومك علينا فانا اليك مشتاقون ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال أستودعكم الله جميعاً سددكم الله جميعاً حفظكم الله جميعاً خليفتي عليكم وكفى بالله خليفة ثم قال وعليكم السلام يا رسل ربي ثم قال لمثل هذا فليعمل العاملون ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وعرق جبينه وهو يذكر الله كثيراً وما زال يذكر الله كثيراً ويتشهد الشهادتين ثم استقبل القبلة وغمض عينيه ومد رجليه ويديه وقال أشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد ان محمداً عبده ورسوله ثم قضى نحبه (أي وا اماماه وا سيداه وا شهيداه وا مظلوماه) فعند ذلك صرخت زينب بنت علي ((ع)) وأم كلثوم وجميع نسائه وقد شقوا الجيوب ولطموا الخدود وارتفعت الصيحة في القصر فعلم أهل الكوفة ان أمير المؤمنين ((ع)) قد قبض فأقبل الرجال والنساء يهرعون أفواجاً افواجا

٢٤٣

وصاحوا صيحة عظيمة فارتجت الكوفة باهلها وكثر البكاء والنحيب وكثر الضجيج بالكوفة وقبائلها ودورها وجميع أقطارها فكان ذلك كيوم مات فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

زينب بكت والدمع سال

او صاحت بصوت ايصدع الجبال

يحامي الحمى يا خير الاعمال

ما كنت اظن لنك بها الحال

يريف اليتامى البيك الامثال

ابعيد البلا من الدار تنشال

او موحش مكانك يظل يهلال

او يتاماك لفراكك والعيال

عكبك تنوح بدمع همال

وياك عزنه والفخر شال

* * *

لقد مات خير الخلق بعد محمد

وأكرمهم فضلا وأوفاهم عهداً

واضربهم بالسيوف في مهج العدى

واصدقهم قيلا وانجزهم وعدا

المجلس السادس عشر

ان شخصية أمير المؤمنين علي ((ع)) من أقوى الشخصيات التي عرفها التاريخ ، ولست بسبيل ان أفصل ما فيها من نبل وقوة وخصائص تستهوي الأفئدة ، وانما سبيلي ان أبحث جانباً من

٢٤٤

جوانب هذه الشخصية الرائعة المستفيضة ، وهو جانب النظرة الاجتماعيه فيها ، تلك النظرة التي أودعها نهج البلاغة والتي بلغت من العمق والبيان درجة أغرى سموها بعض أشياع الأمويين وفريقاً من الباحثين ، الى نفيها عنه والذهاب الى أنها هدية الخلود صاغها للجد حفيده الشريف الرضي، الشاعر الموهوب.

غير ان هذه الآراه كثيرة مبعثرة وكثيراً ما يتكرر الرأي الواحد اكثر من مرة ، وليس ((نهج البلاغة)) بمقسم تقسيما يفصل كل مجموعة متشابهة من الآراء عما عداها ، وهذا هو موطن الصعوبة ولكنه ايضاً مهمة الباحث ، وعلى هذا فسنقسم الآراء الى : ١- علاقة الانسان بربه ، ٢- علاقة الانسان بنفسه ، ٣- علاقة الانسان بغيره ، ٤- ثم سياسة الدولة وهو باب متشعب كما سنرى.

وقد يعترض معترض بان القسمين الأولين الباحثين في علاقة الانسان بربه وعلاقته بنفسه يجب ان يستبعدا من بحث مقصور على الأغراض الاجتماعية أي على ما يقوم بين الناس من معاملات ليس منها ، معاملات الفرد للخالق ولا لنفسه التي بين جنبيه ولكن هذا الاعتراض غير وجيه ، الا بالنسبة للآراء الميتافيزيقية البحتة التي بحث فيها امام بحثاً مطولا عن منشأ الكون وعلاقة الاجرام بعضها ببعض وكيفية خلق الملائكة والبشر ، تلك الآراء التي وجدناها خارجة عن موضوعنا فاستبعدناها اما علاقة

٢٤٥

الانسان بربه ، فالمقصود بها هنا ، الوصايا التي وجهها الامام الى مجتمعه ليعمل بها فيما يختص بالخالق الجليل وبذلك تكون اعمالاً بشرية ، ان لم تكن اجتماعية بالمعنى العلمي الحرفي ، فهي اجتماعية لأنها مطلوب القيام بها من الجماعة ولأنها مظهر اجتماعي ومؤثر قوي في السلوك الاجتماعي البحت أي في سلوك الأفراد ازاء بعضهم بعضا. أما فيما يختص بعلاقة الانسان مع نفسه فالمسألة أوضح ، لأنا بتدريب أنفسنا على منهج خاص نخلقها خلقاً جديداً وهذا الخلق مؤثر أبعد التأثير في نوع تعاملنا مع الآخرين ، ولان العدى موجودة في الخير وفي الشر ، فكوننا على هذه الحال أو تلك اغراء لمن هم دوننا ولمن هم بمعرض التأثر بمثالنا ، وعلى ان يحتذوا ذلك المثال ، ولأنا نحن مكونو المجتمع وكما نكون يكون.

هذا إلا ان هذين القسمين شيء قليل بالنسبة للقسمين الآخرين.

أما عن علاقة الفرد بربه فقد ضم نهج البلاغة بين دفتيه صفحات نادرة في تمجيد الله وتحليل صفاته ، وكثر فيه النصح بالقاء النفس الى الله كما جاء في وصية الاما لابنه وبشكره على نعمائه وعدم الاغترار بما يوفق اليه من النجاح ( واذا أنت هديت لقصدك ، فكن أخشع ما تكون لربك). وأوصى ابن ابي بكر بقوله : (. ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه فان في الله خلفاَ من غيره ، وليس من الله خلف في غيره ). وبمثل هذا كان يفتتح خطاباته الى ولائه وقضائه ؟ ولنستمع الى قوله حين بعث بعض

٢٤٦

عماله على الصدقة : ( آمره بتقوى الله في سرائر أمره وخفيات عمله حيث لا شاهد غيره ولا دليل دونه وآمره ان لا يعمل بشيء من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسر ) ، وليس غريباً ان يوصي بما أوصى به القرآن من الرجوع اليه وإلى الحديث عند التباس الأمور فيقول : ( واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليكم من الأمور ). وليس غريباً أيضاً ان يعتبر الشكوى من نوائب الزمان شكوى من الله فيقول : ( من أصبح يشكو مصيبة نزلت به فقد أصبح يشكو ربه ).

وقد ظهرت عقيدته الراسخة في الله ودعوته الى نصرة دينه في قوله : ( لا تجعلن أكثر شغلك باهلك وولدك واولياء الله فان الله لا يضيع اولياءه وان يكونوا أعداء لله فما همك وشغلك باعداء الله ).

على ان نغمته الزاهدة لا تفتأ تتكرر فهو يقول لنا هنا : ( من رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته ) ويقول لنا هناك ان ( الرزق رزقان ، رزق تسعى اليه ورزق يسعى اليك ) وهذا قول حكيم لأنه لا يدعو الى الكسل وانتظار الرزق من الله ، بل يقول ان السعي يزيد الرزق ولكن يجب على المرء الا يشغل بجميع جوارحه بالسعي وراء الدنيا فيغفل عن العمل الصالح.

سبق ايراد قوله ((ع)) : ( من أصبح يشكو مصيبة نزلت به فقد أصبح يشكو ربه ).

٢٤٧

والآن نضم إلى ذلك قوله : ( ولا يحمد حامد الا ربه ، ولا ولا يلم لائم الا نفسه ). ان النص الأول يدعونا إلى عدم شكوى الزمان ، لأن الزمان يجري كما قضى الله وقدر فثورتنا عليه ليست الا ثورة على قضاء الله وقدره ، أما النص الثاني فانه يدعونا الى ان نعتقد ان الخير من الله ، وان الشر من انفسنا أي ان الله اعطانا عقلا نميز به بين الطريقين كما قال تعالى ( انا هديناه النجدين ) فان سلكنا طريق الشر فلا نلم الا انفسنا ، وان سلكنا طريق الخير فلا نحمد الا الله لأنه هو الذي أرشدنا.

أ- وأما عن علاقة الفرد مع نفسه فقد قال ((ع)) في وصيته إلى ابن ابي بكر : (. فانت محقوق ان تخالف على نفسك أي ان تخالف هواك وتحكم عقلك. ثم قال في موضع ىخر : ( من كا له من نفسه واعظاً ، كان عليه من الله حافظا ). وأوضح ذلك الرآي بموضوع ثالث بقوله : ( من لم يعن نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر ، لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ ).

لقد عرف الامام علي ان بالنفس نوازع شر ونوازع خير فدعا الى التشديد عليها حين تأمر بالسوء واستعان عليها الله في قوله :(والله المستعان على نفسي وأنفسكم ) ثم اعتمد على الضمير اليقظ وأهاب بنا أن نقويه فانه عاصمنا ومنه المزدجر. وقد زاد من عنايته بالتدريب النفسي انه اعتقد ان الطباع كسبية فقال : ( ان لم تكن حليما فتحلم فانه قل من تشبه بقوم الا أوشك ان يكون منهم ) وانه اعتقد ان الانسان مفطور على الخير وان الخير في

٢٤٨

عودته لفطرته فقال : (الله بعث في الناس رسله وواتراليهم انبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ) فمهمة الانبياء عنده اعادتنا إلى الفطرة التي فطرنا الله عليها.

ب- ونلاحظ انه اكثر من النهي عن ( الأمل ) لا الأمل الذي نعرفه والذي حث الله عليه بل أوجبه في ذكر أقواله تعالى( لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْکَافِرُونَ‌ ) وانما الأمل بمعنى الاعتماد على طول الأجل ، وارتكاب المحرمات ،و وارجاء الفرائض اعماداً على ذلك وهذا رأي نشاركه كلنا فيه فان كل ما بالعالم يمر في سرعة وثابة وما أنصف ولا أصاب من يبذر في صحته أو ماله اعماداً على وفرة صحته أو ماله ولا من يؤجل العمل انتظاراً للغد. فان الغد يمر ونمر معه ، واذن فما أحرانا ان نعمل بنصيحة الامام القائلة ( وبادروا اجالكم باعمالكم ) وان نتدبر قوله : ( ان اخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل ).

ج- لم أكد أبدأ بالكتابة عن علاقة الانسان بربه حتى شعرت بنحولة الفاصل بين هذا القسم والقسمين الآخرين ، وها أنذا الآن أشعر بهذه النحولة أيضاً : فها هي حكم ووصايا تدخل في سلوك المرء مع نفسه ، وتدخل في سلوكه مع غيره كقوله ( قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان والفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخير ) ومثل قوله : ( الصبر صبران : صبر على ما تكره وصبر على ما تحب ) وقوله البليغ : ( أفضل الزهد اخفاء الزهد ) ونهيه : ( واياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها

٢٤٩

وحب الاطراء فان ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون احسان المحسنين ) فان دعوته إلى الشجاعة والجرأة وانتهاز فرص الخير وتحمل الداء وعدم الاستنامة اليه ، والصبر بنوعيه ، واخفاء الزهد أي الزهد في سبيل التظاهر والزهد بالقلب مع مواصلة العمل والجهاد ، ونهيه عن الاعجاب بالنفس وحب الثناء ، كل هذه العهود يتناولها المرء بينه وبين نفسه وبينه وبين غيره.أما امره : ( ولا تتمن الموت الا بشرط وثيق ) أي لا تعرض نفسك للهلاك الا ان تقضي غاية سامية وضرورة لازبة ، فانه ادخل في نطاق المعاملة النفسية.

المجلس السابع عشر

اذا كان علي ((ع)) قد وضع لنا هذه القاعدة النبيلة في قياس الفضيلة والخير وهي الا نعمل في السر ما نخجل من عمله في العلن حيث قال ؛ ( واحذر كل عمل يعمل به في السر ويستحى منه في العلانية ) فانه قد حبانا أيضاً بمقياس نبيل لأعمالنا تجاه الآخرين في قوله الخالد : ( يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك

٢٥٠

فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها ولا تظلم كما لا تحب ان تظلم) ولو اتبع البشر هاتين النصيحتين لامتنع الظلم والشر جميعاً ،غير أنه يمكن ان نلاحظ ملاحظة متواضعة على النصيحة الأولى : تلك ان نظرة المجتمع قد تتغير نحو بعض الفضائل او الرذائل ، فاذا كان ما يستحى من عمله يعمل على رؤوس الأشهاد فهل الفضائل خالدة ، ام هي يجري عليها ناموس التطور ، وهل يطيع نصيحة الامام ام لا يطيعها رجل يحتسي الخمر على قارعة الطريق غير خجل لكثرة من يحتسونها ؟ اما انا فأميل الى القول بان الفضائل خالدة ، وان الكذب لن يكون فضيلة لأن الناس يكذبون بل الفضيلة فضياة والرذيلة رذيلة ولن يزال راكبها يشعر في نفسه بالتضاؤل وبنوع من الحياء لا حين يلقى امثاله ولكن حين يلقى الأخيار.

وما لي أذهب بعيداً ؟ ان الامام يفسر لنا ذلك في موضع آخر حيث يقول في بيان شاف : (ان المؤمن يستحل العام ما استحل عاما اول ويحرم العام ما حرم عاماً اول وان ما احدث الناس لا يحل لكم شيئاً مما حرم الله عليكم ، ولكن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله).

ب- واذا ذكرنا تطور الفضائل وخلودها فالنستعرض رأي الامام القائل : (اقدموا على الله مظلومين ولا تقدموا على الله ظالمين). أن من الناس من لا يريد ان يسلم بان الانظلام فضيلة.

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه

يهدم ومن لم يظلم الناس يظلم

٢٥١

وربما مال ايضاً الى ان يقول مع هيغل : ( ان ظفر شعب هو البرهان القوي على حقوقه) غير ان عبارة الامام انما يراد بها مبالغة في التنفير من الظلم.

ج- ولقد دعا الامام الى التعاون دعوة صريحة في عبارة نبيلة حيث قال يودع جنوداً ذاهبين للقتال : (وأي امرىء منكم أحس من نفسه رباطة جأش عند اللقاء ورأى أحداً من اخوانه فشلا، فليذب عن اخيه بفضل نجدته التي فضل بها عليه كما يذب عن نفسه فلو شاء الله لجعله مثله). وما أوصى به الامام جنود جيشه يصح أن يستوصى به جنود الحياة. ان الغني لو ذب عن الفقير بفضل ماله الذي فضل به عليه والعالم لو ذب عن الجاهل بفضضل علمه والحكيم لو ارشد السفيه بفضل حكمته ، لو كان هذا سبيل الناس في الحياة ، لانتصر جيشهم على آلام الحياة القابلة للانهزام.

ان الامام لا يزال يلح في دعوته الى التعاون ، وانه ليسوقها هنا في منطق واضح وحجة لازمة : (ايها الناس لا يستغني الرجل وان كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه بايديهم والسنتهم).

(الا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة ان يسدها بالذي لا يزيده ان امسكه ولا ينقصه ان أهلكه ، ومن يقبض يده عن عشيرته فانما تقبض منه عنهم يد واحدة. وتقبض منهم عنه أيد كثيرة). ان الانسان مدني بالطبع او هو كما وصفه فيلسوف اليونان (حيوان اجتماعي) ولهذا دعا الامام

دعوته.

د - وقد تكررت دعوة الامام هذه في صورة أخرى في

٢٥٢

حثه على الصدقة بقوله البليغ : (واذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل زادك الى يوم القيامة فيوافيك به غداً حين تحتاج اليه فاغتنمه وحمله اياه). وبوصيته : (ان اللسان الصالح - أي الذكرى الطيبة - يجعله الله للمرء في الناس خيراً له من المال يورثه من لا يحمده. وفي تذكيره بفريضة الزكاة في قوله : (ان الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير الا بما متع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك). وقد بلغ من تقريره للتعاون ولاثر الزكاة والاحسان في اسعاد افراد المجتمع جميعاً انه استن تشريعاً طريفاً بقوله : (ان الرجل اذا كان له الدين الظنون يجب عليه ان يزكيه لما مضى اذا قبضه) أي ان من كان له دين ولم يكن واثقاً ان مدينه سيرده اليه سالماً ، ثم رده اليه بعد عامين مثلا ، وجب عليه اي على صاحب المال الدائن أن يدفع للفقراء زكاة هذا المال للسنتين الماضيتين. ولست أعرض لكم حكم الشريعة الاسلامية في هذا ولكني ألاحظ أن رأي الامام وجيه اذا اعتبرنا أن المال صار بالنسبة للدائن مفقوداً بوجوده عند من لا يثق به.

فاذا عاد اليه فكأنما عثر على كنز غير منتظر. واذاً فليس كثيراً أن يدفع منه شيئاً للفقراء ان لم يكن زكاة عنه فشكراً لله عليه.

(ومن كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس اليه) كما قال الامام وكما قال شكسبير (ان التشاريف العظيمة احمال عظيمة).

ه - لقد زهد الامام بهذه الدنيا وأهاب بها أن تغر غيره. بل لقد زمجر منها في صرخته : (والله لو كنت شخصاً مرئياً

٢٥٣

وقالباً حسياً لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم باماني والقيتهم في المهاوي) هكذا كانت نظرته الصادقة الى الحياة فلا عجب أن يمتلىء قلبه بالعطف على الناس وا، يدعو الى انقاذ الضعفاء وعدم خزن المال بكلمته الرهيبة : (يا ابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك).

ان الشعور السائد على نهج البلاغة كله هو شعور التنديد بالتهالك على الدنيا (وحفظ ما في يديك أحب الي من طلب ما في يد غيرك. فخفض في الطلب واجعل في المكتسب فانه رب طلب قد جر الى حرب. فليس كل طالب بمرزوق ولا كل محمل بمحروم). هذه وصاياه ولكنه لا يدعو الى الزهد الذي ينافي الدين والحياة. فهو يعمل ويحارب. ولكن على أرض الشرف ولغاية نبيلة.

و- ان ما مر بنا من دعوته الى التعاون والاحسان ووفاء الزكاة ليس الا بعض دعوته الى ((الحب العام)). فان قلبه النبيل قد غمر بهذه العاطفة الشريفة وثبتها ايمانه القوي المنقطع النظير وليس غريباً ممن صادق النبي والأصدقاء قليل ، وشاطره آلامه وجهاده ، فشعر بحلاوة الصداقة. ومن عانى الحسد والحقد اللذين دفعا معاوية وغيره لمناوأته. ومن خبر تاثير التخاذل والتباغض حين خرج الخوارج وتخاذل قومه ، ليس غريباً على من هذا شأنه أن يهيب بنا (ولا تحاسدوا فان الحسد ياكل الايمان كما تاكل النار الحطب ولا تباغضوا فانها الحالقة). وان يقول :

٢٥٤

(صحة الجسد من قلة الحسد) ذلك القول الذي تؤيده ملاحظاتنا اصفرار الوجه ونحوله فيمن عرفوا بالحقد. وأن يقسم لنا : (والذي وسع سمعه الأصوات ما من أحد أودع قلباً سروراً الا وخلق الله من ذلك السرور لطفاً فاذا نزلت به نائبة جرى اليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الابل ) وان يوصينا خيرا بجيراننا قائلا :

(الله الله في جيرانكم فانها وصية نبيكم ، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم).

ز- قلت أنه قد عرف الصداقة في نفسه وخبرها فلنستمع الى وصاياه بصددها : لقد بالغ في طلب الحرص على الصديق الوفي حتى قال : (ولا يكن على مقاطعتك اقدرمنك على صلته) وأوصى بالبحث عن الرفيق قبل الطريق. وحد الذين (يتواصلون بالولاية ويتلاقون بالمحبة) ودعا الى عدم الكلفة بين الأصدقاء بقوله : (احبب حبيبك هوناً ما ، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وابغض بغيضك هواناً ما ، على أن يكون حبيبك يوماً ما) ولقد نتساءل كيف يشك الانسان في صديق وفي خبره فيحطاط في صداقته وكيف تستقيم صداقة مع تحوط. ولكنا لا يصعب علينا ان نعرف ما حمل الامام على قول ذلك فقد عانى من تقلب الاصحاب وانشقاق الاخوان ما عانى. ولعل هذا العناء هو ما دفعه - ولنقل ذلك ونحن بمعرض آرائه في الصداقة - الى ان يقول : (الوفاء لأهل الغدر عند الله والغدر باهل الغدر وفاء

٢٥٥

عند الله) ان هذه الكلمة القوية ما كانت لتصدر من ذلك القلب الوادع المسالم لو لا ان أصابته شظايا الغدر فثار.

ح- دعا الامام الى القصد في الحب والبغض وهذه الدعوة تذكرنا بدعوات له أخر تحث كلها على الاعتدال وعدم الاندفاع وليس أبلغ من قوله في الحدة انها ( ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم ، فان لم يندم فجنونه مستحكم ) وقوله : ( اليمين والشمال مضلة ، والطريق الوسطى هي الجادة ) ، وقد أنذر بانه سيهلك فيه صنفان : ( محب مفرط يذهب به الحب الى غير الحق ومبغض مفرط يذهب به البغض الى غير الحق ) ، وهذه الكلمات هي ، يجانب دعوتها الى القصد، دعوة الى الخصومة الشريفة ونزع الهوى الشخصي عند مناقشة أعمال الحكام والسواس.

ط- ما كان نهج البلاغة وقد ضم بين دفتيه هذه الآراء الاجتماعية الكثيرة ليغفل ( المرأة ) وشأنها في المجتمع. ولقد عبر الامام عن رأيه فيها بوضوح ، فاذا به رأى قاس لا يقل قسوة وعنفاً عن رأي ( شوبنهور ) فيها وذلك الرأي يتلخص في قوله : ( المرأة شر كلها وشر ما فيها انه لا بد منها ) وهكذا ذهب في موضوع آخر الى ان ( خيار خصال النساء شرار خصال الرجال ) وهذا القول قد يحمل على ان ما يستحب في النساء لا يستحب في الرجال ولكن هذا الاحتمال لا يؤثر في الموضوع فرأي الامام في المرأة واضح وقد نعتها في موضوع ثالث بانها ( عقرب حلوة

٢٥٦

اللبسة ). ثم دعا الناس الى أن يتقوا شرار النساء ويكونوا من خيارهن على حذر والا يطيعوهن في المعروف حتى ولا يطمعن في المنكر ، وبمثل هذا نهي في موضع آخر عن التمكين لهن والسماح لهن بالتشفع والرجاء في أمور الناس. والذي نلاحظة انهعليه‌السلام قد سلم ان بين النساء خياراً بدليل قوله : ( وكونوا من خيارهن على حذر ) فهويتهم الطبيعة النسوية على العموم ويخشى ان تتغلب على خيار النساء فيصبحن شريرات.

ي- لم يكن رأي الامام في النساء صادرا عن تعصب جنسي ، فان المعركة لم تكن قد نشبت بعد النساء والرجال ، وما كان علي ليتعصب وهو الذي ذم العصبية في الخطبة ( القاصعة ) ورد أصلها الى تعصب ابليس للنور ضد الطين : ( أما ابليس فتعصب على آدم لأصله وطعن عليه في خلقته فقال : ( أنا ناري وأنت طيني ) وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم فقالوا : ( نحن اكثر أموالا وأولاداً وما نحن بمعذبين ) فان كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الفعال ( وليست الدعوة ضد العصبية دعوة هينة فالعصبية سبب لمصائب كثيرة كان منها حروب كثيرة اثارها التعصب للجنس أو الدين او اللون أو المذهب أو الوطن. ولعل مما يبين كراهته ((ع)) للتعصب، وهو حقيق ان يكره التعصب لما ذاق من التعصب قوله : ( ليس بلد بأحق من بلد ، خير البلاد ما حملك ).

(المجالس الخامس) ( ١٧)

٢٥٧

ك- وقد نهى ((ع)) عن الغش في المكاييل ، وعن احتكار التجارة وقبح الغيبة بتحليل بديع قائلا : ( وانما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع اليهم في السلامة ان يرحموا اهل الذنوب والمعصية ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم ، فكيف بالعائب الذي عاب اخا وغيره ببلواه. وايم الله لئن لم يكن عصاه (عصى الله ) في الكبير وعصاه في الصغير لجرأته على عيب الناس اكبر. فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه وليكن الشكر شاغلا له على معافاته مما ابتلي به غيره ).

وكذلك دعا الى الاتحاد قائلا : ( واياكم والتفرقة فان الشاذ من الناس للشيطان كما ان الشاذ من الغنم للذئب ) ، ونهى عن البدعة في قوله ( وما أحدثت بدعة الا ترك بها السنة فاتقوا البدع والزموا المهيع. وحذر من تعلم النجوم الا ما يهتدى به في بر أو بحر فانها تدعو الى الكهانة ، والمنجم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار ).

ل- ان من تحصيل الحاصل ان نقول ان الامام دعا إلى اتباع الحق ، وانما الذي نريد هو ان نرى فهمه للحق كيف كان ، وان نرى نسبة هذا الفهم إلى نظريات اخرى في الحق.

يقول (اهرنج) وغيره من متشرعي الألمان الذين تأثروا بمبدأ فناء الفرد في الدولة ان الحق هو ما جعلته الدولة حقاً ، ويقول

٢٥٨

الواقعيون ان الحق ليس الا من وضع الانسان ولم يخرج تكييفه من ارادته وهواه ويقول اهرنج ايضاً ( ان أساس الحق ليس فكرة منطقية وانما هو القوة ) ويقول هيجل ( ان ظفر شعب هو البرهان القوي على حقوقه ).

هذا هو رأي فريق من العلماء في الحق ومقياسه وهو رأي خطر وقد اتهمه الفرنسيون بانه سبب الحرب العالمية ، واتهموا الالمان لأنهم انصاره ومروجوه. وهو رأي المعارضة في قوله : ( الحق فكرة تتوجه نحو المستقبل وأساسها الضمير الانساني والشعور بالمساواة والحرية للجميع ) ورأي (باسكال) ان القوة يجب الا تستعمل الا لخدمة الحق : ( علينا ان نحمل العدالة والقوة معاً وانما لا نقصد الا ما كان حقاً ، ولا نستعمل القوة الا لتوطيد الحق ).

هذان هما الرأيان المتعارضان فالى ايهما ينتمي رأي الامام علي ؟ لسنا محتاجين الى اقل تفكير للقول ان رأيه هو الثاني ، قال الامام علي : ( حق وباطل ولكل أهل ، فلئن امر الحق لقديماً فعل، ولئن كثر الباطل فربما ولعل ، ولعل ما ادبر شيء فأقبل ) وهذا النص واضح وصريح في ان الامام لا يرى كثرة الباطل تجعله حقاً ، بل ينتظر ان تزول دولته ، قائلا ان الشيء قد يدبر فيقبل، اي انه مؤمن بخلود الحق وهو القائل في غير نهج البلاغة :

٢٥٩

(دولة الظلم ساعة ودولة العدل الى قيام الساعة ) وقد تروى ( دولة الباطل ودولة الحق ) لأنهم لم يفرقوا كثيراً بين العدل والحق.

أما نظرية الحق والدولة فهي منافية لرأي الاما بالطبع ما دام يعتبر الحق خالداً ، وهو لا يفتأ ينهي الولاة عن ظلم الرعية ويدعو إلى المساواة والشورى والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله. أي انه لا يرى للحاكم حق اختراع الحقوق ولا يرى الحق كما رآه الواقعيون من وضع الانسان. ولا يرى انتصار شعب برهانا على حقوقه بل يقول : ( ان الله لم يقصم جباري دهر قط الابعد تمهيل ورخاء. ولم يجبر عظم أحد من الأمم إلا بعد ذل وبلاء ).

وإذا كان اتفق مع القائلين بأن الحق أزلي وبأنه تراعى فيه مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. فانه اتفق مع رأي باسكال القائل باستعمال القوة لتوطيد الحق فالامام يقول : ( واني لراض بحجة الله عليهم وعلمه فيهم فان أبوا أعطيتهم حد السيف وكفى به شافيا من الباطل وناصراً للحق ). وخاطبه قوم في عقاب قاتلي عثمان. فقال ان الحكمة تقضي بالتريث حتى يستتب الأمر ( واذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكي ) اي القتل والحرب يستعملهما حين تفشل وسائل السلم ، وحين يرفض خصومه الاحتكام الى الله ، وهذا دستور هيئة الأمم حيال الدول التي تأبى التحكيم.

يقول فريق من الناس ان الحق قد يتعدد ، فان اظن الامر وانت تظن نقيضه ، ولكني محق وأنت مثلي محق ، ويقول

٢٦٠