المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٥

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة7%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 767

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 767 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94466 / تحميل: 6016
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

انهما لن يفترقا حتى يلقياني وسالت ربي ذلك فاعطانيه الا واني قد تركتهما فيكم كتاب الله وعترتي اهل بيتي فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصوا عنهم فتهلكوا ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم يا ايها الناس لاالفينكم بعدي ترجعون كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجر السيل الجرار الا ان علي بن ابي طالب اخي ووصي يقاتل بعدي على تاويل القران كما قاتلت على تنزيله (وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يقوم مجلس بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه.

ثم انه عقد لاساة بن زيد بن حارثة الامرة وامره ان يخرج الى جمهور الامة الى حيث اصيب ابره من لبلاد الروم وجعل في جيشه اعيان المهاجرين ووجوه الانصار وفيهم ابو بكر وعمر وابو عبيدة حتى لايبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الامامة ويطمع في الامارة ويستتم الامر لمن استخلفه من بعده وامر اسامة ان يعسكر في الجرف (وهو معسكر المدينة) وحث الناس على الخروج اليه والمسير معهم وحذرهم من التاخر والابطاء عنه فبينما هو كذلك اذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها. فلما احس بالمرض الذي عراه وذلك يوم السلت او يوم الاحد ليال بقين من صفر اخذ بيد علي وتبعه جماعة من الناس وتوجه الى البقيع فقال اني قد امرت بالاستغفار لاهل البقيع ثم قال : السلام عليكم اهل القبور ليهنكم ما اصبحتم فيه مما فيه الناس اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع اخرها اولها ثم استغفر لاهل البقيع طويلا ثم اقبل على امير المؤمنين «ع» فقال ان

٢١

جبرئيل كان يعرض علي القران في كل سنة مرة ولا اراه الا لحضور اجلي ثم عاد الى منزله فمكث ثلاثة ايام موعوكا ثم خرج الى المسجد يوم الاربعاء معصوب الراس متكا على علي بيده اليمنى وعلى الفضل بن العباس باليد الاخرى حتى صعد المنبر فجلس عليه فحمد الله واثنى عليه (ثم قال) : اما بعد ايها الناس انه قد حان مني خفوق(١) من بين اظهركم فمن كان له عندي عدة فليات اعطه اياها ومن كان له علي دين فلييخبرني به قال الطبرسي في اعلام الورى فقام رجل فقال يا رسول الله لي عندك عدة اني تزوجت فوعدتني بثلاث اواق فقال انحلها اياه يا فضل فلبث الاربعاء والخميس ولما كان يوم الجمعة جلس على المنبر فخطب (ثم قال) : معاشر الناس انه ليس بين الله وبين احد شيء يعطيه خيرا ا يصرف عنه به شرا الا العمل. ايها الناس لايدع مدع ولايتمن متمن والذي لعثني بالحق نبيا لايتجي الا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت (ثم قال) اللهم بلغت (ثلاثا) وفي رواية المفيد اللهم هل بلغت (قال المفيد) ثم نزل فصلى بالناس صلاة خفيفة ثم دخل بيته وكان اذ ذلك بيت ام سلمة فاقام به يوما لو يومين فجائت عائشة تسالها ان تنقله الى بيتها لتتولى تعليله وسالت ازواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(١) في انهاية خفوق اي حركة وقرب ارتحال.

٢٢

في ذلك فاذن لها فانتقل الى البيت الذي تسكنه عائشة ةاستمر به المرض اياما وثقل فجاء بلال عتد صلاة الصبح ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغمورا بالمرض فنادى الصلاة يرحمكم الله فاوذن رسول الله (ص) بتدائه فقال يصلي بالناس بعضهم اني مشغول بنفسي فقالت عائشة مروا ابا بكر يصلي بالناس وقالت حفصة مروا عمر فقال رسول الله (ص) حين سمع كلامهما وحرص كل واحدة منهما على التنويه بابيها وافتتانهما بذلك ورسول الله (ص) حي اكففن فانكن صويحات يوسف ثم قام مبادرا خوفا من اقدم احد الرجلين وقد كان امرهما بالخروج مع اسامة ولم يكن عنده علم انهما قد تخلفا فلما سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم انهما متاخران عن امره فبدر لكف الفتنة وازالة الشبهة فقام (ص) وانه لايستقل على الارض من الضعف فاخذ بيد علي بن ابي طالب والفضل بن العباس فاعتمد عليهما ورجلاه يخطان الارض من الضعف فلما خرج من المسجد وجد ابا بكر قد سبق الى المحراب فاوما اليه بيده ان تاخر عنه فتاخر ابو بكر وقام رسول الله (ص) مقامه وكبر وابتدا بالصلاة التي كان ابتدا بها ابو بكر ولم يبن على ما مضى من فعاله فلما سلم وانصرف الى منزله استدعى ابا بكر وعمر وجماعة ممن حضرالمسجد ثم قال الم امركم ان تنفذوا جيش اسامة فقالوا بلى يا رسول الله قال فلم تاخرتم عن امري فقال ابو بكر انني كنت قد خرجت ثم رجعت لاجدد امري بك عهدا وقال عمر يا رسول الله اني لم اخرج لانني لم احب ان

٢٣

اسال عنك الركب فقال النبي (ص) نفذوا جيش اسامة يكررها ثلاث مرات ثم اغمي عليه من التعب الذي لحقه والاسف فمكث هنيئة مغمى عليه فبكى المسلمون وارتفع النحيب من ازواجه وولده ومن حضره من النساء المسلمات فافاق فنظر اليهم ثم قال ائتوني بدواة وكتف(١) لاكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا ثم اغمي عليه فقام بعض من حضر يلتمس دواة وكتفا فقال له عمر : ارجع فانه يهجر فرجع. وندم من حضر على ما كان منهم من التقصير في احضلر الدواة والكتف فتلاوموا بينهم وقالوا انا لله وانا اليه راجعون لقد اشفقنا من خلاف رسول الله (ص) فلما افاق قال بعضهم : الا ناتيك بكتف ودواة يا رسول الله فقال ابعد الذي قلتم ولكني اوصيكم باهل بيتي خيرا. (وفي رواية) ولكن احفظوني في اهل بيتي واعرض بوجهه عن القوم فنهضوا وهم يبكون قد يئسوا من رسول الله (ص). فلما كان من الغد حجب الناس عنه وثقل في مرضه وكان امير المؤمنين «ع» لا يفرقه الا لضرورة فقام في بعض شؤونه ففاق رسول الله (ص) فافتقد عليا فقال وازواجه حوله ادعو لي اخي وصاحبي وعاوده الضعف فاصمت(٢) فقالت عائشة : ادعوا له ابا بكر

____________________

(١) الكتف عظم عريض يكون في اصل كتف الحيوان كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم.

(٢) اصمت العليل اعتقل لسانه.

٢٤

فدعي ودخل وقعد عند راسه فلما فتح عينيه نظر اليه فاعرض عنه بوجهه فقام وقال لو كان له حاجة لافضى بها الي. فلما خرج اعاد رسول الله (ص) القول ثانيا وقال ادعوا لي اخي وصاحبي فقالت حفصة : ادعو له عمر ، فدعي فلما حضر وراه رسول الله (ص) اعرض عته فانصرف. ثم قال : ادعوا لي اخي وصاحبي فقالت ام سلمة : ادعوا له عليا فانه لا يريد غيره فدعي امير المؤمنين «ع» فلما دنا منه اوما اليه فاكب عليه فناجاه رسول الله طويلا ثم قام فجلس ناحية حتى اغفى رسول الله (ص) فلما اغفى خرج فقال له الناس يا ابا الحسن ما الذي اوعز اليك ؟ فقال : اوصاني بما انا قائم به انشاء الله تعالى ثم ثقل وحضر الموت وامير المؤمنين «ع» حاضر عنده فاخذ علي «ع» راسه فوضعه في حجره فاغمي عليه ، فاكبت فاطكمةعليها‌السلام تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول :

وابيض يستسقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للارامل

ففتح رسول الله (ص) عينيه وقال صوت ضئيل يا بنية هذا قول عمك ابي طالب لا تقوليع ولكن قولي : (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم) فبكت طويلا فاوما اليها بالدنو منه فدنت منه فاسر اليها شيئا تهلل له وجهها فقيل لفاطمة «ع» ما الذي اسر اليك

٢٥

رسول الله (ص) فسري(١) عنك به ما كنت عليه من الخوف والقلق بوفاته قالت اخبرني انني اول اهل بيته لحوقا بهوانه لن تطول المدة لي بعده حتى ادركه فسري بذلك عني.

وهل عدلت يوما رزية هالك

رزية يوم مات فيه محمد

وما فقد الماضون مثل محمد

ولا مثله حتى القيامة يفقد

المجلس الخامس

في ارشاد المفيد عليه الرحمة ما خلاصته انه لما مرض رسول الله (ص) مرضه الذي توفي فيه كان عنده عمه العباس وابنه الفضل وعلي بن ابي طالب واهل بيته خاصة فقال النبي : يا عباس يا عم رسول الله تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضي ديني ؟ فقال العباس : يا رسول الله عمك شيخ كبير ذو عيال كثير وانت تبلري الريح سخاء وكرم وعليك وعد لا ينهض بك عمك. فاقبل على علي وقال يا اخي تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضي ديني وتقوم بامر اهلي من بعدي فقال نعم يا رسول الله (وروي) الشيخ في الامالي ان العباس قال يا رسول الله انا شيخ ذو عيال كثير غير ذي مال

____________________

(١) سري عنهم الهم مجهولا انكشف.

٢٦

ممدود وانت اجود من السحاب الهاطل والريح المرسلة فلو صرفت ذلك عني الى من هو اطوق لي منه. (قال المفيد) : فقال : رسول الله (ص) اما اني ساعطيها من ياخذها بحقها ومن لا يقول مثلما تقول. ياعلي هاكها خالصة لا يحاقك احد يا علي اقبل وصيتي وانجز عدتي واد ديني يا علي اخلفني في اهلي وبلغ عني من بعدي. قال علي (ع) لما نعى الي نفسه رجف فؤادي والقي علي لقوله البكاء فلم اقدر ان اجيبه بشيء. ثم قال يا علي او تقبل وصيتي ولقد خنقتني العبرة ولم اكد ابين : نعم يا رسول الله (قال) المفيد في الارشاد والصدوق في العلل والشيخ في الامالي وغيرهم دخلت زوايات بعضهم في بعض : فقال رسول الله (ص) ادنو مني يا علي فدنا منه علي «ع» فضمه اليه ثم نزع خاتمه من يده فقال خذ هذا فضعه في يدك وقال يا بلال ائتني بسفي ذي الفقار ودرعي ذات الفضول ومنطقتي التي اشدها على درعي ومغرفي ذي الجبين ورايتي العقاب وعمامتي السحاب والاتحمية(١) والبرد والعنزة(٢) والقضيب الممشوق فاتى بلال بذلك كله الا درعه كانت يومئذ مرتهنة (ثم) دعا بزوجي نعال عربيين احدهما مخصوفة والقميص الذي اخرج فيه

____________________

(١) ضرب من البرود.

(٢) بالتحريك قال في القاموس رميح بين العصا والرمح فيه زج.

٢٧

يوم احد والقلانس الثلاث قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع اصحابه (ثم قال) يا بلال علي بالبغلتين الشهباء والدلدل(١) (وفي رواية) هلم بغلتي وسرجها ولجامها والناقتين العضباء والصهباء والفرسين حيزم وذا الجناح الذي كان يوقف بباب المسجد لحوائج الناس يبعث رسول الله (ص) الرجل الى حاجة فيركبه (ثم قال) ائتني بالمرتجز(٢) والحمار الغفور فاتي بها فاوقفها بالباب فلم يزل يدعو بشيء حتى اته افتقد عصابة كان يشدها على بطنه اذا لبس سلاحه وخرج الىالحرب فجيء بها فدفعها الى امير المؤمنين «ع» (ثم قال) والبيت يومئذ غاص بمن فيه من المهاجرين والانصار : قم يا علي فاقبض هذا ومد اصبعه وقال في حياة مني زشهادة من في البيت لئلا ينازعك احد من بعدي قال علي «ع» فقمت وما اكاد امشي على قدم حتى استودعت ذلك جميعا منزلي. (اقول) ولما دنت وفاة امير المؤمنين «ع» سلم ذلك الى ابنه الحسن فلما دنت وفاة الحسن سلم ذلك الى اخيه الحسينعليهما‌السلام . فلما كان يوم عاشوراء لبس الحسين «ع» عمامة رسول الله (ص) وتقلد بسيفه ذي الفقار ولما اجمع اهل الكوفة على قتاله وضيقوا عليه ومنعوه من الماء

____________________

(١) بوزن قنفذ القنفذ العظيم وبه سميت بغلة النبي (ص).

(٢) بوزن اسم الفاعل فرس للنبي (ص).

٢٨

حتى نال العطش منه ومن اصحابه خطب فيهم خطبة طويلة قال من جملتها انشدكم الله هل تعلمون ان هذا سيف رسول الله (ص) انا متقلده ؟ قالوا اللهم نعم. قال انشدكم الله هل تعلمون تن هذه عمامة رسول الله (ص) انا لابسها ؟ قالوا اللهم نعم (الى ان قال) : فبم تستحلون دمي وابي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالا كما يذاد البعير الصاد(١) عن الماء ولواء الحمد في يد ابي يوم القيامة قالوا قد علمنا ذلك كله ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشنا فلما خطب هذه الخطبة وسمع بناته واخته زينب كلامه بكين وارتفعت اصواتهن فوجه اليهن اخاه العباس وعليا ابنه وقال لهما سكناهن فلعري لسكثر بكاؤهن.

يتلو لهم حججا كالشمس واضحة

فعافها كل قلب منهم وقسا

ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي اجلسني (قال) علي «ع» فاجلسته واسندته الى صدري فلقد رايت رسول الله (ص) وان راسه ليثقل ضعفا وهو يقول ويسمع اقصى اهل البيت وادناهم ان اخي ووصيي ووزيري وخليفتي في اهلي علي بن ابي طالب يقضي ديني وينجز وعدي يا بني هاشم يا بني عبد المطلب لا تبغضوا عليا

____________________

(١) عن الزمخشري في الفاتق ان النبي (ص) قال لعلي انت الذائد عن حوضي يوم القيامة تذود عنه الرجال كما يذاد البعير الصاد اي الذي به الصيد وهو داء يلوي العنق.

٢٩

ولا تخالفوا عن امره فتضلوا ولا تحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا اضجعني يا علي فاضجعته (فقال) يا بلال ائتني بولدي الحسن والحسين فانطلق بلال وجاء بهما فاسندهما الى صدره وجعل يشمهما (قال) علي فظننت انهما قد غماه يعني اكرباه فذهبت لاخذهما عنه فقال دعهما يا علي يشماني واشمهما ويتزودا مني واتزود منهما فسيلقيان من بعدي زلزالا وامر عضالا لعن الله من يخيفهما الله اني استودعكما وصالح المؤمنين.(اتدري) يا رسول الله ما فعلوا بوديعتيك الحسنين من بعدك انا اخبرك بما فعلوا وان كنت تدري (اما) ولدك الحسن فقد جرعوه الغصص ونازعوه مقامك وحاربوه وخذلوه وضربوه في معول في فخذه وصل الى العظم حتى اغمي عليه ونهبوا رحله وال امرهم الى ان سقوه السم فمات شهيدا مسموما ومنعوا من دفنه عندك (واما) ولدك الحسين فاخافوه ومن حرمك وحرم الله طردوه بايعه اهل الكوفة وخذلوه وقتلوه ومن شرب الماء منعوه وبالخيل داسوا جسده ورضوه زراسه قطعوه وعلى راس الرمح رفعوه ومن بلد الى بلد حملوه وقتلوا اهله وانصاره وسبوا نساءه واطفاله وعياله.

يسار بها عنفا بلا رفق محرم

بها غير مغلول يحن على صعب

ويوقفها الطاغي بناديه شامتا

بما نال اهل البيت من فادح الخطب

ويسمع ال الله شتم خطبيه

با الحسن الممدوح في محكم الكتب

يصلي عليه الله جل وتجتري

على يبه من خصها الله بالسب

٣٠

المجلس السادس

في امالي الصدوق عليه الرحمة باسناده الى ابن عباس قال لما مرض رسول الله (ص) يعني مرضه الذي توفي فيه قال يا بلال علي بالناس فاجتمع الناس فخرج رسول الله (ص) متعصباا بعممامته متوكئا بقوسه حتى صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال معاشر اصحابي اي نبي كنت لكم الم اجاهد بين اظهركم الم تكسر رباعيتي الم يعفر جبيني الم تسل الدماء على حر وجهي حتى لثقت لحيتي (اي ابتلت) الم اكابد الشدة والجهد مع جهال قومي الم اربط حجر المجاعة على بطني قالوا بلى يا رسول الله لقد كنت على بلاء الله صابرا وعن المنكر ناهيا فجزاك الله عنا افضل الجزاء قال وانتم فجزاكم الله (ثم قال) ان ربي عز وجل حكم واقسم ان لايجوزه ظلم ظالم فناشدتكم بالله اي رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة الا قام فليقتص منه في دار الدنيا فهو احب الي من

٣١

القصاص في دار الاخرة على رؤس الملائكة والانبياء فقام اليه رجل من اقصى القوم يقال له سواء بن قيس فقال فداك ابي وامي يارسول الله انك لما اقبلت من الطائف استقبلتك وانت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعته وانت تريد الراحلة فاصاب بطني فلا ادري عمدا او خطا فقال معاذ الله ان اكون تعمدت (ثم قال) يا بلال قم الى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة معاشر الناس من ذا الذي يعطني القصاص من نفسه قبل يوم القيامة وطرق بلال الباب على فاطمة «ع» وهي تقول يا بلال وما يصنع والدي بالقضيب وليس هذا يوم القضيب فقال بلال يا فاطمة اما علمت ان والدك قد صعد المنبر وهو يودع اهل الدين والدنيا ، فصاحت فاطمة «ع» وقالت واغماه لغمك يا ابتاه من للفقراء والمساكين وابن السبيل يا حبيب الله وحبيب القلوب ثم ناولت بلال القضيب فخرج حتى ناوله رسول الله (ص) فقال رسول الله (ص) اين الشيخ فقال ها انا ذا يا رسول الله بابي انت وامي قال فاقتص مني حتى ترضى فقال الشيخ فاكشف لي عن بطنك يا رسول الله فكشف عن بطته فقال الشيخ بابي انت وامي يا رسول الله اتاذن لي ان اضع فمي على بطنك فاذن له فقال اعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله (ص) من النار يوم النار فقال رسول الله (ص) يا سواء بن قيس اتعفو ام تقتص فقال بل اعفو

٣٢

يا رسول الله فقال (ص) الهم اعف عن سواء بن قيس كما عفا عن نبيك محمد (ثم) قام رسول الله (ص) فدخل بيت ام سلمة وهو يقول رب سلم امة محمد من النار ويسر عليهم الحساب فقالت ام سلمة مالي اراك مغموما متغير اللون فقال نعيت الي نفسي هذه الساعة فسلام لك في الدنيا مني فلا تسمعين بعد هذا اليوم صوت محمد ابدا لافقالت ام سلمة واحزناه حزنا لا تدركه الندامة عليك يا محمد ثم قال (ص) ادعي لي حبيبة قلبي وقرة عيني فاطمة تجيء فجاءت فاطمة وهي تقول نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء يا ابتاه الاتكلمني كلمة فاني انظر اليك واراك مفارق الدنيا فقال لها يا بنية اني مفرقك فسلام عليك مني ثم اغمي على رسول الله (ص) فدخل بلال وهو يقول الصلاة رحمك الله فخرج رسول الله (ص) وصلى بالناس وخفف الصلاة ثم قال ادعوا لي علي بن ابي طالب واسامة بن زيد(١) فجاء فوضع يده على عاتق علي والاخرلاى على اسامة ثم قال انطلقا بي الى منزل فاطمة فجاء به حتى وضع راسه في حجرها فاذا الحسن

____________________

(١) قد ينافي هذا ما ورد من انه (ص) كان قد اخرج اسامة وامره ان يعسكر بالجرف الا ان يكون اخرجه بعد ذلك فان اخراجه كان بعد ان احس بالمرض.

٣٣

(المجالس الخامس)

والحسينعليهما‌السلام يبكيان ويصطرخان وهما يقولان انفسنا لنفسك الفداء ووجوهنا لوجهك الوقاء فقال رسول الله (ص) من هذان يا علي ابناك الحسن والحسين فعانقهما وقبلهما وكان الحسن اشد بكاء فقال له علي «ع» كف يا حسن فقد شققت على رسول الله (ص).

قال ابن عباس ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول في ذلك المرض ادعوا لي حبيبي فجعل يدعى له رجل بعد رجل فيعرض عنه فقيل لفاطمة «ع» امضي الى علي فما نرى رسول الله(ص) يريد غيره فبعثت فاطمة الى علي «ع» فلما دخل فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عينيه وتهلل وجهه ثم قال الي يا علي الي يا علي فما زال يدنيه حتى اخذه بيده واجلسه عند راسه ثم اغمي عليه فجاء الحسن والحسينعليهما‌السلام يصيحان ويبكيان حتى وقعا عل رسول الله (ص) فاراد علي «ع» ان ينحيهما عنه فافاق رسول الله (ص) قثال يا علي دعني اشمهما ويشماني واتزود منهما ويتزودا مني اما انهما سيظلمان بعدي ويقتلان ظلما فلعنة الله على من يظلمهما يقول ذلك ثلاثا ثم مد يده الى علي «ع» فجذبه اليه حتى ادخله تحت ثوبه الذي كان عيه ووضع فاه على فيه وجعل يناجيه مناجاة طويلة حتى خرجت روحه الطيبة فانسل علي «ع» من تحت ثيابه وقال اعظم الله اجوركم في نبيكم فقد قبضه الله اليه فارتفعت الاصوات بالضجة والبكاء.(قال الطبرسي) وصاحت فاطمة وصلح المسلمون وصاروا يضعون الترب على رؤسهم (وروى)

٣٤

غير واحدان فاطمةعليها‌السلام جعلت تندبه (ص) وتقول يا ابتاه الى جبرئيل ننعاه يا ابتاه من ربه ما ادناه يا ابتاه اجاب ربا دعاه يا ابتاه من ربه ناداه يا ابتاه جنان الفردوس ماواه (قال) ابن شهر اشوب ان الزهرءعليها‌السلام تمثلت بهذه الابيات :

قد كنت لي جبلا الوذ بضله

فاليوم تسلمني لاجرد ضاحي

قد كنت جار حميتي ما عشت لي

واليوم بعدك من يريش جناحي

وباغض من طرفي واعلم انه

قد مات خير فوارسي وسلاحي

حضرت منيته فاسلمني العزا

وتمكنت ريب المنون جراحي

(وقال) المفيد واصبحت فاطمة تنادي وا سوء صبحاه فسمعها رجل فقال ان صباحك لصباح سوء.

لقد عظمت مصيبتنا وجلت

عشية قيل قد قبض الرسول

واضحت ارضنا مما عراها

تكاد بنا جوانبها تزول

فقثدنا الوحي والتنزيل فينا

يروح به ويغدو جبريئل

٣٥

المجلس السابع

مما جاء في وصية النبي (ص) انه لما رجع من حجة الوداع وتحقق دنو اجله جعل يقوم في الناس مقام بعد مقام يوصيهم باهل بيته فما اوصاهم به ما رواه مسلم في صحيحه واحمد بن حنبل في مسنده ان رسول الله (ص) خطب الناس بماء يدعى خما بين مكة والمدينة (فقال) في خطبته : ايها الناس انما انا بشر يوشك ان ياتيني رسول ربي فاجيب واني تارك ثقلين اولهما كتاب الله فيه الهدى والنورفخذوا كتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال واهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي (وروى) احمد في مسنده ايضا اني تارك فيكم الثقلين احدهما اكبر من الاخر كتاب الله حبل الله ممدود من السماء الى الارض وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (وفي خبر اخر) رواه احمد والترمذي. وان الطيف الخبير اخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا بم تخلفوني فيهما (وروي) الثعلبي في تفسيره اني تكركت فيكم الثقلين خليفتين ان اخذتم بهما لن تضلوا بعدي احدهما اكبر من الاخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض

٣٦

(وممن) روى حديث الثقلين منة ائمة اهل السنة ابن الغازلي الشافعي و صاحب الجمع بين الصحاح السته والحميدي والسمعاني وموفق بن احمد والحموئي وغيرهم (قال) ابن حجر في صواعقه وفي رواية في صحيحه اني تارك فيكم امرين لن تضلوا ان تبعتوهما وهما كتاب الله وعترتي اهل بيتي زاد الطبراني اني سالت ذلك لهما فلا تقدموعهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلمواهم فانهم اعلم منكم (وعن) كشف الغمة بسندة الى ام سلمة «رض» قالت سمعت رسول الله «ص» في مرضه الذي قبض فيه يقول وقد امتلات الحجرة من اصحابه ايها الناس يوشك ان اقبض قبضا سريعا وقد قدمت اليكم القول نعذرة اليكم الا اني مخلف فيكم كتاب الله ربي عز وجل وعترتي اهل بيتي ثم اخذ بيد علي «ع» فرفعها فقال هذا علي مع القران والقران مع علي خليفتان لاييفترقان حتى يردا علي الحوض فاسالهما ماذا خلفت فيهما.

«وروى» فرات بن ابراهيم بسنده عن جابر الانصاري قال قال رسول الله «ص» في مرضه الذي قبض فيه لفاطمة بابي وامي ارسلي الى بعلك فادعيه لي فقالت للحسين انطلق الى ابيك فقل يدعوك جدي فاقبل امير المؤمنين «ع» حتى دخل على رسول الله «ص» وفاطمة عنده وهي تقول وا كرباه لكربك يا ابتاه فقال لها رسول الله «ص» لا كرب على ابيك بعد اليوم يا فاطمة ان النبي لا يشق عليه الجيب ولا يخمش عليه الوجه ولايدعى عليه بالويل ولكن قولي كما قال ابوك على ابراهيم تدمع

٣٧

العينان ويوجع القلب ولا يقول ما يسخط الرب وانا بك يا براهيم لمحزون «ثم قال» يا علي ادنو مني فدنا منه فقال يا اخي الم تسمع قول الله في كتابه ان الذين امنوا وعملوا الصالحات لولئك هم خير البرية قال بلى قال هم انت وشيعتك تجيئون غرا محجلين شباعا مرويين او لم تسمع قول الله في كتابه ان الذين كفروامن اهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها اولئك هم شر البرية قال بلى قال هم عدوك وشيعتهم يجوزون يوم القيامة ظماء مظمئين اشقياء معذبين كفار منافقين(١) «وروى» ابن شهر اشوب في المناقب ان النبي (ص) اوصى الى علي «ع» بالصبر عن الدنيا وبحفظ فاطمة وبجمع القران ةقضاء دينه وبغسله وان يعمل حول قبره حائطا وبحفظ الحسن والحسين «ع» (وروى) صاحب النصوص انه لما حضرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا بعلي فساره طويلا ثم قال يا علي انت وصيي ووارثي قد اعطاك الله علمي وفهمي الى ان قال فبكت فاطمة وبكى الحسن والحسينعليهم‌السلام فقال لفاطمة يا سيدة النسوان مم بكاؤك قالت يا ابت اخشى الضيعة بعدك قال ابشري يا فاطمة فانك اول من يلحقني من اهل بيتي لا تبكي ولا تحزني فانت سيدة نساء اهل الجنة وابوك سيد الانبياء وابن عمك خير الاوصياء وابناك سيدا اهل الجنة. (وروى) ابن طاووس في كتاب

____________________

(١) لعل المراد انهم بمنزلتهم.

٣٨

الطرف بسنده عن عيسى الضرير في كتاب الوصيه عن الكاظم عن ابيهعليهما‌السلام ان رسول الله (ص) اوصى عليا لما حضرته الوفاة فقال يا علي تغسلني ولا يغسلني غيرك (و في رواية) لا يلي عسلي وتكفيني غيرك. (وروى) ابن طاووس في الطرف بسنده عن ابن عيسى الضرير انه كان فيما اوصى به رسول الله (ص) ان يدفن في بيته الذي قبض فيه ويكفن بثلاث اثواب احدهما يمان ولا يدخل قبره غير علي(١) ثم قال يا علي كن انت وابنتي فاطمة والح سن والحسين وكبروا خمسا وسبعين تكبيرة وكبر خمسا وانصرف ثم من جاء من اهل بيتي يصلون علي فوجا فوجا ثم نساؤهم ثم الناس بعد ذلك (وعن) الخرائج بسنده عن امير المؤمنين «ع» انه فال امرني رسول الله (ص) ان استقي سبع قرب من بئر غرس فاغسله بها ( وفي السيرة الحلبية ) عن ابن ماجة انه (ص) قال لعلي اذا انا مت فاغسلني بسبع قرب من بئري بئر غرس(٢) (وفي رواية) البصائر ست قرب (وروى) الكليني

____________________

(١) هذا ينافي ما سياتي من قول عليعليه‌السلام لاوس بن خولي انزل القبر الا ان يكون المراد لايتولى دفنه غير علي لا مجرد نزول القبر.

(٢) في السيرة الحلبية هي بئر بقا قال «ص» نعم البئر بئر غرس هي من عين الجنة وماؤها اطيب الماء وكان «ص» يشرب منها ويؤتي له بالماء منها.

٣٩

بسنده عن الباقر «ع» ان النبي «ص» قال لعلي يا علي ادفني في هذا المكان وارفع قبري من الارض اربع اصابع(١) ورش عليه من الماء اقول (اقول) وكان مما اوصى به رسول الله «ص» عليا «ع» ان ينجز عداته ويقضي دينه ويقوم بامر اهله من بعده (وقال) النبي «ص» من اصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فانها من اعظم المصائب.

فاذا ذكرت مصيبة تشجي لها

فاذكر مصابك بالنبي محمد

المجلس الثامن

«قال المفيد عليه الرحمة» لما توفي رسول الله «ص» وجهه علي «ع» وغمضه ومد عليه ازاره واشتغل بالنظر فلما اراد غسله استدعى الفضل بن العباس فامره ان يناوله الماء لغسله بعد

____________________

(١) سياتي في بعض الروايات ان عليا «ع» رفعه قدر شبر واربع اصابع فلعله كان مخيرا فالاقل اربع اصابع والاكثر شبر واربع اصابع او كلمة شبر سقطت من هذه الرواية.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

والإدلال به، أمّا السرور به مع التواضع للّه تعالى، والشكر له على توفيقه لطاعتِه، فذلك ممدوحٌ ولا ضيرَ فيه.

مساوئ العجُب:

للعجُب أضرارٌ ومساوئ:

١ - إنّه سببُ الأنانيّة والتكبّر، فمَن أُعجِب بنفسه إزدهاه العُجُب، وتعالى على الناس، وتجبّر عليهم، وذلك يُسبّب مقت الناس وهوانهم له.

٢ - إنّه يعمي صاحبه عن نقائصه ومساوئه، فلا يهتم بتجميل نفسه، وملافاة نقائصه، ممّا يجعله في غمرة الجهل والتخلّف.

٣ - إنّه باعث على استكثار الطاعة، والإدلال بها، وتناسي الذنوب والآثام، وفي ذلك أضرارٌ بليغة، فتناسي الذنوب يُعيق عن التوبة والإنابة إلى اللّه عزّ وجل منها، ويعرّض ذويها لسخطِه وعقابه، واستكثار الطاعة والعبادة يكدّرها بالعُجب والتعامي عن آفاتها، فلا تنال شرف الرضا والقبول من المولى عزّ وجل.

علاج العُجُب:

وحيث كان العُجب والتكبر صنوين من أصل واحد، وإن اختلفا في الاتجاه، فالعجب كما أسلفنا استعظام النفس مجرداً عن التعالي، والتكبر

١٤١

هما معاً، فعلاجهما واحد، وقد أوضحناه في بحث التكبّر.

وجدير بالمعجَب بنفسه، أنْ يدرك أنّ جميع ما يبعثه على الزهو والإعجاب، من صنوف الفضائل والمزايا، إنّما هي نِعَمٌ إلهيّة يُسديها المولى إلى مَن شاء مِن عباده، فهي أحرى بالحمد، وأجدَر بالشكر مِن العُجب والخُيَلاء.

وهي إلى ذلك عُرضةً لصروف الأقدار، وعوادي الدهر، فما للإنسان والعجُب !!

ومِن طريف ما نُقِل عن بعض الصُلَحاء في ملافاة خواطر العجُب:

قيل: إنّ بعضهم خرَج في جُنح الظلام متّجهاً إلى بعض المشاهد المشرّفة، لأداء مراسم العبادة والزيارة، فبينا هو في طريقه إذ فاجأه العجُب بخروجه سَحَرَاً، ومجافاته لذّة الدفء وحلاوة الكَرى مِن أجل العبادة.

فلاح له آنذاك، بائع شلغم فانبرى نحوه، فسأله كم تربح في كسبك وعناء خروجك في هذا الوقت ؟ فأجابه: دِرهَمين أو ثلاث، فرجع إلى نفسه مخاطباً لها علام العجُب ؟ وقيمة إسحاري لا تزيد عن دِرهَمين أو ثلاث.

ونُقِل عن آخر: أنّه عمِل في ليلة القدر أعمالاً جمّةً مِن الصلوات والدعوات والأوراد، استثارت عُجُبه، فراح يُعالِجه بحكمةٍ وسداد: فقال لبعض المتعبّدين: كم تتقاضى على القيام بأعمال هذه الليلة، وهي كيت وكيت. فقال: نصف دينار، فرجع إلى نفسه مؤنّباً لها وموحياً إليها، علام العُجُب وقيمة أعمالي كلّها نصف دينار ؟

١٤٢

اليقين

وهو: الاعتقاد بأُصول الدين وضروراته، اعتقاداً ثابتاً، مطابقاً للواقع، لا تُزَعزِعه الشُبَه، فإنْ لم يُطابق الواقع فهو جهلٌ مركّب.

واليقين هو غرّة الفضائل النفسيّة، وأعزّ المواهب الإلهيّة، ورمز الوعي والكمال، وسبيل السعادة في الدارَين. وقد أولته الشريعة اهتماماً بالغاً ومجّدت ذويه تمجيداً عاطراً، وإليك طرفاً منه:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الإيمان أفضل من الإسلام، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان، وما مِن شيءٍ أعزّ مِن اليقين )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند اللّه مِن العمل الكثير على غير يقين )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مِن صحّة يقين المرء المسلم، أنْ لا يُرضي الناس بسخطِ اللّه، ولا يلومَهم على ما لم يأته اللّه، فإنّ الرزق لا يسوقه حِرصُ حريص، ولا يردّه كراهيّة كاره، ولو أنّ أحدَكم فرّ مِن رزقه كما يفرّ مِن الموت، لأدركه رِزقه كما يدركه الموت ).

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٥٧ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٦٠ عن الكافي.

١٤٣

ثمّ قال: ( إنّ اللّه بعدلِه وقسطه جعَل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحُزن في الشكّ والسخط )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: ( لا يَجدُ عبدٌ طعمَ الإيمان، حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يَكن ليُصيبه، وأنّ الضارّ النافع هو اللّه تعالى )(٢).

وسُئل الامام الرضاعليه‌السلام عن رجلٍ يقول بالحقّ ويُسرف على نفسه، بشرب الخمر ويأتي الكبائر، وعن رجلٍ دونه في اليقين وهو لا يأتي ما يأتيه، فقالعليه‌السلام : ( أحسنهما يقيناً كالنائم على المحجّة، اذا انتبه ركبَها، والأدوَن الذي يدخله الشكّ كالنائم على غير طريق، لا يدري اذا انتبه أيّهما المحجّة )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شابٍّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّاً لونه، قد نحُف جِسمه، وغارَت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه: كيف أصبحت يا فلان ؟ قال: أصبحت يا رسول اللّه موقناً، فعجِب رسول اللّه مِن قوله، وقال له: إنّ لكلِّ يقينٍ حقيقة، فما حقيقة يقينك ؟

فقال: إنّ يقيني يا رسول اللّه، هو الذي أحزَنني، وأسهرَ ليلي، وأظمأ هواجري، فعزِفَت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتّى كأنّي أنظر إلى

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٤ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٥٤ عن الكافي.

(٣) سفينة البحار ج ٢ ص ٧٣٤ عن فقه الرضا.

١٤٤

عرش ربّي، وقد نصب للحساب، وحُشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون، على الأرائك متّكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذَّبون، مصطفون، وكأنّ الآن استمع زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه: هذا عبدٌ نوّر اللّه قلبَه بالإيمان، ثُمّ قال له: إلزَم ما أنت عليه، فقال الشاب: أدع اللّه لي يا رسول اللّه أنْ أُرزق الشهادةَ معك، فدعا له رسول اللّه فلم يلبث أنْ خرَج في بعض غزَوَات النبيّ فاستُشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر )(١).

خصائص الموقنين:

متى ازدهرت النفس باليقين، واستنارت بشُعاعِه الوهّاج، عكَسَت على ذويها ألواناً مِن الجمال والكمال النفسيَّين، وتسامت بهم إلى أوجٍّ روحيٍّ رفيع، يتألّقون في آفاقه تألُّق الكواكب النيّرة، ويتميّزون عن الناس تميّز الجواهر الفريدة مِن الحصا.

فمَن أبرَز خصائصهم ومزاياهم، أنَك تجدهم دائبين في التحلّي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وتجنّب رذائلها ومساوِئها، لا تخدعهم زخارف الحياة، ولا تُلهيهم عن تصعيد كفاءاتهم ومؤهّلاتهم الروحيّة لنيل الدرجات الرفيعة، والسعادة المأمولة في الحياة الاخرويّة، فهم متفانون في طاعة اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٣٣ عن الكافي.

١٤٥

عزّ وجل، ابتغاء رضوانه، وحسن مثوبته، متوكّلون عليه، في سرّاء الحياة وضرّائها، لا يرجون ولا يخشون أحداً سِواه، ليقينهم بحسن تدبيره وحكمة أفعاله.

لذلك تُستجاب دَعَواتهم، وتظهر الكرامات على أيديهم، وينالون شرف الحظوة والرعاية مِن اللّه عزّ وجل.

درجات الايمان:

ويحسن بي وأنا أتحدّث عن اليقين أنْ أعرض طَرفاً مِن مفاهيم الإيمان ودرجاته، وأنواعه إتماماً للبحث وتنويراً للمؤمنين.

يتفاضل الناس في درجات الإيمان تفاضلاً كبيراً، فمنهم المجلّي السباق في حلَبة الايمان، ومنهم الواهن المتخلف، ومنهم بين هذا وذاك كما صوّرته الرواية الكريمة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الايمان عشر درجات، بمنزلة السُلّم، يُصعَد منه مرقاةً بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لَستَ على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشرة، فلا تُسقط مَن هو دونك، فيسقطك مَن هو فوقَك، وإذا رأيت مَن هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملَنّ عليه ما لا يطيق فتكسِره، فإنّ مَن كسَر مؤمناً فعليه جبْرُه )(١).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٣٠ عن الكافي.

١٤٦

أنواع الايمان:

ينقسم الايمان الى ثلاثة أنواع: فطريّ، ومستَودَع، وكَسْبي.

١ - فالفطريّ: هو ما كان هِبةً إلهيّة، قد فطر عليه الإنسان، كما في الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، فإنّهم المثلُ الأعلى في قوّة الإيمان، وسموّ اليقين، لا تخالجهم الشكوك، ولا تعروهم الوساوس.

٢ - المستودَع: وهو ما كان صوريّاً طافياً على اللسان، سرعان ما تزعزعه الشبَه والوساوِس، كما قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ العبد يصبح مومناً، ويُمسي كافراً، ويصبح كافراً، ويُمسي مؤمناً، وقوم يعارون الإيمان ثُمّ يلبسونه، وُيسَمَّون المُعارين )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ اللّه تعالى جبَل النبييّن على نبوّتهم، فلا يرتدّون أبداً، وجَبَل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدّون أبداً، وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدّون أبداً، ومنهم مَن أُعير الإيمان عاريةً، فاذا هو دعا وألحّ في الدعاء مات على الإيمان )(٢).

وهكذا تعقّب الامام الصادقعليه‌السلام على حديثَيه السالفَين بحديثٍ ثالثٍ بجعلِه مِقياساً للتمييز بين الإيمان الثابت من المستودع، فيقول: ( إنّ الحسرة والندامة والويل كلّه لِمَن لم ينتفع بما أبصره، ولم يدرِ ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أنفْعٌ له أم ضرّ )، قلت ( الراوي ): فَبِم يُعرَف الناجي مِن هؤلاء جُعِلت فداك ؟

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٥٠ عن الكافي.

١٤٧

قال: ( مَن كان فعله لقوله موافقاً، فأثبتُ له الشهادةَ بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً، فإنما ذلك مستودع»(١).

٣ - الكَسْبي: وهو الايمان الفطري الطفيف الذي نمّاه صاحبه واستزاد رصيده حتى تكامل وسمى الى مستوى رفيع، وله درجات ومراتب.

وإليك بعض الوصايا والنصائح الباعثة على صيانة الجُزء الفطريّ مِن الإيمان، وتوفير الكسبي منه:

١ - مصاحبة المؤمنين الأخيار، ومجانبة الشقاة والعصاة، فإنّ الصاحب متأثّر بصاحبه ومُكتسِب مِن سلوكه وأخلاقه، كما قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المرء على دين خلِيله، فلينظر أحدُكم مَن يُخالِل ).

٢ - ترك النظر والاستماع إلى كتب الضلال، وأقوال المضلّين، المولَعين بتسميم أفكار الناس وحَرْفِهم عن العقيدة والشريعة الإسلاميّتين، وإفساد قِيم الإيمان ومفاهيمه في نفوسهم.

٣ - ممارسة النظر والتفكّر في مخلوقات اللّه عزّ وجل، وما اتّصفت به مِن جميلِ الصنع، ودقّة النظام، وحكمة التدبير، الباهرة المدهشة:( وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (٢).

٤ - ومن موجبات الإيمان وتوفير رصيده، جهاد النفس، وترويضها على طاعة اللّه تعالي، وتجنّب معاصيه، لتعمر النفس بمفاهيم الإيمان، وتُشرِق بنوره الوضّاء، فهي كالماء الزلال، لا يزال شفافاً رِقراقاً، ما لم تُكدّره

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٠ عن الكافي.

(٢) الذاريات (٢٠ - ٢١ ).

١٤٨

الشوائب فيغدو آنذاك آسِناً قاتِماً لا صفاءَ فيه ولا جمال. ولولا صدَأ الذنوب، وأوضار الآثام التي تنتاب القُلوب والنفوس، فتجهّم جمالها وتخبّئ أنوارها، لاستنار الأكثرون بالإيمان، وتألّقت نفوسُهم بشُعاعِه الوهّاج:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أذنَب الرجل خرَج في قلبه نُكته سَوداء، فإنْ تاب انمحت، وإنْ زاد زادت، حتّى تغلّب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً )(٢).

_____________________

(١) الشمس ( ٧ - ١٠ ).

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

١٤٩

الصبر

وهو: احتمال المكاره مِن غير جزَع، أو بتعريفٍ آخر هو: قَسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل أوامِراً ونَواهياً، وهو دليل رَجاحة العقل، وسِعة الأفق، وسموّ اخلق، وعظمة البطولة والجَلَد، كما هو معراج طاعة اللّه تعالى ورضوانه، وسبَب الظفَر والنجاح، والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحسّاد.

وناهيك في شرف الصبر، وجلالة الصابرين، أنّ اللّه عزّ وجل، أشاد بهما، وباركهما في نَيف وسبعين موطناً من كتابه الكريم:

بشّر الصابرين بالرضا والحبّ، فقال تعالى:( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (١).

ووعدهم بالتأييد:( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٢) .

وأغدق عليهم ألوان العناية واللطف:( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*

____________________

(١) آل عمران: ١٤٦.

(٢) الأنفال: ٤٦.

(٣) الزمر: ١٠.

١٥٠

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١).

وهكذا تواترت أخبار أهل البيتعليهم‌السلام في تمجيد الصبر والصابرين.

قال الصادقعليه‌السلام :

( الصبرُ مِن الإيمان بمنزلة الرأس مِن الجسَد، فإذا ذهَب الرأس ذهَب الجسَد، وكذلك إذا ذهَب الصبر ذهَب الإيمان )(٢).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( الجنّة محفوفةٌ بالمكاره والصبر، فمَن صبَر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفةٌ باللذات والشهَوات، فمَن أعطى نفسه لذّتها وشهَوتها دخل النار )(٣).

وقالعليه‌السلام : ( لمّا حضَرت أبي الوفاة ضمّني إلى صدره، وقال: يا بُني، إصبر على الحقّ وإنْ كان مرّاً، تُوفّ أجرك بغير حساب )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن ابتُليَ مِن المؤمنين ببلاءٍ فصبَر عليه، كان له أجرُ ألف شهيد )(٥).

_____________________

(١) البقرة: ( ١٥٥ - ١٥٧ ).

(٢) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٣) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٤) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٥) الوافي ج ٣ ص ٦٦ عن الكافي ).

١٥١

ورُبَّ قائلٍ يقول: كيف يُعطى الصابر أجرَ ألف شهيد، والشهداء هُم أبطال الصبر على الجهاد والفداء ؟

فالمراد: أنّ الصابر يستحقّ أجر أُولئك الشهداء، وإنْ كانت مكافأتهم وثوابهم على اللّه تعالى أضعافاً مضاعفة عنه.

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( من لم يُنجه الصبر، أهلكه الجزع )(١).

أقسام الصبر

ينقسم الصبر باعتبار ظروفه ومقتضياته أقساماً أهمّها:

(١) الصبر على المكاره والنوائب:

وهو أعظم أقسامه، وأجلّ مصاديقه الدالّة على سموّ النفس، وتفتح الوعي، ورباطة الجأش، ومضاء العزيمة.

فالإنسان عرضةً للمآسي والارزاء، تنتابه قسراً واعتباطاً، وهو لا يملك إزائها حولاً ولا قوّة، وخير ما يفعله المُمتَحَن هو التذرّع بالصبر، فإنّه بلسم القلوب الجريحة، وعزاء النفوس المعذّبة.

ولولاه لانهار الإنسان، وغدا صريع الأحزان والآلام، من أجلّ ذلك حرّضت الآيات والأخبار على التحلّي بالصبر والاعتصام به:

قال تعالى:( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا

_____________________

(١) نهج البلاغة.

١٥٢

لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنْ صبَرت جرى عليك القدَر وأنت مأجور، وإنْ جزعت جرى عليك القَدرُ، وأنت مأزور )(٢).

وممّا يجدر ذكره أنّ الصبر الجميل المحمود، هو الصبر على النوائب التي لا يستطيع الإنسان دفعها والتخلّص منها، كفقد عزيز، أو اغتصاب مال، أو اضطهاد عدوّ.

أمّا الاستسلام للنوائب، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملافاتها فذلك حُمقٌ يستنكره الإسلام، كالصبر على المرَض وهو قادر على علاجه، وعلى الفقر وهو يستطيع اكتساب الرزق، وعلى هضم الحقوق وهو قادرٌ على استردادها وصيانتها.

ومِن الواضح أنّ ما يجرّد المرء مِن فضيلة الصبر، ويخرجه عن التجلّد، هو الجزَع المُفرِط المؤدّي إلى شقّ الجيوب، ولطم الخدود، والإسراف في الشكوى والتذمّر.

أمّا الآلام النفسيّة، والتنفيس عنها بالبكاء، أو الشكاية مِن متاعب المرض وعنائه فإنّها مِن ضرورات العواطف الحيّة، والمشاعر النبيلة، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله عند وفاة ابنه ابراهيم: ( تدمع العين، ويَحزَن القلب، ولا نقول ما يُسخِط الربّ ).

_____________________

(١) البقرة ( ١٥٥ - ١٥٧ ).

(٢) نهج البلاغة.

١٥٣

وقد حكت لنا الآثار طرَفاً رائعاً ممتعاً من قصص الصابرين على النوائب، ممّا يبعث على الإعجاب والإكبار، وحُسن التأسّي بأُولئك الأفذاذ.

حُكي أنّ كسرى سخَط على ( بزرجمهر ): فحبَسه في بيتٍ مظلم، وأمَر أنْ يُصفّد بالحديد، فبقيّ أيّاماً على تلك الحال، فأرسل إليه مَن يسأله عن حاله، فإذا هو منشرح الصدر، مطمئنّ النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة مِن الضيق ونراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستّة أخلاط وعجنتها واستعملتها، فهي التي ابقتني على ما ترون.

قالوا: صِف لنا هذه لعلّنا ننتفع بها عند البلوى، فقال: نعم.

أمّا الخَلط الأوّل: فالثقة باللّه عزّ وجل.

وأمّا الثاني: فكلّ مقدرٍّ كائن.

وأمّا الثالث: فالصبرُ خير ما استعمله الممتَحن.

وأمّا الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي بالجزَع.

وأمّا الخامس: فقد يكون أشدّ ممّ أنا فيه.

وأمّا السادس، فمِن ساعة إلى ساعة فرج.

فبلغ ماقاله كسرى فأطلقه وأعزّه(١).

وعن الرضا عن أبيه عن أبيهعليهم‌السلام قال: ( إنّ سليمان بن داود قال ذات يوم لأصحابه: إنّ اللّه تبارك وتعالى قد وهَب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ مِن بعدي: سخّر لي الريح، والإنس، والجنّ، والطير، والوحش، وعلّمني منطق الطير، وآتاني مِن كلّ شيء، ومع جميع ما أوتيتُ

_____________________

(١) سفينه البحار ج ٢ ص ٧.

١٥٤

مِن الملك ما تمّ لي سرورٌ يوم إلى الليل، وقد أحبَبت أنْ أدخل قصري في غد، فأصعَد أعلاه، وأنظر إلى ممالِكي، فلا تأذنوا لأحدٍ عليّ لئلاّ يردّ عليّ ما ينغّص عليّ يومي. قالوا: فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده، وصعد إلى أعلى موضع قصره، ووقَف متّكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما أُوتي، فرِحاً بما أعطي، اذ نظر إلى شابٍّ حسن الوجه واللباس قد خرَج عليه مِن بعض زوايا قصره، فلمّا بصر به سليمانعليه‌السلام ، قال له: من أدخَلك إلي هذا القصر، وقد أردت أنْ أخلو فيه اليوم، فبإذن مَن دخلت ؟

فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربّه، وبإذنه دخلت.

فقال: ربّه أحقّ به منّي، فمَن أنت ؟

قال: أنا ملَك الموت، قال: وفيما جئت ؟

قال: جئت لأقبض روحك.

قال: إمض لِما أُمِرت به، فهذا يومُ سروري، وأبى اللّه أنْ يكون لي سرور دون لقائه. فقبض ملك الموت روحه وهو متّكئ على عصاه...)(١) .

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦١٤ عن عيون أخبار الرضا.

١٥٥

(٢) الصبر على طاعة اللّه والتصبّر عن عصيانه:

مِن الواضح أنّ النفوس مجبولةٌ على الجُموح والشرود مِن النُّظُم الإلزاميّة والضوابط المحدّدة لحُريّتها، وانطلاقها في مسارح الأهواء والشهَوات، وإنْ كانت باعثةً على إصلاحها وإسعادها.

فهي لا تنصاع لتلك النظُم، والضوابط، إلاّ بالإغراء، والتشويق، أو الإنذار والترهيب. وحيث كانت ممارسة طاعة اللّه عزّ وجل، ومجافاة عصيانه، شاقّين على النفس، كان الصبر على الطاعة والتصبّر عن المعصية من أعظم الواجبات، وأجلّ القُرُبات.

وجاءت الآيات الكريمة وأحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مشوّقة إلى الأُولى ومحذّرة مِن الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصيته، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولاحزناً، وما لم يأتِ فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة، فكأنّك قد اغتبطت )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة، يقوم عُنقٌ مِن الناس، فيأتون باب الجنّة فيضربونه، فيُقال لهم: مَن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

١٥٦

الصبر. فيُقال لهم: على ما صبرتم ؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه، ونصبر عن معاصي اللّه، فيقول اللّه تعالى: صدَقوا أدخلوهم الجنّة، وهو قوله تعالى:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( الزمر: ١٠ )(١)

وقالعليه‌السلام :

( الصبر صبران: فالصبر عند المصيبة، حَسَنٌ جميل، وأفضل مِن ذلك الصبر عمّا حرّم اللّه عزّ وجل، ليكون لك حاجزاً )(٢).

(٣) الصبر على النِّعَم:

وهو: ضبط النفس عن مسوّلات البطَر والطُّغيان، وذلك من سِمات عظمة النفس، ورجاحة العقل، وبُعد النظر.

فليس الصبر على مآسي الحياة وأرزائها بأَولى مِن الصبر على مسرّاتها وأشواقها، ومفاتنها، كالجاه العريض، والثراء الضخم، والسلطة النافذة، ونحو ذلك. حيث إنّ إغفال الصبر في الضرّاء يفضي إلى الجزع المدمّر، كما يؤدّي إهماله في السرّاء إلى البطَر والطغيان:( إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) ( العلق: ٦ - ٧ ) وكلاهما ذميمٌ مقيت.

والمراد بالصبر على النِّعَم هو: رعاية حقوقها، واستغلالها في مجالات

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٥ عن الفقيه.

١٥٧

العطف والإحسان المادّية، أو المعنويّة: كرعاية البؤساء، وإغاثة المُضطهدين، والاهتمام بحوائج المؤمنين، والتوقّي مِن مزالق البطَر والتجبّر.

وللصبر أنواعٌ عديدةٌ أٌخرى:

فالصبر في الحرب: شجاعة، وضدّه الجُبْن.

والصبر عن الانتقام: حِلم، وضدّه الغضب.

والصبر عن زخارف الحياة: زُهد، وضدّه الحِرص.

والصبر على كتمان الأسرار: كتمان، وضدّه الإذاعة والنشر.

والصبر على شهوَتَيّ البطن والفرج: عفّة، وضدّه الشرَه.

فاتّضح بهذا أنّ الصبر نظام الفضائل، وقُطبها الثابت، وأساسها المكين.

محاسن الصبر:

نستنتج من العرض السالف أنّ الصبرَ عِماد الفضائل، وقُطب المكارم، ورأس المفاخر.

فهو عصمة الواجد الحزين، يخفّف وَجده، ويلطّف عناءه، ويمدّه بالسكينة والاطمئنان.

وهو ظمانٌ من الجزَع المدمّر، والهلَع الفاضح، ولولاه لانهار المصاب، وغدا فريسة العلل والأمراض، وعرضة لشماتة الأعداء والحسّاد.

وهو بعد هذا وذاك الأمل المرجّى فيما أعدّ اللّه للصابرين، من عظيم المكافآت، وجزيل الأجر والثواب.

١٥٨

كيف تكسب الصبر:

وإليك بعض النصائح الباعثة على كسب الصبر والتحلّي به:

١ - التأمّل في مآثر الصبر، وما يفيء على الصابرين من جميل الخصائص، وجليل العوائد والمنافع في الحياة الدنيا، وجزيل المثوبة والأجر في الآخرة.

٢ - التفكّر في مساوئ الجزَع، وسوء آثاره في حياة الإنسان، وأنّه لا يشفي غليلاً، ولا يردُّ قضاءً، ولا يُبدّل واقعاً، ولاينتج إلاّ بالشقاء والعناء. يقول ( دليل كارنيجي ): ( لقد قرأتُ خلال الأعوام الثمانية الماضية كلّ كتاب، وكلّ مجلّة، وكلّ مقالة عالجت موضوع القلَق، فهل تريد أنْ تعرف أحكَم نصيحة، وأجداها خرجْتُ بها مِن قراءتي الطويلة ؟ إنّها: ( إرض بما ليس منه بدّ ).

٣ - تفهم واقع الحياة، وأنّها مطبوعة على المتاعب والهموم:

طبعت على كدر وأنت تريدها

صفواً مِن الأقذار والأكدار

فليست الحياة دار هناء وارتياح، وإنّما هي: دار اختبار وامتحان للمؤمن، فكما يُرهق طلاّب العلم بالامتحانات إستجلاء لرصيدهم العلمي، كذلك يُمتحن المؤمن إختباراً لأَبعاد إيمانه ومبلغ يقينه.

قال تعالى:( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ

١٥٩

الكاذبين ) ( العنكبوت: ٢ - ٣ ).

٤ - الاعتبار والتأسّي بما عاناه العظماء، والأولياء، من صنوف المآسي والأرزاء، وتجلّدهم فيها وصبرهم عليها، في ذات اللّه، وذلك من محفّزات الجلَد والصمود.

٥ - التسلية والترفيه بما يُخفّف آلام النفس، ويُنَهنِه عن الوجد: كتغير المناخ، وإرتياد المناظر الجميلة، والتسلّي بالقصَص الممتعة، والأحاديث الشهيّة النافعة.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767