يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)27%

يوم الحسين (عليه‌السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 206

  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30869 / تحميل: 5346
الحجم الحجم الحجم
يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قالعليه‌السلام : «من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النّار».(1)

وفي الآية اللاحقة ينقل القرآن الكريم جواب قادة الضلال والانحراف بأنّه ليس بيننا وبينكم أي تفاوت ، فإذا قلنا فقد أيدتم ، وإذا خطونا فقد ساعدتم ، وإذا ظلمنا فقد عاونتم ، وإذن فذوقوا بإزاء أعمالكم عذاب الله الأليم ،( وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) .

والمقصود من «الأولى» الطائفة الأولى أي القادة (قادة الضلال الانحراف) والمقصود من «الأخرى» الأتباع ، والأنصار.

* * *

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 182 ، 17

٤١

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) )

التفسير

مرّة أخرى يتناول القرآن بالحديث مصير المتكبرين والمعاندين ، يعني أولئك الذين لا يخضعون لآيات الله ولا يستسلمون للحق ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ) .

وقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى سجّين».(1)

وقد رويت بهذا المضمون أحاديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الطبري وسائر التفاسير ، في ذيل الآية المبحوثة.

__________________

(1) مجمع البيان في ذيل الآية المبحوثة.

٤٢

من الممكن أن يكون المقصود من السماء هنا معناه الظاهر ، وكذا يمكن أن تكون كناية عن مقام القرب الإلهي ، كما نقرأ في الآية (9) من سورة فاطر :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

ثمّ أضاف قائلا :( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) ، أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة.

إنّ هذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا الأمر ، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسّي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنّة ، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الإبرة ، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنّة مطلقا.

و «الجمل» في اللغة يعني البعير الذي خرجت أسنانه حديثا ، ولكن أحد معاني الجمل هو الحبل القوي والمتين الذي تربط به السفن أيضا(1) .

وحيث إنّ بين الحبل والإبرة تناسبا أقوى وأكثر ، لهذا ذهب بعضهم إلى هذا المعنى عند تفسير الآية ، ولكن أكثر المفسّرين الإسلاميين رجّح المعنى الأوّل ، وهم على حق في هذا الاتجاه لأمور :

أوّلا : إنّ في أحاديث أئمّة الإسلام كذلك تعابير تناسب التّفسير الأوّل.

ثانيا : إنّه يلاحظ نظير هذا التّفسير حول الأثرياء (المتكبرين الأنانيين) في الإنجيل أيضا ، ففي إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 24 و 25 نقرأ هكذا : إنّ عيسى قال : «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله».

ولا أقل يستفاد من هذه العبارة أنّ هذه الكناية كانت متداولة بين الشعوب

__________________

(1) راجع «تاج العروس» ، و «القاموس» مادة الجمل.

٤٣

منذ قديم الزمان.

وقد نستعمل هذا المثل أيضا ، في محاوراتنا اليومية الآن ، فيقال عن الأشخاص المتشدّدين جدّا أحيانا ، والمتساهلين جدّا أحيانا أخرى : (إنّ فلانا تارة لا يدخل من باب المدينة ، وتارة يدخل من ثقب إبرة).

ثالثا : بالنظر إلى أنّ استعمال لفظة الجمل في المعنى الأوّل (أي البعير) أكثر ، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جدا ، لهذا يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وفي خاتمة الآية يضيف تعالى للمزيد من التأكيد والتوضيح قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) .

وفي الآية اللاحقة يشير إلى قسم آخر من عقوبتهم المؤلفة إذ يقول :( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ) (1) .

ثمّ يضيف للتأكيد( وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) .

والملفت للنظر والطريف : أنّه يعبّر عنهم مرّة بـ «المجرم» ومرّة بـ «الظالم» وثالثة بـ «المكذبين» لآيات الله ، ورابعة بـ «المستكبرين» ، وترجع جميعها إلى حقيقة واحدة في الواقع.

* * *

__________________

(1) المهاد جمع مهد وزان عهد أي الفرش ، والغواش في الأصل غواشي جمع غاشية بمعنى كل نوع من أنواع الغطاء ، كما أنّه يطلق على الخيمة أيضا ، وفي الآية الحاضرة يمكن أن يكون بمعنى الخيمة أو بمعنى الغطاء.

٤٤

الآيتان

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) )

التّفسير

الطّمأنينة الكاملة والسّعادة الخالدة :

إنّ أسلوب القرآن ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ هو عرض الطوائف المختلفة وبيان مصائرها جنبا إلى جنب لتأكيد الموضوع ، وشرح أوضاعها عن طريق المقارنة والمقايسة بينها.

ولقد كان البحث في الآيات السابقة حول المكذبين لآيات الله ، والمستكبرين والظالمين ، وهنا يشرح ويبيّن المستقبل المشرق للمؤمنين إذ يقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

٤٥

وقد أتى بين المبتدأ والخبر بجملة معترضة(1) . توضّح الكثير من الإبهامات إذ يقول :( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) .

وهذه الجملة تؤكّد بأنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور بأن الايمان بالله ، والإتيان بالعمل الصالح وسلوك سبيل المؤمنين ، أمر متعسر غير مقدور إلّا لأفراد معدودين ، لأنّ التكاليف الإلهية في حدود الطاقة البشرية وليست أكثر منها ، وبهذا فتح الطريق في وجه كل أحد عالما كان أو جاهلا ، صغيرا كان أو كبيرا ، ودعا الجميع إلى اللحاق بهذا الصف ، فالمطلوب من كل أحد العمل بمقدار قابليته الفكرية والبدنية وإمكانياته.

إنّ هذه الآية ـ مثل سائر الآيات القرآنية ـ تحصر وسيلة النجاة والسعادة الأبدية في الإيمان والعمل الصالح ، وهكذا تفنّد العقيدة النّصرانية المحرفة الذين يعتبرون صلب المسيح في مقابل ذنوب البشر وسيلة للنجاة ، ويقولون : إنّه قربان لخطايا الإنسانية.

إنّ إصرار القرآن الكريم على مسألة الإيمان والعمل الصالح ، في الآيات المختلفة لتفنيد هذه المقولة وأمثالها.

وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها الله سبحانه لأهل الجنّة ، والتي تكون سببا لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية ، إذ قال( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ ) .

و (الغل) في الأصل بمعنى نفوذ الشيء خفية وسرّا ، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة ، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل) ، وإنّما يطلق «الغلول» على الرشوة بهذه المناسبة لأنّها تؤخذ خفيّة وسرّا لارتكاب

__________________

(1) ينبغي أن لا يتصور أحد بأنّ معنى الجملة المعترضة هو أنّ مفادها أجنبي وغريب من الموضوع المعترض ، بل لا بدّ أنّ هناك ارتباطا ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها ، وإن كانت من حيث التركيب توسطت كلاما متصلا ، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة المعترضة معترضة من حيث التركيب اللفظي ، لا من حيث المعنى.

٤٦

خيانة.(1)

وفي الحقيقة إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة ، ومصدر الكثير من الصراعات الإجماعية الواسعة التي تؤدي ـ مضافا إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس ـ الى زعزعة الاستقرار الروحي ، هو الحسد والحقد.

فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة ، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين ، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها ، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم ، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية.

إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية ، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة ، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم ، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة. إنّهم يعيشون معا في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة.

إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه ، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون من فوقهم أبدا ، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض طريق التعايش السلمي.

ولقد نقل بعض المفسّرين حديثا في المقام عن السدّي قال : «إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ ، فهو الشراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا»(2) .

إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهما‌السلام وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو «السّدي» ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

__________________

(1) للمزيد من التوضيح راجع الآية (161) من سورة آل عمران.

(2) تفسير المنار ، المجلد 8 ، الصفحة 421.

٤٧

الأصل ، لأنّ هذه الأمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الاطلاع عليها.

وعلى كل فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية ، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطنا وظاهرا ، جسما وروحا ، فهم يتحلون بالجمال الجسماني ، والجمال الروحاني معا ، ولهذا فهم لا يعانون ، ـ مطلقا ـ من الحسد والحقد.

فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أخرى ، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة.

وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية ، يشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية ، فيقول :( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) .

ثمّ بعكس رضى أهل الجنّة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر لله وحده على ما هداهم إليه من النعم( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ) .

وهنا يأتيهم النداء بأن ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

ومرّة أخرى نصل إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح ، وليسن بالأماني والظنون الخاوية.

و «الإرث» في الأصل بمعنى انتقال مال أو ثروة من شخص إلى آخر من دون أن يكون بينهما عقد (أي الانتقال عبر مسير طبيعي تلقائي ، لا عن طريق البيع والشراء) ولهذا يطلق الإرث على انتقال أموال الميت إلى خلفه.

لماذا عبّر بالإرث؟

وهنا ينقدح سؤال وهو : كيف يقال لأهل الجنّة : هذه النعم أورثتموها لقاء أعمالكم؟

٤٨

والجواب أوضحه حديث روي بطرق الشيعة والسنّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ، ومنزل في النّار ، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة ، فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون»(1) .

فهذا الحديث يشير إلى أنّ أبواب السعادة والشقاء مفتوحة أمام جميع الناس قاطبة ، وإنّه لم يخلق أحد يوم خلق وهو من أهل الجنّة ، أو من أهل النّار ، بل يمتلك الجميع قابلية الوصول إلى كلا هذين المنزلين ، وإنّما إرادتهم هي التي تحدد وتقرّر مصيرهم.

ومن البديهي أنّه عند ما يستقر المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة في الجنّة ، ويستقر الكفار والأشرار في النّار ينتقل مكان ومنزل كل واحد منهما الى الآخر بصورة طبيعية.

وعلى كل حال ، فإن هذه الآية وهذا الحديث هما من البراهين والدلائل الواضحة على نفي الجبر ، وثبوت الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 31 ، وتفسير القرطبي ، المجلد الرّابع ، الصفحة 2645 ، وتفاسير أخرى.

٤٩

الآيتان

( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) )

التّفسير

بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار ، أشار هنا إلى حوار هذين الفريقين في ذلك العالم ، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار.

فيقول أوّلا :( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ) .

فيجيبهم أهل النّار قائلين : نعم وجدنا كل ذلك. عين الحقيقة( قالُوا : نَعَمْ ) .

ويجب الالتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضيا ، إلّا أنّه هنا يعطي معنى المضارع ، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم ، حيث يذكر الحوادث التي تقع في المستقبل حتما بصيغة الفعل الماضي ، وهذا يعدّ نوعا من التأكيد ، يعني أنّ

٥٠

المستقبل واضح جدّا ، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق.

على أنّ التعبير بـ «نادى» الذي يكون عادة للمسافة البعيدة ، يصوّر بعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو : وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟

وجواب هذا السؤال معلوم ، لأنّ السؤال ليس دائما للحصول على المزيد من المعلومات ، بل قد يتّخذ أحيانا صفة العتاب والتوبيخ والملامة ، وهو هنا من هذا القبيل. وهذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عند ما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا ، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة ، والملامات المزعجة ، فلا بدّ ـ في الآخرة ـ أن ينالوا عقابا من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم ، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة ، منها ما في آخر سورة المطففين.

ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع : أن لعنة الله على الظالمين( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) .

ثمّ يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله :( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ ) (1) .

ومن الآية الحاضرة يستفاد مرّة أخرى أنّ جميع الانحرافات والمفاسد قد اجتمعت في مفهوم «الظلم» وللظالم مفهوم واسع يشمل جميع مرتكبي الذنوب ، والآثام ، وخصوصا الضالون المضلّون.

__________________

(1) يبغونها عوجا بمعنى يطلبونها عوجا ، أي أنّهم يرغبون ويجتهدون في أن يضلوا الناس بإلقاء الشبهات والدعايات المسمومة عن الطريق المستقيم. كما أنّ الراغب قال في «المفردات» عوج (بفتح العين) يعني الاعوجاج الحسي ، وعوج بكسر العين يطلق على الاعوجاجات التي تدرك بالفكر والعقل ، ولكن هذا التفصيل لا ينسجم مع ظاهر طائفة من الآيات القرآنية مثل الآية (107) من سورة طه (فتأمل بدقّة).

٥١

من هو المؤذّن! والمنادي؟

من هو هذا المؤذن الذي يسمعه الجميع؟ وفي الحقيقة له سيطرة وتفوق على جميع الفرقاء والطوائف؟

لا يستفاد من الآية شيء في هذا المجال ، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسّرة والموضّحة لهذه الآية ، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين عليعليه‌السلام .

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني ـ الذي هو من علماء أهل السنّة بسنده عن «محمّد بن الحنفية» عن عليعليه‌السلام أنّه قال : «أنا ذلك المؤذّن».

وهكذا روى بسنده عن «ابن عباس» أنّ لعلّيعليه‌السلام أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس ، منها «المؤذّن» في قول الله تعالى :( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) فهو الذي ينادي بين الفريقين أهل الجنّة وأهل النّار ، ويقول : «ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي»(1) .

ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة ، منها ما رواه الصّدوقرحمه‌الله بسنده عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب بالكوفة منصرفه في نهروان ، وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه ، فقام خطيبا (إلى أن قال) : «وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة ، قال اللهعزوجل ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) أنا ذلك المؤذن ، وقال :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أنا ذلك الأذان»(2) .

ونحن نرى أنّ السبب في انتخاب أمير المؤمنين عليعليه‌السلام مؤذنا ومناديا في ذلك الوقت هو : أوّلا : لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا أيضا ، فهو بعد فتح مكّة كلّف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأولى من سورة البراءة

__________________

(1) مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.

(2) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 17.

٥٢

على مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج ، تلك الآيات التي تبدأ بقوله :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (1) .

ثانيا : إنّ موقف الإمام عليعليه‌السلام طوال حياته الشريفة كان موقف المكافحة للظلم ، والنضال ضد الظالمين ، حتى أنّ دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصّة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تأريخه.

أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟ وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة.

فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق ، لم يبق أي مجال لاستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم ، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنّة والنّار ، بأمر من الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو علىعليه‌السلام .

من هذا يتّضح الجواب والردّ على ما كتبه كاتب «المنار» الذي شكك في كون هذا المقام لعليعليه‌السلام فضيلة ، إذ يقول : ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعدّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرّواية بما دون السند الصحيح(2) .

إذ يجب أن نقول له : كما أنّ النيابة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائلهعليه‌السلام ، وكما أنّ مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله ، يكون حمله لهذه المهمّة في القيامة والذي يعد استمرارا لنفس ذلك البرنامج فضيلة طاهرة له أيضا.

كما يتّضح ممّا قلناه ـ أيضا ـ الردّ على ما كتبه «الآلوسي» كاتب تفسير «روح المعاني» الذي قال : ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنّه علي كرم

__________________

(1) التوبة ، 3.

(2) تفسير المنار ، ج 8 ، ص 426.

٥٣

الله تعالى وجهه ما لم يثبت من طريق أهل السنّة(1) .

لأن هذا الحديث ـ كما أسلفنا ـ نقله علماء الفريقين السنة والشيعة كلاهما في كتبهم ومصنفاتهم ، فلا مجال للتشكيك في صدوره.

* * *

__________________

(1) روح المعاني ، ج 8 ، ص 123.

٥٤

الآيات

( وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) )

التّفسير

الأعراف معبر مهم إلى الجنّة :

عقيب الآيات السابقة التي بيّنت جانبا من قصّة أهل الجنّة وأهل النّار ، تحدث في هذه الآيات حول «الأعراف» التي هي منطقة في الحد الفاصل بين الجنّة والنّار مع خصوصياتها.

٥٥

وفي البداية يشير إلى الحجاب الذي أقيم بين أهل الجنّة وأهل النّار ، إذ يقول :( وَبَيْنَهُما حِجابٌ ) .

ويستفاد من الآيات اللاحقة أنّ الحجاب المذكور هو «الأعراف» وهو مكان مرتفع بين الفريقين يمنع من رؤية كل فريق الفريق الآخر ، ولكن وجود مثل هذا الحجاب لا يمنع من أن يسمع كل منهما صوت الآخر ونداءه ، كما مرّ في الآيات السابقة.

فلطالما رأينا جيرة يتحادثون من وراء الجدار ، ويستجلي أحدهما حال الآخر دون أن يراه ، على أنّ الذين يقفون على الأعراف ، أي على الأقسام المرتفعة من هذا المكان المرتفع ، يرون كلا الفريقين (تأملوا جيدا).

ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم ، مثل الآية (55) من سورة الصافات ، أن أهل الجنّة ربّما تطّلعوا من أماكنهم وشاهدوا أهل النّار ، ولكن مثل هذه الموارد الاستثنائية لا تنافي ما عليه وضع الجنّة والنّار أساسا ، وأنّ ما قلناه آنفا يعكس ويصور الكيفية لهذين المكانين ، وإن كان لهذا القانون ـ أيضا ـ بعض الاستثناءات ، فيمكن أن يشاهد بعض أهل الجنّة أهل النّار في شرائط خاصّة.

إنّ ما يجب أن نذكر به مؤكدين قبل الخوض في بيان كيفية الأعراف هو أن التعابير الواردة حول القيامة والحياة الأخرى لا تستطيع ـ بحال ـ أن تكشف القناع عن جميع خصوصيات تلكم الحياة ، بل للتعابير ـ أحيانا ـ صفة التشبيه والتمثيل.

وأحيانا تكشف بعض تلك التعابير عن مجرّد شبح في هذا المجال ، لأنّ الحياة في ذلك العالم تكون في آفاق أعلى ، وهي أوسع بمراتب كثيرة من الحياة في هذا العالم ، تماما مثل سعة الحياة الدنيا هذه بالقياس إلى عالم الرحم والجنين.

وعلى هذا فلا عجب إذا كانت الألفاظ والمفاهيم المتداولة في هذا العالم لا تستطيع أن تعكس بصورة كاملة ومعبّرة تلك المفاهيم.

٥٦

ثمّ إنّ القرآن الكريم يقول :( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) يرون كلّا من أهل الجنّة وأهل النّار ويعرفونهم بملامح وجوههم.

و «الأعراف» في اللغة جمع «عرف» بمعنى المحل والموضع المرتفع ، ولهذا يطلق على شعر ناصية الفرس ، والريش الموجود على عنق الديك لفظ العرف ، فيقال «عرف الفرس» أو «عرف الديك» ، ومن هذا المنطلق يطلق على المكان المرتفع من البدن لفظ العرف أيضا (وسوف نتحدث بتفصيل حول خصوصيات منطقة الأعراف التي جاء ذكرها في هذه الآية بعد الفراغ من تفسير الآيات).

ثمّ يقول : أنّ هؤلاء الرجال ينادون أهل الجنّة ويسلّمون عليهم ، ولكنّهم لا يدخلون الجنّة وإن كانوا يرغبون في ذلك( وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) .

ولكن عند ما ينظرون إلى الطرف الآخر ويشاهدون أهل النّار يصطلون فيها ، يتضرعون إلى الله طالبين أن لا يجعلهم مع الظالمين( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (1) .

والجدير بالذكر أنّه استخدم في رؤية أهل النّار في الآية لفظة( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ ) يعني عند ما تعطف أبصارهم نحو جهنم لمشاهدة أهلها ، وهذه أشارة إلى أنّهم يكرهون مشاهدة أهل النّار ، وكأنّ نظرهم إليهم مقرون بالإكراه والإجبار.

وفي الآية اللاحقة يضيف : إنّ أصحاب الأعراف ينادون فريقا من الجهنميين الذين يعرفونهم بملامح وجوههم ويلومونهم قائلين : أمّا ترون أنّ جمعكم للأموال والأفراد والتجبّر والتكبّر عن قبول الحق لم ينفعكم شيئا ، فأين تلك الأموال وأولئك الأعوان؟ وماذا حصدتم من تلك المواقف والصفات السيّئة؟!

__________________

(1) «تلقاء» في الأصل ـ حسب قول بعض المفسّرين وأهل الأدب ـ مصدر ، وهو بمعنى المقابلة ، ولكن استعمل فيما بعد في معنى ظرف المكان ، أي في المكان المقابل والمحاذي.

٥٧

( وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) .

ومرّة أخرى يقولون موبخين ومعاتبين ، وهم يشيرون إلى جمع من ضعفاء المؤمنين المستقرين فوق الأعراف :( أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ) .

وفي المآل تشمل الرحمة الإلهية هذه الطائفة من ضعفاء المؤمنين ، ويقال لهم( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) .

من كل ما قلنا اتضح أنّ المراد من ضعفاء المؤمنين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولكنّهم بسبب تورطهم في بعض الذنوب كانوا موضع ازدراء من قبل أعداء الحق في الدنيا ، وكانوا يركزون على هؤلاء ويقولون : كيف يمكن لمثل هؤلاء أن تشملهم الرحمة الإلهية؟ وكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يسعدوا؟ ولكن روح الإيمان والحسنات التي كانت عندهم فعلت فعلتها ـ في المآل ـ وفي ظلّ اللطف الرّباني والرحمة الإلهية ، فسعدوا ودخلوا الجنّة.

من هم أصحاب الأعراب :

«الأعراف» في الأصل ـ وكما أسلفنا ـ منطقة مرتفعة ، ويتّضح في ضوء القرائن التي وردت في آيات القرآن وأحاديث أئمّة الإسلام ، أنّه مكان خاص بين قطبي السعادة والشقاء ، أي الجنّة والنّار. وهو كحجاب حائل بين هذين ، أو كأرض مرتفعة فصلت بين هذين الموضعين بحيث يشرف من يقف عليها على الجنّة والنّار ، ويشاهد كلا الفريقين ، ويعرفهم بوجوههم المبيضة أو المسودة ، المشرقة أو المظلمة المكفهرة.

والآن لنرى من هم الواقفون على الأعراف؟ ومن هم أصحاب الأعراف؟

إنّ دراسة الآيات الأربع المبحوثة هنا تفيد أنّه ذكر لهؤلاء الأشخاص نوعين متناقضين مختلفين من الصفات.

٥٨

ففي الآية الأولى والثّانية وصف الواقفون على الأعراف بأنّهم يتمنون أن يدخلوا الجنّة ، ولكنّ ثمّة موانع تحول دون ذلك ، وعند ما ينظرون إلى أهل الجنّة يحيونهم ويسلمون عليهم ويودون لو يكونون معهم ، ولكنّهم لا يستطيعون فعلا أن يكونوا معهم ، وعند ما ينظرون إلى أهل النّار يستوحشون ممّا آلوا إليه من المصير ، ويتعوذون بأنّه من ذلك المصير ، ومن أن يكونوا منهم.

ولكن يستفاد من الآية الثّالثة والرّابعة بأنّهم أفراد ذوو نفوذ وقدرة ، يوبخون أهل النّار ويعاتبونهم ، ويساعدون الضعفاء في الأعراف على العبور إلى منزل السعادة.

وقد قسمت الرّوايات الواردة في هذا المجال أهل الأعراف الى هذين الفريقين المختلفين أيضا.

ففي بعض الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام نقرأ : «نحن الأعراف»(1) أو عبارة : «آل محمّد هم الأعراف»(2) وما شابه هذه التعابير.

ونقرأ في طائفة أخرى عبارة : «هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى»(3) أو «هم الشهداء على الناس والنّبيون شهداؤهم»(4) وروايات أخرى تحكي أنّهم الأنبياء والأئمّة والصلحاء والأولياء.

ولكن طائفة أخرى مثلما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام تقول : «هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فإن أدخلهم النّار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته»(5) .

وثمّة روايات متعددة أخرى في تفاسير أهل السنة قد رويت عن «حذيفة» و

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد الثاني ، الصفحة 17 و 18 و 19.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 33 و 34.

(5) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 17.

٥٩

«عبد الله بن عباس» و «سعيد بن جبير» وأمثالهم بهذا المضمون(1) .

ونرى في هذه التفاسير أيضا مصادر تفيد أنّ أهل الأعراف هم الصلحاء والفقهاء والعلماء أو الملائكة.

وبالرغم من أنّ ظاهر الآيات وظاهر هذه الرّوايات تبدو متناقضة في بدون النظر ، ولعله لهذا السبب أبدى المفسّرون في هذا المجال آراء مختلفة ، ولكن مع التدقيق والإمعان يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ومنافاة ، لا بين الآيات ولا بين الأحاديث ، بل جميعها تشير إلى حقيقة واحدة.

وتوضيح ذلك : أنّه يستفاد من مجموع الآيات والرّوايات ـ كما أسلفنا ـ الأعراف معبر صعب العبور على طريق الجنّة والسعادة الأبدية.

ومن الطبيعي أنّ الأقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة ، أمّا الضعفاء الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فيعجزون عن العبور.

كما أنّه من الطبيعي أيضا أن تقف قيادات المجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين يمشون في مثل هذه الحالات في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع. يقفون هناك ليساعدوا ضعفاء الإيمان ، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم.

وعلى هذا الأساس ، فأصحاب الأعراف فريقان : ضعفاء الإيمان والمتورطون في الذنوب الذين هم بحاجة إلى الرحمة ، والأئمّة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع الأحوال.

وعلى هذا فإن الطائفة الأولى من الآيات والأحاديث تشير إلى الفريق الأوّل من الواقفين على الأعراف ، وهم الضعفاء ، والطائفة الثّانية منها تشير إلى الفريق

__________________

(1) تفسير الطبري ، المجلد 7 ، الصفحة 137 و 138 عند تفسير الآية.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يثن صبرك أنَّ صحبك صُرَّعوا

وَبنيك طعم أسنة وشفارِ

ورأيت طفلك سابحاً بدمائه

والسهم في أوداجه متوارِ

وعلمت أنك لا محالة تارك

أهليك بعدك في أسىً وإسارِ

أرْضاك ذلك في سبيل عقيدة

تأبى على الإذلال أيّ قرارِ

وبذلت نفسك كي تصون كرامةً

من أن تذلَّ لمارقين شرارِ

أنّى لمثلك أن يعيش وكفُّه

في كفَّ وغدٍ سافلٍ غدّارِ

أنّى لمثلك أن يبايع فاسقاً

ألِف المجون وعاش خلف عقارِ

فغدوت في هذي الحياة وحيدها

بالصبر والإقدام والإيثارِ

* * *

بطلَ العقيدة والإباء وفارس الـ

ـشرف الرفيع وصفوة الأطهارِ

حزت الفضائل كلَّها من عزَّةٍ

وحميَّة وشجاعة ونجارِ

ورعيت فيها الحقَّ غير مزحزحٍ

عنها لدنيا الشرِّ والأوغارِ

يكفيك عزّاً أنّ يومك لم يزل

حرب الطغاة وقاهر الفجّارِ

تمضي الدهور وتنقضي أحداثها

وحديث ذكرك دائم التكرارِ

* * *

كاظم مكّي حسن

١٤١

الذكرى الرابعة

لسنة ١٣٧٠ه - ١٩٥٠م

في قاعة الثانويَّة للبنين مساء يوم العاشر من محرم (١٣٧٠) ه , إذ ابتدأت الحفلة في الساعة الثالثة والدقيقة الخامسة بعد الظهر , وانتهت في الساعة الخامسة والدقيقة الخامسة بعد الظهر ؛ ونظراً لقلَّة الموجود من الكراسي لدى المؤجَّرين لم تتمكَّن اللجنة من جلب أكثر من ألف كرسيًّ , علاوة على خمسمئة كرسي استعارتها من أماكن مختلفة.

وبهذا بلغ عدد الكراسي داخل القاعة فقط ألفاً وخمسمئة كرسيًّ , أمّا عدد المستمعين فقد بلغ أضعاف هذا العدد خارج القاعة وفي الساحة الكبيرة , وعلى مدى سماع صوت المكبّرات , إذ بلغ الإقبال على هذه الحفلة حداً يفوق الوصف. هذا مع العلم أن الهيئة لم تبخل باُجرة الكراسي , إلى درجة استأجرت معها عدداً كبيراً من الموبليات.

١٤٢

منهج الحفلة الكبرى للذكرى الرابعة

مساء يوم العاشر م محرم ١٣٧٠ الموافق ١٣ / ١٠ / ١٩٥٠

تحت رعاية سعادة متصرف اللواء السيد جمال عمر نظمي

١ - القرآن الكريم … المقرئ شاكر عبد الوهّاب الحمداني

٢- كلمة الافتتاح … عبد الرزّاق العائش

٣ - نظرة في حياة الحسين … للاُستاذ فيصل جريء السامر

٤ - العقيدة الخالدة (قصيدة) … الدكتور قيصر معتوق

٥ - يوم الشهيد … الاُستاذ عبُّود شبَّر

٦ - يا ثائراً للحقَّ (قصيدة) … الاُستاذ رشيد مجيد ناصرية

٧ - كلمة … الاُستاذ شاكر راغب الحلّي(١)

٨ - من وحي الحسين (قصيدة) … الشاعر محمّد هاشم الجواهري

٩ - انتفاضة السبط … الأديب جواد عبد الأمير الهاشمي

١٠ - شهيد المبدأ … الأديب كاظم السوداني

١١ - الذكرى الخالدة (قصيدة) … الاُستاذ كاظم مكي حسن

١٢ - كلمة إرتجاليَّة … الاُستاذ محمّد جواد جلال

١٣ - القرآن الكريم … المقرئ شاكر عبد الوهّاب الحمداني

١٤ - كلمة شكر ودعاء … عبد الرزّاق العائش

____________________

(١) ألقاها الكاتب بنفسه , ولكن الهيئة لم تحتفظ بنسخة منها.

١٤٣

افتتاحية الذكرى الرابعة

عبد الرزاق العائش

أيّها السادة , إنّ الذكر الطيب هو خير ما يخلّفه المرء لاُمتَّه ووطنه ؛ لأنه ذو قيمة لا يجهلها أحد , فهو تلك القوة الغامضة الَّتي تستفزُّ الهمم , وتوحي إلى العزائم , فيندفع المرء إلى الاقتداء بصاحب الذكر الطيبَّ , والعمل على رفع منار الوطن.

وهذه هي الفكرة الَّتي قامت عليها مدافن العظماء في الشرق والغرب ؛ أمّا في الشرق فلا يكاد يخلو بلد من بلاد المسلمين , بل وحتّى غير المسلمين من مشهد لوليًّ من الأولياء , أو مرقد لعظيم من العظماء.

وأما في الغرب فما (البانتيون) في باريس , و (دير ويستمنستر) في لندن , و (قاعة الخلود) في واشنطن سوى أماكن تضم رفات الخالدين من أهل الشهرة والذكر الطيب , وما هي إلّا بقاع من سائر بقاع الأرض , وإنما عظم شأنها حتّى أصبحت محاجَّ لملايين من الناس ؛ إجلالاً وتعظيماً لتلك الرفات المدفونه فيها.

وكذلك شأن قبر الجندي المجهول الَّذي أخذ ينتشر في أهمَّ المدن وأعظم العواصم , وذلك لغرضين :

أولهما : الاعتراف بفضل أهل الفضل وتخليد أعمالهم.

ثانيهما : استفزاز الهمم ؛ همم الخلف للاقتداء بالسلف.

وكلتا الغايتين جدير باُمَّة تعرف الجميل أن تعيرهما جلَّ اهتمامها.

ولما كان هدف الحسين (عليه‌السلام ) هدفاً عالميّاً هو المثل الأعلى , فمن قبيل نكران الجميل أن يقتصر تأبينه على اُمَّة دون اُمّة , أو طائفة دون طائفة , بل جدير بأن يساهم كلُّ ذي شعور حيًّ , سواء بالدرس والتحليل , أو بالإصغاء والتأمٌّل.

فهذه الفكرة أيُّها السادة هي الَّتي دفعتنا إلى الاحتفال بهذه الذكرى الخالدة ؛ ذكرى استشهاد الحسين (عليه‌السلام ) بصورة تتفَّق وعظمة المحتَفَل بذكراه ؛ اعترافاً بفضل صحبه الأماجد , واستفزازاً للهمم , وإحياءً إلى العزائم.

فسلام على الحسين يوم عطَّر الأرض بمولده , ويوم أيَّد الحقَّ بمهجته , ويوم يبعث حياً نقيَّ السريرة طاهر الضمير.

إذن يجدر بنا أيُّها السادة أن نقف برهة وجيزة حداداً على تلك النفوس الزكية الطاهرة.

عبد الرزّاق العائش

* * *

١٤٤

نظرة في حياة الحسين (عليه‌السلام )

فيصل جريء السامر

كانت حياة الحسين (عليه‌السلام ) منذ مستهلَّها حتّى ختامها جهاداً شاقّاً عنيفاً في سبيل الوصول إلى المثل الأعلى , وكفاحاً مريراً ضدَّ أهواء المجتمع والسياسة , ونزوعاً دائباً مستمرّاً إلى إحقاق الحقَّ , وإزهاق الباطل , وإقامة العدل , وإقرار مبادئ الدين الحنيف.

ذلك أن الفترة الَّتي عاش إبّانها شهدت فيما شهدت انفصال الدين عن السياسة , وظهور طائفة من المسلمين ضعف إيمانها , وأسفرت مطامعها , وألقت بالتقاليد الإسلاميّة وراء ظهرها , واستخدمت المكر والدهاء , والمال والعطاء للوصول إلى غاياتها. والحقيقة الَّتي لا شكَّ فيها أنَّ الخلافة كانت اُولى المسائل التي فرَّقت المسلمين ومزَّقتهم طوائف وأحزاباً.

ويهمُّنا هنا أن نكتفي بالإشارة إلى الاصطراع الخزي العنيف الذي دار بين العلويِّين من ناحية , والاُمويِّين من ناحية اُخرى , يؤيد كلُّ فريق وجهة نظره بحجج لا نريد أن نذكرها ؛ لأنَّ التأريخ نفسه قد أصدر حكمه فيها.

كان مركز بني اُميَّة في الشام , حيث موثَّرات الحضارة البيزنطيَّة الَّتي أدَّت إلى تغير مفاهيمهم لنظام الحكم ؛ إذ لم تلبث الخلافة الدينيَّة الانتخابية أن غدت نظاماً ملكيّاً وراثيّاً , وأخذ الخلفاء يضعون بينهم وبين الرعيَّة سدوداً وقيوداً تذكّر بما كان يفعله القياصرة والأكاسرة من طغاة الروم والفرس.

أين البَساطة السمحة المحببَّة الّتي شرعها الرسول الأعظم ؟

أين المساواة الرائعة بين الخليفة وأي فرد من الشعب ؟

أين عهد الخلفاء الاُوَل يوم كانوا يحاسبون أنفسهم حتّى على خلجات صدورهم ؟

أين نفحات الإسلام العطرة الّتي ملأت الأرض نوراً وعدلاً وبهاء ؟ أين كلُّ هذا وذاك ؟ لقد درس وعفا , وحلَّت محلَّه اُبَّهة الملك , وفخفخة السلطان , وهفيف الحرير , وبريق الذهب.

هذا في الشام , أمّا الحجاز مركز الإسلام الأوَّل فكان ما يزال يحيا على ذكريات السلف الصالح , وينطوي على حنق مكتوم وغيظ مكظوم كلَّما مدَّ بصره عبر الفيافي والقفار إلى العاصمة الصاخبة باللهو , والرافلة بالنعيم ؛ فليس بعجيب إذاً أن تزخر مكة والمدينة بحركة معارضة قويَّة يقودها الحسين بن علي (عليه‌السلام ) , وليس بعجيب أن تتجمع في الاُفق بوادر عاصفة مكتسحة تدلهمُّ , وتنذر النظام القائم بالويل والثبور.

١٤٥

لقد أحسَّ الاُمويُّون بهذه الأزمة الّتي تهدَّد كيان الدولة في الصميم , فحاولوا عبثاً أن يجذبوا الحسين إلى صفوفهم, أو يكسبوا صمته وحياده على الأقل ؛ ذلك أن الضمائر الحيَّة تأنف بمداراة النفاق , وتسلك بفطرتها السليمة طريق الحقَّ الناصع المستقيم , والنفوس الأبيَّة لا تتجاهل الباطل , بل تشير إليه صراحة , وتحاول أن تزيله حتّى لو أوردها ذلك المهالك.

وهنا في مثل هذه الأحوال يكون المحكُّ لبني الإنسان , أمّا أصحاب المثل العليا فأنصار للحقَّ مهما كان محفوفاً بالخطر , وأمّا أصحاب المطامع الدنيا فأتباع للباطل ما دام في ركابه الجاه والمال والسلطان.

هذه الحقيقة المرَّة تفسَّر لنا لمَ كانت القلَّة مع الحسين (عليه‌السلام ) والكثرة مع يزيد ؛ فقد أفلحت سيول الذهب والفضة , وأساليب التهديد والإرهاق في شراء الضمائر , وتكميم الأفواه , وإفساد الذمم إلّا الحسين وصحبه الكرام؛ فقد بقوا صخرة شمّاء تحطَّمت عليها كلُّ محاولة من هذا القبيل.

وبعد , فمن هو الحسين ؟ ومن هو يزيد ؟ أمّا الحسب والنسب [فظاهران معروفان](١) , وأمّا الأخلاق وخصائص الشخصيَّة فهي الميزان الحقُّ لكلَّ إنسان.

كان الحسين (عليه‌السلام ) عالماً خطيباً , حكيماً جواداً , وفيّاً شجاعاً , أمّا مزاجه النفسي فبلغ الكمال في لطف الحسن , وسموَّ الذوق , والعظة والتقوى , وكان يزيد بإجماع المؤرّخين خَدِين كأس وطاس , قسَّم وقته بين الشراب والعربدة وممارسة الصيد , وبين رياضة الكلاب والقرود , يلبسها الحرير ويحلَّيها بالذهب والفضة , في حين نفض يديه من شؤون الخلافة وسياسة الرعيَّة.

فالحسين إذن يشرف على الأرض من ذرا الأخلاق وقمم الفضيلة , ويزيد يدبُّ على الأوحال فلا يستطيع أن يرتفع بنفسه وبسيرته عن رغام الرذائل ودرك الموبقات.

وموجز المقال في خروج الحسين (عليه‌السلام ) أنه لم يكن طلباً للسلطان ورغبة في المجد الدنيويّ , بل كان سعياً محموداً لشل البيعة [الهرقليّة](٢) وتحقيق المبادئ الإسلاميّة. والصراع بين الطرفين هو صراع بين المثل العليا في روعة صفاتها ونقائها , وبين السياسة الميكافيليَّة الوصوليَّة.

أمّا نتيجة هذا الصراع فكانت طبيعيَّة ؛ لأن وقوف عشرات الرجال [الذين](٣) حرموا الراحة والطعام والماء أمام آلاف مدججين بأحسن الأسلحة , تسندهم دولة ذات صولة وجولة , ضرب من الخيال , خاصَّة والحرب لم تكن على طريقة المبارزة القرويَّة , بل وفق

____________________

(١) في الأصل : (فظاهر معروف).

(٢) في الأصل : (الرقلية) ، وما استظهرناه هو الأقرب للصَّحة , ففي إشارة إلى وراثة الملك.

(٣) غير موجودة في الأصل , والإضافة يقتضيها السياق.

١٤٦

الهجوم الجماعي , وهنا تكون الغلبة للأكثرية مهما بلغت من الجبن وضعف العزيمة.

هذه هي النتيجة المادَّيَّة القريبة , لكن النتائج المعنويَّة البعيدة لم تلبث أن بدت للعيان إثر موقعة كربلاء بفترة غير طويلة حين لقي قتلة الحسين شرَّ مصير , وأخذت دولة بني اُميَّة تنحدر إلى السقوط انحداراً سريعاً حتّى غدت أثراً بعد عين.

وها قد مضت مئات السنين دون أن تنسى الأجيال حادث كربلاء الَّذي ما زال يُذكي الهمم , ويوقظ في النفوس الإنسانية أسمى معاني الجهاد في سبيل الحق.

بقى علينا أن نستلهم من هذه الذكرى الخالدة ما يُنير حاضرنا , ويرسم مستقلبنا , ويؤدَّي باُمتّنا إلى الاتَّحاد والانسجام ؛ لأن الحسين (عليه‌السلام ) لم يستشهد إلّا في سبيل وحدة الاُمَّة الإسلاميّة وعزَّتها , وما أحوجنا اليوم إلى هذه الوحدة !

فيصل جريء السامر - البصرة

١٤٧

العقيدة الخالدة

الدكتور قيصر معتوق

كُفّي عن الدمع بنت الوحي واكتحلي

وألبسي الجيدَ سمر الحلي والحللِ

وطوَّفي في زوايا الخلد سيدةً

تراشق الحور بالأهداب والمقلِ

وأولمي في رياض الخلد داعيةً

أهل الجنان وآل البيت واحتفلي

وخفَّفي عنك واجلي الغمَّ مشرقةً

فلست ثكلى ففيم الأخذ بالثكلِ

فالعين ثكلى على ميْت تفارقه

ولا على من هو الأنوار في الطفلِ

ويندب المرء مَن غابت معالمه

لا من يحلّ صدور الخلق في غفلِ

فأخرجي من ذرا التأريخ منطمراً

يحدَّث الخلد عن أحداثك الاُولِ

وأطلعي في صدى الأجيال مفخرةً

تجول بالعصر بين الأمس والأزلِ

واستخلصي عبرةً في يثربَ استترت

بين الحطيم وبئر الماء والجبلِ

وبيّني السرَّ فيما يثربُ انفردت

تدرُّ بالمنَّ والألبان والعسلِ

وأوضحي مقصداً للحرب يحسبها

مسّاً من الجنَّ أو ضرباً من الخبلِ

وفرَّقي بين ذئب قاتلٍ حَمَلاً

وقتلِ ذئب سطا للفتك بالحملِ

واستطلعي موجة الأفكار من اُمم

والبين ينعى بكوراً خيرة الرسلِ

فاحني عليها وقد أبقت لميّتها

أبا تراب جثيّاً بين مغتسلِ

والعدل يشهد والوجدان عن ثقةٍ

أنّ الكرامة بين المصطفى وعلي

لكنّها في ضلال السوء صاغرة

آلت إلى الشام في ضرب من الحيلِ

فاستحكم الظلم واشتدت عوامله

وأطبق العيش بالأبواب والسُّبلِ

وخيَّم الفسق في حكم دعائمُه

تقوم بالوعد والتسويف والدجلِ

دبَّ الفساد من الأجسام منتقلاً

إلى المبادئ والأفكار والمثلِ

وأبطل الهزء بالآيات حكمتها

حتّى استعاض بكأس الخمر والغزلِ

وانبثَّ في العرب من بدو ومن حضرٍ

روح التذمر والإهمال والمللِ

فأحوج الأمر والفوضى إلى رجلٍ

يقضي على الشرَّ والأشياع والنحلِ

١٤٨

وينقذ الاُمَّة المنكودَ طالعُها

ويطلق الحرّ من منفىً ومعتقلِ

وفتَّش الحقَّ عمَّن نحو صاحبه

يسدِّد الضربة القصوى بلا خطلِ

مَن غيرُ فاطمة مَن أنجبت رجلاً

يقوم في الساعة السوداء في الثقلِ

فهو الحسين حفيد الوحي مَن وَجدتْ

فيه العقيدة كلَّ القصد والأملِ

وهو الحفيد لجدَّ العرب قاطبة

وهو الخليفة في حقَّ بلا جدلِ

ألقت عليه وشاح الوحي فاطمة

حتّى يعين الفتى في خطبه الجللِ

وسار طوعاً وشطر الشام قبلته

ينساب في البيد من واد إلى قبلِ

ما داس أرضاً بل الإيمان أركبه

إلى الجهاد عنيف غير محتملِ

لم يسأل البيد عمّا في مخابئها

ممّا ستوقعه الأقدار بالبطلِ

فكان يعلم ما توحي رسالته

فحيث تبدأ يبدو منتهى الأجلِ

من السلاح له في الصدر معتقدٌ

وفي ذراعيه ما في الزند من عضلِ

فأقبل الشرُّ في جيش يعزّزه

ليقهر الخير توّاقاً على عجلِ

ما ارتدَّ لـمّا رأى البهتان يقصده

وارتدَّ يصمد للتيّار في جذلِ

وطوَّق البؤس آمالاً معلَّقة

بعبقريًّ شديد حازمٍ عزلِ

فاستلزم الحال والوجدان تضحية

وضاقت الحيلة الدهياء بالرجلِ

إنّ العقيدة إن يسلمْ هو اندثرت

وتزدهي إن يمت في وطأة الصقلِ

فصاغ في الحال آل البيت قنبلة

تدكُّ دكّاً أساس الغدر والدخلِ

وصار لُغماً بصرح المكر منفجراً

يطوَّح الصرح بالطغيان والزللِ

شقَّت شظاياه صدر الكون نافذة

تصلي الضمائر بالأخطار والشعلِ

* * *

لولا ضحيَّة حملان مسالمة

لا يفهم الناس ما للذئب من عملِ

ضحّى الحسين بنفس عزَّ مطلبها

لينسف الظلم بالبرهان والمثلِ

والمرء يقضي لكي تحيا عقائدُه

والأخذ بالظلم يُفني أعظم الدولِ

الدكتور قيصر معتوق - البصرة

* * *

١٤٩

يوم الشهيد

السيد عبود شبر

في البدء خلق الله السماوات والأرض , وشاء أن يجعل من الأرض جنّة تزدهر بها الجنان ؛ فأوجد روحاً , وأوجد من تلك الروح حركة , فكانت تلك الحركه كائناً حيّاً. ثمَّ دفع بذلك الكائن الحي إلى هذا العالم المترامي الأطراف , فانجذب نحو الأرض بفعل جاذبيتها ؛ فصُقل واُودع كلَّ صفات الكائن الحي , فكان إنساناً قيل فيه :

اتحسب أنك جِرمٌ صغير

وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

ثم زجَّ الإنسان بنفسه في تيّارات هذا العالم , فتزوَّج وأولد , فصار الإنسان إنسانين , وكان الخير وكان الشرُّ. وكانت للشرَّ قوىً وللخير قوىً مثله , واندفعت قوى الشر نحو قوى الخير مصوَّبة سهامها لتمحقها من الوجود , ووقفت تلك بدورها وقفة البطل لترد السهام ؛ فكانت الرذيلة وكانت الفضيلة , وكان أن انبثق من هذين الضدَّين دعاة لكلًّ منهما.

وسار الدهر سيره المعكوس ؛ فإذا بدعاة الرذيلة ينتصرون فيشمخون باُنوفهم , وأنصار الفضيلة يندحرون فيتساقطون في ميدان الشرف والمروءة ليكونوا الشهيد. وبينما الشهيد يندفع نحو ربَّه راضياً مرضيّاً إذا بنسيم الكرامة يهبُّ من بيت الفضيلة على شكل صوت ناعم رقيق ينبعث من بين جدرانه منشداً أعذب نشيد ردَّدته الأجيال :

يوم الشهيد تحيَّة وسلامُ

بك والنضال تؤرَّخ الأعوامُ

هنالك يشتدُّ الصراع بين قوى الخير وقوى الشر , وتكون نتيجة ذلك الصراع إظهار الخير بصورة بطل , ويكون ذلك البطل الشهيد.

ثمَّ يهبُّ نسيم الخير مرَّة اُخرى من بيت عربيًّ هاشميًّ كريم يُشتمُّ منه عبير الكرامات , فيتمثل ذلك الشهيد شخص إنسان , ويكون ذلك الإنسان أبا الشهداء الحسين بن علي (عليه‌السلام ) سيد الشباب وعميد البيت الهاشمي الرفيع.

وقصة الحسين (عليه‌السلام ) معروفة لدى الجميع , وثورته باقية ذكراها ما بقي التأريخ. على أننا ونحن نستعرض هذه القصَّة الخالدة يحقُّ لنا أن نفهم ما إذا كان الحسين محقّاً عندما رفض مبايعة يزيد أم كان مخطئاً , ولِم ثار على حكمه مع علمه بقوَّته وكثرة أنصاره ؟ وهل نجحت ثورته ؟ وما هو الدرس الّذي يجب أن نتعلَّمه من هذه الثورة ؟

من المعلوم أن الدعوة الإسلاميّة الّتي انبعثت من البيت الهاشمي الرفيع قام بها النبيُّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) جدُّ الحسين (عليه‌السلام ) ، وكافح في سبيل تركيزها الإمام عليٌّ أبو الحسين (عليه‌السلام ) , فبطبيعة الحال يكون المنتسبون لهذا البيت وبالأخصَّ الحسين أحرص الناس على رعاية هذه الدعوة.

١٥٠

ولما اغتصب الاُمويُّون الخلافة وأودعوها إلى يزيد بن معاوية المعروف بنزقه وطيشه وانحرافه عن الطريق الّتي رسمها المشرع الأكبر , رأى الحسين (عليه‌السلام ) - بصفته عميد الهاشميين , ووريث صاحب الدعوة الإسلاميّة - بأنه أصبح شرعاً مسؤولاً عن حياض الإسلام.

أضف إلى ذلك أن الأكثريَّة من زعماء المسلمين من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )المقرَّبين طعنوا بخلافة يزيد , وثارت بعض البلدان الإسلاميّة وفي مقدَّمتها العراق فرفضت البيعة , وكتبت إلى الإمام الحسين مبايعةً إيّاه , وطالبة منه القدوم إليها. فلم يكن إذن للحسين(عليه‌السلام ) من بدًّ إلّا أن يلبَّي دعوة الداعين ويثور على يزيد.

ولـمّا لم يكن الحسين من الساعين لأخذ الحكم حبّاً بالحكم ذاته , بل ليجعله واسطة لنشر لواء الفضيلة ومحاربة الرذيلة , وإنه بناء على ذلك لا يريد أن يفرض نفسه على الناس فرضاً كما يفعل الكثير من صغار النفوس ممَّن تمكّنت في نفوسهم شهوة السلطة من الحكّام الطغاة , بل ليترك للناس الفرصة للتفكير بمن هو أصلح للحكم بالرغم من إلحاح أهل العراق وغيرهم عليه بالقدوم , فقد تأخَّر , وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل ليستطلع آراء القوم , فأضاع بذلك عامل المباغتة الَّذي يعرفه العسكريون اليوم في الوقت الَّذي تمسك به خصمه وخسر بذلك المعركة عسكرياً.

وبالطبع ليس المهمُّ أن يخسر صاحب أيَّة فكرة المعركة أو يربحها عسكرياً , بل المهم أن يربحها معنوياً , وأن يصل إلى الغاية الَّتي يريدها حتّى ولو ضحى في سبيل ذلك بنفسه. وقد كان للحسين ما أراد.

صحيح أن الحسين (عليه‌السلام ) قد قُتل هو وأصحابه , وأن العدوَّ قد مثَّل بأجسادهم , ولكن نار ثورة الحسين لم تخمد , وقد بقيت مشتعلة حتّى هدمت الظلم والجور , وعلَّمت الناس كيف يكون شهيد المبدأ , وكيف تموت الرجال.

لقد هدم الحسين (عليه‌السلام ) بثورته ملك اُمية , وثلَّ عرشهم , وأقضَّ مضاجعهم , بل وحتّى بيتهم العتيد قد قضى عليه وهدمه معنوياً , وجعله لا يذكر إلّا واللعنة مقرونة به.

وأنت ترى الآن أن كلَّ فرد تقريباً من العرب والمسلمين يشرَّفه أن ينتسب للبيت الهاشمي , بل ويشرَّفه أن يكون خادماً لهم , ولكن هذا الفرد لا يشرَّفه أن ينتسب للبيت الاُموي. وأنت ترى أيضاً أن الحسين ما ذكر اسمه إلّا وصلّى الناس وسلموا عليه , وما ذكر اسم يزيد إلّا وصُبَّت عليه اللعنات كما تصبُّ على إبليس الرجيم.

ولم تمرَّ إلّا أيام معدودات على مصرع الحسين (عليه‌السلام ) حتّى ثار دعاة الفضيلة من أنصاره على الحكم الاُموي , وثأروا للكرامة الهاشميَّة المضامة الثأر الأليم , فقضوا على كل اُموي , وأجهزوا على الجرحى من فلولهم , ونبشوا الدوارس من قبورهم , فمثلوا بالعظام الرميمة , وجاؤوا بأشلاء بعضهم فأطعموهم النار الحامية , وذرُّوها في الريح العاصف رماداً حقيراً.

١٥١

تلك عاقبة كل متعنَّت لا يعير أمر الشعب اهتمامه , ولا يحسب لثورته أي حساب. فأيّة ثورة نجحت كثورة الحسين ؟ إن أنصار الفضيلة سيظلُّون يذكرون الحسين ما بقي الدهر , وسيظلُّون يستقبلون المحرم بلَدم الصدور بالأكفَّ , وضرب الظهور بالسلاسل , وسيظلون يحملون تلك الشعارات الممجَّدة لثورته , ويردَّدون تلك الأناشيد المشيدة بفضله وإيمانه , لا لأن ذلك ممّا يزيدهم ثواباً فحسب , بل ليثبتوا لكلَّ مارق أثيم وطاغية لئيم بأن أصحاب المبادئ لا يموتون , وأن دم الشهيد لا يضيع.

بقى علينا أن نعرف ما هو الدرس الَّذي نتعلمه من تضحية الحسين هذه ؟ إن الاُمَّة العربيَّة المضامة , والّتي طُعنت بكرامتها في هذه الأيّام , يجب أن تتعلَّم من ثورة الحسين دروساً في الإباء ونكران الذات , دورساً في الفناء والتضحية في سبيل المبدأ. يجب عليها كي تستعيد كرامتها الَّتي هدرت أن تتمثَّل بالحسين , وأن تقف بشبابها وشيبها صفّاً واحداً تاركة جميع الاعتبارات الموضعية , ومندفعة نحو هدفها.

يجب علينا نحن العربَ والعراقيين على الأخص , الَّذين تشرفت تربة بلادنا بضمَّ جسد الحسين أن نجعل من ذكراه حافزاً لنا لضمَّ الصفوف , ومحاربة كلَّ نعرة هدّامة من شأنها تمزيق وحدتنا في مثل هذا الوقت العصيب الَّذي أخذت به قبور الطامعين تتحرَّك فتنبعث منها رائحة نتنة هي رائحة الطائفيَّة البغيضة.

إنّي اُهيب بشباب العراق الواعين جميعاً أن ينبذوا كلَّ نعرة مفرَّقة , ويحاربوا كلَّ دسّاس أثيم , ويلتفُّوا حول وارث عرش المجد النبوي , وحفيد السبط الشهيد سيّدنا المليك المعظم , ليكونوا يداً واحدة , وليهتفوا دائماً وأبداً :

وإنّ الاُلى بالطفَّ من آل هاشمٍ

تأسَّوا فسنُّوا للكرام التأسَّيا

عبود شبر

١٥٢

يا ثائراً للحقِّ

رشيد مجيد

رشيد مجيد ١٩٢٢م

* شاعر وفنان.

* ولد في الناصريّة.

* ترك الدراسة الرسميّة وأنصرف للأدب والشعر. من دواوينه المطبوعة :

١ - بوابة النسيان ١٩٧١م.

٢ - وجه بلا هويّة ١٩٧٣م.

٣ - يحترق النجم ولكن ١٩٨٥م.

* كتب المسرحيّة والمقالة والتعليق الأدبي.

١٥٣

يا ثائراً للحقِّ(١)

رشيد مجيد

عبثاً يعبَّر عن مُصابك مرقمي

فلقد ذوى سحرُ الترنُّم من فمي

وتحطَّم القيثار بين أناملي

وشكا إليَّ بحيرة وتلعثم

ما لي عييت عن النشيد وطالما

روَّيت هاتيك الملاحن من دمي

ماذا أقول وقد وجمت من الأسى

إذ دونما أصبو إليه ترنُّمي

كلا ولا الطير المغرَّد منشدٌ

فلقد بدا في صمته كالأعجمي

حيران يرسل طرفه في غمرة

لا تنجلي من محنة وتألُّم

يرنو إلى الاُفق المخضَّب ساهماً

يتلو سطوراً في السماء من الدم

فالأرض ثكلى والسماء كئيبةٌ

وهناك في الأجواء رنَّة مأتم

خطبٌ يجوس الأرض هول ظلامِه

ويجوس أعماق الوجود بأظلمِ

يوم به وقف الحسين بكربلا

من اُمَّة تاهت ببيعة مجرمِ

حيث انتضت والحقد يملؤها لظىً

سيف الخيانة في يد لم تسلم

إذ بايعته على الخلافة في يدٍ

نعمت ملامسها كجلدة أرقم

فمضت تشنُّ وما سوى أحقادِها

حرباً تبدَّدها انتفاضة ضيغم

قد خاضها بأعزِّ ما ملك امرؤ

دنياه من مال ومن طفل ظمي

(فهوى وفي شفتيه بسمةُ ظافرٍ)

ذهبت بثغر اُميَّة المتبسم

* * *

____________________

(١) وقد ألقاها بالنيابة الأديب عبد الحسين المهدي.

١٥٤

انتفاضة السبط عبرة وذكرى

جواد عبد الأمير الهاشمي

أيُّها السادة , تمرُّ الأجيال وتنصرم الدهور , وهذا اليوم الخالد يوم عاشوراء يُلقي على مسمع الزمن عظاته الغالية, ويلقَّن الأجيال بأنّ الحياة مهما كانت عزيزة يتعلَّق بها المرء ويغترف من لذائذها ؛ فهي تافهة لا تعادل شيئاً لدى النفوس الكبيرة إذا تعارضت مع مبادئها وحادت بها عن مثلها العاليا وعقائدها المقدَّسة.

وفي غمرة هذه الأطماع والأنانيّات الَّتي يتخبَّط البشر في ظلماتها , وفي هذا العالم الصاخب الَّذي تتقاذفه تيّارات الشهوات والأهواء الرخيصة تُطلُّ علينا هذه الذكرى. ذكرى بطولة السبط وتضحيته من وراء حقب الأحداث والتضحيات , وهي محاطة بهالة من التقديس والإجلال للشهيد الَّذي ضرب أروع الأمثلة في التضحية والمفاداة في سبيل المبدأ والعقيدة , فكان بطلاً من أبطال الإنسانيَّة وروّادها , وحملة مشاعلها في هذه الحياة.

يطلّ علينا يوم الطفّ - أيّها السادة - والعرب والمسلمون قد لعبت بهم الأهواء , وتقاذفتهم النكبات والويلات, وامتحنوا أقسى امتحان في مراحل تاريخهم الطويل , وقد نأت نفوسهم عن هذه المبادئ السامية والمعاني القدسيَّة الّتي ضحّى من أجل بقائها والحفاظ عليها صاحب هذا اليوم الأغرّ بنفسه وآل بيته وصحبه.

ونحن إذ نستعرض هذه الذكرى بقلوب خاشعة ونفوس مكلومة ينبغي أن نغترف من فيضها القدسي , ونتزوَّد من معين عطائها الّذي لا ينضب دروساً تمهَّد لنا سبيل الكفاح لمقارعة الظلم والطغيان , ونيل حقوقنا كاملة في هذه الحياة القاسية الّتي لا يكتب فيها العزُّ والسؤدد إلّا للقويّ.

أجل أيُّها السادة نحن في أمسَّ الحاجة في هذه الفترة من حياتنا العصيبة القلقة , نستلهم تاريخنا , ونخلَّد ذكرى أمجادنا وبطولاتنا , وما بطولة الحسين (عليه‌السلام ) إلا في طليعة بطولاتنا وأمجادنا , بل هي في طليعة البطولات الّتي شهدتها الإنسانيَّة في سيرها , وسجَّل سيرتها التأريخ بصفحات مشرقة خالدة على الدهر.

فلا تأبه الاُمم بصفحات مجدها وبسِيرَ أبطالها ومثلهم العليا لاستدرار الدموع وإثارة الابتهاج , وإنما هي تستخلص من تأريخها عبراً ودروساً غالية تنير لها دياجير الحياة , وتلهمها لناشئتها وأفراد جيلها الجديد ليمضوا على هديها , ويتَّخذوا من مظاهر بطولاتها مثلاً عليا , وقدوة حسنة في الحياة , فيؤدي التأريخ بذلك رسالته للشعوب بربط ماضيها بحاضرها , وإنارة سبيلها لتشييد صرح مستقبلها المنيف.

وعلى ضوء هذا التعريف لرسالة التأريخ يجب أن نحيي ذكرى سيّد الشهداء (عليه‌السلام ) ، ونخلَّد تعاليمه ومبادئه في قلوبنا , وننشر بين طلائع الجيل مثله العليا لتهتدي النفوس , وترعوي القلوب , وتعفَّ الضمائر بعد أن طغت الأنانيّات على المجتمع , واستحوذت الشهوات الدنيّا والمطامع الزائلة على الناس.

١٥٥

أيُّها الحفل الكريم , لقد جاء الإسلام هدىً للناس ورحمة للعالمين , تعهَّده الرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وخلفاؤه الراشدون من بعده , فأخرج الناس من الظلمات إلى النور , وطهَّر النفوس من أوضارها , وأزال عنها عادات الجاهليّة الاُولى وأطماعها.

ولكنَّ الله تعالى لحكمة أرادها امتحن النفوس بمحنة الإيمان ؛ ليظهر للناس زيف الّذين اعتنقوا الإسلام لا حبّاً به وإجلالاً لتعاليمه , وإنما هي النفوس الصغيرة الّتي تتَّخذ الدين وسيلة لأطماعها وشهواتها في الحكم والسلطان.

فما كاد أن يلقى الخليفة الرابع (عليه‌السلام ) وجه ربَّه قتيلاً على يد أفّاك من مجرمي الإنسانيَّة المنكودة بأبنائها الضالين, وتحلَّق روحه الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية , ثمَّ يمضي الزمن سراعاً إلّا ويُمتحن الإسلام بهذه النفوس الّتي جرَّت عليه محناً وانتكاسات يسجّلها التأريخ ملطَّخة بالخزي والعار.

وكانت خلافة يزيد على المسلمين وتحكُّمه في اُمورهم الدينيَّة والدنيويَّة , وهو المعروف بانغماسه في الشهوات وميله إلى اللهو , سبباً مهمّاً في تطلُّع الناس إلى الزعيم الديني المصلح.

فمن هناك غير الحسين بن علي (عليهما‌السلام ) الزعيم الروحي الَّذي تتطلَّع إليه القلوب وتهفو له الأرواح ؟ ومَن أحرص على تنفيذ تعاليم سيّد المرسلين (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من آل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ؟ ومن أكثر إقداماً على التضحية من أجل الدين الحنيف من حفيد المصطفى وسيّد شباب أهل الجنَّة ؟

إنّ التهديد لا يفتُّ في عضد سبط الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ليطيع أوامر يزيد ويرضخ لبيعته كما رضخ غيره , وإن الدنيا ومظاهرها الكذّابة لا تخدع الحسين فينصرف عن حماية دينه ومقارعة الظلم والبغي والطغيان ولو كلَّفه ذلك الاستشهاد.

حاشا لله أن يرضخ ابن البتول لتهديد الباطل ووعيده , أو أن تحول بهارج الدنيا ولذّاتها بينه وبين صلابة مبدئه وقوَّة عقيدته , وهو القائل : (( والله , لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل , ولا اُقرُّ لكم إقرار العبيد , وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة , والحياة مع الظالمين إلّا برماً وسأماً)). حاشا لله أن يحيد ابن فاطمة عن مثله العليا وهو الّذي تربّى بين أحضان النبوَّة , وتشرَّبت روحه بفيض الإيمان.

١٥٦

إنّ الأحداث الجسام - سادتي الأفاضل - محكُّ الرجال , تظهر منها صلابة عقائدهم وسموُّ مكانتهم في الحياة. ولقد كان أمام سيّد الشهداء (عليه‌السلام ) طريقان لا ثالث لهما ؛ إمّا أن يذعن ليزيد ويركن لبيعته فيكون قد هدم الإسلام وأقرّ الظالم في ظلمه , وإمّا أن ينكر على يزيد خلافته الّتي خرقت تعاليم الإسلام ويعلن تمرُّده على يزيد , ولا مفرَّ له من مجابهة جيوشه الزاحفة بنفر قليل من آل بيته وصحبه. وقد كان.

فما أعظم بطولتك يا أبا عبد الله ! وما أكبر استشهادك في إعلاء كلمة الحق ! وما أحوجنا يا سيّد الشهداء ونحن في غمرة هذا الليل البهيم من المشاكل والأزمات إلى قبس من نورك يبدَّد عن النفوس أنانيَّتها وأطماعها , ويجمع كلمة العرب والمسلمين ليجاهدوا في سبيل مبادئهم كما جاهدت , ويدفعوا عن حياضهم الظلم والطغيان ! فسلام عليك وعلى آل بيتك المطهّرين , وصحبك الغرَّ الميامين ورحمة الله وبركاته.

عبد الأمير الهاشمي - البصرة

١٥٧

شهيد المبدأ

كاظم السوداني

( وَلا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللهِ أَموَاتاً بَل أحيآءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ ) (١)

صدق الله العلي العظيم

أيُّها الحفل الكريم , لست مبالغاً أو مغالياً لو قلت : إنّ لساني القاصر ليعترف بالعجز أمامكم عن التعبير بكلَّ ما تجيش به نفسي من آلام الحزن لهذا المصاب الجلل , والخطب الهائل الّذي نزل على الاُمَّة الإسلاميّة نزول الصاعقة المهلكة , فترك قلوباً ينهشها الحزن , وأكباداً يفتَّتها الألم , وأنّات عميقة ملؤها الأسى والأسف.

وليس بالكثير حقّاً إذا نُكَّست أعلامنا في مثل هذا اليوم الأسود الكئيب , وليس بالغريب إذا ما وجمت قلوبنا , وخرست ألستنا , وجفَّت أقلامنا حزناً لمصابنا الفادح لنصير الحقَّ ورجل الرحمة , وعدو الظلم والاستعباد.

ولئن اعتاد الخطباء في مثل هذه الحفلات التأبينيَّة أن يذكروا حياة ذلك البطل الشهيد (عليه‌السلام ) ، ويعدّدوا محاسن أعماله وحميد صفاته , فإني لا اُتابعهم في ذلك ؛ لأن شمس أعماله الخالدة المجيدة لا تزال مشرقة في سماء الكون الشاسع, ساطعة في أرجاء العالم وأنحائه.

فمَن منا أيُّها السّادة يجهل الحسين بن

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٦٩.

١٥٨

علي (عليهما‌السلام ) الَّذي طرق سمعَه صراخُ أبناء الاُمَّة الإسلاميّة واستنجادُهم في عهد بطل العبوديَّة يزيد بن معاوية , فهبَّ بحماس شديد لكي يردَّ إلى قلوب الصارخين الطمأنينة والاستقرار.

وقام ملبَّياً نداء طالبي النجدة من أبناء تلك الاُمَّة الَّتي عصف الظلم براحة أبنائها , ونسف الجور كيانها , وطغى الاستبداد والاستعباد على نظام الحياة والعيش فيها , وأسرع بدون مبالاة بقوَّة الباطل وجبروت خصمه , متخذاً من إيمانه بالمبدأ وعدالة قضيته سلاحاً قويّاً , وعدَّة كافية للوقوف بوجه الطاغية يزيد وأنصاره ؟

ومَن منا أيُّها السادة ينكر تضحية الحسين بن علي (عليه‌السلام ) وصبره واستمراره في المطالبة بإعادة الحقَّ إلى نصابه , وتقويض أركان الباطل الّتي شيَّدها اُناس شاءت الظروف القاسية أن يشيدوها ؟

ومَن منا ينكر ذلك الموقف الرهيب الّذي وقفه بعدما صُرع أنصاره وأفراد عائلته الواحد تلو الآخر , وهو يصفُّ الجثث الواحدة جنب الاُخرى , رابط الجأش , مبتسم المحيّا , متخذاً من إرادته القويَّة وإيمانه بقدسية رسالته معيناً عذباً ينهل منه ما يشاء في سبيل الثبات بوجه الطغاة المعتدين ؟

ولكن - ويا للدهر الغاشم ! - غزته المنون القاسية فأردته صريعاً دون أن تمهله ليتمَّ الواجب الّذي تطوَّع من أجله. وتلك هي اُمنيته الغالية لكي يغسل بدمائه الزكيَّة تلك الأرض الَّتي لوَّثتها فئة يزيد وعصابته بأعمالها الجائرة وأفعالها المقيتة الغاشمة , وليجعل من قضيته النبراس المضيء أمام أبناء جنسه الآخرين ليهتدوا بما فيها من دروس وعبر, وليسيروا على الخطوات الّتي سار عليها , وليقتدوا به ليؤمنوا بجلال التضحية في سبيل المبدأ الَّذي ضحّى من أجله بروحه.

فعلينا والحالة هذه الاقتداء وأخذ العبرة من قضيَّته ؛ لأنّ روحه الطاهرة ما زالت ترفرف في سماء الكون الأزلي , وما فتئت تطيل إلينا النظر وترعانا لعلنا نحقَّق ما أراد , ونتوصَّل إلى ما ابتغاه , والسلام عليكم.

كاظم السوداني

١٥٩

الذكرى الخالدة

كاظم مكّي حسن

في ركبك المجد أنّى سرت والهممُ

وفي حماك أقام الفضلُ والكرمُ

ولم تزل لك في الأجيال دائرةً

ذكرى يردَّدها من ذا الزمان فمُ

يا ناصر الحقَّ لـمّا قلّ ناصرُه

وحاميَ الحُكْم لـمّا استهتر الحَكمُ

وراعي العدل لـمّا بات مغترباً

فكان فيك له أمنٌ ومعتصمُ

بعثت للدين والدنيا صلاحهما

وفي صلاحهما الخيراتُ والنعمُ

كنت الزعيم لأحرار شعارهمُ

عيشُ الكرامة في الدنيا أو العدمُ

رأوك أشجع من يدعو وأخلص من

يهدي وأرحم من للحقَّ ينتقمُ

ونهضة لك ضمَّت كلَّ مكرمة

بيضاء كان بناها للخلود دمُ

يمضي الزمان عليها وهي خالدةٌ

فلا زوالٌ ولا شيبٌ ولا هرمُ

جديدة وكفاها روعة وعُلا

وعزَّة أنت فيها المفرد العلمُ

لم يثنِ عزمَك عنها أنها رهقٌ

وشدَّة واغتراب كله ألمُ

ولم ترُعْك رزاياها الّتي عظمت

في الطفَّ هولاً ولم تقعد بك الأزمُ

فغاية البطل المقدام تحمله

على الشدائد يلقاها ويبتسمُ

فلا يقرُّ له جنب على ضِعة

ولا تسير به في ذلَّة قدمُ

فتحت بالصبر والإيمان ما عجزت

عن فتحه بقواها هذه الاُممُ

وشِدت بالحزم والإقدام مملكة

تراجع الجور عنها وهو منهزمُ

فلا يزول لها حكم وقد بُنيت

على دماك ولا يُطوى لها علمُ

زالت ممالك مَن ساموا الورى عنتاً

وخرَّ سلطان من جاروا ومن ظلموا

وحطَّم العسف تيجاناً به رُفعت

وأهلك البغي أرباباً به حكموا

فذاك ذكرهمُ بالعار مقترنٌ

وذا كيانهمُ بالجهل منهدمُ

وظلَّ ذكرك نوراً للورى وهدىً

يُمحى به الظلم أو تُجلى به الظلمُ

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206