يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)0%

يوم الحسين (عليه‌السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 206

  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28187 / تحميل: 3782
الحجم الحجم الحجم
يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)

مؤلف:
العربية

لم يثن صبرك أنَّ صحبك صُرَّعوا

وَبنيك طعم أسنة وشفارِ

ورأيت طفلك سابحاً بدمائه

والسهم في أوداجه متوارِ

وعلمت أنك لا محالة تارك

أهليك بعدك في أسىً وإسارِ

أرْضاك ذلك في سبيل عقيدة

تأبى على الإذلال أيّ قرارِ

وبذلت نفسك كي تصون كرامةً

من أن تذلَّ لمارقين شرارِ

أنّى لمثلك أن يعيش وكفُّه

في كفَّ وغدٍ سافلٍ غدّارِ

أنّى لمثلك أن يبايع فاسقاً

ألِف المجون وعاش خلف عقارِ

فغدوت في هذي الحياة وحيدها

بالصبر والإقدام والإيثارِ

* * *

بطلَ العقيدة والإباء وفارس الـ

ـشرف الرفيع وصفوة الأطهارِ

حزت الفضائل كلَّها من عزَّةٍ

وحميَّة وشجاعة ونجارِ

ورعيت فيها الحقَّ غير مزحزحٍ

عنها لدنيا الشرِّ والأوغارِ

يكفيك عزّاً أنّ يومك لم يزل

حرب الطغاة وقاهر الفجّارِ

تمضي الدهور وتنقضي أحداثها

وحديث ذكرك دائم التكرارِ

* * *

كاظم مكّي حسن

١٤١

الذكرى الرابعة

لسنة ١٣٧٠ه - ١٩٥٠م

في قاعة الثانويَّة للبنين مساء يوم العاشر من محرم (١٣٧٠) ه , إذ ابتدأت الحفلة في الساعة الثالثة والدقيقة الخامسة بعد الظهر , وانتهت في الساعة الخامسة والدقيقة الخامسة بعد الظهر ؛ ونظراً لقلَّة الموجود من الكراسي لدى المؤجَّرين لم تتمكَّن اللجنة من جلب أكثر من ألف كرسيًّ , علاوة على خمسمئة كرسي استعارتها من أماكن مختلفة.

وبهذا بلغ عدد الكراسي داخل القاعة فقط ألفاً وخمسمئة كرسيًّ , أمّا عدد المستمعين فقد بلغ أضعاف هذا العدد خارج القاعة وفي الساحة الكبيرة , وعلى مدى سماع صوت المكبّرات , إذ بلغ الإقبال على هذه الحفلة حداً يفوق الوصف. هذا مع العلم أن الهيئة لم تبخل باُجرة الكراسي , إلى درجة استأجرت معها عدداً كبيراً من الموبليات.

١٤٢

منهج الحفلة الكبرى للذكرى الرابعة

مساء يوم العاشر م محرم ١٣٧٠ الموافق ١٣ / ١٠ / ١٩٥٠

تحت رعاية سعادة متصرف اللواء السيد جمال عمر نظمي

١ - القرآن الكريم … المقرئ شاكر عبد الوهّاب الحمداني

٢- كلمة الافتتاح … عبد الرزّاق العائش

٣ - نظرة في حياة الحسين … للاُستاذ فيصل جريء السامر

٤ - العقيدة الخالدة (قصيدة) … الدكتور قيصر معتوق

٥ - يوم الشهيد … الاُستاذ عبُّود شبَّر

٦ - يا ثائراً للحقَّ (قصيدة) … الاُستاذ رشيد مجيد ناصرية

٧ - كلمة … الاُستاذ شاكر راغب الحلّي(١)

٨ - من وحي الحسين (قصيدة) … الشاعر محمّد هاشم الجواهري

٩ - انتفاضة السبط … الأديب جواد عبد الأمير الهاشمي

١٠ - شهيد المبدأ … الأديب كاظم السوداني

١١ - الذكرى الخالدة (قصيدة) … الاُستاذ كاظم مكي حسن

١٢ - كلمة إرتجاليَّة … الاُستاذ محمّد جواد جلال

١٣ - القرآن الكريم … المقرئ شاكر عبد الوهّاب الحمداني

١٤ - كلمة شكر ودعاء … عبد الرزّاق العائش

____________________

(١) ألقاها الكاتب بنفسه , ولكن الهيئة لم تحتفظ بنسخة منها.

١٤٣

افتتاحية الذكرى الرابعة

عبد الرزاق العائش

أيّها السادة , إنّ الذكر الطيب هو خير ما يخلّفه المرء لاُمتَّه ووطنه ؛ لأنه ذو قيمة لا يجهلها أحد , فهو تلك القوة الغامضة الَّتي تستفزُّ الهمم , وتوحي إلى العزائم , فيندفع المرء إلى الاقتداء بصاحب الذكر الطيبَّ , والعمل على رفع منار الوطن.

وهذه هي الفكرة الَّتي قامت عليها مدافن العظماء في الشرق والغرب ؛ أمّا في الشرق فلا يكاد يخلو بلد من بلاد المسلمين , بل وحتّى غير المسلمين من مشهد لوليًّ من الأولياء , أو مرقد لعظيم من العظماء.

وأما في الغرب فما (البانتيون) في باريس , و (دير ويستمنستر) في لندن , و (قاعة الخلود) في واشنطن سوى أماكن تضم رفات الخالدين من أهل الشهرة والذكر الطيب , وما هي إلّا بقاع من سائر بقاع الأرض , وإنما عظم شأنها حتّى أصبحت محاجَّ لملايين من الناس ؛ إجلالاً وتعظيماً لتلك الرفات المدفونه فيها.

وكذلك شأن قبر الجندي المجهول الَّذي أخذ ينتشر في أهمَّ المدن وأعظم العواصم , وذلك لغرضين :

أولهما : الاعتراف بفضل أهل الفضل وتخليد أعمالهم.

ثانيهما : استفزاز الهمم ؛ همم الخلف للاقتداء بالسلف.

وكلتا الغايتين جدير باُمَّة تعرف الجميل أن تعيرهما جلَّ اهتمامها.

ولما كان هدف الحسين (عليه‌السلام ) هدفاً عالميّاً هو المثل الأعلى , فمن قبيل نكران الجميل أن يقتصر تأبينه على اُمَّة دون اُمّة , أو طائفة دون طائفة , بل جدير بأن يساهم كلُّ ذي شعور حيًّ , سواء بالدرس والتحليل , أو بالإصغاء والتأمٌّل.

فهذه الفكرة أيُّها السادة هي الَّتي دفعتنا إلى الاحتفال بهذه الذكرى الخالدة ؛ ذكرى استشهاد الحسين (عليه‌السلام ) بصورة تتفَّق وعظمة المحتَفَل بذكراه ؛ اعترافاً بفضل صحبه الأماجد , واستفزازاً للهمم , وإحياءً إلى العزائم.

فسلام على الحسين يوم عطَّر الأرض بمولده , ويوم أيَّد الحقَّ بمهجته , ويوم يبعث حياً نقيَّ السريرة طاهر الضمير.

إذن يجدر بنا أيُّها السادة أن نقف برهة وجيزة حداداً على تلك النفوس الزكية الطاهرة.

عبد الرزّاق العائش

* * *

١٤٤

نظرة في حياة الحسين (عليه‌السلام )

فيصل جريء السامر

كانت حياة الحسين (عليه‌السلام ) منذ مستهلَّها حتّى ختامها جهاداً شاقّاً عنيفاً في سبيل الوصول إلى المثل الأعلى , وكفاحاً مريراً ضدَّ أهواء المجتمع والسياسة , ونزوعاً دائباً مستمرّاً إلى إحقاق الحقَّ , وإزهاق الباطل , وإقامة العدل , وإقرار مبادئ الدين الحنيف.

ذلك أن الفترة الَّتي عاش إبّانها شهدت فيما شهدت انفصال الدين عن السياسة , وظهور طائفة من المسلمين ضعف إيمانها , وأسفرت مطامعها , وألقت بالتقاليد الإسلاميّة وراء ظهرها , واستخدمت المكر والدهاء , والمال والعطاء للوصول إلى غاياتها. والحقيقة الَّتي لا شكَّ فيها أنَّ الخلافة كانت اُولى المسائل التي فرَّقت المسلمين ومزَّقتهم طوائف وأحزاباً.

ويهمُّنا هنا أن نكتفي بالإشارة إلى الاصطراع الخزي العنيف الذي دار بين العلويِّين من ناحية , والاُمويِّين من ناحية اُخرى , يؤيد كلُّ فريق وجهة نظره بحجج لا نريد أن نذكرها ؛ لأنَّ التأريخ نفسه قد أصدر حكمه فيها.

كان مركز بني اُميَّة في الشام , حيث موثَّرات الحضارة البيزنطيَّة الَّتي أدَّت إلى تغير مفاهيمهم لنظام الحكم ؛ إذ لم تلبث الخلافة الدينيَّة الانتخابية أن غدت نظاماً ملكيّاً وراثيّاً , وأخذ الخلفاء يضعون بينهم وبين الرعيَّة سدوداً وقيوداً تذكّر بما كان يفعله القياصرة والأكاسرة من طغاة الروم والفرس.

أين البَساطة السمحة المحببَّة الّتي شرعها الرسول الأعظم ؟

أين المساواة الرائعة بين الخليفة وأي فرد من الشعب ؟

أين عهد الخلفاء الاُوَل يوم كانوا يحاسبون أنفسهم حتّى على خلجات صدورهم ؟

أين نفحات الإسلام العطرة الّتي ملأت الأرض نوراً وعدلاً وبهاء ؟ أين كلُّ هذا وذاك ؟ لقد درس وعفا , وحلَّت محلَّه اُبَّهة الملك , وفخفخة السلطان , وهفيف الحرير , وبريق الذهب.

هذا في الشام , أمّا الحجاز مركز الإسلام الأوَّل فكان ما يزال يحيا على ذكريات السلف الصالح , وينطوي على حنق مكتوم وغيظ مكظوم كلَّما مدَّ بصره عبر الفيافي والقفار إلى العاصمة الصاخبة باللهو , والرافلة بالنعيم ؛ فليس بعجيب إذاً أن تزخر مكة والمدينة بحركة معارضة قويَّة يقودها الحسين بن علي (عليه‌السلام ) , وليس بعجيب أن تتجمع في الاُفق بوادر عاصفة مكتسحة تدلهمُّ , وتنذر النظام القائم بالويل والثبور.

١٤٥

لقد أحسَّ الاُمويُّون بهذه الأزمة الّتي تهدَّد كيان الدولة في الصميم , فحاولوا عبثاً أن يجذبوا الحسين إلى صفوفهم, أو يكسبوا صمته وحياده على الأقل ؛ ذلك أن الضمائر الحيَّة تأنف بمداراة النفاق , وتسلك بفطرتها السليمة طريق الحقَّ الناصع المستقيم , والنفوس الأبيَّة لا تتجاهل الباطل , بل تشير إليه صراحة , وتحاول أن تزيله حتّى لو أوردها ذلك المهالك.

وهنا في مثل هذه الأحوال يكون المحكُّ لبني الإنسان , أمّا أصحاب المثل العليا فأنصار للحقَّ مهما كان محفوفاً بالخطر , وأمّا أصحاب المطامع الدنيا فأتباع للباطل ما دام في ركابه الجاه والمال والسلطان.

هذه الحقيقة المرَّة تفسَّر لنا لمَ كانت القلَّة مع الحسين (عليه‌السلام ) والكثرة مع يزيد ؛ فقد أفلحت سيول الذهب والفضة , وأساليب التهديد والإرهاق في شراء الضمائر , وتكميم الأفواه , وإفساد الذمم إلّا الحسين وصحبه الكرام؛ فقد بقوا صخرة شمّاء تحطَّمت عليها كلُّ محاولة من هذا القبيل.

وبعد , فمن هو الحسين ؟ ومن هو يزيد ؟ أمّا الحسب والنسب [فظاهران معروفان](١) , وأمّا الأخلاق وخصائص الشخصيَّة فهي الميزان الحقُّ لكلَّ إنسان.

كان الحسين (عليه‌السلام ) عالماً خطيباً , حكيماً جواداً , وفيّاً شجاعاً , أمّا مزاجه النفسي فبلغ الكمال في لطف الحسن , وسموَّ الذوق , والعظة والتقوى , وكان يزيد بإجماع المؤرّخين خَدِين كأس وطاس , قسَّم وقته بين الشراب والعربدة وممارسة الصيد , وبين رياضة الكلاب والقرود , يلبسها الحرير ويحلَّيها بالذهب والفضة , في حين نفض يديه من شؤون الخلافة وسياسة الرعيَّة.

فالحسين إذن يشرف على الأرض من ذرا الأخلاق وقمم الفضيلة , ويزيد يدبُّ على الأوحال فلا يستطيع أن يرتفع بنفسه وبسيرته عن رغام الرذائل ودرك الموبقات.

وموجز المقال في خروج الحسين (عليه‌السلام ) أنه لم يكن طلباً للسلطان ورغبة في المجد الدنيويّ , بل كان سعياً محموداً لشل البيعة [الهرقليّة](٢) وتحقيق المبادئ الإسلاميّة. والصراع بين الطرفين هو صراع بين المثل العليا في روعة صفاتها ونقائها , وبين السياسة الميكافيليَّة الوصوليَّة.

أمّا نتيجة هذا الصراع فكانت طبيعيَّة ؛ لأن وقوف عشرات الرجال [الذين](٣) حرموا الراحة والطعام والماء أمام آلاف مدججين بأحسن الأسلحة , تسندهم دولة ذات صولة وجولة , ضرب من الخيال , خاصَّة والحرب لم تكن على طريقة المبارزة القرويَّة , بل وفق

____________________

(١) في الأصل : (فظاهر معروف).

(٢) في الأصل : (الرقلية) ، وما استظهرناه هو الأقرب للصَّحة , ففي إشارة إلى وراثة الملك.

(٣) غير موجودة في الأصل , والإضافة يقتضيها السياق.

١٤٦

الهجوم الجماعي , وهنا تكون الغلبة للأكثرية مهما بلغت من الجبن وضعف العزيمة.

هذه هي النتيجة المادَّيَّة القريبة , لكن النتائج المعنويَّة البعيدة لم تلبث أن بدت للعيان إثر موقعة كربلاء بفترة غير طويلة حين لقي قتلة الحسين شرَّ مصير , وأخذت دولة بني اُميَّة تنحدر إلى السقوط انحداراً سريعاً حتّى غدت أثراً بعد عين.

وها قد مضت مئات السنين دون أن تنسى الأجيال حادث كربلاء الَّذي ما زال يُذكي الهمم , ويوقظ في النفوس الإنسانية أسمى معاني الجهاد في سبيل الحق.

بقى علينا أن نستلهم من هذه الذكرى الخالدة ما يُنير حاضرنا , ويرسم مستقلبنا , ويؤدَّي باُمتّنا إلى الاتَّحاد والانسجام ؛ لأن الحسين (عليه‌السلام ) لم يستشهد إلّا في سبيل وحدة الاُمَّة الإسلاميّة وعزَّتها , وما أحوجنا اليوم إلى هذه الوحدة !

فيصل جريء السامر - البصرة

١٤٧

العقيدة الخالدة

الدكتور قيصر معتوق

كُفّي عن الدمع بنت الوحي واكتحلي

وألبسي الجيدَ سمر الحلي والحللِ

وطوَّفي في زوايا الخلد سيدةً

تراشق الحور بالأهداب والمقلِ

وأولمي في رياض الخلد داعيةً

أهل الجنان وآل البيت واحتفلي

وخفَّفي عنك واجلي الغمَّ مشرقةً

فلست ثكلى ففيم الأخذ بالثكلِ

فالعين ثكلى على ميْت تفارقه

ولا على من هو الأنوار في الطفلِ

ويندب المرء مَن غابت معالمه

لا من يحلّ صدور الخلق في غفلِ

فأخرجي من ذرا التأريخ منطمراً

يحدَّث الخلد عن أحداثك الاُولِ

وأطلعي في صدى الأجيال مفخرةً

تجول بالعصر بين الأمس والأزلِ

واستخلصي عبرةً في يثربَ استترت

بين الحطيم وبئر الماء والجبلِ

وبيّني السرَّ فيما يثربُ انفردت

تدرُّ بالمنَّ والألبان والعسلِ

وأوضحي مقصداً للحرب يحسبها

مسّاً من الجنَّ أو ضرباً من الخبلِ

وفرَّقي بين ذئب قاتلٍ حَمَلاً

وقتلِ ذئب سطا للفتك بالحملِ

واستطلعي موجة الأفكار من اُمم

والبين ينعى بكوراً خيرة الرسلِ

فاحني عليها وقد أبقت لميّتها

أبا تراب جثيّاً بين مغتسلِ

والعدل يشهد والوجدان عن ثقةٍ

أنّ الكرامة بين المصطفى وعلي

لكنّها في ضلال السوء صاغرة

آلت إلى الشام في ضرب من الحيلِ

فاستحكم الظلم واشتدت عوامله

وأطبق العيش بالأبواب والسُّبلِ

وخيَّم الفسق في حكم دعائمُه

تقوم بالوعد والتسويف والدجلِ

دبَّ الفساد من الأجسام منتقلاً

إلى المبادئ والأفكار والمثلِ

وأبطل الهزء بالآيات حكمتها

حتّى استعاض بكأس الخمر والغزلِ

وانبثَّ في العرب من بدو ومن حضرٍ

روح التذمر والإهمال والمللِ

فأحوج الأمر والفوضى إلى رجلٍ

يقضي على الشرَّ والأشياع والنحلِ

١٤٨

وينقذ الاُمَّة المنكودَ طالعُها

ويطلق الحرّ من منفىً ومعتقلِ

وفتَّش الحقَّ عمَّن نحو صاحبه

يسدِّد الضربة القصوى بلا خطلِ

مَن غيرُ فاطمة مَن أنجبت رجلاً

يقوم في الساعة السوداء في الثقلِ

فهو الحسين حفيد الوحي مَن وَجدتْ

فيه العقيدة كلَّ القصد والأملِ

وهو الحفيد لجدَّ العرب قاطبة

وهو الخليفة في حقَّ بلا جدلِ

ألقت عليه وشاح الوحي فاطمة

حتّى يعين الفتى في خطبه الجللِ

وسار طوعاً وشطر الشام قبلته

ينساب في البيد من واد إلى قبلِ

ما داس أرضاً بل الإيمان أركبه

إلى الجهاد عنيف غير محتملِ

لم يسأل البيد عمّا في مخابئها

ممّا ستوقعه الأقدار بالبطلِ

فكان يعلم ما توحي رسالته

فحيث تبدأ يبدو منتهى الأجلِ

من السلاح له في الصدر معتقدٌ

وفي ذراعيه ما في الزند من عضلِ

فأقبل الشرُّ في جيش يعزّزه

ليقهر الخير توّاقاً على عجلِ

ما ارتدَّ لـمّا رأى البهتان يقصده

وارتدَّ يصمد للتيّار في جذلِ

وطوَّق البؤس آمالاً معلَّقة

بعبقريًّ شديد حازمٍ عزلِ

فاستلزم الحال والوجدان تضحية

وضاقت الحيلة الدهياء بالرجلِ

إنّ العقيدة إن يسلمْ هو اندثرت

وتزدهي إن يمت في وطأة الصقلِ

فصاغ في الحال آل البيت قنبلة

تدكُّ دكّاً أساس الغدر والدخلِ

وصار لُغماً بصرح المكر منفجراً

يطوَّح الصرح بالطغيان والزللِ

شقَّت شظاياه صدر الكون نافذة

تصلي الضمائر بالأخطار والشعلِ

* * *

لولا ضحيَّة حملان مسالمة

لا يفهم الناس ما للذئب من عملِ

ضحّى الحسين بنفس عزَّ مطلبها

لينسف الظلم بالبرهان والمثلِ

والمرء يقضي لكي تحيا عقائدُه

والأخذ بالظلم يُفني أعظم الدولِ

الدكتور قيصر معتوق - البصرة

* * *

١٤٩

يوم الشهيد

السيد عبود شبر

في البدء خلق الله السماوات والأرض , وشاء أن يجعل من الأرض جنّة تزدهر بها الجنان ؛ فأوجد روحاً , وأوجد من تلك الروح حركة , فكانت تلك الحركه كائناً حيّاً. ثمَّ دفع بذلك الكائن الحي إلى هذا العالم المترامي الأطراف , فانجذب نحو الأرض بفعل جاذبيتها ؛ فصُقل واُودع كلَّ صفات الكائن الحي , فكان إنساناً قيل فيه :

اتحسب أنك جِرمٌ صغير

وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

ثم زجَّ الإنسان بنفسه في تيّارات هذا العالم , فتزوَّج وأولد , فصار الإنسان إنسانين , وكان الخير وكان الشرُّ. وكانت للشرَّ قوىً وللخير قوىً مثله , واندفعت قوى الشر نحو قوى الخير مصوَّبة سهامها لتمحقها من الوجود , ووقفت تلك بدورها وقفة البطل لترد السهام ؛ فكانت الرذيلة وكانت الفضيلة , وكان أن انبثق من هذين الضدَّين دعاة لكلًّ منهما.

وسار الدهر سيره المعكوس ؛ فإذا بدعاة الرذيلة ينتصرون فيشمخون باُنوفهم , وأنصار الفضيلة يندحرون فيتساقطون في ميدان الشرف والمروءة ليكونوا الشهيد. وبينما الشهيد يندفع نحو ربَّه راضياً مرضيّاً إذا بنسيم الكرامة يهبُّ من بيت الفضيلة على شكل صوت ناعم رقيق ينبعث من بين جدرانه منشداً أعذب نشيد ردَّدته الأجيال :

يوم الشهيد تحيَّة وسلامُ

بك والنضال تؤرَّخ الأعوامُ

هنالك يشتدُّ الصراع بين قوى الخير وقوى الشر , وتكون نتيجة ذلك الصراع إظهار الخير بصورة بطل , ويكون ذلك البطل الشهيد.

ثمَّ يهبُّ نسيم الخير مرَّة اُخرى من بيت عربيًّ هاشميًّ كريم يُشتمُّ منه عبير الكرامات , فيتمثل ذلك الشهيد شخص إنسان , ويكون ذلك الإنسان أبا الشهداء الحسين بن علي (عليه‌السلام ) سيد الشباب وعميد البيت الهاشمي الرفيع.

وقصة الحسين (عليه‌السلام ) معروفة لدى الجميع , وثورته باقية ذكراها ما بقي التأريخ. على أننا ونحن نستعرض هذه القصَّة الخالدة يحقُّ لنا أن نفهم ما إذا كان الحسين محقّاً عندما رفض مبايعة يزيد أم كان مخطئاً , ولِم ثار على حكمه مع علمه بقوَّته وكثرة أنصاره ؟ وهل نجحت ثورته ؟ وما هو الدرس الّذي يجب أن نتعلَّمه من هذه الثورة ؟

من المعلوم أن الدعوة الإسلاميّة الّتي انبعثت من البيت الهاشمي الرفيع قام بها النبيُّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) جدُّ الحسين (عليه‌السلام ) ، وكافح في سبيل تركيزها الإمام عليٌّ أبو الحسين (عليه‌السلام ) , فبطبيعة الحال يكون المنتسبون لهذا البيت وبالأخصَّ الحسين أحرص الناس على رعاية هذه الدعوة.

١٥٠

ولما اغتصب الاُمويُّون الخلافة وأودعوها إلى يزيد بن معاوية المعروف بنزقه وطيشه وانحرافه عن الطريق الّتي رسمها المشرع الأكبر , رأى الحسين (عليه‌السلام ) - بصفته عميد الهاشميين , ووريث صاحب الدعوة الإسلاميّة - بأنه أصبح شرعاً مسؤولاً عن حياض الإسلام.

أضف إلى ذلك أن الأكثريَّة من زعماء المسلمين من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )المقرَّبين طعنوا بخلافة يزيد , وثارت بعض البلدان الإسلاميّة وفي مقدَّمتها العراق فرفضت البيعة , وكتبت إلى الإمام الحسين مبايعةً إيّاه , وطالبة منه القدوم إليها. فلم يكن إذن للحسين(عليه‌السلام ) من بدًّ إلّا أن يلبَّي دعوة الداعين ويثور على يزيد.

ولـمّا لم يكن الحسين من الساعين لأخذ الحكم حبّاً بالحكم ذاته , بل ليجعله واسطة لنشر لواء الفضيلة ومحاربة الرذيلة , وإنه بناء على ذلك لا يريد أن يفرض نفسه على الناس فرضاً كما يفعل الكثير من صغار النفوس ممَّن تمكّنت في نفوسهم شهوة السلطة من الحكّام الطغاة , بل ليترك للناس الفرصة للتفكير بمن هو أصلح للحكم بالرغم من إلحاح أهل العراق وغيرهم عليه بالقدوم , فقد تأخَّر , وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل ليستطلع آراء القوم , فأضاع بذلك عامل المباغتة الَّذي يعرفه العسكريون اليوم في الوقت الَّذي تمسك به خصمه وخسر بذلك المعركة عسكرياً.

وبالطبع ليس المهمُّ أن يخسر صاحب أيَّة فكرة المعركة أو يربحها عسكرياً , بل المهم أن يربحها معنوياً , وأن يصل إلى الغاية الَّتي يريدها حتّى ولو ضحى في سبيل ذلك بنفسه. وقد كان للحسين ما أراد.

صحيح أن الحسين (عليه‌السلام ) قد قُتل هو وأصحابه , وأن العدوَّ قد مثَّل بأجسادهم , ولكن نار ثورة الحسين لم تخمد , وقد بقيت مشتعلة حتّى هدمت الظلم والجور , وعلَّمت الناس كيف يكون شهيد المبدأ , وكيف تموت الرجال.

لقد هدم الحسين (عليه‌السلام ) بثورته ملك اُمية , وثلَّ عرشهم , وأقضَّ مضاجعهم , بل وحتّى بيتهم العتيد قد قضى عليه وهدمه معنوياً , وجعله لا يذكر إلّا واللعنة مقرونة به.

وأنت ترى الآن أن كلَّ فرد تقريباً من العرب والمسلمين يشرَّفه أن ينتسب للبيت الهاشمي , بل ويشرَّفه أن يكون خادماً لهم , ولكن هذا الفرد لا يشرَّفه أن ينتسب للبيت الاُموي. وأنت ترى أيضاً أن الحسين ما ذكر اسمه إلّا وصلّى الناس وسلموا عليه , وما ذكر اسم يزيد إلّا وصُبَّت عليه اللعنات كما تصبُّ على إبليس الرجيم.

ولم تمرَّ إلّا أيام معدودات على مصرع الحسين (عليه‌السلام ) حتّى ثار دعاة الفضيلة من أنصاره على الحكم الاُموي , وثأروا للكرامة الهاشميَّة المضامة الثأر الأليم , فقضوا على كل اُموي , وأجهزوا على الجرحى من فلولهم , ونبشوا الدوارس من قبورهم , فمثلوا بالعظام الرميمة , وجاؤوا بأشلاء بعضهم فأطعموهم النار الحامية , وذرُّوها في الريح العاصف رماداً حقيراً.

١٥١

تلك عاقبة كل متعنَّت لا يعير أمر الشعب اهتمامه , ولا يحسب لثورته أي حساب. فأيّة ثورة نجحت كثورة الحسين ؟ إن أنصار الفضيلة سيظلُّون يذكرون الحسين ما بقي الدهر , وسيظلُّون يستقبلون المحرم بلَدم الصدور بالأكفَّ , وضرب الظهور بالسلاسل , وسيظلون يحملون تلك الشعارات الممجَّدة لثورته , ويردَّدون تلك الأناشيد المشيدة بفضله وإيمانه , لا لأن ذلك ممّا يزيدهم ثواباً فحسب , بل ليثبتوا لكلَّ مارق أثيم وطاغية لئيم بأن أصحاب المبادئ لا يموتون , وأن دم الشهيد لا يضيع.

بقى علينا أن نعرف ما هو الدرس الَّذي نتعلمه من تضحية الحسين هذه ؟ إن الاُمَّة العربيَّة المضامة , والّتي طُعنت بكرامتها في هذه الأيّام , يجب أن تتعلَّم من ثورة الحسين دروساً في الإباء ونكران الذات , دورساً في الفناء والتضحية في سبيل المبدأ. يجب عليها كي تستعيد كرامتها الَّتي هدرت أن تتمثَّل بالحسين , وأن تقف بشبابها وشيبها صفّاً واحداً تاركة جميع الاعتبارات الموضعية , ومندفعة نحو هدفها.

يجب علينا نحن العربَ والعراقيين على الأخص , الَّذين تشرفت تربة بلادنا بضمَّ جسد الحسين أن نجعل من ذكراه حافزاً لنا لضمَّ الصفوف , ومحاربة كلَّ نعرة هدّامة من شأنها تمزيق وحدتنا في مثل هذا الوقت العصيب الَّذي أخذت به قبور الطامعين تتحرَّك فتنبعث منها رائحة نتنة هي رائحة الطائفيَّة البغيضة.

إنّي اُهيب بشباب العراق الواعين جميعاً أن ينبذوا كلَّ نعرة مفرَّقة , ويحاربوا كلَّ دسّاس أثيم , ويلتفُّوا حول وارث عرش المجد النبوي , وحفيد السبط الشهيد سيّدنا المليك المعظم , ليكونوا يداً واحدة , وليهتفوا دائماً وأبداً :

وإنّ الاُلى بالطفَّ من آل هاشمٍ

تأسَّوا فسنُّوا للكرام التأسَّيا

عبود شبر

١٥٢

يا ثائراً للحقِّ

رشيد مجيد

رشيد مجيد ١٩٢٢م

* شاعر وفنان.

* ولد في الناصريّة.

* ترك الدراسة الرسميّة وأنصرف للأدب والشعر. من دواوينه المطبوعة :

١ - بوابة النسيان ١٩٧١م.

٢ - وجه بلا هويّة ١٩٧٣م.

٣ - يحترق النجم ولكن ١٩٨٥م.

* كتب المسرحيّة والمقالة والتعليق الأدبي.

١٥٣

يا ثائراً للحقِّ(١)

رشيد مجيد

عبثاً يعبَّر عن مُصابك مرقمي

فلقد ذوى سحرُ الترنُّم من فمي

وتحطَّم القيثار بين أناملي

وشكا إليَّ بحيرة وتلعثم

ما لي عييت عن النشيد وطالما

روَّيت هاتيك الملاحن من دمي

ماذا أقول وقد وجمت من الأسى

إذ دونما أصبو إليه ترنُّمي

كلا ولا الطير المغرَّد منشدٌ

فلقد بدا في صمته كالأعجمي

حيران يرسل طرفه في غمرة

لا تنجلي من محنة وتألُّم

يرنو إلى الاُفق المخضَّب ساهماً

يتلو سطوراً في السماء من الدم

فالأرض ثكلى والسماء كئيبةٌ

وهناك في الأجواء رنَّة مأتم

خطبٌ يجوس الأرض هول ظلامِه

ويجوس أعماق الوجود بأظلمِ

يوم به وقف الحسين بكربلا

من اُمَّة تاهت ببيعة مجرمِ

حيث انتضت والحقد يملؤها لظىً

سيف الخيانة في يد لم تسلم

إذ بايعته على الخلافة في يدٍ

نعمت ملامسها كجلدة أرقم

فمضت تشنُّ وما سوى أحقادِها

حرباً تبدَّدها انتفاضة ضيغم

قد خاضها بأعزِّ ما ملك امرؤ

دنياه من مال ومن طفل ظمي

(فهوى وفي شفتيه بسمةُ ظافرٍ)

ذهبت بثغر اُميَّة المتبسم

* * *

____________________

(١) وقد ألقاها بالنيابة الأديب عبد الحسين المهدي.

١٥٤

انتفاضة السبط عبرة وذكرى

جواد عبد الأمير الهاشمي

أيُّها السادة , تمرُّ الأجيال وتنصرم الدهور , وهذا اليوم الخالد يوم عاشوراء يُلقي على مسمع الزمن عظاته الغالية, ويلقَّن الأجيال بأنّ الحياة مهما كانت عزيزة يتعلَّق بها المرء ويغترف من لذائذها ؛ فهي تافهة لا تعادل شيئاً لدى النفوس الكبيرة إذا تعارضت مع مبادئها وحادت بها عن مثلها العاليا وعقائدها المقدَّسة.

وفي غمرة هذه الأطماع والأنانيّات الَّتي يتخبَّط البشر في ظلماتها , وفي هذا العالم الصاخب الَّذي تتقاذفه تيّارات الشهوات والأهواء الرخيصة تُطلُّ علينا هذه الذكرى. ذكرى بطولة السبط وتضحيته من وراء حقب الأحداث والتضحيات , وهي محاطة بهالة من التقديس والإجلال للشهيد الَّذي ضرب أروع الأمثلة في التضحية والمفاداة في سبيل المبدأ والعقيدة , فكان بطلاً من أبطال الإنسانيَّة وروّادها , وحملة مشاعلها في هذه الحياة.

يطلّ علينا يوم الطفّ - أيّها السادة - والعرب والمسلمون قد لعبت بهم الأهواء , وتقاذفتهم النكبات والويلات, وامتحنوا أقسى امتحان في مراحل تاريخهم الطويل , وقد نأت نفوسهم عن هذه المبادئ السامية والمعاني القدسيَّة الّتي ضحّى من أجل بقائها والحفاظ عليها صاحب هذا اليوم الأغرّ بنفسه وآل بيته وصحبه.

ونحن إذ نستعرض هذه الذكرى بقلوب خاشعة ونفوس مكلومة ينبغي أن نغترف من فيضها القدسي , ونتزوَّد من معين عطائها الّذي لا ينضب دروساً تمهَّد لنا سبيل الكفاح لمقارعة الظلم والطغيان , ونيل حقوقنا كاملة في هذه الحياة القاسية الّتي لا يكتب فيها العزُّ والسؤدد إلّا للقويّ.

أجل أيُّها السادة نحن في أمسَّ الحاجة في هذه الفترة من حياتنا العصيبة القلقة , نستلهم تاريخنا , ونخلَّد ذكرى أمجادنا وبطولاتنا , وما بطولة الحسين (عليه‌السلام ) إلا في طليعة بطولاتنا وأمجادنا , بل هي في طليعة البطولات الّتي شهدتها الإنسانيَّة في سيرها , وسجَّل سيرتها التأريخ بصفحات مشرقة خالدة على الدهر.

فلا تأبه الاُمم بصفحات مجدها وبسِيرَ أبطالها ومثلهم العليا لاستدرار الدموع وإثارة الابتهاج , وإنما هي تستخلص من تأريخها عبراً ودروساً غالية تنير لها دياجير الحياة , وتلهمها لناشئتها وأفراد جيلها الجديد ليمضوا على هديها , ويتَّخذوا من مظاهر بطولاتها مثلاً عليا , وقدوة حسنة في الحياة , فيؤدي التأريخ بذلك رسالته للشعوب بربط ماضيها بحاضرها , وإنارة سبيلها لتشييد صرح مستقبلها المنيف.

وعلى ضوء هذا التعريف لرسالة التأريخ يجب أن نحيي ذكرى سيّد الشهداء (عليه‌السلام ) ، ونخلَّد تعاليمه ومبادئه في قلوبنا , وننشر بين طلائع الجيل مثله العليا لتهتدي النفوس , وترعوي القلوب , وتعفَّ الضمائر بعد أن طغت الأنانيّات على المجتمع , واستحوذت الشهوات الدنيّا والمطامع الزائلة على الناس.

١٥٥

أيُّها الحفل الكريم , لقد جاء الإسلام هدىً للناس ورحمة للعالمين , تعهَّده الرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وخلفاؤه الراشدون من بعده , فأخرج الناس من الظلمات إلى النور , وطهَّر النفوس من أوضارها , وأزال عنها عادات الجاهليّة الاُولى وأطماعها.

ولكنَّ الله تعالى لحكمة أرادها امتحن النفوس بمحنة الإيمان ؛ ليظهر للناس زيف الّذين اعتنقوا الإسلام لا حبّاً به وإجلالاً لتعاليمه , وإنما هي النفوس الصغيرة الّتي تتَّخذ الدين وسيلة لأطماعها وشهواتها في الحكم والسلطان.

فما كاد أن يلقى الخليفة الرابع (عليه‌السلام ) وجه ربَّه قتيلاً على يد أفّاك من مجرمي الإنسانيَّة المنكودة بأبنائها الضالين, وتحلَّق روحه الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية , ثمَّ يمضي الزمن سراعاً إلّا ويُمتحن الإسلام بهذه النفوس الّتي جرَّت عليه محناً وانتكاسات يسجّلها التأريخ ملطَّخة بالخزي والعار.

وكانت خلافة يزيد على المسلمين وتحكُّمه في اُمورهم الدينيَّة والدنيويَّة , وهو المعروف بانغماسه في الشهوات وميله إلى اللهو , سبباً مهمّاً في تطلُّع الناس إلى الزعيم الديني المصلح.

فمن هناك غير الحسين بن علي (عليهما‌السلام ) الزعيم الروحي الَّذي تتطلَّع إليه القلوب وتهفو له الأرواح ؟ ومَن أحرص على تنفيذ تعاليم سيّد المرسلين (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من آل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ؟ ومن أكثر إقداماً على التضحية من أجل الدين الحنيف من حفيد المصطفى وسيّد شباب أهل الجنَّة ؟

إنّ التهديد لا يفتُّ في عضد سبط الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ليطيع أوامر يزيد ويرضخ لبيعته كما رضخ غيره , وإن الدنيا ومظاهرها الكذّابة لا تخدع الحسين فينصرف عن حماية دينه ومقارعة الظلم والبغي والطغيان ولو كلَّفه ذلك الاستشهاد.

حاشا لله أن يرضخ ابن البتول لتهديد الباطل ووعيده , أو أن تحول بهارج الدنيا ولذّاتها بينه وبين صلابة مبدئه وقوَّة عقيدته , وهو القائل : (( والله , لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل , ولا اُقرُّ لكم إقرار العبيد , وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة , والحياة مع الظالمين إلّا برماً وسأماً)). حاشا لله أن يحيد ابن فاطمة عن مثله العليا وهو الّذي تربّى بين أحضان النبوَّة , وتشرَّبت روحه بفيض الإيمان.

١٥٦

إنّ الأحداث الجسام - سادتي الأفاضل - محكُّ الرجال , تظهر منها صلابة عقائدهم وسموُّ مكانتهم في الحياة. ولقد كان أمام سيّد الشهداء (عليه‌السلام ) طريقان لا ثالث لهما ؛ إمّا أن يذعن ليزيد ويركن لبيعته فيكون قد هدم الإسلام وأقرّ الظالم في ظلمه , وإمّا أن ينكر على يزيد خلافته الّتي خرقت تعاليم الإسلام ويعلن تمرُّده على يزيد , ولا مفرَّ له من مجابهة جيوشه الزاحفة بنفر قليل من آل بيته وصحبه. وقد كان.

فما أعظم بطولتك يا أبا عبد الله ! وما أكبر استشهادك في إعلاء كلمة الحق ! وما أحوجنا يا سيّد الشهداء ونحن في غمرة هذا الليل البهيم من المشاكل والأزمات إلى قبس من نورك يبدَّد عن النفوس أنانيَّتها وأطماعها , ويجمع كلمة العرب والمسلمين ليجاهدوا في سبيل مبادئهم كما جاهدت , ويدفعوا عن حياضهم الظلم والطغيان ! فسلام عليك وعلى آل بيتك المطهّرين , وصحبك الغرَّ الميامين ورحمة الله وبركاته.

عبد الأمير الهاشمي - البصرة

١٥٧

شهيد المبدأ

كاظم السوداني

( وَلا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللهِ أَموَاتاً بَل أحيآءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ ) (١)

صدق الله العلي العظيم

أيُّها الحفل الكريم , لست مبالغاً أو مغالياً لو قلت : إنّ لساني القاصر ليعترف بالعجز أمامكم عن التعبير بكلَّ ما تجيش به نفسي من آلام الحزن لهذا المصاب الجلل , والخطب الهائل الّذي نزل على الاُمَّة الإسلاميّة نزول الصاعقة المهلكة , فترك قلوباً ينهشها الحزن , وأكباداً يفتَّتها الألم , وأنّات عميقة ملؤها الأسى والأسف.

وليس بالكثير حقّاً إذا نُكَّست أعلامنا في مثل هذا اليوم الأسود الكئيب , وليس بالغريب إذا ما وجمت قلوبنا , وخرست ألستنا , وجفَّت أقلامنا حزناً لمصابنا الفادح لنصير الحقَّ ورجل الرحمة , وعدو الظلم والاستعباد.

ولئن اعتاد الخطباء في مثل هذه الحفلات التأبينيَّة أن يذكروا حياة ذلك البطل الشهيد (عليه‌السلام ) ، ويعدّدوا محاسن أعماله وحميد صفاته , فإني لا اُتابعهم في ذلك ؛ لأن شمس أعماله الخالدة المجيدة لا تزال مشرقة في سماء الكون الشاسع, ساطعة في أرجاء العالم وأنحائه.

فمَن منا أيُّها السّادة يجهل الحسين بن

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٦٩.

١٥٨

علي (عليهما‌السلام ) الَّذي طرق سمعَه صراخُ أبناء الاُمَّة الإسلاميّة واستنجادُهم في عهد بطل العبوديَّة يزيد بن معاوية , فهبَّ بحماس شديد لكي يردَّ إلى قلوب الصارخين الطمأنينة والاستقرار.

وقام ملبَّياً نداء طالبي النجدة من أبناء تلك الاُمَّة الَّتي عصف الظلم براحة أبنائها , ونسف الجور كيانها , وطغى الاستبداد والاستعباد على نظام الحياة والعيش فيها , وأسرع بدون مبالاة بقوَّة الباطل وجبروت خصمه , متخذاً من إيمانه بالمبدأ وعدالة قضيته سلاحاً قويّاً , وعدَّة كافية للوقوف بوجه الطاغية يزيد وأنصاره ؟

ومَن منا أيُّها السادة ينكر تضحية الحسين بن علي (عليه‌السلام ) وصبره واستمراره في المطالبة بإعادة الحقَّ إلى نصابه , وتقويض أركان الباطل الّتي شيَّدها اُناس شاءت الظروف القاسية أن يشيدوها ؟

ومَن منا ينكر ذلك الموقف الرهيب الّذي وقفه بعدما صُرع أنصاره وأفراد عائلته الواحد تلو الآخر , وهو يصفُّ الجثث الواحدة جنب الاُخرى , رابط الجأش , مبتسم المحيّا , متخذاً من إرادته القويَّة وإيمانه بقدسية رسالته معيناً عذباً ينهل منه ما يشاء في سبيل الثبات بوجه الطغاة المعتدين ؟

ولكن - ويا للدهر الغاشم ! - غزته المنون القاسية فأردته صريعاً دون أن تمهله ليتمَّ الواجب الّذي تطوَّع من أجله. وتلك هي اُمنيته الغالية لكي يغسل بدمائه الزكيَّة تلك الأرض الَّتي لوَّثتها فئة يزيد وعصابته بأعمالها الجائرة وأفعالها المقيتة الغاشمة , وليجعل من قضيته النبراس المضيء أمام أبناء جنسه الآخرين ليهتدوا بما فيها من دروس وعبر, وليسيروا على الخطوات الّتي سار عليها , وليقتدوا به ليؤمنوا بجلال التضحية في سبيل المبدأ الَّذي ضحّى من أجله بروحه.

فعلينا والحالة هذه الاقتداء وأخذ العبرة من قضيَّته ؛ لأنّ روحه الطاهرة ما زالت ترفرف في سماء الكون الأزلي , وما فتئت تطيل إلينا النظر وترعانا لعلنا نحقَّق ما أراد , ونتوصَّل إلى ما ابتغاه , والسلام عليكم.

كاظم السوداني

١٥٩

الذكرى الخالدة

كاظم مكّي حسن

في ركبك المجد أنّى سرت والهممُ

وفي حماك أقام الفضلُ والكرمُ

ولم تزل لك في الأجيال دائرةً

ذكرى يردَّدها من ذا الزمان فمُ

يا ناصر الحقَّ لـمّا قلّ ناصرُه

وحاميَ الحُكْم لـمّا استهتر الحَكمُ

وراعي العدل لـمّا بات مغترباً

فكان فيك له أمنٌ ومعتصمُ

بعثت للدين والدنيا صلاحهما

وفي صلاحهما الخيراتُ والنعمُ

كنت الزعيم لأحرار شعارهمُ

عيشُ الكرامة في الدنيا أو العدمُ

رأوك أشجع من يدعو وأخلص من

يهدي وأرحم من للحقَّ ينتقمُ

ونهضة لك ضمَّت كلَّ مكرمة

بيضاء كان بناها للخلود دمُ

يمضي الزمان عليها وهي خالدةٌ

فلا زوالٌ ولا شيبٌ ولا هرمُ

جديدة وكفاها روعة وعُلا

وعزَّة أنت فيها المفرد العلمُ

لم يثنِ عزمَك عنها أنها رهقٌ

وشدَّة واغتراب كله ألمُ

ولم ترُعْك رزاياها الّتي عظمت

في الطفَّ هولاً ولم تقعد بك الأزمُ

فغاية البطل المقدام تحمله

على الشدائد يلقاها ويبتسمُ

فلا يقرُّ له جنب على ضِعة

ولا تسير به في ذلَّة قدمُ

فتحت بالصبر والإيمان ما عجزت

عن فتحه بقواها هذه الاُممُ

وشِدت بالحزم والإقدام مملكة

تراجع الجور عنها وهو منهزمُ

فلا يزول لها حكم وقد بُنيت

على دماك ولا يُطوى لها علمُ

زالت ممالك مَن ساموا الورى عنتاً

وخرَّ سلطان من جاروا ومن ظلموا

وحطَّم العسف تيجاناً به رُفعت

وأهلك البغي أرباباً به حكموا

فذاك ذكرهمُ بالعار مقترنٌ

وذا كيانهمُ بالجهل منهدمُ

وظلَّ ذكرك نوراً للورى وهدىً

يُمحى به الظلم أو تُجلى به الظلمُ

١٦٠