يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)0%

يوم الحسين (عليه‌السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 206

  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28186 / تحميل: 3782
الحجم الحجم الحجم
يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)

مؤلف:
العربية

يجري مع الدهر جيلاً بعد سالفِهِ

لا العرب تنساه في يوم ولا العجمُ

يوحي إلى الناس أنْ يَحيوا بلا ضعة

أو أن يموتوا وفي آنافهم شممُ

يوحي إلى الناس أن العيش منقصةٌ

وذِلَّةٌ إن تولّى أمرهم فدِمُ

ويلهمُ الناهضين العزم إن وثبوا

إلى الجهاد وخاضوا الحرب واقتحموا

* * *

أعظم بذكراك يابن المصطفى أثراً

يزيده جِدة في العالم القدمُ

ذكرى بها ازدهرت دنيا الهدى وزهتْ

نوراً بها سنن العلياء والنظمُ

ذكرى المروءة ذكرى الباذلين لها

أرواحهم ليعزُّوها وما ندموا

* * *

يا ثائراً قد تحدّى كلَّ نائبةٍ

ولم يُرعْ حيث موج الموت يلتطمُ

نهضت والناسُ فوضى في ديارهمُ

وشرُّهم فيهمُ مستحكم غممُ

في كلّ ناحية للبغي متَّسعٌ

وللهوى والدنايا مرتع وخمُ

وفوق كلَّ صعيد ظالم أشِر

ورأس كلَّ قبيل معتد أثمُ

فها هنا وثن تعنوا الوجوه له

وها هنا زمر يسعى بها صنمُ

عمَّ الفساد وساد القائمون به

واستفحل الشرُّ حتّى ديست الذممُ

فالدين مغترِب والحقُّ منتبَذٌ

والعدل محتقر والحكم مهتضمُ

والناس من شدَّة الإرهاق قد ألفوا

ذلَّ الخضوع ولاذوا فيه واعتصموا

يقودهم للمخازي كلُّ طاغيةٍ

عن الهداية أعمى ملؤه صممُ

١٦١

قد أسلموه زِماماً منهمُ ومضوا

وراءه للشقا طرّاً فما سلموا

لا يُصلحُ الناسَ غِرٌّ لا رشاد له

وليس يُرضيه إلا الكأس والنغمُ

يُمسي ويُصبح دنياه مفاسده

ودينه أن يهان الدين والحرمُ

تالله لولا ضلال الناس ما خضعوا

لظالمين أذلوهم وما رحموا

ما كان يرعاهم ذئبٌ ويوردهمْ

موارد الموت لولا أنهم غنمُ

* * *

كفى بحكم يزيد ذلَّة وغوىً

وخسة إنَّه بالعار متَّسمُ

أخزى العروبة والإسلام وانطمست

فيه المروءة والإيثار والشيمُ

فالظلم من شأنه والبغي عادته

وليس يفعل إلّا كل ما يصمُ

وعنده الحكم لهو مثل ميسرةٍ

ودينه فرص للفسق تغتنمُ

من معشر ما رعوا حقّاً ولا شرفاً

في آل طه ولم تعطفهمُ رحمُ

قومٌ على الشرَّ قد شبّت صغارهمُ

أو قيل من شرُّ كلَّ الناس قيل همُ

وقيل هذا إمام المسلمين ومَن

مقامه مِن مقام المصطفى أممُ

خليفةٌ وأمير المؤمنين وكم

به على المؤمنين انصبَّت الحممُ

ومذ تفاقم فيه الشرُّ متّسعاً

ودبَّ في الدين مِن آثامه سقمُ

وأصبح الناس يرجون الخلاص على

يدٍ لها خُلق الصمصام والقلمُ

هبَّ الحسين إلى الإصلاح في نفرٍ

لـمّا دعاهم لنصر الحق ما وجموا

أتوا خفافاً ولم يقعد بهم جزعٌ

أو رهبة وعلى وِرد الردى ازدحموا

من كلَّ أروع طعم الموت في فمه

لدى الجهاد لذيذ سائغ شبمُ

حفّوا به والرزايا في طريقهمُ

فما استكانوا ولا هانوا ولا سئموا

يلقونها وعليهم من شجاعتهم

نور وفي قلب كلًّ منهمُ ضرمُ

قد أحسنوا الذود عن دين وعن شرفٍ

وعن مبادئ هُنَّ المجد والعظمُ

حتى ثووا لم يمدّوا للطغاة يداً

ولم يجفَّ لهم فوق التراب دمُ

* * *

كاظم مكّي حسن - البصرة

١٦٢

شذرات

كثيراً ما يضيق نطاق الحفل عن الكلمات والقصائد الّتي ترد إلى الهيئة , وخاصة من خارج البصرة ؛ لقلة من يقوم بإلقائها بالنيابة , أو لضعف الخط ؛ الأمر الَّذي يضطر الهيئة إلى العدول عنها مع التقدير والاحترام لأصحابها.

ومن بين ما ضاق نطاق الحفل عن إلقائه الكلمات والقصائد الّتي تجدها في هذا الباب. كما أن لبعض أعضاء الهيئة نتاجاً ذا قيمة اُلقي بمناسبات شتّى وبأماكن مختلفة , فارتأينا تعميماً للفائدة أن نثبت هنا جانباً منه.

١٦٣

فهرس (شذرات)

١ - يوم الطفَّ (كلمة) … عبد الرزّاق العائش

٢ - القدر يثأر (قصة) … محمود الحبيب

٣ - مولد الكرامة (قصيدة) … كاظم مكّي حسن

٤ - الحسين (كلمة) … عبّاس الملا علي

٥ - عظمة الحسين (قصيدة) … حسين الحاج وهج

٦ - يومان (كلمة) … عبد الرزّاق العائش

٧ - بشائر الحسين (قصيدة) … كاظم مكّي حسن

٨ - قصّة ميلاد (قصة) … محمود الحبيب

٩ - يوم عاشوراء … السيّد فاضل السيد مهدي

١٠ - ذكرى يوم عاشوراء (كلمة) … السيّد محمّد بحر العلوم

١١ - ذكرى مولد السبط … كاظم مكّي حسن

* * *

١٦٤

يوم الطفّ(١)

عبد الرزّاق العائش

إذا ما ساعد الحظّ امرأً من المسلمين , فدكَّ أطواد الجهل المنهكة لقوَّة إدراكه , وأزاح غشاء التعصُّب المطبق على ضميره , وأنجلت له أنوار الحقيقة الساطعة , فنظر بعين لم تعلُها غياهب الشكَّ , وفكَّر في يوم الطفَّ تفكيراً دقيقاً محيطاً بشتّى نواحيه , ثمَّ طفق يسأل نفسه :

١ - من هو الحسين ؟ وإلى أيَّة اُسرة ينتمي ؟

٢ - أيُّ ذنب اقترفه حتّى كان القتل بعض جزائه ؟

٣ - في [أيّ شهر] وقعت فاجعة الطفَّ ؟ وهل لذلك الشهر من حرمة ؟

٤ - أيُّ قوم جرَّدوا على الحسين أسيافهم ؟

إذا ما ساعد الحظ امرأً وفكر بمثل هذا , هان عليه أن يذرف الدمع دماً , ثمّ راح يلتمس العذر عما فرط منه تجاه هذا اليوم المقدّس. وعلة ذلك :

١ - لأنّ الحسين (عليه‌السلام ) سليل اُسرة كانت ولا تزال لها الفخر والفضل على العروبة عامّة والإسلام خاصَّة ؛ فجدُّه النبيُّ الهاشميُّ محمّد بن عبد الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ذلك القائد الأعظم الَّذي شهد التأريخ بفضله ؛ إذ قاد العرب إلى سبيل الرشاد بعد أن أوضح لهم نهج الهدى فانقذهم من هُوَّة الجهل الّتي كادت تقضي عليهم من جرّاء حروبهم الطاحنة , وفتنهم المستعرة بعضهم بعضاً , وألَّف بين قلوبهم ,

____________________

(١) هذه أوَّل بذرة غرسها الكاتب في حقله الأدبي بهذه المناسبة ؛ إذ ألقاها في أحد المآتم الحسينيّة في الخندق , الليلة العاشرة من شهر محرم سنة ١٣٥٩.

١٦٥

( فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَاناً ) (١) , وسما بهم إلى ذروة المجد ؛ فبنى لهم صرحاً شامخاً أضاءت أنواره أرجاء البسيطة حتّى استنار به القاصي والداني في مدلهمّات الظلم , ورفع لهم كياناً خضعت له اُمم كان يعزُّ عليها أن تخضع لعربي قطّ لولا هيبة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

فلمَّا أبصروا منه نور الهدى , وسلكوا طريق النجاح , وعلموا مكانتهم من الاُمم الراقية آنذاك أخذوا يرتَّلون آيات الحقَّ والثناء باسمه , حتّى بلغ من فرط ولائهم له أن كانت جلُّ أناشيدهم وأهازيجهم بذكره , وكانوا لا يعتقدون بالنصر لـمّا تدور رحى الحرب ما لم يكن هتافهم : (لا إله إلّا الله , محمّد رسول الله).

وأما أبوه فعليُّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ، ابن عمّ محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وأوَّل من آمن بنبوَّته , وصدَّق كلمته , وخاض غمار الحرب دونه , فأبدى من الشجاعة والبسالة ما حيَّر العقول وأذهل الألباب. كل ذلك في سبيل نصر النبي محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وأما اُمُّه ففاطمة (عليها‌السلام ) بنت محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وفلذة كبده , ووديعته عند اُمّته , تلك الَّتي كثيراً ما أوصى بها قائلاً : (( فاطمة بضعة منّي , فمن آذاها فقد آذاني , ومَن آذاني فقد آذى الله , ومَن آذى الله فقد كفر ))(٢) . فهل من شكًّ في أن قتل الحسين يؤذي فاطمة (عليها‌السلام ) ؟

وأمّا عمومته فبنو هاشم , اُولئك الأشاوس الَّذين ضحّوا بالنفس والنفيس

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٠٣.

(٢) صحيح البخاري ٥ / ٢٦ , ٢٧ , مستدرك الحاكم ٣ / ١٥٨ , كشف الخفاء (العجلوني) ٢ / ١٣.

١٦٦

في سبيل نصرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كالحمزة وجعفر , وغيرهما من الاُسود البواسل الَّذين قوَّموا مكارم الأخلاق بمعوجَّ سيوفهم , وأقاموا العدل بمعتدل رماحهم.

٢ - لم يقترف أيَّ ذنب , وإنّما كان قتله وسلب رحله وسبي حرمه , وما إلى ذلك من أفعال شنيعة لمناوأته لقوى العسف والجور , تلك القوى الّتي حاولت هدم ما بناه محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ومحو ما رسمه من خطط تقضي على الظلم والعدوان.

٣ - الشهر الّذي وقعت فيه فاجعة الطفَّ هو الشهر المحرَّم , أحد الأشهر الحرم الأربعة الّتي كانت العرب في الجاهليّة فضلاً عن الإسلام تحترمها , وتجتنب فيها القتل وسفك الدماء , بل كان مما يثير سخط العرب اختراق حرمتها.

٤ - القوم الّذين جرَّدوا على الحسين أسيافهم هم اُولئك الّذين كانت جلُّ أناشيدهم وأهازيجهم ذكر جده (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

إذاً فيوم الطفَّ أغرب يوم ولدته أو تلِده العصور الغابرة والحاضرة , كيف لا وأقلُّ ما فيه غرابة أنَّ قوماً ازدهرت حياتهم وسما ذكرهم بفضل رجل لولاه لما كان لهم ذكر يذكر , فيجزونه على ذلك قتل ابن بنته , وسبي حرائره , ثمَّ يتَّخذون ذلك اليوم - وهو اليوم الّذي هاجر فيه وهو خائف يترقَّب - يوم عيد وسرور ؟

أوليس هو اليوم الَّذي ورد ذكره في القرآن المجيد :( إِذ هُمَا فِي الغَارِ إِذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللهَ مَعَنَا ) (١) ؟ ما بال بني اُميَّة يجدَّدون ذكراه بالفرح والابتهاج باعتبار أنه عيد رأس السنة الهجريَّة بينما الواقع خلاف ذلك , ويبلغ بهم الطيش إلى درجة يلبسون في ذلك اليوم أفخر ما لديهم من حلي وحلل ؟ ما بالهم ؟! هل إنهم تجرَّدوا عن دينهم ودانوا بدين

____________________

(١) سورة التوبة / ٤٠.

١٦٧

يتناسب وأفعالهم الشنيعة ؟ كلا بل إنهم لا يفتؤون رغم ذلك يدَّعون أنهم هم المسلمون حقاً.

هب أنهم تجرَّدوا عمّا كانوا عليه مِن دين فأصبحوا بطبيعة الحال يرون بغض الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وآل الرسول (عليهم‌السلام ) من أقدس واجباتهم , فلا عجب إن هم جعلوا ابن بنته غرضاً لسهامهم , وطعمة لسيوفهم. لكن هل إنهم تجرَّدوا عن قوميَّتهم وصاروا قوماً آخرين ؟ كلا , بل لا يفتئون يفخرون بين الاُمم بأنهم أبناء يعرب الكرام.

إذاً كيف أباحت لهم عروبتهم سبي بنات سيّد العرب وسوقهن سبايا من بلد إلى بلد ؟! وهب أن الظروف شاءت أن يستبدلوا ديناً غير دينهم , وقوميَّة غير قوميَّتهم , فتجرَّدوا عن كليهما بمقتضى تقلُّب الظروف والأحوال , فكان من جرّاء استبدالهم ما كان , لكن هل إنهم تجرَّدوا عن بشريَّتهم فأتوا بأفعال تأباها حتّى الوحوش الضارية ؟!

تُرى أيَّ ذنب اقترفه الطفل الصغير الّذي لم يبلغ الشهر السادس من عمره على أكثر تقدير ؟ أليس إلّا لأنه طفل للحسين جاء به يستسقي له جرعة من الماء ؟ يا ترى أسقوه بارد الماء ؟ كلا , بل سقوه كأس الردى بسهم الظلم والعدوان.

هذا هو يوم الطفَّ فاعتبروا يا اُولي الألباب لعلَّكم تذكّرون. أجل , فلنبك المروءة والعروبة والإسلام معاً بقتل الحسين (عليه‌السلام ) في يوم الطفَّ , وإنا لله وإنا إليه راجعون.

عبد الرزّاق العائش - البصرة

١٦٨

القدر يثأر(١)

محمود محمّد الحبيب

كان (رقيق) موضع سرَّ (يزيد بن معاوية) ، وكثيراً ما كشف له عن أدقَّ شؤونه الشخصية. وقد خرج تلك الليلة من زيارته , وهو مطرق مبلبل الفكر والعواطف. كان يخترق الدهاليز والأفنية حتّى وصل إلى جناح القصر الخاصِّ برئيس الدولة , فتقدَّم وجلاً وطرق الباب برفق , فسمع صوت الخليفة يدعوه للدخول. ولم يلبث أن فاجأه قائلاً : ما وراءك يا رقيق في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟

فأجاب : مولاي , لقد شجاني ما ألمَّ بولدكم من همًّ ووحدة وانطواء على النفس.

فأحس معاوية بأن في الجوَّ شيئاً يتطلَّب منه اهتماماً خاصّاً , فقال له : عليَّ به يا رقيق.

وبعد دقائق كان يزيد بين يدي أبيه , وقد كساه الألم نحولاً لم يغب عن عيني معاوية , فاحتفى به مرحَّباً , وأفسح له مجلساً بالقرب منه وهو يقول :

____________________

(١) اُلقيت في الخندق في الذكرى السنويَّة لاستشهاد الإمام الحسين (عليه‌السلام ) ، وذلك عام (١٣٦٧) ه.

١٦٩

بنيَّ , صارحني بكلَّ شيء , فهل من اللائق أن تطوي سرَّك عن أبيك وهو الّذي يبتغي لك الخير ؟

فقال يزيد : دعني يا أبتاه للهموم تفترسني ؛ فإني أحسُّ بأن أعباء الحياة قد استقرَّت على كاهلي فلا أستطيع منها فكاكاً.

بهت معاوية وهو يصعَّد النظر في وجه ابنه الشاحب , ويزن بدقَّة كلَّ كلمة فاه بها , ثمَّ التفت إلى شبّاك الغرفة , ورمق نجوم الليل طويلاً , وقال وهو يأخذ كفَّ ولده بين راحتيه : بحياتي عليك إلّا ما كاشفتني بما يعذَّب قلبك , وثق بأنّي سأكون لك عوناً لنيل ما تشتهيه.

فقال : لقد أحببت امرأة صاغها الله فتنة وسحراً , وقد خالط هواها دمي وعظمي , ولكن يدي قصيرة لا تنالها, ولست أدري ماذا سأفعله تجاه هوىً برى جسدي وأرمض عيني ؟!

فانتفض معاوية وحدَّق في عيني ابنه وهو يقول : ومن هي يا بني ؟

فأجاب : هي اُرينب بنت إسحاق ربة الجمال , وزوج عبد الله بن سلام.

سكت معاوية وغرق في تفكير عميق , ثمَّ رفع رأسه وهو يغمغم كمن استقر على رأي قاطع : أمهلني أيّاماً وستُزفّ لك بعدها اُرينب عروساً.

بعد أيام قصيرة كان عبدالله بن سلام يلبّي دعوة خاصة من الخليفة , فمثل أمامه في البلاط الاُموي وجلاً لهذه الدعوة الطارئة , ولكنّ معاوية أفاض عليه عطفاً ووداً , وغمره بالعناية , قرّب مجلسه وقدّمه على سائر الخواصّ حتّى بهر الرجل من هذه الألطاف والنعمة.

وتصرّمت عليه الأيّام وهو ينتقل من مجلس طرب واُنس إلى مقاصف الغناء واللذاذات ؛ فحفلات الصيد في أرباض دمشق وضواحيها , حتّى تناسى بلده وزوجه التي بكت دماً بدل الدمع يوم احتضنته بادية الشام في طريقه إلى الشام.

وفي اُمسية جميلة دخل رجلان على ابن سلام هما أبو هريرة وأبو الدرداء , وهما يحملان إليه رسالة الخليفة , فتكلّم أحدهما قائلاً : إنّ أمير المؤمنين قد أسبغ عليك نعماءه , وأنزلك في قلبه منزلة الولد من أبيه ؛ لسجاياك وطيب اُحدوثتك , وهو راغب في زواجك من ابنته , فما ترى ؟

فشعر ابن سلام بأن عينيه قد غامتا , وأن ضباباً قد غمره وخال نفسه في حلم جميل , وراح يستفيق شيئاً فشيئاً من ذلك الخدر اللذيذ , وقال : إني عبد لمولاي , فهذه منّة لم أكن أتصوّرها في المنام فكيف بها حقيقة ماثلة ؟!

١٧٠

فقال الخاطب : ولكنّه يشترط عليك ان تُطلّق زوجك اُرينب ؛ لأنه يكره أن تكون هنالك شريكة لابنته في دارك وقلبك.

تنازعت الأفكار الصاخبة ابن سلام , وأحسّ بحرب طاحنة بين العقل والقلب , واصطخبت في أعماقه الخواطر. إنه يحبّ اُرينب حباً جارفاً , ولكن هل يستطيع ردّ هذه الهبة ويرفض طلب الخليفة الخاصّ ؟

تراقصت أمام ناظريه الأضواء الحالمة والبلاط الاُموي ومصاهرة رأس اُميّة , وفكّر بشخصيته الجديدة التي ستقفز إلى الطليعة بسرعة البرق , فاستكان لداعي الهوى الجديد وآثر الدعوة , فالتفت إلى الرجلين وقال : اشهدا فإنّ اُرينب بنت إسحاق طالق مني منذ هذه الدقيقة.

فأمّنا على قوله , وخلّفاه يعيش وسط أحلام وأخيلة وخواطر سعيدة , ويحلم باليوم المنتظر.

ومضت الأيام وهو مشوق لبلوغ اُمنيته , ثمَّ رجا الخليفة الوفاء بالعهد , ولكنه أحاله إلى موافقة ابنته ؛ إذ إنّ لها الحق في إبداء الرأي. وأحسّ الرجل باللطمة الداوية تنهال على وجهه حين خاطبته ابنة الثعلب الاُموي :

كيف أثق [بكَ] وأنت الذي غدرت بامرأة قاسمتك الحياة حلوها ومرّها , وأخلصت لك الود وسكبت على حياتك ألوانها من الحبّ والسعادة ؟ لقد جُبلتم أيها الرجال على الخديعة إرضاء لنزواتكم وأطماعكم وأنانيتكم , ومن المحال أن اقترن بمن باع أمسه في سبيل غدٍ مجهول. اخرج يا سيدي فأرض الله واسعة , وبنات حواء بعدد النجوم.

اُلجم ابن سلام , وأحسّ بأنّ الأرض لا تتسع لشقي مثله , وخلّف دمشق لساعته وهو يلعن معاوية الذي هدم سعادته وحياته. وذاع النبأ في الأمصار , وتناقل الناس الحادثة بألم وتعليق وهم يرثون للرجل.

* * *

وصل أبو الدرداء لخطبة اُرينب ليزيد , وعرّج على بيت الحسين بن علي (عليه‌السلام ) ليقرئه السلام , ويتسنّم في رؤياه أنفاس جدّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الطيبة.

وطال السمر , واستفاض الحديث حتّى وقف الحسين (عليه‌السلام ) على مضمون هذه الزيارة الخاطفة. نظر (عليه‌السلام ) إلى السماء طويلاً وهو يستعرض الموقف , فعرض الدسيسة الكبرى التي مُثّلت بإحكام , فحطمت القلوب ومزّقت الشمل , فأوضح ألغازها لأبي الدرداء , فعراه الوجوم , ولكن الحسين (عليه‌السلام ) أعاد الهدوء إلى نفسه , وطلب منه أن يذكره كخطيب لاُرينب أيضاً حين يذكر يزيد , وأن يدفع لها من المهر بقدر ما سيدفعه معاوية لابنه.

١٧١

واجتمع الصحابي بالمرأة , وعرض لها الموقف , فطلبت منه أن يختار لها واحداً من الاثنين , فقال : لقد اخترت لك الحسين ؛ فهو الذي تعرفين أباً واُماً وجدّاً. فأعلنت القبول , وهكذا زفّت إليه.

وصل النبأ إلى عاصمة اُميّة , فإذا بالآمال تنهار وهي في اُوج نجاحها , وتكال الصفعة الموجّهة لابن سلام بصفعات داوية ظلّت أحاديث المجالس أياماً طويلة.

* * *

كانت الشمس ترسل حممها على المدينة فتحيلها إلى أتون ملتهب , واحتمى الناس بالدور ليخففوا عنهم وقدة الحر. قذف الشارع برجل يقتلع قدميه من الأرض بمشقّة وعناء , يدبّ كشيخ حطّمته السنون حتّى شارف منزلاً سرعان ما طرق بابه , وبعد لحظات فتح رجل الباب , وما إن لمح القادم حتّى صاح : مرحباً بابن سلام , ما الذي أعاقك عنّا طول هذه المدة ؟

فردّ الرجل بصوت ضعيف : بُعد الشقة , وفداحة الخطب , وانقطاع (الأمل) يا سيّدي الحسين , وقد قدمت اليوم لاسترجاع وديعة لي عند اُرينب , فهلاّ تفضّلت سيدي وأمرتها بإعادتها لي ؛ فإني في حاجة ماسة لتلك الوديعة.

فردّ عليه السبط قائلاً : (( بكلِّ ترحاب يا عبد الله , واسترح وخذ نصيبك من الطعام )).

ثم قاده إلى غرفة في الدار وأجلسه في مكان مريح تلطّفه أنسام بليلة أعادت للرجل هدوءه , ثمَّ تركه ودخل على اُرينب فقال لها : (( هذا ابن سلام قد جاء يطلب وديعته فأدّيها له كما هي )).

فقالت سمعاً وطاعة يا سيّدي.

ثم قامت واستحضرت الوديعة , ودخلت على الرجل وبيدها بدرة المال , فعدّها. وأراد أن ينطق بشيء ولكنّ الكلمات ماتت على شفتيه , ونطقت دموع العين عن آلام حبيسة وأسف شديد على هفوة صاغها طيش وسراب خادع , فارتفع بكاء اُرينب وعلا نشيجها.

وكان الحسين (عليه‌السلام ) يرقبهما عن كثب , وهو يحسّ بعاصفة من الرثاء تجتاح قلبه , فتقدّم إلى الباكي المحطّم وقال: (( يابن سلام , لِم صنعت بنفسك هذا الصنيع , وكفرت بالنعمة التي كان يحسدك عليها الناس , وزهدت بالمرأة الكريمة المحبّة ؟ )).

لم يجب الرجل , فخطؤه أكبر من أن يُمحى بكلمات اعتذار , واستسلم إلى بكاء شديد. أسكته الحسين (عليه‌السلام ) وربت على كتفه وقال : (( أصدقني الخبر يا عبد الله , هل مات الهوى القديم وسلوت مطلّقتك , أم إنّها ظلّت النجم الهادي في حياتك ؟ )).

فأجاب : والله يا سيّدي , إنّي اُحسُّ بالندم يجرّعني الموت قطرة فقطرة , ومع ذلك فتلك إرادة السماء , ولا مردّ لكلمة القدر.

١٧٢

وتحرّك الرجل يريد الخروج , فقد كان يرغب بالفرار ؛ إذ إنّ كلّ دقيقة تمرّ عليه وهو بجانب ضحيّته تزيده شقاء وتعاسة. ولكن الحسين )ع) أجلسه , ثمَّ التفت باسماً يوزع الأنظار بين الزوج المخدوع والمرأة المسكينة , وقال بصوت وادع : (( يابن سلام , يشهد الله عليّ أنّي لم اُعلن خطبتي لاُرينب إلّا لغرض حمايتها من ذئب دمشق , فهي عندي بأمن وسلام , بعيداً عن الدسائس التي أطاحت بسعادتك. لقد ظلّت كما هي , ضيفة كريمة , ووديعة غالية , فخذ امرأتك فهي طالق منّي وحلال لك. بارك الله لك فيها , وأثابك إلى سواء السبيل )).

عرا المكان صمت مفاجئ ؛ إذ لم يستطع الزوجان هضم هذا الكرم والنخوة , وحين هزّهما الواقع اندفعا نحو الحسين (عليه‌السلام ) يمطران يديه بالدموع ؛ دموع الفرح , وأمست المدينة نشوى يهزّها الخبر الجديد.

وتضحك الأيّام وتُرسلها قهقهة معربدة كانت في سمع معاوية وابنه كالمطارق , بل أشدّ وأصخب.

محمود الحبيب - البصرة

١٧٣

في مولد الكرامة(١)

كاظم مكّي حسن

أرأيت كيف سما وحاز علاءا

وشأى جميع العالمين إباءا

جاء الوجود فماس مفتخراً به

فكأنَّه جاء الوجود شفاءا

عقمت فلم تلد النساءُ نظير مَن

أحيا رجالاً بالهدى ونساءا

وبمثله ضنَّ الزمان ولم يقم

فيه شهيد كالحسين وفاءا

وكفاه مِن عزِّ الشهادة إنَّه

لله جاد بروحه استرضاءا

أجرى دماه مجاهداً فبنى بها

مجداً وشيَّد عزَّة قعساءا

شرفت به دنيا الجهاد وأشرقت

دنيا الفضائل بهجةً ورواءا

وزهت به الغبراء وهي تقلُّه

وتكاد فيه تطاول الخضراءا

أعلى مكارمها وأحيا خيرها

وأذلَّ فيها الشرَّ والأسواءا

من علَّم الدنيا سواه مكارم ال

أخلاق حين تحمَّل الأعباءا

من خطَّ بالدم غيرُه خطط العُلا

وأقام للشرف الرفيع بناءا

____________________

(١) ألقاها الشاعر بنفسه في الحفلة الَّتي أقامتها (الجمعيَّة المحمَّدية) في الخندق بمناسبة ذكرى مولد الإمام الحسين (عليه‌السلام ) سنة (١٣٦٧) ه.

١٧٤

وأطاح بنيان الضلال بنهضةٍ

ملأت أديم الظالمين شقاءا

ورمى بها عمد الفسوق فهدَّها

ودهى الشنار بها فذلَّ وساءا

وبنى مكارمَ لم يُشدها قبله

بشرٌ وأبلغ سمكها الجوزاءا

تالله لم تكُ للأنام حياته

إلّا صلاحاً دائماً وضياءا

وقضى شهيداً فانبعثن دماؤه

تدعو إلى العليا صباح مساءا

وكأنها في ركب كلِّ مجاهدٍ

في الحقِّ أمست دعوة وحداءا

أذكى بني الدنيا وأشرف غاية

وأشد عزماً منهمُ ومضاءا

وأعزّهم شيماً وأوسعهم هدىً

وأجلُّ حزماً منهمُ ووفاءا

جمع العُلا فيه فلم يجد الورى

للفضل إلّا في الحسين ثواءا

* * *

ولدتْ بميلادِ الحسين كرامةٌ

ملأت قلوب الصالحين ولاءا

ولدتْ بميلاد الحسين شهامةٌ

أمست لأدواء النفوس دواءا

ولدتْ بميلاد الحسين حميَّةٌ

ثغر الزمان بها استحال ثناءا

يوم أطلَّ على الحياة بنورِه

وبهائه فزهت سناً وسناءا

يوم إذا افتخر الزمان رأيته

لفخاره والمكرمات لواءا

تاهت به الدنيا ولولا أمسُه

فيها لما بلغت هدىً وعلاءا

ومن المفاخر والعظائم أن ترى

ببقاء يوم للزمان بقاءا

عزَّ الهدى وتعزَّزت أركانه

فيه وزاد مناعة ونماءا

والعدل يزهو والفضيلة تزدهي

والأرض تزخر بالهدى بشراءا

والحقُّ مبتهجٌ بمقدم عونه

ونصيره يرنو إليه رجاءا

ومواكب الإيمان ضاق بها الفضا

فرأت قلوب المؤمنين فضاءا

١٧٥

ولد الحسين فيا نفوس تحرَّري

وردِي المنايا وادركي العلياءا

ولد الحسين فقل لأحرار الورى

هاكم خذوا الحرية الحمراءا(١)

بُعثت بمبعثك النبوَّة مرة

اُخرى فزدت مقامها استعلاءا

بعثت لتبعث في القلوب صفاءها

وبها تزيل الظلم والظلماءا

فلقد طغى سيل الفساد على الورى

من معشرٍ لبسوا الفساد رداءا

هاموا بكلِّ رذيلة وتسابقوا

للمنكرات وحكَّموا الأهواءا

سفكوا دماء الصالحين وأوغلوا

في البغي لا يتورَّعون حياءا

ملك الفساد نفوسهم فأحالها

للناس شرّاً شاملاً ووباءا

____________________

(١) الحرية الحمراء هنا يراد بها الحرية التي يدافع عنها وتكتسب بالجهاد والتضحية كما فعل الإمام الحسين (عليه‌السلام ) , وإليها أشار المرحوم أحمد شوقي بقوله :

وللحرية الحمراء بابٌ

بكلِّ يدٍ مضرجةٍ يدقُّ

١٧٦

زعموا اتِّباع محمّد وكتابِهِ

وعدوا عليه وحاربوه عداءا

ورمَوا بما أوصى ولم يتورَّعوا

عن أن يُذيقوا آله الأرزاءا

الغدر والتدليس من عاداتهمْ

وحياتهم أن يُفسدوا الأحياءا

عاشوا ذئاباً بل أشدُّ بليَّة

منها وأكثر للورى إيذاءا

قوم إذا انتسب الفجور فإنهم

أمسوا له الآباء والأبناءا

فنهضت نهضتك العظيمة داعياً

للحقِّ لا تخشى به البأساءا

أعليت فيها المكرمات وصنتها

ورعيت فيها الصيد والكرماءا

وسلكت فيها كلَّ صعب قاذفاً

في المهلكات حياتك العصماءا

وبذلت نفسك في سبيل كرامة

تأبى لنفسك عيشة نكراءا

ورأى بك الدين الحنيف فداً له

فرأيت حقّك أن تموت فداءا

وقضيت نحبك في جهاد لم يزل

للصبر في دنيا العُلا سيماءا

* * *

يا سيِّد الشهداء حسبك رفعةً

شيم ملأت بها الورى شهداءا

حزت المفاخر من جمع جهاتها

فجمعت فيك الدين والآلاءا

ذكرى مخلَّدة غدت لجلائل ال

أعمال حرزاً حافظاً ووقاءا

ذكرى نضال في الهدى ومصارع

أمست لأقمار الرشاد سماءا

ستظل ما كرَّ الزمان مليئةً

بالمكرمات نقيَّة بيضاءا

قرت بها عين الرسول وأثلجت

صدر الوصيِّ وأرضت الزهراءا

* * *

البصرة - كاظم مكّي حسن

١٧٧

الحسين (عليه‌السلام )

عباس الملا علي

* ولد في ضاحية من ضواحي مدينة الناصرية عام ١٣٣٥ ه - ١٩١٦م.

* دخل الكتّاب في صغره , ثمَّ درس العربية والمنطق والكلام والآداب على يد أساتذة , منهم الشيخ عباس الحيراوي.

* عمل في إذاعة بغداد بوظيفة منصت لغوي.

* توفي في بداية الثمانينات.

* آثاره الشعرية :

- من وحي الزمن

- ألغاز شعرية

معجم الشعراء العراقيين / ١٩٢ - ١٩٤.

١٧٨

الحسين (عليه‌السلام )

أيَّة ناحية من نواحي الحسين (عليه‌السلام ) لم يطرقها كاتب , ولم يخض غمارها مفكِّر ؟ لو تأملنا قليلاً فيما كُتب عن عظمة الأشخاص لرأينا شخصية الحسين (عليه‌السلام ) تشغل مكاناً كبيراً في عالم التأريخ , ومكاناً أكبر في عوالم الأفكار.

وأكاد أجزم بأن ما كُتب عن الحسين في التأريخ , وما نظم عن واقعة كربلاء , وما أصدَرته أقلام الكتّاب مسلمين وغير مسلمين في أنحاء الأرض كلِّها يكاد يفوق ما كتب عن جدِّه وأبيه , وعن أعظم رجل في الدنيا فضلاً عما يتجدَّد كلَّ عام - في المجتمعات المسلمة في العراق , وسوريا ومصر , وفي الهند , وإيران , وفي بعض الأقطار الأوربيَّة الّتي يحل فيها بعض المسلمين - من إقامة مآتم للحسين (عليه‌السلام ) تذكر فيها واقعة كربلاء , ويذكر فيها الشيء الكثير عن الإسلام والأدوار الّتي مرَّت على أهله ؛ إذ إن حياة الحسين (عليه‌السلام ) تكاد تكون قصة كاملة لحياة الإسلام والمسلمين حتّى اليوم.

فما من كاتب يجرِّد قلمه للخوض في سيرة الحسين (عليه‌السلام ) وما اعتور عليه من أرزاء إلّا ويجد نفسه مسوقاً إلى ذكر ما طرأ من أحداث تأريخيَّة في أيّام الحسين , متناولاً ما قبل ذلك وما بعده من أحداث.

لندع هذا , ولنلقِ الآن نظرة على مجتمعنا العراقيِّ ؛ إذ هو أقرب المجتمعات إلى عيوننا ؛ فإنه ما يكاد يَرى هلال المحرّم يلوح في الاُفق إلّا وهب عن بكرة أبيه كما يهب النائم مذعوراً لمفاجأة طرأت عليه.

تراه يقيم المآتم والحفلات في كلِّ مكان ؛ الاُدباء يكتبون وينظمون , والعامَّة تهرع إلى المجالس الحسينيّة متسابقة متزاحمة كما تتزاحم الإبل الظمأى على حوض الماء. ما هذا الأمر وما سرّه ؟ أليس النبيُّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أفضل من حفيده الحسين (عليه‌السلام ) ؟ أليس أبوه واُمُّه (عليهما‌السلام ) أولى بهذا التقدير ؟ فلماذا تمرُّ أيّام وفياتهم فلا يتذكَّرها إلّا قليل من الناس تذكُّراً خاطفاً , ولا تظفر بقليل من هذه الذكريات العلنيَّة الّتي يساهم فيها حتّى الأطفال ؟

نعم هناك سرٌّ , وإذا تأملنا قليلاً أدركناه , وهو أن الحسين (عليه‌السلام ) ليس أفضل من جدِّه وأبيه , ولا من اُمّه وأخيه (عليهم‌السلام ) ، لكن زمانه يختلف عن زمانهم , وظروف حياته تختلف عن ظروف حياتهم , ويومه في كربلاء لم يصادفه أحد من قبل.

فقد وقف (عليه‌السلام ) يوم العاشر من المحرم سنة (٦٠) للهجرة وحيداً يتحدّى جموعاً تتدفَّق كالسيل , وتتراكم تراكم ظلام الليل , يتحدّى جموعاً بالأمس يلبسون شعار الإسلام واليوم يخلعونه , ويعودون إلى أسلابهم القديمة , أسلاب الجاهليّة القذرة , ويكشفون عما انطوت عليه حناياهم من إحن وضغائن وتِرات قديمة يحتقرها الدين ويمقتها القرآن.

١٧٩

يتحدى جموعاً سدَّت الفروج وغطَّت النجود والغيطان كما يقول السيد حيدر الحلي (رحمه‌الله ) , وملأت شاطئ الفرات وصحاراه , ولم يتورَّعوا عن أن يجابهوه بأرذل الطرق الدنيئة الّتي يجابه بها الجبان الشجاع ؛ فمنعوه من أن يشرب الماء , ومنعوه عن أن يعود من حيث أتى , ومنعوه أن يردَّ أطفاله ونساءه إلى وطنهم ليصارعهم رجلاً لرجل , فامتنعوا أن يصغوا لما يقول , وامتنعوا أن يفكِّروا فيما اُلقي إليهم من الاحتجاجات , وما عرضه عليهم من الكتب الّتي وجّهوها إليه طالبين يده , خاطبين ودّه , مستنجدين به لإنقاذهم من ظلم يزيد الفاسق الفاجر خدين القرود وسمير القيان , وإذا بهم صمٌّ بكم عمي فهم لا يفقهون.

فما ظنُّك برجل مثل الحسين (عليه‌السلام ) يحمل بين جنبيه عقيدة جدِّه , وشهامة اُسرته , وشجاعة أبيه ؟ أتراه يستطيع الخنوع , ويتجرَّع الخضوع لسفلة أوغاد أضاعوا إيمانهم وكفروا برسولهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وارتدوا إلى جاهليَّتهم , وأصرَّوا على قتله أينما كان وحيثما يكون ؟

أليس من حقّه أن يصيح بهم بعد اليأس منهم صيحته المشهورة : (( والله , لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل , ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد ))(١) .

إن كان دينُ محمّد لم يستقم

إلّا بقتلي يا سيوف خذيني

هذا هو السرُّ , وهذا هو الموقف الَّذي خلَّد الحسين وجعله بمثابة كوكب وهّاج يشقُّ عباب الظلال ويهتك ضباب الظلم , وتتفتَّح على ضوئه عيون الأحرار , وتترسَّم خطاه العظماء , وتمجّده الآباء والأبناء والأحفاد.

____________________

(١) الإرشاد ١١ / ٢ / ٩٨ , (ضمن سلسلة مؤلفات المفيد).

١٨٠