واجتمع الصحابي بالمرأة , وعرض لها الموقف , فطلبت منه أن يختار لها واحداً من الاثنين , فقال : لقد اخترت لك الحسين ؛ فهو الذي تعرفين أباً واُماً وجدّاً. فأعلنت القبول , وهكذا زفّت إليه.
وصل النبأ إلى عاصمة اُميّة , فإذا بالآمال تنهار وهي في اُوج نجاحها , وتكال الصفعة الموجّهة لابن سلام بصفعات داوية ظلّت أحاديث المجالس أياماً طويلة.
* * *
كانت الشمس ترسل حممها على المدينة فتحيلها إلى أتون ملتهب , واحتمى الناس بالدور ليخففوا عنهم وقدة الحر. قذف الشارع برجل يقتلع قدميه من الأرض بمشقّة وعناء , يدبّ كشيخ حطّمته السنون حتّى شارف منزلاً سرعان ما طرق بابه , وبعد لحظات فتح رجل الباب , وما إن لمح القادم حتّى صاح : مرحباً بابن سلام , ما الذي أعاقك عنّا طول هذه المدة ؟
فردّ الرجل بصوت ضعيف : بُعد الشقة , وفداحة الخطب , وانقطاع (الأمل) يا سيّدي الحسين , وقد قدمت اليوم لاسترجاع وديعة لي عند اُرينب , فهلاّ تفضّلت سيدي وأمرتها بإعادتها لي ؛ فإني في حاجة ماسة لتلك الوديعة.
فردّ عليه السبط قائلاً : (( بكلِّ ترحاب يا عبد الله , واسترح وخذ نصيبك من الطعام )).
ثم قاده إلى غرفة في الدار وأجلسه في مكان مريح تلطّفه أنسام بليلة أعادت للرجل هدوءه , ثمَّ تركه ودخل على اُرينب فقال لها : (( هذا ابن سلام قد جاء يطلب وديعته فأدّيها له كما هي )).
فقالت سمعاً وطاعة يا سيّدي.
ثم قامت واستحضرت الوديعة , ودخلت على الرجل وبيدها بدرة المال , فعدّها. وأراد أن ينطق بشيء ولكنّ الكلمات ماتت على شفتيه , ونطقت دموع العين عن آلام حبيسة وأسف شديد على هفوة صاغها طيش وسراب خادع , فارتفع بكاء اُرينب وعلا نشيجها.
وكان الحسين (عليهالسلام
) يرقبهما عن كثب , وهو يحسّ بعاصفة من الرثاء تجتاح قلبه , فتقدّم إلى الباكي المحطّم وقال: (( يابن سلام , لِم صنعت بنفسك هذا الصنيع , وكفرت بالنعمة التي كان يحسدك عليها الناس , وزهدت بالمرأة الكريمة المحبّة ؟ )).
لم يجب الرجل , فخطؤه أكبر من أن يُمحى بكلمات اعتذار , واستسلم إلى بكاء شديد. أسكته الحسين (عليهالسلام
) وربت على كتفه وقال : (( أصدقني الخبر يا عبد الله , هل مات الهوى القديم وسلوت مطلّقتك , أم إنّها ظلّت النجم الهادي في حياتك ؟ )).
فأجاب : والله يا سيّدي , إنّي اُحسُّ بالندم يجرّعني الموت قطرة فقطرة , ومع ذلك فتلك إرادة السماء , ولا مردّ لكلمة القدر.