يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)0%

يوم الحسين (عليه‌السلام) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 206

  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28198 / تحميل: 3782
الحجم الحجم الحجم
يوم الحسين (عليه‌السلام)

يوم الحسين (عليه‌السلام)

مؤلف:
العربية

ولم يكن له آنذاك من الأنصار غير نيّف وسبعين رجلاً , وسبعة عشر شاباً من أولاده وإخوته انصاعوا كلُّهم في ضحوة ذلك اليوم إلى الميدان ؛ يتلقَّون شفار السيوف , ونصول النبال , وأسنَّة الرماح بصدورهم ونحورهم , فسقطوا في لحظات على تلك الرمال المحرقة كما تسقط كواكب السماء.

وبقى (عليه‌السلام ) بعدهم وحيداً فريداً لا يملك إلّا سيفه , وإلّا نساء وأطفالاً من خلفه يَهدُّون أوصاله بعويلهم هدّاً , وحرارة شمس تموز تلهب رأسه الشريف. لسانه في فمه كالحديدة المحماة , وبين يديه صفوة أهله وأنصاره وولده مجزَّرين كالأضاحي , جروحهم لا تزال تنفر دماً طريّاً.

فأعجب له كيف أذهل تلك الجموع بصولته الجبارة , وذكَّرهم حملات أبيه الّتي ترجُّ القلوب رجّاً , وتهوي أمامه رؤوس الأبطال عن مناكبها , ولله در الكعبيِّ إذ يقول :

تحفُّ به الأعداءُ من كلِّ وجهةٍ

فما قلَّ من عزمٍ وإن قلّ أنصارا

يلاقي المنايا كالحاتِ وجوهها

طليقَ المحيّا باسم الثغر مسعارا

تراه ولا من ناصرٍ غير سيفه

عرمرم جيش يرهب الجيش جرّارا

إلى أن ثوى فوق التراب كأنه

(رعانٌ) هوى من فارع الطود فانهارا

* * *

عباس الملا علي - الناصرية

١٨١

عظمة الحسين (عليه‌السلام )

حسين الحاج وهج

بماذا يؤدِّي حق ذكراك ذاكرُ

وأيَّ معان فيك تبدي المشاعرُ

أفي العزّ والإقدام والفخر والإبا

أم النهضة الكبرى ففكريَ حائرُ

إذا ما شحذت الفكر تنبو قريحتي

فلا أنا نظّام ولا أنا ناثرُ

وتبدو لعيني باحتفالك روعةٌ

يُردُّ لها طرف الحجا وهو حاسرُ

سموت فخاراً بل عظمت تشرُّفاً

فكلُّ الّذي قد رام وصفك قاصرُ

ولا بدع إذ تنبو قريحة شاعرٍ

بوصفٍ ولم تدرك مداك الخواطرُ

ألست الّذي ما لو يضاهي بمفخر

لينكص للأعقاب عنك المفاخرُ

وكيف يضاهي فخر سبط الّذي به

أوائلنا قد شُرِّفت والأواخرُ

وأنت ابن من لولا شَباة حسامه

لما أبصرت تقوى الإله البصائرُ

براكم لنا الرحمن من نورِ لطفه

شموساً بها صبح الحقائق سافرُ

فصرتم أدلاّء الإله على الهدى

وفيكم بيان الرشد للناس ظاهرُ

فلا يُقتدى إلّا بما صحَّ عنكمُ

ولم يتخذ ما ليس منكمُ صادرُ

وأنتم ملاذ الخائفين ولهفهمْ

وكلٌّ إلى غوث اللهيف يبادرُ

وإن هتف الدين الحنيف بجمعكمْ

فما منكمُ إلّا النجيد المناصرُ

ولـمّا رأيت العدل غير مسوَّغٍ

لراجيه وابتزَّ الخلافة جائرُ

قد اتخذ اللذّات واللهو ديّدناً

وليس بحكم الله ناه وآمرُ

وخيف على الدين الحنيف ضياعه

وكادت عليه أن تدور الدوائرُ

رفعت لواء العزّ تدعو لنهضةٍ

بها كم لعزِّ الدين بانت مآثرُ

وثرت على الطغيان ثورة مصلحٍ

فما أيقظ الأجيال مثلك ثائرُ

فكنت مثال الناهضين إلى العلا

وكلٌّ على منهاج عزِّك سائرُ

وصرت كشبه البدر بين ذوي الإبا

إذا ما بدا تخفى النجوم الزواهرُ

وإن جهلت قدراً لشخصك عصبةٌ

لقد خبثت نيّاتها والسرائرُ

(فمن ذا يهين البدر وهو باُفقه

وإنّ الورى كلٌّ إلى البدر ناظرُ)

١٨٢

وفي قتلهم إياك لن يخفوا منقباً

بلى عظمت للدين فيه الشعائرُ

تنافست والضدَّ الخصيم بصفقة

فعقباك منها الربح والضدُّ خاسرُ

فإن الاُلى عادوك أين قبورهم

وهل أمَّها من ذي البريَّة زائرُ

وما زال مثواك المقدس كعبةً

إلى حجها تهفو وتهوى الضمائرُ

وفزت بطيب الذكر في كلِّ محفل

وما نال من ناواك إلّا المعايرُ

وسوَّدتِ التأريخ منه جريمةٌ

فليست تدانيها الذنوب الكبائرُ

ومات لعمر الحقِّ أهون ميتةٍ

ولم يبكِه في حقبة الدهر ناظرُ

وأصبحت أسمى من يؤبَّن فقده

وأشرف من فاضت عليه المحاجرُ

ويكفيك فخراً يابن بنت محمَّدٍ

إلى الحشر في ذكراك تُرقى المنابرُ

فيا بطلاً ما ساور الرعبُ لبَّه

وإن ملأت رحب البسيط العساكرُ

ولا وهنت في الروع منه عزيمةٌ

غداة فلا حام هناك وناصرُ

وإن عُدَّ أهل الصبر يوماً بموقفٍ

لعمرك ما جاراك في الصبر صابرُ

ولا عن مبادي العز حدت لذلَّة

وكلٌّ لسيف البغي ضدك شاهرُ

فساموك إما أن تمدَّ لهم يداً

وإما تحزَّ النحرَ منك البواترُ

فأبديت فيهم حينذاك بسالةً

بها شهد الأجيال ماض وحاضرُ

إلى أن بذلت النفس من أجل غاية

بها أنت في أسمى المراتب ظافرُ

ومتَّ عزيز النفس أشرف ميتةٍ

ثناها على مرِّ الليالي عاطرُ

ليهنك يابن الوحي فوزٌ بنهضةٍ

فهيهات يُحصى فضلُها المتكاثرُ

* * *

أبا الشهداء الصيد يا نجلَ حيدرٍ

ويا خيرَ مشكورٍ له الدّين شاكرُ

ويا من يراه الله رمز شهامةٍ

فما مثلها في الناس تبدو النظائرُ

اُعدُّ مديحي في علاك ذخيرة

إذا ما اُعدَّت للحساب الذخائرُ

عساني بمضمار المدائح فائزاً

فأنجو بها في يوم تُبلى السرائرُ

عليك سلام الله ما هبَّت الصبا

وما ردَّد الألحان في الروح طائرُ

* * *

حسين الحاج وهج - العمارة

١٨٣

يومان.(١)

عبد الرزاق العائش

يومان لم تُرني الأيّامُ مثلهما

ذا سرَّ قلبي وهذا زادني أرقا

يوم الحسين رقى صدر النبي به

ويوم شمر على صدرِ الحسين رقى

* * * *

سادتي , في أيّة بداية من بدايات العظماء يجد الكاتب لقلمه وبيانه متَّسعاً للبحث ومجالاً للتنقيب إلّا في بداية الحسين بن علي (عليهما‌السلام ) ؛ إذ ما من كاتب خاض البحث عنها إلّا وتملَّكته دهشة وذهول , فكأن في بدايته يداً تزجُّ إلى نهايته , ونهايته خضمُّ صاخب في وسط أمواجه المتلاطمة أقلعت سفينة النجاة , تحفُّ بها قدسيَّة الإيمان , وتكتنفها هيبة البطولة , ويعلوها علم التضحية.

لذا مهما حاولتُ أن أفصل بين نقطتي البداية والنهاية , وبالغت في أسباب الفصل بين بداعة هذه وفداحة تلك ذهبت محاولتي سدىً ؛ إذ تغلغلت النهاية في أعماق نفسي , وتمثّلت أمام عدسة إحساسي , فكأني والحال هذه أتعاطى مزيجاً من عسل وحنظل.

____________________

(١) اُلقيت لأوَّل مرَّة في مسجد (المظفر) بالعشّار بمناسبة ذكرى مولد الإمام الحسين (عليه‌السلام ) (١٣٦٦) ه , ثمَّ استعيدت بطلب من الجمهور واُلقيت بمناسبة يوم عاشوراء في أحد المآتم الحسينيّة عام (١٣٧٠) ه.

١٨٤

منذ ألف وثلاثمئة ونيِّف وستين سنة خلت استحالت إحدى أماسي الثلث الأوَّل من شعبان ضحىً سعادة وهناء. في مهبط الوحي الإلهيِّ , ومحطِّ السموّ المعنوي , (حيث كانت عبقات السماء تهبُّ مثلما يتضوَّع شذا الزنبقة الندية في الليلة الاُصحيانة(١) ، وحيث كان جمع الملائك يتَّصل بالبسيطة كما يتصل شؤبوب الغيث المتدفِّق هذا ليمد الصعيد بالحياة , وهذا ليمدَّ النفوس بالمعنى الحيِّ ؛ إذ تجلت من الغيث طفولة سامية)(٢) .

كيف لا والمولود خامس خمسة شاء الله أن تعلو فيهم كلمته , ويُتَّبع فيهم هداه , كما دلَّ بعدئذٍ قوله تعالى :( فَقُل تَعَالَوا نَدعُ أَبنَآءَنَا وَأَبنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَّعنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ ) (٣) ؟

ولدت فاطمة حسيناً (عليه‌السلام ) ، (فأخذه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وأذَّن في اُذنه كما يؤذَّن للصلاة. والأذان معناه إعلان العابد الإخلاص لمعبوده , والصلاة صلة بين الخالق

____________________

(١) الليلة الاُصحيانة : الليلة المقمرة. سيرة الحسين للعلائلي ٢ / ٢٠٢.

(٢) سيرة الحسين (العلائلي) ٢ / ٢٠٢.

(٣) سورة آل عمران / ٦١.

١٨٥

والمخلوق)(١) . هذا أوَّل غذاء نفسي غُذِّي به هذا المولود الجديد. وغنيٌّ عن البيان ما لتهنين(٢) الطفل من يد في توجيه أخلاقه وتثبيت انطباعاته. فلا عجب إذا ما منه وإليه وعليه سمت نفسه , وهفا فؤاده , واتَّقدت حميَّته.

وهكذا أخذ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يسكب في نفس فتاه خلاصة السموِّ بما فيها من جود وسخاء , وشمم وإباء , وتفان في سبيل العقيدة والمبدأ , مضافاً إلى ذلك عاملان من أهمِّ عوامل تكوين الطفل وتنشئته. ومن كليهما حاز الحسين (عليه‌السلام ) أجلّ وأعظم صفات السموّ : أما العامل الأوّل , وهو عامل التكوين , فأجدني غنيّاً عن الإفاضة فيه ما دامت كلمتي هذه آخذة سبيلها إلى مسامع قوم يعلمون تمام العلم أن الحسين (عليه‌السلام ) تكوَّن من مزاج ينبوعي النبوَّة والإمامة ؛ فاطمة وعلي (عليهما‌السلام ). وأمّا العامل الثاني , وهو البيئة , فما عسى أن أقول في بيئة خصت بآيتَي(٣) (إنّما). وآيتا (إنّما) تكفيان دليلاً على أن بيئة الحسين أصلح بيئة لإنماء السموِّ المعنوي , وفيها يطيب جنبه.

* * *

هذه البداية , فما أحلاها وأعذبها ! بل وما أغلاها لدى ذوي النفوس السامية ! فيما حبذا لو استطاع الخيال أن يحلِّق في سمائها الصافية العبقة , ويتمتع بجمال نجومها الزاهية الآلفة ليملي على القلم بعض مشاهداته , وليملي على الأقلّ مشهد النبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوم قال : (( حسين منّي وأنا من حسين ))(٤) . سادتي , هذه الجملة لو فاه بها بعض الناس لكان معناها : حسين منَّي بمنزلة الولد من الوالد , وأنا من حسين بمنزلة الوالد من الولد , أو ما شابه ذلك. لكن لما كان القائل نبيّاً عظيماً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوَى * إِن هُوَ إِلّا وَحيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى ) (٥) , فمن المؤكد أن يُبعِد قوله كلَّ البعد عن السطحيِّ المبتذل. فلا بدعَ إن قلت : إنما المقصود بقوله حسين منِّي بمنزلة الصفة من الموصوف , وأنا من حسين بمنزلة الموصوف من الصفة ؛ لذا أوضح قصده بما لن يتسنّى لأحد أن يقوله سواه , حيث قال : (( إني اُحبُّ حسيناً , فمن أحبَّه فقد أحبَّني , ومن أحبَّني فقد أحبَّ الله )). من هذه النقطة الحسّاسة وأمثالها كم وددت لو أنّي أستطيع التغلغل إلى أعماق الحقيقة - حقيقة منزلة الحسين من النبيِّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) - لأتمتّع بجمالها البديع , واُشبع نفسي التوّاقة إلى الجمال الذهني , بيد [أنه] أنّى لي التعمق ما دامت هناك نهاية تحطِّم القلم , وتلعثم المقول ؟

* * *

ما من منصف إلّا ويعتقد بأن الحسين (عليه‌السلام ) كان البناء الثاني لكيان الإسلام بعد جدِّه ؛ فقد علم القاصي والداني ما

____________________

(١) سيرة الحسين (العلائلي) ٢ / ٢٠٥.

(٢) كذا في الأصل.

(٣)( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبُ عَنكُم الرِجسَ أَهلَ البَيتِ ) الأحزاب / ٣٣.( إِنَّمَا وَليُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ ) المائدة / ٥٥.

(٤) مسند أحمد ٤ / ١٢٠ / ٣٤٢٨٩ , كشف الخفاء (العجلوني) / ٤٢٩.

(٥) سورة النجم / ٣ - ٥.

١٨٦

بلغه المسلمون في عهد بني اُميَّة - وبالأخصِّ في عهد يزيد - من الانحطاط.

فبعد أن كانوا مثالاً للمزايا الحميدة , وعنواناً للسجايا المحبَّبة ؛ كالإباء والشمم , وما إلى ذلك من معاني السمو انحطُّوا إلى الخضوع لما تمليه عليهم بلهنية يزيد , هذا مع سابق علمهم بما جُبل عليه يزيد من خساسة طبع لا تتفق ومبدأهم السامي.

هكذا كاد يذهب سدىً ما بناه المسلمون من مجد خالد , وكادت آمالهم تخيب لو لم يأبَ الله إلّا أن يجعل الحقَّ وضّاح الجبين لا تخفيه حجب الضلال مهما تكاثفت , وقويُّ العزيمة لا تهزمه جيوش الباطل مهما تكالبت. وهكذا جاء يوم الحسين (عليه‌السلام ) ، فيا له من يوم أجهد الليالي حمله فولدته وحيداً لا ثاني له , مع أن الليالي يلدن كلَّ عجيب.

يومٌ تبلى الأيّام وتُمحى السنون وهو خالد خلود الشمس في الاُفق , فكأنْ لم يزدْه البعد عن أعيننا إلّا تعمُّقاً في نفوسنا , كما لم يزدنا الحزن فيه إلاّ شوقاً ؛ فنستعذب النهل من منهله مع ما فيه من ألم , والأبيُّ يجد طعم المنية في العزّ شهداً.

يوم جمع الحسين (عليه‌السلام ) فيه العظمة فصاغها حلية يزدان بها بعده كلُّ عظيم ؛ إذ تلاها آيةً أبكمت الألسن فصاحتها , وأذهلت العقول بلاغتها , فأفاق الدين العليل من غشيته , ولسان حاله يقول :

وما سمعنا عليلاً لا علاج له

إلّا بموتِ مداويه إذا هلكا

هذا وصدى إيمان الحسين يملأ الأجواء هتافاً :

إن كان دينُ محمّد لم يستقم

إلّا بقتلي يا سيوف خذيني

فسلام على الحسين يوم ولد , ويوم استشهد , ويوم يبعث حيّاً.

عبد الرزّاق العائش - البصرة

١٨٧

بشائر الحسين(١)

كاظم مكّي حسن

ضَاءت بيومك أيّامٌ وأزمانُ

واستبشرت بك أرواحٌ وأبدانُ

وأشرقت بسناك الأرض وازدهرت

فيها مرابعُ لا تحصى ووديانُ

في كلِّ ناحية منها ومنعطفٍ

ورد وآس ونسرين وريحانُ

عمَّ الجمال رُباها فهي مائسةٌ

نشوى عليها من الأنوار ألوانُ

تفوح بالأرج الزاكي معطَّرة

فملؤها نغم عذب وألحانُ

كأنَّما جئتها خصباً تفيض به

فكلُّ أوجهها روض وبستانُ

تسري بشائرك الكبرى مبهّجها

ونستنير بها هدياً ونزدانُ

أضفت عليها نعيماً لا زوال له

وليس ينتابه حدٌّ ونقصانُ

من معدنِ الخير قد صيغت وما برحت

فيها يوطَّد للخيرات بنيانُ

زهت بطلعتك الدنيا وكم حفلت

بنور وجهك أرجاء وأكوانُ

حيّت بمولدك العلياءُ سيِّدَها

ومَن عروش له ذلت وتيجانُ

ورحَّبت بك دنيا المكرمات فما

لها سواك على البأساء معوانُ

أتيت كالغيث يسقي القفر مندفقاً

فينبت الزهر فيه وهو ريّانُ

وجئت كالنور يمحو كلَّ حالكة

فأشرقت بك ألبابٌ وأذهانُ

وعشت ينبوع فضل للورى وحمىً

إليه تلجأ أحرار وعُبدانُ

يا مفخر الدين والدنيا وعزَّهما

لأنت وحدك تشريع وفرقانُ

وأنت طغرا على هام العُلا سطعت

وأنت في صفحات المجد عنوانُ

ما لحت إلّا ولاحت كلُّ مكرمةٍ

فأنت في مقلة العلياء إنسانُ

يا مالئ الكون أفراحاً بمقدمه

وشاغل الناس منه الدهر إيمانُ

هنّى بك الدين اُمّاً انجبتك له

ومَن سواك لهذا الدين صَوّانُ

فالعدل مبتسم والمجد مبتهجٌ

والحقُّ منتصر والفضل جذلانُ

والظلم مندحر والفسق منخذلٌ

والمكر في ذلَّة والغدر خزيانُ

____________________

(١) اُلقيت في حفلة ميلاد الإمام الحسين (عليه‌السلام ) الّتي أقامتها في جامع الفقير في البصرة جمعيَّة أصحاب السيّارات وعمّال شركة نفط البصرة سنة ١٩٥٠ م - ١٣٦٩ ه.

١٨٨

فقد أطلَّ على الدنيا فنوَّرها

وجه بنور الهدى والرشد مزدانُ

وجه الحسين ومذ لاحت بشائره

تدفَّق الخير يهمي وهو هتّانُ

* * *

عزَّت بمولدك الأحرار قاطبة

والظالمون وأهل البغي قد هانوا

واستبشر الحقُّ مزهوّاً بناصره

ومَن به رسخت للحقِّ أركانُ

أتيت تدفع عنه العابثين به

المفسدين بما شادوا وما دانوا

القاسطين سواء في ضلالتهم

شيب قد اختبروا الدنيا وشبّانُ

من كلِّ مَن ملك الشيطانُ مهجته

فعاش وهو شقيُّ النفس شيطانُ

من كلِّ ذي سفه بالفسق مشتهر

يقضي الحياة خليعاً وهو سكرانُ

عصابةٌ مُلئت خزياً ومنقصةً

وما لها غير إفساد الورى شانُ

شعارها أن تذيق العالمين أذىً

وخيرُ فعالها زورٌ وبهتانُ

تيهي (اُميَّة) واختالي مفاخرةً

فمن سراتك للشيطان أعوانُ

هيهات يصلح قوم ساد بينهمُ

يزيدُ يفعل ما يهوى ومروانُ

فذا إلى الخمر والفحشاء منصرفٌ

وذا بظلم بني الزهراء ولهانُ

ذئب على الأرض من لؤمٍ بعنصره

ومن خبائثه صِلُّ وثعبانُ

لا يفلح الناس فوضى لا رشادَ لهم

وذو الرئاسة فيهم همه الحانُ

والحاكمون إذا كانوا ذوي عمه

فشأن أتباعهم ذلٌّ وخسرانُ

والحكم إن لم يكن عدلاً ومنفعةً

فإنه لنفوس الناس أدرانُ

فلا تدوم مع الإرهاق مملكةٌ

ولا يقوم على الإذلال سلطانُ

* * *

لـمّا رأيت ربوع المسلمين غدت

فوضى وليس لها راع وريّانُ

سوى شراذم ما نال الأنامَ بها

إلّا همومٌ وآلامٌ وأحزانُ

١٨٩

تثار من أجل أطماعٍ هنا وهنا

مجازر تُهلك الدنيا ونيرانُ

فثرت ثورة جبّار فراعهمُ

من أشجع الناس إقدام وإيمانُ

تذبُّ عن حرمات الدين في شممٍ

ما إن حواه ولا يحويه إنسانُ

أقمت في كربلاء المعجزات بما

لم يستطع فعله إنسٌ ولا جانُ

أكرم بيومك يوم الطفِّ منزلةً

لها على الدهر مهما طال رجحانُ

يوم به رنَّ صوت الحقِّ منطلقاً

وأدرك الشرَّ إذلال وخذلانُ

كانت حياتك نوراً يستضاء به

ولم تزل وهي أفضال وإحسانُ

ظلَّت مخلَّدة تُهدى إلى اُممٍ

إلى العلا وتنال المجد أوطانُ

* * * *

كاظم مكّي حسن

١٩٠

قصة ميلاد(١)

محمود محمّد الحبيب

كانت طلائع الفجر العسجدية تتسلل بهدوء من بين الكثبان الرملية والجبال العالية , فتدحر أمامها فلول الليل الموهنة. ولم تمضِ ساعة واحدة حتّى كانت ذكاء قد استوت على عرشها ضاحكة الأنوار , وقد أحالت الصحراء إلى معبد قدسي ارتفعت منه الأناشيد والتراتيل الجميلة المنبعثة من موسيقى الأنسام , وحداء أدلاء القوافل , واُغنيات الرعاة , وثغاء الشياه , وزقزقة العصافير , وشدو الحمائم , فاستيقظت المدينة الراقدة , ونفضت أبناءها إلى رحاب الشوارع وأروقة المساجد , وزحمة العيش وصيال الكدح.

وفي إحدى دور بني هاشم كان الداخل يرى شخصاً مهيب الطلعة , وضّاح الجبين , وفي سيماه عنفوان الرجولة , وفي إهابه صولة الليث , وقد أفاضت عليه حلاوة الإيمان هالة من مهابة , وإكليلاً من وداعة هادئة تسري إلى القلب , فتودّ لو أطلت إليه النظر دون أن يدركك الملل.

كان ذلك الشخص جالساً وهو ينكث الأرض بعود في يده , وقد انصرف بخواطره عن كلّ شيء , اللهمَّ الاّ ما شغل باله , واستحوذ على مشاعره وهيمن على كلّ رجاحة فيه.

كان قلقاً يرمق السماء ذات الأديم الأزرق والصافي أحياناً كشاعر حالم , ثمَّ يرتدّ ببصره إلى ما حوله , فيلمح ابن

____________________

(١) اُلقيت في جامع (المظفر) احتفالاً بيوم عيد ميلاد الحسين (عليه‌السلام ) , الذي أعدّه ونظمه شباب العشار سنة ١٣٦٧ ه.

١٩١

عمّه المصطفى جالساً إلى جانبه , وقد التفّ حوله فتيان بني هاشم وشيوخهم وهم ينظرون إليه بأعين تنطق بالشجيع(١) ، وتلطّف ثورته الحبيسة , ثمَّ ترصّع شفاهم ابتسامات ألذّ من النسيم , وأعذب من الماء السلسبيل في فم صاد ضلّ في بيداء قاحلة.

كان الرجل يحاول بدوره أن يغتصب ابتسامة ردّاً عليهم , ولكنها وإن رصّعت فاه فهي لا تخلو من شحوب لما يُحسّه من اضطراب داخلي. كان الموقف حرجاً , وقد أدرك الجالسون ما فيه من توتر في الأعصاب , ووجيب في القلوب , واندفاعات في الخواطر التي تأبى الاستقرار إلّا من شخص واحد هو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؛ فهو الرجل الوحيد الذي شعر باطمئنان عميق يؤنسه في هذا الجو الملبّد بالأزمات النفسية ؛ فالاتصال الروحي بالسماء كشف أمام ناظريه ما استغلق على سواه من أسرار المجهول.

التفت (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى ابن عمّه علي (عليه‌السلام ) قائلاً : (( تشجّع يا أبا الحسن , فالله معنا )).

فردّ عليه الإمام (عليه‌السلام ) بصوت متهدّج : (( إنّ قلبي شاعر بما يحسّه المؤمن في هذه الساعات , ولكنه قلب الزوج الحنون العالم بما يعتور قسيمة حياته من آلام المخاض القاسية , فاعذرني )). ثمّ غمره صمت عميق حدا بالجالسين إلى السكوت حتّى لتكاد تسمع دبيب الأنفاس في الصدور.

كان ما حدث شيئاً مخالفاً لسنن الطبيعة التي ألفها الناس , بل أمراً غريباً جداً ؛ فزوج الإمام علي - فاطمة الزهراء (عليها‌السلام ) - قد أحسّت بالمخاص وأوجاعه في شهر حملها السادس , وهذا حدث لم يقع في تأريخ النساء إلّا في ولادة واحدة لنبيٍّ كريم.

كما إنّ علم الطبّ الحديث يؤكد لنا أنّ الطفل الذي يولد في مثل هذه الحالة لا يلبث أن يموت بعد دقائق من ولادته ؛ لنقص في نموّه المتناظر ؛ إذ لن يستكمل نموّه وخلقه التامّ إلّا في الشهرين السابع والتاسع.

إذاً فما الذي ينتظر هذا المولود القادم قبل الأوان إلى الحياة ؟ هذا ما دعا الإمام (عليه‌السلام ) إلى الاستجابة إلى العوامل النفسية المتضاربة , فتملّكته الأفكار ولم يقر له قرار. ومع ذلك فكلّما صافحت عيناه عيني المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ولاحظ توهّجهما الغريب , وتلك الغبطة التي ترفّ على محياه الزاهر شعر بالراحة , ورانت عليه لذاذات هنيئة, ومتع روحية عميقة الأثر تطرد عن اُفقه ما يغزوه من أشباح سوداء , فينقلب بعواطفه وجوارحه إلى ألف اُذن واُذن.

ويمدّ السمع مرهفاً نحو غرفة زوجه , فلا يسمع إلّا أصوات النساء النامّة عن التشجيع وطلب الصبر والدعاء وغيره , فيودّ لو تصرّمت هذه الدقائق السائرة ببطء ليحسّ من بعدها بسلامة المآب وروعة الخاتمة , وليطبع على جبين مولوده قبلة عميقة يودعها هذا الخضمّ من الشوق الزاخر في أعماقه كصخب شلال مندفع.

____________________

(١) هكذا ورد في الأصل , وربّما كان الصواب (التشجيع).

١٩٢

ولكن الدقائق تنطوي على مهل حتّى ليخالها شيخاً يدبّ , موهن الخطى , وهي تسجّل في طريقها آلاف الهواجس المرفرفة على محيّا الوالد الذي ينتظر بشوق وحنين.

ما أروع هذه الصور الفنية الدقيقة الخيوط , الرائعة الظلال التي نطق بها وجه الإمام (عليه‌السلام ) , ففيها يرى الناظر فرحة الأب بطفله الجديد , وجزع الزوج الخائف على مصير زوجه , ورهبة الإنسان العاجز أمام قوة المجهول , واطمئنان المؤمن إلى عطف الخالق , ثمَّ صبر العبد على امتحان الله.

وهكذا اصطخبت عوامل الألم بالأمل , والخوف بالرجاء , والصبر بالإيمان , والضعف بالتجلّد , والعجلة بالأناة والتريّث , وظل مسرحاً تمثّل عليه أعنف الفصول , وهو مع ذلك الرجل العظيم , الكاظم لعواطفه , المنصرف إلى ربّه في دعاء خافت وصلاة فكر وتلاوة آي محكمات.

وبينا هو يغمغم بما يمنحه هدوء البال , واستقرار العاطفة إذ تعالت الأصوات من الداخل , وارتفع دعاء الهاشميات

يبعث الرعشة في الأجسام ؛ لحرارته وانبعاثه من قلوب صادقة الولاء , فيّاضة المحبّة.

فأحسّ أبو الحسن بأن قلبه يكاد يثب من بين ضلوعه لفرط وجيبه , وتدفّقت الدماء حارة في عروقه , وتفصّد جبينه بقطرات العرق البارد , فراح يمسحها بكفّ مرتجفة وهو يتضرّع في سرّه إلى الله تعالى أن يخفف عن زوجه ألمها ومتاعبها , ويكشف عنها هذه السحابة الثقيلة. وأخذت روحه الحنون ترفرف حول الدار رفيف الطير حول وكناتها وفراخها.

هبطت إرادة السماء فدوّت في الدار الأغاريد , وعلا صوت البشير يهتف بمولد الطفل شبل حيدر (عليه‌السلام ) وحفيد محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فارتفع للهاشميات هتاف عال وتسبيح ذو نغم عذب , هذا والفرحة الكبرى تسكب عليهم طراوة الحياة ومسرّاتها , وولد عيد سعيد في تأريخ آل محمّد مولد السبط.

أمّا الإمام , أمّا الأب المشوق فقد أمّ زاوية في الدار شاكراً لله إحسانه , ثمَّ هرول إلى الداخل والحنين الطاغي يسبقه خطوات , فهنّأ زوجه بالسلامة ثمَّ انحنى على المولود , والتقت الشفاه الظامئة بالجبين الزاهر في قبلة خُيّل للحاضرين أنها قد استمدّت قوّتها من أعماق روح الإمام (عليه‌السلام ).

اهتزّت المدينة لوقع المعجزة الكبرى , واكتظّت دور بني هاشم والمساجد بالمسلمين المغتبطين بهذا العيد , وسرى النبأ يغزو الأمصار , ففرح المحبّون. أما الذين تحجّرت أفئدتهم فقد رجّ الخبر أفئدتهم رجّاً.

وتمرّ بضعة أسابيع , وفي ذات مساء في جلسة عائلية كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) جالساً يحفّ به ابن عمه وابنته فاطمة , وصفوة من ذوي قرباه , وقد أجلس الحسن والحسين (عليهما‌السلام ) في حجره , وراح ينظر إلى الأخير نظرة طويلة بهت لها الجميع , ثمَّ أخذ يقبّله والدموع تنهمر من عينيه , فهتفت فاطمة : (( أبتي , ما يبكيك ؟! )).

١٩٣

ونظر عليّ (عليه‌السلام ) إليه والسؤال يتراقص على لسانه. نظر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إليهم وإلى الطفل , وسبحت خواطره إلى المستقبل البعيد تلج أبوابه , وتكشف عن أسراره وغوامضه في حياة البشر , فإذا للحفيد قصّة سطورها من دماء ودموع.

أمّا فاطمة وزوجها , أمّا الحاضرون فلبثوا ينتظرون الجواب , ولكنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) انطوى على نفسه , وانصرف بكافّة جوارحه لقراءة سطور المجهول.

وارتمت الشمس خلف الجبال في ثوبها المعصفر وهي تلقي أهدابها الوردية على الاُفق , ثمَّ احتضن الكون ليل داج ترصّعه ذات بصيص خافت. هذا والنبيّ لا يزال مستغرقاً في صمته العميق.

محمود محمّد الحبيب - البصرة

١٩٤

يوم عاشوراء

السيّد فاضل السيّد مهدي

أمن مصابك شعري راح مكتئبا

أم أنّ دهريَ من أشجانه انسكبا

أم للحوادث آلام تقيّدني

من أن أروح مع الوجدان مصطحبا

أم أنّ حظّي من الدنيا الشقاء ولا

ذنبٌ لديَّ فلم أعرف له سببا

همٌّ وبؤس وحرمان ومجزرةٌ

من الأنام تريك الويل والحربا

ماذا أقول ووحي البؤس يلهمني

ما لا اُطيق به ذرعاً ولا نشبا

في كلَّ عضوٍ أنين بات يُقلقني

والفكر بات من الأحزان مضطربا

مهازل قد سئمناها وما نفعت

آهاتنا وتباشير الرجاء خبا

* * *

يا سيَّدي والرزايا ليس يحصرها

فكرٌ فكيف وإنّ الفكر قد سلبا

يا سيّدي كلّ جرح فاض من ألمٍ

حتّى غدا كجحيمٍ بات ملتهبا

يمور كالموج إن هاجت عواصفُه

وكالبراكين ترمي النار واللهبا

يا سيّدي مَن يواسيه ويسعفُه

لولاك إن راح يدمي خافقاً نكبا

كأنّنا في مهاوي اليأس تحسبُنا

أشباحَ وهمٍ تراءى كالسراب هبا

فيا شهيد العلا عفواً ومعذرةً

أن لم يوافِك إلهامي بما وجبا

عندي إليك حديث بات ينهشني

أخفيته من زمان ليته نضبا

الناس تاهوا بأحلام الضلال وما

ثابوا لرشدهمُ والظلم قد غلبا

يستعذبون صراخ البائسين كما

يستعذبون رنين الكأس والطربا

ويهزؤون بأنّات الضعيف كأنْ

أنّاته نغمٌ مستعذب سُكبا

* * *

١٩٥

مولاي هذي جراحات مفجَّعةٌ

ثارت فأعيت عقول الناس والأدبا

أعيا البيان لساني لا تؤاخذني(١)

مَن رام مدحك لا يحظى بما طلبا

ما كلُّ مَن رام شيئاً نال بغيته

وإن تفانى فلم يدرك له أربا

فللعظيم صفات قد يتيه بها

فذٌّ وإن صاغ في تبيانه الشهبا

ما كنت أطرق إلّا بابكم خشِعاً

مولاي فاقبل وعفوي منك قد وجبا

* * *

السيّد فاضل السيّد مهدي - الناصريَّة

____________________

(١) يضطرب عروض الصدر بسبب جزم الفعل.

١٩٦

ذكرى يوم عاشوراء

محمد بحر العلوم

أيّها السادة , يمرُّ يوم عاشوراء بطيء السير , طويل الظل , زاخراً بالأسى , ومفعماً بالأشجان ؛ لأنه ينطوي على الألم الممضَّ والفاجعة الفادحة. يمرُّ هذا اليوم ناعياً للبشرية مجدها الشامخ , ونادباً للإنسانية عزَّها الأثيل.

يمرُّ وقد أقلقه الحزن , وانتابه الألم ؛ فلقد كان بمروره السنوي معرضاً نبيلاً لم يشتمل على تصوير كارثة تؤذن بالشكوى المريرة ليستنزف الدمع من محاجر العيون فحسب كما يتصور البعض , وإنما كان معرضاً لأثمن العظات , ومذخراً لأجلَّ ما تحتاجه الإنسانية من مُثُل سامية , وعبر عالية , ونتائج قد سجَّلتها البطولة.

نتائج قدسيَّة سجَّلها التأريخ على صفحاته بزهو وافتخار , وردَّدت صداها العصور لتلقَّنها الأجيال جيلاً بعد جيل , وهي في اُفقها العاجي ومجدها الرفيع , يقدَّرها كلُّ ذي إحساس حيًّ , وتفكير صحيح , وشعور مرهف , لماذا ؟ لأنّها تتَّصل بشخصيَّة فذَّة ضحّى بنفسه مع طائفة من أهل بيته خدمةً للدين الإسلامي الحنيف , من دون تقاعس عن الحقَّ , ولا هوادة في الجهاد في سبيل الحق.

أيّها الحفل الكريم , يمرُّ يوم عاشوراء حاملاً معه ذكرى مأساة كربلاء الّتي مثَّلها أبيُّ الضيم , من أجل إقامة دولة الحقَّ حينما اضطربت في حكمها حينذاك بعد أن عرجت رُوح المشرَّع الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الطاهرة إلى رَوح الله وريحانه , وانتهى الدور بعد زمان ليس بالقصير إلى سيّد الشهداء , وقد مهد له الطريق أبوه علي (عليه‌السلام ).

فكان حرب عليًّ (عليه‌السلام ) بعد قبض رسول الإنسانية طريقاً نهجه ليسلكه المصلحون من ولده من منقذ البشرية , فيسلك ذلك الطريق سيّد أولاده أبو محمّد الحسن (عليه‌السلام ) ليصرخ في وجه الظلم والطغيان , ويدفع رأس الضلال والبغي.

١٩٧

ولما لم تكمل العدة له يمدُّ يده ليصافح عدوه الألدَّ لينتج من ذلك الصلح أن يصدع أبو عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) بالحق , ويتسنى له أن يقوم بتدعيم [دعائمه](١) .

إذاً فنهضة الحسين (عليه‌السلام ) ثمرة ذلك النهج الذي سنَّه له أبوه أمير المؤمنين عليُّ (عليه‌السلام ) ، وسلكه أخوه الحسن (عليه‌السلام ). وما تضحية عليًّ وولديه (عليهم‌السلام ) إلّا تدعيماً لدعائم الدين المحمَّدي والنظام الإسلامي , وما استقام الدين إلّا نتيجة لتلك التضحيات الخالدة , فكانوا مثالاً أعلى للتضحية الحقَّة في سبيل الحقَّ , والعنوان السامي في سجلَّ الإباء والشرف , والخلود البارز ومصداقه الوجداني في صفحة النضال.

ولقد ظهر للعالم أجمع من خلال نهضة الحسين ظلم الاُمويين وسخطهم على العترة الطاهرة ؛ ففضَّل أن يموت وأهل بيته وأصحابه على منعه من الماء , وعياله وأطفاله يتصارخون من الظمأ وإن كان في إمكانه أن يطفئ غلَّته ويشرب جميع من معه رجالاً ونساءً.

الأمر الَّذي يشير إلى رجحان خطَّته ونظريَّته رجحاناً لا تفكير بعده ولا نقض لإبرامه ؛ لأن نهضته الشريفة كانت بواعثها ليست بمحض البشريَّة , القوى الإنسانيَّة الساذجة , وإنما كانت مشوبةً بنوع من الإيحاء الإلهي الرفيع , كما والعناية الربّانيَّة تحيطها كلَّ الإحاطة.

فكان في استطاعته كلَّ ما يروم , وأن يشرب الماء ولو على سبيل

____________________

(١) في الأصل : (دعائم الحقَّ).

١٩٨

الإعجاز , غير أنه أبى ذلك لأجل أن يُظهر للناس ظلم الاُمويين وكرههم لهذا البيت المجيد من الرضيع حتّى الشيخ , وهذا وأيم الحقَّ هو الفخار الأعلى , وتلك القوة كلُّ القوة , والخلود كلُّ الخلود.

ومن المستحسن ونحن مع المستمع الكريم في هذا الاستطراد أن نفهم أنَّ الحسين (عليه‌السلام ) إذا علم بقتله وأهل بيته قبل خروجهن مكّة , واتضح لديه سبي النساء الحرائر وهتك خدورهن , فكيف سمحت له الغيرة أن يصحب معه عياله ونساءه ؟

غير أن الجواب ليس بالعسير إذا ما دقَّقنا الواقع , فنرى جلب الحسين (عليه‌السلام ) للنساء هي خطَّة حربيَّة ثابتة أحرز بها أبو عبد الله (عليه‌السلام ) النصر المبين , وسبيلاً للنجاح في مشروعه , وطريقاً فنَّيّاً للغاية , وأنها إحدى وسائل الدفاع التي بنيت عليها غاياته الشريفة.

فإنّ حمل النسوة إلى كربلاء على تلك الحالة يدلُّ على عظم التضحية أولاً , وسبيهُنَّ من بلد الى بلد على تلك الصورة هو الدليل ثانياً على مظلومية آل الرسالة (عليهم‌السلام ) الَّذين خصّهم الله في كتابه العزيز , والبرهان الواضح على عسف الاُمويين وجورهم على أهل هذا البيت الرفيع.

ولئِن دلَّ سبيُ النساء على شيء فإنما يدلُّ على خرق الاُمويين عادات العرب حينذاك , وهتكها لصيانة حرمها , وهذا ممّا يُرى له الأثر الكبير. وفعلاً قد أثَّرت في النهضة أثرها الفعّال , فلولا سبي النساء لكانت نهضة الحسين في زوايا التأريخ , حيث لم تكن نهضته أجلَّ وأعظم من كثير من الاُمور , ولقد طمرها التأريخ بين ثناياه , وأنكرها القوم فكانت نسياً منسيّاً.

ولكن سبي النساء هو الَّذي جعل ذكرى الحسين (عليه‌السلام ) تتجدَّد على مدى الأيّام والدهور ؛ إذ من الفظاعة العربيَّة أن [تسيّر](١) حريم العرب [مسبيّات](٢) من بلد إلى آخر , يتستَّرن

____________________

(١) في الأصل : (تسار).

(٢) في الأصل : (مسلبات).

١٩٩

بأيديهن من الدني والقصي , والقريب والبعيد ؛ وقاءً للفظاعة والعار.

فما أشبه , يا شهيد الحقَّ , ساعة نهضتك بيوم صلح الحسن , وظروف أبيك عليّ , وبعثة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ! ولهذا التشابه الفريد انبرى قلم التأريخ يسجَّل الصفحات الناصعة , فانتثرت صفحاته طروساً يقرأ فيها العالم الإسلاميُّ التضحيات الحقَّة , والإباء الخالد , والمقام السامي في دار الدنيا ودار الآخرة والذكر الجميل.

فسلام عليك يوم ولدت , ويوم نهضت , ويوم قتلت , ويوم تبعث حيّا.

محمّد بحر العلوم - النجف

٢٠٠