ولكن الدقائق تنطوي على مهل حتّى ليخالها شيخاً يدبّ , موهن الخطى , وهي تسجّل في طريقها آلاف الهواجس المرفرفة على محيّا الوالد الذي ينتظر بشوق وحنين.
ما أروع هذه الصور الفنية الدقيقة الخيوط , الرائعة الظلال التي نطق بها وجه الإمام (عليهالسلام
) , ففيها يرى الناظر فرحة الأب بطفله الجديد , وجزع الزوج الخائف على مصير زوجه , ورهبة الإنسان العاجز أمام قوة المجهول , واطمئنان المؤمن إلى عطف الخالق , ثمَّ صبر العبد على امتحان الله.
وهكذا اصطخبت عوامل الألم بالأمل , والخوف بالرجاء , والصبر بالإيمان , والضعف بالتجلّد , والعجلة بالأناة والتريّث , وظل مسرحاً تمثّل عليه أعنف الفصول , وهو مع ذلك الرجل العظيم , الكاظم لعواطفه , المنصرف إلى ربّه في دعاء خافت وصلاة فكر وتلاوة آي محكمات.
وبينا هو يغمغم بما يمنحه هدوء البال , واستقرار العاطفة إذ تعالت الأصوات من الداخل , وارتفع دعاء الهاشميات
يبعث الرعشة في الأجسام ؛ لحرارته وانبعاثه من قلوب صادقة الولاء , فيّاضة المحبّة.
فأحسّ أبو الحسن بأن قلبه يكاد يثب من بين ضلوعه لفرط وجيبه , وتدفّقت الدماء حارة في عروقه , وتفصّد جبينه بقطرات العرق البارد , فراح يمسحها بكفّ مرتجفة وهو يتضرّع في سرّه إلى الله تعالى أن يخفف عن زوجه ألمها ومتاعبها , ويكشف عنها هذه السحابة الثقيلة. وأخذت روحه الحنون ترفرف حول الدار رفيف الطير حول وكناتها وفراخها.
هبطت إرادة السماء فدوّت في الدار الأغاريد , وعلا صوت البشير يهتف بمولد الطفل شبل حيدر (عليهالسلام
) وحفيد محمد (صلىاللهعليهوآله
) , فارتفع للهاشميات هتاف عال وتسبيح ذو نغم عذب , هذا والفرحة الكبرى تسكب عليهم طراوة الحياة ومسرّاتها , وولد عيد سعيد في تأريخ آل محمّد مولد السبط.
أمّا الإمام , أمّا الأب المشوق فقد أمّ زاوية في الدار شاكراً لله إحسانه , ثمَّ هرول إلى الداخل والحنين الطاغي يسبقه خطوات , فهنّأ زوجه بالسلامة ثمَّ انحنى على المولود , والتقت الشفاه الظامئة بالجبين الزاهر في قبلة خُيّل للحاضرين أنها قد استمدّت قوّتها من أعماق روح الإمام (عليهالسلام
).
اهتزّت المدينة لوقع المعجزة الكبرى , واكتظّت دور بني هاشم والمساجد بالمسلمين المغتبطين بهذا العيد , وسرى النبأ يغزو الأمصار , ففرح المحبّون. أما الذين تحجّرت أفئدتهم فقد رجّ الخبر أفئدتهم رجّاً.
وتمرّ بضعة أسابيع , وفي ذات مساء في جلسة عائلية كان النبي (صلىاللهعليهوآله
) جالساً يحفّ به ابن عمه وابنته فاطمة , وصفوة من ذوي قرباه , وقد أجلس الحسن والحسين (عليهماالسلام
) في حجره , وراح ينظر إلى الأخير نظرة طويلة بهت لها الجميع , ثمَّ أخذ يقبّله والدموع تنهمر من عينيه , فهتفت فاطمة : (( أبتي , ما يبكيك ؟! )).