إذاً يجدر بنا أيُّها الاُخوان أن ننزل عند رغبتهم , وأن نكون في جنب الحقّ كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضنا أزر بعض , كما ويجدر بنا أن نجعلهم خير قدوة لنا في الحياة وفي الممات ؛ فلا نفني أعمارنا بما لا يمتُّ إلى المصلحة العامة بصلة , وحينئذ يحق لنا أن نقول : فياليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً ؛ إذ ليس من الحكمة أن نُحيي ذكراهم بالبكاء والعويل , بل الحكمة كلُّ الحكمة أن نحييها بالدرس والتحليل ؛ لنستوحيَ من تفانيهم في سبيل العقيدة والمبدأ شعور التضحية في سبيل الواجب المقدَّس بأصدق معانيه.
فإذا نحن لم نستوحِ من حادث الطفَّ غير هذا الشعور السامي لكفى به دليلاً يثبت لنا أن نظام العالم لا يقوم على مبدأ تنازع البقاء فقط , بل إلى مبدأ آخر هو أقرب إلى مقتضيات الإنسانيَّة , أعني به مبدأ التضحية الّذي نكاد نلمسه في كلَّ مظهر من مظاهر الحياة العمرانيَّة والاجتماعيَّة.
أوليست البذرة تسقط إلى الأرض وتموت لكي تنمو منها الشجرة ؟ أوليس الأب والاُمُّ يضحَّيان براحتهما في سبيل راحة أولادهما ؟ أوليس العلماء يجازفون بأنفسهم ويضحون براحتهم وهنائهم في سبيل مكافحة الأمراض وإنقاذ الإنسانيَّة من الآلام والأوجاع ؟
انظروا أيّها السادة إلى الحروب منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا , ألا ترون الجنود يضحُّون بأرواحهم في سبيل أوطانهم ؟ ألا ترونهم يسفكون دماءهم في سبيل الدفاع عن فكرة سامية أو مبدأ شريف ؟ ولكم وقفت فئة في وجه فئة كبيرة معرَّضة للهلاك على أمل أن تشغل عدوها القويَّ وتفسد عليه خططه.
فمبدأ التضحية إذاً من مستلزمات العمران , وهو من أقوم دعائم الحضارة الصحيحة , فإذا قُضي عليه واندثرت معالمه أصبحت الحضارة عرجاء هوجاء مجرَّدة من العواطف الإنسانية , وأصبح الاجتماع مزعزع الأركان. وأيُّ خطر أعظم من أن يعمَّ ناموس تنازع البقاء كلَّ مظهر من مظاهر المدنيَّة ؟ وأية مصيبة أعظم من أن يبتلي هذا الاجتماع بناموس الجهاد في سبيل الحياة المادَّيَّة , وما ينطوي عليها من أنانيَّة وجشع وأثرة وحبَّ النفس ؟!
ولما كان الموت لا بدَّ منه ولا محيد عنه فخير لنا أن نقايض بهذا الأجل المحدد نفعاً عاماً لا حد له , ونكسب مجداً خالداً لا نهاية له. وأفضل الأضاحي من أمات هليكة في سبيل نفع عام. كذلك الشهداء في سبيل إصلاح الاُمة وبناء كيانها.
لقد أطلقنا التأريخ على سير قادتنا المشاهير ومواقف شهدائنا المغاوير , ولدى البحث والتدقيق ثبت لدى كلَّ عاقل منصف أن سيد هؤلاء الشهداء الحسين (عليهالسلام
) الَّذي أحيا هو ومَن معه مجد العرب , وسؤدد هاشم , ودين محمّد في وَثَباتهم وثَباتهم ؛ فلم تختلف لهجتهم , ولا وهنت عزيمتهم , ولا ضعفت إرادتهم , حتّى اُهرقت في جنب الحقَّ آخر قطرة من دمائهم , وحتّى إنه (عليهالسلام
) يوم أحسَّ بالحصار والتضييق بكربلاء , ورأى أنه مقتول لا محالة عزَّ عليه أن يُقتل بسببه غيره , حيث إن القوم لايطلبون سواه.