وإنّ فناءً في الحق لهو عين البقاء
السيد عبّود شبّر
منذ أن خلق الله الحياة على وجه الأرض والإنسان يفكَّر في علاجٍ لآلامه جميعها , اقتصادية كانت أم اجتماعية, ومنذ ذلك الحين وحتّى الآن لم يترك الله الأرض خالية من رجال فكَّروا في علاجات لهذه الآلام الَّتي تعانيها البشريَّة المعذَّبة.
على أن العالم وإن وجد به رجال طيبون كهؤلاء لم يخلُ أيضاً من رجال هبطوا بالإنسان إلى درك الحيوانيَّة ؛ فاُولئك يريدون نَصفه وإرشاده لطريق الخير ؛ اقتناعاً منهم بأنه أثمن مخلوقات الله , وهؤلاء يقودونه للشرَّ ؛ اقتناعاً منهم بأنه حيوان يحاول ستر غرائزه بالثياب الأنيقة , وإشباع رغائبه من كلِّ ما هو لذيذ في هذه الحياة , وهو بالتالي لا يهمُّه إلّا التفكير بالمرأة وبالرغيف واللباس , ويدفعه تفكيره هذا إلى اصطناع الأخلاق تارة , وارتكاب الجرائم تارة اُخرى.
وهنا يبدو واضحاً بأن المجتمع الإنسانيَّ ينقسم إلى قسمين حتماً تتصارع فيهما مبادئ الخير ومبادئ الشرَّ , وهنا يبدو أيضاً لكلَّ مَن يفكّر في أمر هذا المجتمع بأنه مشكلة يصعب حلها , فما هو السر في ذلك ؟
جاءت الأديان السماوَّية وكلُّها تفسَّر لهذا المجتمع , وقد شرحت لنا حكمة هذه الحياة شرحاً وافياً , وعلَّمتنا أن الحياة السعيدة هي الحياة نفسها , وأن سعادة الإنسان قد تنبثق في نفسه وهو جائع محروم لو أنه جرى وراء المعاني الطيبة , وأفهمتنا أن اللذَّة الَّتي يتخلَّلها قرع الكؤوس ومصاحبة الغانيات ما هي من الحياة السعيدة بشيء مطلقاً , إنما الحياة السعيدة تكون كاملة عندما يكون عند الإنسان شرف وكرامة يعتزُّ بهما. هنا كان للخير حزب وللشرَّ حزب آخر تتناسب قوتهما وضعفهما في جميع الأدوار مع المؤيدين لأحدهما وقلَّتهم للثاني.
واستمرت الحال على هذا المنوال , إلى أن يقول حضرة الكاتب : إنهم يطلبون منه أن يعيش عيشة هانئة على أن يبايع خليفة فاجراً مبتذلاً , إنهم يطلبون منه أن يتنعم بنعم الحياة على أن تعبث الأيدي الفاسدة بتراث المسلمين فرفض ذلك بإباء وشمم ؛ لأن الثمن كان أغلى من تلك الحياة ؛ ولأن رجلاً مثله نذر نفسه لإعلاء كلمة الحقَّ ونشر الفضيلة لا يمكن أن يحيد عن مبدئه فينزل إلى الدرك الأسفل من الذلَّة والهوان.
هناك ضرب القدر ضربته القاسية , فاندخر الحقُّ أمام الباطل , وسقط ذلك الرجل الحرُّ في اليوم العاشر من المحرَّم في ميدان الشرف والمروءة.
عبّود شبّر - البصرة