مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ٢

مقتل الحسين للخوارزمى18%

مقتل الحسين للخوارزمى مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16407 / تحميل: 5080
الحجم الحجم الحجم
مقتل الحسين للخوارزمى

مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

مقتل الحسين للخوارزمى

الجزء الثاني

المؤلف: أبي المؤيّد بن أحمد المكّي أخطب خوارزم [ خوارزمي ]

تحقيق الشيخ محمّد السماوي

١

قال الإمام الحسين يوم عاشوراء :

«اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة ؛ فلا يدع فيهم أحدا».

٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على أشرف المخلوقين محمّد ، الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين ، وعلى عترته وذريته أجمعين. وبعد : فقد اتّفقت الرواة في «المسانيد» و «التواريخ» ، على أنّ مقتل الحسينعليه‌السلام كان ـ يوم عاشوراء ـ العاشر من محرّم لسنة إحدى وستين من الهجرة ، وإن اختلفوا : أكان يوم الجمعة أم يوم السبت؟ فلنشر إلى فضل هذا اليوم وشرفه.

١ ـ أخبرنا الشيخ الإمام الحافظ ناصر السنة أبو القاسم منصور بن نوح الشهرستاني ـ بها وقت رجوعي من السفرة الحجازية ، أعادها الله تعالى ، غرّة شهر جمادي الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة هجرية ـ ، أخبرنا شيخ القضاة أبو عليّ إسماعيل بن أحمد البيهقي ، أخبرنا والدي شيخ السنة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، أخبرنا السيد أبو الحسين محمد بن الحسين بن داود العلوي ـ قراءة عليه ـ ؛ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ـ إملاء ـ ، قالا : أخبرنا أبو محمد حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا عبد

٣

الرّحمن بن منيب ، حدثنا حبيب بن محمد المروزي ، حدثني أبي ، عن إبراهيم بن الصانع ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من صام يوم عاشوراء كتبت له عبادة ستين سنة بصيامها وقيامها ، ومن صام يوم عاشوراء كتب له أجر سبع سماوات ، ومن أفطر عنده مؤمنا في يوم عاشوراء فكأنما أفطر عنده جميع أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن أشبع جائعا في يوم عاشوراء رفعت له بكل شعرة في رأسه درجة في الجنة».

فقال عمر : يا رسول الله! لقد فضلنا اللهعزوجل في يوم عاشوراء.

فقال : «نعم ، خلق الله السماوات في يوم عاشوراء ، وخلق الكرسي في يوم عاشوراء ، وخلق الجبال في يوم عاشوراء ، والنجوم كمثله ، وخلق القلم في يوم عاشوراء ، واللوح كمثله ، وخلق جبرئيلعليه‌السلام في يوم عاشوراء ، وخلق الملائكة كمثله ، وخلق آدم في يوم عاشوراء ، وحواء كمثله ، وخلق الجنة يوم عاشوراء ، وأسكن آدم الجنّة في يوم عاشوراء ، وولد إبراهيم خليل الرحمن في يوم عاشوراء ، ونجاه الله من النار في يوم عاشوراء ، وفداه في يوم عاشوراء ، وأغرق فرعون في يوم عاشوراء ، ورفع إدريس في يوم عاشوراء ، وكشف الله الكرب عن أيوب في يوم عاشوراء ، ورفع عيسى بن مريم في يوم عاشوراء ، وولد في يوم عاشوراء ، وتاب الله على آدم في يوم عاشوراء ، وغفر ذنب داود في يوم عاشوراء ، وأعطى سليمان ملكه في يوم عاشوراء ، وولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم عاشوراء ، واستوى الرب على العرش في يوم عاشوراء ، وتقوم القيامة في يوم عاشوراء».

قال الشيخ القاضي أبو بكر : استوى من غير مماسة ولا حركة كما يليق بذاته.

وقال شيخ السنّة أبو بكر : هذا حديث منكر ، وإسناده ضعيف ، وفي

٤

متنه ما لا يستقيم ، وهو ما روي فيه من خلق السماوات والأرضين والجبال كلّها في يوم عاشوراء ، والله يقول :( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) يونس / ٣ ، ومن المحال أن تكون هذه الستّة كلّها يوم عاشوراء ، فدلّ ذلك على ضعف هذا الخبر ، والله أعلم.

٢ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن الحسين هذا ، أخبرنا أبو محمد عبد الله ابن يحيى السكري ببغداد ، أخبرني إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثني أحمد بن منصور ، حدثني عبد الرزاق ، أخبرني ابن جريج ، عن عبد الله بن يزيد ، أنّه سمع ابن عباس يقول : ما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحرى صيام يوم يلتمس فضله على غيره إلّا هذا اليوم : يوم عاشوراء ؛ وشهر رمضان.

٣ ـ قال : وفي «المشاهير» ، عن أبي قتادة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «صيام يوم عاشوراء كفّارة سنة».

٤ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن الحسين هذا ، أخبرنا أبو الحسين علي ابن محمد الأشعراني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله ـ ببغداد ـ ، حدثنا جعفر بن محمد ، حدثني علي بن مهاجر البصري ، حدثني الهيصم بن الشداخ الوراق ، حدثني الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من وسع على عياله في يوم عاشوراء ، وسع الله عليه في سائر سنته».

وبهذا الإسناد ، عن أبي سعيد الخدري مثله.

٥ ـ وأخبرنا الإمام سديد الدين محمد بن منصور بن علي المقري المعروف بالديواني ـ بمحلة «نصرآباد» بمدينة الري ـ ، أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسين بن أحمد بن الحسين المعروف بالخلادي الطبري ، أخبرني القاضي الإمام أبو النعمان عبد الملك بن محمد الهلافاني ، أخبرني أبو العباس أحمد

٥

ابن محمد الناطقي ، أخبرني أحمد بن يونس ، حدثني أبو الحسين عليّ بن الحسن الجامعي ، حدثني محمد بن نوكرد القصراني ، حدثني منجاب بن الحرث ، أخبرني عليّ بن مسهر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يوم عاشوراء يوم تاب الله على آدم ، واستوت سفينة نوح على الجودي يوم عاشوراء ، وردّ الله الملك على سليمان يوم عاشوراء ، وفلق البحر لموسى يوم عاشوراء ، وغرق فرعون ومن معه يوم عاشوراء ، وردّ الله على يعقوب بصره يوم عاشوراء ، وبعث زكريا رسولا يوم عاشوراء ، وتاب الله على يونس يوم عاشوراء ، وأخرج يونس من بطن الحوت يوم عاشوراء ، ورفع الله إدريس مكانا عليا يوم عاشوراء ، وكشف ضرّ أيوب يوم عاشوراء ، واخرج يوسف من الجب يوم عاشوراء ، وكسا هارون قميص الحياء يوم عاشوراء ، وألهم يحيى الحكمة يوم عاشوراء ، إن يوم عاشوراء سبعون عيدا فمن وسع على عياله فيه وسع الله عليه الى مثلها في السنة».

٦ ـ وذكر الحاكم : أن فاطمةعليها‌السلام ولدت يوم عاشوراء ، وأن الحسن والحسينعليهما‌السلام كذلك ولدا يوم عاشوراء.

ولما كانت لهذا اليوم فضيلة على غيره من الأيام ، كانت فيه مصيبة آل الرسول كرامة لهم وفضيلة لجهادهم ، ليكون ثوابهم أكثر ، ودرجاتهم أعلى وأنبل ، وليكون عقاب أعدائهم أعظم ، ولعائن الله عليهم وعلى أتباعهم يوم القيامة أشد وأطول.

عدنا لحديثنا : ولما أصبح الحسينعليه‌السلام يوم الجمعة عاشر محرّم ـ وفي رواية : يوم السبت ـ عبأ أصحابه ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا ـ وفي رواية : اثنان وثمانون راجلا ـ ، فجعل على ميمنته زهير بن

٦

القين ، وعلى ميسرته حبيب بن مظاهر ، ودفع اللواء إلى أخيه العباس بن عليّ ، وثبتعليه‌السلام مع أهل بيته في القلب.

وعبأ عمر بن سعد أصحابه ، فجعل على ميمنته عمرو بن الحجاج ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن ، وثبت هو في القلب ، وكان جنده اثنين وعشرين ألفا ، يزيد أو ينقص.

٧ ـ أخبرنا الإمام الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمداني ـ إجازة ـ ، أخبرنا أبو عليّ الحداد ، حدثنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا سلمان بن أحمد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الزبير بن بكار ، حدثنا محمد بن الحسن ، قال : لما نزل القوم بالحسينعليه‌السلام ، وأيقن أنهم قاتلوهم ، قام في اصحابه خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

«أما بعد ـ فإنّه نزل من الأمر ما ترون ، ألا وإن الدّنيا قد تغيرت وتنكرت ، وأدبر معروفها ، وانشمرت(١) ، ولم يبق فيها إلّا كصبابة الإناء من خسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون الحقّ لا يعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربه ، وإني لا أرى الموت إلّا سعادة ، والعيش مع الظالمين إلّا برما».

٨ ـ وأخبرنا الشيخ الإمام الزاهد ، سيف الدين أبو جعفر محمد بن عمر الجمحي ـ كتابة ـ ، أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسين زيد بن الحسن بن علي البيهقي ، أخبرنا السيد الإمام النقيب علي بن محمد بن جعفر الحسني الأسترآبادي ، حدّثنا السيد الإمام نقيب النقباء زين الإسلام أبو جعفر محمد ابن جعفر بن علي الحسيني ، حدثنا السيد الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين ابن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمّد بن القاسم بن الحسين

__________________

(١) ـ انشمرت : تقلصت فلم تحلب.

٧

ابن زيد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسيني ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أيوب البجلي ، حدثنا عليّ بن عبد العزيز العكبري ، حدثنا الحسن بن محمد بن يحيى ، عن أبيه ، عن تميم بن ربيعة الرياحي ، عن زيد بن علي ، عن أبيه : «أنّ الحسينعليه‌السلام خطب أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيها الناس خطّ الموت على بني آدم كمخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أو لعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وإنّ لي مصرعا أنا لاقيه ، كأني أنظر الى أوصالي تقطعها وحوش الفلوات ، غبرا وعفرا قد ملأت مني أكراشها ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ليوفينا اجور الصابرين ، لن تشذ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته وعترته ، ولن تفارقه أعضاؤه ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقر بها عينه ، وتنجز له فيهم عدّته».

٩ ـ وبهذا الإسناد ، عن السيد أبي طالب هذا ، أخبرني أبي ، أخبرني حمزة بن القاسم العلوي ، حدثني بكر بن عبد الله بن حبيب ، حدثني تميم ابن بهلول الضبي أبو محمد ، أخبرني عبد الله بن الحسين بن تميم ، حدثني محمد بن زكريا ، حدثني محمد بن عبد الرحمن بن القاسم التيمي ، حدّثني عبد الله بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عبد الله بن الحسن ، قال : لما عبأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسينعليه‌السلام ، ورتبهم في مراتبهم ، وأقام الرايات في مواضعها ، وعبأ الحسين أصحابه في الميمنة والميسرة ، فأحاطوا بالحسين من كلّ جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة ، خرج الحسين من أصحابه حتى أتى النّاس فاستنصتهم ، فأبوا أن ينصتوا ، فقال لهم : «ويلكم ، ما عليكم أن تنصتوا إليّ ، فتسمعوا قولي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من

٨

المرشدين ، ومن عصاني كان من المهلكين ، وكلكم عاص لأمري ، غير مستمع لقولي ، قد انخزلت عطياتكم من الحرام ، وملئت بطونكم من الحرام ، فطبع الله على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون»؟

فتلاوم أصحاب عمر بن سعد ، وقالوا : انصتوا له ، فقال الحسين : «تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين ، فأصرخناكم مؤدين مستعدين ، سللتم علينا سيفا في رقابنا ، وحششتم علينا نار الفتن التي جناها عدوكم وعدونا ، فأصبحتم إلبا على أوليائكم ، ويدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلّا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث كان منا ، ولا رأي تفيل(١) لنا فهلّا لكم الويلات إذ كرهتمونا تركتمونا ، فتجهزتموها والسيف لم يشهر ، والجأش طامن ، والرأي لم يستحصف ، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الدبا ، وتداعيتم إليها كتداعي الفراش ، فقبحا لكم ، فإنما أنتم من طواغيت الامة ، وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرّفي الكتاب ، ومطفئي السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيري عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين ، وأنتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون ، وإيانا تخذلون. أجل والله ، الخذل فيكم معروف ، وشجت عليه عروقكم ، وتوارثته اصولكم وفروعكم ، ونبتت عليه قلوبكم ، وغشيت به صدوركم ، فكنتم أخبث شيء سنخا للناصب ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، فأنتم والله هم ، ألا إن الدعي بن

__________________

(١) ـ تفيل : أخطأ.

٩

الدعي ، قد ركز بين اثنتين : بين القتلة والذلة ، وهيهات منا أخذ الدّنية ، أبى الله ذلك ورسوله ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وانوف حمية ، ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام ، على مصارع الكرام ، ألا إني قد أعذرت وأنذرت ، ألا إني زاحف بهذه الاسرة على قلّة العتاد ، وخذلة الأصحاب ، ثم أنشد :

فإن نهزم فهزّامون قدما

وإن نهزم فغير مهزّمينا

وما أن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

أما إنه لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ، عهد عهده إليّ أبي ، عن جدي( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ) (١) ( فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

اللهمّ! احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة ، فلا يدع فيهم أحدا ، قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم ، فإنهم غرونا وكذبونا وخذلونا ، وأنت ربّنا ، عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير».

ثم قالعليه‌السلام : «أين عمر بن سعد؟ ادعوا لي عمر» ، فدعي له وكان كارها لا يحب أن يأتيه ، فقال : «يا عمر! أنت تقتلني ، وتزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان؟ والله ، لا تتهنأ بذلك أبدا ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأني برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة ، يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضا

__________________

(١) ـ اقتبس الآيات من سورتين ، الأولى : يونس / ٧١ ، والثانية : هود / ٥٥.

١٠

بينهم». فغضب عمر بن سعد من كلامه ، ثمّ صرف وجهه عنه ، ونادى بأصحابه : ما تنظرون به؟ احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة.

ثم إن الحسينعليه‌السلام دعا بفرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ المرتجز ـ ، فركبه وعبأ أصحابه ، وزحف عمر بن سعد فنادى غلامه دريدا : قدم رايتك يا دريد! ثمّ وضع سهمه في كبد قوسه ، ثمّ رمى به وقال : اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى ، فرمى أصحابه كلّهم بأجمعهم في أثره رشقة واحدة ، فما بقي من أصحاب الحسين أحد إلّا أصابه من رميتهم سهم.

وخرج يسار مولى زياد بن أبيه ؛ وسالم مولى عبيد الله بن زياد ، فقالا : من يبارزنا؟ فخرج إليهما برير بن خضير ؛ وحبيب بن مظاهر ، فقال لهما الحسين : اجلسا. فقام عبد الله بن عمير الكلبي ، فقال للحسين : ائذن لي أخرج! فرآه رجلا آدم طويلا ، شديد الساعدين ، بعيد ما بين المنكبين ، فقال : «إني أراه للأقران قاتلا ، أخرج إن شئت» ، فخرج إليهما فقالا له : من أنت؟ فانتسب لهما ، فقالا له : لا نعرفك ، ليخرج إلينا ـ زهير ابن القين أو حبيب بن مظاهر ـ ، ويسار أمام سالم ، فقال له : يا ابن الزانية! أو لك رغبة عن مبارزة أحد ، وليس أحد من الناس إلّا وهو خير منك؟ ثم حمل عليه فضربه حتى سكت ، وأنّه لمشتغل به يضربه بسيفه ، إذ شدّ عليه سالم ، فصاح به أصحابه : العبد قد دهاك ، فلم يلتفت إليه حتى جاء سالم وبدره بضربة ، فاتقاها الكلبي بيده ، فأطار أصابع كفّه ، ثم مال عليه الكلبي فقتله ، ثمّ قتل بعد ذلك.

قال أبو مخنف : فلما رموهم هذه الرمية قلّ أصحاب الحسينعليه‌السلام ، فبقي في هؤلاء القوم الذين يذكرون في المبارزة ، وقد قتل منهم ما ينيف على خمسين رجلا ، فعندها ضرب الحسينعليه‌السلام بيده إلى لحيته ، فقال : هذه

١١

رسل القوم ـ يعني السهام ـ ، ثمّ قال : «اشتدّ غضب الله على اليهود والنصارى إذ جعلوا له ولدا ، واشتدّ غضب الله على المجوس إذ عبدت الشمس والقمر والنّار من دونه ، واشتدّ غضب الله على قوم اتّفقت آراؤهم على قتل ابن بنت نبيهم ، والله ، لا أجيبهم إلى شيء مما يريدونه أبدا ، حتى ألقى الله وأنا مخضب بدمي» ثم صاحعليه‌السلام : «أما من مغيث يغيثنا لوجه الله تعالى؟ أما من ذاب يذبّ عن حرم رسول الله»؟

فلمّا سمع الحر بن يزيد هذا الكلام ، اضطرب قلبه ، ودمعت عيناه ، فخرج باكيا متضرعا ، مع غلام له تركي ، وكان كيفية انتقاله الى الحسين ، أنّه لما سمع هذا الكلام من الحسين أتى إلى عمر بن سعد ، فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال : إي والله! قتالا شديدا أيسره أن تسقط الرءوس ، وتطيح الأيدي ، فقال : أما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضى؟ فقال : والله ، لو كان الأمر إليّ لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى ذلك.

فأقبل الحر حتى وقف عن النّاس جانبا ومعه رجل من قومه ، يقال له : قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرة! هل سقيت فرسك اليوم ماء؟ قال : لا. قال : أما تريد أن تسقيه؟ قال قرّة : فظننت ، والله ، أنّه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال ، ويكره أن أراه يصنع ذلك مخافة أن أرفع عليه ، فقلت له : لم أسقيه وأنا منطلق فأسقيه.

قال : فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه والله لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين ، فأخذ يدنو قليلا قليلا ، فقال له رجل من قومه : يا أبا يزيد! إنّ أمرك لمريب ، فما الذي تريد؟ قال : والله ، إني اخير نفسي بين الجنّة والنار ، وو الله ، لا أختار على الجنّة شيئا ولو قطعت وحرقت.

١٢

ثم ضرب فرسه ، ولحق بالحسين مع غلامه التركي ، فقال : يا ابن رسول الله! جعلني الله فداك ، إني صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان ، والله الذي لا إله إلّا هو ، ما ظننت القوم يردون عليك ما عرضت عليهم ، ولا يبلغون بك هذه المنزلة ، وإني لو سوّلت لي نفسي أنهم يقتلونك ما ركبت هذا منك ، وإني قد جئتك تائبا إلى ربي مما كان مني ، ومواسيك بنفسي حتى أموت بين يديك ، أفترى ذلك لي توبة؟

قال : «نعم ، يتوب الله عليك ويغفر لك ، ما اسمك»؟ قال : أنا الحرّ ، قال : «أنت الحر كما سمتك امك ، أنت الحرّ في الدنيا والآخرة ؛ انزل» ، فقال : أنا لك فارسا خير مني لك راجلا ، اقاتلهم على فرسي ساعة ، وإلى النزول ما يصير أمري. ثم قال : يا ابن رسول الله! كنت أوّل خارج عليك ، فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك ، فلعلي أن أكون ممن يصافح جدّك محمدا غدا في القيامة. فقال له الحسينعليه‌السلام : «إن شئت فأنت ممن تاب الله عليه ، وهو التواب الرحيم» ، فكان أول من تقدّم إلى براز القوم ، الحرّ بن يزيد الرياحي ، فأنشد في برازه :

إني أنا الحرّ ومأوى الضيف

أضرب في أعناقكم بالسيف

عن خير من حلّ بوادي الخيف

أضربكم ولا أرى من حيف

وروي : أنّ الحر لما لحق بالحسينعليه‌السلام ، قال رجل من بني تميم ، يقال له يزيد بن سفيان : أما والله ، لو لقيت الحر حين خرج لأتبعته السنان ، فبينا هو يقاتل ، وإنّ فرسه لمضروب على اذنيه وحاجبه ، وإن الدماء لتسيل ، إذ قال الحصين بن نمير : يا يزيد! هذا الحرّ الذي كنت تتمناه ، فهل لك به؟ قال : نعم ، وخرج إليه ، فما لبث الحرّ أن قتله وقتل أربعين فارسا وراجلا ، ولم

١٣

يزل يقاتل حتى عرقب فرسه ، وبقي راجلا ، فجعل يقاتل وهو يقول :

إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ

أشجع من ذي لبدة هزبر

ولست بالخوار عند الكرّ

لكنّني الثابت عند الفرّ

ثمّ لم يزل يقاتل حتى قتل ، فاحتمله أصحاب الحسينعليه‌السلام حتى وضعوه بين يدي الحسين وبه رمق ، فجعل الحسين يمسح التراب عن وجهه ، وهو يقول له : «أنت الحرّ كما سمّتك به امك ، أنت الحرّ في الدّنيا ، وأنت الحرّ في الآخرة». ثمّ رثاه بعض أصحاب الحسين.

وقال الحاكم الجشمي : بل رثاه علي بن الحسينعليه‌السلام بقوله :

لنعم الحر حرّ بني رياح

صبور عند مشتبك الرماح

ونعم الحر إذ نادى حسين

فجاد بنفسه عند الصباح

وروي : أنّه كان ينشد عند مكافحته :

آليت لا اقتل حتى اقتلا

ولا اصاب اليوم إلّا مقبلا

أضربهم بالسيف ضربا معضلا

لا ناكلا فيهم ولا مهللا

قال : ثمّ برز من بعده برير بن خضير الهمداني ، وهو يقول :

أنا برير وفتى خضير

أضربكم ولا أرى من ضير

يعرف في الخير أهل الخير

كذاك فعل الخير من برير

وكان برير من عباد الله الصالحين ، فحمل وقاتل قتالا شديدا ، وجعل ينادي فيهم : اقتربوا مني ، يا قتلة المؤمنين! اقتربوا مني ، يا قتلة أولاد البدريين! اقتربوا مني ، يا قتلة عترة خير المرسلين! فبرز إليه رجل يقال له : يزيد بن معقل ، فقال لبرير : أشهد أنّك من المضلّين ، فقال له برير : هلم ، فلندع الله أن يلعن الكاذب منّا ، وأن يقتل المحق منا المبطل.

فخرجا ، ودعوا الله تعالى في ذلك ، وتبارزا فضرب يزيد بريرا ضربة

١٤

خفيفة لم تضرّه ، وضرب برير يزيدا ضربة قدّت المغفر ، ووصلت إلى دماغه ، فسقط قتيلا ، فحمل بجير بن أوس الضبي على برير ، وهو مشغول بيزيد ، فقتله ، ثمّ جال في ميدان الحرب ، وهو يقول :

سلي تخبري عنّي وأنت ذميمة

غداة حسين والرماح شوارع

ألم آت أقصى ما كرهت ولم يحل

غداة الوغى والروع ما أنا صانع

معي يزني لم تخنه كعوبه

وأبيض مشحوذ الغرارين قاطع

فجرّدته في عصبة ليس دينهم

كديني وإني بعد ذاك لقانع

وقد صبروا للطعن والضرب حسرا

وقد جالدوا لو أنّ ذلك نافع

فأبلغ عبيد الله إما لقيته

بأني مطيع للخليفة سامع

قتلت بريرا ثم جللت نعمة

غداة الوغى لما دعا من يقارع

ثم إنه ذكر له بعد ذلك أن بريرا كان من عباد الله الصالحين ، ثم جاءه ابن عم له يقال له : عبيد الله بن جابر ، فقال له : ويلك ، يا بجير! أقتلت برير بن خضير؟ بأي وجه تلقى ربك غدا؟ فندم وقال :

فلو شاء ربّي ما شهدت قتالهم

ولا جعل النعماء عند ابن جابر

لقد كان ذاك اليوم عارا وسبّة

تعير به الأبناء عند المعاشر

فيا ليت أني كنت في الرّحم حيضة

ويوم حسين كنت في رمس قابر

ويا سوأتي ما ذا أقول لخالقي؟

وما حجّتي يوم الحساب القماطر؟

قال : ثمّ خرج وهب بن عبد الله بن جناب الكلبي ، وكانت معه أمه ، فقالت له : قم يا بني! فانصر ابن بنت رسول الله ، فقال : أفعل ، يا اماه! ولا اقصر إن شاء الله ، ثم برز ، وهو يقول :

إن تنكروني فأنا ابن الكلبي

سوف تروني وترون ضربي

وحملتي وصولتي في الحرب

أدرك ثاري بعد ثأر صحبي

وأدفع الكرب بيوم الكرب

فما جلادي في الوغى للعب

١٥

ثم حمل ، فلم يزل يقاتل حتى قتل جماعة ، فرجع إلى أمه وامرأته فوقف عليهما ، فقال: يا اماه! أرضيت عني؟ فقالت : ما رضيت ، أو تقتل بين يدي ابن بنت رسول الله ، فقالت له امرأته : أسألك بالله أن لا تفجعني بنفسك ، فقالت له امّه : لا تسمع قولها ، وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله ليكون غدا شفيعك عند ربّك. فتقدّم وهو يقول:

إني زعيم لك أمّ وهب

بالطعن فيهم تارة والضرب

فعل غلام مؤمن بالرب

حتى يذيق القوم مرّ الحرب

إني امرؤ ذو مرّة وعصب

ولست بالخوار عند النكب

حسبي بنفسي من عليم حسبي

إذا انتميت في كرام العرب

ولم يزل يقاتل حتى قطعت يمينه ، فلم يبال ، وجعل يقاتل حتى قطعت شماله ، ثمّ قتل ، فجاءت إليه أمه تمسح الدّم عن وجهه ، فأبصرها شمر بن ذي الجوشن ، فأمر غلاما له فضربها بالعمود حتى شدخها وقتلها ، فهي أوّل امرأة قتلت في حرب الحسينعليه‌السلام .

وذكر مجد الأئمة السرخسكي ، عن أبي عبد الله الحدّاد : أن وهب بن عبد الله هذا ، كان نصرانيا ، فأسلم هو وأمه على يد الحسينعليه‌السلام ، وأنّه قتل في المبارزة أربعة وعشرين رجلا ، واثني عشر فارسا ، فاخذ أسيرا ، واتي به عمر بن سعد ، فقال له : ما أشدّ صولتك! ثم أمر فضرب عنقه ، ورمي برأسه إلى عسكر الحسين ، فأخذت أمه الرأس فقبلته ، ثم شدّت بعمود الفسطاط ، فقتلت به رجلين ، فقال لها الحسين : «ارجعي أمّ وهب! فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء». فرجعت ، وهي تقول : إلهي لا تقطع رجائي ، فقال لها الحسين : «لا يقطع الله رجاك ، يا أمّ وهب! ، أنت وولدك مع رسول الله وذريته في الجنّة».

١٦

قال : ثم برز من بعده عمرو بن خالد الأزدي ، وهو يقول :

اليوم يا نفس إلى الرحمن

تمضين بالروح وبالريحان

اليوم تجزين على الإحسان

قد كان منك غابر الزمان

ما خط باللوح لدى الديّان

فاليوم زال ذاك بالغفران

لا تجزعي فكلّ حيّ فان

والصبر أحظى لك بالأمان

فقاتل حتى قتل ، ثمّ تقدم ابنه خالد بن عمرو بن خالد الأزدي ، وهو يقول :

صبرا على الموت بني قحطان

كيما نكون في رضى الرّحمن

ذي المجد والعزّة والبرهان

يا أبتا قد صرت في الجنان

ثم حمل فقاتل حتّى قتل ، ثم خرج من بعده سعد بن حنظلة التميمي وهو يقول :

صبرا على الأسياف والأسنّة

صبرا عليها لدخول الجنّه

وحور عين ناعمات هنّه

لمن يريد الفوز لا بالظنّه

يا نفس للراحة فاطرحنّه

وفي طلاب الخير فارغبنّه

ثم حمل وقاتل قتالا شديدا فقتل ، ثم خرج من بعده عمير بن عبد الله المذحجي ، وهو يقول :

قد علمت سعد وحي مذحج

أني ليث الغاب لم اهجهج

أعلو بسيفي هامة المدجّج

وأترك القرن لدى التعرج

فريسة الضبع الأزل الأعرج

فمن تراه واقفا بمنهجي

ولم يزل يقاتل قتالا شديدا ، حتى قتله مسلم الضبابي ، وعبد الله البجلي ، اشتركا في قتله ، ثم خرج مسلم بن عوسجة الأسدي وهو يقول :

١٧

إن تسألوا عني فإني ذو لبد

من فرع قوم من ذرى بني أسد

فمن بغاني حائد عن الرشد

وكافر بدين جبّار صمد

ثمّ تابعه نافع بن هلال الجملي ، وهو يقول :

أنا على دين عليّ

ابن هلال الجملي

أضربكم بمنصلي

تحت عجاج القسطل

فخرج لنافع رجل من بني قطيعة ، فقال لنافع : أنا على دين عثمان ، فقال نافع : إذن أنت على دين الشيطان ، وحمل عليه فقتله ، فأخذ نافع ومسلم يجولان في ميمنة ابن سعد ، فقال عمرو بن الحجاج ـ وكان على الميمنة ـ : ويلكم ، يا حمقاء مهلا! أتدرون من تقاتلون؟ إنما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين ، لا يبرزن منكم أحد إلّا قتلوه على قلّتهم ، والله ، لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم.

فقال ابن سعد له : صدقت! الرأي ما رأيت ، فأرسل في العسكر يعزم عليهم : أن لا يبارز رجل منكم ، فلو خرجتم وحدانا لأتوا عليكم مبارزة. ثمّ دنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين ، ثم صاح بقومه : يا أهل الكوفة! ألزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين ، وخالف إمام المسلمين.

فقال له الحسين : «يا ابن الحجاج! أعليّ تحرّض الناس؟ أنحن مرقنا عن الدين وأنتم ثبتم عليه؟ والله ، لتعلمنّ أينا المارق عن الدين ، ومن هو أولى بصلي النّار».

ثم حمل عمرو بميمنته من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة ، وانصرف عمرو بن الحجاج ، وارتفعت الغبرة ، فإذا مسلم صريع ، فمشى إليه الحسين ، فإذا به رمق ، فقال له الحسين : «رحمك

١٨

الله يا مسلم!( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) الأحزاب / ٢٣ ، ودنا منه حبيب بن مظاهر ، فقال له : عزّ والله ، عليّ مصرعك يا مسلم! أبشر بالجنة. فقال قولا ضعيفا : بشرك الله بخير ، فقال له حبيب : لو لا أني أعلم أني لا حقّ بك في أثرك من ساعتي هذه ، لأحببت أن توصي إليّ بكل ما أهمّك ، حتى أحفظك في ذلك ، لما أنت أهله في القرابة والدين ، فقال له : بلى ، اوصيك بهذا رحمك الله ، ـ وأومأ إلى الحسين ـ أن تموت دونه. فقال له : أفعل وربّ الكعبة ، فما أسرع من أن مات ، فصاحت جارية له : يا سيداه! يا بن عوسجتاه! فنادى أصحاب عمر بن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة ، فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم امهاتكم! أما أنكم تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلون عزّكم ، أتفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة؟ أما والذي أسلمت له ، لربّ موقف له في المسلمين كريم ، والله ، لقد رأيته يوم «آذربيجان» قتل ستّة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين.

قال : ثمّ حمل شمر بن ذي الجوشن فثبتوا له ، وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا ، وإنما هم اثنان وثلاثون فارسا ، فلا يحملون على جانب من أهل الكوفة إلّا كشفوه ، فدعا عمر بن سعد بالحصين بن نمير في خمسمائة من الرماة ، فأقبلوا حتى دنوا من الحسين وأصحابه ، فرشقوهم بالنبل ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم ، وقاتلوهم حتى انتصف النهار ، واشتد القتال ، ولم يقدر أصحاب ابن سعد أن يأتوهم إلّا من جانب واحد ، لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض. فأرسل عمر بن سعد الرجال ليقوّضوا الأبنية من عن شمائلهم وأيمانهم ليحيطوا بها ، وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون بينها فيشدون على الرجل وهو يقوّض وينتهب ،

١٩

فيرمونه من قريب فيصرعونه ويقتلونه ، فأمر عمر بن سعد أن يحرقوها بالنّار.

فقال الحسين لأصحابه : «دعوهم فليحرقوها ، فإنهم لو فعلوا لم يجوزوا إليكم منها». فأحرقوها وكان ذلك كذلك. وقيل : قال له شبث بن ربعي : أفزعت النساء ثكلتك امّك! فاستحيى من ذاك وانصرف عنه ، وجعلوا لا يقاتلونهم إلّا من وجه واحد ، وشدّ أصحاب زهير بن القين فقتلوا أبا عذرة الضبابي من أصحاب شمر.

قال : ولا يزال يقتل من أصحاب الحسين الواحد والاثنان ، فيتبين ذلك فيهم لقلّتهم ، ويقتل من أصحاب عمر العشرة والعشرون ، فلا يتبين ذلك فيهم لكثرتهم.

قال : ورأى أبو ثمامة الصيداوي زوال الشمس ، فقال للحسين : يا أبا عبد الله! نفسي لك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا ، ولا والله ، تقتل حتى اقتل دونك ، واحبّ أن ألقى ربي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها. فرفع الحسين رأسه إلى السماء ، وقال له : «ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلّين ، نعم ، هذا أول وقتها» ، ثم قال : «سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلّي».

فقال له الحصين بن نمير : إنها لا تقبل منك ، فقال له حبيب بن مظاهر : لا تقبل الصلاة زعمت من آل رسول الله ، وتقبل منك يا ختار! فحمل عليه الحصين ، وحمل عليه حبيب فضرب حبيب وجه الفرس ، فشبّ الفرس ، ووقع عنه الحصين فاحتوشه أصحابه فاستنقذوه.

فقال الحسين لزهير بن القين ؛ وسعيد بن عبد الله : «تقدّما أمامي» ، فتقدما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أصلها.

وقال بعض الع امّة : القول قول الوكيل ، فيثبت التزويج هنا ؛ لأنّهما اختلفا في فعل الوكيل ما أُمر به ، فكان القولُ قولَه ، كما لو وكّله في بيع ثوبٍ فادّعى أنّه باعه(١) .

ولو غاب رجل فجاء آخَر إلى امرأته فذكر أنّ زوجها طلّقها وأبانها ووكّله في تجديد نكاحها بألف ، فأذنت في نكاحها ، فعقد عليها وضمن الوكيل الألف ، ثمّ جاء الزوج وأنكر ذلك كلّه ، فالقول قوله ، والنكاح الأوّل بحاله. ثمّ المرأة إن صدّقت الوكيل ، لزمه الألف ، إلّا أن يطلّقها زوجها قبل الدخول - وبه قال مالك وزفر(٢) - لأنّ الوكيل قد أقرّ بأنّ الحقّ في ذمّة المضمون عنه ، وأنّه ضامن عنه ، فلزمه ما أقرّ به ، كما لو ادّعى على رجل أنّه ضمن له ألفاً له على أجنبيّ ، فأقرّ الضامن بالضمان وصحّته وثبوت الحقّ في ذمّة المضمون [ عنه ] وأنكر المضمون عنه ، وكما لو ادّعى شفعةً على إنسانٍ في شقصٍ اشتراه ، فأقرّ البائع بالبيع وأنكر المشتري ، فإنّ الشفيع يستحقّ الشفعة.

وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يلزم الضامن شي‌ء ؛ لأنّه فرع المضمون عنه ، والمضمون عنه لا يلزمه شي‌ء فكذا فرعه(٣) .

ولو لم تدّع المرأة صحّة ما ذكره الوكيل ، لم يكن عليه شي‌ء.

____________________

= الكبير ٥ : ٢٥٦ ، و ٧ : ٤٥٧ ، بداية المجتهد ٢ : ١٧ ، الحاوي الكبير ٩ : ٥٧ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٤١ ، الوسيط ٥ : ٥٣ ، الوجيز ٢ : ٤ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٥١٥ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٩١.

(١) المغني ٥ : ٢٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٧.

(٢ و ٣) المغني ٥ : ٢٢٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٧.

٢٢١

ويحتمل أنّ مَنْ أسق ط عنه الضمان أسقطه في هذه الصورة ، ومَنْ أوجب أوجبه في الصورة الأُخرى.

مسألة ٨٢٠ : قد بيّنّا أنّه إذا اختلف الوكيل والموكّل - فقال الموكّل : أذنتُ لك في البيع نقداً أو في الشراء بخمسةٍ ، وقال الوكيل : بل أذنتَ لي في البيع نسيئةً وفي الشراء بعشرة - أنّ القولَ قولُ الموكّل مع يمينه ؛ لأصالة عدم الإذن ، وبه قال الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي(١) .

وقال أحمد : القول قول الوكيل ؛ لأنّه أمينه في التصرّف ، فكان القولُ قولَه في صفته ، كالخيّاط إذا قال : أذنتَ لي في تفصيله قباءً ، فقال : بل قميصاً(٢) .

وكذا إذا قال : وكّلتُك في البيع بألفين ، فقال : بل بألف.

وقال مالك : إن أُدركت السلعة فالقول قول الموكّل ، وإن فاتت فالقول قول الوكيل ؛ لأنّها إذا فاتت لزم الوكيل الضمان ، والأصل عدمه ، بخلاف ما إذا كانت موجودةً(٣) .

والأوّل أصحّ ؛ لأنّه اختلاف في التوكيل الذي يدّعيه الوكيل ، والأصل عدمه ، فالقول قول مَنْ ينفيه ، كما لو لم يُقرّ الموكّل بتوكيله في غيره.

ولأنّهما اختلفا في صفة قول الموكّل ، فكان القولُ قولَه في صفة كلامه.

ولو قال الوكيل : اشتريتُ لك هذه الجارية بإذنك ، فقال الموكّل :

____________________

(١) مختصر المزني : ١١١ ، الحاوي الكبير ٦ : ٥٤٤ - ٥٤٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٤ ، الوسيط ٣ : ٣٠٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٥٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦٥ ، المغني ٥ : ٢٢٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥٠ - ٢٥١ ، وانظر : الإقناع - لابن المنذر - : ٥٥٢.

(٢) الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٤٥ ، المغني ٥ : ٢٢٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥١.

(٣) المغني ٥ : ٢٢٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٥١.

٢٢٢

ما أذنتُ لك إلّا في شراء غيرها ، أو قال : اشتريتُها لك بألفين ، فقال : ما أذنتُ لك إلاّ في شرائها بألف ، فالقول قول الموكّل مع اليمين ، فإذا حلف برئ من الشراء.

ثمّ إن كان الشراء بعين مال الموكّل ، بطل البيع ، وتُردّ الجارية على البائع. وإن كان في الذمّة وسمّاه أو نواه وصدّقه البائع ، فكذلك ، وإلّا وقع للوكيل.

ولو كذّبه البائع في أنّ الشراء لغيره أو بمال غيره بغير إذنه ، حلف البائع على عدم العلم ؛ لأنّ الأصل أنّ ما في يد الإنسان له ، وكان على الوكيل غرامةُ الثمن للموكّل ، ودَفْعُ الثمن إلى البائع ، وتبقى الجارية له(١) ، ولا تحلّ له ؛ لأنّه إن كان صادقاً فهي للموكّل ، وإن كان كاذباً فللبائع ، فإذا أراد استحلالها اشتراها ممّن هي له في الباطن ، فإن امتنع من بيعه إيّاها ، رفع الأمر إلى الحاكم ليثبت له الدَّيْن ظاهراً وباطناً ، ويصير له ما ثبت في ذمّته قصاصاً بالذي أخذ منه الآخَر ظلماً ، فإن امتنع الآخَر من البيع ، لم يُجبر على البيع ؛ لأنّه عقد مراضاة.

وإن قال له : إن كانت الجارية لي فقد بعتُكها ، أو قال الموكّل : إن كنتُ أذنتُ لك في الشراء فقد بعتُكها ، صحّ توصّلاً إلى الخلاص.

وللشافعيّة وجهان(٢) .

وكلّ موضعٍ كانت للموكّل في الباطن ، فإن امتنع من بيعها للوكيل ،

____________________

(١) الظاهر : « في يده » بدل « له ».

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٥٤٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٥ ، الوسيط ٣ : ٣٠٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٥٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦٦.

٢٢٣

فقد حصلت في يد الوكيل ، وهي للموكّل ، وفي ذمّته للوكيل ثمنها ، فيأذن الحاكم في بيعها وتوفية حقّه من ثمنها ، فإن كانت للموكّل فقد باعها الحاكم في إيفاء دَيْنٍ امتنع المديون من إيفائه. وإن كانت للوكيل ، فقد أذن في بيعها.

مسألة ٨٢١ : إذا بعث المالك إلى المديون رسولاً ليقبض دَيْنه الذي له عليه‌ ، وكان الدَّيْن دراهم مثلاً ، فبعث معه ديناراً فضاع الدينار من الرسول ، فهو من مال الباعث ؛ لأنّه إنّما أمره بقبض دَيْنه وهو دراهم. فإذا دفع إليه ذهباً ، يكون قد صارفه من غير أمره ، وقد دفع المديون إلى الرسول غير ما أمر به المرسل ، والصَّرف شرطه رضا المتصارفين ، فصار الرسول وكيلاً للباعث في تأديته إلى صاحب الدَّيْن ومصارفته به ، فإذا تلف في يد وكيله كان من ضمانه.

ولو كان الرسول قد أخبر المديونَ بأنّ المالك قد أذن له في قبض الدينار عوضاً عن الدراهم ، كان من ضمان الرسول ؛ لأنّه غرّه ، وأخذ الدينار على أنّه وكيل.

ولو قبض الدراهم فضاعت ، كانت من ضمان صاحبها ؛ لأنّها تلفت في يد وكيله. ولو قبض أزيد ممّا أمره بقبضه ثمّ تلف الجميع ، فالضمان في الأصل على صاحب الدراهم ، وفي الزائد على الباعث ، حيث دفع إلى مَنْ لم يؤمر بالدفع إليه ، ويرجع الباعث على الرسول ؛ لأنّه غرّه ، وحصل التلف في يده ، فاستقرّ الضمان عليه للموكّل ، وللموكّل أن يضمن الوكيل ؛ لأنّه تعدّى بقبض ما لم يؤمر بقبضه ، فإذا ضمنه لم يرجع على أحدٍ ؛ لأنّ التلف حصل في يده ، فاستقرّ الضمان عليه.

مسألة ٨٢٢ : لو وكّله في قبض دَيْنه وغاب ، فأخذ الوكيل به رهناً‌

٢٢٤

فتلف الرهن في يد الوكيل ، فقد أساء الوكيل بقبض الرهن وأخذه حيث لم يأمره المالك ، ولا ضمان عليه في الرهن ؛ لأنّه رهن فاسد ، والقبض في العقد الفاسد كالقبض في الصحيح ، فكلّ قبضٍ صحيح كان مضموناً فالفاسد فيه يكون مضموناً ، وما لا يكون صحيحه مضموناً لا يكون فاسده مضموناً ، والرهن الفاسد كالصحيح في عدم الضمان بقبضه.

ولو دفع إليه دراهم ليشتري بها سلعةً فخلطها مع دراهمه فضاعا معاً ، ضمن. وإن ضاع أحدهما ، فكذلك ؛ لأنّه فرّط بالمزج.

وقال بعض العامّة : إن ضاعا معاً ، فلا شي‌ء عليه. وإن ضاع أحدهما أيّهما ضاع ، غرمه(١) .

وهذا كلام غير محصّل ، وكيف جعل ضياع مال الاثنين شرطاً في زوال الضمان عنه!؟

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٣١ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٦٠ - ٢٦١.

٢٢٥

الفصل السادس : فيما به تثبت الوكالة‌

مسألة ٨٢٣ : تثبت الوكالة بإقرار الموكّل على نفسه بأنّه وكّله ، وبشهادة عَدْلين ذكرين ، ولا تثبت بشهادة رجلٍ وامرأتين ، ولا بشهادة رجلٍ ويمين ، عند علمائنا أجمع ، سواء كانت الوكالة بمالٍ أو لا - وبه قال الشافعي(١) - لأنّ الوكالة إثبات للتصرّف ، فلا تثبت إلّا بشاهدَيْن ، كالوصيّة.

وقال أحمد في إحدى الروايتين : إنّه تُقبل في الوكالة بالمال شهادة رجلٍ وامرأتين وشهادة رجلٍ ويمين(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّها شهادة بولايةٍ ، فلا تُقبل إلّا برجلين.

ويفارق ما إذا ادّعى أنّه أوصى له بكذا ، فإنّه يُقبل فيه شاهد وامرأتان ، وشاهد ويمين ؛ لأنّ المقصود فيه إثبات المال ، دون التصرّف.

مسألة ٨٢٤ : يشترط بقاء شهادة الشاهدَيْن على الوكالة ، فلو شهد أحدهما أنّه وكّله ثمّ شهد الآخَر أنّه وكّله ثمّ عزله ، لم تثبت الوكالة بهذه الشهادة ؛ لأنّ أحدهما لم يُثبت وكالته في الحال.

ولو شهدا له بالوكالة مطلقاً ثمّ عاد أحدهما قبل الحكم بها ، فقال : قد‌

____________________

(١) الأُم ٧ : ٤٨ ، الحاوي الكبير ١٧ : ٨ ، المهذّب - للشيرازي - ٢ : ٣٣٤ ، بحر المذهب ٨ : ٢١٥ ، و ١٢ : ١٣٣ ، الوجيز ٢ : ٢٥٢ ، الوسيط ٧ : ٣٦٥ - ٣٦٦ ، حلية العلماء ٨ : ٢٧٦ ، التهذيب - للبغوي - ٨ : ٢١٨ ، البيان ٦ : ٤٠٣ ، و ١٣ : ٣٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ١٣ : ٤٨ ، روضة الطالبين ٨ : ٢٢٦ ، المغني ٥ : ٢٦٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٦٤.

(٢) المغني ٥ : ٢٦٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٦٤.

٢٢٦

عزله بعد التوكيل ، لم يحكم بالشهادة ؛ لأنّه رجوع عن الشهادة قبل الحكم ، فلا يصحّ للحاكم الحكم بما رجع عنه.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه [ لا ](١) يُقبل ؛ لأنّه رجوع عن الشهادة ، فأشبه ما إذا كان بعد الحكم(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه إذا رجع بعد الحكم ، فقد نفذ الحكم بالشهادة. وإذا كان قبل الحكم ، لا يمكن الحكم بشهادةٍ مرجوعٍ عنها.

فأمّا إذا حكم بذلك ثمّ قالا أو أحدهما : إنّه عزله بعد ما وكّله ، فإن كان ذلك رجوعاً عن الشهادة لم يُقبل.

وكذا لو شهد الشاهدان بالوكالة ثمّ شهد ثالث غيرهما بالعزل ، لم يثبت العزل بشهادة واحدٍ ؛ لأنّ العزل إنّما يثبت بما يثبت به التوكيل.

ولو شهد الشاهدان بالوكالة ثمّ شهدا معاً بالعزل ، تمّت الشهادة في العزل كتمامها في التوكيل.

مسألة ٨٢٥ : من شرط قبول الشهادة اتّفاق الشاهدَيْن على الفعل الواحد ، فلو شهد أحدهما أنّه وكّله يوم الجمعة ، وشهد الآخَر أنّه وكّله يوم السبت ، لم تتمّ(٣) البيّنة ؛ لأنّ التوكيل يوم الجمعة غير التوكيل يوم السبت ، فلم تكمل شهادتهما على فعلٍ واحد.

ولو شهد أحدهما أنّه أقرّ بتوكيله يوم الجمعة ، وشهد الآخَر أنّه أقرّ به يوم السبت ، تثبت الشهادة ؛ لأنّ الإقرارين إخبار عن عقدٍ واحد ، ويشقّ جمع الشهود على إقرارٍ واحد ليقرّ عندهم في حالةٍ واحدة ، فجُوّز له الإقرار‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق وكما هو في حلية العلماء.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢١٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٤٩ ، البيان ٦ : ٤٠٣.

(٣) في « ث ، خ ، ر » : « لم تثبت ».

٢٢٧

عند كلّ واحدٍ وحده رخصةً للمُقرّ.

وكذا لو شهد أحدهما أنّه أقرّ عنده بالوكالة بالعربيّة ، وشهد الآخَر أنّه أقرّ بها بالعجميّة ، تثبت الوكالة.

ولو شهد أحدهما أنّه وكّله بالعربيّة ، وشهد الآخَر أنّه وكّله بالعجميّة ، لم تثبت ؛ لأنّ الإنشاء هنا متعدّد لم يشهد بأحدهما شاهدان(١) .

وكذا لو شهد أحدهما أنّه قال : وكّلتُك ، وشهد الآخَر أنّه قال : أذنتُ لك في التصرّف ، أو قال : جعلتُك وكيلاً ، أو شهد أنّه قال : جعلتُك جريّاً ، أي وكيلاً(٢) ، لم تتمّ الشهادة ؛ لاختلاف اللفظ.

ولو شهد أحدهما أنّه وكّله وشهد الآخَر أنّه أذن له في التصرّف ، تمّت الشهادة ؛ لأنّهما لم يحكيا لفظ الموكّل ، وإنّما عبّرا عنه بلفظهما ، واختلاف لفظهما لا يؤثّر إذا اتّفق معناه.

ولو قال أحدهما : أشهد أنّه أقرّ عندي أنّه وكيله ، وشهد الآخَر أنّه وكّله ، لم تثبت الوكالة ؛ لأنّ الإقرار غير الإنشاء ، وكلّ واحدٍ لم تكمل شهادته.

ولو قال أحدهما : أشهد أنّه أقرّ عندي أنّه وكيله ، وقال الآخَر : أشهد أنّه أقرّ أنّه جريُّه ، أو أنّه أوصى إليه بالتصرّف في حياته ، تثبت الوكالة بذلك ؛ لأنّهما أخبرا بلفظهما.

ولو شهدا على الإنشاء لكن شهد أحدهما أنّه وكّله في بيع عبده ، وشهد الآخَر أنّه وكّله وزيداً ، أو أشهد أنّه وكّله في بيعه وقال : لا تبعه حتى تستأمرني أو تستأمر فلاناً ، لم تتم الشهادة ؛ لأنّ الأوّل أثبت استقلاله بالبيع من‌

____________________

(١) في « ث ، خ » : « الشاهدان ».

(٢) لسان العرب ١٤ : ١٤٢ « جرا ».

٢٢٨

غير شرطٍ ، والثاني ينفي ذلك ، فاختلفت الشهادة.

أمّا لو شهد أحدهما أنّه وكّله في بيع عبده وشهد الآخَر أنّه وكّله في بيع عبده وجاريته ، حُكم بالوكالة في العبد ؛ لاتّفاقهما عليه ، وزيادة الثاني لا تقدح في تصرّفه في الأوّل ولا تضرّ.

وهكذا لو شهد أحدهما أنّه وكّله في بيعه لزيدٍ وشهد الآخَر أنّه وكّله في بيعه لزيدٍ وإن شاء لعمرو ، على إشكالٍ.

مسألة ٨٢٦ : لا تثبت الوكالة والعزل بشهادة واحدٍ ولا بخبره‌ ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي وأحمد(١) - لأنّه حقٌّ ماليّ ، فلا يثبت بخبر الواحد ولا بشهادته ، كالبيع.

وقال أبو حنيفة : تثبت الوكالة بخبر الواحد وإن لم يكن ثقةً ، ويجوز التصرّف للمُخبر بذلك إذا غلب على ظنّه صدق المُخبر بشرط الضمان إن أنكر الموكّل. ويثبت العزل بخبر الواحد إذا كان رسولاً ؛ لأنّ اعتبار شاهدَيْن عَدْلين في هذا مشِقٌّ ، فسقط اعتباره [ و ](٢) لأنّه أذن في التصرّف ومنع منه ، فلم يعتبر في هذا شرط الشهادة ، كاستخدام غلامه وإسلام عبده(٣) .

وهو غلط ؛ لأنّ العقد لا يثبت بشاهدٍ واحد ، بخلاف الاستخدام وإسلام العبد ؛ لأنّه ليس بعقدٍ.

ولو شهد اثنان أنّ فلاناً الغائب وكّل فلاناً الحاضر ، فقال الوكيل : ما علمتُ هذا وأنا أتصرّف عنه ، ثبتت الوكالة ؛ لأنّ معنى ذلك أنّي لم أعلم إلى الآن ، وقبول الوكالة يجوز متراخياً ، وليس من شرط التوكيل حضور‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٢٦٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٦٦ ، وراجع الهامش (١) من ص ٢٢٥.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٣) المغني ٥ : ٢٦٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٦٦.

٢٢٩

الوكيل ولا علمه ، و لا يضرّ جهله به.

ولو قال : ما أعلم صدق الشاهدَيْن ، لم تثبت وكالته ؛ لقدحه في شهادتهما ، على إشكالٍ أقربه ذلك إن طعن في الشهود ، وإلاّ فلا ؛ لأنّ الاعتبار بالسماع عند الحاكم ، وجهله بالعدالة مع علم الحاكم بها إمّا بنفسه أو بالتزكية لا يضرّ في ثبوت حقّه.

مسألة ٨٢٧ : يصحّ سماع البيّنة بالوكالة على الغائب ، وهو أن يدّعي أنّ فلاناً الغائب وكّلني في كذا ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي(١) - لأنّه لا يعتبر رضاه في سماع البيّنة ، فلا يعتبر حضوره كغيره.

وقال أبو حنيفة : لا يصحّ(٢) .

وإذا قال له مَنْ عليه الحقّ : إنّك لا تستحقّ مطالبتي ، أو لستَ بوكيلٍ ، لم تُسمع دعواه ؛ لأنّ ذلك طعن في الشهادة. ولو طلب منه الحلف على استحقاق المطالبة ، لم يُسمع كذلك.

ولو قال : قد عزلك الموكّل فاحلف أنّه ما عزلك ، لم يستحلف ؛ لأنّ الدعوى على الموكّل ، واليمين لا تدخلها النيابة.

ويحتمل الحلف ؛ لأنّه يدّعي عليه استحقاق المطالبة ، فيحلف على نفي العلم.

ولو قال له : أنت تعلم أنّ موكّلك قد عزلك ، سُمعت دعواه.

وإن طلب اليمين من الوكيل ، حلف أنّه لا يعلم أنّ موكّله عزله ؛ لأنّ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٢ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٧ ، روضة القُضاة ١ : ١٩٠ / ٧٥٢ ، و ٢ : ٦٥٥ / ٣٧٠٩.

(٢) روضة القُضاة ١ : ١٩٠ / ٧٤٩ ، و ٢ : ٦٥٥ / ٣٧٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥٢ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٧.

٢٣٠

الدعوى عليه.

وإن أقام الخصم بيّنةً بالعزل ، سُمعت ، وانعزل الوكيل.

مسألة ٨٢٨ : تُقبل شهادة الوكيل على موكّله وله فيما ليس بوكيلٍ فيه‌ ، ولا تُقبل لموكّله فيما هو وكيل فيه ؛ لأنّه يُثبت لنفسه حقّاً.

ولو شهد بما كان وكيلاً فيه بعد عزله ، فإن لم يكن قد خاصم قُبلت ، وإلّا فلا ، وبه قال أبو حنيفة(١) .

وقال أبو يوسف ومحمّد وأحمد بن حنبل : لا تُقبل شهادته ، سواء خاصم أو لا ؛ لأنّه بعقد الوكالة صار خصماً فيه ، فلم تُقبل شهادته فيه ، كما لو خاصم فيه ، بخلاف ما إذا لم يكن وكيلاً ، فإنّه لم يكن خصماً فيه(٢) .

وهو خطأ ؛ لأنّ الوكيل بعد عزله كالأجنبيّ ، بل ربما كان متّهماً في حقّ موكّله.

مسألة ٨٢٩ : لو كانت الأمة بين اثنين فشهدا لزيدٍ أنّ زوجها وكّله في طلاقها ، لم تُسمع شهادتهما ؛ لأنّهما يجرّان إلى أنفسهما نفعاً ، وهو زوال حقّ الزوج من البُضْع الذي هو ملكهما.

ولو شهدا بعزل الوكيل في الطلاق ، لم تُقبل شهادتهما ؛ لأنّهما يجرّان إلى أنفسهما نفعاً ، وهو إبقاء النفقة على الزوج.

وتُقبل شهادة ولدي الرجل له بالوكالة وشهادة أبويه ، خلافاً للعامّة(٣) .

____________________

(١) المحيط البرهاني ٨ : ٤٤٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٤٤ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٨.

(٢) المحيط البرهاني ٨ : ٤٤٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٤٩ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٨.

(٣) بحر المذهب ٨ : ٢١٧ ، البيان ٦ : ٤٠٤ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٨.

٢٣١

وتُقبل شهادة ابني ا لموكّل وأبويه بالوكالة ، وبه قال بعض الشافعيّة(١) .

أمّا عندنا : فلأنّه تُقبل شهادة الولد لوالده ، وبالعكس.

وأمّا عنده : فلأنّ هذا حقٌّ على الموكّل يستحقّ به الوكيل المطالبة ، فقُبلت فيه شهادة قرابة الموكّل ، كالإقرار(٢) .

ونحن متى فُرضت الشهادة على الأب منعنا قبولها.

وقال أحمد بن حنبل : لا تُقبل ؛ لأنّها شهادة يثبت فيها حقٌّ لأبيه أو ابنه ، فلم تُقبل - كشهادة(٣) ابني الوكيل وأبويه - لأنّهما يُثبتان لأبيهما نائباً متصرّفاً له ، وفارق الشهادة عليه بالإقرار ؛ فإنّها شهادة عليه متمحّضة(٤) .

والأقرب : إنّه إن كانت الشهادة على الأب ، لم تُسمع. وإن كانت له أو على الولد أو للولد ، سُمعت.

ولو ادّعى الوكيل الوكالةَ ، فأنكرها الموكّل ، فشهد عليه ابناه ، لم تثبت عندنا ؛ لأنّه لا تُقبل شهادة الولد على والده ، خلافاً للعامّة(٥) .

ولو شهد عليه أبواه ، قُبلت عندنا وعندهم(٦) .

وإن ادّعى الموكّل أنّه تصرّف بوكالته ، وأنكر الوكيل ، فشهد عليه ابناه ، لم تُقبل. فإن شهد أبواه سُمعت.

وإن ادّعى وكيل لموكّله الغائب حقّاً وطالَب به ، فادّعى الخصم أنّ الموكّل عزله وشهد له بذلك ابنا الموكّل ، لم تُقبل إن كانت شهادة عليه.

____________________

(١ و ٢) بحر المذهب ٨ : ٢١٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٥٠ ، البيان ٦ : ٤٠٤ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٨.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « شهادة ». والمثبت كما في المصدر.

(٤) المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٨ - ٢٦٩.

(٥ و ٦) بحر المذهب ٨ : ٢١٧ ، البيان ٦ : ٤٠٤ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٩.

٢٣٢

وقال الجمهور : تُسمع ، ويثبت العزل ؛ لأنّهما يشهدان على أبيهما(١) .

وإن لم يدّع الخصم عزله ، لم تُسمع شهادتهما ؛ لأنّهما يشهدان لمن لا يدّعيها.

فإن قبض الوكيل فادّعى [ الموكّل ](٢) أنّه كان قد عزل الوكيل وأنّ حقّه باقٍ في ذمّة الغريم ، وشهد له ابناه ، قُبلت ؛ لأنّهما يثبتان حقّاً لأبيهما ، خلافاً للعامّة(٣) .

ولو ادّعى مكاتَبٌ الوكالةَ فشهد له سيّده ، لم تُقبل.

ولو شهد له ابنا سيّده أو أبواه ، قُبلت عندنا ، خلافاً للعامّة(٤) .

ولو أُعتق العبد وأعاد السيّد الشهادةَ ، احتُمل عدمُ القبول ؛ لأنّها رُدّت للتهمة. والقبولُ ؛ لأنّها رُدّت للملك ، لا للتهمة وقد زال المانع.

وللشافعيّة قولان(٥) .

مسألة ٨٣٠ : لو حضر رجل وادّعى على غائبٍ مالاً في وجه وكيله ، فأنكره‌ ، فأقام بيّنةً بما ادّعاه ، حلّفه الحاكم ، وحكم له بالمال ، فإذا حضر الموكّل وجحد الوكالةَ ، أو ادّعى أنّه كان قد عزله ، لم يؤثّر ذلك في الحكم ؛ لأنّ القضاء على الغائب لا يفتقر إلى حضور وكيله.

ولو قال له : بِعْ هذا الثوب بعشرة ، فما زاد عليها فهو لك ، فمال الجعالة هنا مجهول ، فيبطل المسمّى ، ويثبت له أُجرة المثل ، ولا يلزم‌

____________________

(١) المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٩.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٩.

(٤) بحر المذهب ٨ : ٢١٧ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٦٩.

(٥) بحر المذهب ٨ : ٢١٧ ، البيان ١٣ : ٢٩٧ - ٢٩٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٥٠.

٢٣٣

ما عيّنه له ، وبه ق ال الشافعي(١) .

وقال أحمد : يصحّ ، ويكون للمأمور الزائدُ ؛ لأنّ ابن عباس كان لا يرى بذلك بأساً. ولأنّه يتصرّف في ماله بإذنه ، فصحّ شرط الربح له ، كالمضارب والعامل في المساقاة(٢) .

والفرق : تعذّر تعيين الأُجرة في المضارب والمساقي ، بخلاف الدلالة.

مسألة ٨٣١ : لو ادّعى الوكالة على الغائب وأقام شاهدَيْن وثبتت عند الحاكم وثبت الحقّ لموكّله‌ ، فادّعى مَنْ عليه الحقّ أنّ الموكّل أبرأه من الحقّ أو قضاه ولم يدّع علم الوكيل بذلك ، لم تُسمع منه هذه الدعوى ؛ لأنّ سماع هذه الدعوى يؤدّي إلى إبطال الوكالة في استيفاء حقّ الغائب ، لأنّه متى ادّعى ذلك مَنْ عليه الحقُّ وسُمعت منه ، وقفت المطالبة بالحقّ إلى حضور الموكّل ويمينه ، فتقف بذلك الحقوقُ ، فيقال له : ادفع الحقّ الذي عليك ، وتقف دعواك إلى حضور الموكّل ويمينه.

وإن ادّعى علم الوكيل بذلك ، سُمعت دعواه ، وسأله عن ذلك ، فإن صدّقه بطلت وكالته ، وسقطت مطالبته. وإن أنكر ، حلف على ذلك ، وبه قال الشافعي وزفر(٣) .

وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يحلف ؛ لأنّ هذه اليمين متوجّهة على الموكّل ، فلا ينوب فيها الوكيل(٤) .

وليس بصحيح ؛ لأنّه ليس بنائبٍ عن الموكّل ؛ لأنّ إقراره بذلك‌

____________________

(١ و ٢) المغني ٥ : ٢٧٠.

(٣ و ٤) حلية العلماء ٥ : ١٥١.

٢٣٤

لا يثبت به حقٌّ على الموكّل عندنا ، فلا تسقط(١) بيمينه الدعوى.

ويدلّ على قولنا أنّه لو أقرّ الوكيل بذلك ، سقطت مطالبته ، فإذا أنكر توجّهت عليه اليمين ، كصاحب الحقّ.

* * *

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة : « ولا تسقط ».

٢٣٥

المقصد السابع : في الإقرار‌

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في ماهيّته ومشروعيّته‌

نريد أن نبحث في هذا الفصل عن جميع ما يتعلّق بالإقرار ، ولا شكّ في أنّه متعلّق بمُقِرٍّ ومُقَرٍّ له ومُقَرٍّ به ، وصيغةٍ تترتّب عليها المؤاخذة. وهذه الأربعة هي أركان الإقرار.

ثمّ الـمُقَرّ به قد يكون مالاً ، وقد يكون غيره ، وعلى التقديرين فالمستعمل فيه قد يكون مفصّلاً ، وقد يكون مجملاً ، وعلى كلّ تقديرٍ فقد يُعقَّب الإقرار بما ينافيه(١) وقد لا يُعقَّب.

وإذا لم يكن الـمُقَرّ به مالاً ، فقد يكون عقوبةً من قصاصٍ أو حدٍّ ، وقد يكون نسباً وغيره. ثمّ قد يحصل بحيث يكون من لواحق ذلك ، فالفصول خمسة.

الإقرار : الإثبات ، من قولك : قرّ الشي‌ء يقرّ وأقررته وقرّرته إذا أفدته القرار ، ولم يُسمّ ما يشرع فيه إقراراً من حيث إنّه افتتاح إثباتٍ ، ولكن لأنّه إخبار عن ثبوتٍ ووجوبٍ سابق.

وهو إخبار عن حقٍّ سابق.

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « يرفعه » بدل « ينافيه ».

٢٣٦

وهو معتبر بالكتاب و السنّة والإجماع.

أمّا الكتاب : فقوله تعالى :( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ) إلى قوله :( ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا ) (١) الآية.

وقوله تعالى :( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) (٢) .

وقوله تعالى :( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) (٣) .

وقوله تعالى :( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (٤) .

قال المفسّرون : شهادة المرء على نفسه إقراره(٥) .

والآيات في ذلك كثيرة في القرآن العزيز.

وأمّا السنّة : فما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أقرّ ماعز عنده بالزنا ، فرجمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) .

وكذلك الغامديّة ، وقال : « اغْدُ يا أُنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها »(٧) والاعتراف هو الإقرار.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « قُولوا الحقّ ولو على أنفسكم »(٨) .

وأمّا الإجماع : فقد أجمعت الأُمّة كافّةً على صحّة الإقرار.

____________________

(١) آل عمران : ٨١.

(٢) التوبة : ١٠٢.

(٣) الأعراف : ١٧٢.

(٤) النساء : ١٣٥.

(٥) جامع البيان ( تفسير الطبري ) ٥ : ٢٠٦ ، الكشّاف ١ : ٥٧٠ ، أحكام القرآن - للجصّاص - ٢ : ٢٨٤ ، النكت والعيون ١ : ٥٣٥.

(٦) تقدّم تخريجه في ص ٤٦ ، الهامش (١)

(٧) تقدّم تخريجه في ص ٤٦ ، الهامش (٢)

(٨) أورده الغزالي في الوسيط ٣ : ٣١٧ ، والرافعي في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٧٣.

٢٣٧

ولأنّ الإقرار إخبار على وجهٍ ينفي عنه التهمة والريبة ؛ لأنّ العاقل لا يكذب على نفسه فيما يضرّ بها ، ولهذا كان آكد من الشهادة ؛ لأنّ المدّعى عليه إذا اعترف لم تُسمع عليه الشهادة ، وإنّما الشهادة يحتاج إليها إذا أنكر. ولو كذّب المدّعي بيّنته ، لم تُسمع. وإن كذب المُقرّ ثمّ صدّقه ، سُمع.

* * *

٢٣٨

٢٣٩

الفصل الثاني : في أركانه‌

وهي أربعة ؛ لأنّ الإقرار إنّما يتمّ بالصيغة والـمُقرّ والـمُقَرّ له والمقَرّ به ، فهنا مباحث :

البحث الأوّل : في الصيغة

مسألة ٨٣٢ : الصيغة هي اللفظ الدالّ على الإخبار بحقٍّ واجب ، كقوله : له علَيَّ ، أو : عندي ، أو : في ذمّتي.

ويشترط فيها التنجيز والجزم بالحكم.

فإذا قال : عَلَيَّ لفلان كذا ، فهو صيغة إقرارٍ.

وكذا : « لفلان علَيَّ ، أو : في ذمّتي » إقرار بالدَّيْن ظاهراً.

وقوله : « عندي ، أو : معي » إقرار بالعين.

ولو قال له : قِبَلي ألف ، فهو دَيْن.

ويحتمل أن يصلح للدَّيْن والعين معاً.

ولو علّق إقراره على الشرط ، لم يصح ، وكان لاغياً.

مسألة ٨٣٣ : إذا قال لغيره : لي عليك ألف ، فقال في الجواب : زِنْ ، أو خُذْ ، لم يكن إقرارا ؛ لأنّه لم توجد منه صيغة التزامٍ ، وقد يذكر مثل ذلك مَنْ يستهزئ ويبالغ في الجحود.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311