مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ٢

مقتل الحسين للخوارزمى0%

مقتل الحسين للخوارزمى مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15277 / تحميل: 4039
الحجم الحجم الحجم
مقتل الحسين للخوارزمى

مقتل الحسين للخوارزمى الجزء 2

مؤلف:
العربية

بدومة وهي من بنات سادات ثقيف؟ نعم ، أنا ابن دومة ، حسناء الحومة ، لا يسمع فيها لومة ، أما والله ، لو كان من يعيرني بدومة من إحدى القريتين لما عدا ، ولكن إن كنتم رجالا كما تزعمون ، فاثبتوا لي قليلا فو الله لاقاتلنكم قتال مستقتل قد آيس من الحياة. ثم صبّ عليه درعه وسلاحه واستوى على فرسه وتمثل بقول غيلان بن سلمة الثقفي :

ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت

عني الهموم بأمر ماله طبق

لقال رعبا ورهبا يجمعان معا

غنم الحياة وهول النفس والشفق

والموت أحمد شيء للكريم إذا

طغى له الدهر والآجال تحترق

ثم أمر بباب القصر ففتح وخرج في نحو مائتي رجل ممن يقي بهم فكرّ على أصحاب مصعب حتى هزمهم وركب بعضهم بعضا ، فنظر إليه رجل من أهل البصرة وهو يحيى بن ضمضم الضبي ـ وكان فارسا طويلا إذا ركب خطت رجلاه الأرض من طوله ، ولم يكن في عسكر مصعب أفرس منه ـ ، فحمل على المختار ليضربه فاستقبله المختار وضربه على جبينه فخرّ صريعا وحملت الكتائب على المختار من كل جانب ، فجعل يحاربهم ويرجع إلى ورائه حتى دخل القصر فأحاطت الخيل بالقصر ، وحاصروه أشدّ الحصار ، فتمثل السائب بن مالك الأشعري بقول عبد الله بن حذاق :

هل للفتى من بنات الدّهر من واق

أم هل له من حمام الموت من راق

كأنني قد رماني الدهر عن عرض

بنافذات بلا ريش وأفواق

وغمضوني ولم يألوا بنعيهم

وقال قائلهم أودى ابن حذاق

وقد دعوا لي أقواما وقد غسلوا

بالماء والسدر جثماني وأعلاقي

ورجلوني وما رجلت من شعث

وألبسوني ثيابا غير أخلاق

ورفعني وقالوا أيما رجل

حامي الحقيقة قد وافى بميثاق

٢٨١

وأرسلوا فتية من خيرهم نسبا

ليدخلوني ضريحا بين أطباق

هون عليك ولا تولع باشفاق

فإنما مالنا للوارث الباقي

فسمع المختار هذه الأبيات من السائب ، فقال له : لله در عبد الله بن حذاق ، ما أجود هذه الأبيات! أما والله ، لو لا ما نحن فيه ، لأحببت أن أحفظها ، والله ، يا سائب! لو كان لي عشرة من مثلك لقهرت مصعبا وأصحابه.

ثم قال لأصحابه : اخرجوا بنا ويحكم حتى نقاتل هؤلاء فنقتل كراما ، وو الله ، ما أنا بآيس إن صدقتموهم القتال ، أن تنصروا عليهم. فأجابه أصحابه إلى ذلك ، وقالوا : ما الرأي إلّا ما رأيت ، وليس يجب علينا أن نعطي بأيدينا ، ويحكم هؤلاء في دمائنا ، فاعزم على ما أنت عليه عازم من أمرك ، فها نحن بين يديك.

فبعث المختار إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن جندب الفزارية ، فأرسلت إليه بطيب كثير وحنوط ، فقام واغتسل ، ثم أفرغ عليه ثيابه وتحنط ، ووضع ذلك الطيب في رأسه ولحيته ، وقام أصحابه ففعلوا ذلك ، وقال له بعض أصحابه : يا أبا إسحاق! ما من الموت بدّ؟ فقال : لا والله ، يا ابن أخي! ما من الموت بد ، وقد رأيت والله عبد الله بن الزبير بالحجاز وبني أميّة بالشام ومصعبا بالعراق ، ولم أكن بدون واحد منهم ، وإنما خرجت بطلب دماء أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وقد والله ، شفيت نفسي من أعدائهم ، وممن شرك في دمائهم ، ولست ابالي بعد هذا كيف أتاني الموت. ثم استوى على جواده وقال :

لما رأيت الأمر قد تعسّرا

وشرطة الله قياما حسرا

شددت في الحرب عليّ مغفرا

وصارما مهندا مذكرا

٢٨٢

معتقدا أني سألقى القدرا

أن يقتلوني ويروني المنكرا

فقد قتلت قبل هذا عمرا

ونجله حفص الذي تنمرا

وابن زياد إذ أقام العثيرا

والأبرص القيسي لما أدبرا

وقد قتلت قبل هذا المنذرا

من كل حيّ قد قضيت وطرا

١٢ ـ وذكر السيد أبو طالب ، بإسنادي إليه ، عن محمد بن زيد الحسني ، عن الناصر للحق الحسن بن علي ، عن محمد بن خلف ، عن عمر ابن عبد الغفار ، عن أبي نصر البزاز مولى صعصعة بن صوحان العبدي ، عن أبيه ، قال : رأيت المختار خرج من القصر ، والسيف في يمينه وفي يساره الترس ، وهو يهدر كما يهدر البعير ، ويقول :

إن تقتلوني تقتلوا مشمرا

رحب الذراعين شديدا حذرا

محمدا قتلته وعمرا

والأبرص القيس لما أدبرا

أخا لجيم إذ طغى واستكبرا

من كل حيّ قد قضيت وطرا

قال : فو الله العظيم ، ما ارتفع له شيء إلا ضربه فجدله ، حتى جاءه عبد الكبير بن شبث بن ربعي ، فضرب يده فانقطع فاعتوروه بالرماح حتى قتلوه.

وزاد السيد أبو طالب في روايته أجزاء من كتابه على هذه الأبيات وأسندها إلى المختار ، وهي :

لما رأيت الأمر قد تغيّرا

شددت في الحرب عليّ مغفرا

وصارما محددا مذكرا

وشرطة الله قياما حسرا

يسعون حولي جاهدين صبرا

أن يقتلوني يجدوني حذرا

محمدا قتلته وعمرا

وابن سعيد وقتلت المنذرا

والأبرص القيس لما أدبرا

من كل حيّ قد قضيت وطرا

٢٨٣

قال السيد أبو طالب : يعني بقوله محمدا ـ محمد بن الأشعث ـ ، وعمرا ـ عمر بن سعد بن أبي وقاص ـ ، وابن سعيد ـ عبد الرحمن بن سعيد ابن قيس الهمداني ـ ، والمنذر ـ المنذر بن حسان الضبي ـ ، والأبرص القيس ـ شمر بن ذي الجوشن الضبابي ـ.

ثم جاء مصعب بعد قتله فاحاط بالقصر على أهله ، وأمر برأس المختار فجزّ ، وبيديه فقطعتا وعلقتا على عضادتي باب الجامع ، فكانتا عليها إلى أن جاء الحجاج وقتل مصعبا ، فأمر بهما فانزلتا.

ثم أمر مصعب برأس المختار فنصب في رحبة الحذائين ، ونادى أصحاب القصر : افتحوا الباب ولكم الأمان ، ففتحوا فأخذوهم وأوقفوهم بين يدي مصعب ، فنظرهم وقال : الحمد لله الذي أمكنني منكم يا شيعة الدجّال! فقال رجل منهم وهو بحير بن عبد الله السلمي : لا والله ، ما نحن بشيعة الدجال ، ولكنا شيعة آل رسول الله ، وما خرجنا بأسيافنا إلا طلبا بدمائهم ، وقد ابتلانا الله بالأسر وابتلاك أيها الأمير بالعفو والعقاب ، وهما منزلتان : منزلة رضى ومنزلة سخط ، فمن عفا عفي عنه ، ومن عاقب فلا يعدو القصاص ، وبعد ، فإنا إخوتكم في دينكم ، ونحن من أهل قبلتكم وعلى ملتكم ، ولسنا من الترك ولا الدّيلم ، وقد كنا أمنا ما كان من أهل الشام فما لأهل العراق ، فاصفح إذا قدرت ، فكأنّ مصعبا رقّ لكلامه ، فوثب جماعة من عتاة الكوفة وقالوا : أيها الأمير! إنّ هؤلاء هم الذين قتلوا آباءنا وأبناءنا وإخواننا ، وفي إطلاقك إياهم فساد عليك في سلطانك وعلينا في أحسابنا.

فقال مصعب : فشأنكم إذن بهم ، فانحوا عليهم بالسيوف ، فقتلوهم جميعا ، ثم دخل مصعب القصر وجلس على سرير المختار ، وأرسل إلى

٢٨٤

امرأتي المختار : أم ثابت بنت سمرة بن جندب الفزارية ، وعمرة بنت النعمان ابن بشير الأنصارية ، فقال لهما مصعب : ما تقولان في المختار؟ فقالت الفزارية : أقول فيه كما تقولون ، فقال مصعب : اذهبي فلا سبيل لي عليك ، وقالت الأنصارية : ولكني أقول كان عبدا مؤمنا محبا لله ولرسوله ولأهل بيت رسوله ، فإن كنتم قتلتموه فإنكم لم تبقوا بعده إلّا قليلا ، فغضب مصعب وأمر بها فقتلت ، فقال بعض الشعراء في ذلك :

إنّ من أعجب العجائب عندي

قتل بيضاء حرّة عطبول

قتلت هكذا على غير جرم

إنّ لله درها من قتيل

كتب القتل والقتال علينا

وعلى المحصنات جرّ الذيول

ثم بعث مصعب برأس المختار إلى عبد الله بن الزبير ، فأمر عبد الله برأس المختار فنصب بالأبطح ، وكان قبل ذلك أبى أن ينصب محمد بن الحنفية رأس ابن زياد خارج الحرم ، ثم أرسل عبد الله بن الزبير إلى ابن عباس فقال له : يا ابن عباس! إنّ الله قد قتل المختار الكذاب ، فقال ابن عباس : رحم الله المختار! فقال : كأنّك لا تحب أن يقال : الكذاب؟

قال : فإن المختار كان محبا لنا عارفا بحقنا ، وإنما خرج بسيفه طالبا لدمائنا ، وليس جزاؤه منا أن نشتمه ونسميه كذابا.

ثم كتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر :

أما بعد فقد قتل الله المختار الكذاب وشيعته الذين دانوا بالكفر ، وكادوا بالسحر ، فأقبل إلينا آمنا مطمئنا ، ولك أرض الجزيرة وما غلبت عليه بسيفك من أرض العرب ، ما بقيت وبقي سلطان ابن الزبير ، ولك بذلك عهد الله وميثاقه.

وكتب أيضا عبد الملك بن مروان من الشام إلى إبراهيم مثل ذلك

٢٨٥

ومناه ، فكتب إبراهيم إلى عبد الملك بن مروان : إنه ما من قبيلة بالشام إلّا وقد وترتها يوم ابن زياد ، فلا آمنهم وإنما قبيلتي بالعراق ، وبعض الشرّ أهون من بعض ، وصار إلى مصعب فخلع عليه مصعب ، وأجلسه معه على سريره.

وكتب إلى أخيه عبد الله بذلك ، فسرّ بمقدم إبراهيم ، ثم إن مصعبا أعاد المهلّب إلى حرب الأزارقة ، وبقى عبد الله بن الزبير يجدّ في مناوأة محمد بن الحنفية وابن عباس وبقية أهل البيت ، حتى حبسهما إذ لم يجيباه إلى البيعة ، وكان قبل ذلك حبس محمد بن الحنفية في قبّة الشراب ، فعلم المختار بذلك فأرسل إليه أبا عبد الله الجدلي في جيش عظيم فخلّصه ، وتوعد ابن الزبير أن أخافه ، فأمسك ابن الزبير الى أن قتل المختار ، فعاد إلى ما كان عليه من العداوة ، حتى قال يوما لابن عباس : إنه قد قتل المختار الكذاب الذي كنتم تمدون أعينكم إلى نصرته ، فقال ابن عباس : دع عنك المختار فإنه قد بقيت لك عقبة تأتيك من الشام ، فإذا قطعتها فأنت أنت ، وإلا فأنت أهون من كلب في درب المسجد.

فغضب وقال : إني لم أعجب منك ، ولكن أعجب مني إذ أدعك تتكلم بين يدي بملء فمك ، فتبسم ابن عباس ، وقال : تكلّمت والله ، بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعند أبي بكر غلاما ، وعند عمر وعثمان وعليّ رجلا ، وكانوا يرونني أحقّ من نطق ، يسمعون رأيي ، ويقبلون مشورتي ، وهؤلاء الذين ذكرتهم بعد رسول الله خير منك ومن أبيك ، فازداد غضبه ، وقال له : لقد علمت أنك ما زلت لي ولأهل بيتي مبغضا ، ولا زلت لكم يا بني هاشم! منذ نشأت مبغضا ، ولقد كتمت بغضكم أربعين سنة ، فقال ابن عباس له : فازدد في بغضنا ، فو الله ، ما نبالي أحببتنا أم أبغضتنا؟

٢٨٦

فقال ابن الزبير : اخرج عني فلا أراك بعد هذا تقربني ، فقال ابن عباس : أنا زاهد فيك من أن تراني عندك ، ثمّ عاد ابن الزبير فقال : ذر عنك هذا وارجع الى ابن عمك ـ يعني محمّد بن عليعليه‌السلام ـ وقل له : فليخرج من جواري ولا يتربص ، فإني لا أظنه سالما مني أو يصيبه ظفر ، فقال ابن عباس : مهلا ، يا ابن الزبير! فإن مع اليوم غدا ، فقال ابن الزبير : صدقت مع اليوم غد ، وليس يجب عليك أن تكلمني في رجل ضعيف سخيف ليس له قدم ولا أثر محمود ، قال : فتنمر ابن عباس غضبا وقال : ليس على هذا صبر يا ابن الزبير! والله ، إن أباه لخير من أبيك ، وأنّ اسرته لخير من اسرتك ، وانه في نفسه لخير منك ، وبعد فرماه الله بك إن كان شرا منك في الدنيا والدين.

ثم نهض مغضبا وخرج وهو يقول : لأنملة من محمد بن الحنفية أحبّ إلي من ابن الزبير وآل الزبير ، وأنه والله ، لأوفر منهم عقلا ، وأفضل دينا وأصدق حياء ، وأشد ورعا ، ثم خرج ابن الزبير في عدّة أصحابه ، وقام في الناس خطيبا فقال : أيها الناس! إنّ فيكم رجلا أعمى الله بصره يزري على عائشة أم المؤمنين ، ويعيب طلحة والزبير حواري رسول الله يريد بذلك ابن عباس ، وكان ابن عباس حاضرا في المسجد ، فلما سمعه وثب قائما وقال : يا ابن الزبير! أما ما ذكرت من أم المؤمنين عائشة فإنّ أوّل من هتك حجابها أنت وأبوك وخالك طلحة ، وقد أمرها الله أن تقرّ في بيتها فلم تفعل فتجاوز الله عنها ورحمها ، وأما أنت وأبوك وخالك فقد لقيناكم يوم الجمل ، فإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم المؤمنين ، وإن كنا كفارا فقد كفرتم بفراركم من الزحف.

فقال ابن الزبير : اخرج عني ولا تجاورني! فقال ابن عباس : نعم

٢٨٧

والله ، لأخرجن خروج من يفلاك ويذمك ، ثم قال ابن عبّاس : اللهم! إنك قادر على خلقك ، قائم على كلّ نفس بما كسبت ، اللهم! إنّ هذا الرجل قد أبدى لنا العداوة والبغضاء ، اللهم! فأرمه منك بحاصب ، وسلّط عليه من لا يرحمه ، ثمّ خرج ابن عباس ومحمد بن الحنفية وأصحابهما من مكة إلى الطائف.

وكان ابن عباس يقول : أيها الناس! لو فسح لي عن بصري لكان لي ولابن الزبير ولبني أميّة شأن ، ألا وإنّ اللهعزوجل قد حرم هذا الحرم منذ خلق السماوات والأرض ، وهؤلاء القوم قد أحلّوه ، ولكن انظروا متى يقصمهم الله ، ويغير ما بهم. فقيل : أتعني ابن الزبير أم الحصين بن نمير السكوني؟ فقال : بل أعنيهما وأعني يزيد بن معاوية ، فلم يزل بالطائف يذكر أفعال ابن الزبير إلى أن أدركته الوفاة ، فصلّى عليه محمّد بن عليعليه‌السلام ودفنه بالطائف بوادي وج منها.

١٣ ـ وذكر القتيبي : أنّ وفاته سنة ثمان وستين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة ، وضرب محمد على قبره فسطاطا ، وقال : مات والله ، رباني هذه الامة ، وبقي بعده محمد في الطائف لا يرى ابن الزبير ولا يذكره.

وقال أصحابه : أنه دخل شعب رضوى مع أربعين من أصحابه ، فلم ير لهم أثر ولا سمع عنهم خبر ، وقيل : لما قتل ابن الزبير واستقر الأمر لعبد الملك بن مروان وولى الحجاج العراق ، بايع محمد بن الحنفية عبد الملك على أن لا تكون للحجاج عليه ولاية ، فأجابه عبد الملك وأحسن إليه والتمسه أن يزوره في كل سنة مرة ، فأجابه محمّد ، وكان يجيزه في كلّ سنة بمائتي ألف درهم ، ثمّ نزل محمّد المدينة حتى مات.

وذكر القتيبي : أنّ محمدا توفي أيضا بالطائف سنة اثنتين وثمانين وهو

٢٨٨

ابن خمس وستين سنة ، ولنذكر لتمام المطلب هنا :

مقتل مصعب ، وعبد الله ابني الزبير

كان عبد الملك بن مروان يهمه أمر العراق ، فأجمع رأيه أن يدخلها بنفسه ، وتهيأ للمسير إليها ، ولبس سلاحه ، ودعا بكرسي فجلس عليه ، فأتته امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية ومعها جواريها حتى وقفت بين يديه ، فقالت : أنشدك الله ، يا أمير المؤمنين! إن غزوت آل الزبير في هذه السنة ، فقد علمت أنهم أشأم بيت في قريش.

فقال لها : ويحك قد أزمعت على السير ، ولا بدّ لي من ذلك ، فإما أن يبيدني آل الزبير أو ابيدهم. فبكت عاتكة فتبسم عبد الملك ، وقال : قاتل الله كثيرا كأنّه نظر إلينا فقال:

إذا ما أراد الغزو لم يثن عزمه

حصان عليها نظم در يزينها

نهته فلمّا لم تر النهي عاقه

بكت فبكى مما عناها قطينها

ثم دعا أخاه أبان بن مروان فاستخلفه على الشام ، وخرج إلى العراق ومعه ثلاثة وستون ألفا من أهل الشام ومصر ، فبلغ ذلك مصعب ابن الزبير ، فخرج من الكوفة وعسكر على عشرة فراسخ منها ، واغتمّ غما شديدا ، فدعا بعبد الله بن أبي فروة مولى عثمان بن عفان ، فاستشاره في المحاربة ، فأشار عليه أن يستخلف على عمله ويلحق بأخيه عبد الله بمكة ، وقال : إنّ الناس يخذلونك ، فاقل له : إني أكره أن تتحدّث العرب : بأني كعت عنه(١) ، ولكن هل لك أن تسير معي؟

__________________

(١) كاع : رجع خائفا.

٢٨٩

قال : لا ، والله لا يتهيأ لي ذلك ، فلا تجشمني من الأمر ما لا اطيقه.

فسار مصعب حتى التقى بعبد الملك بدير الجاثليق ، فعبأ عبد الملك أصحابه ، فجعل على ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية ، وعلى ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية ، وعلى القلب أخاه محمد بن مروان ، وعبأ مصعب أصحابه ، فجعل على ميمنته حمزة بن يزيد العتكي ، وعلى ميسرته عبد الله بن أوس الجعفي ، وعلى القلب إبراهيم بن مالك الأشتر ، فحارب يومئذ إبراهيم محاربة شديدة حتى أصابته نيف وثلاثون ضربة وطعنة ، فصرعوه عن فرسه ، واحتزوا رأسه ، وأتوا به إلى عبد الملك ، فلما قتل إبراهيم تضعضع ركن مصعب ، فالتفت إلى قطن بن عبد الله ، فقال : تقدم ، فقال قطن : ما أرى ذلك صوابا ، قال : لم؟ قال : لأنّ القوم كثير ، ثم قال مصعب لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد الهمداني ـ : لو قدّمت رايتك قيلا ، فقال : ما رأيت أحدا فعل ذلك فأفعل ، فرمي مصعب عند ذلك بالسهام ، حتى اثخن بالجراحات ، وكاد أن يسقط عن فرسه ، فتقدم عيسى بن مصعب ، فقاتل بين يدي أبيه حتى قتل ، وبقي مصعب لا يقدر أن يحرك يدا ولا رجلا.

فقال محمد بن مروان : لا تقتل نفسك يا مصعب! فقد آمنتك بأمان أمير المؤمنين ، فقال : إنّ أمير المؤمنين بالحجاز ، فحمل عليه عبد الله بن ظبيان التيمي ، فقتله وأخذ رأسه ، ووضعه بين يدي عبد الملك ، ثم أمر عبد الملك أن يؤخذ رأس مصعب ؛ ورأس ابنه عيسى ؛ ورأس إبراهيم بن الأشتر ، فيطاف بها في أجناد الشام ، ثم قدم الكوفة في أجناد أهل الشام ، ونادى في الناس بالأمان ، ثم دعاهم إلى بيعته فبايعوا طائعين.

ثمّ إنّ الحجاج بن يوسف رأى في منامه أنه كان يسلخ عبد الله بن

٢٩٠

الزبير حتى أخرجه من جلده ، فأخبر بذلك عبد الملك ، فأمره أن يسير إلى مكة وضمّ إليه ستة آلاف فارس : ألفين من أهل الشام ؛ وألفين من مصر ، وألفين من العراق ، وقال : انظر يا حجاج! أن لا تطأ الحرم بالخيل والجنود ، ولكن انزل حيث شئت من أرض الحجاز ، وامنع ابن الزبير الميرة ، وخذ عليه الطرق.

فوثب إبراهيم بن الأسود النخعي ، فقال : يا أمير المؤمنين! قد بعثت هذا الغلام الثقفي إلى مكة فمره أن لا يهتك أستارها ، ولا ينفر أطيارها ، وأن يأخذ على ابن الزبير شعابها وجبالها ، حتى يموت فيها جوعا وعطشا ، أو يخرج عنها مخلوعا. فقال عبد الملك : قد أوصيناه بذلك ، ولن يجاوز أمرنا إن شاء الله تعالى.

فسار الحجاج ونزل على بئر ميمون وقطع الميرة على ابن الزبير ، وطال ذلك ، فلم يطع ابن الزبير ، فكتب الحجاج بذلك إلى عبد الملك ، فكتب إليه : أن اعطه الأمان ، فإن لم يخرج فجدّ في حربه ، فدعاه الحجاج إلى الأمان فلم يقبل ، فحاربه حتى التجأ إلى المسجد ، فدخلوا عليه المسجد فقاتلهم حتى قتل وقتل أصحابه ، فأمر الحجاج بعبد الله بن الزبير فصلب منكسا ، وكان مقتله سنة ثلاث وسبعين وهو ابن ثلاث وسبعين أيضا.

ولما قتل وقف عليه عبد الله بن عمر فبكى واستغفر له ، وقال : أما والله ، يا ابن الزبير! لئن علتك رجلاك اليوم فطالما قمت عليها في ظلمة الليل بين يدي ربك ، وإني لأسمع قوما يزعمون : أنك شرّ هذه الامة ، فلقد أفلحت امة أنت شرّها.

وجاءت إليه أمه أسماء في اليوم الثالث ، وهي مكفوفة ، فقالت : اللهم! إني راضية عنه فارض عنه ، ثم جاءت إلى الحجاج ، فقالت له : أما

٢٩١

آن لهذا الفارس أن ينزل؟ فقال : أما روحه فصارت إلى جهنم ، وأما جثمانه ففي طريق البلاغ ، فقالت : كذبت ، يا حجاج! فأمر بجثة ابنها فحطت عن خشبتها ، فحملت إليها فغسلته وكفنته ودفنته ، ولم تلبث بعده حتى لحقت به.

وهرب عروة بن الزبير من الحجاج ، فصار إلى عبد الملك ، فآمنه وأكرمه ، فقال له الحجاج : إنّ أموال أخيه عنده ، فزجره عبد الملك ، وقال : لا سبيل لك عليه.

١٤ ـ وأخبرني صدر الحفاظ أبو العلا الحسن بن أحمد الهمداني ـ إجازة بها ـ ، أخبرني محمود بن إسماعيل الصيرفي ، أخبرني أحمد بن محمد بن الحسين ، أخبرني أبو القاسم الطبراني ، حدثني محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدّثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري ، حدثني سعيد بن سويد ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : دخلت على عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين بن عليعليه‌السلام قدّامه على ترس ، فما لبثت إلّا قليلا حتى دخلت على المختار ، فرأيت رأس عبيد الله بن زياد قدّامه على ترس ، ثمّ ما لبثت إلّا قليلا حتى دخلت على مصعب بن الزبير فرأيت قدّامه رأس المختار على ترس ، ثمّ ما لبثت والله ، إلا قليلا حتى دخلت على عبد الملك بن مروان فرايت قدّامه رأس مصعب بن الزبير على ترس.

١٥ ـ وذكر الإمام أحمد بن أعثم الكوفي ؛ والإمام عبد الكريم بن حمدان هذا الحديث ، عن الشعبي قال : كنت جالسا بين يدي عبد الملك بن مروان فجيء له برأس مصعب ووضع بين يديه ، فقلت : ما أعجب هذا الاتفاق! فقال : ما ذلك؟ قلت : يا أمير المؤمنين! دخلت هذا القصر فرأيت عبيد الله في موضعك هذا ، ورأس الحسين بين يديه ، ثم دخلته والمختار فيه

٢٩٢

ورأس عبيد الله بن زياد بين يديه ، وساق الحديث على هذا الترتيب ، فقام عبد الملك ، وقال : لله ، يا شعبي! في أمره تدبير.

وزاد عبد الكريم : قال الشعبي : ورأيت الحجاج بن يوسف قاعدا على كرسي من ذهب بين يدي عبد الملك فغلبني البكاء ، فقال لي عبد الملك : ما ذا يبكيك؟ فساق الحديث ، قال : فزبرني الحجاج ، وكاد أن يبطش بي ، فنهاه عبد الملك ، فخرجت سالما.

١٦ ـ وقال محمد بن إسحاق : إن محمد بن هانئ دخل عليه فلما رأى رأس مصعب ضحك ، فقال الحجاج : مم ضحكت يا ابن هانئ؟ قال : من عجب ، قال : فأخبرني به فقد شغلت قلبي ، فقال : رأيت في هذا المجلس ، وساق الحديث إلى آخره ، فتطيّر الحجاج من ذلك ، وانتقلوا إلى قصر آخر.

أقول : ولا ينافي ذلك بأن يكون محمد بن هانئ كان حاضرا ، وكان عبد الملك بن عمير حاضرا ، وكان الشعبي حاضرا ، أو يقول كل واحد هذا القول ، ويجاب بما اجيب أصحابه.

[انتهى والحمد لله ربّ العالمين]

٢٩٣

الخاتمة

٢٩٤

الخاتمة

بقلم الاستاذ فضيلة الشيخ

محمد كاظم آل شبير الخاقاني

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تنحدر قوافل البشر سيّالة فتقا بعد رتق من الرحمة المطلقة الفعلية وهي نفس الرحمن الى ساحة التعيّن في الاعيان ، خارجة من كتم العدم باذن موجدها الفياض ، تتجلى فيها الأنوار جمالا وجلالا على اختلاف مراتبها أداء لحق ربوبيته ، تتخطى الأيام في ساحة كونها تسوقها الأقدار قضاء لحكمته وبيانا لرحمته لترسم جريها في قوسي النزول والصعود طالبة في عروجها مدارج الأبد. وقد جئت في مسيرة الكون أحث السير مع السائرين بوجد وحنين اصطحب الأجيال لاصبح خيالا لا يتحدث عنه الركبان ووهما لا تحكي وحشة فراقه الوديان ، في ديار الحزن والأسى ، كأني لم أكن جزت مع الركب مخاوف الاحلام ، وخضت في جنبهم بحور الأوهام وطربت في كهفم لوتر الانغام ، وقد بت أخاطب النفس بعد ربيع انسها ومحافل جهلها قائلا : لم لا أذكر اليوم في حفل ولا مقام ، ولا في جبل أو سهل ولا

٢٩٥

في برّ أو بحر؟ اسلمتني كوارث الحدثان لخلسة صمت مؤلمة وغربة ديار موحشة وقد كنت من قبل ذلك ابصرت نفسي وأنا على حافة الطريق أساير ركب السلام متعثر الخطى أكبو تارة ، وأجدّ السير تارة أخرى ، في يوم قدر عظيم أخذت فيه العهود وابرمت المواثيق وقيل (للمخفين جوزوا وللمثقلين حطّوا) شاهدت فيه أقواما كنت أظنهم من الأوتاد رأيتهم يهوون الى أسفل درك من الجحيم لا يصدّهم عن ذلك عرفانهم ولا يمنعهم منه سواد جباههم ، ولا يسترهم دونه حنك تيجانهم ، يتسابقون الى الهاوية في كل مكان وزمان ألا إنّهم خلفاء الشياطين باسم رب العالمين.

فقلت : يا لله وملء الحشا حسرة الفراق واشواق الحنين في ديار الغفلة بعد الألفة ، كيف أصبحت الأجيال فتقا بعد رتق ، وكثرة بعد وحدة وريبا بعد جزم وجهلا بعد علم ، وكفرا بعد ايمان وغواية بعد فطرة ثلّة منها اقرّت لأنوار الملكوت وقوامها الأعظم راح يركع لصنم الناسوت.

فوقفت احدّ النظر في قارعة الطريق متهما للبصر فيما يرى وللاذن فيما تعي ، وللعقل فيما يعقل ، وللفؤاد فيما يلمس من حقائق الأمور التي أضحت تجري مقلوبة على ألسن العارفين مسايرة لمرضاة الطغاة الجائرين وذلك لمسا لواقع أمر كاد أن يكون من أحاديث الغابرين لمتابعة السلف الخاطئين حيث يقول عزّ من قائل :( وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) آل عمران / ١٤٤.

أجل انه كان انقلابا على الأعقاب ، عم الحاضر والغائب على اختلاف مراتب الردة في ميادين الحكمة علما وعملا ، إلا بعض الأوتاد الذين أرادهم الله حجج حق على بريته يرثون النبيين والأوصياء الطاهرين الذين يقول في

٢٩٦

حقهم إمام المتقين (بلى لا تخلوا الأرض من قائم لله بحجة اما ظاهرا مشهورا واما خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته وكم ذا واين ذا اولئك والله الأقلون عددا والأعظمون عند الله قدرا يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظرائهم إلى قولهعليه‌السلام (اولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة الى دينه آه آه شوقا إلى رؤيتهم).

هؤلاء لا تعيّنهم الألقاب التي باتت تتطور بتطور الزمان لأنهم مظاهر القرآن وروح العرفان لا تؤنسهم العناوين ولا تخدعهم مدارج العلم لأن العلماء كثيرون فكم من عالم قتله جهله وعارف بقطب رحى الاسلام ينتقض عليه فتله في يوم ينفع الصادقين صدقهم ، أجل هكذا يكون نتاج الجهد إذ غربلت الأمم وان هوّن الخطب على النفس في ميادين الوهم والخيال ان كل واحد منا يظن واقع الأمر حكما يخص قوما آخرين. فكم بت أنظر الى مزالق أقدام كانت منارا للهدى وسبيلا للرشاد كيف أضحت ترسم حجب الغفلة بعد صحو من العيش ، كانت فيه النخبة التي انتخبت فكيف حارت بعد الايمان واسرّت بعد الاعلان ، ونكصت بعد الاقدام فملئت من مشهدهم رعبا ، كاد أن يلقى بي الى هوة حضيض ظلمات اليأس من كبوة عقبات الأوهام خوفا من انتقاض الجزم في ميادين العلم والعزم في ميادين العمل ، فقلت يا الله! كيف يأمن أمثالي خواتيم الأمور وها هم أسود الوغى صرعى في مخالب الذئبان ، فوقفت لدهشة المصاب أسلي النفس بهدير الآهات وأقوّي اللب بسيل العبرات ، لا أدري الى أي ركن وثيق أو خفض سحيق تأخذ بي مطارق الاقدار وتسلك بي مسالك الأسرار التي جف القلم عند أعتاب مدارجها وأقرّ اللب بالاستسلام عند بعض هضبات عروجها. أجل وقفت على مصارع أقوام كانوا للحق أنصارا (قد تحملوا الكد والتعب

٢٩٧

وناطحوا الأمم وكافحوا البهم) انظر إليهم والحزن ملء جوانحي مجزّرين صرعى في وديان الظلمات كأنهم لم يشربوا من عذب فرات ماء رويا ولم يذوقوا من فيض أنوار عسلا نقيا.

بلى والله قد عاشوا في ظل مدرسة حق لا ريب فيها لم يشهد لها الكون من نظير ، أعواما تسطع عليهم أنوار الملكوت ، وتنشر في ربوعهم كنوز اللاهوت. فتركتهم في مواطن قتلهم أشلاء تمزقهم الذئبان يأتون يوم القيامة تحت راية إمامهم قائد المنقلبين على الأعقاب ، فرحت أتابع السير مع الأجيال ، وهم يتلوا بعضهم بعضا انظر الى الرايات كأنها السيل المنحدر تساق الى منازل كدحها ومحافل وجدها ، كل منها يظن وقفة الكون اجلالا لهيبته وتكريما لبريق رايته وأنا أنظر الى تهافت المضطهدين تحت أقدام الجائرين أنينهم جرم وصراخهم كفر وارتداد ، واشاهد تكسّر أضلاع البؤساء والمحرومين كيف تهمل في سلة من النسيان وتكون وهما حتى في محافل الأديان الا عند عباد الله المخلصين ، فكم قد راح يسبح المترفون في بحر من دماء ودموع اليتامى والمساكين؟! حتى مرّ على هذا المشهد الرهيب أعوام بات الصمت يخرس حناجر البلغاء الصادقين وفخر التأريخ لأنه يكتب تحت ظلال سيوف الجبارين والماكرين ، وتسلّق في هذه الاعوام الذئبان الأعواد باسم سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذ يتسابق الشعراء لمدح قادة المنافقين والعلماء يوجهون أفعال الشياطين ، والخطباء يخطبون طمعا لما في أيدي الولاة الظالمين.

وقد شاهدت في هذا المطاف أمرا عجبا كيف أصبح الطليق أميرا للمؤمنين والطريد وزيرا للخلفاء الراشدين والمتخلف عن نداء الحق مثالا للصديقين. فلما أمعنت النظر وجدت الخرق متسعا بأعين السالكين ،

٢٩٨

لا تحدده الأزمان ولا تقيّد ملاعب خيله المذاهب والأديان ، فرجعت بعد رسم الوهم أملا زهيدا ، ألمس طرفا من الموازين الحاكمة بواقع أمرها آيسا من كل منطيق وعربيد ، أنظر مواقع النجوم لعلي اشاهد قمرا منيرا حجبته عن الابصار غيوم الأوهام ، فرأيت أن صبر الصابرين خير من أمل الآملين لبزوغ شمس الحقيقة قبل صباح المتقين لأنه قد يكون من تسويل النفس طمعا لرغيف الغاصبين.

وها أنا قد كنت قبل اليوم وقفت وقفة في مسالك السائرين أردد التجوال انظر مواقع الأمور وسير الليالي في مقاطع الدهور ، حينما تركت اخوان الصفا بعد التخبط في الظلمات صرعى ، حائرا لا أعرف للنجاة سبيلا حتى ظننت أنه قد انطفأت مصابيح الهدى واستسلمت دعائم الحق لمطارق الكفر والشقى ، إذ بي في هذه البرهة من الزمن العضوض اسمع صوتا يملأ الكون ضجيجا ، يهب فوق أركان الملكوت فتضطرب له الأجساد تحت ثرى الناسوت ، وتطير شوقا لهمس انغامه أصحاب اللب في مسالك اللاهوت وهو يصيح : (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك) ، من بعد ما ودّع ديار الهجرة متوجها نحو بيت الله الحرام قاصدا بعد ذلك التحلل من مناسكه شوقا لاسلافه الكرام وسعيا لتحكيم موازين الحق والسلام لما اقيمت الحجة بوجود الناصر.

فاسرع كالطيف يتم الحجة على حشد المسلمين يحث السير نحو كعبة العاشقين وحرم سيد الوصيين وامام الموحدين ، وقائد الغر الميامين على أمير المؤمنينعليه‌السلام فبت أساير ركب السلام وهو يمرّ على صفحات الدهر ليرسم فيها خطى النبيين التي كادت أن تندرس على أيدي الولاة الظالمين باسم شريعة سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فرحت انظر الى كواكب الاسحار مشرقة تطل من

٢٩٩

وراء الحجب على مرابع الظلمات يكاد سنا برقها أن يتوّج ظلمة العدم حلل الانوار ، بلى رحت أكدح مع الكادحين استلهم انغام الأزل واستنشق عبير الجنان يأخذ بي طرب الوصال الى منازل الوالهين وينقلني الشوق الى كعبة العارفين ويقلّبني الوجل عن مضاجع الجاهلين ، فقلت سبحان ربي ، كيف يغمض الطرف من يعانق أسرار الملكوت؟

أجل هب ركب السلام مسرعا يلبي نداء البائسين ، ويؤمن روع الخائفين ويبث نسيم الخلد فوق ديار الناسكين انه لمشهد عظيم ، وخطب جسيم ، انقدحت منه مشاعل العلم وتعاطفت عنده محامل السلم ، فبات يهز أركان الطاغين ويسكت هدير الظالمين فقلت في أيام فرحتي وسروري وطربي قولا يشبه مقالة الشعراء لا وقف مطيتي لحظة تتاح لي فيها القوى لمتابعة السير :

دعيني ايا سلمى او اللوم فاقصدي

فاني في درب الهوى غير معتد

دعيني ايا سلمى الغرام وغرّدي

بربع فتى احلامه طيف معضد

فكم قد روينا من أحاديث للهوى

ليال بوجد الواله المتوقد

وصغنا أنا شيد الغرام صبابة

بدمع كضوء اللؤلؤ المتفرّد

فقلت لها صرم الفؤاد عن المها

أيا سلم من بعد الرشاد المسدّد

ولا راح يلهيني بانغامه الهوى

اذا ما استدير الكأس من ناعم اليد

طربت ولم أطرب لخد مورّد

ولا هاجني طيف لحسناء أغيد

طربت لذكراي البشير ولم أكن

لا طرب الا من مناقب امجد

احن الى ربع به آل احمد

وابعد عن قصر العذول المشيّد

فبت يناغيني الفؤاد بحبهم

ويرسم لي من حبهم كل سؤدد

يهيمون طلابا الى المجد والعلي

ويبكون اشواق الفراق المبدد

رأيت بني الزهراء للمجد قادة

هداة مع الكرار في كل مشهد

رأيت بني الزهراء والفخر أحمد

هداة لمن قد كان للحق يهتدي

٣٠٠