مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ٢

مقتل الحسين للخوارزمى18%

مقتل الحسين للخوارزمى مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16543 / تحميل: 5292
الحجم الحجم الحجم
مقتل الحسين للخوارزمى

مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

مقتل الحسين للخوارزمى

الجزء الثاني

المؤلف: أبي المؤيّد بن أحمد المكّي أخطب خوارزم [ خوارزمي ]

تحقيق الشيخ محمّد السماوي

١

قال الإمام الحسين يوم عاشوراء :

«اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة ؛ فلا يدع فيهم أحدا».

٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على أشرف المخلوقين محمّد ، الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين ، وعلى عترته وذريته أجمعين. وبعد : فقد اتّفقت الرواة في «المسانيد» و «التواريخ» ، على أنّ مقتل الحسينعليه‌السلام كان ـ يوم عاشوراء ـ العاشر من محرّم لسنة إحدى وستين من الهجرة ، وإن اختلفوا : أكان يوم الجمعة أم يوم السبت؟ فلنشر إلى فضل هذا اليوم وشرفه.

١ ـ أخبرنا الشيخ الإمام الحافظ ناصر السنة أبو القاسم منصور بن نوح الشهرستاني ـ بها وقت رجوعي من السفرة الحجازية ، أعادها الله تعالى ، غرّة شهر جمادي الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة هجرية ـ ، أخبرنا شيخ القضاة أبو عليّ إسماعيل بن أحمد البيهقي ، أخبرنا والدي شيخ السنة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، أخبرنا السيد أبو الحسين محمد بن الحسين بن داود العلوي ـ قراءة عليه ـ ؛ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ـ إملاء ـ ، قالا : أخبرنا أبو محمد حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا عبد

٣

الرّحمن بن منيب ، حدثنا حبيب بن محمد المروزي ، حدثني أبي ، عن إبراهيم بن الصانع ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من صام يوم عاشوراء كتبت له عبادة ستين سنة بصيامها وقيامها ، ومن صام يوم عاشوراء كتب له أجر سبع سماوات ، ومن أفطر عنده مؤمنا في يوم عاشوراء فكأنما أفطر عنده جميع أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن أشبع جائعا في يوم عاشوراء رفعت له بكل شعرة في رأسه درجة في الجنة».

فقال عمر : يا رسول الله! لقد فضلنا اللهعزوجل في يوم عاشوراء.

فقال : «نعم ، خلق الله السماوات في يوم عاشوراء ، وخلق الكرسي في يوم عاشوراء ، وخلق الجبال في يوم عاشوراء ، والنجوم كمثله ، وخلق القلم في يوم عاشوراء ، واللوح كمثله ، وخلق جبرئيلعليه‌السلام في يوم عاشوراء ، وخلق الملائكة كمثله ، وخلق آدم في يوم عاشوراء ، وحواء كمثله ، وخلق الجنة يوم عاشوراء ، وأسكن آدم الجنّة في يوم عاشوراء ، وولد إبراهيم خليل الرحمن في يوم عاشوراء ، ونجاه الله من النار في يوم عاشوراء ، وفداه في يوم عاشوراء ، وأغرق فرعون في يوم عاشوراء ، ورفع إدريس في يوم عاشوراء ، وكشف الله الكرب عن أيوب في يوم عاشوراء ، ورفع عيسى بن مريم في يوم عاشوراء ، وولد في يوم عاشوراء ، وتاب الله على آدم في يوم عاشوراء ، وغفر ذنب داود في يوم عاشوراء ، وأعطى سليمان ملكه في يوم عاشوراء ، وولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم عاشوراء ، واستوى الرب على العرش في يوم عاشوراء ، وتقوم القيامة في يوم عاشوراء».

قال الشيخ القاضي أبو بكر : استوى من غير مماسة ولا حركة كما يليق بذاته.

وقال شيخ السنّة أبو بكر : هذا حديث منكر ، وإسناده ضعيف ، وفي

٤

متنه ما لا يستقيم ، وهو ما روي فيه من خلق السماوات والأرضين والجبال كلّها في يوم عاشوراء ، والله يقول :( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) يونس / ٣ ، ومن المحال أن تكون هذه الستّة كلّها يوم عاشوراء ، فدلّ ذلك على ضعف هذا الخبر ، والله أعلم.

٢ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن الحسين هذا ، أخبرنا أبو محمد عبد الله ابن يحيى السكري ببغداد ، أخبرني إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثني أحمد بن منصور ، حدثني عبد الرزاق ، أخبرني ابن جريج ، عن عبد الله بن يزيد ، أنّه سمع ابن عباس يقول : ما رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحرى صيام يوم يلتمس فضله على غيره إلّا هذا اليوم : يوم عاشوراء ؛ وشهر رمضان.

٣ ـ قال : وفي «المشاهير» ، عن أبي قتادة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «صيام يوم عاشوراء كفّارة سنة».

٤ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن الحسين هذا ، أخبرنا أبو الحسين علي ابن محمد الأشعراني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله ـ ببغداد ـ ، حدثنا جعفر بن محمد ، حدثني علي بن مهاجر البصري ، حدثني الهيصم بن الشداخ الوراق ، حدثني الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من وسع على عياله في يوم عاشوراء ، وسع الله عليه في سائر سنته».

وبهذا الإسناد ، عن أبي سعيد الخدري مثله.

٥ ـ وأخبرنا الإمام سديد الدين محمد بن منصور بن علي المقري المعروف بالديواني ـ بمحلة «نصرآباد» بمدينة الري ـ ، أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسين بن أحمد بن الحسين المعروف بالخلادي الطبري ، أخبرني القاضي الإمام أبو النعمان عبد الملك بن محمد الهلافاني ، أخبرني أبو العباس أحمد

٥

ابن محمد الناطقي ، أخبرني أحمد بن يونس ، حدثني أبو الحسين عليّ بن الحسن الجامعي ، حدثني محمد بن نوكرد القصراني ، حدثني منجاب بن الحرث ، أخبرني عليّ بن مسهر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يوم عاشوراء يوم تاب الله على آدم ، واستوت سفينة نوح على الجودي يوم عاشوراء ، وردّ الله الملك على سليمان يوم عاشوراء ، وفلق البحر لموسى يوم عاشوراء ، وغرق فرعون ومن معه يوم عاشوراء ، وردّ الله على يعقوب بصره يوم عاشوراء ، وبعث زكريا رسولا يوم عاشوراء ، وتاب الله على يونس يوم عاشوراء ، وأخرج يونس من بطن الحوت يوم عاشوراء ، ورفع الله إدريس مكانا عليا يوم عاشوراء ، وكشف ضرّ أيوب يوم عاشوراء ، واخرج يوسف من الجب يوم عاشوراء ، وكسا هارون قميص الحياء يوم عاشوراء ، وألهم يحيى الحكمة يوم عاشوراء ، إن يوم عاشوراء سبعون عيدا فمن وسع على عياله فيه وسع الله عليه الى مثلها في السنة».

٦ ـ وذكر الحاكم : أن فاطمةعليها‌السلام ولدت يوم عاشوراء ، وأن الحسن والحسينعليهما‌السلام كذلك ولدا يوم عاشوراء.

ولما كانت لهذا اليوم فضيلة على غيره من الأيام ، كانت فيه مصيبة آل الرسول كرامة لهم وفضيلة لجهادهم ، ليكون ثوابهم أكثر ، ودرجاتهم أعلى وأنبل ، وليكون عقاب أعدائهم أعظم ، ولعائن الله عليهم وعلى أتباعهم يوم القيامة أشد وأطول.

عدنا لحديثنا : ولما أصبح الحسينعليه‌السلام يوم الجمعة عاشر محرّم ـ وفي رواية : يوم السبت ـ عبأ أصحابه ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا ـ وفي رواية : اثنان وثمانون راجلا ـ ، فجعل على ميمنته زهير بن

٦

القين ، وعلى ميسرته حبيب بن مظاهر ، ودفع اللواء إلى أخيه العباس بن عليّ ، وثبتعليه‌السلام مع أهل بيته في القلب.

وعبأ عمر بن سعد أصحابه ، فجعل على ميمنته عمرو بن الحجاج ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن ، وثبت هو في القلب ، وكان جنده اثنين وعشرين ألفا ، يزيد أو ينقص.

٧ ـ أخبرنا الإمام الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمداني ـ إجازة ـ ، أخبرنا أبو عليّ الحداد ، حدثنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا سلمان بن أحمد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الزبير بن بكار ، حدثنا محمد بن الحسن ، قال : لما نزل القوم بالحسينعليه‌السلام ، وأيقن أنهم قاتلوهم ، قام في اصحابه خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

«أما بعد ـ فإنّه نزل من الأمر ما ترون ، ألا وإن الدّنيا قد تغيرت وتنكرت ، وأدبر معروفها ، وانشمرت(١) ، ولم يبق فيها إلّا كصبابة الإناء من خسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون الحقّ لا يعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربه ، وإني لا أرى الموت إلّا سعادة ، والعيش مع الظالمين إلّا برما».

٨ ـ وأخبرنا الشيخ الإمام الزاهد ، سيف الدين أبو جعفر محمد بن عمر الجمحي ـ كتابة ـ ، أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسين زيد بن الحسن بن علي البيهقي ، أخبرنا السيد الإمام النقيب علي بن محمد بن جعفر الحسني الأسترآبادي ، حدّثنا السيد الإمام نقيب النقباء زين الإسلام أبو جعفر محمد ابن جعفر بن علي الحسيني ، حدثنا السيد الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين ابن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمّد بن القاسم بن الحسين

__________________

(١) ـ انشمرت : تقلصت فلم تحلب.

٧

ابن زيد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسيني ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أيوب البجلي ، حدثنا عليّ بن عبد العزيز العكبري ، حدثنا الحسن بن محمد بن يحيى ، عن أبيه ، عن تميم بن ربيعة الرياحي ، عن زيد بن علي ، عن أبيه : «أنّ الحسينعليه‌السلام خطب أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيها الناس خطّ الموت على بني آدم كمخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أو لعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وإنّ لي مصرعا أنا لاقيه ، كأني أنظر الى أوصالي تقطعها وحوش الفلوات ، غبرا وعفرا قد ملأت مني أكراشها ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ليوفينا اجور الصابرين ، لن تشذ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته وعترته ، ولن تفارقه أعضاؤه ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقر بها عينه ، وتنجز له فيهم عدّته».

٩ ـ وبهذا الإسناد ، عن السيد أبي طالب هذا ، أخبرني أبي ، أخبرني حمزة بن القاسم العلوي ، حدثني بكر بن عبد الله بن حبيب ، حدثني تميم ابن بهلول الضبي أبو محمد ، أخبرني عبد الله بن الحسين بن تميم ، حدثني محمد بن زكريا ، حدثني محمد بن عبد الرحمن بن القاسم التيمي ، حدّثني عبد الله بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عبد الله بن الحسن ، قال : لما عبأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسينعليه‌السلام ، ورتبهم في مراتبهم ، وأقام الرايات في مواضعها ، وعبأ الحسين أصحابه في الميمنة والميسرة ، فأحاطوا بالحسين من كلّ جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة ، خرج الحسين من أصحابه حتى أتى النّاس فاستنصتهم ، فأبوا أن ينصتوا ، فقال لهم : «ويلكم ، ما عليكم أن تنصتوا إليّ ، فتسمعوا قولي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من

٨

المرشدين ، ومن عصاني كان من المهلكين ، وكلكم عاص لأمري ، غير مستمع لقولي ، قد انخزلت عطياتكم من الحرام ، وملئت بطونكم من الحرام ، فطبع الله على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون»؟

فتلاوم أصحاب عمر بن سعد ، وقالوا : انصتوا له ، فقال الحسين : «تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين ، فأصرخناكم مؤدين مستعدين ، سللتم علينا سيفا في رقابنا ، وحششتم علينا نار الفتن التي جناها عدوكم وعدونا ، فأصبحتم إلبا على أوليائكم ، ويدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلّا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث كان منا ، ولا رأي تفيل(١) لنا فهلّا لكم الويلات إذ كرهتمونا تركتمونا ، فتجهزتموها والسيف لم يشهر ، والجأش طامن ، والرأي لم يستحصف ، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الدبا ، وتداعيتم إليها كتداعي الفراش ، فقبحا لكم ، فإنما أنتم من طواغيت الامة ، وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرّفي الكتاب ، ومطفئي السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيري عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين ، وأنتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون ، وإيانا تخذلون. أجل والله ، الخذل فيكم معروف ، وشجت عليه عروقكم ، وتوارثته اصولكم وفروعكم ، ونبتت عليه قلوبكم ، وغشيت به صدوركم ، فكنتم أخبث شيء سنخا للناصب ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، فأنتم والله هم ، ألا إن الدعي بن

__________________

(١) ـ تفيل : أخطأ.

٩

الدعي ، قد ركز بين اثنتين : بين القتلة والذلة ، وهيهات منا أخذ الدّنية ، أبى الله ذلك ورسوله ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وانوف حمية ، ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام ، على مصارع الكرام ، ألا إني قد أعذرت وأنذرت ، ألا إني زاحف بهذه الاسرة على قلّة العتاد ، وخذلة الأصحاب ، ثم أنشد :

فإن نهزم فهزّامون قدما

وإن نهزم فغير مهزّمينا

وما أن طبّنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

أما إنه لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ، عهد عهده إليّ أبي ، عن جدي( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ) (١) ( فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

اللهمّ! احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة ، فلا يدع فيهم أحدا ، قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم ، فإنهم غرونا وكذبونا وخذلونا ، وأنت ربّنا ، عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير».

ثم قالعليه‌السلام : «أين عمر بن سعد؟ ادعوا لي عمر» ، فدعي له وكان كارها لا يحب أن يأتيه ، فقال : «يا عمر! أنت تقتلني ، وتزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان؟ والله ، لا تتهنأ بذلك أبدا ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأني برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة ، يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضا

__________________

(١) ـ اقتبس الآيات من سورتين ، الأولى : يونس / ٧١ ، والثانية : هود / ٥٥.

١٠

بينهم». فغضب عمر بن سعد من كلامه ، ثمّ صرف وجهه عنه ، ونادى بأصحابه : ما تنظرون به؟ احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة.

ثم إن الحسينعليه‌السلام دعا بفرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ المرتجز ـ ، فركبه وعبأ أصحابه ، وزحف عمر بن سعد فنادى غلامه دريدا : قدم رايتك يا دريد! ثمّ وضع سهمه في كبد قوسه ، ثمّ رمى به وقال : اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى ، فرمى أصحابه كلّهم بأجمعهم في أثره رشقة واحدة ، فما بقي من أصحاب الحسين أحد إلّا أصابه من رميتهم سهم.

وخرج يسار مولى زياد بن أبيه ؛ وسالم مولى عبيد الله بن زياد ، فقالا : من يبارزنا؟ فخرج إليهما برير بن خضير ؛ وحبيب بن مظاهر ، فقال لهما الحسين : اجلسا. فقام عبد الله بن عمير الكلبي ، فقال للحسين : ائذن لي أخرج! فرآه رجلا آدم طويلا ، شديد الساعدين ، بعيد ما بين المنكبين ، فقال : «إني أراه للأقران قاتلا ، أخرج إن شئت» ، فخرج إليهما فقالا له : من أنت؟ فانتسب لهما ، فقالا له : لا نعرفك ، ليخرج إلينا ـ زهير ابن القين أو حبيب بن مظاهر ـ ، ويسار أمام سالم ، فقال له : يا ابن الزانية! أو لك رغبة عن مبارزة أحد ، وليس أحد من الناس إلّا وهو خير منك؟ ثم حمل عليه فضربه حتى سكت ، وأنّه لمشتغل به يضربه بسيفه ، إذ شدّ عليه سالم ، فصاح به أصحابه : العبد قد دهاك ، فلم يلتفت إليه حتى جاء سالم وبدره بضربة ، فاتقاها الكلبي بيده ، فأطار أصابع كفّه ، ثم مال عليه الكلبي فقتله ، ثمّ قتل بعد ذلك.

قال أبو مخنف : فلما رموهم هذه الرمية قلّ أصحاب الحسينعليه‌السلام ، فبقي في هؤلاء القوم الذين يذكرون في المبارزة ، وقد قتل منهم ما ينيف على خمسين رجلا ، فعندها ضرب الحسينعليه‌السلام بيده إلى لحيته ، فقال : هذه

١١

رسل القوم ـ يعني السهام ـ ، ثمّ قال : «اشتدّ غضب الله على اليهود والنصارى إذ جعلوا له ولدا ، واشتدّ غضب الله على المجوس إذ عبدت الشمس والقمر والنّار من دونه ، واشتدّ غضب الله على قوم اتّفقت آراؤهم على قتل ابن بنت نبيهم ، والله ، لا أجيبهم إلى شيء مما يريدونه أبدا ، حتى ألقى الله وأنا مخضب بدمي» ثم صاحعليه‌السلام : «أما من مغيث يغيثنا لوجه الله تعالى؟ أما من ذاب يذبّ عن حرم رسول الله»؟

فلمّا سمع الحر بن يزيد هذا الكلام ، اضطرب قلبه ، ودمعت عيناه ، فخرج باكيا متضرعا ، مع غلام له تركي ، وكان كيفية انتقاله الى الحسين ، أنّه لما سمع هذا الكلام من الحسين أتى إلى عمر بن سعد ، فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال : إي والله! قتالا شديدا أيسره أن تسقط الرءوس ، وتطيح الأيدي ، فقال : أما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضى؟ فقال : والله ، لو كان الأمر إليّ لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى ذلك.

فأقبل الحر حتى وقف عن النّاس جانبا ومعه رجل من قومه ، يقال له : قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرة! هل سقيت فرسك اليوم ماء؟ قال : لا. قال : أما تريد أن تسقيه؟ قال قرّة : فظننت ، والله ، أنّه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال ، ويكره أن أراه يصنع ذلك مخافة أن أرفع عليه ، فقلت له : لم أسقيه وأنا منطلق فأسقيه.

قال : فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه والله لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين ، فأخذ يدنو قليلا قليلا ، فقال له رجل من قومه : يا أبا يزيد! إنّ أمرك لمريب ، فما الذي تريد؟ قال : والله ، إني اخير نفسي بين الجنّة والنار ، وو الله ، لا أختار على الجنّة شيئا ولو قطعت وحرقت.

١٢

ثم ضرب فرسه ، ولحق بالحسين مع غلامه التركي ، فقال : يا ابن رسول الله! جعلني الله فداك ، إني صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان ، والله الذي لا إله إلّا هو ، ما ظننت القوم يردون عليك ما عرضت عليهم ، ولا يبلغون بك هذه المنزلة ، وإني لو سوّلت لي نفسي أنهم يقتلونك ما ركبت هذا منك ، وإني قد جئتك تائبا إلى ربي مما كان مني ، ومواسيك بنفسي حتى أموت بين يديك ، أفترى ذلك لي توبة؟

قال : «نعم ، يتوب الله عليك ويغفر لك ، ما اسمك»؟ قال : أنا الحرّ ، قال : «أنت الحر كما سمتك امك ، أنت الحرّ في الدنيا والآخرة ؛ انزل» ، فقال : أنا لك فارسا خير مني لك راجلا ، اقاتلهم على فرسي ساعة ، وإلى النزول ما يصير أمري. ثم قال : يا ابن رسول الله! كنت أوّل خارج عليك ، فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك ، فلعلي أن أكون ممن يصافح جدّك محمدا غدا في القيامة. فقال له الحسينعليه‌السلام : «إن شئت فأنت ممن تاب الله عليه ، وهو التواب الرحيم» ، فكان أول من تقدّم إلى براز القوم ، الحرّ بن يزيد الرياحي ، فأنشد في برازه :

إني أنا الحرّ ومأوى الضيف

أضرب في أعناقكم بالسيف

عن خير من حلّ بوادي الخيف

أضربكم ولا أرى من حيف

وروي : أنّ الحر لما لحق بالحسينعليه‌السلام ، قال رجل من بني تميم ، يقال له يزيد بن سفيان : أما والله ، لو لقيت الحر حين خرج لأتبعته السنان ، فبينا هو يقاتل ، وإنّ فرسه لمضروب على اذنيه وحاجبه ، وإن الدماء لتسيل ، إذ قال الحصين بن نمير : يا يزيد! هذا الحرّ الذي كنت تتمناه ، فهل لك به؟ قال : نعم ، وخرج إليه ، فما لبث الحرّ أن قتله وقتل أربعين فارسا وراجلا ، ولم

١٣

يزل يقاتل حتى عرقب فرسه ، وبقي راجلا ، فجعل يقاتل وهو يقول :

إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ

أشجع من ذي لبدة هزبر

ولست بالخوار عند الكرّ

لكنّني الثابت عند الفرّ

ثمّ لم يزل يقاتل حتى قتل ، فاحتمله أصحاب الحسينعليه‌السلام حتى وضعوه بين يدي الحسين وبه رمق ، فجعل الحسين يمسح التراب عن وجهه ، وهو يقول له : «أنت الحرّ كما سمّتك به امك ، أنت الحرّ في الدّنيا ، وأنت الحرّ في الآخرة». ثمّ رثاه بعض أصحاب الحسين.

وقال الحاكم الجشمي : بل رثاه علي بن الحسينعليه‌السلام بقوله :

لنعم الحر حرّ بني رياح

صبور عند مشتبك الرماح

ونعم الحر إذ نادى حسين

فجاد بنفسه عند الصباح

وروي : أنّه كان ينشد عند مكافحته :

آليت لا اقتل حتى اقتلا

ولا اصاب اليوم إلّا مقبلا

أضربهم بالسيف ضربا معضلا

لا ناكلا فيهم ولا مهللا

قال : ثمّ برز من بعده برير بن خضير الهمداني ، وهو يقول :

أنا برير وفتى خضير

أضربكم ولا أرى من ضير

يعرف في الخير أهل الخير

كذاك فعل الخير من برير

وكان برير من عباد الله الصالحين ، فحمل وقاتل قتالا شديدا ، وجعل ينادي فيهم : اقتربوا مني ، يا قتلة المؤمنين! اقتربوا مني ، يا قتلة أولاد البدريين! اقتربوا مني ، يا قتلة عترة خير المرسلين! فبرز إليه رجل يقال له : يزيد بن معقل ، فقال لبرير : أشهد أنّك من المضلّين ، فقال له برير : هلم ، فلندع الله أن يلعن الكاذب منّا ، وأن يقتل المحق منا المبطل.

فخرجا ، ودعوا الله تعالى في ذلك ، وتبارزا فضرب يزيد بريرا ضربة

١٤

خفيفة لم تضرّه ، وضرب برير يزيدا ضربة قدّت المغفر ، ووصلت إلى دماغه ، فسقط قتيلا ، فحمل بجير بن أوس الضبي على برير ، وهو مشغول بيزيد ، فقتله ، ثمّ جال في ميدان الحرب ، وهو يقول :

سلي تخبري عنّي وأنت ذميمة

غداة حسين والرماح شوارع

ألم آت أقصى ما كرهت ولم يحل

غداة الوغى والروع ما أنا صانع

معي يزني لم تخنه كعوبه

وأبيض مشحوذ الغرارين قاطع

فجرّدته في عصبة ليس دينهم

كديني وإني بعد ذاك لقانع

وقد صبروا للطعن والضرب حسرا

وقد جالدوا لو أنّ ذلك نافع

فأبلغ عبيد الله إما لقيته

بأني مطيع للخليفة سامع

قتلت بريرا ثم جللت نعمة

غداة الوغى لما دعا من يقارع

ثم إنه ذكر له بعد ذلك أن بريرا كان من عباد الله الصالحين ، ثم جاءه ابن عم له يقال له : عبيد الله بن جابر ، فقال له : ويلك ، يا بجير! أقتلت برير بن خضير؟ بأي وجه تلقى ربك غدا؟ فندم وقال :

فلو شاء ربّي ما شهدت قتالهم

ولا جعل النعماء عند ابن جابر

لقد كان ذاك اليوم عارا وسبّة

تعير به الأبناء عند المعاشر

فيا ليت أني كنت في الرّحم حيضة

ويوم حسين كنت في رمس قابر

ويا سوأتي ما ذا أقول لخالقي؟

وما حجّتي يوم الحساب القماطر؟

قال : ثمّ خرج وهب بن عبد الله بن جناب الكلبي ، وكانت معه أمه ، فقالت له : قم يا بني! فانصر ابن بنت رسول الله ، فقال : أفعل ، يا اماه! ولا اقصر إن شاء الله ، ثم برز ، وهو يقول :

إن تنكروني فأنا ابن الكلبي

سوف تروني وترون ضربي

وحملتي وصولتي في الحرب

أدرك ثاري بعد ثأر صحبي

وأدفع الكرب بيوم الكرب

فما جلادي في الوغى للعب

١٥

ثم حمل ، فلم يزل يقاتل حتى قتل جماعة ، فرجع إلى أمه وامرأته فوقف عليهما ، فقال: يا اماه! أرضيت عني؟ فقالت : ما رضيت ، أو تقتل بين يدي ابن بنت رسول الله ، فقالت له امرأته : أسألك بالله أن لا تفجعني بنفسك ، فقالت له امّه : لا تسمع قولها ، وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله ليكون غدا شفيعك عند ربّك. فتقدّم وهو يقول:

إني زعيم لك أمّ وهب

بالطعن فيهم تارة والضرب

فعل غلام مؤمن بالرب

حتى يذيق القوم مرّ الحرب

إني امرؤ ذو مرّة وعصب

ولست بالخوار عند النكب

حسبي بنفسي من عليم حسبي

إذا انتميت في كرام العرب

ولم يزل يقاتل حتى قطعت يمينه ، فلم يبال ، وجعل يقاتل حتى قطعت شماله ، ثمّ قتل ، فجاءت إليه أمه تمسح الدّم عن وجهه ، فأبصرها شمر بن ذي الجوشن ، فأمر غلاما له فضربها بالعمود حتى شدخها وقتلها ، فهي أوّل امرأة قتلت في حرب الحسينعليه‌السلام .

وذكر مجد الأئمة السرخسكي ، عن أبي عبد الله الحدّاد : أن وهب بن عبد الله هذا ، كان نصرانيا ، فأسلم هو وأمه على يد الحسينعليه‌السلام ، وأنّه قتل في المبارزة أربعة وعشرين رجلا ، واثني عشر فارسا ، فاخذ أسيرا ، واتي به عمر بن سعد ، فقال له : ما أشدّ صولتك! ثم أمر فضرب عنقه ، ورمي برأسه إلى عسكر الحسين ، فأخذت أمه الرأس فقبلته ، ثم شدّت بعمود الفسطاط ، فقتلت به رجلين ، فقال لها الحسين : «ارجعي أمّ وهب! فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء». فرجعت ، وهي تقول : إلهي لا تقطع رجائي ، فقال لها الحسين : «لا يقطع الله رجاك ، يا أمّ وهب! ، أنت وولدك مع رسول الله وذريته في الجنّة».

١٦

قال : ثم برز من بعده عمرو بن خالد الأزدي ، وهو يقول :

اليوم يا نفس إلى الرحمن

تمضين بالروح وبالريحان

اليوم تجزين على الإحسان

قد كان منك غابر الزمان

ما خط باللوح لدى الديّان

فاليوم زال ذاك بالغفران

لا تجزعي فكلّ حيّ فان

والصبر أحظى لك بالأمان

فقاتل حتى قتل ، ثمّ تقدم ابنه خالد بن عمرو بن خالد الأزدي ، وهو يقول :

صبرا على الموت بني قحطان

كيما نكون في رضى الرّحمن

ذي المجد والعزّة والبرهان

يا أبتا قد صرت في الجنان

ثم حمل فقاتل حتّى قتل ، ثم خرج من بعده سعد بن حنظلة التميمي وهو يقول :

صبرا على الأسياف والأسنّة

صبرا عليها لدخول الجنّه

وحور عين ناعمات هنّه

لمن يريد الفوز لا بالظنّه

يا نفس للراحة فاطرحنّه

وفي طلاب الخير فارغبنّه

ثم حمل وقاتل قتالا شديدا فقتل ، ثم خرج من بعده عمير بن عبد الله المذحجي ، وهو يقول :

قد علمت سعد وحي مذحج

أني ليث الغاب لم اهجهج

أعلو بسيفي هامة المدجّج

وأترك القرن لدى التعرج

فريسة الضبع الأزل الأعرج

فمن تراه واقفا بمنهجي

ولم يزل يقاتل قتالا شديدا ، حتى قتله مسلم الضبابي ، وعبد الله البجلي ، اشتركا في قتله ، ثم خرج مسلم بن عوسجة الأسدي وهو يقول :

١٧

إن تسألوا عني فإني ذو لبد

من فرع قوم من ذرى بني أسد

فمن بغاني حائد عن الرشد

وكافر بدين جبّار صمد

ثمّ تابعه نافع بن هلال الجملي ، وهو يقول :

أنا على دين عليّ

ابن هلال الجملي

أضربكم بمنصلي

تحت عجاج القسطل

فخرج لنافع رجل من بني قطيعة ، فقال لنافع : أنا على دين عثمان ، فقال نافع : إذن أنت على دين الشيطان ، وحمل عليه فقتله ، فأخذ نافع ومسلم يجولان في ميمنة ابن سعد ، فقال عمرو بن الحجاج ـ وكان على الميمنة ـ : ويلكم ، يا حمقاء مهلا! أتدرون من تقاتلون؟ إنما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين ، لا يبرزن منكم أحد إلّا قتلوه على قلّتهم ، والله ، لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم.

فقال ابن سعد له : صدقت! الرأي ما رأيت ، فأرسل في العسكر يعزم عليهم : أن لا يبارز رجل منكم ، فلو خرجتم وحدانا لأتوا عليكم مبارزة. ثمّ دنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين ، ثم صاح بقومه : يا أهل الكوفة! ألزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين ، وخالف إمام المسلمين.

فقال له الحسين : «يا ابن الحجاج! أعليّ تحرّض الناس؟ أنحن مرقنا عن الدين وأنتم ثبتم عليه؟ والله ، لتعلمنّ أينا المارق عن الدين ، ومن هو أولى بصلي النّار».

ثم حمل عمرو بميمنته من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة ، وانصرف عمرو بن الحجاج ، وارتفعت الغبرة ، فإذا مسلم صريع ، فمشى إليه الحسين ، فإذا به رمق ، فقال له الحسين : «رحمك

١٨

الله يا مسلم!( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) الأحزاب / ٢٣ ، ودنا منه حبيب بن مظاهر ، فقال له : عزّ والله ، عليّ مصرعك يا مسلم! أبشر بالجنة. فقال قولا ضعيفا : بشرك الله بخير ، فقال له حبيب : لو لا أني أعلم أني لا حقّ بك في أثرك من ساعتي هذه ، لأحببت أن توصي إليّ بكل ما أهمّك ، حتى أحفظك في ذلك ، لما أنت أهله في القرابة والدين ، فقال له : بلى ، اوصيك بهذا رحمك الله ، ـ وأومأ إلى الحسين ـ أن تموت دونه. فقال له : أفعل وربّ الكعبة ، فما أسرع من أن مات ، فصاحت جارية له : يا سيداه! يا بن عوسجتاه! فنادى أصحاب عمر بن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة ، فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم امهاتكم! أما أنكم تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلون عزّكم ، أتفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة؟ أما والذي أسلمت له ، لربّ موقف له في المسلمين كريم ، والله ، لقد رأيته يوم «آذربيجان» قتل ستّة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين.

قال : ثمّ حمل شمر بن ذي الجوشن فثبتوا له ، وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا ، وإنما هم اثنان وثلاثون فارسا ، فلا يحملون على جانب من أهل الكوفة إلّا كشفوه ، فدعا عمر بن سعد بالحصين بن نمير في خمسمائة من الرماة ، فأقبلوا حتى دنوا من الحسين وأصحابه ، فرشقوهم بالنبل ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم ، وقاتلوهم حتى انتصف النهار ، واشتد القتال ، ولم يقدر أصحاب ابن سعد أن يأتوهم إلّا من جانب واحد ، لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض. فأرسل عمر بن سعد الرجال ليقوّضوا الأبنية من عن شمائلهم وأيمانهم ليحيطوا بها ، وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون بينها فيشدون على الرجل وهو يقوّض وينتهب ،

١٩

فيرمونه من قريب فيصرعونه ويقتلونه ، فأمر عمر بن سعد أن يحرقوها بالنّار.

فقال الحسين لأصحابه : «دعوهم فليحرقوها ، فإنهم لو فعلوا لم يجوزوا إليكم منها». فأحرقوها وكان ذلك كذلك. وقيل : قال له شبث بن ربعي : أفزعت النساء ثكلتك امّك! فاستحيى من ذاك وانصرف عنه ، وجعلوا لا يقاتلونهم إلّا من وجه واحد ، وشدّ أصحاب زهير بن القين فقتلوا أبا عذرة الضبابي من أصحاب شمر.

قال : ولا يزال يقتل من أصحاب الحسين الواحد والاثنان ، فيتبين ذلك فيهم لقلّتهم ، ويقتل من أصحاب عمر العشرة والعشرون ، فلا يتبين ذلك فيهم لكثرتهم.

قال : ورأى أبو ثمامة الصيداوي زوال الشمس ، فقال للحسين : يا أبا عبد الله! نفسي لك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا ، ولا والله ، تقتل حتى اقتل دونك ، واحبّ أن ألقى ربي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها. فرفع الحسين رأسه إلى السماء ، وقال له : «ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلّين ، نعم ، هذا أول وقتها» ، ثم قال : «سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلّي».

فقال له الحصين بن نمير : إنها لا تقبل منك ، فقال له حبيب بن مظاهر : لا تقبل الصلاة زعمت من آل رسول الله ، وتقبل منك يا ختار! فحمل عليه الحصين ، وحمل عليه حبيب فضرب حبيب وجه الفرس ، فشبّ الفرس ، ووقع عنه الحصين فاحتوشه أصحابه فاستنقذوه.

فقال الحسين لزهير بن القين ؛ وسعيد بن عبد الله : «تقدّما أمامي» ، فتقدما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥) )

التّفسير

فاصبر كما صبر أولوا العزم :

تواصل هذه الآيات ـ وهي آخر آيات سورة الأحقاف ـ البحث حول المعاد ، حيث جاءت الإشارة إلى مسألة المعاد في الآيات السابقة حكاية عن لسان مبلغي الجن. هذا من جهة.

٣٠١

ومن جهة أخرى فإنّ سورة الأحقاف تتحدث في فصولها الأولى عن مسألة التوحيد ، وعظمة القرآن المجيد ، وإثبات نبوة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتبحث في آخر فصل من هذه السورة مسألة المعاد لتكمل بذلك البحث في الأصول الاعتقادية الثلاثة.

تقول الآية الأولى :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فإنّ خلق السماوات والأرض مع موجوداتها المختلفة المتنوعة علامة قدرته تعالى على كلّ شيء ، لأنّ كل ما يقع في دائرة مخلوق لله في هذا العالم ، فإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يمكن أن يكون عاجزا عن إعادة حياة البشر؟ وهذا بحدّ ذاته دليل قاطع مفحم على مسألة إمكان المعاد.

وأساسا فإنّ أفضل دليل على إمكان أي شيء وقوعه ، فكيف ندع إلى أنفسنا سبيلا للشك في قدرة الله المطلقة على مسألة المعاد ونحن نرى نشأة الموجودات الحية وتولدها من موجودات ميتة ، وعلى هذا النطاق الواسع؟

هذا أحد أدلة المعاد العديدة التي يؤكد عليها القرآن ويستند إليها في آيات مختلفة ، ومن جملتها الآية (٨١) من سورة يس(١) .

وتجسّد الآية التالية مشهدا من العذاب الأليم المحيط بالمجرمين ومنكري المعاد ، فتقول :( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) .

أجل ، فمرّة تعرض النّار على الكافرين ، وأخرى يعرضون الكافرين على النّار ، ولكل من العرضين هدف أشير إليه قبل عدّة آيات.

وعند ما يعرضون الكافرين على النّار ، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة المرعبة يقال لهم :( أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ ) ؟ وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث ومحكمة الله العادلة ، وثوابه وعقابه ، وتقولون : ما هذا إلّا أساطير الأولين؟

__________________

(١) طالع التفصيل حول هذا الموضوع ، وأدلّة المعاد المختلفة في ذيل آخر آيات سورة يس.

٣٠٢

غير أنّ أولئك الذين لا حيلة لهم :( قالُوا بَلى وَرَبِّنا ) فهنا يقول الله سبحانه ، أو ملائكة العذاب :( قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .

وبهذا فإنّهم يرون كلّ الحقائق بأم أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك الاعتراف الذي لن ينفعهم ، وسوف لن تكون نتيجته إلّا الهم والحسرة ، وتأنيب الضمير والعذاب الروحي.

ويأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية من هذه الآيات ، وهي آخر آية في سورة الأحقاف ، على أساس ملاحظة ما مرّ في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب الكافرين ، أن :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم ، فقد واجه أولو العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا ، فنبيّ الله العظيم نوحعليه‌السلام دعا قومه (٩٥٠) سنة ، ولم يؤمن به إلّا فئة قليلة ، وكان قومه يؤذونه دائما ، ويسخرون منه.

وألقوا إبراهيمعليه‌السلام في النّار ، وهددوا موسىعليه‌السلام بالقتل ، وكان قلبه قد امتلأ قيحا من عصيانهم ، وكانوا يريدون قتل المسيحعليه‌السلام بعد أن آذوه كثيرا ، فأنجاه الله منهم.

وخلاصة القول : إنّ الأمر كان وما يزال كذلك ما كانت الدنيا ، ولا يمكن التغلب على هذه المشاكل إلّا بقوّة الصبر والاستقامة والثبات.

من هم أولو العزم من الرسل؟

هناك بحث واختلاف كبير جدّا بين المفسّرين في : من هم أولو العزم؟ وقبل أن نحقق في هذا ، ينبغي أن نحقق في معنى (العزم) ، لأنّ (أولو العزم) بمعنى ذوي العزم.

«العزم» بمعنى الإرادة الصلبة القوية ، ويقول الراغب في مفرداته : إنّ العزم هو عقد القلب على إمضاء الأمر.

وقد استعملت كلمة العزم في مورد الصبر في آيات القرآن المجيد أحيانا ، كقوله

٣٠٣

تعالى :( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (١) .

وجاءت أحيانا بمعنى الوفاء بالعهد ، كقوله تعالى :( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٢) .

لكن بملاحظة أنّ أصحاب الشرائع والأديان الجديدة من الأنبياء قد ابتلوا بمشاكل أكثر ، وواجهوا مصاعب أشد ، وكانوا بحاجة إلى عزم وإرادة أقوى وأشد لمواجهتها ، فقد أطلق على هذه الفئة من الأنبياء (أولو العزم) والآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى ظاهرا. وهي تشير ضمنا إلى أن نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الفئة ، لأنّها تقول :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ ) .

وإذا كان البعض قد فسّر العزم والعزيمة بمعنى الحكم والشريعة فمن هذه الجهة ، وإلّا فإنّ كلمة العزم لم تأت في اللغة بمعنى الشريعة.

وعلى أية حال ، فطبقا لهذا المعنى تكون (من) في (من الرسل) تبعيضية ، وإشارة إلى فئة خاصّة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة ، وهم الذين أشارت إليهم الآية ٧ من سورة الأحزاب :( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) .

فقد أشارت الآية إلى هؤلاء الأنبياء الخمسة بعد ذكر جميع الأنبياء بصيغة الجمع ، وهذا دليل على خصوصيتهم.

وتتحدث الآية (١٣) من سورة الشورى عنهم أيضا ، فتقول :( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ) .

وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنّة ، تدل على أنّ الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة ، كما ورد في حديث عن الإمامين الباقر

__________________

(١) الشورى ، الآية ٤٣.

(٢) سورة طه ، الآية ١١٥.

٣٠٤

والصادقعليهما‌السلام : «ومنهم خمسة : أولهم نوح ، ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ، ثمّ عيسى ، ثمّ محمّد»(١) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام : «منهم خمسة أولو العزم من المرسلين : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد». وعند ما يسأل الراوي : لم سموا (أولو العزم)؟ يقول الإمامعليه‌السلام مجيبا : «لأنّهم بعثوا إلى شرقها وغربها ، وجنّها وإنسها»(٢) .

وكذلك ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «سادة النبيّين والمرسلين خمسة ، وهم أولو العزم من الرسل ، وعليهم دارت الرحى : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد»(٣) .

وروي هذا المعنى في تفسير الدر المنثور عن ابن عباس أيضا ، بأنّ الأنبياء أولي العزم هم هؤلاء الخمسة(٤) .

إلّا أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ (أولو العزم) إشارة إلى الأنبياء الذين أمروا بمحاربة الأعداء وجهادهم.

واعتبر البعض عددهم (٣١٣) نفرا(٥) ، ويرى البعض أنّ جميع الأنبياء (أولو عزم) أي أصحاب إرادة(٦) صلبة وطبقا لهذا القول ، فإنّ (من) في (من الرسل) بيانية لا تبعيضية.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أصح منها جميعا ، وتؤيده الروايات الإسلامية.

ثمّ يضيف القرآن بعد ذلك :( وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ) أي للكفار لأنّ القيامة ستحل

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد ٩ ، صفحة ٩٤ ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ١١ ، صفحة ٥٨ ، حديث ٦١ ، ويتحدث الحديث ٥٥ ، صفحة ٥٦ ، من المجلد المذكور بصراحة في هذا الباب.

(٣) الكافي ، المجلد ١ ، باب طبقات الأنبياء والرسل ، حديث ٣.

(٤) الدر المنثور ، المجلد ٦ ، صفحة ٤٥.

(٥) المصدر السابق.

(٦) المصدر السابق.

٣٠٥

سريعا ، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها ، ويجزون أشدّ العذاب ، وعندها سيطلعون على أخطائهم ، ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي.

إنّ عمر الدنيا قصير جدّا بالنسبة إلى عمر الآخرة ، حتى :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) .

إنّ هذا الإحساس بقصر عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ، إمّا بسبب أنّ هذه الحياة ليست إلّا ساعة أمام تلك الحياة الخالدة حقيقة وواقعا ، أو لأنّ الدنيا تنقضي عليهم سريعا حتى كأنّها لم تكن إلّا ساعة ، أو من جهة أنّهم لا يرون حاصل كلّ عمرهم الذي لم يستغلوه ويستفيدوا منه الاستفادة الصحيحة إلّا ساعة لا أكثر.

هنا سيغطي سيل الأحزان والحسرة قلوب هؤلاء ، ولات حين ندم ، إذ لا سبيل الى الرجوع.

لهذا نرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل : كم ما بين الدنيا والآخرة؟ فقال : «غمضة عين ، ثمّ يقول : قال الله تعالى :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) »(١) . وهذا يوحي بأنّ التعبير بالساعة لا تعني مقدار الساعة المتعارفة ، بل هو إشارة إلى الزمان القليل القصير.

ثمّ تضيف الآية كتحذير لكلّ البشر «بلاغ»(٢) لكلّ أولئك الذين خرجوا عن خط العبودية لله تعالى لأولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء ، والعابدين شهواتها وأخيرا هو بلاغ لكلّ سكان هذا العالم الفاني.

وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاما عميق المعنى ، وينطوي على التهديد :( فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ ) ؟

* * *

__________________

(١) روضة الواعظين ، طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٢٥.

(٢) «بلاغ» خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : هذا القرآن بلاغ ، أو : هذا الوعظ والإنذار بلاغ.

٣٠٦

ملاحظة

كان نبيّ الإسلام مثال الصبر والاستقامة :

إنّ حياة أنبياء الله العظام ـ وخاصة نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تبيان لمقاومتهم اللامحدودة أمام الحوادث الصعبة والشدائد العسيرة ، والعواصف الهوجاء ، والمشاكل القاصمة ، ولما كان طريق الحق مليئا بهذه المشاكل دائما ، فيجب على سالكيه أن يستلهموا العبر من أولئك العظماء في هذا المسير.

إنّنا ننظر عادة من نقطة مضيئة في تاريخ الإسلام إلى أيّام مرّت على الإسلام ونبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صعبة مظلمة ، وهذه النظرة من المستقبل إلى الماضي تجسم الوقائع والحقائق بشكل آخر ، فينبغي علينا أن ندرك أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان وحيدا فريدا لا يرى في أفق الحياة أية علامة للانتصار.

فأعداؤه شمروا عن سواعدهم للفتك به ، حتى أنّ أقاربه وعشيرته كانوا في الخط الأوّل في هذه المجابهة!

كان يذهب دائما إلى قبائل العرب ويدعوهم ، ولكن لم يكن يجيبه أحد.

كانوا يرجمونه حتى تسيل الدماء من عقبيه ، لكنه لم يكن يكف عن عمله.

لقد فرضوا عليه الحصار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بحيث أغلقوا جميع الأبواب والطرق بوجهه وبوجه أتباعه ، حتى مات بعضهم جوعا ، وأقعد المرض بعضهم الآخر.

لقد مرّت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام يصعب على القلم واللسان وصفها ، فعند ما جاء إلى الطائف ليدعو الناس إلى الإسلام ، لم يكتفوا بعدم إجابة دعوته ، بل رموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه.

لقد كانوا يحثون الجهلاء من الناس على أن يصرخوا ، ويسيئوا في كلامهم إليه ، فيضطر إلى أن يلتجئ إلى بستان ويستظل بظل شجرة ، ويناجي ربّه فيقول : «اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهو اني على الناس ، يا أرحم الراحمين : أنت

٣٠٧

رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ...»(١) .

كانوا يسمونه ساحرا تارة ، وأخرى يخاطبونه بالمجنون.

كانوا يلقون التراب والرماد على رأسه حينا ، وحينا يجمعون على قتله ، فيحاصرون بيته بالسيوف والرماح.

إلّا أنّه رغم كلّ تلك الظروف استمر في صبره وصموده واستقامته.

وأخيرا جنى الثمرة الطيبة لهذه الشجرة المباركة ، فقد عمّ دينه شرق العالم وغربه ، لا جزيرة العرب وحدها ، ويدوّي اليوم صوت انتصاره صباح مساء في كلّ أرجاء الدنيا ، وفي قارات العالم الخمسة ، وهذا هو معنى :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) .

وهذا هو طريق محاربة الشياطين ، وطريق الإنتصار عليهم ، والوصول إلى الأهداف الإلهية السامية.

إذا كان الأمر كذلك ، فكيف يطمح طلاب الراحة والسلامة إلى أن يصلوا إلى أهدافهم الكبيرة من دون صبر وتحمل للعذاب والآلام؟

وكيف يأمل مسلمو اليوم أن ينتصروا على كلّ هؤلاء الأعداء الذين اجتمعت كلمتهم على إفنائهم والقضاء عليهم ، دون الاستلهام من دين نبي الإسلام الأصيل؟

والقادة الإسلاميون بخاصة مأمورون بهذا الأمر قبل الجميع ، كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «إنّ الصبر على ولاة الأمر مفروض ، لقول اللهعزوجل لنبيّه :( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته بقوله :( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) »(٢) .

اللهمّ امنحنا هذه الموهبة العظيمة ، هذه العطية السماوية ، وهذا الصبر والثبات

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، المجلد ٢ ، صفحة ٦١.

(٢) احتجاج الطبرسي طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد ٥ ، صفحة ٢٣.

٣٠٨

والاستقامة أمام المشاكل.

اللهمّ وفقنا لحفظ مشعل النور الذي حمله أولو العزم من أنبيائك ، وخاصة خاتم النبيين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من أجل هداية البشرية بعد تحملهم الجهود المضنية ، ووفقنا لأن نكون أهلا لحراسته.

إلهنا! إنّ أعداء الحق متحدون ومتحزّبون ضده ، ولا يرتدعون عن اقتراف أية جريمة وجناية ، اللهمّ فامنحنا صبرا وثباتا أعظم مما لديهم لئلا نركع أمام سيل المشاكل وعظمتها ، ووفقنا لأن نتخطى الأمواج والعواصف ونتركها وراءنا ، وهذا لا يتمّ إلّا بعونك ولطفك اللامحدود.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة الأحقاف

* * *

٣٠٩
٣١٠

سورة

محمّد

مدنيّة

وعدد آياتها ثمان وثلاثون آية

٣١١