العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته9%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 607

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68098 / تحميل: 5533
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

١

العباس ابوالفضل ابن امير المومنين عليهما السلام

سماته و سيرته

بقلم السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

٢

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ لله ربّ العالَمين

والصلاة والسلامُ على سيّد المرسلين

وعلى الأئمّة من آله المعصومين

وعلى أوليائهم أجمعين إلى يوم الدين

٣
٤

الأهداء

إلى سيّدي الوالد :

* الّذي اْستظَلَّ بِجِوارِ أبي الفَضْل العَبّاسِ عليه السلام عُمراً مَديداً

* وأَمَّ جماعةَ المُؤمنينَ في الحَرَمَينِ الشريفين الحُسَينيّ والعبّاسيّ سنينَ عَدِيدَةً

* وظلّ مدرّساً في الحوزةِ العلميّةِ في كربلاءَ المُقدّسة فترةً طويلةً الفقيه الحُجّة الشهيد السيّد مُحسن الحُسينيّ الجلاليّ الحائريّ

(١٣٣٠ ـ ١٣٩٦ هـ)

أُقدّم هذا العملَ الّذي هوَ ممّا نَفَثَهُ في رُوْعيَ من مَعارِفِهِ ومنوِيّاتهِ ورَغَباتِهِ قدّسَ اللهُ رُوحهُ وحَشَرَهُ مع الصِدّيقينَ ، آمين.

السيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ

٥
٦

دليلُ الكتاب

كلمة إدارة المكتبة ٩

مقدّمة المؤلّف ١٢

القسم الأوّل : هويّة العبّاس عليه السلام وسماتُه.................... ١٥ ـ ١٤٣

البابُ الأوّل : هويّة العبّاس عليه السلام الشخصيّة ١٧

البابُ الثاني : سمات العَبّاس عليه السلام الجسديّة ١٢٧

البابُ الثالث : سمات العَبّاس عليه السلام الروحيّة ١٣١

القسم الثاني : سيرةُ العبّاس عليه السلام......................... ١٤٥ ـ ٢٣٢

البابُ الرابع : سيرة العَبّاس عليه السلام في رحاب الأئمّة عليهم السلام ١٤٧

البابُ الخامس : سيرة العَبّاس عليه السلام في كربلاء ١٨٣

البابُ السادس : قِتال العَبّاس عليه السلام وأرجازه ومقتله ومرقدُهُ ٢٠٣

الخاتمة :............................................... ٢٣٣ ـ ٢٤٤

العَبّاس معجزة الحسين عليهما السلام ٢٣٣

الملاحق........................................................ ٢٤٥ ـ ٣٧٠

الملحق الأوّل : الزيارات المأثورة للعبّاس عليه السلام ٢٤٧

الملحق الثاني : زوجة العبّاس عليه السلام وأولاده ، وذرّيته في كتب النسب ، والأعلام منهم عبر التاريخ ٢٥٣

الملحق الثالث : خلاصة الكتاب ٣٥٩

الفهارس العامّة ٣٧١

٧
٨

كلمة إدارة المكتبة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ لله ربّ العالمين ، وصلّى اللهُ على رسولهِ الأكرمِ ، وعلى آلِه الطيّبينَ الطاهِرينَ ، وسَلَّمَ وبعد :

حينَ تَشَرَّفنا باستلامِ مَهامّ إِدارةِ مكتبةِ العَتَبَةِ العَبّاسيّةِ المُشرَّفَةِ ؛ تداعَتْ إلى أذْهانِنا مجموعَةٌ من الإنجازاتِ المُنبَثِقة من رغبةٍ جادّةٍ في النهوضِ بِواقِعِ المكتبةِ ورَفْعِ أركانها بِما يليقُ بِمكانةِ مُشرِّفها عليهِ أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ، فبعد ما عانتهُ خلال السَنَواتِ العِجافِ الّتي أثّرتْ بعُمقٍ ملموسٍ على الواقع الثقافيّ في العراق عموماً ، وعلى هذا الصَرْحِ المقدّس بخاصّة.

وقد وضعنا في اعتبارنا أنّ نقطةَ الانْطلاقِ لا بُدّ أنْ تَسيرَ على خُطُواتٍ مرسومةٍ وِفْقَ خُطّةٍ مدروسةٍ تشملُ مَحاوِرَ عِدّةً :

فمن جهةٍ : أنّ المكتبة بحاجةٍ إلى المصادر العامّة الكثيرة والمنوّعة ، لِسَدِّ حاجةِ رُوّادِها بِمُختلفِ مشاربِبهم ومستوياتهم الثقافيّة والعلميّة.

ومن جهةٍ أُخرى : ونحنُ في مقامِ بابِ الحوائجِ أبي الفَضْلِ العَبّاس ابن أميْر المُؤْمِنيِنَ عليه السلام ، وفي مكتبتهِ العامِرَةِ ، والكلُّ ينهلُ من فيضهِ العَذْبِ ، ومَعَ ذلَك فنحنُ لا نملكُ من تُراثه إلاّ النَزْرَ الّذي لا يَسُدُّ طَلَبَ مُحبّيهِ ، ولا يُروّي ظَمَأَ شَوقِهِم إلى الوُقُوفِ عليهِ.

٩

فاستعَنّا بِاللهِ تعالى وقَصَدْنا بابَ مَنْ يلوذُ بِبابِهِ السائِلُونِ ، أنْ يُوفّقَنا لِخِدْمَةِ مُحبّيهِ في مَشارقِ الأرضِ ومَغارِبها ، من خلال إخراج دراساتٍ علميّةٍ ، بأقلامٍ مُعاصرةٍ ، وعلى منهجِ البُحُوثِ والدِراسات القويمةِ في مجالَي السيرةِ والتراجمِ ، ودراسةِ المَصادِرِ التاريخيّة ، وبِأُسلوبٍ مُواكِبٍ لِمُتطلّباتِ المَرحَلةِ الراهِنَةِ ، في ما يَخُصُّ سيّدَنا العَبّاسَ عليه السلام لِمَحدوديّة الأعمالِ الجادّةِ لِدراسةِ شَخصيّتهِ وسِماتِهِ وسِيرَتِهِ المُباركةِ ، وهُوَ القَمَرُ الزاهِرُ بينَ شُمُوسِ العِتْرةِ الطاهرةِ عليهم السلام والمُتألّق في رِحابِ العِصْمةِ والهُدى ، فكانَ لهَ نَورٌ يَشِعُّ في ظِلَّ الأوْتادِ المُطهّرةِ ، المَعْصومينَ : والده الإمام أمير المُؤمنينَ وسيّد الوّصِيّينَ ، وأخَوَيْه الإمامَينِ السِبْطَيْنِ الحَسَنِ والحُسَينِ عليهما السلام فكانَ من المُحَتّم أنْ يُكْتَبَ عن سِماتِهِ وسِيرَتِهِ بِالبحثِ والتنقيبِ والتَحَرّي الدقِيقِ.

وقد استجابَ اللهُ جلّ وعلا سُؤْلَنا بِأَنْ هَيَّأ لِهذِهِ المُهِمّةِ الشريفةِ أحَدَ أبْرَزَ المُحقّقينَ في مجالِ التأليفِ والبحثِ السيّدَ الجلاليَّ دامَ عِزُّهُ ، المُؤلِّفُ لِهذا الكتاب ، فانْبرى لِكتابَتِهِ مُعْتمِداً أوْثَقَ المَصادِرَ وأقْدَمَها ، مُستخدِماً ما عُرِفَ عنهُ وشاعَ من غزَارَةِ فِكْرٍ وعُمْقِ رُؤْيَةٍ وسَدادَ نَظَرٍ ، مَعَ بَراعَةِ الأُسْلُوب ، ومَنْهَجيّةِ الطَرْحِ ، وقدْ تَمَّ ما أَنجَزَهُ بِتَوفيقٍ من اللهِ تعالى وفَضْلٍ (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

ونحنُ إِذْ نُقدّمُ هذا الكتابَ لِعاشقي سيّدِنا أبي الفَضْل العبّاس عليه السلام وطالبي المعرفَةِ ، نهنِّئُ السيّدَ المُؤلِّفَ للتوفيقِ لهذا العَمَلِ ، ونَدْعُو لَهُ بِالمزيدِ من التوفيقِ لِنيلِ شَرَفِ خِدمةِ الحَقّ وأَهلهِ من الّذينَ رَسَمُوا على جبينِ الإنسانيّة

١٠

بَصَمَات العِزِّ والفَخارِ ، كما قام به لأبي الفَضْل العَبّاس عليه السلام الّذي طبعَ بِكِلتي يَدَيْهِ بَصْمَةً ظلّتْ شِعاراً لِلوَلاءِ والوَفاءِ والإخْلاصِ ، لِكَشفِ الحقيقةِ ونَصْرِها ، وإزالَةِ الزَيْفِ والتزويرِ والظُلمِ ودَحْرِها.

وما نأملُ ونرجُو من الله تعالى التوفيقَ لِتحقيقه في القريب العاجل ، هُو جمعِ تُراث أبي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام من الشِعْرِ والنَثْرِ ، على طُولِ القُرُونِ من الأوّل حتّى عصرنا هذا.

ونسألُهُ تعالى العَفْوَ عن التقصيرِ ، والعَوْنَ في أَداءِ المُهمّاتِ ، والتوفيقَ لِما يُحِبُّ ويَرْضَى ، إنّهُ قَرِيْبٌ مُجِيْبٌ.

نور الدين الموسوي

إدارة مكتبة العتبة العبّاسيّة المشرّفة

كربلاء المقدّسة

١٤٣٣ هـ

١١

مقدّمة المؤلّف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

كانَ من توفيق الله تباركَ اسمُه أنْ حظيتُ بزيارة العَتَباتِ المُقدّسة في العراق ، في ثلاثة شُهُورٍ مُتواليةٍ : شهر رجبٍ المُكرّم ، وشهر شعبانَ المُعظّم وشهر رمضانَ المُبارك ، هذه السنةَ (١٤٢٩ هـ).

ومن مكارم تلك السَفرات أنّي فُزْتُ بزيارة مرقد سيّدنا الشهيد العبّاس أبي الفَضْلِ ابن أمير المؤمنين عليهما السلام في كربلاء المقدّسة ، وفي تلك البقعة المُباركة ساقني الحظُّ إلى لِقاء القائمين على خدمة عتبته المُقدّسة ، ووقفت عن كَثَبٍ على جُهُودهم الكبيرة في المجالات كافّةً ، وفي المجال الثقافيّ والإعلاميّ خاصّة ، فكانتْ أعمالُهم ممّا يفتخرُ به نظير ما يصدر في العتبات المقدّسة الأُخرى ، فشكرَ اللهُ سعيَهم وأجزلَ أجرَهم.

وفي اللقاء دارَ الحديثُ عن كِتابي (الحُسينُ عليه السلام سماتُهُ وسيرتُهُ) الّذي كانَ لهُ وَقْعٌ بين الأوساط العلميّة والتاريخيّة والأدبيّة ، منذُ ظُهوره ، فتداولَهُ خُطباء المِنْبر الحُسَينيّ دامَ مجدُهُم وعُلاهم ، وتقبّلُوهُ بقبولٍ حَسَنٍ ، وقرّظوهُ ، فأوقعَ في نفسي اعتزازاً ، لكونِهِ يَدُلُّ على قبولِهِ عندَ الله جلّ وعَزَّ ، وما يستَتبعُ من دُعاء القُرّاء لي بالمغفرة والرضوان.

١٢

وفي تلك الأجواء الْمَلْأى بالقُدسيّة ، وفي ظِلال العَتبة العَبّاسيّة المقدّسة وأروقة مرقده الشريف ، وصحنه الواسع المُبهج ، وفي جَمْعٍ مِنَ الفُضَلاء العاملين في خدمته ؛ وَقَعَ في خَلَدي أنْ أكتبَ عن سيّدنا أبي الفضل العَبّاس الشهيد عليه السلام كذلك كتاباً يحوي (سماته وسيرته) على منوال ما كتبتُ عن الإمام الحسين سيّد الشهداء عليه السلام.

ورجعتُ إلى مقرّ عملي في قُمّ المُقدّسة ، وبدأتُ العمل لإنجاز هذا الكتاب باسم (العَبّاس عليه السلام سماته وسيرته).

وقد التزمتُ فيه اعتماد أقدم المصادر المختصّة وأوثقها ، مقدّماً ما اتّفقت عليه ثمّ ما اجتمع عليه اثنان على الأقلّ ممّن تأخّر عصرُه.

مُحاولاً استنطاق النُصُوص بما يتوافقُ مع معطَيات العقائد الحقّة ، والتاريخ المثبَت ، ومؤدّى اللّغة والأدب.

ومعضّداً لذلك بالقرائن الحاليّة والمقاليّة المنثورة في التُراث الإسلاميّ ممّا تؤطِّرُ تلك النُصوصَ وتُقارن دلالاتِها.

هادفاً من العمل : أن لا تبقى النُصوصُ المنقولةُ مُبْهَمةً ، أو جامدةً على ظواهرها ، أو بعيدةً عن مُقارناتها المُهِمَّةِ الّتي تُثيرُ مداليلها وتُضيئ مقاصدها ؛ فالغرضُ الأقصى هو : توضيحُ النُصُوص وتقريب دلالاتها للوصول إلى أهدافها الواقعيّة ، الّتي نبتغي تقديمها إلى القُرّاءِ بأبهى شَكلٍ وأيسره.

وأرجُو من الله الكريم المَنّان أَنْ يَمُنَّ عَلَيَّ بقبولِ هذا العمل الّذي لم أقصدْ به سوى وجههِ الكريم ، خدمةً لوليّهِ الصالِحِ.

١٣

وأن يُثِيْبَنِي عليهِ يَوْمَ لِقائِهِ ، بوسيلَةِ سَيِّدي وَعَمِّي وَمَوْلايَ أبي الفَضْلِ العبّاس عليه السلام بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّضْوانِ في الآخرةِ ، والرحمةِ والتوفيقِ في هذِهِ الدُّنيا.

وآمُلُ أنْ يَقَعَ هذا الكتابُ عندَ القُرّاءِ المَوْقِعَ الَّذي سَبَقَ لكتاب (الحسين عليه السلام سماتُه وسيرتُه) ليكونا خُطَىً من قَدَمِ صِدقٍ لِي مَعَهما وأصحابِهما الّذين بَذَلُوا دُونهَما ، فأفُوزَ فَوزاً عظيماً ، وَاللهُ هُوَ المُسْتَعانُ.

وكَتَبَ

السيّد مُحَمَّد رِضا الحُسينيّ الجلاليّ

قمّ المُقدّسة ٢٠ شهر صفر الخير ١٤٣٣ هـ

١٤

القسم الأوّل

هويّة العبّاس عليه السلام وسِماتُه

البابُ الأوّل : هويّة العَبّاس عليه السلام الشخصيّة

البابُ الثاني : سمات العَبّاس عليه السلام الجسديّة

البابُ الثالث : سمات العَبّاس عليه السلام الروحيّة

١٥
١٦

البابُ الأوّل

هويّةُ العَبّاس عليه السلام الشَّخْصِيَّةُ

آباؤُهُ وأعْمامُهُ

أُمَّهاتُهُ وأَخْوالُهُ

اسمُهُ وأَلْقابُهُ وكُناهُ

إخْوَتُهُ وأَخَواتُهُ

١٧
١٨

آباؤُهُ الكِرامُ وأعْمامُهُ العِظامُ

ولد العَبّاس عليه السلام في كنف والدين ، فاحتوشه آباء وأُمّهاتٌ هم القمّة في الشرف والمجد

أتاهُ المجدُ مِنْ هَنّا وهَنّا

فَكانَ لَهُ بِمُعْتَلِجِ السُّيُوْلِ(١)

فوالدُهُ :

الإمامُ أَميْرُ المُؤْمِنِيْنَ عليٌّ المُرتضى ، ابن عمّ الرسول صلى الله عليه وآله وصهرُهُ زوجُ الزهراء فاطمة البتول عليها السلام وأبو السبطين الحسن والحسين عليهما السلام.

وهو مَن فضائلُهُ وفواضلُهُ كثيرةٌ سائرةٌ ، معروفةٌ مرفوعةٌ ، كالشمس في رائعة النهار ، وقد ملأت الدُنيا وخلدتْ ، لأنّها من الوحي صدرتْ ، وفي آيات القرآن الكريم وردتْ ، وعلى لسان النَبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله رويتْ.

وها هي سلسلةُ نَسَبِهِ الشريف :

فهو العَبّاسُ :

ابنُ عليٍّ أَمير المُؤْمِنِيْنَ ، أبي الحسن : وليد الكعبة المعظّمة ، وربيب

__________________

(١) من شعر يزيد بن عُبَيْد السعديّ ، أبي وجزة السلميّ (ت ١٣٠ هـ) قاله في محمّد الديباج ، وفي ديوانه : (أتاك) و(وكنت). وراجع : اختيار الممتع في علم الشعر وعمله للنهشلي (١ / ٧٣) ، وفيه : كمجتمع السيول.

١٩

الرسول ، وأوّل من آمن به ، وصهره ، ووصيّه ، وشهيد الصلاة في محراب مسجد الكوفة.

ابن أبي طالب :

شيخ البطحاء ، وسيّد بني هاشم ، ومؤمن قريش ، وعَمُّ الرسول وناصره وكافله ، فقال فيه لمّا مات : «يا عمّ ، ربّيت صغيراً ، وكَفَلْتَ يتيماً ونصرتَ كبيراً ، فجزاك الله عنّي خيراً» ومشى بين يدي سريره ، وجعل يعرضه ويقول : «وصلتك رحمٌ وجُزيت خيراً»(١) .

وقد أعلن أبو طالب إيمانَهُ ، وكشف عن معرفته بالحقّ ، في وصيّته وهو مُحْتَضَرٌ ، وهذا نصُّها منقولاً من خطّ ابن الشِحْنَة :

لمّا حضرت الوفاةُ أبا طالبٍ عمّ النَبِيّ ، جمع إليه وجوه قريشٍ وأوصاهم ، قال :

«يا معشر قريشٍ أنتم صفوةُ الله من خلقه ، وقلبُ العرب ، وفيكم السيّدُ المُطاعُ ، وفيكم المُقْدِمُ الشُجاعُ ، الواسعُ الباع.

واعلموا أنّكم لم تتركوا للعرب في المآثر نَصيباً إلاّ أحرزتموهُ ، ولا شَرَفاً إلاّ أدركتموهُ ، فلكم بذلك على الناس الفضيلة ، ولهم إليكم الوسيلة ، والناسُ لكم حربٌ ، وعلى حربكم ألْبٌ.

وإنّي أُوصيكم بتعظيم هذه البِنْية ، فإنَّ فيها مرضاةً للربّ ، وقواماً للمعاش ، ونبأة للوطأة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي (٢ / ٣٥)

٢٠

قميصك أكفنّه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له.

فأعطاه النبيّ قميصه، فقال: آذنّي اُصلّي عليه.

فآذنه، فلمّا أراد أن يصلّي عليه جذبه عمر فقال: أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين؟

فقال: أنا بين خيرتين، قال: ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ ) فصلّى عليه (1) .

2 / في صحيح مسلم بسنده عن عروة بن الزبير:

أنّ عائشة زوج النبيّ قالت:

إعتمّ ـ أي أبطأ ـ رسول الله ليلة من الليالي بصلاة العشاء وهي التي تُدعى العتمة، فلم يخرج رسول الله حتّى قال عمر بن الخطّاب نام النساء والصبيان.

فخرج رسول الله فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم: ـ... وما كان لكم أن تتزروا ـ أي تستعجلوا ـ رسول الله على الصلاة، وذلك حين صاح عمر بن الخطّاب (2) .

3 / في حلية الأولياء بسنده عن ابن عسيب:

قال: خرج رسول الله ليلاً فدعاني، فخرجت إليه، ثمّ مرّ بأبي بكر، فدعاه فخرج، ثمّ مرّ بعمر فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتّى دخل حائطاً لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: أطعمنا بُسراً. فجاء بعذقٍ، فوضعه، فأكلوا، ثمّ دعا بماءٍ فشرب فقال: ـ لتُسئلُنَّ عن هذا يوم القيامة.

قال: وأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض، حتّى تناثر البُسر نحو وجه

__________________

(1) صحيح البخاري / أحكام الجنائز / باب الكفن من القميص، ورواه الترمذي أيضاً في سننه / ج 2 / ص 185، والنسائي في سننه / ج 1 / ص 269، وابن ماجه في سننه / باب الصلاة على أهل النفاق، وابن عبد البرّ في الاستيعاب / ج 1 / ص 366.

(2) صحيح مسلم / كتاب المساجد / باب وقت العشائين وتأخيرها.

٢١

رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إنّا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟

قال: نعم (1) .

هذه نماذج ثلاثة تلاحظ فيها بوضوح سوء الأخلاق وإساءة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله الذي كان قمّة في الأخلاق، وصاحب الخلق العظيم، بشهادة ربّ العالمين.

لذلك أورد عليه السيّد الفيروزآبادي بقوله: ـ

(أقول) أمّا جذب عمر رسول الله صلى الله عليه وآله في الرواية الاُولى لمّا أراد أن يصلّي على عبد الله بن اُبيّ وقوله له أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين، فهو ما فيه دلالة واضحة على تجسّر عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسوء أدبه معه، بل يظهر منه أنّ عمر كان يرى الصلاة على عبد الله أمراً حراماً شرعاً وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قد ارتكب الحرام الشرعي فأراد أن ينهاه عن المنكر.

ولم يكتف بالنهي عنه بالكلام فقط بل نهاه عنه قولاً وعملاً فجذبه وقال له: أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين. ومن المعلوم أنّ من ينهي النبيّ صلى الله عليه وآله عن المنكر فهو يرى نفسه أتقى لله وأورع، وهذا لعمري إن لم يكن كفراً محضاً كما لا يبعد فهو ضلال بيِّن لا محالة لا يرتاب فيه إلّا أهل الضلال.

ولو كان مقصود عمر مجرّد الاستفهام والاطّلاع على السبب الباعث لصلاة النبيّ صلى الله عليه وآله على ابن أُبيّ لتقدّم إليه واستفهمه بالكلام الطيّب، ولم يتجسّر عليه بجذبه عن الصلاة وبالقول الخشن المذكور، وهذا واضح ظاهر.

(وأمّا صياح عمر بن الخطّاب) على النبيّ صلى الله عليه وآله في الرواية الثانية حين تأخّر في الخروج إلى صلاة العشاء كما يظهر من آخر الرواية حيث قال وذلك حين صاح

__________________

(1) حلية الأولياء / ج 2 / ص 27، وذكره العسقلاني في الإصابة / ج 7 / القسم الأوّل / ص 131، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده / ج 5 / ص 81، والطبري في تفسيره / ج 30 / ص 185، وابن سلطان في المرقاة / ج 4 / ص 397 وقال: إنّه رواه البيهقي أيضاً.

٢٢

عمر بن الخطّاب، فهو تجسّر أوضح من الأوّل، غير أنّ الأوّل كان نهياً عن المنكر بزعمه وهذا أمرٌ بالمعروف حيث حرّض النبيّ صلى الله عليه وآله على الخروج إلى صلاة العشاء، وهذا لعمري عجيب من عمر.

ألم يسمع قول الله تبارك وتعالى في سورة الحجرات: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ) (1) .

ألم يسمع قول الله تبارك وتعالى في أوّل السورة: ( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (2) .

وقد تقدّم في مطاعن أبي بكر في باب رفع أبي بكر وعمر أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وآله حتّى نزل النهي أنّهما قد رفعا أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وآله، حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أن يستعمله على قومه، وأشار الآخر برجلٍ آخر فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ونزل النهي.

(وأمّا أخذ عمر العذق) في الرواية الثالثة وضرب به الأرض حتّى تناثر البُسر نحو وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقوله له إنّا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة، فهو تجسّر على الله ورسوله جميعاً لا على الرسول فقط، وتحقير لنعمة الله جلّ وعلا، فكأنّ البسر كان في نظره شيئاً حقيراً هيّناً لا يعتدّ به فقالَ في حقّه ما قال.

وهو ممّا يدلّ على جهله وقلّة علمه مضافاً إلى تجسّره وعدم كونه شاكراً خاضعاً لأنعم الله تعالى (ولكن الذي) يهوّن الخطب في هذا كلّه أنّ الذي يتجسّر على رسول الله ويقول للنبيّ صلى الله عليه وآله عند مماته حين قال: «ائتوني بكتابٍ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده» إنّه يهجر، أو غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا أو حسبنا

__________________

(1) سورة الحجرات: الآيتان 4 و 5.

(2) سورة الحجرات: الآية 2.

٢٣

كتاب الله، وقد تقدّم التفصيل مشروحاً في باب مستقلّ، فأمثال هذه الاُمور المذكورة هاهنا في هذا الباب هي هيّنة يسيرة جدّاً لا ينبغي التعجّب منها أبداً. انتهى.

وهذه المقارنة البسيطة تكشف لك الفرق الأقصى بين المذهبين؛ مذهب أهل البيت عليهم السلام ومذهب غيرهم.

وتكشف الطريق الحقّ في السلوك الأخلاقي، والمسلك الصحيح في الأدب الإلهي.

وهذا الكتاب محاولة موجزة لبيان جانب قليل، ونزر يسير من عظمة أخلاق أهل البيت عليهم السلام، الذي يتجلّى فيهم، وسيرة الخلق الطيّب الذي مَنَّ الله تعالى به عليهم.

فجعلهم اُسوة الخُلق الطيّب، وقدوة الأدب الرفيع، ونموذج السجايا الكريمة.

رجاء أن يتفضّل الله تعالى علينا بأشعّةٍ من نورهم، ولمحةٍ من أخلاقهم.

إنّه خير هادٍ ودليل، إلى سواء السبيل.

٢٤

2 / أخلاق أهل البيت عليهم السلام

من المباحث الاعتقاديّة والعلميّة معاً مبحث أخلاق أهل البيت عليهم السلام.. فإنّه يلزم علينا أن نعتقد أنّ النبيّ والعترة صلوات الله عليهم أفضل الناس في مكارم الأخلاق، كما أنّهم الأفضل في محاسن الصفات، وفضائل الأعمال، ومراتب الكمال.. هذا عقيدةً.

وأمّا عملاً؛ فينبغي لنا أن نسعى في الاقتداء بهم والتأسّي بجميعهم في الأخلاق الكريمة، والمكارم الفاضلة.

لأنّ أهل البيت سلام الله عليهم ـ هم ليس سواهم ـ القدوة الصالحة، والاُسوة الحقّ من الله للخلق، والطاهرون المطهّرون من كلّ رجسٍ ورذيلة.

قال تعالى: ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (1) .

وقال عزّ اسمه: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) .

ولا يحقّ لنا أن نتأسى أو نتمسّك في الأخلاق وفي سواها بغيرهم عليهم السلام،

__________________

(1) سورة الأحزاب: الآية 21.

(2) سورة الأحزاب: الآية 33.

٢٥

أو نقتدي بسواهم.

لأنّ أهل البيت عليهم السلام هم سفينة النجاة، والمستمسك المنجي الذين اُمرنا بمتابعتهم، وعدل القرآن الذين اُمرنا بالتمسّك بهم في حديث الثقلين، المتّفق عليه بين الفريقين.

لذلك يكون مرجعنا في علوم الأخلاق هو القرآن الكريم، وأحاديث أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم الشريفة.

فلنتعرّف في البداية على أمرين:

الأوّل: ما هي الأخلاق؟

الثاني: ما هي أخلاق أهل البيت عليهم السلام في كتاب الله تعالى وسيرتهم؟

فنقول بعونه وتوفيقه: ـ

الخُلُق: هي السجيّة، والملكات والصفات الراسخة في النفس؛ كالسخاء، والشجاعة، والعفو، والكرم، التي هي من السجايا الطيّبة، والخلق الطيّب.

وحسن الخُلق: يُطلق غالباً على معاشرة الناس بالمعروف، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة.

وأحسن تعريف لحُسن الخلق هو ما عرّفه به الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: ـ

(تُلين جناحَك، وتطيب كلامك، وتلقى أخاك ببشرٍ حسن) (1) .

ومكارم الأخلاق: هي الأعمال الشريفة التي توجب كرامة الإنسان، وشرافته، وسموّه، وعزّته، مثل كظم الغيظ، وإصلاح ذات البين، والسبق إلى الفضائل ونحوها ممّا يأتي ذكرها.

وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام في مكارم الأخلاق، ذكر منها: ـ

(العفو عمّن ظلمك، وصلة من قطعك، وإعطاء من حرمك) (2) .

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 103.

(2) بحار الأنوار / ج 69 / ص 368.

٢٦

ومن أبرز مصاديق مكارم الأخلاق هذه التي ذكرها الإمام عليه السلام، وأحسن آثارها هي مقابلة الإساءة بالإحسان التي ذكرها وأمر بها الله تعالى في قوله عزّ اسمه: ـ ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (1) .

هذا هو: الخُلق الطيّب، وحُسن الخُلق، ومكارم الأخلاق.

وأهل البيت عليهم السلام هم المثلُ الأعلى في جميعها، والبالغون إلى ذروتها.

وهم لا غيرهم كانوا سماء طيب الأخلاق، فاستحقّوا أن يكونوا قدوة الخلق.

وسيّدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أثنى عليه ربّه بقوله عزّ اسمه: ـ ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (2) .

وكانت مكارم الأخلاق من غايات البعثة النبويّة المباركة، وخصوصيّات الرسالة المحمّديّة الشريفة، والمزايا العالية التي نالها رسول الله صلى الله عليه وآله.

ففي الحديث: ـ (إنّ الله تبارك وتعالى خصّ رسول الله صلى الله عليه وآله بمكارم الأخلاق.

فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله جلّ وعزّ، وارغبوا إليه في الزيادة منها) (3) .

بل فاز صلوات الله عليه وآله بقمّة السجايا الطيّبة والأخلاق الفاضلة، فوصفه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله بأجمل بيان: ـ

(كان أجود الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمّةً، وألينَهم عريكةً، وأكرمهم عِشرةً، مَن رآه بديهةً هابَه، ومَن خالطه أحبّه، لم أرَ مثلَه قَبله ولا بَعده) (4) .

__________________

(1) سورة فصّلت: الآية 34.

(2) سورة القلم: الآية 4.

(3) بحار الأنوار / ج 69 / ص 368.

(4) سفينة البحار / ج 2 / ص 688.

٢٧

وقال عليه السلام في خطبته القاصعة: ـ

(وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ.

وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ» (1) .

وحقّاً كان صلى الله عليه وآله أعظم الناس في عظيم الأخلاق وكريم الشيَم.

وحسبُك من ذلك ما أصابه من قريش..

فقد تألّبت عليه، وجرّعته أنواع الغصص، حتّى ألقَتْ عليه مشيمة الرحم القذرة، وأدمت ساقه الشريف، وكسرت رباعيّته المباركة، وضيّقت عليه الحياة في شِعب أبي طالب، وآذته أشدّ إيذاء، وهجمت على داره لقتله في حرم الله تعالى مكّة المكرّمة، حتّى ألجأته إلى مغادرة بلده وأهله، وهجرته إلى المدينة.

ولم تتركه يرتاح حتّى في المدينة، بل أجّجت عليه كلّ برهة حرباً شعواء، وأرصدت لإيذائه أهل الظلم والجفاء..

لكن بالرغم من جميع ذلك لمّا نصره الله تعالى عليهم، وأظفره بهم في فتح مكّة قابلهم بأعظم إحسان وأكبر أمان.

حيث قال لهم: ـ ما تقولون إنّي فاعلٌ بكم؟

قالوا: ـ خيراً، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم.

فقال صلى الله عليه وآله: أقول لكم ما قال أخي يوسف عليه السلام: لا تثريب عليكم اليوم ـ أي لا توبيخ ـ إذهبوا فأنتم الطلقاء.

حتّى أنّ صفوان بن اُميّة الذي كان من المشركين الذين آذوا النبيّ صلى الله عليه وآله هرب إلى

__________________

(1) نهج البلاغة / الطبعة المصريّة / الخطبة 187.

٢٨

جدّه ليقذف نفسه في البحر، فراراً من الرسول الأعظم.

فقال عمير بن وهب: يا رسول الله إنّ صفوان بن اُميّة سيّد قومه قد خرج هارباً منك فآمنه.

قال صلى الله عليه وآله: هو آمن.

قال عمير بن وهب: ـ أعطني شيئاً يعرف به أمانك.

فأعطاه صلى الله عليه وآله عمامته.

وهذا يكشف عن أعظم سموٍّ أخلاقي وكرَمٍ روحيّ، في عظيم عفوه حين عظيم قدرته.

ومثله كان خلفاؤه الأئمّة المعصومين من أهل بيته الطاهرين عليهم السلام كانوا نموذجاً في سموّ الآداب ومكارم الأخلاق، ومثالاً له في الدعوة إلى حُسن الخليقة، وإنماء الفضيلة، دعوة صادقة، وتربيةً رائقة بأعمالهم وأقوالهم.

نذكر نُبذة منها في هذا الكتاب لتكون دروساً خالدة في الأخلاق الفاضلة والمحاسن الكاملة.

فنستمدّ منها حياةً زكيّة، وروحاً معنويّة، لتهذيب ضمائرنا وصلاحها، وتزكية أنفسنا وفلاحها، فنكون من مصاديق قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) (1) .

وعلى هذا الصعيد السامي نتشرّف بذكر الفصول التالية فيما يلي: ـ

أوّلاً: سيرة أهل البيت عليهم السلام الأخلاقيّة في أعمالهم.

ثانياً: دروسهم الأخلاقيّة في أقوالهم.

ثالثاً: مدرستهم الأخلاقيّة في الصحيفة المباركة السجّاديّة.

وكفى بأهل البيت عليهم السلام أولياء إلهيّين، ومربّين صالحين، وقدوة العالمين للأخلاق

__________________

(1) سورة الشمس: الآية 9.

٢٩

الطيّبة، والآداب الحسنة، والدروس التربويّة في الأدب الإلهي، والخلق الزكيّ.

ففي وصيّة أمير المؤمينن عليه السلام: ـ

(يا كميل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أدّبه الله عزّوجلّ، وهو أدّبني، وأنا أؤدّب المؤمنين، وأورّث الأدب المكرّمين) (1) .

وفي حديثه عليه السلام: ـ

(إنّ الله كريمٌ حليمٌ عظيمٌ رحيم، دلّنا على أخلاقه، وأمرَنا بالأخذ بها وحَمْل الناس عليها.

فقد أدّيناها غير متخلّفين، وأرسلناها غير منافقين، وصدّقناها غير مكذّبين، وقبلناها غير مرتابين) (2) .

وبحقٍّ قد أدّبوا شيعتهم الأبرار، وأصحابهم الكُبّار على الآداب الإلهيّة، والمكارم الأخلاقيّة.

أدّبوهم على مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، وعلّموهم مقابلة الإساءة بالإحسان والفضائل المزكية للإنسان، كما تلاحظها في وصاياهم الواقية ومواعظهم الشافية، التي ربَّت جيلاً طيّبين، وعلماء ربّانيّين، ورجالاً صالحين.

وهي ذا شذرات من تلك الأخلاقيّات التي علّمت وهذّبت وربّت اُولئك الشيعة الطيّبين: ـ

1 ـ ما في تعاليم رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه، جاء فيه: ـ

(... يا أبا ذرّ احفظ ما أوصيك به تكُن سعيداً في الدُّنيا والآخرة...

يا أبا ذرّ إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، وخُذ من صحّتك قبل سُقمك، وحياتك قبل موتك، فإنّك

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 77 / ص 269.

(2) بحار الأنوار / ج 77 / ص 418.

٣٠

لا تدري ما اسمك غداً...

يا أبا ذرّ إنّ شرّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة عالمٌ لا يَنتَفِع بعلمه، ومن طلب علماً ليصرف به وجوه الناس إليه لم يجد ريح الجنّة...

يا أبا ذرّ... إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرةٍ يخاف أن تقع عليه، وإنّ الكافر ليرى ذنبه كأنّه ذبابٌ مرّ على أنفه...

يا أبا ذرّ دَع ما لستَ منه في شيء، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن ورقك...

يا أبا ذرّ إخفض صوتك عند الجنائز، وعند القتال، وعند القرآن...

يا أبا ذرّ حاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب فهو أهون لحسابك غداً، وزِنْ نفسك قبلَ أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تُعرض لا تخفى على الله خافية...

يا أبا ذرّ مَثَلُ الذي يدعو بغير عمل كمثَل الذي يرمي بلا وَتر..

يا أبا ذرّ ما من شابٍّ يدع لله الدُّنيا ولهوها، وأهرم شبابه في طاعة الله إلّا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صدَّيقاً...

يا أبا ذرّ كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكلّ ما سمع...

يا أبا ذرّ لا يزال العبد يزداد من الله بُعداً ما ساء خُلقه...

يا أبا ذرّ من لم يبال من أين اكتسب المال، لم يُبال الله عزّوجلّ من أين أدخله النار...

يا أبا ذرّ من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر.

قلت: وما الثلاث فداك أبي واُمّي؟

قال: ورعٌ يحجزه عمّا حرّم الله عزّوجلّ عليه، وحلمٌ يردّ به جهل السفيه، وخُلق يداري به الناس.

٣١

يا أبا ذرّ إن سرّك أن تكون أقوى الناس فتوكّل على الله، وإن سرّك أن تكون أكرم الناس فاتّق الله، وإن سرّك أن تكون أغنى الناس فكُن بما في يد الله عزّوجلّ أوثق منك بما في يديك...

يا أبا ذرّ من صمت نجا، فعليك بالصدق، ولا تخرجنّ من فيك كذبة أبداً...

يا أبا ذرّ سباب المؤمن فُسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله، وحرمة ماله كرحمة دمه...

يا أبا ذرّ إيّاك وهجران أخيك، فإنّ العمل لا يتقبّل من الهجران...

يا أبا ذرّ من مات وفي قلبه مثقال ذرّةٍ من كبر لم يجد رائحة الجنّة...

يا أبا ذرّ طوبى لمن تواضع لله تعالى من غير منقصة، وأذلّ نفسه من غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعَهُ من غير معصية، ورحِمَ أهل الذلّ والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة.

طوبى لمن صلحت سريرته، وحسنت علانيّته، وعزل عن الناس شرّه.

طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله...) (1) .

2 ـ ما في وصايا أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد النخعي رضوان الله عليه: ـ (يا كميل لا تأخذ إلّا عنّا تكن منّا...

يا كميل أحسِن خُلقك، وابسط جليسك ـ أي سُرّه ـ، ولا تنهرَنَّ خادمك.

يا كميل البركة في المال من إيتاء الزكاة، ومواساة المؤمنين، وصلة الأقربين وهم الأقربون لنا...

يا كميل لا تردّ سائلاً، ولو بشقِّ تمرة، أو من شطر عنب...

يا كميل حُسن خلق المؤمن من التواضع، وجماله التعفّف، وشرفه الشفقة،

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 77 / ص 74.

٣٢

وعزّه ترك القيل والقال.

يا كميل إيّاك والمراء، فإنّك تغري بنفسك السفهاء إذا فعلت، وتُفسد الإخاء...

يا كميل جانب المنافقين، ولا تصاحب الخائنين...

يا كميل لا تُريَنَّ الناس افتقارك واضطرارك، واصطبر عليه احتساباً بعزٍّ وتستّر...

يا كميل ومن أخوك؟

أخوك الذي لا يخذلك عند الشدّة، ولا يغفل عنك عند الجريرة، ولا يخدعك حين تسأله، ولا يتركك وأمرك حتّى تُعلمه فإن كان مميلاً ـ أي صاحب مال ـ أصلحه...

يا كميل إنّما المؤمن من قال بقولنا، فمن تخلّف عنّا قصّر عنّا، ومن قصّر عنّا لم يلحق بنا، ومن لم يكن معنا ففي الدرك الأسفل من النار...

يا كميل قُل عند كلّ شدّةٍ: (لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم) تكفها.

وقُل عند كلّ نفحةٍ الحمدُ لله تُزد منها، وإذا أبطأت عليك الأرزاق فاستغفر الله يُوسّع عليك فيها.

يا كميل إذا وسوس الشيطان في صدرك فقُل: ـ

(أعوذ بالله القويّ من الشيطان الغويّ، وأعوذ بمحمّد الرضيّ من شرّ ما قُدّر وقُضي، وأعوذ بإله الناس من شرّ الجِنّة والناس أجمعين)، وسلّم، تُكفى مؤونة إبليس والشياطين معه، ولو أنّهم كلّهم أبالسة مثله...

يا كميل إنّ الأرض مملوّةٌ من فخاخهم، فلن ينجو منها إلّا مِن تشبّث بنا..

يا كميل ليس الشأن أن تصلّي وتصوم وتتصدّق، إنّما الشأن أن تكون الصلاة فُعلَت بقلبٍ نقيّ، وعملٍ عند الله مرضيّ، وخشوعٍ سويّ، وإبقاءٍ للجدّ فيها...

يا كميل اُنظر فيمَ تصلّي، وعلى ما تصلّي، إن لم تكن من وجهه فلا حِلَّ ولا قبول...

يا كميل إنّما يتقبّل الله من المتّقين...

يا كميل قال رسول الله صلى الله عليه وآله لي قولاً، والمهاجرون والأنصار متوافرون يوماً بعد

٣٣

العصر، يوم النصف من شهر رمضان، قائماً على قدميه، فوق منبره: ـ

عليٌّ منّي، وإبناي منه، والطيّبون منّي وأنا منهم، وهم الطيّبون بعد اُمّهم، وهم سفينةٌ من ركبها نجى، ومَن تخلّف عنها هوى، الناجي في الجنّة، والهاوي في لظى...) (1) .

3 ـ ما في تعليم فاطمة الزهراء عليها السلام لبعض النساء: ـ

(أرضِ أبوَي دينِك محمّداً صلى الله عليه وآله وعليّاً عليه السلام، بسخطِ أبوي نسبكِ.

ولا تُرضِ أبوي نسبكِ بسخط أبوَي دينك.

فإنَ أبوي نسبك إن سخطا أرضاهما محمّد صلى الله عليه وآله وعليّ عليه السلام بثواب جزءٍ من ألف ألف جزءٍ من ساعةٍ من طاعاتهما.

وإنَ أبوَي دينك إن سخطا لم يقدر أبوا نسبك أن يرضياهما، لأنّ ثواب طاعات أهل الدُّنيا كلّهم لا تفي بسخطهما...) (2) .

4 ـ ما في كلام لمولانا الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: ـ

(يا ابن آدم عُفّ عن محارم الله تكُن عابداً، وارضِ بما قسم الله سبحانه تكن غنيّاً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحِب الناس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك به تكن عدلاً.

إنّهم كان بين أيديكم أقوامٌ يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً.

أصبح جمعهم بواراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً.

يا ابن آدم لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن اُمّك، فخُذ ممّا في يديك لما بين يديك، فإنّ المؤمن يتزوّد، والكافر يتمتّع.

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 77 / ص 270.

(2) الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء عليها السلام / ج 21 / 164.

٣٤

وكان عليه السلام يتلو بعد هذه الموعظة: ـ

( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ) (1) .

5 ـ ما في توصية مولانا الإمام الحسين عليه السلام لابن عبّاس: ـ

(لا تتكلّمنَّ فيما لا يعنيك فإنّي أخاف عليك الوزر.

ولا تتكلّمنّ فيما يعنيك حتّى ترى للكلام موضعاً، فرُبّ متكلّمٍ قد تكلّم بالحقّ فعيب.

ولا تمارينَّ حليماً ولا سفيهاً، فإنّ الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك.

ولا تقولنّ في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلّا ما تحبّ أن يقول فيك إذا تواريت عنه.

واعمل عمل رجلٍ يعلم أنّه مأخوذٌ بالإجرام، مجزى بالإحسان، والسلام) (2) .

6 ـ ما في وصيّة مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام لبعض بنيه: ـ

(يا بُني اُنظر خمسةٌ فلا تصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق.

فقال: يا أبه مَن هم؟

قال عليه السلام: ـ إيّاك ومصاحبة الكذّاب فإنّه بمنزلة السراب يقرِّب لك البعيد، ويبعّد لك القريب.

وإيّاك ومصاحبة الفاسق فإنّه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك.

وإيّاك ومصاحبة البخيل فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه.

وإيّاك ومصاحبة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك.

وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله) (3) .

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 112.

(2) بحار الأنوار / ج 78 / ص 127.

(3) بحار الأنوار / ج 78 / ص 137.

٣٥

7 ـ ما في وصيّة مولانا الإمام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي وجماعة الشيعة: ـ

(قال جابر: دخلنا على أبي جعفر عليه السلام، ونحن جماعة، بعدما قضينا نسكنا، فودّعناه وقلنا له أوصنا يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال:

ليُعن قويّكم ضعيفكم، وليعطف غنيّكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنّا فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتًى نشرح لكم من ذلك ما شُرح لنا.

فإن كنتم كما أوصيناكم، لم تعدْوا إلى غيره فمات منكم ميّت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً، وإن أدرك قائمنا فقُتل معه كان له أجر شهيدين، ومَن قَتَلَ بين يديه عدوّاً لنا كان له أجر عشرين شهيداً) (1) .

8 ـ ما في وصيّة مولانا الإمام الصادق عليه السلام لعبد الله بن جُندَب: ـ

(... يا ابن جُندب إنّما المؤمنون الذين يخافون الله، ويشفقون أن يُسلبوا ما أُعطوا من الهدى، فإذا ذكروا الله ونعماءه وجلوا وأشفقوا، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ممّا أظهره من نفاذ قدرته، وعلى ربّهم يتوكّلون...

يا ابن جندب لا تقُل في المذنبين من أهل دعوتكم إلّا خيراً، واستكينوا إلى الله في توفيقهم، وسلوا التوبة لهم.

فكلّ من قصدنا، وتولّانا، ولم يوال عدوّنا، وقال ما يعلم، وسكت عمّا لا يعلم أو أشكل عليه فهو في الجنّة...

يا ابن جندب الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدرٍ واُحد، وما عذّب الله اُمّةً إلّا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم...

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 182.

٣٦

يا ابن جندب إنّما شيعتنا يُعرفون بخصالٍ شتّى:

بالسخاء، والبذل للإخوان، وبأن يصلّوا الخمسين ليلاً نهاراً.

شيعتنا لا يهرّون هرير الكلب، ولا يطعمون طمع الغراب، ولا يجاورون لنا عدوّاً، ولا يسألون لنا مبغضاً ولو ماتوا جوعاً.

شيعتنا لا يأكلون الجرَي، ولا يمسحون على الخفّين، ويحافظون على الزوال، ولا يشربون مسكراً...

يا ابن جندب صِل من قطعك، واعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلِّم على من سبّك، وأنصف مَن خاصمك، واعف عمّن ظلمك كما تحبّ أن يُعفى عنك.

فاعتبر بعفو الله عن، ألا ترى أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ مطره ينزل على الصالحين والخاطئين...

يا ابن جندب... الواجب على من وهب الله له الهدى، وأكرمه بالإيمان، وألهمه رُشده، وركّب فيه عقلاً يتعرّف به نعمه، وآتاه علماً وحكماً يدبّر به أمر دينه ودُنياه أن يوجب على نفسه أن يشكر الله ولا يكفره، وأن يذكر الله ولا ينساه، وأن يطيع الله ولا يعصيه...

أما إنّه لو وقعت الواقعة، وقامت القيامة، وجاءت الطامّة، ونصب الجبّار الموازين لفصل القضاء، وبرز الخلائق ليوم الحساب، أيقنت عند ذلك لمن تكون الرفعة والكرامة، وبمن تحلّ الحسرة والندامة.

فاعمل اليوم بما ترجو به الفوز في الآخرة) (1) .

9 ـ ما أوصى به الإمام الكاظم عليه السلام هشام بن الحكم، جاء فيه: ـ

(يا هشام إنّ العاقل رضى بالدون من الدُّنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 279.

٣٧

من الحكمة مع الدُّنيا، فلذلك ربحت تجارتهم...

يا هشام كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول:

ما من شيء عُبدَ الله به أفضل من العقل، وما تمَّ عقل امرءٍ حتّى يكون فيه خصالٌ شتّى:

الكفر والشرّ منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، نصيبه من الدُّنيا القوت، لايشبع من العلم دهره، الذلّ أحبُّ إليه مع الله من العزّ مع غيره، والتواضع أحبّ إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقلّ كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلّهم خيراً منه وأنّه شرّهم في نفسه، وهو تمام الأمر.

يا هشام من صدق ليانه زكى عمله، ومن حسنت نيّته زيدَ في رزقه، ومن حسُن برّه بإخوانه وأهله مُدَّ في عمره...

يا هشام رحم الله من استحيا من الله حقّ الحياء، فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعَلِممَ أنّ الجنّة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات.

يا هشام من كفّ نفسه عن أعراض الناس أقاله الله عثرته يوم القيامة، ومن كفّ غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة...

يا هشام أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله بعد المعرفة به: الصلاة، وبرّ الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخر.

يا هشام أصلح أيّامك الذي هو أمامك، فانظر أيّ يومٍ هو، وأعدّ له الجواب، فإنّك موقوفٌ ومسؤول...

يا هشام قال الله جلّ وعزّ: وعزّتي وجلالي وعظمتي وقدرتي وبهائي وعلوّي في مكاني، لا يُؤثِر عبدٌ هواي على هواه إلّا جعلت الغِنى في نفسه، وهمّه في

٣٨

آخرته، وكففتُ عليه ضيعته، وضمّنتُ السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر.

يا هشام الغضب مفتاح الشرّ، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً...

يا هشام إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار..

يا هشام أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قُل لعبادي: ـ

لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدّهم عن ذكري، وعن طريق محبّتي ومناجاتي، اُولئك قطّاع الطريق من عبادي، إنّ أدنى ما أنا صانعٌ أن أنزع حلاوى محبّتي ومناجاتي من قلوبهم...

يا هشام إيّاك والكِبر على أوليائي، والاستطالة بعلمك، فيمقتك الله، فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك، وكُن في الدُّنيا كساكن دارٍ ليست له، إنّما ينتظر الرحيل...

يا هشام لو رأيت مسير الأجل لألهاك عن الأمل.

يا هشام إيّاك والطمع، وعليك باليأس ممّا في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين.

فإنّ الطمع مفتاح للذلّ، واختلاس العقل، واختلاف المروّات، وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم.

وعليك بالاعتصام بربّك، والتوكّل عليه.

وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنّه واجب عليك كجهاد عدوّك...) (1) .

10 ـ ما أوصى به مولانا الإمام الرضا عليه السلام شيعته في حديث عبد العظيم الحسني: ـ

(يا عبد العظيم... أبلغ عنّي أوليائي السلام وقُل لهم: ـ

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 296.

٣٩

أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، ومُرهم بالصدق في الحديث، وأداء الأمانة.

ومُرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة فإنّ ذلك قربةً إليّ.

ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً، فإنّي آليتُ على نفسي أنّه من فعل ذلك وأسخط وليّاً من أوليائي دعوت الله ليعذّبه في الدُّنيا أشدّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين.

وعرّفهم أنّ الله قد غفر لمحسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، إلّا من أشرك به، أو آذى وليّاً من أوليائي، أو أضمر له سوءاً، فإنّ الله لا يغفر له حتّى يرجع عنه، فإن رجع وإلّا نزع روح الإيمان عن قلبه، وخرج عن ولايتي، ولم يكن له نصيبٌ في ولايتنا. وأعوذ بالله من ذلك) (1) .

11 ـ ما في كتاب مولانا الإمام الجواد عليه السلام لسعد الخير: ـ

(... اعلم رحمك الله أنّه لا تنال محبّة الله إلّا ببغض كثير من الناس، ولا ولايته إلّا بمعاداتهم، وفوت ذلك قليل يسير لدرك ذلك من الله لقوم يعلمون.

يا أخي إنّ الله عزّوجلّ جعل في كلّ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهُدى، ويصبرون معهم على الأذى، ويجيبون داعي الله، ويدعون إلى الله.

فابصرهم رحمك الله فإنّهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم في الدُّنيا وضيعة.

إنّهم يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصرون بنور الله من العمى.

كم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من تائهٍ ضالٍّ قد هدوه.

__________________

(1) الاختصاص / ص 247.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607