العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته9%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 607

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68481 / تحميل: 5596
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وأمّا النَبِيُّ صلى الله عليه وآله :

فقد حضر بمَنْ أشبهَهُ ، وهو عليّ بنُ الحسين الأكبر. وقد أعلنَ والدُهُ الإمامُ عن ذلك عندَ شُخوص الأكبر إلى المعركة ، فلمّا استأذَنَ أَباهُ ؛ أَرخى الإمامُ عينيه بِالدُموع وأَطْرَقَ ، ثُمّ قال :

«اللّهمّ اشهدْ أنّه قد بَرَزَ إليهم غُلامٌ أَشْبَهُ الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً بِرَسُولك ، وكُنّا إذا اشْتَقْنا إلى نبيّكَ نَظَرْنا إليه ». ثمّ صاحَ الإمامُ :يابن سعدٍ! قَطَعَ اللهُ رَحِمَكَ كَما قَطَعْتَ رَحِمِي ولم تَحْفَظْني في رسول الله ».

مع أنّ الرسول كان شاهداً بوجود بعض الأوفياء من الصحابة في ساحة المعركة ، وفازوا بالشهادة هُناك ، وهم خمسةٌ(١) :

عابسُ بنُ الحارث الکاهلیّ.

حبيبُ بنُ مُظاهر الأسديّ.

مُسلمُ بنُ عَوسَجَة الأسديّ.

هانئُ بنُ عُروَة المُراديّ.

عَبْد الله بنُ يَقْطُر الحِمْيَريّ.

ومن الصحابيّات الّلاتي أسرهنّ الجيشُ الأمَوِيّ :

فِضّةُ النوبيّة خادم الزهراء فاطمة عليها السلام.

زينب العقيلة أخت الحسين عليهما السلام(٢) .

__________________

(١) راجع إبصار العين للسماوي (١٢٨).

(٢) راجع إبصار العين للسماوي (١٢٨).

١٦١

وأمّا الزَهراءُ فاطمة عليها السلام :

فقد حضرت بمَنْ وَرِثَتْ مصائِبَها وتعلّمتْ منها الصبرَ والجهادَ في سبيل الولاية ، تلك زينبُ عليها السلام عقيلةُ بني هاشم.

وحضرت بفاطمة بنت الحسين ؛ فقد كانتْ تُشبّه بجدّتها.

وأمّا الحسنُ المجتبى عليه السلام :

فقد مثله أولاده الثلاثة ، وهم : القاسم ، وعَبْد الله ، وأبو بكرٍ.

ومثّلَ العَبّاسُ أباهُ :

فقد كان يمثله بأكثر من دور وفي أكثر من موقع :

قام بحمل لواء الحسين عليه السلام كما كان أبوهُ حامل لواء الرسول في المغازي كلّها ، وهو حاملُ لواء الحمد يوم القيامة.

وقام العَبّاسُ عليه السلام في كربلاء بِمُهمّة السقي فهو الساقي لِعطاشى ذلك الموقف الحَرِج ، كما أنّ أباهُ عليّ هو الساقي على حوض الكوثر في غدٍ ، يسقي أولياءَهُ ، ويذودُ عنه أعداءه :

أبوهُ هُو الساقي على الحوضِ في غَدٍ وساقي عطاشى كربلاءَ أبُو الفَضْلِ مضافاً إلى الإخاء والوفاء والنصيحة والفداء بشجاعة ذكّرتْ شجاعة أبيه.

١٦٢

ثانياً : في ظلّ أخيه الحسن السِبط المُجتبى عليه السلام :

وإذا كان العَبّاسُ عليه السلام في عصر والده أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام على ما عرفَ من الشأن والمقام ، فهو أنْ يكونَ له دورٌ أكبرُ في عصر أخيه الإمام السِبط المُجتبى عليه السلام أجدرُ ؛ إذْ كان له من العمر (٢٤) سنةً.

لكنّ التاريخ يَضَنُّ بأخباره في ذلك العصر من سنة (٤٠) إلى (٥٠) مدّة إمامة الحَسَن عليه السلام.

ومن المُحرَزِ المُتيقّن أنْ يكونَ المؤمن مُطيعاً لأمر إمامه ، يسيرُ في رِكابه ، مُخلصاً في طاعته وولائه ، كما هو شأنُ كلّ مؤمنٍ ، فكيفَ بالعَبّاس عليه السلام العارف بدخيلة أخيه والواقف من كَثَبٍ على أخباره وأسراره ، والناظر المطّلع عليها لكونه يعيشها؟

وقد جاء في الحديث الّذي أسنده المحدّث الدولابيّ ، ورواه المحدّث ابن الأخضر الجنابذيّ ، في تاريخ الإمام الحَسَن عليه السلام عند ذكر صفته :

توفّي وهو ابن خمس وأربعين سنةً ، وولي غسلَهُ الحسينُ ، ومحمّدٌ ، والعَبّاسُ ، إخوتُه من عليّ بن أبي طالب(١) .

__________________

(١) الذرّية الطاهرة للدولابي (ص ١١٨ رقم ١٣٤) ط الأعلمي ، ونقله الإربلي في كشف الغمّة (٢ / ٤١٦) عن ابن الأخضر الجنابذي في (معالم العترة النبوية) ورواه الطبري المحبّ في ذخائر العقبى (ص ٢٤٢ والديار بكري في تاريخ الخميس (٢ / ٢٩٣).

١٦٣

ولم نجد مزيداً من الحديث عن العَبّاس في عصر أخيه المجتبى عليه السلام ولعلّ البحث يُوقفنا على ما يُفيدُ ، بعون الله العزيز المجيد.

١٦٤

ثالثاً : في ظلّ الإمام الحُسين السِبط الشهيد عليه السلام :

ويدخل العَبّاس عليه السلام (الرابعة والعشرين) من سنيّ عمره في بداية إمامة أخيه السِبط أبي عَبْدالله الحسين عليه السلام ويعيش في ظلّه (عشر) سنوات.

وهُنا أيضاً يَضَنّ التاريخُ بِالحديث عنه ، وعن دورِهِ وأثرِهِ طيلةَ هذه المدّة ، ولا بدَّ أن يكونَ كما كان في عهد الإمام الحسن عليه السلام مُطيعاً لإمامه ، مُخلصاً له ، كما هو شأن كلّ مؤمنٍ ؛ بلهَ العارف الواقف على الأُمور عن كَثَبٍ ، كما كان العباس.

لكن الأحداثَ الّتي جرتْ في آخر أيّام الإمامة الحُسينية من (رجب سنة ٦٠ ـ حتّى عاشوراء سنة ٦١ هـ) احتوتْ على مجرياتٍ مهمّةٍ كانَ للعبّاس فيها الدورُ الكبير ، ممّا يكشفُ عن أبعادٍ واسعةٍ من سيرة العَبّاس عليه السلام ومواقفه الإيمانيّة والعمليّة وما كان عليه من إيمانٍ صلبٍ ، وبصيرةٍ نافذةٍ ، وعملٍ صالحٍ مُستميتٍ ، وإخلاصٍ ووفاءٍ وشجاعةٍ.

ونستعرض هُنا أهمّ العناصر الّتي رصدناها التي تكشفُ عن مدى ما أدّاهُ عليه السلام في ظلّ الإمام عليه السلام وهو معهُ في مسيره العسير ، وفي الزمن القصير ، على أثر الحضور في مدرسة الإمام واستلهام المعرفة منه ، فقد اتّفق الرجاليّون على أنّه عليه السلام روى الحديث الشريف عن أخيه الإمام عليه السلام :

١٦٥

رواية العبّاس عن الإمام الحسين عليه السلام :

قال الشيخ الطوسيّ في (تسمية من روى عن النبيّ والأئمّة عليهم السلام) في «باب أصحاب الإمام أبي عَبْد الله الحُسين بن عليّ عليهما السلام» ما نصّه :

العَبّاسُ بنُ عليّ بن أبي طالب عليه السلام قُتِلَ معهُ عليه السلام وهو السقّاء. قتله حُكيم ابن الطُفيل. أُمّهُ أُمُّ البَنِيْنَ بنت حرام (١) بن خالد بن ربيعة بن الوحيد ، من بني عامر (٢) .

وقد كرّر هذا النصّ كلُّ من تأخّر عن الشيخ الطوسيّ من علماء رجال الحديث في كتبهم الكثيرة.

والكلام عن نصوص رواية العَبّاس عليه السلام عن أخيه الإمام الحُسين عليه السلام هو بعينه كما مرّ في روايته عن أبيه أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام يحمل على ذمّة البحث والتنقيب في كتب التراث ، والحديثيّ منه خاصّة.

مع أنّ كثيراً من الحوار الواقع في النهضة الحسينية ، والحديث عن المواقف الواقعة في السيرة الحسينيّة الّتي تناقلتها كُتُبُ المقاتل والتواريخ عن الإمام الحسين ، يُمكن اعتبارُهُ من رواية العَبّاس عليه السلام نفسه لكونه من أقرب الناس إلى صاحبها الإمام الحسين عليه السلام.

ومهما يكن ، فإنّ أهمّ ما يمكن عرضه من سيرة العَبّاس عليه السلام في عهد

__________________

(١) التزمنا في ضبط هذه الكلمة على ما اختاره الحجّة السيّد الشبيري الزنجاني في تعليقه على رجال الطوسي ، كما ذكرنا ذلك في عنوان والدة العَبّاس عليه السلام في هذا الكتاب.

(٢) رجال الطوسي (بعد الرقم ٥٩٨) من النسخة المخطوطة الّتي كتبها الحجّة المحقّق الشبيري الزنجانيّ دام ظلّه.

١٦٦

أخيه الإمام الحسين عليه السلام ممّا يدخل في عنوان (آثار المعرفة) هو ما يلي :

١ ـ خروجه مع الإمام عليه السلام :

كان العَبّاس عليه السلام في مَنْ رافق الإمام الحسين عليه السلام عند خروجه من المدينة ، وقد نصّ على ذلك خصوصاً ، وعموماً في ذكر مَنْ خرجَ مَعَهُ من أهل البيت عليهم السلام.

قال الدينوري : فلمّا أمسوا واظلمَّ الليل مضى الحسين رضي الله عنه ـ أيضاً ـ نحو مكّة ومعه أُختاه أُمّ كلثوم وزينب ، وولد أخيه ، وإخوته أبو بكر ، وجعفر ، والعَبّاس ، وعامّة من كان بالمدينة من أهل بيته عليهم السلام إلاّ أخاه محمّد ابن الحنفيّة فإنّه أقام(١) .

وذكر الصدوق في من خرج مع الحسين عليه السلام فقال : ثمّ سارَ في أحد وعشرين رجلاً من أصحابه وأهل بيته ، منهم أبو بكر بن عليّ ، ومحمّد بن عليّ ، وعثمان بن عليّ ، والعَبّاس بن عليّ ، وعَبْد الله بن مسلم بن عقيل ، وعليّ بن الحسين الأكبر ، وعليّ بن الحسين الأصغر(٢) .

وقال الشيخ المفيد : فخرج عليه السلام من تحت ليلته ـ وهي ليلة الأحد ليومين بقيتا من رجب ـ متوجّهين نحو مكّة ، ومعه بنوه وإخوته وبنو أخيه ، وجلّ أهل بيته ، إلاّ محمّد ابن الحنفية(٣) .

__________________

(١) الأخبار الطوال (ص ٢٢٨).

(٢) أمالي الصدوق (ص ٢١٧) المجلس الثلاثون / الحديث رقم (٢٣٩) وعنه البحار (٤٤ / ٢ ـ ٣١٣).

(٣) الإرشاد للمفيد (٢ / ٣٢).

١٦٧

إنّ الخروج مع الإمام الحسين عليه السلام والتزام ركبه المقدّس في مثل هذه السفرة الّتي هي هجرة مقدّسة ، في ظلّ إمام عصره ، يعتبر من مفاخر العَبّاس عليه السلام ، ولا بُدّ أن يكون عمله نابعاً عن عزمٍ وإرادة بعيدة عن مجرّد العواطف البشرية أو الرغبات والنزوات الدنيوية ، ويشهد لكلّ هذا ما صدر منه من المواقف المشرّفة على أرض المعركة في كربلاء.

فهذا الخروج مع الحسين عليه السلام شارة مجدٍ وكرامةٍ للعبّاس عليه السلام في سيرته المُثْلى.

٢ ـ الانقياد والطاعة :

إنّ العَبّاس عليه السلام وهو في ركب الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكّة ، ثمّ من مكّة إلى كربلاء ، ثمّ يقوم في كربلاء ذلك المقام المشرِّف ، لم يسمع عنه ما يدلّ على التقاعد عن طاعة إمامه ، على طول المسير ، ولا التقاعس عن تلبية ندائه واستجابة طلباته.

ثمّ حضوره في المعركة وأيّامها الحرجة إلى جانب الحسين ، وقائماً برسم أوامره وخدمته ، حتّى الشهادة في سبيله ، فكلّ ذلك دليلٌ على الانقياد المُطلق ، والطاعة المُطلقة له.

ثمّ المشاهد المنقولة في سيرته أيّام كربلاء كلّها تُنادي بهذه الحقيقة ، حيث اختاره الإمامُ عليه السلام للقيام بأصعب المُهمّات وأخطرها ، وقد أدّاها العبّاسُ أفضل أداءٍ.

١٦٨

٣ ـ الوفاء :

إذا كان الوفاء هو : ملازمة طريق المواساة ومعاهدة عهود الخلطاء(١) فإنّ العَبّاس عليه السلام قد طبّق ذلك حرفيّاً ، وبأفضل ما يمكن من التطبيق.

وسنعرفُ على عدد الفُرَص الّتي أُتيحتْ لهُ للخُروج من المعركة ، ولكنّه عليه السلام وقف منها موقفَ الرفض ، بل كان فيها يعلنُ عن التزامه بواجب الحفاظ على الحسين سيّده وإمامه قبل وبعد أن يكون أخاه وابن أبيه.

وبذلك كانت الأُسرة الحسينيّة من رجال ونساء وأطفال تستقرّ وتركن إلى الطمأنينة ما دام العَبّاسُ لا زال على العهد ، والوفاء والمواساة. وهكذا كان «الوفاءُ» من الأوصاف الّتي لهجتْ به نصوصُ زياراته الّتي سنتلوها في الملاحق.

٤ ـ اعتماد الحسين عليه السلام عليه في المهمّات :

تقرأ في السيرة الحسينية ، وفي ساحة كربلاء بالخصوص ـ منذ ورود الإمام عليه السلام وحتّى مقتل جميع الشهداء ، وانفراد العَبّاس بالمثول بين يديه ـ مواقع حسّاسة كان الإمام عليه السلام يدعو العّبّاس فيها بالقيام بالمهمّات اللازمة والخاصّة ، فشأنه في ذلك هو شأن الوزير المعتمَد.

ولا ريب أنّ مثل ذلك الإمام عليه السلام على خصوص العَبّاس دون من حولَه من أبنائه وأصحابه الكثيرين ، والكبار عُمراً ، لهوَ الدليلُ على تقدّم العَبّاس عنده عليه السلام واللياقة لهذا المقام الرفيع.

__________________

(١) التعريفات للجرجاني (ص ١٧٤).

١٦٩

٥ ـ اصطحابه في الجلسات الخاصّة :

ومن تلك المواقف : أنّ الإمام عليه السلام إتماماً للحجّة على الأعداء ، وعلى أمير جيش الكوفة ، صمّم قبل احتدام المعركة وشدّة الأزمة على اللقاء بعمر بن سعد ، فاصطحب إلى محلّ الاجتماع أخاه العَبّاسَ وابنَه عليّاً الشهيد(١) ولمّا التقيا أمر الحُسين أصحابه ، فتنحُوا عنه وبقي معه أخوه العَبّاس وابنُه عليّ الأكبر(٢) .

وقد حدّد المؤرّخون ذلك قبل اليوم السابع من المحرّم ، أي قبل منع الماء عن الحسين عليه السلام وأصحابه. وفي تنحية الأصحاب وبقاء العَبّاس معه دلالةٌ واضحةٌ على العناية الخاصّة الّتي عنونّاها هُنا.

٦ ـ القيام بِشُؤون الأسرة :

إنّ من أهمّ جوانب السيرة الحسينيّة هو وجود الأُسرة الشريفة العلويّة الحسينيّة الفاطميّة ، مع الحسين عليه السلام في ساحة الوغى ، فمن أصعب الأثقال على قلب البطل المقدام الغيور ، وجود مجموعةٍ من النساء والأطفال في مثل موقف كربلاء ، وفي ساحة الحرب بحيث تتطلّع الأسرةُ إلى ما يُقال ، وتنظر إلى ما يقعُ من مشاهد صغيرةٍ وكبيرةٍ ، فذلك أثقلُ على قلب صاحب المعركة الّذي يُواجه العدوّ ، وهو ممّا يكبّل يديه ، ويزيد من تقيُّده ، ويمنعُه من الانطلاق نحو عدوّه ، وهذا أمرٌ واضحٌ لمن يتأمّل مثل

__________________

(١) الفتوح لابن أعثم الكوفي (٥ / ٤ ـ ١٦٦) ومقتل الخوارزمي (١ / ٢٤٧).

(٢) الخوارزمي مقتل الحسين عليه السلام (١ / ٢٤٥).

١٧٠

ذلك الموقف.

وكان هذا أمراً واقعاً على قلب الحسين عليه السلام ويستقطب مساحة كبيرة من اهتمامه ، وهو القائدُ لمعركةٍ مصيريّة إلهيّة كانت على عاتقه ، لأنّ الإسلام ـ بكلّه ـ ينتظر نتائجها. فنقرأ في السيرة : لمّا دنا القومُ من الحسين عليه السلام يوم عاشوراء ؛ خطبَ خطبته الأُولى ـ ذلك اليوم ـ وقال فيها :

«أيّها الناسُ ، اسمعوا قولي ، ولا تعجلوني ، حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليَّ ، وحتّى أعتذرَ إليكم من مقدمي إليكم ، فإنْ قبلتُم عُذري وصدّقتُم قولي وأعطيتُموني النَصَفَ كُنتُم بذلك أسْعَدَ ، ولم يكن لكم عليَّ سبيلٌ ، وإنْ لم تقبلُوا منّي العُذرَ ، ولم تُعطوا النَصَفَ من أنفسكم :( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ ) يونس ٨١( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف : ١٩٦».

فلمّا سمعنَ أخواتُه كلامه هذا ـ وهو لم يُتمّ بعدُ خطبته ـ صِحْنَ وبكينَ ، وبكتْ بناتُه ، فارتفعت أصواتهنّ! فلمّا بلغهُ بُكاؤهنَّ وأصواتُهنَّ : أرسلَ إليهنّ أخاهُ العَبّاسَ بن عليّ ، وعليّاً ابنه ، وقال لهما : أَسْكِتاهُنَّ ، فلَعَمْري لَيَكْثُرنَّ بُكاؤُهنَّ(١) .

إنّه لمن أصعب المواقف وأكثرها حساسيّةً ، أنْ يقع مثل هذا لشخصٍ عظيمٍ مثل الإمام عليه السلام وفي موقفٍ خطيرٍ مثل هذا ، حيثُ هو في خطابٍ

__________________

(١) تاريخ الطبري : (٥ / ٤٢٤).

١٧١

مهمٍّ ، يُتمّ فيه الحُجّة على الأعداء ، وإنّه لممّا يُوهن عزمَ صاحب الموقف ويفُتّ في عضد الخطيب!

ولكنَّ الحسين عليه السلام وقيامه ومجريات عاشوراء كلّها أُمورٌ خارقةٌ للعادة ، وقد تمكّن الإمام عليه السلام أن يُحقّقَ أهدافه ، ويُعلنَ مظلوميّته حتّى في هذا الجانب الفريدِ في نوعه في تاريخ الإسلام وبعد انتشار الرسالة ، بل هذا الأمر إنّما هو جزءٌ من مكوّنات عظمة الحركة الحسينيّة وركائزها العميقة لإحياء الإسلام الّذي أماته الخلفاء بتدابيرهم المُعادية ، وقد بلغ تنفيذه على يد معاوية أبلغ مداه ، وانتهى بمثل هذا الموقف الرهيب الفجيع على يد ابنه يزيد.

والحسين عليه السلام لم يخضع للضغوط العسكريّة ولا النفسيّة وإنّما استمرَّ على ما أُمرَ به ، فأخذ أسرتَه معه ، ولمّا التَمَسَهُ ابن عبّاس أن لا يُخرجهنَّ معه ، قال الإمام في جوابه : «شاءَ اللهُ أن يراهُنَّ سبايا».

إنّه الإمام عليه السلام الّذي يسير وفق المشيئة الإلهيّة ، فلا يمنعه شيءٌ عن الاستمرار في تحقيق أهدافه.

لكنّ الإمام عليه السلام استعان بالعَبّاس وابنه عليّ ، ليُسْكتا الأُسرةَ ، فإنّ الرسالة الّتي أخذهنَّ معه لأجلها ، يتوقّف تبليغها ، وستُبَلَّغُ بعد عاشوراء ، بإعلانِهِنَّ عن ظُلامة أهل البيت ومظلوميّة الحُسين بخاصّة.

وهذه المهمّةُ الداخليّة لم يكن ليؤدِّيَ وظيفَتَها غيرُ من هو من محارم الأُسرة ، فلم يكن غير العَبّاس وعليّ.

١٧٢

وأمّا الحُسين عليه السلام فكانت عليه المهمّة الاكبر ، وهي إتمام الحجّة في خطبته ، فلمّا سكتن ، استمرّ في خطبته العظيمة تلك(١) .

ويعرف الملاحظُ ما في مثل هذه المهمّة الّتي قام بها العَبّاس من الصعوبة ، كما فيها من الحرج والقلق ما هو معلوم.

٧ ـ رسولُ الإمام عليه السلام إلى القوم :

قال الشيخُ المُفيدُ : ونهضَ عمرُ بن سعد إلى الحُسين عشيّة الخميس لِتسعٍ مضينَ من المُحرّم ، ، ثمّ نادى : يا خيلَ الله اركبي ، وأبشري ...!.

فركبَ الناسُ ، ثمّ زحف نحوَهم بعدَ العصر ، وحسينٌ جالسٌ أمامَ بيته ، مُحْتَبٍ بسيفِهِ ، إذْ خفقَ برأسهِ ، وسمعتْ أُختُه الصَيحَةَ ، فَدَنَتْ من أخيها فقالتْ : يا أخي ، أما تسمع الأصوات قد اقتربت!؟

وقال لهُ العَبّاسُ بن علي رحمة الله عليه : يا أخي ، أتاك القومُ!

فنهضَ وقال َ :

«يا عبّاسُ ، اركبْ ـ بِنَفسي أَنْتَ يا أخي ـ حتّى تلقاهُم ، وتقول لهم : ما لَكُمْ؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟ ».

فأتاهُمُ العَبّاسُ في نحوٍ من عشرين فارساً ، منهم زُهير بن القَيْن ، وحبيبُ بن مُظاهِر. فقال لهم العَبّاسُ : ما بدا لكم؟ وما تُريدون!؟

قالوا :جاءَ أمرُ الأمير أنْ نعرضَ عليكم أنْ تنزِلُوا على حُكمه ، أو نُناجِزكم !

__________________

(١) تاريخ الطبري (٥ / ٤٢٤ ـ ٤٢٦) وانظر الكامل لابن الأثير (٤ / ٦١).

١٧٣

قال :فلا تعجلُوا ، حتّى أرجعَ إلى أبي عَبْد الله ، فأعرضَ عليه ما ذكرتُم .

فوقفوا وقالوا :إلقَهْ وأَعْلِمْهُ ، ثُمَّ الْقِنا بِما يقولُ لك .

فانصرفَ العَبّاسُ راجعاً يركُضُ إلى الحُسين عليه السلام يُخبرُهُ الخَبَرَ ، ووقفَ أصحابُه يُخاطِبُون القومَ ويَعِظُونَهم ويَكُفّونَهُم عن قتال الحسين.

فجاء العَبّاسُ إلى الحسين عليه السلام فأخبره بما قال القوم. فقال :

«ارجعْ إليهم ، فإن استطعتَ أنْ تُؤخّرَهُم إلى الغُدْوة ، وتدفَعَهم عَنّا العشيّةَ ، لَعَلّنا نُصلّي لِربّنا الليلةَ وندعُوَه ونستغفِرَهُ ، فهوَ يعلمُ أنّي قد أُحبُّ الصلاةَ لهُ وتلاوَةَ كِتابه والدُعاءَ والاستغفارَ ».

فمضى العَبّاسُ إلى القوم(١) وقال الطبري : فعاد العَبّاس يُركض فرسه حتّى انتهى إليهم فقال لهم :

يا هؤلاء ، إنّ أبا عَبْد اللله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر ، فإنّ هذا أمر لم يجرِ بينكم وبينه فيه منطق (٢) .

ورجع من عندهم ومعه رسولٌ من عمر بن سعد يقول :

إنّا قد أجّلناكم إلى غدٍ ، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا عُبَيْد الله بن زياد ، وإنْ أبيتُم فَلَسنا بِتاركيكم .

وانصرفَ.

__________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد (٢ / ٨٩ ـ ٩١) وفيه : فركب العبّاس في إخوته رضي الله عنهم ومعه أيضاً عشرة فوارس حتّى دنا من القوم. ومقتل الخوارزمي (١ / ٤ ـ ٣٥٤) والفتوح لابن الأعثم (٥ / ١٧٦).

(٢) تاريخ الطبري (٥ / ٤١٧).

١٧٤

إنّ اختيار العَبّاس لهذه المهمّة الخطيرة ، فيه الدلالةُ الكبيرةُ على الاعتماد والركون ، لما هو معلومٌ من شأن الرسول أن يكون من أفاضل الأصحاب وأعقلهم وأوفاهم ، ومهما كان الرسولُ أقربَ نَسَباً إلى المُرْسِل كانَ لهُ ولرسالتهِ الوقعُ الأقوى والأتمّ في الثِقة ، وتحقيق المقصود.

وما نقل عن العَبّاس من الكلام مع جيش الكوفة ، حيثُ عبّر عن أخيه مهما ذكره بأبي عَبْد الله ، بالكُنية الّتي إنّما تستعمل في الثقافة العربيّة وعرف العرب للتعظيم والتكريم فيه ـ في ذلك الموقف ـ دلالةٌ على مُنتهى رعاية العَبّاس عليه السلام للآداب مع أخيه وسيّده وإمامه ، وهذا في تلك الظروف يكشفُ عن ثُبوت هذه الرعاية في ضمي العَبّاس لا يغفل عنها رغم الظروف تلك.

٨ ـ الاستنجادُ به لإنقاذ الأصحاب :

وفي يوم عاشوراء لمّا نَشَبَت الحربُ ، تقدّم أربعةٌ من أصحاب الحسين عليه السلام من الّذين التحقوا بركب الحسين من الكوفة ، لمّا كان محاصَراً من قبل الحرّ بن يزيد الرِياحي في كربلاء ، ففي وقت الحرب شدّ هؤلاء ـ وهم جابر بن الحارث السلمانيّ ، ومجمّع بن عَبْد الله العائذيّ ، وعمرو بن خالد الصيداويّ الأسديّ ، وسعد مولى عمرو ـ فشدّوا على عسكر ابن سعد بأسيافهم ، وأوغلُوا فيهم ، فعطفَ عليهم العسكرُ حتّى قطعوهم عن أصحاب الحسين(١) .

__________________

(١) تاريخ الطبري (٥ / ٤٤٦).

١٧٥

فَنَدَبَ الإمامُ عليه السلام لهم أخاهُ العَبّاسَ ، فحملَ على القوم وَحْدَهُ ، فضربَ فيهم بسيفه حتّى فرّقهم ، وخَلَصَ إليهم ، فسلّموا عليه ، (فاستنقذَهم وقد جُرِحُوا)(١) فأتى بهم لكنّهم عاوَدُوا القتالَ وهو يدفعُ عنهم ، حتّى قُتِلُوا في مكانٍ واحدٍ.

فعادَ العَبّاسُ إلى أخيه وأخبرهُ خَبَرَهم(٢) .

إنّ انتخابَ العبّاس لهذِهِ المهمّةِ وقيامَه وحدَهُ بِها ، إنّما يَنُمُّ عن الاعتماد الكامل بهمّتِه وشجاعتِه وقدرتِه عليها.

٩ ـ حمل الراية :

إنّ للراية شأناً في الحروب ، لأنّها شارة الجيش ، وقيامها دليل على استقامته واستمرار نضاله ، ولذلك فإنّما تُوضع في يَدِ مَنْ ينوءُ بحملها من أُولي الأيْدِ والقُوّة والنجدة والشهامة والإقدام والحميّة.

ولم يجد الحُسين عليه السلام في مَن حوله أولى من أخيه العَبّاس مَنْ يستحِقُّ حملَها ؛ فلمّا قام عليه السلام بتعبئة جيشه «أعطى رايتَهُ العَبّاسَ بن عليّ أخاهُ»(٣) . ولذلك لُقِّبَ العَبّاسُ عليه السلام بـ «صاحب الراية» و«صاحب اللواء»(٤) .

١٠ ـ بعثه لطلب الماء :

لعلّ من أهمّ الحوادث وأمضّها أَلَمَاً وفجيعةً في وقعة الطفّ المؤلمة هو

__________________

(١) هذه الجملة وردت في رواية الكامل لابن الأثير (٤ / ٧٤).

(٢) تاريخ الطبري (٥ / ٤٤٦).

(٣) تاريخ الطبري (٥ / ٤٢٢) وأنساب الأشراف (٣ / ١٨٧).

(٤) وقد مضى في بحث (ألقابه عليه السلام) ما يتعلّق بذلك.

١٧٦

قضيّة العَطَش وقد منع جيش الكوفة الماءَ عن الحُسين وأهله وأصحابه عليهم السلام وبينهم الشيوخُ والنساء ، والصغار والرُضّع والمُرضِعات ، حتّى تلظّوا من العَطَش في لظى هجير ذلك الوادي ، وفي حرّ أيّام ذلك الفصل الحارق المُلتهبة ، وفي حصار الفزع والخوف ، وحيث كان الماء يُساوي الحياة الّتي جعلها الله في الماء لكلّ شيء حيّ.

فاختيار العَبّاس عليه السلام لِطَلَب الماء ، والجيش الأموي قد شدّد المنع من الورود ، دليل على مقامه الرفيع عند الحسين عليه السلام وقد قام العَبّاس عليه السلام بهذا الواجب الإنسانيّ والإلهيّ ، فسمّي «السقّاء» و«أبا قربة»(١) .

وأخيراً :

فإنّ قيام العَبّاس عليه السلام بأداء هذه المُهمّات الصعبة ، بأفضل ما حصل ، فيه الدلالةُ الواضحةُ على الكفاية الكاملة لديه ، مع ما تقتضيه من خاصيّات الشجاعة للإقدام على مخاطرها ، حيث لا يُقدمُ على مثلها سوى الأفذاذ من الرجال. وكذلك الطاعة المُطلقة الّتي لا توجد إلاّ عند الأوحدي من المخلصين بل كُمّليهم. والوفاء والنصيحة الّتي قلّ أن تحصل عند أحدٍ من غير المؤمنين الصُلْبي الإيمان ، والنافذي البصيرة.

ولاجتماع هذه كلّها عند العَبّاس عليه السلام كان الحقّ في أن يَختاره الإمام الحسين عليه السلام للاعتماد عليه والركون إليه.

__________________

(١) كما شرحنا في «ألقابه عليه السلام» وذكرنا مواقفه العديدة ، وفصّلناها في الباب الثالث من هذا الكتاب.

١٧٧

فهذه شارةٌ كبيرةٌ في سجلّ مكارم أبي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام.

كما ظلّ الأئمّة المعصومون عليهم السلام يكرّرون ذكرها ويُعلنونها ويتلونها في ما يَتْلُونَ من زيارات أبي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام.

ولقد انتشر الذكرُ الخالدُ للعبّاس عليه السلام في ضمير المسلمين كافّة ، وفي تراثهم ، ومنهم الطائفة الزيديّة ، فنجدُ عندهم ـ وعلى مدى القُرون من تاريخهم المجيد ـ للعبّاس عليه السلام وُجوداً مُستمرّاً بالأُسَر العلويّة الشريفة من ذرّيته العبّاسيّة الكريمة ، وفيهم من الأعلام عددٌ كبيرٌ ، سنذكرهم في الملحق الثاني الخاصّ بذريّته.

كما أنّ أئمّتهم قَدَّسوا العبّاسَ عليه السلام فهذا المنصور بالله ، عبد الله بن حمزة (ت ٦١٠ هـ) أنشأ للعبّاس عليه السلام زيارةً خاصّةً ملؤُها الثناءُ العاطر ، والإشادةُ بالأمجاد الأثيلة ، والمآثر العظيمة الّتي ازدانَ بها الشهيدُ أبو الفضل عليه السلام سنوردها في عنوان : «زياراته عليه السلام».

١٧٨

رابعاً : في حديث سائر الأئمّة عليهم السلام

إنّ أبا الفَضْلِ العَبّاسَ عليه السلام بمآثره الجسيمة تلك ، وأمجاده وبُطولاته ومواقفه المجيدة الّتي سجّلها له التاريخُ ، قد خَلَدَ في خَلَدَ أهل البيت عليهم السلام.

فها هي النصوصُ المأثورةُ عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام تزدهرُ بذكر فضل أبي الفضل ، وتزدهي بذكر مكانته السامية.

وقد تلونا ما ورد عن الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام وهو شاهَدَ مواقفَ عمّه العَبّاس عليه السلام وبطولاته عن كَثَبٍ ، حيث عاصرهُ ، وعاشرهُ في عاشوراء ، فكان أصدقَ شاهد عيانٍ على كلّ ذلك.

وما ورد عن الإمام الصادق جعفر بن محمّدٍ عليهما السلام وفيه الوصفُ البليغُ عن صلابة إيمان العَبّاس عليه السلام ونفاذ بصيرته ، ومواساته ، وفدائه.

وتلك نصوص الزيارات الواردة عنهم عليهم السلام المليئة بأبلغ الأوصاف وأزهى المحاسن وأشرف المآثر والمكارم.

حتّى قرأنا أنّ أهل البيت عليهم السلام خصّصوا للعبّاس وبنيه ، حصّةً من تراثهم في «فَدَكٍ» ذلك الميراثُ النبويُّ الفاطميُّ العلويُّ ، كي يُوثقوا روابط العُلقة بينهم وبين إخوتهم من فاطمة الزهراء وأولادها ، فأشركوهم في هذا الميراث الّذي ما زالت ظُلامتُه تُدوّي في أذن التاريخ ، والّذي يعتبرُ كلّ ذرّةٍ من تُرابه صَرخةً على الظالمين لبضعة رسول الله وأُمّ عترته وأهل بيته.

١٧٩

ونقرأ في أخبار المهدي عليه السلام ، وفي الإرهاصات الّتي تسبقُ ظهورهُ ، ما عن المحدّث محمّد بن سليمان الكوفي (عن محمّد بن عُبَيْد الله)(١) قال :

«وجدتُ في كُتُب جدّي عُبَيْد الله بن العَبّاس بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام : أنّ القائمَ(٢) ـ من وُلد الحَسَن ـ يبدأُ بالمسير من (نَجْدٍ)(٣) فيمُرُّ ببطْنٍ من عقيلٍ يُقالُ لهم : «بنو معاوية بن حرب» فيسيرُ إلى اليمن ؛ فيسوقُ يَمَنَها إلى تهامَتِها إلى مَكّة ؛ كَسَوْقِ الراعي غَنَمَهُ إلى مَراحِها. يقدمُهُ بينَ يَدَيهِ رَجُلٌ من وُلد العبّاس بن عليّ»(٤) .

فوجود الرجل من ذريّة العبّاس مع الحَسَنيّ الَيمانيّ ، وفي مقدّمة جيشه ، فيه الدلالةُ الوافيةُ على تمثيل العبّاس في حركة المهديّ المُنْتَظَر عليه السلام.

فكلّ هذا يدلّ على أنّ للعبّاس عليه السلام وُجوداً مُستمرّاً في ضمير الأئمّة عليهم السلام وفي وجدان أهل البيت عليهم السلام وتاريخهم ؛ لا يمكن أن يُنسى.

هذا ، وقد ورد في الحديث الشريف ما رواه البرقيّ بسنده عن العبّاس ابن موسى بن جعفر عليه السلام قال : سألتُ ابي عن المأتَم؟ فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله

__________________

(١) ما بين القوسين من طبعة مؤسسة زيد.

(٢) هذا الاسم يُطلق على كلّ من يقومُ بطلب الحقّ والنضال في سبيله ، لكنّ ذلك عند الشيعة خاصٌّ بمن يكون من أهل البيت عليهم السلام والمُراد منهُ في العبارة المذكورة في الحديث هو خُصوص الحَسَنيّ الّذي يخرجُ في آخر الزمان يُمَهّدُ للمهديّ الّذي بشّرَ الرسولُ صلى الله عليه وآله بظهوره ، والمتّفق عليه بن المسلمين أنّه من وُلد فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وآله. والمهمّ هُنا هو ذكرُ الرجل من وُلد العبّاس بن عليّ عليهما السلام في مقدّمة جيش هذا القائم الحَسَنيّ نصرهُ اللهُ.

(٣) المراد هنا : نجْدُ اليمن وهو في شرقي تهامة ، لاحظ معجم البلدان (٥ / ٢٦٥).

(٤) درر الأحاديث اليحيوية ، في الخاتمة التي ذكر فيها ترجمة الهادي صاحب الأحاديث (ص ١٧٣) من طبعة مؤسسة زيد ، و(ص ١٩٤) من طبعة الأعلمي.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (1) )(2) .

ونقول:

1 ـ إن انقضاض كوكب من السماء، وسقوطه في موضع بعينه ليس من الأمور التي تخضع لإرادات الناس العاديين، بل هو حدث كوني لا يرى الناس أن لهم فيه حيلة، ولا إلى بلوغه وسيلة..

كما لا سبيل لهم إلى تحديد موقع سقوط الكوكب، إذا لم يقع على مرأى مباشر منهم. فقول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لهم: من انقضَّ في داره فهو الخليفة من بعدي، لا يمكن إلا أن يكون بوحي من الله تبارك وتعالى.. إذ لا يعقل أن تجعل الإمامة والخلافة، وقيادة الأمة وهدايتها معلقة على الصدفة المحضة، فلعل الكوكب قد وقع في الصحراء، أو في إحدى ساحات أو طرقات وأزقة المدينة، ولم يقع في دار أحد. أو وقع في داركافر، أو منافق أو جاحد، أو امرأة أو مجنون. أو جاهل أو ما إلى ذلك.. فهل يمكن أن تسلم الأمة لأمثال هؤلاء؟!

2 ـ إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان قد بين لبني هاشم،

____________

1- الآيات 1 ـ 4 من سورة النجم.

2- در بحر المناقب (مخطوط) لابن حسنويه الموصلي الحنفي ص19 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص86 وغاية المرام ج4 ص235 والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص172 وراجع: شرح الأخبار ج1 ص243 ومدينة المعاجز ج3 ص161.

٢٦١

ولغيرهم في مناسبات كثيرة من هو الإمام والخليفة من بعده، ومن ذلك حديث إنذار العشيرة الأقربين.

ولكن النفوس تأبى، والأهواء تمنع من الإستسلام والرضا.. فكانوا ينسبون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى الهوى والعصبية في ذلك.

فكأن الله تعالى أراد أن يخرج هذا الأمر عن دائرة اختيار رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ليفهمهم أن الأمر قرار إلهي، لا حيلة للنبي، ولا لغيره فيه. فما عليهم إلا الرضا به، والبخوع له. والكف عن إثارة الهواجس الباطلة بالطريقة التي لا يرضاها الله تبارك وتعالى..

3 ـ ما ذكرته الرواية الأخيرة، من أن أحد المنافقين خرج، وهو يتهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالعمل بالهوى، وبأنه قد ركبته الغواية في علي (عليه‌السلام )، ربما كان قبل انقضاض الكوكب، وبعد إخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بانقضاضه.. ثم لما حصل ما حصل نزلت الآيات المباركة.

فإن هذا هو المسار الطبيعي للحدث، إذ لا معنى لأن يتهم ذلك المنافق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالعمل بالهوى والغواية، بعد ظهور هذه المعجزة العظيمة، التي كان قد أخبرهم بها قبل وقوعها.

أولئك هم خير البرية:

وروي عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فأقبل علي بن أبي طالب (عليه‌السلام )، فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): قد أتاكم أخي.

٢٦٢

ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثم قال: والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة.

ثم قال: إنه أولكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية.

قال: فنزلت( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (1) .

قال: وكان أصحاب محمد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إذا أقبل علي (عليه‌السلام ) قالوا: قد جاء خير البرية(2) .

ونقول:

نلاحظ هنا ما يلي:

____________

1- الآية 9 من سورة الحشر.

2- ترجمة الإمام علي (عليه‌السلام ) من تاريخ دمشق (تحقيق المحمودي) ج2 ص442 وتاريخ مدينة دمشق (تحقيق الشيري) ج42 ص371 وفضائل أمير المؤمنين لابن عقدة الكوفي ص219 وبشارة المصطفى ص196 و 296 والمناقب للخوارزمي ص111 وكشف الغمة ج1 ص151 وج2 ص23 وينابيع المودة ج1 ص196 والأمالي للطوسي ص251 والمحتضر للحلي ص168 وحلية الأبرار ج2 ص407 وبحار الأنوار ج38 ص5 وغاية المرام ج3 ص299 و 302 وج5 ص5 و 186 وج6 ص55 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص217 وج14 ص258.

٢٦٣

1 ـ صرحت الرواية: بأن هذا الذي جرى كان بجوار الكعبة، فدل ذلك على أن هذه القضية قد حصلت إما في عمرة القضاء، أو في فتح مكة، أو في حجة الوداع.

2 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول لأصحابه حين أقبل علي (عليه‌السلام ): (قد أتاكم أخي..) مع أن الحاضرين قد رأوا علياً (عليه‌السلام ) مقبلاً، كما رآه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). مما يعني: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد اتخذ من إقبال علي (عليه‌السلام ) ذريعة للحديث عن علي (عليه‌السلام )، وإبلاغهم أمراً يرى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أن إبلاغهم له لازم وضروري..

وهذا الأمر إما للتأكيد على أمر سبق بيانه، أو هو تأسيس لأمر جديد، أو هما معاً، وهذا هو الظاهر كما بينته المضامين التي صدرت عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

3 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد ذكر في هذه الرواية ما يلي:

ألف: ما هو بمثابة التذكير بأمر سابق، يريد للناس أن لا ينظروا إليه على أنه حدث عابر، بل هو أمر له أهميته البالغة، ويراد التأسيس والبناء عليه، ألا وهو موضوع أخوة علي (عليه‌السلام ) لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، التي تجلت في عملية المؤاخاة في مطلع الهجرة وقبلها.

ب: تقرير أمور هامة وأساسية لصيانتها عن التلاعب، وإفشال محاولات إنكارها، ألا وهي كونه (عليه‌السلام ) أولهم إيماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله.

٢٦٤

4 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بين أمرين:

أولهما: أفضلية علي (عليه‌السلام ) على جميع الصحابة في ذاته، وشخصيته الإسلامية، فهو أولهم في الإيمان، وأولهم في العمل والممارسة، فإنه أوفاهم بعهد الله.

ثانيهما: إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فضل علياً (عليه‌السلام ) عليهم بأمور ترتبط بالحكومة والسلطة، وهي: كونه أقومهم بأمر الله، وأعدلهم في الرعية، وأقسمهم بالسوية، والأقوم بأمر الله، فقد أخرجهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عن عمومه بذكر الرعية والقسمة.. ليدل بصورة واضحة على أنه يريد أن يسد أمامهم باب منافسته (عليه‌السلام ) في أمر الحكومة والولاية.

5 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد وجه خطابه إلى الصحابة بصورة مباشرة، فقال: أولكم، أوفاكم، أقومكم، أعدلكم، أقسمكم، أعظمكم. وإنما لم يقل: أول الناس مثلاً، لكي يمنع من ظهور أي تأويل، أو توهُّم يريد أن يدعي: أنه يتحدث عن سائر الناس، ولم يقصد الحاضرين عنده، أو الصحابة.. أو كبارهم.. أو نحو ذلك..

6 ـ وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): أعظمكم عند الله مزية يشير إلى أن هذا الأمر قد ترك آثاره في مجال أسمى وأعظم من أن يمكنهم التصرف أو الإخلال فيه، لأنه أصبح قراراً إلهياً ماضياً..

وقد نزلت فيه آية مباركة تحسم كل جدل، ولا ينالها خطأ ولا خطل، ألا وهي قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ

٢٦٥

الْبَرِيَّةِ ) (1) .

7 ـ إن الطريقة التي اتبعها الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في بيان ما يريد، جاءت فريدة ورائعة، حيث أرفق الحدث بحركة غير متوقعة، وهو: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) التفت إلى الكعبة وضربها بيده، ليدلهم على أن ثمة أمراً اقتضى هذا التصرف الخارج عن المألوف.. لا بد أن يتلمسه المتأمل حين ينتهي الحدث، ليكتشف مبرارته، ثم يبقى يعيش في ذهنه، ويتمكن من استحضاره من خلال تذكره لهذه الحركة التي تشده، فتستخرجه من أعماق الذاكرة، وتحضره أمامه، ليتبصَّره وهو على درجة عالية من التألق والوضوح.

أما لو أورد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كلامه بعفوية وترسُّل، لكان على الذاكرة أن تبذل جهداً كبيراً للعثور عليه بين ذلك الركام الهائل من الصور المتناثرة.. وربما لا توفق للعثور عليه أصلاً..

8 ـ وقد ترك هذا الحدث أثره الظاهر في نفوس الناس، إلى حد أنهم كانوا إذا أقبل علي (عليه‌السلام ) قالوا: (قد جاء خير البرية).

9 ـ وبذلك يكون (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد أقام الحجة عليهم، وأكد حضورها في عقولهم وقلوبهم، حين ربطها بهذا الحدث، الذي أصبح يتبادر إلى أذهانهم بصورة عفوية، فتجذره في عمق الوجدان، وتمازج مع المشاعر، التي تنطلق لتعبر عن نفسها بعفوية ظاهرة.

10 ـ إن ضرب الكعبة بيده، ربما أريد به لفت النظر إلى أن ما يريد أن

____________

1- الآية 9 من سورة الحشر.

٢٦٦

يقرره له مساس بالكعبة وحفظها.. وتأكيد موقعها ومكانتها في النفوس..

كما أنه مرتبط بالتوحيد الذي تمثله الكعبة، وهي الرمز الأعظم والثابت له على مدى العصور والدهور.

فلا بد من الإنقياد والطاعة لله الواحد تبارك وتعالى، والقبول بأن الأمر له.. وأن على الناس أن لا ينقادوا لأهوائهم، وأن لا يستجيبوا لطموحاتهم في أقدس الأمور، وأشدها حساسية.

11 ـ وبعد.. فإن هذه الروايات قد وردت في مصادر لا تمت إلى الشيعة بصلة.. وقد دونها أناس لا يقولون بالإمامة، أو فقل: لا ينسجمون في مذاهبهم الإعتقادية مع نظام الإمامة، وما يترتب على الإعتقاد به من واجبات ومسؤوليات.

وربما يمكن استفادة أمور أخرى من النص المتقدم، وقد يكون بعضها أدق وأعمق، وأوضح وأصرح مما ذكرناه، غير أننا نكل أمر البحث عنها وبلورتها إلى القارئ إن شاء.

ألف حديث في جلسة واحدة:

عن أم سلمة زوجة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قالت: قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في مرضه الذي توفي فيه: ادعوا لي خليلي.

فأرسلت عائشة إلى أبيها، فلما جاء غطى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وجهه، وقال: ادعوا لي خليلي.

فرجع أبو بكر، وبعثت حفصة إلى أبيها، فلما جاء غطى رسول الله

٢٦٧

(صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وجهه، وقال: ادعوا لي خليلي.

فرجع عمر، وأرسلت فاطمة (عليها‌السلام ) إلى علي، فلما جاء قام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فدخل، ثم جلل علياً (عليه‌السلام ) بثوبه.

قال علي (عليه‌السلام ): فحدثني بألف حديث، يفتح كل حديث ألف حديث، حتى عرقت وعرق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فسال عليَّ عرقه، وسال عليه عرقي(1) .

وهذا الحديث بهذا المضمون عن بشير الدهقان، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام )، وعن غيره كثير(2) .

ونقول:

أوردنا هذا الحديث، لنشير: إلى أنه لا مجال للإشكال عليه بأنه كيف يحدث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بألف حديث في مثل هذه العجالة؟! فإن هذا مما لا يمكن حدوثه في العادة.

____________

1- الخصال للصدوق ج2 ص642 وبحار الأنوار ج22 ص461 وبصائر الدرجات ص333 والإختصاص للمفيد ص285 وينابيع المعاجز ص148 وغاية المرام ج5 ص223.

2- بحار الأنوار ج22 ص463 و 461 وج26 ص29 وج40 ص130 والخصال للصدوق ج2 ص643 و 645 والإختصاص للمفيد ص283 والفصول المهمة للحر العاملي ج1 ص562 وينابيع المعاجز ص147 ونهج السعادة ج7 ص465 وتفسير نور الثقلين ج4 ص444 وغاية المرام ج5 ص222.

٢٦٨

ونجيب:

أولاً: من الذي قال: إن هذا التعليم كان بالوسائل العادية.. وباللغة والألفاظ المتعارفة والمألوفة. فلعل ثمة طريقة أو لغة أخرى يمكن اختزال الألفاظ فيها إلى أقل القليل، وبنحو لا يخدش في دلالاتها؟!

ومن الذي قال: إن هذه المناجات لم تستمر ساعة أو ساعتين أو أكثر، ولا سيما مع تصريح الرواية بعرق النبي والوصي (صلى الله عليهما وآلهما) حتى سال عرق كل منهما على الآخر.

ثانياً: إن العلم نور يقذفه الله في القلب(1) ، فلعل الله تعالى قد تصرف في النبي وفي علي (صلى الله عليهما وآلهما) حتى أمكن نقل هذا النور منه إليه، فحمل عنه ألف حديث يفتح له من كل حديث ألف حديث.

وفي الروايات ما يشير إلى انتقال علم الإمامة أو أسرارها بطرق غير عادية، لحظة اجتماع الإمام السابق باللاحق، قبيل وفاة السابق(2) .

____________

1- فيض القدير ج4 ص510 وتفسير ابن أبي حاتم ج10 ص3180 والدر المنثور ج5 ص250.

2- راجع على سبيل المثال: الأمالي للصدوق ص759 ـ 762 وبحار الأنوار ج49 ص300 ـ 303 وعيون أخبار الرضا ج2 ص242 و 244 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج1 ص271 ـ 274 وروضة الواعظين ص229 ـ 232 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص482 و 483 ومدينة المعاجز ج7 ص158 ـ 164 و 329 ـ 332 ومسند الإمـام الرضـا ج1 ص193ـ 196 وموسوعـة الإمام الجـواد = = للقزويني ج1 ص219 ـ 224 وإعلام الورى ج2 ص81 ـ 85 وكشف الغمة ج3 ص120 ـ 123.

٢٦٩

أم سلمة تشهد لعلي (عليه‌السلام ):

عن علي بن محمد بن المنكدر، عن أم سلمة زوجة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وكانت من ألطف نسائه، وأشدهن له حباً بعد زوجته خديجه (عليها‌السلام )، قال: وكان لها مولى يحضنها ورباها، وكان لا يصلي صلاة إلا سب علياً وشتمه.

فقالت: يا أبة، ما حملك على سب علي؟!

قال: لأنه قتل عثمان وشرك في دمه.

قالت له: لولا أنك مولاي وربيتني، وأنك عندي بمنزلة والدي ما حدثتك بسر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، ولكن اجلس حتى أحدثك عن علي وما رأيته في حقه.

قالت: أقبل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وكان يومي، وإنما كان يصيبني في تسعة أيام يوم واحد، فدخل النبي وهو يخلل أصابعه في أصابع علي (عليه‌السلام ) واضعاً يده عليه، فقال: يا أم سلمة، أخرجي من البيت، وأخليه لنا.

فخرجت وأقبلا يتناجيان، وأسمع الكلام، ولا أدري ما يقولان، حتى إذا قلت: قد انتصف النهار، وأقبلت فقلت: السلام عليك يا رسول الله، ألج؟!

٢٧٠

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): لا تلجي، وارجعي مكانك.

ثم تناجيا طويلاً حتى قام عمود الظهر، فقلت: ذهب يومي، وشغله علي، فأقبلت أمشي حتى وقفت على الباب، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، ألج؟!

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): لا تلجي.

فرجعت، فجلست مكاني، حتى إذا قلت: قد زالت الشمس، الآن يخرج إلى الصلاة فيذهب يومي، ولم أر قط يوماً أطول منه، فأقبلت أمشي حتى وقفت فقلت: السلام عليك يا رسول الله، ألج؟!

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): نعم تلجي.

فدخلت وعلي واضع يده على ركبتي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، قد أدنى فاه من أذن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وفم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على أذن علي يتساران، وعلي يقول: أفأمضي وأفعل؟!

والنبي يقول: نعم.

فدخلت، وعلي معرض وجهه حتى دخلت، وخرج.

فأخذني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأقعدني في حجره، فأصاب مني ما يصيب الرجل من أهله من اللطف والإعتذار، ثم قال: يا أم سلمة، لا تلوميني، فإن جبرئيل أتاني من الله بما هو كائن بعدي، وأمرني أن أوصي به علياً من بعدي، وكنت جالساً بين جبرئيل وعلي، وجبرئيل عن يميني وعلي عن شمالي، فأمرني جبرئيل أن آمر علياً بما هو كائن بعدي إلى يوم القيامة، فاعذريني ولا تلوميني، إن الله عز وجل اختار من كل أمة نبياً، واختار لكل

٢٧١

نبي وصياً، فأنا نبي هذه الأمة، وعلي وصيي في عترتي، وأهل بيتي، وأمتي من بعدي(1) .

ونقول:

نحتاج إلى التذكير هنا بالعديد من الأمور، نذكر منها:

1 ـ إن مكانة علي (عليه‌السلام ) لدى أم سلمة لا تعدلها مكانة أحد بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. وإذا كانت (رضوان الله تعالى عليها) أشد نساء النبي حباً له (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فلا بد أن تكون أشدهن حباً لمن يحبه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..ولا سيما بملاحظة أقوال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيه، وعظيم ثناء الله تعالى عليه..

وبذلك يتأكد: أن قداسة ومكانة علي عندها، وموقعه في منظومتها الإعتقادية يجعلها في غاية التوتر، والنفور ممن ينحرف عنه ويميل إلى غيره،

____________

1- الطرائف لابن طاووس ص8 و(ط مطبعة الخيام) ص24 والمناقب للخوارزمي ص88 وفرائد السمطين باب 52 حديث 222 وبشارة المصطفى ص70 بسند آخر (نقلاً عن هامش تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام علي ج3 ص9)، والعقد النضيد والدر الفريد للقمي ص182 والصراط المستقيم ج2 ص29 وكتاب الأربعين للشيرازي ص48 وبحار الأنوار ج38 ص309 وكتاب الأربعين للماحوزي ص117 ومناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه الأصفهاني ص105 وكشف الغمـة ج1 ص301 ونهج الإيـمان لابن جبر ص200 وغايـة المــرام ج6 ص34 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص76 وج15 ص171.

٢٧٢

فكيف بمن يناوئه ويعاديه، أو يسبه ويشتمه؟!

فإذا كان الذي رباها يسب علياً (عليه‌السلام )، ويشتمه عند كل صلاة، فالمتوقع أن ترفضه، وتنفر منه، وتقف منه موقفاً في غاية السلبية، لأنه يمس أقدس شخصية عندها بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

ولكن الملاحظ هنا: أنها ليس فقط لم تفعل شيئاً من ذلك، وإنما عاملته معاملة هي غاية، في الرفق، واللطف به، والأدب معه، وضبط النفس.

وقد تصرفت معه بطريقة فتحت بها باب فهمه، وأيقظت وجدانه، وأطلقت بصيرته من عقال التعصب الأعمى على آفاق مفعمة بالصفاء والنقاء، والتأمل الواعي والهادي.. وأخذت بيده إلى سبيل الرشاد والسداد، فتاب وأناب، وشملته ألطاف الرب الرحيم التواب، الغفور، والوهاب..

وقدمت أم سلمة النموذج الأمثل للمرأة العاقلة، التي تعي مسؤولياتها، فتبادر إلى القيام بها على أكمل وجه، وأتمه.

2 ـ إنها (رحمها الله) قد مهدت لما تريد بإفهامها إياه أنها لا تتعامل معه بانفعالاتها وتعصبها الذي يريد أن يفرض خياره وقراره على الآخرين، بل تتعامل معه من موقع الحرص عليه، وابتغاء الخير له، والعرفان بالجميل والوفاء لحقه، من حيث أنه هو البادئ بالتفضل عليها بالتربية والرعاية لها. ثم من موقع الإحترام والإكبار، لا من الإستهانة به والإستهتار بمقامه، فأخبرته بأنها تنظر إليه على أنه بمنزلة والدها..

3 ـ ثم إنها (رضوان الله تعالى عليها) اعتبرته موضعاً لثقتها، وأهلاً لإيثارها إياه بسر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وميزته بذلك عن غيره،

٢٧٣

وهذا يزيده رضاً بنصحها، واطمئناناً إلى صدق نيتها ولهجتها تجاهه، وابتغائها المصلحة له..

4 ـ إن هذه الرواية بينت: أن علياً (عليه‌السلام ) قد علم بما هو كائن بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، من الرسول نفسه، الذي كان يتلقى ذلك من جبرئيل (عليه‌السلام ) في نفس اللحظة.. وجبرئيل إنما يخبر عن الله سبحانه..

ثم تلقى من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الأوامر والتوجيهات الإلهية بطريقة تعامله مع تلك الحوادث. وكان جبرئيل هو الذي يأمره بإبلاغ علي (عليه‌السلام ) بتلك التوجيهات..

فدل ذلك على أن علياً (عليه‌السلام ) لا يتعامل مع الأمور بانفعالاته، واجتهاداته الشخصية، وإنما وفق خطة إلهية مرسومة ومبينة. فلا مجال للطعن في أي موقف يتخذه (عليه‌السلام )، ولا يمكن نسبة التقصير أو الخطأ فيه إليه بأي حال من الأحوال.

5 ـ يلاحظ: أن الأمر لم يقتصر على إخبار علي (عليه‌السلام ) بما يكون بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في خصوص حياة علي (عليه‌السلام )، بل أخبره (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بما هو كائن بعده إلى يوم القيامة، وأعطاه توجيهاته وأمره فيه.. فدل ذلك: على أن لعلي (عليه‌السلام ) نوعاً من الحضور والتعاطي بنحو من الأنحاء مع تلك الأحداث المستمرة إلى يوم القيامة، وإن لم ندرك نحن بصورة تفصيلية كيفية، وآفاق ومدى هذا الحضور، وذلك التعامل وحدود ذلك التأثير.

٢٧٤

الفصل العاشر:

أحقاد.. وآثار..

٢٧٥

٢٧٦

الحديقة.. تذكِّر بالضغائن:

1 ـ عن أنس وأبي برزة وأبي رافع، وعن ابن بطة من ثلاثة طرق: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خرج يمشي إلى قبا، فمر بحديقة، فقال علي: ما أحسن هذه الحديقة!!

فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): حديقتك يا علي في الجنة أحسن منها. حتى مر بسبع حدائق على ذلك.

ثم أهوى إليه فاعتنقه، فبكى (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وبكى علي (عليه‌السلام ).

ثم قال علي (عليه‌السلام ): ما الذي أبكاك يا رسول الله؟!

قال: أبكي لضغائن في صدور قوم لن تبدو لك إلا من بعدي.

قال: يا رسول الله، كيف أصنع؟!

قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): تصبر، فإن لم تصبر تلق جهداً وشدة.

قال: يا رسول الله، أتخاف فيها هلاك ديني؟!

قال: بل فيها حياة دينك(1) .

____________

1- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضـواء) ج2 ص121 و (ط المكتبة الحيدريـة) = = ج1 ص386 عن مسند أبي يعلى، واعتقاد الأشنهي، ومجموع أبي العلاء الهمداني، وعن الإبانة لابن بطة، وبحار الأنوار ج41 ص4 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص323 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج31 ص11.

٢٧٧

2 ـ وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في خبر: يا علي، اتق الضغائن التي لك في صدر من لا يظهرها إلا بعد موتي،( أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (1) . ثم بكى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فقيل: مم بكاؤك، يا رسول الله؟!

قال: أخبرني جبرئيل (عليه‌السلام ): أنهم يظلمونه ويمنعونه حقه، ويقاتلونه ويقتلون ولده، ويظلمونهم بعده(2) .

3 ـ قال الحميري:

وقد كان في يوم الحدايق عبرة وقول رسول الله والعين تدمع

____________

1- الآية 159 من سورة البقرة.

2- المناقب للخوارزمي ص62 والأمالي للطوسي ص351 وبحار الأنوار ج28 ص45 وج37 ص192 وكشف الغمة ج2 ص25 وكشف اليقين ص467 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص28 والعقد النضيد والدر الفريد ص77 والصراط المستقيم ج2 ص87 وكتاب الأربعين للشيرازي ص266 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص705 وينابيع المودة ج3 ص279 وغاية المرام ج1 ص123 وج2 ص85 وج3 ص191 و 202 وج4 ص77 وج6 ص31 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج5 ص54.

٢٧٨

فقال علي مم تبكي؟ فقال: من ضغاين قوم شرهم أتوقع

عليك، وقد يبدونها بعد ميتتي فماذا هديت الله في ذاك يصنع(1)

ونقول:

ما أحسن هذه الحديقة!!:

ذكرت الرواية: أن حسن الحديقة لفت نظر علي (عليه‌السلام )، فعبر عن إعجابه بحسنها لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. ثم أعجبته الثانية، والثالثة إلى السابعة، فكان في كل ذلك يظهر (عليه‌السلام ) إعجابه بما يراه من حسن تلك الحدائق..

وهذه الشهادة من علي (عليه‌السلام ) وموافقة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) له تدلنا على أن إنشاء الحدائق في المدينة، قد قطع أشواطاً واسعة في الرقي والإزدهار، ولعلنا لا نجد له مثيلاً في أيامنا هذه..

وذلك، لأن الحسن إنما هو نتيجة تناسق دقيق لأمور يراد لها أن تتخذ أوضاعاً مختلفة لتكوِّن صورة مختارة للتعبير عن معنى يختزنه ذلك التناسق، ويراد الإيحاء به في المرئيات، أو المسموعات، أو في أي شيء آخر.

ومن غير علي (عليه‌السلام ) بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أرهف حساً، وأصفى قريحة، وأعلى ذوقاً، وأدق نظراً، وأوفى شعوراً بالحسن

____________

1- مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج2 ص121 و(ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص387 وأعيان الشيعة ج3 ص425.

٢٧٩

وبالجمال، وبقيمته وبمزاياه؟!

فإذا شهد (عليه‌السلام ) بالحسن في مورد، فإن أحداً لن يساوره شك في واقعية هذه الشهادة، لأن علياً (عليه‌السلام ) يمثل القمة في كل شيء، ومنه تبدأ الدقائق والحقائق وإليه تنتهي..

الحسن من نعيم الجنة:

وبديهي: أن الحسن إذا كان من مفردات نعيم الجنة، سواء في ذلك حسن حدائقها، أو حسن حورها، أو حسن ولدانها المخلدين. فلا بد من أن يكون المؤمنون قادرين على إدراك هذا الحسن، والتمتع به.

وسيكون إدراكهم قوياً وراقياً ودقيقاً، وإحساسهم مرهفاً بمقدار ما أهلتهم له أعمالهم، واكتسبوه بجهدهم وجهادهم، وتضحياتهم في الحياة الدنيا.

ومن يمكن أن يدعي أنه يملك من ذلك ما يضارع أو يداني ما لدى خير الأنبياء، وسيد الأوصياء (عليهما وعلى آلهما الصلاة والسلام)؟!

ما الذي أبكاك يا رسول الله؟!:

وحين يحزن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لأمر، إلى حد أنه يبكي له، فإن علياً (عليه‌السلام )، لا بد أن يحزن لحزنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، لأنه نفسه، وحبيبه، وأخوه.

وإذا كان الإمام الصادق (عليه‌السلام ) يقول عن الشيعة (رضوان الله تعالى عليهم): رحم الله شيعتنا، خلقوا من فاضل طينتنا، يفرحون لفرحنا،

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607