العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته9%

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 607

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68274 / تحميل: 5561
الحجم الحجم الحجم
العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

العبّاس ابوالفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام سماته وسيرته

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

نُقِلُوا إلى «الشاغور» ومنها إلى «باب الساعات» ومنها نَقَلوا الإمام السجّاد عليه السلام إلى المسجد الجامع ، وأعادُوهم إلى هذا المسجد(١) .

أقولُ : هذا ما وقفنا عليه حول رأس سيّدنا أبي الفَضْلِ العَبّاس الأكبر عليه السلام ممّا ورد في المصادر المعتمدة.

ثمّ إنّ من الوارد احتمال أن تكون الرؤوس المقدّسة ـ وفيها رأس سيّدنا أبي الفَضْلِ العَبّاس عليه السلام ـ قد نُقِلَتْ إلى كربلاء ، ودفِنَتْ مع الأجساد الطاهرة ، لأنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام قد نُقِلَ إلى مرقده المقدّس ، وضمّ إلى جسده الشريف ، على أقوى الأقوال وأوفقها للأدلّة(٢) .

كما أنّ من البعيد أنْ يَتْرُكَ الإمامُ السجّاد عليه السلام تلك الرؤوس الشريفة في بلاد الأعداء ؛ بعدَ أنْ أُطْلِقَ له الرجوعُ إلى العراق ، كما هو الثابت في التاريخ! لكنْ لمْ نقفْ على ما يدلّ بوضوحٍ على نقل سائر الرؤوس.

رأس العَبّاس الأصغر :

ثمّ إنّ حديثاً أثبتَتْهُ المصادر القديمة ، وهو ما رَوَوْهُ عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة المُجاشعيّ ، وفيه : أُتي بالرؤوس ، إذا بفارسٍ قد علّق في لَبَب فَرسه رأسَ غلامٍ أَمْرَدَ كأنّهُ القَمَرُ في ليلة تَمِّهِ.

فقلتُ له : رأسُ مَن هذا؟ فقال : رأسُ العَبّاس بن عليّ.

__________________

(١) الأزهار الأرجيّة للشيخ فرج آل عمران وانظر : مزارات أهل البيت عليهم السلام للجلالي (ص ٢٢٦ ـ ٢٢٨).

(٢) وقد أثبتنا ذلك في بحث مستقل.

٢٢١

قلتُ ومَن أنتَ؟ قال : حرملةُ بن كاهل الأسديّ(١) .

وقد ذكرنا في موردٍ سابقٍ عند ذكر أولاد الإمام أَميْرُ المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام : أنّ المُناسب لهذا الوصف أن يكون صاحب هذا الرأس هو العبّاس الأصغر ابن أَميْرُ المُؤْمِنِيْنَ عليه السلام الشهيد في الطفّ أيضاً.

مقام مدفن الكفّين الشريفتين :

لا ريب ـ كما عرفنا ـ في حدوث قطع الكفّين الشريفتين في كربلاء ، ولكن كون المعلمين ـ الموجودين فعلاً في كربلاء ـ هما موضع دفنهما فيهما ، أمرٌ لم يتحقّق عند أهل المعرفة بتاريخ البلد.

ومن المحتمل أن يكون الكفّان ملحقتين بالجسد الشريف ، كما هو الحكم الشرعيّ في إلحاق أجزاء الموتى بأجسادهم.

لكن وجود هذين النَصَبين في الموضعين هما من معالم الملحمة العبّاسيّة ، ومُذكّران بهذه الظُلامة الفريدة الّتي أعلنها الأئمّة عليهم السلام باعتبارها ميزةً من خصائص العَبّاس عليه السلام فلابُدّ من إشادتها ولورتها لتبقى في ذاكرة هذا البلد المقدّس ، كما هي خالدةْ في ذاكرة التاريخ.

قال المظفّر : وهذا شيءٌ توارثه الخلفُ عن السلف ، وتراثُ مجدٍ خلّفه الماضي للباقي ، بحيث أقاموا مَعلمَين مُعْلِمَيْنِ بموضع الكفّين الشريفتين يعرف كلّ منهما بكفّ العَبّاس اليُمنى ، ثمّ كفّ العَبّاس اليُسرى ، يقعان في شرقيّ الصحن العبّاسيّ الشريف.

__________________

(١) رواه الصدوق في عقاب الأعمال (ص ٢١٨) وقد نقلناه سابقاً عنه وعن غيره.

٢٢٢

كما أنّ الشهرة على التسالُم بين أهل البلد ، منذُ قديم الأمَد ، كما يقول الشيخ المظفّر أنّ هذه الآثار ليستْ من الحديثة ، ولا من الأشياء الّتي لم تبتنِ على أُسٍّ قديمٍ ، بل هي سائرةٌ مع بقيّة آثارهم وتعاهدتها يدُ العمران إن طرقها طول الزمان بالتضعضع أو أشرف بها على الانهيار ، فإذنْ هي صحيحةُ الإسناد العمليّ لا القوليّ ، إذْ كل جيلٍ يتبعُ الجيلَ السابقَ في احترامها وتعاهدها بالعمارة ؛ حتّى تتّصل بأوّل الأجيال الّتي أُشيدتْ بها مشاهدهم وقبابهم ، وهذا ما يُسمّيه الناسُ بِالسيرة العمليّة ، ويحتجّ بها الفقهاءُ على إثبات الأحكام الشرعيّة.

وانتهى الشيخ المظفّر إلى التصريح بالقول : فأنا من هذه الناحية على ثقة ويقين(١) .

فلا يُعبأ بما يُثيره أهل الريب من نفي ذلك.

وموضع اليُمنى : في مطلع (باب الرضا عليه السلام) المعروف بباب العلقميّ وهو يقع في الجهة الشرقيّة نحو شمالها ، في بداية الشارع المسمّى بالعلقمي ، في زقاقٍ على الأيسر ، وعلى يسار الداخل إليه(٢) .

وموضع اليُسرى : مواجهٌ لمطلع باب (أمير المؤمنين عليه السلام) في بداية مدخل سوق باب الخان(٣) .

__________________

(١) بطل العلقمي.

(٢) اقرأ عنه وصفاً كاملاً في : المراقد والمقامات في كربلاء ، للحاج عَبْد الأمير القريشي ص ١٧٠ ـ وانظر بطل العلقمي (٣).

(٣) اقرأ عنه تفصيلاً في : المراقد والمقامات للقريشي (ص ٢ ـ ٧٤) وانظر بطل العلقمي ج ٣.

٢٢٣

أمّا مدفن الرِجْلينِ الشريفتين :

فلمْ يعرفْ عنه شيءٌ ، ولم يُذكرْ في موردٍ ولا مصدرٍ!.

وتلكَ مظلمةٌ أخْرى ممّا اختصّ بها العبّاسُ عليه السلام بين شهداء كربلاء.

ونَقَلَ الرواةُ عن السيّد الفقيه المهديّ بحر العلوم : أنّه زارَ المَرقَدَ الشريفَ للعبّاس ؛ فلاحظَ قِصَرَ محلّ الدفن ، فتعجّبَ هُو والحاضرون! لأنّ ذلك لا يُناسِبُ المعروفَ من كون العبّاس عليه السلام «رجُلاً طوالاً ، يركَبُ الفَرَسَ المُطَهَّمَ(١) ورِجْلاهُ تَخُطّانِ الأرْضَ»(٢) .

فذكر السيّد بحرُ العلوم مظلمةَ قَطعِ رِجْلَيهِ(٣) .

وهذه الرواية ، كما تؤكّد المظلمةَ ، قد تُشيرُ إلى عدمِ دفنِ الرِجلينِ معَ الجسدِ الشريف.

__________________

(١) المطهّم : السمين الفاحش الشمن ، وـ المنتفخ الوجه ، وـ التامّ من كلّ شيء ، المعجم الوسيط (طهم) ص ٥٦٩ ، والمراد هنا : الفرس الضخم المرتفع.

(٢) كما قال أبو الفرج الأصفهانيّ في مقاتل الطالبيين (ص ٩٠).

(٣) شرح الأخبار ، (٣ / ١٩١ ـ ١٩٣).

٢٢٤

العبّاس ورثاءه وندبته عليه السلام

أوّلُ مَنْ رثاهُ هُو الحسينُ عليه السلام :

ولمّا قُتِلَ العَبّاس عليه السلام قال الحسين عليه السلام : «الآن انكَسَرَ ظَهْري ، وقَلَّتْ حِيْلَتي »(١) .

ورثاء الأئمّة عليهم السلام :

ففي حديث مواراة الإمام السجّاد زين العابدين عليه السلام للأجساد الشريفة : مشى الإمام السجّاد عليه السلام إلى عمّه العَبّاس عليه السلام فوقع عليه يلثم نحره المقدّس ، قائلاً :

على الدنيا بعدك العَفا ، يا قمر بني هاشم ، وعليك منّي السلام من شهيد محتسب ، ورحمة الله وبركاته(٢) .

وفي الزيارة الصادرة من الناحية المقدّسة : «السلامُ على أبي الفَضْلِ العَبّاس ابن أَميْرُ المُؤْمِنِيْنَ ، المواسي أخاه بنفسه ، الآخذ لغده من أمسه ، الفادي له ، الواقي الساعي إليه بمائه ، المقطوعة يداه ، لعن الله قاتليه ك زيد بن رقاد الجهني ، وحُكيم بن الطفيل الطائي»(٣) .

_________________

(١) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي (٢ / ٣٠) والبحار (٤٥ / ٤٢).

(٢) كامل الزيارات (ص ٣٢٥) مقتل الحسين للمقرّم (٤١٢ ـ ٤١٨).

(٣) الإقبال لابن طاوس (ص ٥٧٣) ومصباح الزائر (ص ٢٧٨).

٢٢٥

رِثاءُ أُمّ البنين عليها السلام للعبّاس وأبنائها الطّاهرين :

في الحديث : «وكانت أُمّ البنين أُمّ هؤلاء الأربعة الإخوة القتلى ، تخرجُ غلى البقيع ، فتندُبُ بَنِيها أشجى نُدبة وأحرقها ، فيجتمعُ النّاسُ إليها يسمعون مِنها ، فكان مروانُ يجيء في من يجيء لِذلك ، فلا يزالُ يسمعُ نُدبَتها ويَبكي!».

ذكر ذلك عليّ بن محمّد بن حمزة ، عن النَوفَلِيّ ، عن حمّاد بن عيسى الجُهَنيّ ، عن معاوية بن عمّار ، عن جعفر بن محمّد(١) .

وقالوا : كانت أُمُّ جعفر الكلابيّةُ تندُبُ الحُسينَ وتبكيه ، وقد كُفَّ بصرُها ، فكان مروانُ ـ وهو والي المدينة ـ يجيءُ مُتَنَكِّراً بِاللّيل حتّى يقف ، فيسمعُ بُكاءَها وندبها(٢) .

قال السماويّ : وأنا أسترقّ جدّاً من رثاء أُمّه فاطمة ؛ أُمّ البنين ، الّذي أنشده أبو الحسن الأخفش في (شرح الكامل) وقد كانتْ تخرجُ إلى البقيع كلّ يومٍ ترثيه ، وتحملُ وَلَدَهُ عُبَيْد الله ، فيجتمعُ لِسماعِ رِثائِها أهلُ المدينة وفيهم مروانُ بنُ الحَكَم ، فيبكون لِشجيّ النُدبة ، ومنه قولُها (رضي الله عنها) :

يا مَنْ رأى العبّاسَ كَرْ

رَ على جَماهيرِ النَقَدْ

ووراهُ مِنْ أبناءِ حَيـ

ـدَرَ كُلُّ ليثٍ ذِي لَبَدْ

أُنبئتُ أنّ ابْني أُصِيْـ

ـبَ بِرأسهِ مقطوعَ يَدْ

وَيْلِي لى شِبْلِي أما

لَ بِرأسِهِ ضَرْبُ العَمَدْ

__________________

(١) أبو الفرج ، مقاتل الطّالبيّين (ص ٩٠) وعنه : المجلسي ، البحار (٤٥ / ٤٠) والبحراني ، العوالم (١٧ / ٢٨٣) والمظفّر بطل العلقمي ، (٣ / ٤٣١).

(٢) الشّجري ، الأمالي الخميسيّة (١ / ١٧٥).

٢٢٦

لَوْ كانَ سيفُكَ في يَدَيْـ

ـكَ لَمَا دَنَا مِنْهُ أَحَدْ

وقولها :

لا تَدْعُوَنّي وَيْكِ أُمَّ البَنِينْ

تُذَكِّرِينِيْ بِلُيُوثِ العَرِيْنْ

كانَتْ بنونٌ لِيَ أُدعى بِهِمْ

واليومَ أصبحتُ ولا من بنينْ

أربعةٌ مثلُ نُسُورِ الرّبى

قد وَاصَلُوا الموتَ بِقَطعِ الوَتِينْ

تنازع الخرصانُ أشلاءَهُمْ

فكلّهمْ أَمسى صَرِيعاً طَعِيْنْ

يا ليتَ شِعْري أَكَما أَخبرُوا

بِأنّ عبّاساً قطيعُ اليَمِينْ(١)

وقال السيّد الأمينُ عن أمّ البنين : كانتْ شاعرةً فصيحةً ، وكانتْ تخرجُ كلّ يومٍ إلى البقيع ومعها عُبَيْد الله ولد ولدها العبّاس ، فتندُبُ أولادها الأربعة ، خصوصاً العبّاس ، أشجى نُدبة وأحرقها ، فيجتمع النّاس ، يسمعوون بكاءها وندبتها ، فكان مروانُ بن الحكم ، على شدّة عدواته لبني هاشمٍ ، يجيءُ في من يجيء ، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي.

فمن قولها في رثاء ولدها العبّاس ما أنشده أو الحسن الأخفشُ في (شرح كامل المبرّد).

وأورد الأبيات الداليّة ، ثمّ قال : وزاد البيت حُسناً أنّ «العبّاس» من أسماء «الأسد».

ثمّ أورد الأبيات النونيّة(٢) .

__________________

(١) السّماوي إبصار العين (ص ٣١ ـ ٣٢) وانظر عنه : المظفّر ، بطل العلقمي (٣ / ٤٣١ ـ ٤٣٢).

(٢) الأمين ، أعيان الشّيعة (٨ / ٣٨٩) و(٤ / ١٣٠).

٢٢٧

مراثٍ أخرى :

ويقول (١) الفضل (٢) بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عُبَيْد الله بن العبّاس بن عليّ عليه السلام في رثاء جدّه العبّاس عليه السلام :

أحقّ الناسِ أنْ يُبكى عليهِ

فتىً(٣) أبكى الحسينَ بِكربلاءِ

أخوهُ وابنُ والدِهِ عليٍّ

أبُو الفضلِ المُضرّجُ بِالدّماءِ

ومَنْ واساهُ لا يَثنيه شيءٌ

وجاءَ لَهُ على عَطَشٍ بِماءِ(٤)

ويقول الكُميتُ بنُ زيد :

وأبُو الفضلِ إنّ ذِكْرَهُمُ الحُلْـ

ـوَ شِفاءُ النُفُوسِ من أسقامِ(٥)

قُتِلَ الأدْعِياءُ إذْ قَتَلُوْهُ

أَكْرَمَ الشارِبِيْنَ صَوْبَ الغَمامِ(٦)

__________________

(١) ذكر ذلك في تاريخ بغداد (١٢ / ١٣٦) وأدب ألطّفّ (١ / ٣ / ٢٢٣) ومقاتل الطالبيين (ص ٨٩) فهم مؤيّدون نسبتها إلى الشاعر المذكور. أمّا في كتاب (روض الجنان) للمؤرّخ الهنديّ «أشرف عليّ» ص ٣٢٥ : نسب هذه الأبيات إلى فضل بن الحسن بن عُبَيْد الله بن العبّاس ابن عليّ ين أبي طالب ، وكذلك في كتاب (عيون الأخبار وفنون الآثار ص ١٠١ وفيه : الفضل ابن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله ...) والحقّ مع الموافقين للمؤلّف.

(٢) وهو شاعر معاصر للمتوكّل (مات سنة ٢٤٧ هـ) وقد ذكر في أعيان الشيعة (٤٢ / ٢٨٢) أنّ أُمّه جعفريّة ، وأبوه محمّد بن الفضل كان من الشعراء المعاصرين للمأمون العباسيّ. عن معجم الشعراء للمرزباني (ص ١٨٤).

(٣) كذا ذكر أرباب المقاتل وراجع (معجم الشّعراء للمرزباني ، ص ١٨٤).

(٤) القاضي النعمان ، شرح الأخبار (٣ / ١٩٣). وأورده أبو الفرج ، مقاتل الطّالبييّن (ص ٩٠) بقوله «يقول الشاعر» من دون نسبة ، ولا حظ الغدير (٣ / ٥) للأميني ، وفقد نقله عن العمريّ صاحب (المجديّ) وعيون الأخبار في فنون الآثار : (ص ١٠١).

(٥) كذا في ديوان الكميت ، ونقل : «شِفاءُ النفوسِ والأسقامِ». فليلاحظ.

(٦) ديوان الكميت (ص ٥٠٦) ، أبو الفرج ، مقاتل الطالبييّن (ص ٩٠).

٢٢٨

عاقبة القتلة وعقوبتهم الدنيوية :

وكان حكيمُ بن طُفيل الطائيّ السنْبِسيّ سَلَبَ العبّاسَ بن عليّ ثيابَهُ ورمى الحسينَ بسهمٍ ، فكان يقول : تعلّقَ سهمي بِسِربالِهِ وما ضَرَّهُ.

فبعثَ المختارُ إليه عَبْد الله بن كامل ، فأخذه ، فاستغاث أهلُه بِعَديّ بن حاتم ، فكلّم فيه ابن كامل ؛ فقال : أمرُهُ إلى الأمير المُختار ؛ وبادَرَ بهِ إلى المُختار قبل شفاعة ابن حاتم له إلى المُختار ؛ فأمر به المُختارُ فعُرّيَ ورُميَ بِالسهام حتّى مات.

وكان زيدُ بن رقاد الجَنْبيّ يقول : رميتُ فتىً من آل الحسين ويدُهُ على جبهته فأثْبَتُّها في جبهته.

وكان ذاك الفتى عَبْد الله بن مُسلم بن عقيل بن أبي طالب ، وكانَ رَماهُ بِسهمٍ فَلَقَ قلبَهُ ، فكان يقول : نزَعْتُ سهمي من قلبه وهو ميّتٌ ، ولم أزلْ أُنَضْنِضُ سهمي الّذي رميتُ بهِ جبهتَه فِيها حتّى انتزعتُهُ وبقيَ النَضْل!.

فبعثَ إليه المُختارُ ابنَ كامل في جماعةٍ ، فأحاطَ بِدارِهِ ؛ فخَرَجَ مُصلِتاً سيفَهُ فقاتلَ ، فقال ابن كامل : لا تضربُوهُ ولا تطعنُوهُ ، ولكن ارْمُوهُ بِالنّبل والحجارة ، ففعلوا ذلك حتّى سقطَ(١) .

قال : وبعث المختارُ أيضاً عَبْد الله الشّاكريّ إلى رجلٍ من جَنْب يُقال له : زيدُ بن رقاد ، كان يقول : لقد رَمَيْتُ فتىً منهم بِسَهمٍ ، وإنّه لواضِعٌ كفّه

__________________

(١) البلاذري ، جمل من أنساب الأشراف ٣ / ٤٠٦ وانظر ٦ / ٤٠٧ ـ ٤٠٨. والخوارزمي مقتل الحسين (٢ / ٢٢٠) وانظر : الطبري ، التاريخ ٦ / ٦٤ ، وعنه : بطل العلقمي (٣ / ٢١٩ ـ ٢٢٠).

٢٢٩

على جبهته يتّقي النَبْلَ ، فأثبَتُّ كَفّهُ في جبهته ، فما استطاعَ أنْ يزيلَ كفّه عن جَبهته.

قال أبو مخنف : فحدّثني أبو عَبْد الأعلى الزُّبيديّ أنّ ذلك الفتى عَبْد الله بن مسلم بن عَقيل ، وأنّه قال حيث أثبتَ كفّه على جبهته : «الّلهمّ إنّهم استقلّونا واستذلّونا ، اللّهمّ فاقتلهم كما قَتَلونا ، وأذِلّهم كما استَذَلُّونا».

ثمّ إنّه رمى الغلامَ بسهَم آخَرَ فقتَلَه ، فكان يقول : جِئتُه ميِّتاً فنزعتُ سهمي الّذي قتلتُهُ بهِ من جَوْفِهِ ، فلم أَزَلْ أُنضْنِضُ السهمَ حتّى نزَعْتهُ من جبهته ، وبقيَ النَصْلُ في جبهته مُثبَتاً ما قدرتُ على نزعهِ!

قال : فلمّا آتى ابنُ كامل دارَه ؛ أحاط بها ، واقتحمَ الرجالُ عليه ، فخرجَ مُصلِتاً بسيفه ـ وكان شُجاعاً ـ فقال ابنُ كامل : «لا تضربوهُ بِسيفٍ ، ولا تَطعَنوهُ برمحٍ ، ولكن ارموهُ بِالنبل ، وارضخُوهُ بِالحجارة» ففعلوا ذلك به ، فَسَقَطَ(١) .

وأمّا حرملة قاتل العبّاس الأصغر :

أخبرنا محمّد بن محمّد ، قال : أخبرني المظفّر بن محمّد البلخيّ ، قال : حدّثنا أبو عليّ ، محمّد بن همّام الإسكافيّ ، قال : حدّثنا عَبْد الله بن جعفر الحميريّ ، قال : حدّثني داود بن عمر النهديّ ، عن الحسن بن محبوب ، عن عَبْد الله بن يونس ، عن المِنهال بن عَمرو ، قال : دخلتُ على عليّ بن

__________________

(١) الطبري ، التّاريخ : (٦ / ٦٤) عنه : المظفّر ، بطل العلقمي (٣ / ٢٢٠) وانظر : الحدائق الورديّة للمحلي : (١ / ١٢٠).

٢٣٠

الحسين عليهما السلام منصرفي من مكّة ، فقال لي : يا منهال ، ما صنع حرملة بن كاهل الأسديّ؟

فقلتُ : تركتُهُ حيّاً بِالكوفة. قال : فرفع يديه جميعاً ، فقال :

«اللّهمّ أذقهُ حَرّ الحديد. اللّهمّ أذقهُ حَرّ النّار ».

قال المنهال : فقدمتُ الكوفة ، وقد ظهر المُختارُ بن أبي عبيد ، وكان لي صديقاً ، قال : فمكثتُ في منزلي أيّاماً حتّى انقطع النّاس عنّي ، وركبتُ إليه فلقيتُه خارجاً من داره ، فقال : يا منهال ، لم تأتنا في ولايتنا هذه ، ولم تُهنِّئنا بِها ، ولم تشركنا فيها؟.

فأعلمتُه أنّي كنتُ بمكّة ، وأنّي قد جئتُك الآن ؛ وسايرتُهُ ونحنُ نتحدّثُ حتّى أتى الكُناسةَ فوقفَ وُقُوفاً كأنّهُ ينتظرُ شيئاً ، وقد كان أُخبرَ بمكان حرملة بن كاهل ؛ فوجّهَ في طلبه ، فلم نلبثْ أنْ جاء قومٌ يركضون وقومٌ يشتدّون حتّى قالوا : أيّها الأمير ، البِشارة ، قد أُخِذَ حرملةُ بن كاهل ؛ فما لَبِثنا أنْ جِيءَ به ، فلمّا نظر إليه المُختار ، قال لِحَرملة : الحمدُ لله الّذي مكّنني منك. ثمّ قال : الجزّار! الجزّار!. فأُتيَ بِجزّارٍ ، فقال له : اقطعْ يديه. فقطعتا ؛ ثمّ قال له : اقطعْ رجليه. فقطعتا ؛ ثمّ قال : النّارَ النّارَ ، فُأتي بنارٍ وقصبٍ ، فأُلقي عليه واشتعلتْ فيه النّارُ.

فقلتُ : سُبحانَ الله!

فقال لي : يا منهال ، إنّ التَسبيحَ لَحَسَنٌ ، ففيم سبّحتَ؟

فقلتُ : أيّها الأمير ، دخلتُ في سفرتي هذه منصرفي من مكّة على

٢٣١

عليّ بن الحسين عليهما السلام فقال لي : يا منهال ، ما فعل حرملة بن كاهل الأسديّ؟

فقلتُ : تركتُهُ حيّاً بالكوفة.

فرفع يديه جميعاً فقال : «اللّهمّ أذقه حرّ الحديد ، اللّهمّ أذقه حرّ الحديد ، اللّهمّ أذقه حرّ النّار».

فقال لي المختارُ : أسَمِعتَ عليَّ بنَ الحسين عليهما السلام يقولُ هذا؟

فقلتُ : واللهِ لقد سمعتُهُ.

قال : فنزلَ عن دابّته وصلّى ركعتين ؛ فأطال السّجودَ ؛ ثمّ قامَ فركبَ وقد احترقَ حرملة ، وركبتُ معه ، وسرنا فحاذَيْتُ داري ، فقلتُ : أيّها الأمير ، إنْ رأيتَ أنْ تُشرّفَني وتُكرّمَني وتنزلَ عندي وتحرمَ بِطعامي.

فقال : يا منهالُ ، تُعْلِمُني أنّ عليّ بن الحسين دعا بأربع دعواتٍ فأجابه اللهُ على يديّ ؛ ثمّ تأمرني أنْ آكلَ! هذا يومُ صومٍ شُكراً لله عزّ وجلّ على ما فعلتُهُ بِتَوفيقه(١) .

وهكذا جُوزِيَ قتلة الأطهار ، على يد المختار ، في الدنيا( وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى ) .

__________________

(١) الطّوسي : الأمالي (٢٣٨ ـ ٢٣٩) عنه : المجلسيّ : البحار ، (٤٥ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣) وانظر : المناقب لابن شهر آشوب : (٤ / ١٤٥) وكشف الغمّة للإربلي : (٣ / ٢ ـ ٧٣) وأمالي الشجري (١ / ١٨٨) وبطل العلقميّ للمظفّر : (٣ / ٢٢١ ـ ٢٢٣).

٢٣٢

الخاتمة

العَبّاسُ مُعجزةُ الحُسين عليهما السلام

٢٣٣
٢٣٤

روى الشيخ الصدوق بسنده عن الأصبغ بن نُباتة ، قال خرج علينا أَميْر المُؤْمِنِيْنَ علي بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم ويده في يد ابنه الحسن عليه السلام وهو يقول : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم ويدي في يده ، هكذا ، وهو يقول : «خير الخلق بعدي وسيّدهم أخي هذا ، وهو إمام كلّ مسلم ومولى كلّ مؤمن ، بعد وفاتي».

ألا ، وإنّي أقول : خير الخلق بعدي وسيّدهم ابني هذا ، وهو إمام كلّ مؤمن ومولى كلّ مؤمن ، بعد وفاتي. ألا وإنّه سيُظلم بعدي كما ظُلمتُ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.

وخير الخلق وسيّدهم بعد الحسن ابني : أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه ، المقتول في أرض كربلاء.

أما إنّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة(١) .

أقولُ : وإذا كانوا كلّهم من سادة الشهداء ، فلا ريب أنّ الحسين عليه السلام وهو إمامهم فله السيادة عليهم أيضاً ، فهو سيّد السادة ، وإذن فما هو مقام العَبّاس عليه السلام بين هؤلاء؟ وهو أمير جيشه وحامل لوائه وعميد عسكره ، وهو من هو كما عرفنا عنه من المزايا الكبيرة في سماته المنيرة ، وسيرته المثيرة؟

__________________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة (١ / ٢٥٩) الحديث ٥ من الباب ٢٤.

٢٣٥

أقول : إنّ العَبّاس هو معجزة الحسين عليه السلام :

كثيرون ـ حتّى من المعتقدين بإمامة الحسين عليه السلام فضلاً عن محبّيه من غير أُولئك ـ يُعلنون عن أنّ قضية كربلاء لم تُبنَ على الإعجاز الغيبيّ ، وإلاّ لكان لِيَدِ الإعجاز أنْ تُبيد الأعداء ، وأنْ تُحرق كياناتهم بإصبعٍ من الغيب! وأنْ يكون للحسين ولكربلاء شأنٌ آخر.

لكنّ الأمر في مفهوم (المعجزة) وتقديرها وتصوّر أهدافها يختلف من شخصٍ إلى آخر.

فإنْ كانَ المنظورُ منها «إتمامُ الحُجّة» فإنّ قضايا كربلاء قد احتوتْ على الحُجج التامّة ، لا على الأعداء المُعتدين فقطْ ، بل على الأُمّة الإسلاميّة المغلوبة على أمرها ـ مدى التاريخ ـ فضلاً عن الطغاة الظالمين في العالم أجمع!

وإنْ كانَ الإعجازُ من منظار الانتصار ، فإنّ الانتصار الحقيقيّ ليس بمجرّد الاستمرار في الحياة والبقاء في الدُنيا ، بل هو انتصار الحقّ ، بتحقّق الأهداف المطلوبة من المواقف والوقائع ، واستمرارها في كيان الإنسانيّة ، وأداء أثرها ، وهو ما قد حَصَلَ من كربلاء.

ولكن المعجزة الّتي تحقّقت في كربلاء هي من نوعٍ آخر فإنّ أعلى وأهمّ مظاهر الإعجاز في كربلاء هو (العَبّاس عليه السلام) نفسه ، حيث احتوى بمفردهِ على كلّ تلك المكارم والمآثر في سماته وسيرته ؛ فبلغ من المقام والرفعة (درجةً يغبطُهُ بِها الشُهداء يوم القيامة).

ومع أنّ العبّاس لم يكن إماماً ، وقد ورد النصّ بذلك عن أبي عبد الله

٢٣٦

الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ :( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) سورة النساء الآية ٥٩ ؛ قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين عليهم السلام ؛ فلمّا مضى عليٌّ ، لم يكن يستطيع عليٌّ ، ولم يكن ليفعل : أن يُدخِلَ محمّدَ بن عليّ ، ولا العبّاسَ بن عليّ ، ولا واحداً(١) من ولده(٢) .

كما لم يكن العبّاس معصوماً ، بل ليس من شأننا الحديث عن ثبوت العصمةَ له ، بعد أنّ انحصر المعصومون من أهل البيت بالأئمّة الإثني عشر عليهم السلام لكنّ العباس ـ بلا شكٍّ ـ كانَ أكبرَ معجزةٍ لأخيه الإمام المعصوم ، وذلك لأنّ قتل الحسين عليه السلام هو من دلائل النبوّة ، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله أخبر عنه ، وهو من إخباره بالغيب بأُمور تحقّقت في المستقبل ، كما أورده أرباب الكتب الجامعة لدلائل النبوّة ، كالبيهقي ، وأبي نعيم الأصفهاني ، والسيوطي ، وغيرهم ، كما أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أخبر عن مقتله ، وهذا ـ أيضاً ـ من دلائل الإمامة.

فهذه كلّها معجزاتٌ ؛ لتحقُّقِها ، واقترانِ أخبارها باليقين ، فليستْ إلاّ من الوحي المُبين من ربّ العالمين على نبيّه الأمين.

وبذلك ، فإنّ وجود العبّاس عليه السلام في واقعة الطفّ في كربلاء ـ وهو من أعلامها وأعيانها ، وعليه تدورُ أكثر قضاياها المهمّة.

بل ؛ وجوده وجودٌ عضويّ في إنجازها ، كلّ ذلك يدخله في المعجزة ،

__________________

(١) في بعض النّسخ [أحداً].

(٢) تفسير العيّاشي (١ / ٤٠٩) وتفسير فرات (ص ١١٠ ح ٢٧) والكافي (١ / ٢٨٦ ـ ٢٨٨).

٢٣٧

ویتحقّق به الإعجاز.

مع أنّ خروج العبّاس عليه السلام مع الحسين عليه السلام وقيامه بتلك المهمّات وفي جميع أدوارها الحسّاسة ؛ لهو من خوارق العادة ، فليكن بذاته معجزةً للحسين عليه السلام حيث كان مثلُ العبّاس طوعَ إرادته ، ومُقتدياً به ، يميل معه حيث مال ، بل يسيرُ أَمَامَهُ في تلك الظروف الرهيبة ، حتّى الشهادة بين يديه.

فسلامُ الله يومَ وُلِدَ ، ويومَ قُتِلَ شهيداً ، ويومَ يُبْعَثُ في الجنان.

٢٣٨

وأمّا الحديث عن كرامات العَبّاس عليه السلام :

فما هي الكرامةُ؟

ولماذا يُصِرّ البعضُ على إثباتها لغير الأنبياء؟ مع أنّها كالمعجزة؟ أليس ذلك من الغلوّ الّذي هو كفرٌ وباطلٌ؟

وما هي الطُرُقُ اللازمة لإثبات مثل هذه الدعاوى الّتي أصبح يشهد عليها الكثيرون ؛ بحيث فاقت التواتُر ، في شأن العباس عليه السلام؟

تعريف الكرامة :

عُرّفت الكرامة بأنّها : ظهورُ أمرٍ خارقٍ للعادة من شخص ، غيرِ مقارِنٍ لدعوىً ، فأمّا إذا اقترنَ بدعوى النُبُوّة ، أو الإمامَة ، فهي المعجزة ، فهما ـ الكرامة والمعجزة ـ يتشاركان في كونهما خارقين للعادة ، ولا يمكن للبشر العاديّين أن يقوموا بهما.

وهما يفترقان ، في :

أنّ المعجزة : تختصّ بمن له مقامٌ إلهيّ يحتاجُ في تعيينه إلى نصبٍ ونصٍّ وفرضٍ من الله على العباد ، كالنبيّ المرسَلِ بِالوحي المُباشر ، المتّصل بالسماء ، والمتكلّم عنه ، وكالوصيّ والإمام المنصوب من قبل الله بواسطة الرسول والنبيّ ، وتعيينه ، والنصّ عليه ، والإعلان عن شخصه.

أمّا الكرامة : فهي تتحقّق على يد أولياء الله المخلصين ، الّذين انقادوا الله

٢٣٩

بالطاعة ، وخافُوه حقّ الخوف ؛ فَطَوَّعَ لهم كلَّ ما سواهُ ، وأخافَ منهم كلّ شيءٍ. وبما أنّ ظهور الخارق على يد الإنسان لا يخالف العقل ؛ لفرض أنّه ممكنٌ عقلاً ، والدليلُ على إمكانه وقوعُه ، وإنّما هو يخالف العادةَ ، فهو أمرٌ ممكن عقلاً. وبما أنّا ـ نحنُ المُسلمين ـ أُمّةٌ متعبّدون بالشرع ، فلابدّ أن نرى مواقف الشرع من مثل ذلك ، فنجد :

أوّلاً : أنّ الآيات القرآنيّةَ الكريمةَ ، المحكَمةَ والواضحةَ الدلالة ، تُصرّح بأنّ اللهَ تبارك وتعالى إنّما خلقَ الكونَ والحياةَ لابن آدم ، وسخّر له كلّ شيء من الممكنات ، لينتفع به ، وذلك من قوله تعالى : (هوَ الّذي خَلَقَ لَكُمْ ما في الأرضِ جَميعاً) فالكونُ ومجرياته وأُموره كلُّها مخلوقةٌ للعباد ، ولتكون تحت اختيارهم ، وفي قدرتهم ، وفي مُتناولهم ، فهي لَهُم ، ولِمَنفعتهم ، ومن أجلهم ، فهيَ ـ لا محالةَ ـ طوعُ إرادتهم.

وثانياً : أنّ النقلَ المشهورَ ثابتٌ بأنّ العبد الصالح إذا أطاع الله دخل كلّ شيء تحتَ قدرته ، ففي الحديث القُدسيّ : «عَبْدي أطِعْني ؛ تَكُنْ مثلي : أقولُ لِشيءٍ : «كُنْ» فيكونُ ، وتقولَ : «كُنْ» فيكُونُ».

والجمع بين الحقائق المذكورة هذه يقتضي : أنّ العَبْد المؤمنَ الصالحَ ؛ له قابليّة التصرّف في ما حوله من أُمور وشؤون ، فكيفَ إذا كان «وليّاً لله»!؟

وهذه القابليّة لا تحصل اعتباطاً بالصدفة ؛ وإنّما هي بحاجةٍ إلى واقعيّةٍ وإخلاصٍ وتفانٍ مُطلقٍ في سبيل الله ، والتقوى الصادقة في القول والعقيدة والعمل.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

ويتّضح من هنا أن انحرافها كان من جهة العقيدة ، ولا يبعد أن يكون هذا الانحراف متأثرا بسبب محيطها وكانت في بداية الأمر مؤمنة موحدة ، وبهذا فلن يرد أي إشكال على لوطعليه‌السلام في أنّه لم تزوّج بمثل هذه المرأة؟!

وإذا كان جماعة من المؤمنين الآخرين قد آمنوا بلوط ، فمن المؤكّد أنّهم كانوا قد هاجروا عن تلك الأرض المدنّسة قبل هذا الحادث ، ما عدا لوطا وأهله ، فإنّه كان عليه أن يبقى إلى آخر ساعة هناك ، لاحتمال تأثير تبليغه وإنذاره.

هنا ينقدح هذا السؤال : ترى هل كان «إبراهيم» يحتمل أن عذاب الله سيشمل لوطا ، فأظهر تأثره أمام الملائكة ، غير أنّهم طمأنوه بنجاة لوط؟!

والجواب الواضح على هذا السؤال ، وهو أن إبراهيم كان يعرف الحقيقة ، وإنّما سأل ليطمئن قلبه ، نظير هذا السؤال ما كان من هذا النّبي العظيم في شأن المعاد وإحياء الموتى ، إذ جسد له الله ذلك في إحياء أربعة من الطير «ليطمئن قلبه».

إلّا أنّ المفسّر الكبير العلّامة الطباطبائي يعتقد أنّ المراد من سؤال إبراهيم هو أن وجود «لوط» بين هؤلاء القوم سيكون دليلا على رفع العذاب عنهم ويستعين بالآيات (٧٤) ـ (٧٦) من سورة هود على هذا المقصد ، لأنّ هذه الآيات تبيّن : أنّهعليه‌السلام كان يريد بقوله :( إِنَّ فِيها لُوطاً ) أن يصرف العذاب بأن فيها لوطا وإهلاك أهلها يشمله ، فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشملهم العذاب وهم أهله إلّا امرأته.(١)

لكننا نعتقد أنّ هذا الجواب من الملائكة ـ في صدد نجاة لوط وأهله ـ يدلّ بوضوح أن الكلام في هذه الآيات هو على لوط فحسب ، ولكن آيات سورة هود تتحدث عن موضوع منفصل ، وكما قلنا آنفا فإنّ إبراهيم كان ليطمئن قلبه أكثر

__________________

(١) الميزان ، ج ١٦ ، ص ١٢٤.

٣٨١

«فلاحظوا بدقة».

انتهى كلام الملائكة مع إبراهيم هنا ، وتوجهوا إلى ديار لوطعليه‌السلام وقومه ، يقول القرآن في هذا الشأن :( وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) .

وكان كلّ استيائه وعدم ارتياحه بسبب أنّه لم يعرفهم فقد جاؤوا إليه بهيئة فتيان ذي وجوه مليحة ، ومجيء أمثال هؤلاء الضيوف في مثل هذا المحيط الملوّث ، ربّما كان يجرّ على لوط الوبال ، وأن يذهب ماء وجهه أمامهم ، لذلك فكر مليّا : ما عسى أن يكون ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين الوقحين الذين لا حياء لهم قبال هؤلاء الضيوف؟!

«سيء» مشتقّة من «ساء» ومعناه سوء الحال ، و «الذرع» معناه «القلب» «الخلق» ، فعلى هذا يكون معنى( ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) أي ضاق قلبه وانزعج.

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه الكلمة في الأصل تعني «الفاصلة بين أطراف البعير أثناء السير» وحيث أنّهم إذا وضعوا على البعير حملا ثقيلا قصّر خطاه وضيّق الفاصلة ، عبروا بجملة «ضاق ذرعا» كناية عن الحادثة الثقيلة «الصعبة» التي لا تطاق!

إلّا أنّ الضيوف حين أدركوا عدم ارتياحه كشفوا عن «هويّتهم» وعرفوا أنفسهم ورفعوا عنه الحزن :( وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

ويستفاد بالطبع من الآيات التي في سورة هود أن أولئك القوم الأراذل ، حين عرفوا بوجود الضيوف عند لوطعليه‌السلام أسرعوا إليه ، وكان في نيّتهم أن يعتدوا عليهم ، وحيث أن لوطا كان لا يزال غير عارف بحقيقة الملائكة فقد كان متأثرا جدّا ، وكان تارة ينصحهم واخرى يهدّدهم ومرّة يقول لهم :( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) فيحرك ضمائرهم وتارة يقترح عليهم الزواج من بناته ، وأراد أن يمنعهم

٣٨٢

من الوصول إلى أضيافه ، لكن هؤلاء المنحرفين الذين لا حياء لهم لم يقتنعوا بأي شيء ولم يفكروا إلّا بهدفهم المخزي.

ولكن رسل الله عرفوا أنفسهم للوطعليه‌السلام ، وأعموا أبصار هؤلاء القوم الذين أرادوا الهجوم على الملائكة واثلجوا قلب ذلك النّبي العظيمعليه‌السلام .(١)

وما ينبغي الالتفات إليه أن رسل الله قالوا للوط :( لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ ) فما الفرق بين كلمتي «الخوف» و «الحزن»؟

ورد في تفسير الميزان أن الخوف يقع على الحوادث غير المستساغة احتمالا أمّا الحزن فيقع في الموارد القطعية.

وقال بعضهم : الخوف يطلق على الحوادث المستقبلية ، أمّا الحزن فعلى ما مضى! كما يرد هذا الاحتمال وهو أن الخوف في المسائل الخطرة ، أمّا الحزن فهو في المسائل الموجعة ، وإن لم يكن فيها أي خطر!

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو أنّه طبقا لآيات سورة هود فإنّ لوط وخوفه لم يكن على نفسه ، بل كان يخشى أن يضايقوا «ضيفه»(٢) غير أن جواب الملائكة يتعلق بنجاة لوط وأهله ، وهذان الأمران غير منسجمين.

والجواب على هذا السؤال يستفاد إجمالا من الآية (٨١) من سورة هود ، لأنّ القوم المنحرفين حين مدّوا أيديهم إلى الضيوف قال الملائكة :( يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) أي مسألتنا سهلة ولن يصل إليك سوء وأذى منهم أيضا ، فعلى هذا كان الملائكة يرون النجاة بالنسبة لهم من المسلّم بها ، وإنّما ركزوا على البشارة للوط وأهله فحسب.

وبعد هذا ، ولكي تتضح خطة عملهم في شأن عاقبة هؤلاء القوم المنحرفين

__________________

(١) ذكرنا تفصيل هذا الحادث في ذيل الآيات ٧٧ ـ ٨١ من سورة هود فلا بأس بمراجعتها.

(٢) «الضيف» يطلق على المفرد والجمع ، وجمعه : ضيوف وأضياف. (المصحح).

٣٨٣

أكثر ، أضافوا :( إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

والمراد بالقرية هي «سدوم» وما جاورها من القرى والمدن التي كان يسكنها قوم لوط ، وقد أوصل بعضهم عدد هؤلاء إلى سبعمائة ألف نفر(١) .

والمراد من «الرجز» هنا هو العذاب ، ومعناه الأصلي الاضطراب ، ثمّ عبروا عن كل شيء يوجب الاضطراب بالرجز ، ولذلك استعمل العرب كلمة الرجز في كثير من المعاني كالبلايا الشديدة ، والطاعون أو البرد ، والأصنام ، ووساوس الشيطان ، والعذاب الإلهي إلخ.

وجملة( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) هي سبب عقابهم الشديد ، لأنّهم لم يطيعوا الله ، والتعبير بالفعل المضارع «يفسقون» دليل على استمرارهم ودوامهم على العمل القبيح!.

وهذا التعبير يبيّن هذه الحقيقة ، وهي لو أن أولئك لم يستمروا على الذنب ، وكانوا يتوبون ويعودون إلى طريق الحق والتقوى ، لم يبتلوا بمثل هذا العذاب وكانت ذنوبهم الماضية مغفورة.

وهنا لم يذكر القرآن كيفية العذاب الأليم ، سوى أنّه قال :( وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

إلّا أنّ في سورة هود الآية (٨٢) منها ، وكذلك سورة الأعراف الآية ٨٤ منها ، تفصيلا في بيان العذاب ، وهو أنّه أصابت قراهم في البداية زلزلة شديدة فجعلت عاليها سافلها ، ثمّ أمطرت عليها حجارة من السماء بحيث توارت بيوتهم وقراهم وأجسادهم تحتها!.

والتعبير بـ «الآية البينة» أي العلامة الواضحة ، هو إشارة إلى الآثار الباقية من مدينة «سدوم» التي كانت في طريق قوافل أهل الحجاز طبقا «لآيات القرآن»

__________________

(١) روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٦٧.

٣٨٤

وكانت باقية حتى ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . كما نقرأ في الآية (٧٦) من سورة الحجر( وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) ، وكما نقرأ في سورة الصافات الآيتين (١٣٧) و (١٣٨) :( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

* * *

٣٨٥

الآيات

( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) )

التّفسير

تنوع العذاب للظالمين :

بعد بيان قصّة لوط وقومه يقع الكلام عن أقوام آخرين أمثال قوم شعيب وعاد وثمود ، وقارون وفرعون ، وقد أشير في هذه الآيات ـ محل البحث ـ إلى كلّ

٣٨٦

منهم إشارة موجزة «مكثفة» للاستنتاج والعبرة!

في البداية تقول الآية :( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ) (١) .

والتعبير بكلمة «أخاهم» كما قلنا مرارا ، هو إشارة إلى منتهى محبّة هؤلاء الأنبياء إلى أممهم ، وإلى عدم طلبهم السلطة ، وبالطبع فإنّ هؤلاء الأنبياء كانت لهم علاقة قرابة بقومهم أيضا.

و «مدين» مدينة واقعة جنوب غربي الأردن ، وتدعى اليوم بـ «معان» وهي في شرق خليج العقبة ، وكان شعيبعليه‌السلام وقومه يقطنون فيها(٢) .

وشعيب كسائر أنبياء الله العظام ، بدأ بالدعوة الى الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ، وهما أساس كل دين وطريقة( فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ ) .

فالإيمان بالمبدأ يكون سببا لإحساس الإنسان بأن الله يراقبه مراقبة دقيقة بشكل دائم ويسجّل أعماله ؛ والإيمان بالمعاد يذكر الإنسان بمحكمة عظيمة يحاسب فيها عن كل شيء وكل عمل مهما كان تافها ومن المسلم أنّ الإعتقاد بهذين الأصلين له أثره البالغ على تربية الإنسان وإصلاحه!.

والمبدأ الثّالث هو بمثابة خطّة عمل جامعة ، تحمل بين طياتها جميع الخطط الاجتماعية ، إذ قال :( وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .

وللفساد مفهوم واسع يشمل كل نقص انحراف ، وتدمير ، وظلم إلخ ويقابله الصلاح والإصلاح ، ومفهومهما يشمل جميع الخطط البنّاءة!.

أمّا كلمة «تعثوا» فهي من مادة «عثى» ومعناه إحداث الفساد أو الإفساد ، غاية ما في الأمر أن هذا التعبير كثيرا ما يستعمل في الموارد التي تكون فيها «مفاسد أخلاقية» ، فعلى هذا يكون ذكر كلمة «مفسدين» بعدها تأكيدا على هذا

__________________

(١) هذه الجملة معطوفة على جملة «ولقد أرسلنا نوحا».

(٢) ورد الكلام على مدين في ذيل الآية (٢٣) من سورة القصص في هذا الجزء بإسهاب.

٣٨٧

المفهوم.

إلّا أنّ تلك الجماعة بدلا من أن تصغي لمواعظه ونصائحه بآذان القلوب ، خالفته ولم تصغ إليه «فكذبوه».

وكان هذا التكذيب سببا في أن تصيبهم زلزلة شديدة( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) أي مكبوبين على وجوههم ميتين.

و «الجاثم» مشتق من «جثم» على زنة «سهم» ومعناه الجلوس على الركبة والتوقف في مكان ما ولا يبعد أن يكونوا نائمين عند وقوع هذه الزلزلة الشديدة فهذا التعبير إشارة إلى أنّهم عند وقوع هذه الحادثة نهضوا وجثوا على الركب ، إلّا أنّ الحادثة لم تمهلهم حيث انهارت الجدران عليهم ونزلت عليهم الصاعقة التي تزامنت معها فماتوا(١) .

أمّا الآية التي بعده فتتحدث عن «عاد» و «ثمود» قومي (هود وصالح) ، دون أن تذكر ما قاله نبيّاهما لهما ، وما ردّ عليهما قومهما المعاندون ، لأنّهما مذكوران في آيات عديدة من القرآن ، وهما أي قوم هود وقوم صالح معروفان ، فلذلك ، تقول الآية :( وَعاداً وَثَمُودَ ) (٢) .

ثمّ تضيف الآية( وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ) المتهدمة والتي هي على طريقكم في منطقة الحجر واليمن.

فأنتم في كل سنة تمرون في أسفاركم للتجارة بأرض «الحجر» التي تقع شمال جزيرة العرب ، وبالأحقاف التي تقع قريبا من اليمن وجنوبها ، وترون آثار المساكن المتهدمة وبقاياها من عاد وثمود ، فعلام لا تعتبرون؟!

ثمّ تشير الآية إلى السبب الأصلي لشقائهم وسوء حظّهم ، إذ تقول :( وَزَيَّنَ

__________________

(١) بيان هذه الحادثة المؤلمة فصلناه في تفسير «سورة هود» ذيل الآيات في شرح قصة «شعيب وقومه».

(٢) «وعادا وثمودا» مفعولان لفعل مقدر وهو «أهلكنا» وهو يستفاد من الآية السابقة. وقال بعضهم : فعلهما المحذوف تقديره «اذكر».

٣٨٨

لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) .

وكانت فطرتهم على فطرة الله وتقواه ، ولم يأل الأنبياء جهدا في هدايتهم ، وبذلوا قدرا كافيا من النصح والإرشاد لهم ، لكنّهم حادوا( وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ جملة( وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) تعني أنّهم كانوا ذوي أعين بصيرة ، وعقل كاف.

وقال بعضهم : إنها تعني أنّهم كانوا على الفطرة السليمة.

كما قال آخرون : إنّها تعني هداية الأنبياء لهم.

ولا يمنع اجتماع جميع هذه المعاني في الآية الكريمة ، فهي إشارة إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين قاصرين ، بل كانوا يعرفون الحق جيدا من قبل ، وكانت ضمائرهم حية ولديهم العقل الكافي ، وأتمّ الأنبياء عليهم الحجّة البالغة ، ولكن

مع كل ما تقدم من نداء العقل والضمير ، ودعوة الأنبياء ، فقد انحرفوا عن السبيل ووسوس لهم الشيطان ، ويوما بعد يوم يرون أعمالهم القبيحة حسنة ، وبلغوا مرحلة لا سبيل لهم إلى الرجوع منها ، فأحرق قانون الخلق والإيجاد هذه العيدان اليابسة وهي جديرة بذلك! والآية الأخرى تذكر أسماء ثلاثة من الجبابرة الذين كان كل واحد منهم بارزا للقدرة الشيطانية ، فتقول :( وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ ) (١) .

فقارون كان مظهر الثروة المقرونة بالغرور وعبادة «الذات» والأنانية والغفلة.

وفرعون كان مظهر القدرة الاستكبارية المقرونة بالشيطنة.

وأمّا هامان ، فهو مثل لمن يعين الظالمين المستكبرين!.

ثمّ يضيف القرآن( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ) والدلائل( فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ) فاعتمد قارون على ثروته وخزائنه وعلمه ، واعتمد فرعون وهامان على جيشهما وعلى القدرة العسكرية ، وعلى قوة إعلامهم وتضليلهم لطبقات

__________________

(١) هذه الكلمات الثلاث مفاعيل للفعل المقدر «أهلكنا» أو كما قال البعض : هي مفاعيل لفعل تقديره «اذكر»!

٣٨٩

الناس المغفّلين الجهلة.

لكن برغم كل ذلك لم يفلحوا( وَما كانُوا سابِقِينَ ) .

فأمر الله الأرض التي هي مهد الاطمئنان والدعة بابتلاع قارون.

وأمر الماء الذي هو مصدر الحياة بابتلاع فرعون وهامان.

وعبأ جنود السماوات والأرض لإهلاكهم جميعا ، بل ما كان مصدر حياتهم أمر الله أن يكون هو نفسه سببا لفنائهم(١) .

كلمة «سابقين» تعني من يتقدم ويكون أمام الآخرين ، فمفهوم قوله تعالى :

( وَما كانُوا سابِقِينَ ) أي إنّهم لم يستطيعوا أن يهربوا من سلطان الله برغم ما كان عندهم من إمكانات ، بل أهلكهم الله في اللحظة التي أراد ، وأرسلهم إلى ديار الفناء والذلة والخزي.

كما يذكر في الآية التي بعدها( فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ) .

وحيث أنّ القرآن ذكر «الطوائف الأربع» في الآيتين المتقدمتين ، ولم يبيّن عذابهم ، وهم :

١ ـ قوم هود «عاد».

٢ ـ وثمود «قوم صالح».

٣ ـ قارون.

٤ ـ فرعون وهامان.

فإنه يذكر في هذه الآية بحسب الترتيب أنواع عذابهم. فيقول :( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ) .

و «الحاصب» معناه الاعصار الذي يحمل حصى كثيرة معه ، و «الحصباء» «الحصى الصغيرة».

__________________

(١) شرح قصّة حياة قارون في الآيات السبع ٧٦ ـ ٨٢ سورة القصص ، وهلاك فرعون وجماعته في تفسير سورة القصص ، كما ورد في سورة الأعراف أيضا.

٣٩٠

والمقصود بـ «منهم» هنا هم «عاد» قوم هود ، وحسب ما جاء في بعض السور كالذاريات والحاقة والقمر ، أصابهم اعصار شديد مهلك خلال ثمانية أيّام وسبع ليال فدمرهم تدميرا.

يقول القرآن :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ) «الحاقة».

( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ) وقلنا : إن الصيحة السماوية التي هي نتيجة الصاعقة التي تقترن مع الزلزلة في زمان الوقوع ، وهذا هو العذاب الذي عذب الله به ثمود «قوم هود» كما عذب آخرين ويقول القرآن في الآية (٦٧) من سورة هود في شأن ثمود( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

( وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ) . وهذا هو عقاب قارون الثري المغرور المستكبر من بني إسرائيل ، وقد أشير إليه في الآية (٨١) من سورة القصص.

( وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ) ونعرف أنّ هذا الكلام إشارة إلى عقاب فرعون وهامان وجنودهما ، وقد ذكرت هذه القصّة في سور متعددة من القرآن الكريم.

وعلى كل حال ، فمع الالتفات لهذا البيان فإن أنواع العذاب الأربعة ذكرت هنا للطوائف الأربع المذكورين في الآيتين المتقدمتين. حيث اشارتا إلى ضلالهم وانحرافهم وذنوبهم دون أن تذكرا عقابهم.

ولكن من البعيد أن تشمل هذه الأنواع الأربعة من العذاب الواردة في هذه الآية أقواما آخرين ، كما يقول بعض المفسّرين. «كالغرق لقوم نوح ، وإمطار الحجارة والحصباء على قوم لوط» لأنّ عقابهم مذكور هناك وفي موارد ذكرهم ولا حاجة للتكرار هنا ، وأمّا عقاب الفئات الأربع فلم يذكر في هذه السلسلة من الآيات ، ولذا بينه الله سبحانه في الآيتين الأخيرتين.

ويبيّن في ختام الآية التأكيد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما أصابهم هو بسبب أعمالهم ، وهم زرعوا فحصدوا( وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ

٣٩١

يَظْلِمُونَ ) .

أجل ، إنّ عقاب هذه الدنيا والآخرة هو تجسيد أعمالهم ، حيث يغلقون جميع طرق الإصلاح في وجوههم. فالله أكثر عدلا وأسمى من أن يظلم الإنسان أدنى ظلم!.

وهذه الآية ـ كسائر كثير من آيات القرآن ـ تثبت أصل الحرية في الإرادة والإختيار عند الإنسان ، وتقرر أن التصميم في كل مكان يصدر من الإنسان نفسه. وقد خلقه الله حرّا ويريده حرّا فعلى هذا يبطل اعتقاد أتباع مذهب «الجبر» الذين لهم وجود بين المسلمين ـ مع الأسف ـ بهذا المنطق القوي للقرآن الكريم.

* * *

٣٩٢

الآيات

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) )

التّفسير

دعامة واهية كبيت العنكبوت :

بيّنت الآيات السابقة ما آل إليه المشركون والمفسدون الظلمة والأنانيون من مصير وخيم وعاقبة سوداء وعذاب أليم وبهذه المناسبة ، ففي الآيات التي بين أيدينا ، يبيّن القرآن الكريم مثالا بليغا ومؤثرا يعبدون غير الله ويتخذون من دونه أولياء! وكلما أمعنا النظر في هذا المثال وفكرنا فيه مليّا انقدحت في أذهاننا منه لطائف دقيقة ، يقول تعالى :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

كم هو بديع هذا المثال وطريف ، وكم هو بليغ ودقيق هذا التشبيه!.

٣٩٣

تأمّلوا بدقّة إنّ كل حيوان ـ وكل حشرة ـ له بيت أو وكر وما أشبه ذلك ، لكن ليس في هذه البيوت بيت أوهن من بيت العنكبوت! فكل بيت ـ عادة ـ يحتوي على سقف وباب وجدار ، وهو يحفظ صاحبه من الحوادث ، ويكون مكانا أمينا لإيداع الأطعمة والأشياء الأخرى وحفظها فبعض البيوت لا سقف لها إلّا أنّها على الأقل لها جدار ، كما أنّ هناك بيوتا لا جدار لها إلّا أن لها سقفا.

لكن بيت العنكبوت المنسوج من خيوط دقيقة واهية ، ليس له سقف ولا جدار ولا ساحة ولا باحة ولا باب ، هذا من جانب ومن جانب آخر فإنّ مواد بنائه واهية جدّا وسرعان ما تتلاشى إزاء أية حادثة بسيطة ، فهي لا تقدر على المقاومة.

فلو هبّ نسيم عليل لتمزق هذا النسيج.

ولو سقطت عليه قطرات المطر لتلاشى وتلف.

ولو لامسته شعلة خفيفة لاحرقته.

وحتى لو تراكم عليه الغبار لتركه أشلاء ممزقة معلقة.

فآلهة هؤلاء الجماعة ومعبوداتهم «الكاذبة» كمثل هذا البيت لا تنفع ولا تضر ولا تحلّ مشكلة ، ولا تكون ملجأ لأحد في المحنة والشدّة!.

صحيح إن هذا البيت للعنكبوت ـ مع ما لها من أرجل طويلة ـ هو محل استراحتها ، وشرك لاصطياد الحشرات والحصول على الغذاء إلّا أن هذا البيت ـ بالقياس إلى البيوت الأخرى للحيوانات والحشرات ـ في منتهى الوهن والانهيار!.

فمن يعتمد على غير الله ويتخذ من دونه وليا ، فقد اعتمد على بيت العنكبوت!!.

والذين اختاروا سوى الله ، اعتمدوا على بيوت العناكب ، كعرش فرعون وتاجه ، والأموال المتراكمة عند قارون ، وقصور الملوك وخزائنهم ، جميع هذه

٣٩٤

الأمور المذكورة كمثل بيت العنكبوت!.

فهي لا تدوم ، ولا يمكن الاعتماد عليها ، ولا أساس لها حتى تكون راسخة أمام طوفان الحوادث.

والتاريخ يدل على أنّه لا يمكن الاعتماد على أيّ من هذه الأمور حقّا.

أمّا الذين اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه ، فقد اعتمدوا على سدّ حصين منيع.

والجدير بالذكر ، أنّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل ، هو نفسه من عجائب الخلق ، والتدقيق فيه يعرف الإنسان على عظمة الخالق أكثر. ، فخيوط العنكبوت «مصنوعة» ومنسوجة من مائع لزج ، هذا المائع مستقر في حفر دقيقة وصغيرة كرأس الإبرة تحت بطن العنكبوت ، ولهذا المائع خصوصية أو تركيب خاص هو أنّه متى ما لامس الهواء جهد وتصلّب.

والعنكبوت تخرج هذا المائع بواسطة آليات خاصة وتصنع خيوطها منه.

يقال : إن كلّ عنكبوت يمكن لها أن تصنع من هذا المائع القليل جدّا ما مقداره خمسمائة متر من خيطها المفتول!.

وقال بعضهم : إنّ الوهن في هذه الخيوط منشؤه دقتها القصوى ، ولولا هذه الدقة فإنها أقوى من الفولاذ «لو قدر أن تفتل بحجم الخيط الفولاذي».

العجيب أنّ هذه الخيط تنسج أحيانا من أربع جدائل كل جديلة هي أيضا منسوجة أو مصنوعة من ألف جديلة! وكل جديلة تخرج من ثقب صغير جدّا في بدن العنكبوت ، ففكروا الآن في هذه الخيوط التي تتكون منها هذه الجديلة كم هي ناعمة ودقيقة وظريفة؟!

وإضافة إلى العجائب الكامنة في بناء بيت العنكبوت ونسجه ، فإنّ شكل بنائه وهندسته طريف أيضا ، فلو دققنا النظر في بيوت العنكبوت لرأينا منظرا طريفا مثل الشمس وأشعتها مستقرة على قواعد هذا «البناء النسيجي» ، وبالطبع فإن هذا البيت مناسب للعنكبوت وكاف ، ولكنّه في المجموع لا يمكن تصور بيت

٣٩٥

أوهن منه ، وهكذا بالنسبة إلى آلهة الضالين ومعبوديهم ، إذ تركوا عبادة الله والتجأوا إلى الأصنام والأحجار والأوثان!!.

ومع الالتفات إلى أن العناكب ليست نوعا واحدا ، بل ـ كما يدعي بعض العلماء ـ عرف منها حتى الآن عشرون ألف نوع ، وكل نوع له خصوصياته التي تبين عظمة الخالق وقدرته في خلق هذا الموجود الصغير بوضوح وجلاء.

التعبير بـ «الأولياء» جمع ولي مكان التعبير بالأصنام ، ربّما كان إشارة ضمنية إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّه ليس الحكم مختصا بالأصنام والآلهة المزعومة ، بل حتى الأئمة والقادة الارضيين مشمولون بهذا الحكم أيضا.

وجملة( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) تتعلق بالأصنام والمعبودين من دون الله ولا ترتبط بوهن بيت العنكبوت لأنّ وهن بيت العنكبوت معلوم عند الجميع ، فعلى هذا يكون مفهوم الجملة كالتالي : لو كانوا يعلمون وهن المعبودين من دون الله وما ركنوا إليه من دونه واختاروه ، لعلموا أنّهم في الوهن والضعف كما هي الحال في بيت العنكبوت من الوهن!.

أمّا الآية التالية ففيها تهديد لهؤلاء المشركين الغفلة الجهلة إذ تقول :( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ! ) ولا يخفى على الله شركهم الظاهر ولا شركهم الخفي( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) على الإطلاق!

وإذا أمهلهم ، فليس بسبب العجز والضعف ، أو عدم العلم ، أو أن قدرته محدودة ، بل كل ذلك من حكمته التي توجب أن يمنحوا الفرصة الكافية لتتم الحجة البالغة لله عليهم ، فيهتدي من هو جدير بالهدى!.

قال بعض المفسّرين : إن هذه الجملة إشارة إلى حجج المشركين وإلى ادّعائهم أنّهم في عبادتهم للأصنام لا يريدون بها الأصنام ذاتها ، بل إنّ الأصنام عندهم مطهر ورمز للنجوم السماوية والأنبياء والملائكة ، فهم ـ كما يزعمون ـ يسجدون لأولئك لا للأصنام وخيرهم وشرهم ونفعهم وضررهم بيدها أيضا.

٣٩٦

فالقرآن يبيّن أن الله يعلم الأشياء التي تدعونها ـ كائنا من كان ، وأي شيء كان ـ فكل أولئك المعبودين إزاء قدرته كمثل بيت العنكبوت ، ولا يملكون لأنفسهم شيئا كي يعطوه لكم. ،

والآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ لعلها تشير إلى ما استشكله أعداء الإسلام على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الأمثلة التي ضربها الله ، وكانوا يقولون : الله الذي خلق السماوات والأرض كيف يضرب الأمثال بالعنكبوت والذباب والحشرات وما شاكلها؟

فيردّ القرآن بقوله :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) .

إنّ أهميّة المثال وظرافته لا تكمن في كبره وصغره ، بل تظهر أهميته في انطباق المثال على المقصود ، فقد يكون صغر الشيء الممثل به أكبر نقطة في قوته.

قالوا في ضرب الأمثال : ينبغي عند الكلام عن الأشياء الضعيفة والتي فيها وهن أن يمثل لها في ما لو اعتمد عليها ببيت العنكبوت ، فهو أحسن شيء ينتخب لهذا الوهن وعدم الثبات ، فهذا المثال هو الفصاحة بعينها والبلاغة ذاتها ، ولذا قيل : إنّه لا يعلم دقائق أمثلة القرآن ولا يدركها إلّا العلماء!.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يضيف القرآن الكريم :( خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) . ليس في عمل الله باطل أو عبث فإذا التشبيه بالعنكبوت وبيته الخاوي هو أمر محسوب بدقّة. وإذا ما اختار موجودا صغيرا للتمثيل به فهو لبيان الحقّ ، وإلّا فهو خالق أعظم المجرّات والمنظومات الشمسيّة وغيرها.

ومن الطريف ـ هنا ـ أن نهاية هذه الآيات تنتهي بالعلم والإيمان ، ففي مكان يقول القرآن :( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) وفي مكان آخر يقول :( وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) وفي الآية التي نحن في صددها يقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

٣٩٧

وهي إشارة إلى أن وجه الحق مشرق جلي دائما ولكنّه يثمر في الموارد المستعدة في قلب مطّلع باحث ، وعقل يقظ مذعن للحق وإذا كان هؤلاء الذين عميت قلوبهم لا يرون جمال الحق ، فليس ذلك لخفائه ، بل لعماهم! وضلالهم!.

* * *

٣٩٨

الآية

( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) )

التّفسير

إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر :

بعد الفراغ من بيان أقسام مختلفة من قصص الأمم السابقة وأنبيائهم العظام وما عاملهم به قومهم من معاملة سيئة مذمومة ، وبيان نهاية هؤلاء الظالمين الاليمة ، يتوجه الخطاب ـ على سبيل تسلية الخاطر ، وتقوية الروحية ، وإراءة الخط الكلّي أو الخطوط العامة ـ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويأمره بما ينبغي عليه أن يفعل.

فيبدأ أوّلا بقوله :( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ) أي اقرأ هذه الآيات فسوف تجد فيها ما تبتغيه وتطلبه من العلم والحكمة والنصح ، ومعيار معرفة الحق من الباطل ، وسبل تنوير القلب والروح ، ومسير حركة كل طائفة ، أو مجموعة واتجاهها!.

اقرأ وامض على نهجها في حياتك ، اقرأها واستلهم منها اقرأها ونوّر قلبك بتلاوتها.

وبعد بيان هذا الأمر الذي يحمل ـ في الحقيقة ـ طابعا تعليميا ، يأتي الأمر

٣٩٩

الثّاني الذي هو محور أصيل للتربية فيقول تعالى :( وَأَقِمِ الصَّلاةَ )

ثمّ يبيّن فلسفة الصلاة الكبرى فيقول :( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١) .

طبيعة الصلاة ـ حيث أنّها تذكر بأقوى رادع للنفس ، وهو الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ـ فإنّها تردع عن الفحشاء والمنكر ، فالإنسان الذي يقف للصلاة ، ويكبّر ، يرى الله أعلى من كل شيء وأسمى من كل شيء ، ويتذكر نعمه فيحمده ويشكره ، ويثني عليه وينعته بأنّه رحمان رحيم ، ويذكر يوم الجزاء «يوم الدين» ويعترف بالعبودية له ، ويطلب منه العون ، ويستهديه الصراط المستقيم ، ويتعوذ به من طريق المغضوب عليهم ، ويلتجئ إليه (مضمون سورة الحمد).

فلا شك أنّ قلب مثل هذا الإنسان وروحه سوف تدبّ فيها حركة نحو الحقّ ، واندفاع نحو الطهارة ، ونهوض نحو التقوى.

يركع لله ويضع جبهته على الأرض ساجدا لحضرته ، ويغرق في عظمته ، وينسى أنانيته وذاتيّاته جميعا.

ويشهد بوحدانيته وبرسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويصلي ويسلم على نبيّه ، ويرفع يديه متضرعا بالدعاء ليجعله في زمرة عباده الصالحين.

جميع هذه الأمور تمنح وجوده موجا من المعنوية ، وتكون سدا منيعا بوجه الذنوب.

ويتكرر هذا العمل عدة مرّات «ليل نهار» فحين ينهض صباحا يقف بين يدي ربّه وخالقه ليناجيه

__________________

(١) بيّنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الآية (٩٠) من سورة النحل في عبارة موجزة ، وقلنا : إنّه يمكن التفريق بينهما بأن الفحشاء هي إشارة للذنوب الكبيرة الخفية ، وأمّا المنكر فهو الذنوب الكبيرة الظاهرة ، أو أن الفحشاء هي الذنوب التي تنتج بغلبة القوى الشهوانية ، والمنكر من أثر القوى الغضبية.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607