• البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23504 / تحميل: 4281
الحجم الحجم الحجم

على الحكومة الآق قويونليه التركمانية في العراق ، فخضعت بغداد لحكمه في أواخر سنة ١٥٠٨م - ٩١٤ ه على يد القائد حسين بك لاله. وإنّ دخول العراق في حوزة العرش الشيعي الجديد بالشاه مسرعاً لزيارة العتبات المقدّسة(*) ؛ إذ لم تكد تستقر جنوده في بغداد حتّى قدم لزيارة الأضرحة المقدّسة في كربلاء والنجف(١) .

وفي سنة ٩٤١ ه / ١٥٣٤ م تمّ فتح العراق على يد السلطان سليمان القانوني الذي احتل بغداد في ١٨ جمادى الأولى سنة ٩٤١ ه ، وزار مرقد الإمامين الهمامين الجوادين (عليهما‌السلام ) في ظاهر بغداد ، ثمّ قصد زيارة المشهدين المعظّمين أمير المؤمنين وأبي عبد الله الحسين (عليهما‌السلام ) واستمدّ من أرواحهما(٢) .

وكانت زيارته لكربلاء في ٢٨ جمادي الأولى من السنة المذكورة ، وأمر بشقّ نهر كبير من الفرات وأوصله إلى كربلاء وجعلها كالفردوس ، الأمر الذي زاد في محصولاتها وأثمار أشجارها ، وأنعم على الخدمة والسكان كما وأنعم على ساكني دار السّلام...(٣) .

كما زار الحائر الشاه عباس الكبير حفيد الشاه إسماعيل الصفوي وذلك في سنة ( ١٠٣٢ ه / ١٦٢٣ م ) ، ويؤيد ذلك صاحب كتاب ( عالم آراي عباسي ) كما في قوله: « بعدما قضى الشاه عباس زيارة الحسين (عليه‌السلام ) توجّه عن طريق الحلّة إلى النجف للثم عتبة الحرم الحيدري »(٤) .

____________________

(*) لا يخفى ما في العبارة من إرباك , وأكبر الظن أنّ هناك سقطاً وقع أثناء النسخ أفقدها وحدة السياق والمعنى. (موقع معهد الإمامين الحسنين)

(١) أربعة قرون من تاريخ العراق - للمستر لونكريك , ترجمة الاُستاذ جعفر خياط / ٢٠ ، وانظر تاريخ العراق بين احتلالين ٣ / ٣١٦ ، والتاريخ الحديث - لوزارة المعارف / ١٠ , طبع بغداد ١٩٤٦ م.

(٢) تحفة العالم - للسيد جعفر بحر العلوم ١ / ٢٦٥.

(٣) كلشن خلفا / ٢٠٠ - ٢٠١ ، وانظر تاريخ العراق بين احتلالين ٤ / ٢٩ ، وموسوعة العتبات المقدّسة - قسم كربلاء ١ / ١١١.

(٤) عالم آراي عباسي - لاسكندر منشي ٣ / ٧٠٧ ، وانظر أربعة قرون من تاريخ العراق - لونكربك / ٦٢.

٨١

وفي بداية سنة ١٠٨٨ ه توجّه الوالي قبلان مصطفى باشا إلى زيارة العتبات المقدّسة في كربلاء والنجف الأشرف , وذلك في شهر شعبان ، وأنعم على الخدم ثمّ عاد إلى بغداد ، وعند عودته ورد أمر عزله(١) , ثمّ زار الحائر السلطان حسن باشا سنة ١١١٧ ه - ١٧٠٥ م.

يروي لنا ابن السويدي في كتابة ( تاريخ بغداد ) عن وصف زيارة السلطان المذكور بقوله: وفي شوال من هذه السنة رفع اللواء بالمسير إلى كربلاء لزيارة سيد الشهداء ، وإمام الصلحاء قرّة عين أهل السنة ، وسيّد شباب أهل الجنّة أبي عبد الله (رضي‌الله‌عنه ) ، وإلى زيارة الليث الجسور ، والشجاع الغيور ، قاطع الأنفاس من ضال كالخناس أبي الفضل العباس ؛ فدخل كربلاء وزار أصحاب الكساء ، وأطلعت المباخر ، وظهرت المفاخر ؛ فأجزل على خدّامها ، وأجمل في فقرائها ، ودعا بحصول المراد ، وزوال الأنكاد ، ودعا له بما يروم ، وأنجح في سعيه بالقدوم ، وبقي يوماً واحداً لضيق القصبة بأحزابه وأعوانه وأصحابه ، ثمّ ارتحل قاصداً أرض الغري(٢) .

وممّن زار كربلاء أيضاً السلطان نادر شاه الأفشاري ؛ فإنّه توجّه نحو العراق عن طريق خانقين إلى بغداد سنة ١١٥٦ ه ، ومنها إلى الحلّة ، ثمّ منها إلى النجف , دخلها يوم الأحد في الحادي والعشرين من شوال ، وارتحل عنها يوم الجمعة ، ودخل كربلاء يوم السبت , وأقام فيها خمسة أيام هو ووزراؤه وعساكره وأرباب دولته ومعه نديمه مرزا زكي(٣) .

وزار الحائر السلطان ناصر الدين شاه القاجاري حفيد فتح علي شاه وذلك في سنة ١٢٨٧ ه ، , فقيل عن لسانه في تاريخ زيارته: ( تشرّفنا بالزيارة ) ، وقد دوّن

____________________

(١) كلشن خلفا / ٢٨٢ ، وانظر تاريخ العراق بين احتلالين ٥ / ١١٣ ، وموسوعة العتبات المقدّسة - قسم كربلاء ١ / ١١٩.

(٢) تاريخ بغداد - لابن السويدي / ٢٥.

(٣) ماضي النجف وحاضرها - للشيخ جعفر محبوبة ١ / ٢٢٢ - ٢٢٣.

٨٢

ما أسعفته الذاكرة في رحلته المطبوعة بالفارسية باسم ( سفرنامه ناصري ).

ويُقال: إنّ معتمد الملك هو الذي كتب وصنّف هذه الرحلة عن لسان السلطان المذكور. جاء في ( المنتظم الناصري ) وصف زيارته للحائر قوله: في سنة ١٢٨٧ ه في شهر رمضان في الثالث عشر منه ورد السلطان ناصر الدين شاه زائراً النجف ، وخرج يوم العشرين منه عائداً إلى كربلاء ، وأنعم على المجاورين للروضة المطهّرة ، وقدّم لأعتاب تلك الحضرة المقدّسة فصَّ ألماسٍ مكتوباً عليه سورة المـُلك على يد متولّي الحضرة الشريفة ( انتهى )(١) .

ومن جملة الإصلاحات التي اُنجزت في عهده توسيع صحن الحسين (عليه‌السلام ) من جهة الغرب ، وتشييد الجامع الناصري العظيم فوق الرأس ، إضافة إلى تذهيب القبّة السامية كما يستدلّ من كُتيبة القسم الأسفل من القبّة ، وقد نُقشت بماء الذهب.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه صاحب كتاب ( تحفة العالم ) بقوله: في سنة ١٢٧٦ ه جاء الشيخ عبد الحسين الطهراني إلى كربلاء بأمر السلطان ناصر الدين شاه القاجاري ، وجدّد تذهيب القبّة الحسينيّة وبناء الصحن الشريف ، وبناء الإيوانات بالكاشي الملوّن ، وتوسعة الصحن من جانب فوق الرأس المطهّر ، ولمـّا فرغ من ذلك مرض في الكاظميين , وتوفي سنة ١٢٨٦ه , ونقل إلى كربلاء(٢) .

ويروى أنّه لدى وصول السلطان ناصر الدين شاه لكربلاء كان في استقباله داخل الحضرة الحسينيّة المرحوم السيد محمّد علي ابن السيد عبد الوهاب آل طعمة - رئيس بلدية كربلاء آنذاك - فاحتفى به وأنشده هذين البيتين بالفارسية:

قبهء سبط نبي در ارض ني(٣)

بـرتوش بـرقبها افكنده في

كفتهء شهزادهء اقليم ري

جون بنات النعش بردور جدي

____________________

(١) المنتظم الناصري - ناصر الدين شاه ٣ / ٣١٥.

(٢) تحفة العالم - مير عبد اللطيف الشوشتري / ٣٠٨ , طبع الهند.

(٣) مختصر كلمة ( نينوى ) , وهي من أسماء كربلاء. انظر الفصل الأول من هذا الكتاب.

٨٣

وعند ذاك منحه السلطان المذكور وساماً فضّيّاً مزيناً بشعار الحكومة الإيرانيّة(١) .

وممّن زار الحائر الحاج حسن باشا والي بغداد ، وكانت ولايته من عام ١٣٠٨ ه - ١٣١٤ ه ، إذ جاء إلى كربلاء ثمّ تشرّف بزيارة النجف ، وكان قد زارها مراراً عديدة , كما زار الحائر أيضاً السيد محمّد خان اللكناهوري أحد سلاطين الهند ، وذلك في سنة ١٣١٠ ه , وزار الحائر في سنة ١٣٢٦ ه مير فيض محمّد خان تالبر أمير مقاطعة خير بور السند ، وهو شيخ كبير ومعه عدد من وزرائه وعساكره.

وفي ١٩ رمضان سنة ١٣٣٨ ه زار الحائر السلطان أحمد شاه ابن السلطان محمّد علي شاه القاجاري ملك إيران ، وزُيّنت المدينة تزييناً رائعاً ، وخرج الأشراف والأعيان لاستقباله.

وزار كربلاء الملك فيصل الأول بن شريف حسين ملك العراق وذلك في شوال سنة ١٣٣٩ ه - ١٩٢١ م وذلك عند توليه عرش العراق لأوّل مرّة ، واستُقبل بحفاوة بالغة من قبل أعيان البلد ووجهائه ، وزُيّنت الشوارع والطرق بالسجاجيد الثمينة , وزار كربلاء سنة ١٣٤٢ ه رضا شاه بهلوي رئيس وزراء إيران وقائد الجيش الإيراني ، فاستُقبل استقبالاً رائعاً ، ولدى عودته إلى إيران تولّى العرش , وزار الحائر الشريف الأمير عبد الله بن الحسين ملك المملكة الأردنيّة الهاشمية , وذلك في يوم الأربعاء ١٩ جمادى الأولى سنة ١٣٤٨ ه , وزار الحائر أيضاً عباس حلمي ملك مصر السابق في رمضان سنة ١٣٥١ه.

____________________

(١) مذكرات السيد مجيد السيد سلمان الوهاب آل طعمة.

٨٤

وزار الحائر ملك العراق غازي الأوّل وذلك في يوم الإثنين ٢٤ ذي الحجة سنة ١٣٥٢ ه , واستُقبل بحفاوة وتكريم عظيمين , وزار الحائر السيد علي رضا خان الرامبوري وذلك في يوم الأحد في الخامس والعشرين من رجب سنة ١٣٥٣ ه عائداً من النجف , كما جاء الحائر أيضاً السيد طاهر سيف الدين زعيم الطائفة الإسماعيلية في الهند وأفريقيا وذلك في سنة ١٣٥٨ ه.

وزار الحائر أيضاً السلطان محمّد ظاهر شاه ملك الأفغان في اليوم الخامس من جمادى الآخرة سنة ١٣٦٩ ه حيث توجّه إلى النجف , وزار الحائر ملك العراق فيصل الثاني مع خاله عبد الإله في اليوم السابع عشر من شهر جمادى الثانية سنة ١٣٦٩ ه ، كما زار الحائر زيارات متتالية أخرى.

وبعد إعلان ثورة الرابع عشر من تموز سنة ١٩٥٨ م / ١٣٧٨ ه زار كربلاء عدد كبير من رؤساء وملوك الدول الإسلاميّة , وما زالوا يزورون ؛ وذلك لقدسيتها ومكانتها العلميّة.

دروس من مأساة كربلاء

تحلّ في شهر محرّم من كلّ عام ذكرى حادثة أليمة عرفها التاريخ الإسلامي منذ أمد طويل ، ألا وهي فاجعة الطفّ التي ما زال صداها يدوّي في سمع الزمن. إنّ مأساة كربلاء أو حادثة الحسين (عليه‌السلام ) مثّلت دوراً من أسمى أدوار الإنسانيّة الفذة ، ولقّنت العالم الإسلامي دروساً لن تُنسى أبد الدهر.

فمن هذه المدينة الخالدة وجّه الإمام الحسين (عليه‌السلام ) ضربته القاضية بوجه الاُمويِّين ، وفي هذه البقعة الشريفة خاض الشهداء معركة الحقّ والكرامة ، فاُهرقت دماؤهم البريئة وروّت أرض الطفّ ، فاصطبغت بدمائهم الزكية ، وبذلوا أنفسهم

٨٥

الكريمة من أجل العزّة والسيادة ، فكانت أحسن وقع في نفس الإسلام وفي تحقيق الوحدة الإسلاميّة النبيلة.

ومَنْ يتصفح التاريخ الإسلامي يلمس تلك المنزلة والقداسة التي حلّت بهذه المدينة المقدّسة منذ مقتل أبيّ الضيم سيدنا الحسين بن علي (عليه‌السلام ) حتّى يومنا هذا.

لقد أعطى الإمام الحسين (عليه‌السلام ) لشباب العالم وشيوخ الأمم دروساً بليغة في النضال والحرية والدفاع عن شرف النفس ، فقدّم نفسه وأهل بيته وأطفاله ضحايا على رمال الصحراء وقرابين على مذبح الشرف والإباء في سبيل تقويم شرعة جدّه ، وهكذا وقف الحسين (عليه‌السلام ) موقفه الجبّار في عرصات الطفوف غير هيّاب ولا مكترث ، ولسان حاله يقول:

إنْ كان دينُ محمّد لم يستقم

إلّا بقتلي يا سيوف خذيني(١)

ويوم عاشوراء من الأيام المشهودة التي تمرّ علينا كلّ عام منذ استشهاد الحسين الخالد في العاشر من محرّم الحرام ، وما يزال ليعيد لنا ذكرى بطولة أبي الأحرار وموقفة الحازم من الطاغية يزيد بن معاوية ، ذلك الصراع الذي دار بين الحقّ والباطل ، فقد اندحر الظلم وانتصرت العدالة ؛ لأنّ الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه.

قيل: لمـّا بلغ الحسين (عليه‌السلام ) القادسية لقيه الحرّ بن يزيد الرياحي(٢) ، فقال له: أين تريد يابن رسول الله ؟

قال: (( اُريد هذا المصر )).

فعرّفه بقتل مسلم وما كان من خبره ، ثمّ قال: ارجع فإنّي لم أدع خلفي خيراً أرجوه لك. فهمّ بالرجوع ، فقال له إخوة مسلم: والله لا نرجع حتّى نُصيب بثأرنا أو نُقتل كلّنا. فقال الحسين: (( لا خير في الحياة بعدكم )).

ثمّ سار حتّى لقي خيل عبيد الله بن زياد عليها

____________________

(١) من قصيدة طويلة لشاعر كربلاء وخطيبها المرحوم الشيخ محسن أبو الحبّ المتوفّى عام ١٣٠٥ ه.

(٢) الحرّ بن يزيد الرياحي التميمي , هو الذي انضم إلى جيش الحسين (عليه‌السلام ) يوم العاشر من المحرّم بعد أن خرج من صفوف أهل الكوفة ، ووقف بين يديه نادباً تائباً ، فأذن له الحسين (عليه‌السلام ) ، وكان أوّل قتيل بين يديه ، ودُفن على بعد ٦ كيلو مترات عن كربلاء , وقبره يزار.

٨٦

عمر بن سعد بن أبي وقاص , فعدل إلى كربلاء , وهو في مقدار خمسمئة فارس من أهل بيته وأصحابه , ونحو مئة راجل ، فلمـّا كثرت العساكر على الحسين (عليه‌السلام ) أيقن أنّه لا محيص له ، فقال: (( اللّهمّ احكم بيننا وبين القوم ، دعونا لينصرونا ثمّ هم يقتلونا )). فلم يزل يُقاتل حتّى قُتل (رضوان الله عليه)(١) .

ومَنْ يتعمّق في هذه الفاجعة الرهيبة ، ويتصوّر موكب المجد السائر في طريقه نحو التضحية والشهادة ، وموقف العباس بطل العلقمي في الدفاع عن حرم الحسين ومصرعه الرهيب في كربلاء ، يستمد منها دروساً وعبراً ؛ فمن الشهداء مَنْ يتركوا الدينا لأنّهم لم يصلحوا للبقاء فيها ، ومَنْ يخرجون من نعمائها وما دعتهم قطّ للدخول في تلك النعماء.

أمّا شهيد كربلاء فقد ترك الدنيا وهي في يديه ، وتركها وهي مقبلة بنعمائها عليه ، تركها لأنّه أرادها كما ينبغي أن يرضاها ، ولم يقبل أن تريده هي على شرطها كما ترضيه ؛ فهو الشهيد ملء الشهادة من نبل وعظمة وإيثار(٢) . فحري بنا أن نتّعظ بتلك الدروس ونتقبّل تلك العبر ؛ لكي نستطيع أن نشقّ طريق الحياة بحرية واسعة ، ونبني مجداً ونعيد للأمّة الإسلاميّة مكانتها المرموقة في التاريخ.

إنّ التشاور والتآزر , ووحدة الصفوف وجمع الكلمة ، وضرب الحزازات والعمل في سبيل المصلحة العامة وغيرها من جلائل الأعمال الصالحة هي التي تمهّد لنا السبيل لتحقيق رسالة الحسين (عليه‌السلام ) وتأدية الواجب المقدّس والعمل على تمجيده وتخليده. هذا هو المغزى الصحيح لفاجعة الطفّ ، وهكذا يجب أن يعمل الإنسان من أجل الثورة على الظلم والطغيان.

____________________

(١) مروج الذهب - لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي ٣ / ٧٠ , طبع مصر.

(٢) مجلة ( الألواح ) اللبنانية - السنة الأولى - العدد ٤ ( محرّم ١٣٧٠ ) - بحث ( يوم الحسين ) - لعباس محمود العقاد.

٨٧

الفصل الثاني: كربلاء.. قبلة الأنظار

على الجانب الغربي من نهر الحسينيّة المتفرّع من نهر الفرات تقوم أخلد مدينة في التاريخ ، هي كربلاء التي يبلغ تعداد نفوسها اليوم ١١٠،٠٠٠ ألف نسمة.

وجدير بنا أن نذكر أن نهرها الجميل هو مثار للعاطفة ورواء للقلوب الضامئة ، لا سيما في أيام الربيع وليالي الصيف الحالمة ، وبمجرد أن يزحف موكب الأصيل بأعراسه وبهجته الساحرة ، تمتدّ الكراسي على ضفتيه وينتظم الشباب عليها في حلقات جميلة للتمتع بهذه الروعة الطبيعية المدهشة والجمال الخلاب ؛ حيث النسيمات الندية تهبّ مغمورة بعطر الورد والقدّاح ، وحيث يتكسّر الماء في قلب هذا النهر الجميل ، فيبدّد ظلمة الهموم وينير القلوب بوميض من الفرح ، ويتّجه هذا النهر نحو الطريق الذي يمرّ بمرقد الحرّ الرياحي مخترقاً صفوف النخيل وشجيرات الصفصاف التي تنعكس ظلالها على صفحات الماء الرقراق لتزيده روعة وسحراً.

إنّ مَنْ يسبر غور تاريخ كربلاء يحبّ ألواناً من الجهاد الوطني الذي يشع بإيمان الإخلاص.. جهاد لا يضاهيه جهاد ، وإخلاص لا يضارعه إخلاص ؛ فكربلاء قد حازت قصب السبق في الحقلين الديني والوطني ، ونالت القدح المعلّى

٨٨

في الزعامة الفراتية ، وضربت الرقم القياسي في الدفاع عن حقوقها ؛ فهي أبداً ثائرة بوجه الاستعمار ، أبداً طامحة إلى بلوغ أمانيها النبيلة ، أبداً ناشرة تعاليم منقذ الإنسانيّة الرسول الأعظم محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وقد ضمّت حضيرتها رجالاً اتصفوا بالعزم والحزم ورباطة الجأش وشدّة الشكيمة ، رجالاً اتصفوا بالنزاهة ، رجالاً أشادوا بالتفاني في سبيل المبدأ ، رجالاً لا تأخذهم في الحقّ لومة لائم. وكذا ضمّت كربلاء بيوتاً لها من الشرف نصيب وافر ، وقد فتحت أبوابها على مصراعيها للشارد والوارد ، ونوادي أدبيّة حوت أنفس الآثار الأدبيّة ، خلقت علماء لهم مكانتهم العلميّة الرفيعة ، وقد بلغت كربلاء علوّاً ورفعة وقداسة مستمدة علوّها ورفعتها وقداستها من رفعة الحسين (عليه‌السلام ) وعلوّه وقداسته ؛ فهي من أسبق المدن التي انتزعت إليها الزعامة العلميّة وعادت إليها بعد مضي قرون.

وقد وصف كربلاء عدد غير قليل من الرحالين والمستشرقين والمؤرّخين على اختلاف المراحل الزمنية ، وجاءت أقوالهم نابعة من صدق الإحساس ومن صميم الواقع.

وممّن قصد كربلاء في سنة ٧٢٦ هجرية الرحالة الشهير محمّد بن عبد الله بن محمّد بن إبراهيم بن يوسف اللواتي الطنجي المعروف بأبي عبد الله شرف الدين بن بطوطة القاضي ، فكتب عنها في رحلته قائلاً: « زرت كربلاء في أيام السلطان أبي سعيد بهادر خان بن خدابنده بعد أن تركت الكوفة في سنة ٧٢٦ه قاصداً مدينة الحسين ( كربلاء ).

وهي مدينة صغيرة تحصنها حدائق النخيل ويسقيها ماء الفرات ، والروضة المقدّسة داخلها وعليها مدرسة عظيمة وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والصادر ، وعلى باب الروضة الحجاب والقومة ( الخدمة ) لا يدخل أحد إلّا عن إذنهم فيقبّل العتبة الشريفة وهي من الفضة ، وعلى الأبواب أستار الحرير ، وأهل هذه المدينة طائفتان ؛ أولاد زحيك , وأولاد فائز ، وبينهما القتال أبداً ، وهم

٨٩

جميعاً إمامية يرجعون إلى أب واحد ؛ ولأجل فتنتهم تخرّبت هذه المدينة , ثمّ سافرنا منها إلى بغداد»(١) .

ووصف كربلاء الرحالة البرتغالي بيدرو تكسيرا الذي زارها يوم الجمعة المصادف ٢٤ أيلول ١٦٠٤ الموافق ١٠٢٤ه , فقال: نزلت في أحد الخانات العامرة التي كان بناؤها للزوار يعدّ من الأعمال الخيرية المبرورة.

ويقول تكسيرا: إنّ كربلاء - التي يُسمّيها مشهد الحسين - كانت بلدة تحتوي على أربعة آلاف بيت معظمها من البيوت الحقيرة ، وكان سكانها من العرب وبعض الإيرانيين والأتراك الذين كانوا يعينون للأشراف على المناطق المحيطة بها كذلك ، ولكن الأتراك كلّهم كانوا قد انسحبوا يومذاك إلى بغداد بسبب الحرب مع الإيرانيين , فأدّى ذلك إلى رحيل العجم عنها أيضاً ؛ لأنّهم لم يعودوا يشعرون بالطمأنينة والأمان. وقد كانت أسواقها مبنيّة بناء محكماً بالطابوق ، وملأى بالحاجات والسلع التجارية ؛ لتردد الكثيرين من الناس عليها.

وبعد أن يشير إلى وجود الروضة الحسينيّة وتوارد المسلمين لزيارتها من جميع الجهات يتطرّق إلى ذكرى السقاة الذين كانوا يسقون الماء للناس في سبيل الله , وطلباً للأجر ، أو إحياء لذكرى الإمام الشهيد (عليه‌السلام ) الذي قُتل عطشانَ في هذه البقعة من الأرض.

ويقول: إنّهم كانوا يدورون بقربهم الجلدية الملأى بالماء ، وهم يحملون بأيديهم طاسات النحاس الجميلة. ثمّ يشير إلى تيسير الأرزاق ورخصها ، وتوفّر المأكولات والحبوب بكثرة ؛ مثل الحنطة والشعير والفواكه والخضروات واللحوم ، وإلى لطف الهواء فيها , وكون الجو فيها أحسن منه في جميع الأماكن التي أتى على ذكرها من قبل.

وقد وجد في كربلاء عدداً من الآبار العامة الحاوية على الماء العذب الجيد جدّاً ، وكثيراً من الأشجار وبعض أنواع الفاكهة الاُوروبية على حدّ تعبيره. وكانت الأراضي فيها تُسقى من جدول خاص يتفرّع من الفرات الذي يبعد عن البلدة بثمانية فراسخ ، وكان هناك بالإضافة

____________________

(١) تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار - للرحالة ابن بطوطة ١ / ١٣٩ , طبع مصر.

٩٠

إلى ذلك عدد كبير من الأغنام والماشية التي شاهدها ترعى في المراعي المحيطة بالبلدة. وفي نهايتها من جهة الفرات كانت هناك بركتان كبيرتان من الماء مربعتا الشكل ، وهو يعتقد أنّهما كانتا قد أنشئتا للنزهة والتسلية ، مستدلاً على ذلك بما شاهده من إطلال بعض الأبنية والملاجئ الموقّتة من حولهما.

ولعلّ مواقع الأمكنة والمخيّمات التي كانت تنصب للزوار في مواسم الزيارات الكبيرة. وهنا يشير كذلك إلى أنّ كربلاء والنجف كانتا تخضعان يومذاك إلى المير ناصر المهنا الذي يطلق على نفسه لقب ( ملك ) ، كما يشير إلى أنّه كان تابعاً للأتراك الذين كانوا يغتصبون واردات الأراضي الممتدة في المنطقة كلّها.

ومع هذا فقد شاهد تكسيرا بنفسه الأعراب التابعين للمير ناصر يبيعون في وضح النهار خيول وملابس وأثاث وأسلحة أربعة وثلاثين تركياً من رجال الحكومة التركية في كربلاء بعد أن قتلوهم وسلبوهم ما يملكون. وهذا يدلّ بلا ريب على مقدار الفوضى التي كانت تضرب أطنابها في تلك الجهات ، وهو يعزو هذا إلى انشغال الحكومة يومذاك بالحرب مع إيران.

وممّا يذكره في هذه المناسبة أنّه وجد في الخان الذي كان ينزل فيه أربعين ( سكمانياً ) مع ضابطهم الخاص ، و( السكمانيون ) هم من الجيش المحلي التابع للحكومة ، وقد كان الناس يخشونهم ؛ لأنّهم كانوا متعوّدين على التجاوز على الناس في كلّ فرصة أو مناسبة ، وكانوا من دون وجدان أو ضبط على حدّ قوله... إلخ(١) .

وزار كربلاء الرحالة الألماني كارستن نيبور فوصلها في أواخر أيام السنة الميلادية وهو يوم ٢٧ كانون الأول ١٧٦٥ م بعد أن استغرق في قطع المسافة بينها وبين الحلّة حوالي سبع ساعات على ظهور الدواب ، ويقارن نيبور كربلاء بالنجف من حيث كثرة النخيل فيها وازدياد عدد سكانها ، لكنّه يقول: إنّ بيوتها

____________________

(١) موسوعة العتبات المقدّسة - قسم كربلاء , فصل ( كربلاء في المراجع الغربيّة ) , ترجمة جعفر الخياط / ٢٨١ - ٢٨٤.

٩١

لم تكن متينة البنيان ؛ لأنّها كانت تُبنى باللبن غير المشوي ، وكانت البلدة على ما يظهر ممّا جاء في الرحلة محاطة بأسوار من اللبن المجفف بالشمس أيضاً ، كما كانت لها في هذه الأسوار خمسة أبواب ، على أنّه وجد الأسوار متهدمة كلّها في تلك الأيام الغابرة.

ولا شك أنّ أهم ما يُلفت نظره في كربلاء الروضة الحسينيّة المطهّرة التي رسم لها رسماً تقريباً خاصاً استقى تفصيلاته من الدوران حولها والتقرّب إليها ، ومن دخوله إليها في إحدى الأمسيات لفترة وجيزة بصحبة الملا البغدادي الذي كان معه بعد أن لبس عمامة تركية مناسبة في رأسه.

والظاهر إنّه فعل ذلك في موسم أحد الأعياد والزيارات المهمّة ؛ لأنّه يقول: إنّ أطراف الحضرة والصحن كانت متنوّرة للشبابيك الكثيرة التي كانت موجودة فيها ، وقد كان ذلك يكاد يكون غريباً في هذه البلاد التي كان يقلّ فيها زجاج النوافذ يومذاك.

وممّا يأتي على ذكره في هذه المناسبة أنّ الحضرة تقوم في ساحة كبيرة تحيط بها من أطرافها الأربعة مساكن السادة والعلماء على حدّ قوله ، ولا شك أنّه يقصد بذلك ساحة الصحن الكبيرة ، وكان يوجد بين يدي الباب الكبرى شمعدان نحاسي ضخم يحمل عدداً من الأضوية على شاكلة ما كان موجوداً في مشهد الإمام علي (عليه‌السلام ).

لكنّه يقول: إنّه لم يلاحظ وجود الكثير من الذهب في الروضة الحسينيّة يومذاك ، ولا سيما عندما يقارن ضريح الإمام الحسين (عليه‌السلام ) بضريح الإمام علي (عليه‌السلام ) في هذا الشأن. ويذكر نيبور أيضاً أنّ العباس بن علي (عليه‌السلام ) قد شيّد له جامع كبير كذلك ؛ تقديراً لبطولته التي أبداها في يوم عاشوراء ، وتضحيته بنفسه من أجل أخيه.

وهنا يروي قصة العباس المعروفة في الوقعة التي قطعت فيها يداه الكريمتان حينما اخترق حصار الأعداء الأخسّاء لمعسكر الإمام الحسين (عليه‌السلام ) , وذهب ليأتي بالماء إليه وإلى الأطفال والنساء.

ويشير أيضاً إلى وجود مزار خاص خارج البلدة في أوّل الطريق المؤدّي إلى النجف ، ويقول: إنّه شيّد في الموضع الذي سقط فيه جواد

٩٢

الحسين بركبه الشهيد... إلخ(١) .

وممّا يزيد من مناظر كربلاء وجنانها روعة وابتهاجاً هو ( نهر الحسينيّة ) الذي يخترق بساتين كربلاء , مبتدئ بشمال المدينة , ومنتهياً ببحيرة ( أبي دبس ) حيث يصبّ فيها من جهة الغرب ، وكان يُعرف الفرع الرئيس هذا باسم نهر الحيدري أو الخصيبة ، ويسير باتجاه الشمال الغربي من المدينة لإرواء بساتينها.

غير أنّ كربلاء كانت تعاني أحياناً الجفاف والظمأ ، فقد ينقطع عنها الماء طيلة أربعة أشهر ، وكانت معظم بساتين كربلاء قد حفرت فيها الآبار المبنية بالآجر ، فاستخدم الفلاح الكربلائي ( الكرد ) لسحب الماء من تلك الآبار وسقي البساتين والمزارع(٢) .

وقد وصف كربلاء في مفتتح هذا القرن ( عمانوئيل فتح الله عمانوئيل مضبوط ) حيث زارها سنة ١٣٢٩ ه ١٩١١م ، ونحن ننقل الوصف بكامله لأهميته ، فقال: « قد سرّنا منظر ( كربلاء ) أعظم السرور لا سيما ( كربلاء الجديدة ) أو شهرنو ؛ فإنّ طرقها منارة كلّها , تنيرها القناديل والمصابيح ذات الزيت الحجري.

والقادم من بغداد إذا كان لم يتعوّد مشاهدة الطرق الواسعة والجادات العريضة ، أو إذا كان لم يخرج من مدينته الزوراء ويدهشني أعظم الدهش عند رؤيته لأوّل مرّة هذه الشوارع الفسيحة التي تجري فيها الرياح والأهوية جرياً مطلقاً ، لا حائل يحول دونها , كالتعاريج التي ترى في أزقة بغداد ، وأغلب مدن بلادنا العثمانيّة.

وعند دخولنا المدينة نزلنا على أحد تجار المدينة وهو السيد صالح السيد مهدي(٣) الذي كان قد أعدّ لنا منزلاً نقيم فيه ، فأقمنا

____________________

(١) موسوعة العتبات المقدّسة - قسم كربلاء , فصل (كربلاء في المراجع الغربيّة) , ترجمة جعفر الخياط / ٢٨٦ - ٢٨٨.

(٢) مذكرات السيد مجيد السيد سلمان الوهاب آل طعمة.

(٣) يغلب على الظن أنّ السيد صالح هو ابن السيد مهدي البلور فروش من تجّار المدينة ، والسيد أحمد هو ابن السيد حسن ابن السيد مرتضى آل طعمة.

٩٣

فيه نهاراً وليلتين.

وفي الليلة الأولى خرجنا لمشارفة ما في المدينة مع السيد أحمد , وأخذنا نطوف ونجول في الطرق ؛ فمررنا على عدّة قهوات حسنة الترتيب والتنسيق ، ورأينا فيها جوامع فيحاء ، ومساجد حسناء ، وتكايا بديعة البناء ، وفنادق تأوي عدداً عديداً من الغرباء ، وقصوراً شاهقة ، ودوراً قوراء ، وأنهاراً جارية ، ورياضاً غناء ، وأشجاراً غبياء.

والخلاصة: وجدنا كربلاء من اُمّهات مدن ديار العراق ؛ إذ إنّ بعض الصنّاع يفوقون مهرة صنّاع بغداد بكثير ، لا سيما في الوشي والتطريز ، والنقش والحفر على المعادن والتصوير ، وحسن الخط والصياغة ، والترصيع وتلبيس الخشب ، خشباً أثمن وأنفس على أشكال ورسوم بديعة عربية وهندية وفارسية , وهندسية.

ولمـّا كان الغد وكان يوم السبت رأينا ما لم نره في الليل فسبقنا وصفه ، وكنّا نقف عند التجار زملائنا وحرفائنا ومعاميلنا الذين نتعاطى معهم بالبيع والشراء ، وفي خارج المدينة نهر اسمه ( الحسينيّة ) ( بالتصغير ) , وماؤه عذب فرات ، ومنه يشرب السكان , إلّا أنّ ماءه ينضب في القيظ ، فتخرج الصدور وتضيق النفوس ويغلو ثمن الماء ، فيضطر أغلبهم إلى حفر الآبار وشرب مياهها ، وهي دون ماء الحسينيّة عذوبة ؛ فتتولد الأمراض ، وتفشو بينهم فشواً ذريعاً ، كالحميات والأدواء الوافدة ، والأمل أنّ الحكومة تسعى في حفر النهر وحفظ مياهه طول السنة.

في كربلاء مستشفى عسكري , ودار حكومة ( سراي ) ، وثكنة للجند , وصيدلية , وحمامات كثيرة ، ودار برق وبريد , وبلدية , وقيسريات عديدة. وفيها قنصلية إنكليزية , والوكيل مسلم , وأغلب رعية الإنكليز من الهنود.

وفيها أيضاً قنصل روسي وهو مسلم أيضاً من كوه قاف ( قوقاسي ) ، وهيئة كربلاء الجديدة ترتقي إلى مدحت باشا الشهيرة , ويبلغ عدد سكّانها ١٠٥٠٠٠ نسمة , منها ٢٥ ألفاً من العثمانيين و٦٠ ألفاً من الإيرانيين وبعض الأجانب المختلفي العناصر و ٢٠ ألفاً من الزوار الغرباء الوافدين إليها من الديار البعيدة ، وليس فيها نصارى لكن فيها عدد من اليهود.

أمّا هواء كربلاء فمعتدل في الشتاء ، ورديء في الصيف ؛ لرطوبته ,

٩٤

أمّا في سائر أيام السنة فيشبه هواء سائر مدن العراق بدون فرق يعتدّ به , والذي يجلب المسلمين إلى كربلاء هو زيارة قبر الحسين (عليه‌السلام ) ابن بنت رسول المسلمين (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وقبور جماعة من شهداء آل البيت (عليهم‌السلام ).

والحسين (عليه‌السلام ) مدفون في جامع فاخر حسن البناء , فيه ثلاث مآذن وقبّتان , كلّها مبنية بالآجر والقاشاني ، ومغشّاة بصفيحة من الذهب الإبريز ، وهناك أيضاً ساعتان كبيرتان دقاقتان , وكلّ ساعة مبنية على برج شاهق. وفي كربلاء جامع آخر لا يقلّ عن السابق حسناً في البناء , وهو جامع العباس (عليه‌السلام ) ، وفيه أيضاً مئذنتان وقبّتان وساعتان كبيرتان على الصورة المتقدّم ذكرها ووصفها.

وفي هذه المدينة قسم قديم البناء والطرز , ضيق الأزقّة والشوارع والأسواق , إلّا أنّ ما يباع في تلك الأسواق بديع الصنع ، وأغلب بضائعها تشاكل بضائع بلاد فارس ، لا سيما يشاهد المناظر كثيراً من الطوس من كبيرة وصغيرة من النحاس الأصفر ( الصفر ).

وهناك سلعة لا تراها تباع في غير كربلاء , وهي الترب ( جمع تربة وزان غرفة ) ، وهي عبارة عن قطعة من الفخار أخذ ترابها من أرض كربلاء ، وجبلت على صورة مستديرة أو مربعة أو مستطيلة أو نحو ذلك , يتخذها الشيعة وقت الصلاة فيجعلونها في جهة القبلة ويصلّون متّجهين نحوها.

وممّا يكثر في أسواقها أنواع الأحذية المختلفة الشكل , الفارسية الطرز ، وترى في الحوانيت الزعفران الفاخر الخالص من كلّ شائبة وغش ممّا لا تجد مثله في بغداد.

ولغة أغلب أهل كربلاء الفارسية ؛ لكثرة العجم فيها ، إلّا أنّ الكثيرين منهم تعلّموا العربية ويحسنون التكلّم بها.

ويقسم لواء كربلاء إلى ثلاثة أقضية ؛ وهي مركز قضاء كربلاء والهنديّة والنجف ، والى سبع نواح , وهي: ثلاث منها في مركز القضاء , وأسماؤها: المسيّب والرحالية وشفاثة ، وواحد في الهنديّة , وهي الكفل ، وثلاث في النجف , وهي: الكوفة والرحبة والناجية.

ولمـّا كان نهار الأحد ٤ نيسان نهضنا صباحاً وفطرنا , ثمّ ركبنا العجلات وبرحنا كربلاء في نحو الساعة العاشرة(١) .

____________________

(١) مجلة ( لغة العرب ) ٤ / ١٥٦ - ١٦٠ , رجب ١٣٢٩ شوال - ١٩١١ م.

٩٥

وقد وصف كربلاء المؤرّخ العراقي المعاصر السيد عبد الرزاق الحسني في كتابه ( موجز تاريخ البلدان العراقية ) ، فقال ما هذا نصّه: « أمّا كربلاء اليوم فتبعد عن بغداد ٧٤ ميلاً ، وتربطها بها سكة حديد ثابتة. وهي مدينة واسعة جالسة على ضفة ترعة ( الحسينيّة ) اليسرى ، يحيط بها شجر النخيل الوارف ، وتحفّها البساتين المحتوية على أشجار الفواكه الباسقة المختلفة الصنوف ، وهي إلى ذلك ذات جادّات واسعة ، ومؤسسات فخمة ، وأسواق منظّمة ، ومبان عامرة ، ورياض وغياض كثيرة.

وتقسم كربلاء من حيث العمران إلى قسمين ؛ يسمّى الأول ( كربلاء القديمة ) , وهو الذي أقيم على أنقاض كربلاء العريقة في القدم والشهيرة في التاريخ ، ويدعى الثاني ( كربلاء الجديدة ) , وهو الذي خطّط في عهد ولاية المصلح الكبير مدحت باشا في عام ١٢٨٥ ه ( ١٨٦٨ م ) ، وبني بعد عام ١٣٠٠ للهجرة على طراز يختلف عن الطراز القديم ، إلّا أنّه تهدّم معظمه - مع الأسف - ؛ حيث اُقيم على أرض سبخة تنزّ فيها المياه فتأكل اُسس الجدران ؛ ولهذا السبب يحيط بكربلاء اليوم مستنقع كبير هو علّة وجود أمراض مزمنة في هذه المدينة تجعل وجوه الأهلين صفر الوجوه ، هزيلي الأجسام ، معرّضين للأمراض المختلفة(١) .

كما وصف كربلاء أيضاً الاُستاذ رزوق عيسى ، فقال: كربلاء وهي أحد المدن المقدّسة عند الشيعة ، وفيها مرقد الحسين ، وموقعها على ضفة نهر الحسينيّة اليسرى يحيط بها من جهة الشمال والغرب ، وتكتنفها المزارع والبساتين والرياض من الشمال والشرق والجنوب ، وهي واقعة إلى الجنوب والجنوب الغربي من بغداد , تبعد عنها ٨٠ كيلو متراً ، أو نحو ٣٥ ميلاً , وتبعد عن الحلّة ٢٥ ميلاً ، وهي قائمة إلى الغرب والشمال الغربي منها.

وفي كربلاء بلدتان: الواحدة قديمة والاُخرى جديدة ؛ فالأولى إلى الشمال , ويحيط بها سور من الشرق والشمال والغرب , ومفتوحة من جهة الجنوب , حيث ترى البلدة الجديدة وهي متّسعة البناء ، وفيها جادة واسعة عريضة آخذة

____________________

(١) موجز تاريخ البلدان العربية - للسيد عبد الرراق الحسني / ٦٣ - ٦٤.

٩٦

إلى الشمال والجنوب ، وعلى مسافة ميل من جنوب البلدة الجديدة منزل واسع للزوّار.

وأمّا البلدة العتيقة فطرقها معوجّة ، ودورها متجمعة ، وارتفاع سورها يتراوح بين ٢٠ و٣٠ قدماً ، وهو مبني بالآجر وفي أعلاه أبراج ، وموقع المدينة مستو إلّا أنّ الجهة الشماليّة الغربيّة أعلى من سائر الجهات(١) .

ولعلّ أروع وصف لجمال الطبيعة في كربلاء ما دبجه يراع الاُستاذ عبد الرزاق الظاهر ؛ حيث يصف لنا نهر الحسينيّة ويتأمّل جماله الفتّان ، وسحره الأخاذ ، وهو ينساب بين البساتين الغنّاء والسهول الخضراء ، فاهتزت خلجات نفسه لهذه المناظر الطبيعية الخلابة ، وصورها الحالمة ، وجاشت قريحته بهذه العبارات البليغة الزاخرة بالعواطف الملتهبة ، والمشاعر المتدفقة التي تنمّ عن حبّه العميق لمدينة كربلاء العربية الخالدة.

فهو يقول: وفي كربلاء صورة بديعة للملكية الصغيرة ، وما ينتج من تطبيقها من الحسنات والمنافع ؛ فالبساتين المنثورة على ضفتي نهر الحسينيّة وعلى فروعه تذكّرني بغوطة دمشق وجناتها ومياهها ، والداخل إلى تلك الجنائن يشعر بالراحة والانتعاش ، وتحمل إليه الأرواح العذبة التي تهبّ من جنبات الأشجار والنخيل ، ومن أريجها وعبقها أطيب العطور ، وتقع العين على المنظر البهيج والثمر الشهي يتدلى بقدرة القادر فتطيب له النفس.

ولقد كنّا صغاراً في أوائل مراحل الصبا نخرج في مواسم الزيارة ونذهب إلى طرف مدينة كربلاء ؛ فنركب الحمير السريعة العدو ونحن فرحون مرحون ، ونتّجه إلى مسجد الحرّ الرياحي ومقبرته ، فنقطع الطريق من النخل والشجر والزرع , والماء تماسك أوّله بآخره ، وهذه الرياض والبساتين لا تمتاز بالجمال فحسب وإنّما تمتاز بالخير الوفير والبركة ، وينتفع مالكوها من ثمراتها أضعاف ما ينتفع به المالكون للمئات من الدونمات المهجورة والتي تستغل لزراعة الحبوب ، ولجعلها مراعي للمواشي في أماكن اُخرى(٢) .

____________________

(١) جغرافية العراق - رزوق عيسى / ١١٩.

(٢) الإقطاع والديوان في العراق - عبد الرزاق الظاهر / ٦١.

٩٧

ويصف أبو طالب خان رحلته إلى كربلاء ، فيقول: وباليوم الرابع من ذي القعدة سنة ١٢١٨ ه الموافق اليوم الأول من مارس سنة ١٨٠٣ م بعد إقامتي ببغداد ثمانية أيام استأنفت سفري لزيارة مشهد كربلاء ومشهد النجف الأشرف.

وفي هذه المرّة لم اُعلم الباشا بنيّتي وخطّتي فاكتريت خفية خيلاً وبغالاً من حوذي ، وأنفقت معه على أن يرافقني في جميع الطريق ، وسافرت بلطف فائق ، ولقيت حفاوة من كلّ مَنْ لاقاني في أيّ موضع كنت من طريقي ، وابتهجت بلقيا قاضي كربلاء ( ملا عثمان ) , وكان عائداً إلى كربلاء ، وكان رجلاً سنيّاً ولكنّه كان قد تفقّه وتثقف وتعلّم علماً جليلاً ، وكان بريئاً من أوهام الأحكام التي يحكم بها الطغام قبل الاستعلام ، وظهر لي أنّه سر سروراً عظيماً بلقائي ، ورجا منّي أن أكون رفيقه في السفر.

وفي الطريق من بغداد إلى النجف رأيت بين كلّ ثمانية أميال خانات مسافرين مبنية بالآجر تشبه حصوناً ، ولكنّها يندر أن يقيم فيها المسافرون.

وفي اليوم الأول سرنا أربعين ميلاً وقضينا الليل في خان المزراقجي ، ثمّ وصلنا إلى كربلاء في نحو الساعة الثالثة من اليوم الثاني ، ونزلت في دار السيد حمزة ، وكنت عرفت ابن أخيه في مقصود آباد في البنغال ، وكنت أرجي أن أراه ثانية بكربلاء ولكنّه توفي قبل وصولي إليها بعدّة أشهر ، ومع ذلك استقبلني أبواه استقبالاً حسناً ، وأعاناني على إتمام مختلف مناسك الزيارة.

وتلقّاني حاكم كربلاء أمين آقا بكثير من الأدب ، ودعاني مرّتين إلى التغذي معه ، وأعدّ لي فيلاً لأسافر إلى النجف ، ورغب في دفع كرائها ، ولمـّا كان ذلك يحرمني ثواب الزيارة لم أقبل قطّ هذا البذل(١) .

وكانت مدينة كربلاء مقسّمة إلى ثلاثة أطراف أو محلاّت ، تشكّل قصبة كربلاء قديماً ؛ يدعى الطرف الأول بمحلّة ( آل فائز ) التي تُعرف اليوم بمحلّة باب السلالمة ، والقسم الشرقي من باب الطاق وباب بغداد وبركة العباس.

أمّا الطرف

____________________

(١) رحلة أبي طالب خان إلى العراق وأوروبا / ٣٨١ , (١٧٩٩) م.

٩٨

الثاني فيُعرف بمحلّة ( آل زحيك ) , وتضمّ محلّة باب النجف وباب الخان ، ويُدعى الطرف الثالث بمحلّة ( آل عيسى ) , وتشمل القسم الغربي من باب الطاق ومحلّة المخيّم.

وقد سمّيت المحلاّت الثلاث بتلك الأسماء نسبة إلى السادة العلويِّين الذين كانوا يقطنونها منذ عدّة قرون ، وكانوا يتقاضون ضرائب على أعقارهم من العشائر التي سكنت هذه الأطراف فيما بعد كما تنصّ على ذلك الوثائق الرسمية ، والمستندات القديمة التي يحتفظ بها معظم رجالات البلد وذوي البيوتات.

وبعد أن أتمّ السيد علي الطباطبائي الشهير بصاحب الرياض بناء سور كربلاء ابتداء من سنة ١٢١٧ ه جعل له ستة أبواب ، وعُرفت كلّ باب باسم خاص ، واستبدل أسماء الأطراف بأسماء تلك الأبواب كما هي اليوم.

ولدى مجيء الوالي مدحت باشا(١) هدم قسماً من السور من جهة باب النجف ، وأضاف طرفاً آخر إلى المدينة سمّي بطرف ( العباسيّة ) , مضافاً إلى ذلك أنّ محلّة العباسيّة نفسها قسّمت إلى قسمين يُعرفان بالعباسيّة الشرقيّة والعباسيّة الغربيّة ، فأصبحت بكربلاء اليوم ثمانية أطراف ( محلاّت ) ، وهي:

١ - محلّة باب السلالمة: وسمّيت بهذا الاسم نسبة إلى العشيرة العربية المعروفة بـ ( السلالمة ) التي قطنتها ، وتقع إلى الشمال من مرقد الإمام الحسين (عليه‌السلام ).

٢ - محلّة باب بغداد: وتقع إلى الشمال من مرقد العباس (عليه‌السلام ) وهو الحي الذي يمرّه المسافرون منه إلى بغداد ، وتُعرف أيضاً بـ ( باب العلوه ) نسبة إلى وجود علوة لبيع الخضروات.

٣ - محلّة باب الطاق: وتقع إلى الجهة الشماليّة الغربيّة من المدينة ؛ وسمّيت

____________________

(١) ومن أعمال هذا الوالي في كربلاء تبديله طريق كربلاء بغداد السابق المعروف بـ ( عكد بغداد ) ، وذلك عند مجيء ناصر الدين شاه القاجاري لزيارة العتبات المقدّسة سنة ١٢٨٧ ه , وجعله من طريق كربلاء - عون ، وهو الطريق الأصلي الذي كانت تسير فيه القوافل والعربات حتّى زمن الاحتلال.

٩٩

بذلك نسبة إلى وجود طاق السيد إبراهيم الزعفراني أحد رجالات كربلاء في حادثة المناخور سنة ١٢٤١ ه.

٤ - محلّة باب الخان: وتقع إلى الجانب الشرقي من المدينة ، وسمّيت بهذا الاسم نسبة إلى وجود خان كبير كان قد أقيم بالقرب من سور المدينة.

٥ - محلّة المخيّم: تقع إلى الجنوب الغربي من المرقدين المقدّسين ، وسمّيت بذلك تيمّناً بوجود المخيّم الحسيني.

٦ - محلّة باب النجف: تقع في قلب المدينة ، وتشمل الأماكن التي تفصل المرقدين المقدّسين ، وهو الحي الذي كان يمرّ المسافرون منه إلى النجف.

٧ - محلّة العباسيّة: تقع إلى جنوب المدينة ، وقد اختطت في عهد الوالي مدحت باشا ، وتُعرف بالجديدة ، وقسّمت إلى قسمين:

العباسيّة الشرقيّة: وهي التي تقع إلى شرق شارع العباس.

العباسيّة الغربيّة: وهي التي تقع إلى غرب شارع العباس.

وفي عام ١٩٥٦ م أحدث متصرّف كربلاء حسين السعد ( حي الحسين ) ويقع جنوب كربلاء ، ثمّ أخذت المدينة تتوسّع ويزداد عدد سكانها فاستحدثت محلاّت وأحياء أخرى ، وهي كما يلي:

١ - حي المعلّمين.

٢ - حي العباس: ويقع شمال المدينة ضمن أراضي ( فدان السادة ) العائدة للسادة آل طعمة.

٣ - حي النقيب.

٤ - حي الثورة.

٥ - حي الحرّ.

٦ - حي رمضان.

٧- حي الصحة.

٨ - حي الإسكان.

٩ - حي الإصلاح الزراعي.

١٠ - القزوينية.

١٠٠