مجالس السبايا

مجالس السبايا60%

مجالس السبايا مؤلف:
المحقق: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: دواوين
الصفحات: 96

  • البداية
  • السابق
  • 96 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 17078 / تحميل: 4972
الحجم الحجم الحجم
مجالس السبايا

مجالس السبايا

مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
العربية

سلسلة المجالس الحسينية

مجالس السبايا

١

الكتاب: مجالس السبايا

نشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية

إعداد : معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني

الطبعة: الأولى، تشرين٢، ٢٠٠٩م-١٤٣٠ه

جميع حقوق الطبع محفوظة

٢

٣

٤

٥

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على رسوله محمّد وآل بيته الطيّبين الطاهرين المظلومين..

وبعد.

عن إمامنا الرضاعليه‌السلام : "إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيها من ثِقلنا، ولم تُرعَ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمةٌ في أمرنا, إنَّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلَّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء.."(١) .

وفي الزيارة المنسوبة إلى الناحية المقدّسة: "السلام على الأجساد العاريات، السلام على الجسوم الشاحبات، السلام على الدماء السائلات، السلام على الأعضاء المقطّعات، السلام على الرؤوس المشالات، السلام على النسوة البارزات"(٢) , إلى أن يقول: "وسبي أهلك كالعبيد، وصفّدوا في الحديد، فوق أقتاب المطيّات، تلفح وجوههم حرّ الهاجرات، يُساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولة إلى الأعناق، يُطاف بهم في الأسواق, فالويل للعصاة الفسّاق.."(٣) .

هذه بعض مشاهدٍ من فوادح ونوائب جرت على الكرام الأطائب من آل بيت الرسول ونساء سبطه مهجة الرسول, وأولاده وأبنائه قرّة عين الزهراء البتول, تحزن لها القلوب وتُدمى, وتسيل المدامع عليها وتُبكى, كيف لا؟ وقد بكت السماء عليه دما, وبكاه كلّ شيءٍ ما يرى ولا يُرى.

ولسنا نجازف القول إن قلنا, إنّ ما جرى بعد عاشوراء لا يقلّ فجيعة, وليس دون ما جرى في اليوم العاشر بليّةً, فقد أُبرزت فيه كرائم الوحي ومخدّرات الرسالة, وفيهم بقيّة الماضين زين العابدينعليه‌السلام وبضعُ نساءٍ وأطفال ليس لهم حامٍ ولا حميّ, يُدار بهم من بلدٍ إلى بلد, ويُساقون كما تُساق الأسارى.. فيا لله ولهذه الفاجعة الأليمة, ما أصعبها وأمضَّها وآلمها على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم , هذا. وقد أوصى بعترته وأهل بيته..

لَيسَ هَذا لِرَسولِ اللهِ

يا أُمّةَ الطُّغيانِ والبَغيِ جَزَا

____________________

١ - الصدوق: الأمالي ص ١٩٠.

٢- ابن المشهديّ: المزار ص ٤٩٨.

٣- المصدر السابق ص ٥٠٥.

٦

وغير خفيٍّ على أحد أنَّ صوت هذا الموكب وهو على تلك الحالة المحزنة المفجعة, قد أقضَّ مضاجع الطغاة, ومنع عَينَي يزيد وأعوانه الرقاد, وزلزل بنيانهم وأهوى به إلى جهنّم وبئس المهاد, فهو صوت المظلوم وصرخته, ودعاؤه وندبته. الذي ليس دونه حجاب, وتُفتح له السماء باباً بعد باب.

وإنّ من عوامل بقاء هذا الصوت المدوّي بوجه الطغاة هو التذكير به في كلّ عصر ومصر, من خلال إقامة مجالس العزاء وإثارة المشاعر بالتباكي والبكاء, تقرّباً إلى الله تعالى ومودّة للرسول وآل بيته المظلومين..

ومن هنا قام معهد سيّد الشهداءعليه‌السلام للمنبر الحسينيّ بإعداد هذا الكتاب "مجالس السبايا" ليكون عوناً للأخوة القرّاء في رثائهم ومجالسهم. في هذه المناسبة الأليمة. والتي تمتدّ منذ يوم شهادة الإمام الحسينعليه‌السلام في العاشر من المحرّم وحتى يوم الأربعين ورجوعهم إلى مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ونذكِّر في هذه المقدّمة بما يلي:

١- تناولنا العديد من المجالس والمصائب في هذا الكتاب ولكنّنا لم نستقصي كلّ ما يذكر في هذا المجال.

٢- حاولنا- قدر الإمكان- عرض المجالس التي يتداولها القرّاء عادة بعد عاشوراء, مقتصرين على أهمّها.

٣- اقتصرنا على ذكر القصائد والنعي والأبيات الشعبيّة والمصيبة مع الإشارة إلى الربط أو ما يسمى بالـ "الگوريز", دون ذكر المحاضرة اتّكالاً منّا على قدرات الأخوة القرّاء وجدارتهم.

وفي الختام, فأملنا أن يلقى هذا العمل رضا الله تعالى ورضا نبيّه وأهل بيتهعليهم‌السلام , وأن يتقبّلوه منّا بأحسن القبول, وأن يرزقنا الله شفاعتهم ويحشرنا معهم إنّه سميع مجيب.

معهد سيّد الشهداءعليه‌السلام للمنبر الحسينيّ

٧

مجلس سلب الحسينعليه‌السلام ورضّ جسده الشريف

ولقد بكيتُ لِقتلِ آلِ مُحمّدٍ

بِالطَفِّ حَتّى كُلّ عُضوٍ مَدمَعُ

عُقِرتْ بَناتُ الأعوَجيّة(١) هل دَرَتْ

مَا يُستَباحُ بِها وماذا يُصنَعُ

وَحريمُ آلِ مُحمّدٍ بين العِدَىْ

نَهَبٌ تَقَاسَمهُ اللئامُ الرُّضَّعُ(٢)

تَلك الضعائنُ كالإماءِ مَتى تُسَقْ

يُعنِّفْ بهنَّ وبالسياطِ تُقنَّعُ

مِن فَوقِ أقتابِ الجمالِ يَشلُّها

لُكَعٌ على حَنَقٍ وعبدٌ أكوعُ

مثلُ السبايا بل أذلّ يُشقُّ مِن

هُنّ الخِمارُ وَيُستباحُ البُرقُعُ

____________________

١- بنات الأعوجيّة: الخيل منسوبة إلى أعوج, وهو فحل كريم قيل: لم يكن للعرب أشهر ولا أكثر نسلاً منه.

٢- الرضّع: جمع راضع, وهم اللئام أيضاً, وأصله أنّ رجلاً كان يرتضع النّاقة والشاة بفمه حتى لا يعلم أحدٌ بأنّه حلبها, لئلّا يطلب منه الحليب لشدّة بخله ولؤمه.

٨

فَمُصفَّدٌ في قيدِهِ لا يُفتَدَى

وَكريمةٌ تُسبَى وقِرطٌ يُنزَعُ

تاللهِ لا أَنسَى الحُسينَ وَشِلوَهُ

تحْتَ السنابِكِ بالعَراءِ مُوَزّعُ

مُتَلفِّعاً حُمرَ الثيابِ وفي غَدٍ

بالخُضرِ في فردوْسِهِ يَتَلَفَّعُ

تَطأُ السَنابكُ صَدرَهُ وَجَبينَهُ

والأرضُ تَرجُفُ خِيفَةً وَتَضَعْضَعُ

والشمسُ ناشِرةَ الذوائِبِ ثاكِلٌ

والدهرُ مَشقوقُ الرِداءِ مُقنَّعُ

لَهفِي على تِلكَ الدِّماءِ تُراقُ في

أيدي أُميَّةَ عُنوةً وتُضَيَّع(١)

يحسين يومك شده بالي

وارخصت دمعي الكان غالي

لوانّك يخويه اتشوف

حالي حال الغريبه بغير والي

ابراس الرمح راسك گبالي

التمهيد للمصيبة (گوريز):

بعد شهادة الإمام الحسينعليه‌السلام ارتفعتْ في ذلك الوقت غُبرةٌ شديدةٌ سوداءُ مُظلمةٌ، فيها ريحٌ حمراءُ، لا يُرى فيه عينٌ ولا أثر،

____________________

١- القصيدة لابن أبي الحديد المعتزليّ

٩

حتىّ ظَنّ القومُ أنّ العذاب قد جاءَهم. فلبثوا كذلك ساعةً، ثمّ انجلت الغبرة عنهم.

وعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : أنّه قال: "لـمّا ضُرب الحسينُ بنُ علي بالسيف وسقَط، وابتُدِرَ ليُقطعَ رأسهُ، نادى مُنادٍ من بِطنان العرش: ألا أيّتها الأمّة المتحيّرة الضالّة بعدَ نبيّها، لا وَفّقكم الله لأضحىً ولا فطر - ثمّ قال -: لا جَرم - والله - ما وُفّقوا، ولا يوَفّقون حتى يثور ثائرُ الحسين بن عليّعليه‌السلام ".

المصيبة:

وكيف يوفّقون وقد أقبَلَ القومُ على سلبِ الحسينعليه‌السلام ، فلم يُبقوا للحسينِ شيئاً إلّا سلبوهُ, حتىّ أنّ بجدل بن سليم الكلبيّ- لعنه الله- لـمّا لم يجد شيئاً يسلبه, نظر وإذا بخاتم في خنصرِ الحسينِعليه‌السلام , كلّما عالجه ليخرجه لم يتمكّن؛ لأنّ الدماء والتراب قد جمُدت عليه, فتناول قطعة سيف إلى جانبه, وصار يحزُّ إصبعَ الحسينِعليه‌السلام إلى أن فَصَلَ الإصبعَ وأخذَ الخاتَم(١) .

كأنّي بزينبَ تخاطبُهُ:

____________________

١- والظاهر ان هذا غير الخاتم الذي أوصى به الإمامعليه‌السلام إلى ولده علي بن الحسينعليه‌السلام فجعل خاتمه في إصبعه وفوض إليه أمره كما عن الإمام الصادقعليه‌السلام .

١٠

يخايب خلي اخويه احسين ساعه

أغمضله ومد للموت باعه

ابن النبي الحلوه اطباعه

دخلّي ابراح روح احسين تظهر

وبعدَ ذلكَ نادى عمرُ بنُ سعدٍ في أصحابِهِ: مَن ينتدبُ للحسينِ, فيوطئ الخيلَ ظهرَه وصدرَه؟ فانتدب منهم عشرةً, فداسوا جَسَدَ الحسينِعليه‌السلام بحوافرِ خيلِهِم حتّى رَضُّوا ظهرَهُ وصدرَهُ, وقالوا لابن زيادٍ مفتخرين: نحنُ الذين وطأنا بخيولِنا ظهرَ الحسينِعليه‌السلام حتّى طحنّا جناجِنَ صدرِه (يعني كانت تُسمعُ أصواتَ تكسيرِ أضلاعِ أبي عبدِ اللهعليه‌السلام ).

وأختُهُ زينبُ واقفةٌ تنظرُ وتصرُخُ وتقول: يا قومُ, أَمَا فيكُم مسلمٌ يَدفُنُ هذا الغريب؟!كأنّي بها توجَّهتْ نحو أهلِها ونادَتْ:

يهلنه احسينكم رضوا اضلوعه

اوشاف الموت روعه بعد روعه

يصد لعياله اوتسكب ادموعه

يخافنها بعد عينه تيسر

ويُروى أنَّ هذا ما أبكَى الإمامَ الحجَّةَ عندما يقولُ لجدِّهِ الحسينِ في زيارةِ الناحيةِ: "وهويتَ إلى الأرضِ صَريعاً تطؤكَ الخيولُ بحوافرِهَا, وتَعلوكَ الطغاةُ ببواتِرِها" إلى أن يقول: "فلئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءً،

١١

ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك وتأسّفاً على ما دهاك وتلهّفاً، حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتياب".

أقول سيّدي يا بنَ الحسن: متى الفرجُ؟ متى ننادي؟ يا لثاراتِ الحسينِ.. "أين الطالب بدم المقتول بكربلاء".

يروى أنّه: إذا ظهر القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف قام بين الركن والمقام وينادي بنداءات خمسة: الأوّل: ألا يا أهل العالم أنا الإمام القائم، الثاني: ألا يا أهل العالم أنا الصمصام(١) المنتقم، الثالث: ألا يا أهل العالم إنّ جدّي الحسين قتلوه عطشاناً، الرابع: ألا يا أهل العالم إنّ جدّي الحسينعليه‌السلام طرحوه عرياناً، الخامس: ألا يا أهل العالم إنّ جدّي الحسينعليه‌السلام سحقوه عدواناً.

آه ينجل العسكري عيف النوم واترك

وخذ بالثار يالمذخور وترك

علاما خيول اميه ادوس وترك

صدر جدك بحرب الغاضريه

(سيّدي) ماذا يُهيجُكَ إنْ صَبَرتَ

لِوَقعةِ الطَّفِ الفَظيعَة

أترَى تَجِيءُ فَجيعَةٌ

بِأمَضَّ مِن تِلكَ الفَجِيعَة

حَيثُ الحُسينُ على الثَرى

خَيلُ العِدى طَحَنَتْ ضُلُوعَه

____________________

١- الصمصام: السيف القاطع الذي لا ينثني.

١٢

مجلس حرق الخيام وفرار بنات الرسالة

فإنْ يُمْسِ مُغْبَرَّ الجبينِ فَطَالَما

ضُحَى الحَرْبِ في وَجْهِ الكتيبةِ غَبَّرا

وإنْ يَقضِ ظمآناً تفطَّرَ قَلْبُهُ

فقد رَاعَ قَلْبَ الموتِ حتَّى تَفطَّرا

سَطا وهو أَحْمَى مَنْ يَصُونُ كريمةً

وَأَشْجَعُ من يَقتادُ للحَرْبِ عَسكرا

قَضَى بعدَ ما ردَّ السُيُوفَ على القَنا

وَمُرْهَفُهُ فيها وفي الموتِ أَثَّرا

تعثَّرَ حتىَّ ماتَ في الهامِ حَدُّهُ

وَقَائِمُهُ في كَفِّهِ ما تَعثّرا

كأنَّ أخاهُ السيفَ أعْطِيَ صَبْرَهُ

فلم يَبْرَحِ الهَيجاءَ حتّى تَكَسَّرا

لهُ اللهُ مَفطوراً من الصَّبْرِ قَلْبُهُ

ولو كانَ من صُمِّ الصَّفا لتَفطَّرا

وفي السبيِ مِمَّا يَصطفي الخِدْرُ نِسْوةٌ

يَعزُّ على فتِيانِها أنْ تُسَيَّرا

حَمَتْ خِدْرَها يَقْظَى وَوَدَّت بنومِها

تَرُدُّ عليها جَفْنَها لا على الكَرى

١٣

مَشى الدهرُ يومَ الطفِّ أعمى

فلمْ يَدَعْ عِماداً لها إِلَّا وفيهِ تَعثَّرا

وجَشَّمَها الـمَسْرَى ببيداءَ قَفْرةٍ

ولم تَدرِ قبلَ الطفِّ ما البِيدُ والسُّرى

ولم تَرَ حتَّى عينُها ظِلَّ شَخْصِها

إلى أن بَدَتْ في الغاضريةِ حُسَّرا(١)

التفت عن يسره واليمين

وانادي هلي وين الحين

انا مخدرة عباس وحسين

التمهيد للمصيبة (گوريز):

كان المنصور العباسيّ شديد العداوة لآل محمّد؛ حيث تتبّع آثارهم وقتل الكثير منهم, ووضع آخرين منهم في الاسطوانات, عندما بنى عاصمته بغداد, وأباد جمعاً كثيراً من أبناء الحسنعليه‌السلام وكان يقول: لقد هلك من أولاد فاطمةعليها‌السلام مقدار مائة وقد بقي سيّدهم وإمامهم فقيل له: من هو؟ قال: جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام .

وكان يبعث على الإمامعليه‌السلام , فيؤتى به إلى العراق وفي كلّ مرّة يهمّ بقتله, لكن الله كان يحول بينه وبين قتل الإمامعليه‌السلام , وبلغ من حقده أنّه أمر عامله على المدينة محمّد بن سليمان أن يحرق على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام دارَه, فجاء هو وجماعته

____________________

١- القصيدة للسيّد حيدر الحلّيرحمه‌الله .

١٤

بالحطب الجزل, ووضعوه على باب دار الصادقعليه‌السلام , وأضرموا فيه النّار, فلـمّا أخذت النّار ما في الدهليز(١) , تصايحن العلويات داخل الدار, وارتفعت أصواتهنّ, فخرج الإمام الصادقعليه‌السلام وعليه قميص وإزار, وفي رجليه نعلان وجعل يخمد النّار ويطفئ الحريق, حتّى قضى عليها, فلـمّا كان الغد دخل عليه بعض شيعته يسلّونه, فوجدوه حزيناً باكياً فقالوا: ممّا هذا التأثّر والبكاء, أمِن جرأة القوم عليكم أهل البيت, وليس منهم بأوّل مرّة؟ (ليست هذه هي المرّة الأولى التي تحرق فيها دوركم).

فقال الإمامعليه‌السلام : لـمّا أخذت النّار ما في الدهليز, نظرت إلى نسائي وبناتي يتراكضن في الدّار من حجرة إلى حجرة, ومن مكان إلى مكان, هذا وأنا معهنّ, فتذكّرت روعة عيال جدّي الحسينعليه‌السلام , يوم عاشوراء لـمّا هجم القوم عليهنّ والمنادي ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين.

المصيبة:

نعم؛ رُوي أنّه لـمّا صُرع الحسينعليه‌السلام تسابق القوم على نهب رحاله وسلب نسائه، وابن سعد ينادي بجيشه أحرقوا بيوت الظالمين، فأضرموا النّار في الخيام ففرّتِ النساء والأطفال على وجوههم في البيداء, وهم يلوذون بعضهم ببعض ويصرخون:

____________________

٢- الدهليز - بكس الدال- ما دخل عن باب الدار الممتد بينه وبين صحن الدار

١٥

واجدّاه وامحمّداه واأبتاه، يقول الرواة: أُحرق بالنّار من أطفال الحسين ما يقرب من عشرين طفل وطفلة يوم عاشوراء، يقول حميد بن مسلم: رأيت طفلة هاربة من الخيمة, والنّار تستعرُ بأطراف ثيابها, فلحقتُ بها واخمدتُ النّار عنه، لـمّا رأت منّي ذلك الصنع الجميل، قالت: يا شيخ أنت لنا أم علينا؟ فقلتُ لها: بُنيّة أنا لا لكم ولا عليكم، قالت: يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قلتُ: نعم، قالت:يا شيخ هل قرأت قوله تعالى﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ قلتُ: نعم قرأته، قالت: يا شيخ والله أنا يتيمة الحسين، قلت لها: بُنيّة لا تخافي إنّي لا أُريد السوء بك، بُنيّة هل من حاجة فأقضيها لك؟ قالت: يا شيخ دُلّني على جسد والدي الحسين، قال: جئتُ بها إلى الميدان، أوقفتها على مصرع أبي عبد الله، قلتُ لها: بُنيّة هذا جسد أبيك الحسين، فلـمّا رأته جثةً بلا رأس، وقعت عليه تنادي: أبه يا أبه من الذي قطع وريديك، أبه من الذي أيتمني- على صغر سني - أبه إذا أظلم الليل فمن الذي يحمي حمانا.

يبويه انروح كل احنه فداياك

أخذنه للحرب يحسين وياك

أهي غيبه يبويه واگعد أنعاك

واگولن سافر او يومين يسدر

- وفي موقف آخر- يقول حميد بن مسلم: رأيت امرأة واقفة على باب خيمة، والنّار تستعر بأطراف هذه الخيمة، ولكن هذه

١٦

المرأة تارة تدخل إلى الخيمة وتارة تخرج منه، فتقدمّتُ إليها قلتُ لها: أمَةَ الله النّار النّار ما وقوفك إلى جانب هذه الخيمة المشتعلة بالنّار؟ فالتفتت إليّ وقالت: إنّ لنا عليلاً في هذه الخيمة- تعني الإمام زين العابدينعليه‌السلام -, دخلوا عليه وهو مسجّى على نطع لا يستطيع النهوض من شدّة المرض, فجرّد الشمر سيفه ليقتله فقال له حميد بن مسلم: يا سبحان الله أتقتل هذا المريض؟ فقال الشمر: لقد أمرنا الأمير بقتل أولاد الحسين، فجاءت عمّته زينبعليها‌السلام ورمت بنفسها عليه وقالت: إن أردتم قتله فاقتلوني معه، وبينما هم كذلك إذ دخل عمر بن سعد فصحن النساء في وجهه وبكين، فقال للشمر: دعه وشأنه فلـمّا خرج عمر بن سعد سحبوا النطع من تحت الإمام زين العابدينعليه‌السلام وتركوه ملقىً على الأرض.

كانت عِيَادَتَهُ مِنهم سِياطُهُمُ

وفي كُعوبِ القَنا قَالوا البَقَاءَ لَكَا

جَرُّوهُ فانتهَبُوا النَّطَعَ الـمُعدَّ لهُ

وأوطأوا جِسمَهُ السَعدَانَ والحَسَكَا

وَالَهفَتَاهُ لِزَينِ العَابِدينَ لُقَىً

مِن طُولِ عِلَّتِه والسُّقمِ قَدْ نُهِكَا

١٧

مجلس حمل آل الرسول على النياق

بأَبي أَبيَّ الضَيمِ صَالَ وَمَا لَهُ

إِلَّا المـُثَقَّفَ والحُسَامَ نَصيرُ

زَجَّتْ له الأقدارُ سَهْمَ مَنيّةٍ

فهوى لُقىً فاندَكَّ منهُ الطُّورُ

بأبي القتيلَ وغَسْلُهُ عَلَقُ الدِّمَا

وعليهِ مِن أَرَجِ الثَّنَا كافورُ

ظمآنَ يَعْتَلِجُ الغليلُ بصَدْرِهِ

وتُبَلُّ للخَطيِّ منهُ صُدُورُ

وغَدَتْ تدوسُ الخيلُ منه أَضالعاً

سِرُّ النبيِّ بطيِّها مَستورُ

وثواكَلٌ يُشجِي الغَيُورَ حَنينُها

لو كانَ ما بينَ العِدَاةِ غَيورُ

حَرَمٌ لِأَحْمَدَ قد هُتِكْنَ سُتُورُها

فهُتِكنَ مِنْ حَرَمِ الإلهِ سُتُورُ

هَتَفَتْ غَدَاةَ الرَّوعِ باسمِ كَفيلها

وكفيلُها بثَرى الطفوفِ عَفيرُ

١٨

ما لاحَظَت عينُ الهِلاَلِ خَيَالَها

والشُّهْبُ تَخْطُفُ دونَها وتغورُ

حتَّى النسِيمُ إذا تَخَطَّى نحوَها

أَلْقَاهُ في ظِلِّ الرِّماحِ عُثُورُ

فبدا بيومِ الغاضِريَّةِ وَجْهُها

كالشمسِ يستُرُها السَّنا والنورُ

فَغَدَت تَوَدُّ لو أنَّها نُعِيَتْ ولم

يَنْظُرْ إِليها شامِتٌ وكَفورُ

ابيا حاله كَضت زينب نهرها

وابدمهم كربله يجري نهرها

الشمر يحسين من بعدك نهرها

أو خذوها اميسره لابن الدعيه

التمهيد للمصيبة (گوريز):

حدّث يحيى المازني قال: "كنت في جوار أمير المؤمنينعليه‌السلام في المدينة مدّة مديدة, وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينبعليها‌السلام ابنته, فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوت، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تخرج ليلاً, والحسنعليه‌السلام عن يمينها والحسينعليه‌السلام عن شمالها وأمير المؤمنينعليه‌السلام أمامها, فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنينعليه‌السلام فأخمد ضوء القناديل, فسأله الحسنعليه‌السلام مرّة عن ذلك فقال أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب".

١٩

المصيبة:

أقول سيّدي يا أمير المؤمنين:

أمُخمِدُ ضَوْءَ البيتِ عن شخصِ زينبٍ

لكي لا يُرى في الليلِ حتَّى خيالهُا

تمنّيتُ يومَ الطَّفِ عينُكَ أبصَرَتْ

بَناتُكَ كيفَ ابتُزَّ مِنها حِجَالُهَا

أقول سيّدي لقد أبرزت كريمتك لـمّا أصبحوا يوم الحادي عشر، وعزم القوم على الانصراف, وقدّموا النياق العجف إلى بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم , ونادوا هلمّوا واركبوا فقد أمر ابن سعد بالرحيل، خرجت زينب وأقبلت على عمر ابن سعد قائدِ جيش الضلال وقالت له: سوّد الله وجهك يا بن سعد، تأمر هؤلاء الأجانب أن يركبّونا ونحن ودائع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قل لهم فليتباعدوا عنّ، ونحن يركِّب بعضنا بعضاً, فتباعدوا عنهم، وجعلت زينبُعليها‌السلام بنفسها تركب العيال والأطفال, تنادي كلّ واحدة باسمها وتركبها حتَّى ركّبت الجميع، ثمّ أقبلت إلى الإمام زين العابدينعليه‌السلام وقالت له: قم يا بن أخي واركب الناقة، قال لها: اركبي أنت أوّلاً ودعيني وهؤلاء القوم.

نعم يروى أنّها لـمّا أقبلت إلى ناقتها لتركب، والتفتت يمنة ويسرة فلم تر أحداً يعينها على الركوب, تذكّرت عزّها وجلالها, في ذلك الوقت هاج بها الحزن, وحوّلت وجهها إلى جهة نهر العلقميّ

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الاحبّة محمداً وحزبه. فقال عمرو: صدقت، أنت صاحبه والله ما ظفرت يداك وقد أسخطت ربك.

وعن السدي، عن يعقوب بن أسباط، قال احتج رجلان بصفّين في سلب عمار وفي قتله، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص يتحاكمان اليه، فقال: ويحكما أخرجا عني فانّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أولعت قريش بعمّار، عمار يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار، قاتله وسالبه في النار».

و قال السهيلي: « وفي « جامع معمر بن راشد » أن عماراً كان ينقل في بنيان المسجد لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس ينقلون لبنة واحدة، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن، وتقتلك الفئة الباغية! فلما قتل يوم صفين دخل عمرو على معاوية فزعاً فقال: قتل عمار! فقال معاوية فما ذا؟ فقال عمرو: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: تقتلك الفئة الباغية! فقال: دحضت في بولك، أنحن قلناه؟! انما قتله من أخرجه ».

وقال ابن الاثير الجزري في خبر رسل أمير المؤمنين الى معاوية: « وقال يزيد بن قيس: انا لم نأت الا لنبلغك ما أرسلنا به اليك ونؤدي عنك ما سمعنا منك، ولن ندع ان ننصح وأن نذكر ما يكون به الحجة عليك ويرجع الى الالفة والجماعة، ان صاحبنا من عرف المسلمون فضله ولا يخفى عليك، فاتق الله يا معاوية ولا تخالفه! فانا والله ما رأينا في الناس رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها منه. فحمد الله معاوية ثم قال:

أما بعد، فانكم دعوتم الى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم اليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فانا لا نراها، لان صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثارنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد عليه ذلك فليدفع الينا قتلة عثمان لنقتلهم ونحن نجيبكم الى الطاعة والجماعة! فقال شبث بن ربعي: أيسرك يا معاوية أن تقتل عماراً؟!

٤١

فقال: وما يمنعني من ذلك لو تمكنت من ابن سمية لقتلته بمولى عثمان! فقال شبث: والذي لا اله غيره لا تصل الى ذلك حتى تندر الهام عن الكواهل وتضيق الارض والفضاء عليك! فقال معاوية: لو كان ذلك لكانت عليك اضيق! وتفرق القوم عن معاوية ».

وقال في ذكر مقتل عمار عليه الرحمة: « وخرج عمار بن ياسر على الناس فقال: اللهم انك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته! اللهم انك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى تخرج من ظهري لفعلته! واني لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم عملا هو أرضى لك منه لفعلته، والله اني لارى قوماً ليضربنكم ضرباً يرتاب منه المبطلون، وأيم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمت أنا على الحق، وأنهم على الباطل.

ثم قال: من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع الى مال ولا ولد؟ فأتاه عصابة فقال: اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبوها وعلموا أن الحق اذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم وقالوا: امامنا قتل مظلوماً، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً فبلغوا ما ترون، فلولا هذا ما تبعهم من الناس رجلان. اللهم ان تنصرنا فطالما نصرت وان تجعل لهم الامر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الاليم.

ثم مضى ومعه تلك العصابة، فكان لا يمر بواد من أودية صفين الا تبعه من كان هناك من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم جاء الى هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص، وهو المرقال وكان صاحب راية علي وكان أعور، فقال:

يا هاشم! أعورا وجبنا

لا خير في أعور لا يغشى البأس

اركب يا هاشم!

فركب ومضى معه وهو يقول:

٤٢

أعور يبغي أهله محلّا

قد عالج الحياة حتى ملا

لا بدّ أن يفلّ أو يفلّا

يتلّهم بذي الكعوب تلا

وعمار يقول: تقدم يا هاشم الجنة تحت ضلال السيوف والموت تحت أطراف الاسل، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الاحبة محمداً وحزبه، وتقدم حتى دنا من عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو، بعث دينك بمصر؟! تباً لك! فقال له: لا ولكن أطلب بدم عثمان! فقال: أنا أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله وأنك ان لم تقتل اليوم تمت غداً، فانظر اذا أعطى الناس على قدر نياتهم ما نيتك؟ لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثاً مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذه الرابعة ما هي بأبر وأتقى! ثم قاتل عمار ولم يرجع وقتل ».

قال: « وقال عبد الرحمن السلمي: لما قتل عمار دخلت عسكر معاوية لانظر هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا، وكنا اذا تركنا القتال تحدثوا الينا وتحدثنا اليهم، فاذا معاوية وعمرو وأبو الاعور وعبد الله بن عمرو يتسايرون، فأدخلت فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون. فقال عبد الله لابيه: يا أبّة! قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال! قال: وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه، فأتاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: ويحك يا ابن سمية! الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الاجر وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية؟؟ فقال عمرو لمعوية: أما تسمع ما يقول؟ قال: وما يقول؟ فأخبره فقال معاوية: أنحن قتلناه؟! انما قتله من جاء به! فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: انما قتل عماراً من جاء به، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم؟! ».

وقال محيي الدين ابن عربي الاندلسي في تفسيره،( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الى آخره، الاقتتال لا يكون الا للميل الى الدنيا والركون الى الهوى

٤٣

والانجذاب الى الجهة السفلية والتوجه الى المطالب الجزئية، والاصلاح انما يكون من لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة التي هي ظل الوحدة، فلذلك امر المؤمنون الموحدون بالاصلاح بينهما على تقدير بغيهما، والقتال مع الباغية على تقدير بغي احداهما حتى ترجع لكون الباغية مضادة للحق دافعة له، كما خرج عماررضي‌الله‌عنه مع كبره وشيخوخته في قتال أصحاب معاوية ليعلم بذلك أنهم الفئة الباغية ».

و قال سبط ابن الجوزي: « وحكى ابن سعد في ( الطبقات ) عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أنه قال لابيه: قتلتم عماراً وقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية!؟ فسمعه معاوية فقال: لانك شيخ أخرق ما تزال تأتينا بهنة تدحض بها في بولك! أنحن قتلناه؟! انما قتله الذي أخرجه و في رواية: فبلغ ذلك عليا فقال: ونحن قتلنا حمزة لأنا أخرجناه الى احد. وذكر ابن سعد أيضاً أن ذا الكلاع لما بلغه هذا قال لعمرو: نحن الفئة الباغية وهم بالرجوع الى عسكر علي وكان تحت يده ستون ألفاً فقتل ذو الكلاع فقال معاوية: لو بقي ذو الكلاع لافسد علينا جندنا بميله الى ابن أبي طالب! ».

وقال أيضاً: « وقال الواقدي: لما طعن أبو الغادية عماراً بالرمح وسقط أكب عليه آخر فاجتز رأسه ثم أقبلا الى معاوية يختصمان فيه، كل منهما يقول: أنا قتلته، فقال لهما عمرو: والله ان تختصمان الا في النار! فقال معاوية: ما صنعت؟ قوم بذلوا نفوسهم دوننا تقول لهم هذا؟! فقال عمرو: هو والله كذلك وأنت تعلمه واني والله وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة! ».

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: « فائدة - روى حديث تقتل عماراً الفئة الباغية » جماعة من الصحابة منهم قتادة ( أبو قتادة. ظ ) بن النعمان كما تقدم وام سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع

٤٤

وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار نفسه، وكلها عند الطبراني وغيره طرقها صحيحة أو حسنة. وفيه عن جماعة آخرين يطول عدهم. وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي ولعمار ورد على النواصب الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه ».

وقال بدر الدين العيني في شرح حديث « اذا تواجه المسلمان فكلاهما من أهل النار »: « وقال الكرماني: عليرضي‌الله‌عنه ومعاوية كلاهما كانا مجتهدين غاية ما في الباب أن معاوية كان مخطئاً في اجتهاده له أجر واحد وكان لعليرضي‌الله‌عنه أجران. قلت: المراد ( فالمراد. ظ ) بما في الحديث المتواجهان بلا دليل من الاجتهاد ونحوه، انتهى.

قلت: كيف يقال كان معاوية مخطئاً في اجتهاده، فما كان الدليل في اجتهاده!! و قد بلغه الحديث الذي قال صلّى الله تعالى عليه وسلّم: ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية! وابن سمية هو عمار ابن ياسر، وقد قتله فئة معاوية، أفلا يرضى معاوية سواء بسواء حتى يكون له أجر واحد ».

وقال محمد بن خلفة الوشتاني الابي في شرح حديث قتل عمار: « والحديث حجة بينة للقول بأن الحق مع علي وحزبه وانما عذر الآخرون بالاجتهاد، وأصل البغي الحسد، ثم استعمل في الظلم، وعلى هذا حمل الحديث عبد الله ابن عمرو العاص يوم قتل عمار، وغيره تأوله فتأوله معاوية وكان أولا يقول: انما قتله من أخرجه لينفي عن نفسه صفة البغي ثم رجع فتأوله على الطلب وقال: نحن الفئة الباغية، اي الطالبة لدم عثمان، من البغاء بضم الباء والمد وهو الطلب.

قلت: البغي عرفاً الخروج عن طاعة الامام مغالبة له، ولا يخفى عليك بعد التأويلين او خطؤهما، فأما الاول فواضح وكذا الثاني لان ترك علي القصاص من قتلة عثمان للذين قاموا بطلبه ورأوه مستنداً في اجتهادهم ليس لانه تركه جملة واحدة وانما تركه لما تقدم، وفيه ان عدم القصاص منكر قاموا بتغييره والقيام بتغيير المنكر انما هو ما لم يؤد الى مفسدة أشد. وايضاً المجتهد انما

٤٥

يحسن به الظن اذا لم يبين مستند اجتهاده، اما اذا بينه فكان خطأ فكيف؟. ولله در الشيخ حيث كان يقول الصحبة حصنت على من حارب علياً! ».

وقال ابو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف السنوسي في شرح حديث قتل عمار: « والحديث حجة بينة للقول بأن الحق مع علي وحزبه وانما عذر الاخرون بالاجتهاد، واصل البغي الحسد ثم استعمل في الظلم، وغير تأويله معاويةرضي‌الله‌عنه فكان يقول: انما قتله من أخرجه لينفي عن نفسه صفة البغي ثم رجع فتأوله على الطالب وقال: نحن الفئة الباغية، اي الطالبة لدم عثمان، من البغاء بضم الباء والمد وهو الطلب ( ب(١) ): البغي عرفاً الخروج عن طاعة الامام مغالبة له، ولا يخفى بعد التأويلين او خطؤهما، ولله در الشيخ حيث كان يقول: الصحبة حصنت على من حارب علياًرضي‌الله‌عنه ».

و قال عماد الدين يحيى بن ابي بكر العامري في ترجمة سيدنا عمار: « قتلرضي‌الله‌عنه بصفين سنة سبع وثلثين عن ثلث وخمسين سنة وكان من اصحاب علي وقتله اصحاب معاوية، وبقتله استدل اهل السنة على تصحيح جانب علي لان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد قال له: ويح ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية، وقال: ويح عمار يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار، وقال قبل ان يقتل: ائتوني بشربة لبن فاني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن. وكان آدم طوالا لا يغيّر شيبة، رضي ‌الله‌ عنه ورحمه ».

و قال نور الدين السمهودي: « وأسند(٢) أيضاً أن علي بن أبي طالب كان يرتجز وهو يعمل فيه ويقول:

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيها قائماً وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا

__________________

(١). أى: قال الابى.

(٢). أى: ابن زبالة.

٤٦

و أسند هو أيضاً ويحيى من طريقه والمجد ولم يخرجه عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: بنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجده فقرب اللبن وما يحتاجون اليه، فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضع ردائه، فلما رأى ذلك المهاجرون الاولون والانصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون:

لئن قعدنا والنبي يعمل. ألبيت

وكان عثمان بن عفانرضي‌الله‌عنه رجلا نظيفاً متنظفاً وكان يحمل اللبنة فيجافى بها عن ثوبه، فاذا وضعها نفض كمه ونظر الى ثوبه فان أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر اليه علي بن أبي طالب فأنشأ يقول:

لا يستوي من يعمر المساجدا

الابيات المتقدمة، فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها فمر بعثمان فقال: يا ابن سمية! ما أعرفني بمن تعرّض ومعه جريدة فقال: لتكفن أو لاعترضن بها وجهك! فسمعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو جالس في ظل بيتي تعنى ام سلمة. وفي كتاب يحيى: في ظل بيته، فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثم قال: ان عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي فاذا بلغ ذلك من المرء فقد بلغ ووضع يده بين عينيه، فكف الناس عن ذلك ثم قالوا لعمار: ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غضب فيك ونخاف أن ينزل فينا القرآن! فقال: أنا أرضيه كما غضب، فقال: يا رسول الله! ما لي ولا لاصحابك؟ قال: مالك وما لهم؟ قال: يريدون قتلي يحملون لبنة لبنة ويحملون علي اللبنتين والثلاث فأخذ بيده فطاف به في المسجد وجعل يمسح وفرته بيده من التراب ويقول: يا ابن سمية لا يقتلك أصحابي ولكن تقتلك الفئة الباغية.

وقد ذكر ابن اسحاق القصة بنحوه كما في ( تهذيب ) ابن هشام، قال: وسألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز فقالوا: بلغنا أن علي ابن أبي طالب ارتجز به، فلا ندري أهو قائله أم غيره، وانما قال ذلك عليرضي‌الله‌عنه مطائبة ومباسطة كما هو عادة الجماعة، اذا اجتمعوا على عمل

٤٧

وليس ذلك طعناً. وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل أبي جعفر الخطمي، قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول: أفلح من يعالج المساجدا فيقولها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول ابن رواحة: يتلوا القرآن قائماً وقاعداً، فيقولها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وفي « الصحيح » في ذكر بناء المسجد: وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار! تقتله الفئة الباغية يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار، وقال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. وأسند ابن زبالة ويحيى، عن مجاهد، قال: رآهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يحملون الحجارة على عمار وهو يبني المسجد فقال: ما لهم ولعمار، ويدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار وذلك فعل الاشقياء الاشرار! وأسند الثاني أيضاً عن أم سلمة، قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه يبنون المسجد فجعل أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحمل كل رجل منهم لبنة لبنة وعمار بن ياسر لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام اليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمسح ظهره وقال: يا ابن سمية! لك أجران وللناس أجر، وآخر زادك من الدنيا شربة من لبن وتقتلك الفئة الباغية.

و في ( الروض ) للسهيلي أن معمر بن راشد روى ذلك في جامعه بزيادة في آخره وهي: فلما قتل يوم صفين دخل عمرو على معاوية رضي الله عنهما فزعاً فقال: قتل عمار! فقال معاوية: فما ذا؟ فقال عمرو: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. فقال معاوية: دحضت في بولك، أنحن قتلناه؟ انما قتله من أخرجه.

و روى البيهقي في ( الدلائل ) عن عبد الرحمن ( أبي عبد الرحمن. ظ ) السلمي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لابيه عمرو: قد قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ما قال قال: أي رجل؟ قال: عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد، فكنا

٤٨

نحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين، فمر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: تحمل لبنتين وأنت ترحض! أما انك ستقتلك الفئة الباغية وأنت من أهل الجنة. فدخل عمرو على معاوية فقال: قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال فقال: اسكت، فو الله ما تزال تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟! انما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا.

قلت: وهو يقتضي أن هذا القول لعمار كان في البناء الثاني للمسجد، لان اسلام عمرو كان في الخامسة كما سبق.

و قال السمهودي في ( خلاصة الوفاء ): « ولاحمد عن أبي هريرة: كانوا يحملون اللّبن الى بناء المسجد ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم، ثم قال: فاستقبلت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عارض لبنة على بطنه فظننت انها ثقلت عليه فقلت: ناولنيها يا رسول الله! فقال: خذ غيرها يا أبا هريرة فانه لا عيش الا عيش الآخرة. وهذا في البناء الثاني لان اسلام أبي هريرة متأخر.

و كذا ما في الصحيح في ذكر بناء المسجد: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل ينفض التراب ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، لان البيهقي روى في ( الدلائل ) عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه سمع عبد الله بن العاص يقول لابيه عمرو: قد قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ما قال! قال: أى رجل؟ قال قال: عمار بن ياسر، اما تذكره يوم بنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد، فكنا نحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين، فمر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر نحو رواية الصحيح.

ثم قال: فدخل عمرو على معاوية فقال: قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال! فقال: اسكت فو الله ما تزال تدحض في بولك، أنحن قتلناه؟ انما قتله على وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا. واسلام عمرورضي‌الله‌عنه كان في السنة الخامسة فلم يحضر الا البناء الثاني ».

٤٩

و قال الملا على المتقي: « عن خالد بن الوليد عن ابنة هشام بن الوليد ابن المغيرة وكانت تمرض عماراً قالت: جاء معاوية الى عمار يعوده فلما خرج من عنده قال: أللهم لا تجعل منيته بأيدينا، فانى سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: تقتل عماراً الفئة الباغية ( ع. كر ) ».

وقال في ( شرح الفقه الاكبر ) في ذكر خلافة امير المؤمنينعليه‌السلام : « ومما يدل على صحة خلافته دون خلافة غيره الحديث المشهور « الخلافة بعدي ثلثون سنة ثم يصير ملكا عضوضاً » وقد استشهد علي (رض) على رأس ثلاثين سنة عن وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ومما يدل على صحة اجتهاده وخطأ معاوية في مراده ما صح عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية. وأما ما نقل أن معاوية أو أحداً من أشياعه قال: ما قتله الا علي (رض) حيث حمله على المقاتلة فروي عن عليّ كرّمه الله وجهه انه قال في المقابلة: فيلزم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل عمه حمزة! فتبين أن معاوية ومن بعده لم يكونوا خلفاء بل ملوكا وأمراء ».

و قال في ( شرح الشفاء ) في فصل الاخبار بالغيوب: « وان عماراً وهو ابن ياسر تقتله الفئة الباغية. رواه الشيخان، ولفظ مسلم: قال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم لعمار: تقتلك الفئة الباغية. وزاد: وقاتله في النار.

فقتله، أي عماراً، أصحاب معاوية، أى بصفين، ودفنه علي رضي الله تعالى عنه في ثيابه وقد نيف على سبعين سنة، فكانوا هم البغاة على علي بدلالة هذا الحديث ونحوه، وقد ورد: اذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق، وقد كان مع علي رضي الله تعالى عنهما، وأما تأويل معاوية أو ابن العاص بأن الباغي علي وهو قتله حيث حمله على ما أدى الى قتله، فجوابه ما نقل عن علي كرم الله وجهه أنه يلزم منه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاتل حمزة عمه.

والحاصل أنه لا يعدل عن حقيقة العبارة الى مجاز الاشارة الا بدليل ظاهر من عقل أو نقل يصرفه عن ظاهره، نعم، غاية العذر عنهم أنهم اجتهدوا وأخطئوا فالمراد بالباغية الخارجة المتجاوزة لا الطالبة كما ظنه بعض

٥٠

الطائفة ».

وقال في ( المرقاة - شرح المشكوة ): « ( وعن أبي قتادة ) صحابي مشهور ( أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمار ) أى ابن ياسر ( حين يحفر الخندق ) حكاية حال ماضية ( فجعل يمسح رأسه ) أي رأسه عمار عن الغبار ترحماً عليه من الاغيار ( ويقول بؤس ) بضم موحدة وسكون همز، ويبدل، وبفتح السين مضافاً الى ( ابن سمية ) وهي بضم السين وفتح الميم وتشديد التحتية ام عمار وهي قد أسلمت بمكة وعذبت لترجع عن دينها فلم ترجع وطعنها أبو جهل فماتت، ذكره ابن الملك.

وقال غيره: كانت امه ابنة أبي حذيفة المخزومي زوجها ياسراً وكان حليفه فولدت له عماراً فأعتقه أبو حذيفة أي: يا شدة عمار احضرى فهذا أوانك، واتسع في حذف حرف النداء من أسماء الاجناس وانما يحذف من أسماء الاعلام، وروى بوس بالرفع على ما في بعض النسخ، أى: عليك بؤس أو يصيبك بوس، وعلى هذا ابن سمية منادى مضاف، أى: يا ابن سمية! وقال شارح « المغني »: يا شدة ما يلقاه ابن سمية من الفئة الباغية، نادى بؤسه وأراد نداءه وخاطبه بقوله: ( تقتلك الفئة الباغية ) أى الجماعة الخارجة على امام الوقت وخليفة الزمان.

قال الطيبي: ترحم عليه بسبب الشدة التي يقع فيها عمار من قبل الفئة الباغية يريد به معاوية وقومه فانه قتل يوم صفين. وقال ابن الملك: اعلم أن عماراً قتله معاوية وفئته فكانوا طاغين باغين بهذا الحديث، لان عمار كان في عسكر علي وهو المستحق للامامة فامتنعوا عن بيعته.

وحكي أن معاوية كان يتأول معنى الحديث ويقول: نحن فئة باغية طالبة لدم عثمان، وهذا كما ترى تحريف، اذ معنى طلب الدم غير مناسب هنا لانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر الحديث في اظهار فضيلة عمار وذم قاتله لانه جاء في طريق: ويح! قلت: ويح، كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثى له، بخلاف ويل، فانها كلمة عقوبة تقال للذي

٥١

يستحقها ولا يترحم عليه هذا.

و في ( الجامع الصغير ) برواية الامام أحمد والبخاري عن أبي سعيد مرفوعاً: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم الى الجنة يدعونه الى النار. وهذا كالنص الصريح في المعنى الصحيح المتبادر من البغي المطلق في الكتاب كما في قوله تعالى:( وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) ، وقوله سبحانه:( فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ) فاطلاق اللفظ الشرعي على ارادة المعنى اللغوي عدول من العدل وميل الى الظلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه.

والحاصل ان البغي بحسب المعنى الشرعي والاطلاق العرفي خص عموم معنى الطلب اللغوي الى طلب الشر الخاص بالخروج المنهي، فلا يصح أن يراد به طلب دم خليفة الزمان وهو عثمانرضي‌الله‌عنه . وقد حكي عن معاوية تأويل أقبح من هذا حيث قال: انما قتله علي وفئته حيث حمله على القتال وصار سبباً لقتله في المال، فقيل له في الجواب: فاذن قاتل حمزة هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان باعثاً له على ذلك والله سبحانه وتعالى حيث أمر المؤمنين بقتال المشركين!

والحاصل أن هذا الحديث فيه معجزات ثلث: احديها انه سيقتل، وثانيها أنه مظلوم، وثالثها أن قاتله باغ من البغاة، والكل صدق وحق. ثم رأيت الشيخ أكمل الدين قال: الظاهر أن هذا أي التأويل السابق عن معاوية وما حكي عنه أيضاً من أنه « قتله من أخرجه للقتل وحرضه عليه » كل منهما افتراء عليه! أما الاول فتحريف للحديث، وأما الثاني فلانه ما أخرجه أحد بل هو خرج بنفسه وما له مجاهداً في سبيل الله قاصداً لاقامة الفرض، وانما كان كل منهما افتراء على معاوية لانهرضي‌الله‌عنه أعقل من أن يقع في شيء ظاهر الفساد على الخاص والعام.

قلت: فاذاً كان الواجب عليه أن يرجع عن بغيه باطاعته الخليفة ويترك المخالفة وطلب الخلافة المنيفة، فتبين بهذا أنه كان في الباطن باغياً

٥٢

وفي الظاهر متستراً بدم عثمان مراعياً مرائياً، فجاء هذا الحديث عليه ناعياً، وعن عمله ناهياً، لكن كان ذلك في الكتاب مسطوراً، فصار عنده كل من القرآن والحديث مهجوراً! فرحم الله من أنصف ولم يتعصب ولم يتعسف وتولى الاقتصاد في الاعتقاد لئلا يقع في جانبي سبيل الرشاد من الرفض والنصب بأن: يحب الال والصحب. ( رواه مسلم ) ».

و قال نور الدين الحلبي: « ولما قتل عمار دخل عمرو بن العاص على معاوية فزعاً وقال: قتل عمار! فقال معاوية: قتل عمار فما ذا؟ قال عمرو: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تقتل عمارا الفئة الباغية. فقال له معاوية: دحضت، أى زلقت في بولك! أنحن قتلناه؟ انما قتله من أخرجه.

و في رواية قال له: أسكت فو الله ما تزال تدحض، أي تزلق في بولك، انما قتله على واصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا. وذكر أن علياً رضي الله تعالى عنه لما احتج على معاوية رضي الله تعالى عنه بهذا الحديث ولم يسع معاوية انكاره قال: انما قتله من أخرجه من داره، يعني بذلك علياً. فقال علي رضي الله تعالى عنه: فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذن قتل حمزة حين أخرجه ».

قال: « وكان ذو الكلاع رضي الله تعالى عنه مع معاوية وقال له يوماً ولعمرو ابن العاص: كيف نقاتل علياً وعمار بن ياسر؟! فقالا له: ان عماراً يعود الينا ويقتل معنا. فقتل ذو الكلاع قبل قتل عمار، ولما قتل عمار قال معاوية: لو كان ذو الكلاع حياً لمال بنصف الناس الى على، أي لان ذا الكلاع ذووه اربعة الاف اهلبيت، وقيل: عشرة آلاف ».

و قال شهاب الدين الخفاجي في ( نسيم الرياض ): « ومما اخبر بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المغيبات ان عمار بن ياسر الصحابي المشهور تقتله الفئة الباغية. من البغي وهو الخروج بغير حق على الامام.

و لفظ مسلم: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية. و روي: وقاتله في النار. فقتله اصحاب معاوية وكان هو مع علي بصفين وهو صريح في ان الخليفة بحق هو عليّرضي‌الله‌عنه وان معاوية مخطئ في اجتهاده

٥٣

كما في حديث « اذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق » وابن سمية هو عمار رضي الله تعالى عنه كان مع على، وهذا هو الذي ندين الله به، وهو ان عليّاً كرم الله وجهه على الحق ومجتهد مصيب في عدم تسليم قتلة عثمان، ومعاوية رضي الله تعالى عنه مجتهد مخطي، فدع القيل والقال فما ذا بعد الحق الا الضلال؟!

وقد تأول معاوية حديث عمار لما لم يجد مجالا لانكاره فقال: انما قتله من أخرجه، ولذا قال عليّ كرم الله وجهه لما بلغه قوله: فرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم قتل حمزة رضى الله تعالى عنه لما أخرجه لاحد ، كما نقله ابن دحية رحمه الله تعالى ، وقتل عمار بصفين وهو ابن سبعين سنة قتله ابن العمادية ( أبو الغادية. ظ ) واجتز رأسه ابن جزء ودفنه علىّ رضي الله تعالى عنه ».

و قال حسين بن محمد الديار بكرى: « وفي ( عقائد الشيخ أبي السحق الفيروزآبادي ) و ( خلاصة الوفاء ) أن عمرو بن العاص كان وزير معاوية فلما قتل عمار بن ياسر أمسك عن القتال وتابعه على ذلك خلق كثير فقال له معاوية لم لا تقاتل؟ قال قتلنا هذا الرجل وقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية، فدل على أنا نحن بغاً. قال له معاوية: أسكت فو الله ما تزال تدحض في بولك! انحن قتلناه؟ انما قتله على وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا.

و في رواية قال: قتله من أرسله الينا يقاتلنا ودفعنا عن أنفسنا فقتل فبلغ ذلك علياً فقال: ان كنت أنا قتلته فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل حمزة حين أرسله الى قتال الكفار ».

و قال محمد بن عبد الباقي الزرقاني في ( شرح المواهب اللدنية ) في بحث حديث « ويح عمار تقتله الفئة الباغية ». « وهذا الحديث متواتر، قال القرطبي: ولما لم يقدر معاوية على انكاره قال: انما قتله من اخرجه فأجابه علي بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذاً قتل حمزة حين اخرجه. قال ابن دحية: وهذا من الالزام المفحم الذي لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها. قال القرطبي: فرجع معاوية وتأوله على الطلب وقال: نحن الفئة الباغية أي

٥٤

الطالبة لدم عثمان، من البغاء بضم الباء والمد هو الطلب. قال الابي: البغي عرفاً الخروج عن طاعة الامام مغالبة له.

ولا يخفى بعد التأويلين أو خطؤهما والاول واضح وكذا الثاني لان ترك علي القصاص من قتلة عثمان الذين قاموا بطلبه ورأوه مستند اجتهادهم ليس لانه تركه جملة واحدة، وانما تركه لما تقدم أي حتى يدخلوا في الطاعة ثم يدعوا علي من قتل. قال: وأيضاً عدم القصاص منكر قاموا لتغييره، والقيام لتغيير المنكر انما هو ما لم يؤد الى مفسدة أشد.

وأيضاً المجتهد انما يحسن به الظن اذا لم يبين مستند اجتهاده وأما اذا بينه وكان خطأ فلا، ولله در الشيخ، يعنى ابن عرفة حيث كان يقول: الصحبة حصنت من حارب علياً، انتهى ».

وقال محمد بن اسمعيل بن صلاح الامير اليماني الصنعاني في ( الروضة الندية ) بعد ذكر بعض أحاديث وأخبار قتال أمير المؤمنين مع الناكثين والقاسطين والمارقين: « تنبيه - قلت: اشتملت هذه القصص على معجزات نبوية وكرامات علوية وأخلاق عند الله مرضية، فنذكر شيئاً من ذلك. أما المعجزات فمنها: اخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن وصيهعليه‌السلام يقاتل الثلاث الطوائف وأمره له بذلك، فانه اخبار بالغيب الذي هو احدى المعجزات ووصف كل طائفة بوصفها التي قوتلت عليه من النكث والقسط والمروق، وقدمنا في قتاله الناكثين نكتاً من معجزات وكرامات، ومن المعجزات في قتاله القاسطين ما تواتر عند أئمة النقل من أن عماراً يقتله الفئة الباغية وأنه يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار.

وهذا الحديث متواتر متفق عليه بين الطوائف حتى أن رأس الفئة الباغية ورئيسها معاوية بن أبى سفيان مقر به، فانه تأوله بالتأويل الباطل ولم ينكره، بل قال: قتله من جاء به، فالزم بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو القاتل لحمزة. وهذا الحديث من أعلام النبوة فانه قالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اول قدومه المدينة عند بناء مسجدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو معروف في كتب السير

٥٥

والحديث ولم يحضرنا منه شيء فننقل لفظه، ومعناه أنه قال عماررضي‌الله‌عنه وقد حملوه أحجاراًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد: قتلوني يا رسول الله يحملونني فوق ما أطيق، أو قال: كما يحمله رجلان. فنفضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغبار عنه وقال: ليسوا بقاتليك، انما يقتلك الفئة الباغية. تكلمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا قبل وقعة بدر وقبل فتح مكة وقبل اسلام رأس الفئة الباغية وقبل أن يفتح من البلاد شبر واحد.

وتكرر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر أن عماراً (رض) يقتله الفئة الباغية في عدة مواقف، وقد كان عمار (رض) من أعيان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال العامري (رض): وكان مخصوصاً من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبشارة والترحيب والبشاشة والتطييب، أخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أحد الاربعة الذين تشتاق اليهم الجنة وقال له: مرحباً بالطيب المطيب، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عمار جلدة ما بين عيني وأنفي، وقال: اهتدوا بهدى عمار، وقال: من عادى عماراً عاداه الله من أبغض عماراً أبغضه الله. ذكر هذه الاحاديث في فضائله الفقيه العلامة الشافعي المحدث يحيى بن أبى بكر العامري (رض) في كتاب ( الرياض المستطابة ) في ترجمة عماررضي‌الله‌عنه .

قال العامري: وكان من اصحاب عليعليه‌السلام وقتله اصحاب معاوية وبقتله استدل اهل السنة على تصحيح امامة عليعليه‌السلام و ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كان قال: ويح ابن سمية يقتله الفئة الباغية ، و قال: ويح عمار يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، انتهى كلامه.

قلت: و أخرج ابن عساكر وابن سعد أن علياًعليه‌السلام قال حين قتل عمار: ان امرؤ من المسلمين لم يعظم عليه قتل عمار بن ياسر وتدخل عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد. رحم الله عماراً يوم اسلم، ورحم الله عماراً يوم قتل، ورحم الله عمارً يوم يبعث حياً، لقد رأيت عماراً وما يذكر من اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اربعة الا كان رابعاً ولا خمسة الا كان خامساً ولا كان احد من اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشك ان عماراً

٥٦

قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا شك، فهنيئاً لعمار بالجنة، ولقد قيل: ان عماراً مع الحق والحق معه يدور عمار مع الحق حيث دار، وقاتل عمار في النار، انتهى.

قلت: وبقتله استدل على ان معاوية في حربه وقتاله باغ ظالم غير مجتهد كما يقوله بعض السنية انه مجتهد مخطئ وانه غير آثم، كما قال العامري ايضاً واما المخالفون له فكانوا متأولين وكان لهم شبهة اداهم اجتهادهم اليها، انتهى ذكره في ترجمة الزبير.

فنقول: انه لا يشك من يعرف حال معاوية انه ليس من الاجتهاد في ورد ولا صدر، وانما الرجل يتحيل على الملك فنفق شبهة الطلبة بدم عثمان ليضل اهل الشام بها واي اجتهاد مع النص انه باغ، واي اجتهاد مع اخبار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام بأنه يقاتل القاسطين، وسمعت صحة الحديث عند امام المتأخرين مع اهل السنة الحافظ ابن حجر، فانه قال: وثبت عند النسائي ونقله وفسره ولم يقدح فيه، وقد ثبت من طرق عدة، وأي اجتهاد مع نص عمار ونص القرآن ان الفئة الباغية تقاتل حتى تفيء الى امر الله، وحديث عمار نص ان فئة معاوية الفئة الباغية. واحسن من قال مشيراً الى الرد على من زعم اجتهاد معاوية:

قال النواصب قد أخطا معاوية

في الاجتهاد وأخطا فيه صاحبه

والعفو في ذاك من حق لفاعله

وفي أعالي جنان الخلد راكبه

قلنا كذبتم فلم قال النبي لنا

في النار قاتل عمار وسالبه

وما دعوى الاجتهاد لمعاوية في قتاله الا كدعوى ابن حزم أن ابن ملجم أشقى الاخرين مجتهد في قتله لعليعليه‌السلام كما حكاه عنه الحافظ ابن حجر في ( تلخيصه ) واذا كان من ارتكب هواه ولفق باطلا يروج به ما يراه اجتهاداً لم يبق في الدنيا مبطل، اذ لا يأتي أحد منكراً الا وقد أهب له عذراً، وهؤلاء

٥٧

عبدة الاوثان قالوا: ما يعبدونهم الا ليقربوهم الى الله زلفى! وكم من محتج حجته داحضة عند ربه وعليه غضب ».

وقال المولوي عبد العلي بن الملا نظام الدين السهالوي في ( فواتح الرحموت - شرح مسلم الثبوت ): « بقي أمر بغي معاوية، والذي عليه جمهور أهل السنة أن هذا أيضاً خطأ في الاجتهاد ولا يلزم منه بطلان العدالة، لكن يخدشه عدم اظهار الحجة في مقابلة أمير المؤمنين علي وكان هو ألين للحق واستمراره على الصنع الذي صنع، مع أن قتل عمار كان من أبين الحجج على حقية رأي أمير المؤمنين علي، ولم ينقل في الدفع الا أمر بعيد هو أن الجائي برجل شيخ في المعركة قاتل إياه! وهو كما ترى ».

وقال: « وقال بعضهم: في كون مخالفة معاوية بالاجتهاد نظر، لانه لو كانت بالاجتهاد لناظر بالحجة وأمير المؤمنين علي كان ألين للحق، وقصد مناظرته بالحجة واقامة الحجة عليه ولم يصغ اليه، وعند شهادة عمار قال: انما قتله علي حيث جاء به شيخاً كبيراً، وليس هذا من الحجة في شيء، ولذا قال أمير المؤمنين في الجواب: فاذاً قتل حمزة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم، بل الكلام في كونه مجتهداً، كيف وقد عده صاحب ( الهداية ) من السلاطين الجائرة مقابل العادلين، ولو كان بالاجتهاد لما كان جوراً، ولم ينقل عنه فتوى على طريقة الاصول الشرعية ».

و قال سليمان بن ابراهيم البلخي في ( ينابيع المودة ) في الباب الثالث والاربعين: « وفي ( جمع الفوائد ) عن عبد الله بن الحارث أن عمرو بن العاص قال لمعوية: أما سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقول حين كان يبني المسجد لعمار: انك لحريص على الجهاد وانك لمن أهل الجنة ولتقتلنك الفئة الباغية. قال: بلى! قال عمرو: فلم قتلتموه؟ قال: والله ما تزال تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟ انما قتله الذي جاء به، وهو علي - لاحمد.

عبد الله بن عمرو بن العاص رأى رجلين يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال عبد الله: سمعت النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله‌

٥٨

وسلّم يقول: تقتله الفئة الباغية. فقال معاوية: فما بالك أنت معنا؟ قال: شكاني ابي الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي: اطع اباك ما دام حياً ولا تعصيه ( تعصه. ظ ) فأنا معكم ولست اقاتل - لاحمد ».

١٥ - خروج عمرو بن العاص لقتل عمار

وهذا الحديث دليل مبين على ضلالة عمرو بن العاص، فانه الذي أعان معاوية ونصره وأيده وشاركه في سيئات أعماله.

اخرج احمد وابن سعد واللفظ للثاني: « قيل لعمرو بن العاص: قد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبك ويستعملك، قال: قد كان والله يفعل فلا أدري أحب أم تألف يتألفنى، ولكني أشهد على رجلين توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يحبهما: عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر.

قالوا: فذاك والله قتيلكم يوم صفين.

قال: صدقتم والله، لقد قتلناه »(١) .

وفي ( الطبري ): « وخرج اليوم الثالث عمار بن ياسر، وخرج اليه عمرو بن العاص، فاقتتل الناس كأشد القتال وشد عمار في الرجال فأزال عمرو بن العاص عن موقفه »(٢) .

و في ( الكامل ): « وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها ضياح من لبن. فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ما هذا ويحك يا عمرو! فيقول عمرو: انه سيرجع إلينا، فقتل ذو الكلاع قبل عمار مع معاوية وأصيب عمار بعده مع علي، فقال عمرو لمعاوية: ما ادري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً؟ بقتل عمار أو بقتل ذي الا كلاع، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار

__________________

(١). الطبقات ٢ / ٢٦٣.

(٢). الطبري ٤ / ٧ - ٨.

٥٩

لمال بعامة اهل الشام الى علي.

فأتى جماعة الى معاوية كلهم يقول: أنا قتلت عماراً، فيقول عمرو: وما سمعته يقول؟ فيخلطون، فاتاه ابن جزء فقال: أنا قتلته وسمعته يقول: اليوم ألقى الاحبة، محمداً وحزبه، فقال عمرو: أنت صاحبه، ثم قال: رويداً والله ما ظفرت يداك، ولقد اسخطت ربك »(١) .

وروى المتقى: « قاتل ابن سمية في النار. كر عن عمرو بن العاص ».

وانظر ١٦ / ١٤١، ١٤٥ من ( كنز العمال ).

وانظر أيضاً:

المستدرك ٣ / ٣٨٦، ٣٨٧

مروج الذهب ٣ / ٣١

اسد الغابة ٤ / ٤٧

تذكرة الخواص ٩١، ٩٢

تاريخ ابن خلدون ٢ / ١٧٣. وغيرها

١٦ - ابو غادية قاتل عمار

وابو الغادية قاتل عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه.

قال ابن سعد بترجمة عمار: « شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسل سيفاً، وشهد صفين وقال: انا لا أسل أبداً حتى يقتل عمار، فانظر من يقتله، فانى سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية.

قال: فلما قتل عمار بن ياسر قال خزيمة: قد بانت لي الضلالة واقترب فقاتل حتى قتل.

وكان الذي قتل عمار بن ياسر ابو غادية المزني، طعنه برمح فسقط، وكان يومئذ يقاتل في محفة، فقتل يومئذ وهو ابن أربع وتسعين سنة، فلما وقع

__________________

(١). الكامل لابن الاثير ٣ / ١٥٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96