مجالس السبايا

مجالس السبايا40%

مجالس السبايا مؤلف:
المحقق: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: دواوين
الصفحات: 96

  • البداية
  • السابق
  • 96 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 17727 / تحميل: 5481
الحجم الحجم الحجم
مجالس السبايا

مجالس السبايا

مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
العربية

سلسلة المجالس الحسينية

مجالس السبايا

١

الكتاب: مجالس السبايا

نشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية

إعداد : معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني

الطبعة: الأولى، تشرين٢، ٢٠٠٩م-١٤٣٠ه

جميع حقوق الطبع محفوظة

٢

٣

٤

٥

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على رسوله محمّد وآل بيته الطيّبين الطاهرين المظلومين..

وبعد.

عن إمامنا الرضاعليه‌السلام : "إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيها من ثِقلنا، ولم تُرعَ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمةٌ في أمرنا, إنَّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلَّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء، إلى يوم الانقضاء.."(١) .

وفي الزيارة المنسوبة إلى الناحية المقدّسة: "السلام على الأجساد العاريات، السلام على الجسوم الشاحبات، السلام على الدماء السائلات، السلام على الأعضاء المقطّعات، السلام على الرؤوس المشالات، السلام على النسوة البارزات"(٢) , إلى أن يقول: "وسبي أهلك كالعبيد، وصفّدوا في الحديد، فوق أقتاب المطيّات، تلفح وجوههم حرّ الهاجرات، يُساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولة إلى الأعناق، يُطاف بهم في الأسواق, فالويل للعصاة الفسّاق.."(٣) .

هذه بعض مشاهدٍ من فوادح ونوائب جرت على الكرام الأطائب من آل بيت الرسول ونساء سبطه مهجة الرسول, وأولاده وأبنائه قرّة عين الزهراء البتول, تحزن لها القلوب وتُدمى, وتسيل المدامع عليها وتُبكى, كيف لا؟ وقد بكت السماء عليه دما, وبكاه كلّ شيءٍ ما يرى ولا يُرى.

ولسنا نجازف القول إن قلنا, إنّ ما جرى بعد عاشوراء لا يقلّ فجيعة, وليس دون ما جرى في اليوم العاشر بليّةً, فقد أُبرزت فيه كرائم الوحي ومخدّرات الرسالة, وفيهم بقيّة الماضين زين العابدينعليه‌السلام وبضعُ نساءٍ وأطفال ليس لهم حامٍ ولا حميّ, يُدار بهم من بلدٍ إلى بلد, ويُساقون كما تُساق الأسارى.. فيا لله ولهذه الفاجعة الأليمة, ما أصعبها وأمضَّها وآلمها على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم , هذا. وقد أوصى بعترته وأهل بيته..

لَيسَ هَذا لِرَسولِ اللهِ

يا أُمّةَ الطُّغيانِ والبَغيِ جَزَا

____________________

١ - الصدوق: الأمالي ص ١٩٠.

٢- ابن المشهديّ: المزار ص ٤٩٨.

٣- المصدر السابق ص ٥٠٥.

٦

وغير خفيٍّ على أحد أنَّ صوت هذا الموكب وهو على تلك الحالة المحزنة المفجعة, قد أقضَّ مضاجع الطغاة, ومنع عَينَي يزيد وأعوانه الرقاد, وزلزل بنيانهم وأهوى به إلى جهنّم وبئس المهاد, فهو صوت المظلوم وصرخته, ودعاؤه وندبته. الذي ليس دونه حجاب, وتُفتح له السماء باباً بعد باب.

وإنّ من عوامل بقاء هذا الصوت المدوّي بوجه الطغاة هو التذكير به في كلّ عصر ومصر, من خلال إقامة مجالس العزاء وإثارة المشاعر بالتباكي والبكاء, تقرّباً إلى الله تعالى ومودّة للرسول وآل بيته المظلومين..

ومن هنا قام معهد سيّد الشهداءعليه‌السلام للمنبر الحسينيّ بإعداد هذا الكتاب "مجالس السبايا" ليكون عوناً للأخوة القرّاء في رثائهم ومجالسهم. في هذه المناسبة الأليمة. والتي تمتدّ منذ يوم شهادة الإمام الحسينعليه‌السلام في العاشر من المحرّم وحتى يوم الأربعين ورجوعهم إلى مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ونذكِّر في هذه المقدّمة بما يلي:

١- تناولنا العديد من المجالس والمصائب في هذا الكتاب ولكنّنا لم نستقصي كلّ ما يذكر في هذا المجال.

٢- حاولنا- قدر الإمكان- عرض المجالس التي يتداولها القرّاء عادة بعد عاشوراء, مقتصرين على أهمّها.

٣- اقتصرنا على ذكر القصائد والنعي والأبيات الشعبيّة والمصيبة مع الإشارة إلى الربط أو ما يسمى بالـ "الگوريز", دون ذكر المحاضرة اتّكالاً منّا على قدرات الأخوة القرّاء وجدارتهم.

وفي الختام, فأملنا أن يلقى هذا العمل رضا الله تعالى ورضا نبيّه وأهل بيتهعليهم‌السلام , وأن يتقبّلوه منّا بأحسن القبول, وأن يرزقنا الله شفاعتهم ويحشرنا معهم إنّه سميع مجيب.

معهد سيّد الشهداءعليه‌السلام للمنبر الحسينيّ

٧

مجلس سلب الحسينعليه‌السلام ورضّ جسده الشريف

ولقد بكيتُ لِقتلِ آلِ مُحمّدٍ

بِالطَفِّ حَتّى كُلّ عُضوٍ مَدمَعُ

عُقِرتْ بَناتُ الأعوَجيّة(١) هل دَرَتْ

مَا يُستَباحُ بِها وماذا يُصنَعُ

وَحريمُ آلِ مُحمّدٍ بين العِدَىْ

نَهَبٌ تَقَاسَمهُ اللئامُ الرُّضَّعُ(٢)

تَلك الضعائنُ كالإماءِ مَتى تُسَقْ

يُعنِّفْ بهنَّ وبالسياطِ تُقنَّعُ

مِن فَوقِ أقتابِ الجمالِ يَشلُّها

لُكَعٌ على حَنَقٍ وعبدٌ أكوعُ

مثلُ السبايا بل أذلّ يُشقُّ مِن

هُنّ الخِمارُ وَيُستباحُ البُرقُعُ

____________________

١- بنات الأعوجيّة: الخيل منسوبة إلى أعوج, وهو فحل كريم قيل: لم يكن للعرب أشهر ولا أكثر نسلاً منه.

٢- الرضّع: جمع راضع, وهم اللئام أيضاً, وأصله أنّ رجلاً كان يرتضع النّاقة والشاة بفمه حتى لا يعلم أحدٌ بأنّه حلبها, لئلّا يطلب منه الحليب لشدّة بخله ولؤمه.

٨

فَمُصفَّدٌ في قيدِهِ لا يُفتَدَى

وَكريمةٌ تُسبَى وقِرطٌ يُنزَعُ

تاللهِ لا أَنسَى الحُسينَ وَشِلوَهُ

تحْتَ السنابِكِ بالعَراءِ مُوَزّعُ

مُتَلفِّعاً حُمرَ الثيابِ وفي غَدٍ

بالخُضرِ في فردوْسِهِ يَتَلَفَّعُ

تَطأُ السَنابكُ صَدرَهُ وَجَبينَهُ

والأرضُ تَرجُفُ خِيفَةً وَتَضَعْضَعُ

والشمسُ ناشِرةَ الذوائِبِ ثاكِلٌ

والدهرُ مَشقوقُ الرِداءِ مُقنَّعُ

لَهفِي على تِلكَ الدِّماءِ تُراقُ في

أيدي أُميَّةَ عُنوةً وتُضَيَّع(١)

يحسين يومك شده بالي

وارخصت دمعي الكان غالي

لوانّك يخويه اتشوف

حالي حال الغريبه بغير والي

ابراس الرمح راسك گبالي

التمهيد للمصيبة (گوريز):

بعد شهادة الإمام الحسينعليه‌السلام ارتفعتْ في ذلك الوقت غُبرةٌ شديدةٌ سوداءُ مُظلمةٌ، فيها ريحٌ حمراءُ، لا يُرى فيه عينٌ ولا أثر،

____________________

١- القصيدة لابن أبي الحديد المعتزليّ

٩

حتىّ ظَنّ القومُ أنّ العذاب قد جاءَهم. فلبثوا كذلك ساعةً، ثمّ انجلت الغبرة عنهم.

وعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : أنّه قال: "لـمّا ضُرب الحسينُ بنُ علي بالسيف وسقَط، وابتُدِرَ ليُقطعَ رأسهُ، نادى مُنادٍ من بِطنان العرش: ألا أيّتها الأمّة المتحيّرة الضالّة بعدَ نبيّها، لا وَفّقكم الله لأضحىً ولا فطر - ثمّ قال -: لا جَرم - والله - ما وُفّقوا، ولا يوَفّقون حتى يثور ثائرُ الحسين بن عليّعليه‌السلام ".

المصيبة:

وكيف يوفّقون وقد أقبَلَ القومُ على سلبِ الحسينعليه‌السلام ، فلم يُبقوا للحسينِ شيئاً إلّا سلبوهُ, حتىّ أنّ بجدل بن سليم الكلبيّ- لعنه الله- لـمّا لم يجد شيئاً يسلبه, نظر وإذا بخاتم في خنصرِ الحسينِعليه‌السلام , كلّما عالجه ليخرجه لم يتمكّن؛ لأنّ الدماء والتراب قد جمُدت عليه, فتناول قطعة سيف إلى جانبه, وصار يحزُّ إصبعَ الحسينِعليه‌السلام إلى أن فَصَلَ الإصبعَ وأخذَ الخاتَم(١) .

كأنّي بزينبَ تخاطبُهُ:

____________________

١- والظاهر ان هذا غير الخاتم الذي أوصى به الإمامعليه‌السلام إلى ولده علي بن الحسينعليه‌السلام فجعل خاتمه في إصبعه وفوض إليه أمره كما عن الإمام الصادقعليه‌السلام .

١٠

يخايب خلي اخويه احسين ساعه

أغمضله ومد للموت باعه

ابن النبي الحلوه اطباعه

دخلّي ابراح روح احسين تظهر

وبعدَ ذلكَ نادى عمرُ بنُ سعدٍ في أصحابِهِ: مَن ينتدبُ للحسينِ, فيوطئ الخيلَ ظهرَه وصدرَه؟ فانتدب منهم عشرةً, فداسوا جَسَدَ الحسينِعليه‌السلام بحوافرِ خيلِهِم حتّى رَضُّوا ظهرَهُ وصدرَهُ, وقالوا لابن زيادٍ مفتخرين: نحنُ الذين وطأنا بخيولِنا ظهرَ الحسينِعليه‌السلام حتّى طحنّا جناجِنَ صدرِه (يعني كانت تُسمعُ أصواتَ تكسيرِ أضلاعِ أبي عبدِ اللهعليه‌السلام ).

وأختُهُ زينبُ واقفةٌ تنظرُ وتصرُخُ وتقول: يا قومُ, أَمَا فيكُم مسلمٌ يَدفُنُ هذا الغريب؟!كأنّي بها توجَّهتْ نحو أهلِها ونادَتْ:

يهلنه احسينكم رضوا اضلوعه

اوشاف الموت روعه بعد روعه

يصد لعياله اوتسكب ادموعه

يخافنها بعد عينه تيسر

ويُروى أنَّ هذا ما أبكَى الإمامَ الحجَّةَ عندما يقولُ لجدِّهِ الحسينِ في زيارةِ الناحيةِ: "وهويتَ إلى الأرضِ صَريعاً تطؤكَ الخيولُ بحوافرِهَا, وتَعلوكَ الطغاةُ ببواتِرِها" إلى أن يقول: "فلئن أخرتني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءً،

١١

ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك وتأسّفاً على ما دهاك وتلهّفاً، حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتياب".

أقول سيّدي يا بنَ الحسن: متى الفرجُ؟ متى ننادي؟ يا لثاراتِ الحسينِ.. "أين الطالب بدم المقتول بكربلاء".

يروى أنّه: إذا ظهر القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف قام بين الركن والمقام وينادي بنداءات خمسة: الأوّل: ألا يا أهل العالم أنا الإمام القائم، الثاني: ألا يا أهل العالم أنا الصمصام(١) المنتقم، الثالث: ألا يا أهل العالم إنّ جدّي الحسين قتلوه عطشاناً، الرابع: ألا يا أهل العالم إنّ جدّي الحسينعليه‌السلام طرحوه عرياناً، الخامس: ألا يا أهل العالم إنّ جدّي الحسينعليه‌السلام سحقوه عدواناً.

آه ينجل العسكري عيف النوم واترك

وخذ بالثار يالمذخور وترك

علاما خيول اميه ادوس وترك

صدر جدك بحرب الغاضريه

(سيّدي) ماذا يُهيجُكَ إنْ صَبَرتَ

لِوَقعةِ الطَّفِ الفَظيعَة

أترَى تَجِيءُ فَجيعَةٌ

بِأمَضَّ مِن تِلكَ الفَجِيعَة

حَيثُ الحُسينُ على الثَرى

خَيلُ العِدى طَحَنَتْ ضُلُوعَه

____________________

١- الصمصام: السيف القاطع الذي لا ينثني.

١٢

مجلس حرق الخيام وفرار بنات الرسالة

فإنْ يُمْسِ مُغْبَرَّ الجبينِ فَطَالَما

ضُحَى الحَرْبِ في وَجْهِ الكتيبةِ غَبَّرا

وإنْ يَقضِ ظمآناً تفطَّرَ قَلْبُهُ

فقد رَاعَ قَلْبَ الموتِ حتَّى تَفطَّرا

سَطا وهو أَحْمَى مَنْ يَصُونُ كريمةً

وَأَشْجَعُ من يَقتادُ للحَرْبِ عَسكرا

قَضَى بعدَ ما ردَّ السُيُوفَ على القَنا

وَمُرْهَفُهُ فيها وفي الموتِ أَثَّرا

تعثَّرَ حتىَّ ماتَ في الهامِ حَدُّهُ

وَقَائِمُهُ في كَفِّهِ ما تَعثّرا

كأنَّ أخاهُ السيفَ أعْطِيَ صَبْرَهُ

فلم يَبْرَحِ الهَيجاءَ حتّى تَكَسَّرا

لهُ اللهُ مَفطوراً من الصَّبْرِ قَلْبُهُ

ولو كانَ من صُمِّ الصَّفا لتَفطَّرا

وفي السبيِ مِمَّا يَصطفي الخِدْرُ نِسْوةٌ

يَعزُّ على فتِيانِها أنْ تُسَيَّرا

حَمَتْ خِدْرَها يَقْظَى وَوَدَّت بنومِها

تَرُدُّ عليها جَفْنَها لا على الكَرى

١٣

مَشى الدهرُ يومَ الطفِّ أعمى

فلمْ يَدَعْ عِماداً لها إِلَّا وفيهِ تَعثَّرا

وجَشَّمَها الـمَسْرَى ببيداءَ قَفْرةٍ

ولم تَدرِ قبلَ الطفِّ ما البِيدُ والسُّرى

ولم تَرَ حتَّى عينُها ظِلَّ شَخْصِها

إلى أن بَدَتْ في الغاضريةِ حُسَّرا(١)

التفت عن يسره واليمين

وانادي هلي وين الحين

انا مخدرة عباس وحسين

التمهيد للمصيبة (گوريز):

كان المنصور العباسيّ شديد العداوة لآل محمّد؛ حيث تتبّع آثارهم وقتل الكثير منهم, ووضع آخرين منهم في الاسطوانات, عندما بنى عاصمته بغداد, وأباد جمعاً كثيراً من أبناء الحسنعليه‌السلام وكان يقول: لقد هلك من أولاد فاطمةعليها‌السلام مقدار مائة وقد بقي سيّدهم وإمامهم فقيل له: من هو؟ قال: جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام .

وكان يبعث على الإمامعليه‌السلام , فيؤتى به إلى العراق وفي كلّ مرّة يهمّ بقتله, لكن الله كان يحول بينه وبين قتل الإمامعليه‌السلام , وبلغ من حقده أنّه أمر عامله على المدينة محمّد بن سليمان أن يحرق على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام دارَه, فجاء هو وجماعته

____________________

١- القصيدة للسيّد حيدر الحلّيرحمه‌الله .

١٤

بالحطب الجزل, ووضعوه على باب دار الصادقعليه‌السلام , وأضرموا فيه النّار, فلـمّا أخذت النّار ما في الدهليز(١) , تصايحن العلويات داخل الدار, وارتفعت أصواتهنّ, فخرج الإمام الصادقعليه‌السلام وعليه قميص وإزار, وفي رجليه نعلان وجعل يخمد النّار ويطفئ الحريق, حتّى قضى عليها, فلـمّا كان الغد دخل عليه بعض شيعته يسلّونه, فوجدوه حزيناً باكياً فقالوا: ممّا هذا التأثّر والبكاء, أمِن جرأة القوم عليكم أهل البيت, وليس منهم بأوّل مرّة؟ (ليست هذه هي المرّة الأولى التي تحرق فيها دوركم).

فقال الإمامعليه‌السلام : لـمّا أخذت النّار ما في الدهليز, نظرت إلى نسائي وبناتي يتراكضن في الدّار من حجرة إلى حجرة, ومن مكان إلى مكان, هذا وأنا معهنّ, فتذكّرت روعة عيال جدّي الحسينعليه‌السلام , يوم عاشوراء لـمّا هجم القوم عليهنّ والمنادي ينادي: أحرقوا بيوت الظالمين.

المصيبة:

نعم؛ رُوي أنّه لـمّا صُرع الحسينعليه‌السلام تسابق القوم على نهب رحاله وسلب نسائه، وابن سعد ينادي بجيشه أحرقوا بيوت الظالمين، فأضرموا النّار في الخيام ففرّتِ النساء والأطفال على وجوههم في البيداء, وهم يلوذون بعضهم ببعض ويصرخون:

____________________

٢- الدهليز - بكس الدال- ما دخل عن باب الدار الممتد بينه وبين صحن الدار

١٥

واجدّاه وامحمّداه واأبتاه، يقول الرواة: أُحرق بالنّار من أطفال الحسين ما يقرب من عشرين طفل وطفلة يوم عاشوراء، يقول حميد بن مسلم: رأيت طفلة هاربة من الخيمة, والنّار تستعرُ بأطراف ثيابها, فلحقتُ بها واخمدتُ النّار عنه، لـمّا رأت منّي ذلك الصنع الجميل، قالت: يا شيخ أنت لنا أم علينا؟ فقلتُ لها: بُنيّة أنا لا لكم ولا عليكم، قالت: يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قلتُ: نعم، قالت:يا شيخ هل قرأت قوله تعالى﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ قلتُ: نعم قرأته، قالت: يا شيخ والله أنا يتيمة الحسين، قلت لها: بُنيّة لا تخافي إنّي لا أُريد السوء بك، بُنيّة هل من حاجة فأقضيها لك؟ قالت: يا شيخ دُلّني على جسد والدي الحسين، قال: جئتُ بها إلى الميدان، أوقفتها على مصرع أبي عبد الله، قلتُ لها: بُنيّة هذا جسد أبيك الحسين، فلـمّا رأته جثةً بلا رأس، وقعت عليه تنادي: أبه يا أبه من الذي قطع وريديك، أبه من الذي أيتمني- على صغر سني - أبه إذا أظلم الليل فمن الذي يحمي حمانا.

يبويه انروح كل احنه فداياك

أخذنه للحرب يحسين وياك

أهي غيبه يبويه واگعد أنعاك

واگولن سافر او يومين يسدر

- وفي موقف آخر- يقول حميد بن مسلم: رأيت امرأة واقفة على باب خيمة، والنّار تستعر بأطراف هذه الخيمة، ولكن هذه

١٦

المرأة تارة تدخل إلى الخيمة وتارة تخرج منه، فتقدمّتُ إليها قلتُ لها: أمَةَ الله النّار النّار ما وقوفك إلى جانب هذه الخيمة المشتعلة بالنّار؟ فالتفتت إليّ وقالت: إنّ لنا عليلاً في هذه الخيمة- تعني الإمام زين العابدينعليه‌السلام -, دخلوا عليه وهو مسجّى على نطع لا يستطيع النهوض من شدّة المرض, فجرّد الشمر سيفه ليقتله فقال له حميد بن مسلم: يا سبحان الله أتقتل هذا المريض؟ فقال الشمر: لقد أمرنا الأمير بقتل أولاد الحسين، فجاءت عمّته زينبعليها‌السلام ورمت بنفسها عليه وقالت: إن أردتم قتله فاقتلوني معه، وبينما هم كذلك إذ دخل عمر بن سعد فصحن النساء في وجهه وبكين، فقال للشمر: دعه وشأنه فلـمّا خرج عمر بن سعد سحبوا النطع من تحت الإمام زين العابدينعليه‌السلام وتركوه ملقىً على الأرض.

كانت عِيَادَتَهُ مِنهم سِياطُهُمُ

وفي كُعوبِ القَنا قَالوا البَقَاءَ لَكَا

جَرُّوهُ فانتهَبُوا النَّطَعَ الـمُعدَّ لهُ

وأوطأوا جِسمَهُ السَعدَانَ والحَسَكَا

وَالَهفَتَاهُ لِزَينِ العَابِدينَ لُقَىً

مِن طُولِ عِلَّتِه والسُّقمِ قَدْ نُهِكَا

١٧

مجلس حمل آل الرسول على النياق

بأَبي أَبيَّ الضَيمِ صَالَ وَمَا لَهُ

إِلَّا المـُثَقَّفَ والحُسَامَ نَصيرُ

زَجَّتْ له الأقدارُ سَهْمَ مَنيّةٍ

فهوى لُقىً فاندَكَّ منهُ الطُّورُ

بأبي القتيلَ وغَسْلُهُ عَلَقُ الدِّمَا

وعليهِ مِن أَرَجِ الثَّنَا كافورُ

ظمآنَ يَعْتَلِجُ الغليلُ بصَدْرِهِ

وتُبَلُّ للخَطيِّ منهُ صُدُورُ

وغَدَتْ تدوسُ الخيلُ منه أَضالعاً

سِرُّ النبيِّ بطيِّها مَستورُ

وثواكَلٌ يُشجِي الغَيُورَ حَنينُها

لو كانَ ما بينَ العِدَاةِ غَيورُ

حَرَمٌ لِأَحْمَدَ قد هُتِكْنَ سُتُورُها

فهُتِكنَ مِنْ حَرَمِ الإلهِ سُتُورُ

هَتَفَتْ غَدَاةَ الرَّوعِ باسمِ كَفيلها

وكفيلُها بثَرى الطفوفِ عَفيرُ

١٨

ما لاحَظَت عينُ الهِلاَلِ خَيَالَها

والشُّهْبُ تَخْطُفُ دونَها وتغورُ

حتَّى النسِيمُ إذا تَخَطَّى نحوَها

أَلْقَاهُ في ظِلِّ الرِّماحِ عُثُورُ

فبدا بيومِ الغاضِريَّةِ وَجْهُها

كالشمسِ يستُرُها السَّنا والنورُ

فَغَدَت تَوَدُّ لو أنَّها نُعِيَتْ ولم

يَنْظُرْ إِليها شامِتٌ وكَفورُ

ابيا حاله كَضت زينب نهرها

وابدمهم كربله يجري نهرها

الشمر يحسين من بعدك نهرها

أو خذوها اميسره لابن الدعيه

التمهيد للمصيبة (گوريز):

حدّث يحيى المازني قال: "كنت في جوار أمير المؤمنينعليه‌السلام في المدينة مدّة مديدة, وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينبعليها‌السلام ابنته, فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوت، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تخرج ليلاً, والحسنعليه‌السلام عن يمينها والحسينعليه‌السلام عن شمالها وأمير المؤمنينعليه‌السلام أمامها, فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنينعليه‌السلام فأخمد ضوء القناديل, فسأله الحسنعليه‌السلام مرّة عن ذلك فقال أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب".

١٩

المصيبة:

أقول سيّدي يا أمير المؤمنين:

أمُخمِدُ ضَوْءَ البيتِ عن شخصِ زينبٍ

لكي لا يُرى في الليلِ حتَّى خيالهُا

تمنّيتُ يومَ الطَّفِ عينُكَ أبصَرَتْ

بَناتُكَ كيفَ ابتُزَّ مِنها حِجَالُهَا

أقول سيّدي لقد أبرزت كريمتك لـمّا أصبحوا يوم الحادي عشر، وعزم القوم على الانصراف, وقدّموا النياق العجف إلى بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم , ونادوا هلمّوا واركبوا فقد أمر ابن سعد بالرحيل، خرجت زينب وأقبلت على عمر ابن سعد قائدِ جيش الضلال وقالت له: سوّد الله وجهك يا بن سعد، تأمر هؤلاء الأجانب أن يركبّونا ونحن ودائع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قل لهم فليتباعدوا عنّ، ونحن يركِّب بعضنا بعضاً, فتباعدوا عنهم، وجعلت زينبُعليها‌السلام بنفسها تركب العيال والأطفال, تنادي كلّ واحدة باسمها وتركبها حتَّى ركّبت الجميع، ثمّ أقبلت إلى الإمام زين العابدينعليه‌السلام وقالت له: قم يا بن أخي واركب الناقة، قال لها: اركبي أنت أوّلاً ودعيني وهؤلاء القوم.

نعم يروى أنّها لـمّا أقبلت إلى ناقتها لتركب، والتفتت يمنة ويسرة فلم تر أحداً يعينها على الركوب, تذكّرت عزّها وجلالها, في ذلك الوقت هاج بها الحزن, وحوّلت وجهها إلى جهة نهر العلقميّ

٢٠

ونادت بصوت حزين: أخي أبا الفضل أنت الذي أركبتني يوم خروجنا من المدينة, فمَن الآن يركِّب أختك زينب؟

يحادي الظعن وين الظعن منوين

جرح قلبي على السجاد من ون

أنا وين وشمر ياخلك من وين

عقب عباس گايدلي مطيه

ولـمّا سمع زين العابدينعليه‌السلام ندبتها لأخيها, لم يتمالك نفسه دون أن قام إليها وهو يرتعش من المرض, وقال لها: عمّتاه لقد كسرتِ قلبي وزدتِ كربي, وثنّى لها ركبته ليركّبها فارتعش من الضعف وسقط إلى الأرض, قال الراوي:

فأقبلت فضّة أَمَة فاطمةعليها‌السلام وأركبته، وبقي الإمام زين العابدينعليه‌السلام أقبلوا إليه وأركبوه على ناقة عجفاء فلم يقدر على الركوب, وصار يتمايل يمنة ويسرة، فأخبروا عمر ابن سعد وقالوا له: ما نصنع بهذا العليل فإنّه لم يستطع على الركوب؟ فقال اللعين: قيّدوا رجليه من تحت بطن الناقة، فأقبلوا إليه وقيّدوه وحملوه مقيّداً مغلّلا.

عندك يابو فاضل يا خوي أشتكي حالي

حرمه بلا والي والشمر يبرالي

والليحدي للناقة زجر عباس يا عيوني

ترضى يذلوني وللشام يهدوني

خويه الفواطم بالدرب منهو الليباريها

عگبك يا واليها يا ويلي عليها

وتروح تاليها بيسر عباس يا عيوني

ترضى يذلوني وللشام يهدوني

٢١

لذا هذه المصائب انطبعت في صدر الإمام زين العابدينعليه‌السلام ولم تفارق مخيّلته, لهذا استمرّ بكاؤه عشرات السنين, حتى قال له أبو حمزة الثماليّ مسلّياً له: القتل لكم عادة وكرامتكم من الله الشهادة, فقال له: شكر الله سعيك يا أبا حمزة, صدقت, القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة, ولكن يا أبا حمزة, هل رأت عيناك, أم هل سمعت أذناك أنّ مخدّرة منّا سبيت قبل يوم عاشوراء, يا أبا حمزة والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلّا وخنقتني العبرة.

مثل المصيبة اللي دهتنا محّد انصاب

قلبي يبو حمزة تراه اتفطّر اوذاب

مثل المصيبة اللي دهتنا محّد انصاب

ما نكست راسي لاجل ذيك الصناديد

ما قصروا بالغاضرية زلزلوا البيد

أَخي لَو تَرَى السَجَّادَ أضحَى مُقَيَّدَاً

أسِيراً يُعَانِي مُوجِعَ الضَربِ قَاسِياً

أخي صِرتُ مَرمَىً لِلحَوادِثِ والأَسَى

فَليتَكَ حَيَّاً تَنظُرُ اليومَ حَالِيَا

٢٢

مجلس مشاهد عن الرأس الشريف

والرباب زوجة الحسينعليه‌السلام

العينُ عبرى دمعُها مَسفوحُ

والقلبُ من أَلمَ ِالأسَى مَقروحُ

ما عُذرُ مِثلِي يومَ عاشورا إذا

لم أبكِ آلَ محمّدٍ وأنوحُ

أم كيفَ لا أبكي الحسينَ وقد غَدَا

شِلواً بأرضِ الطفِّ وهوَ ذَبيحُ

والطاهراتُ حواسرٌ مِن حَولِه

كُلٌّ تَنوحُ وَدَمعُها مَسفوحُ

هذي تقولُ أَخِي وَهَذِي والدي

ومِنَ الرزايا قلبُها مَقروحُ

أَسَفِي لِذاكَ الشيبِ وَهوَ مُضَمَّخٌ

بِدمائِهِ والطِيبُ مِنهُ يَفوحُ

أَسَفِي لِذاكَ الوجهِ مِن فَوقِ القَنَا

كالشَمس في أُفُقِ السَماءِ يَلوحُ

أَسَفِي لِذاكَ الجسمِ وَهوَ مُبِضَّعٌ

وبِكُلِّ جَارِحَةٍ لَديهِ جُروحُ

٢٣

ولَفَاطِمُ تَبكِي عَليهِ بِحُرقَةٍ

وتُقَبِّلُ الأشلاءَ وهي تَصيحُ

ظَلَّتْ تُوَلوِلُ حاسِراً مَسبيةٌ

وَسُكينةٌ وَلهَى عَليهِ تَنوحُ

يَا وَالِدِي لا كَانَ يومُك إنَّه

بابٌ ليومِ مَصَائِبي مَفتوحُ

أترى نَسيرُ إلى الشامِ مَعَ العِدَى

أسرى وأنتَ بكربلاءِ طريحُ(١)

وصّيت من يحسين بينه

من تهجم الغاره علينه

وحنه حرم شنهو البدينه

يبويه انته انصبت واحنه انسبينه

التمهيد للمصيبة (گوريز):

بعد شهادة الإمام الحسينعليه‌السلام أظلمت الدنيا ثلاثة أيّام, واسودّت سواداً عظيماً, حتى ظنّ النّاس أنّ القيامة قامت, وبدت الكواكب نصف النهار, وأخذ بعضها يضرب بعضاً, ولم يُرَ نور الشمس, وكيف لا يتغيّر الكون ولا يمحى نور الشمس والقمر, وقد تُرِك سيّدُ شباب أهل الجنّة على وجه الصعيد مجرّداً ومثّلوا بذلك الجسد القدسيّ كلّ مثلة! ولقد رأته الرباب على تلك الحالة وما فارقها رأسه طيلة مسيرها في السبي.

____________________

١- القصيدة لأبي الحسن الخليعيّرحمه‌الله .

٢٤

قال زيد بن أرقم: كنت في غرفة لي فمرّوا عليّ بالرأس وهو يقرأ:﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا , فوقف شعري وقلت: والله يا ابن رسول الله رأسك أعجب وأعجب.

المصيبة:

قال هلال بن معاوية: رأيت رجلاً يحمل رأس الحسينعليه‌السلام والرأس يخاطبه: فرَّقت بين رأسي وبدني, فرّق الله بين لحمك وعظمك وجعلك آيةً ونكالاً للعالمين, فرفع السوط وأخذ يضرب الرأس حتّى سكت.

فالتفتت زينبعليها‌السلام فرأت رأس أخيها, فضربت جبينها بمقدّم المحمل حتّى صار الدم يخرج من تحت قناعها, وأومأت إليه بحرقة وجعلت تقول:

يا هلالاً لـمّا استتمّ كَمَالاً

غَالَهُ خَسْفُهُ فَأبدَى غُروبا

ما توهّمتُ يا شقيقَ فؤادِي

كان هَذا مُقَدّراً مَكتُوبا

٢٥

ثمّ وضعهم ابن زياد في خربة، بينما زينبعليها‌السلام جالسة واليتامى حولها وإذا بامرأة قد أقبلت وهي تحمل طبقاً فيه طعام, وضعته بين يدي الحوراء زينبعليها‌السلام ، فقالت لها العقيلة: ما هذا الطعام يا أَمَة الله؟ قالت لها: سيّدتي هذا نذر عَلَيَّ, إذْ إنّي نذرتُ لله تعالى أنّه كلّما جيء بسبايا أو أُسارى إلى هذه البلدة أُطعمهم - بما أستطيع - فقالت لها الحوراء: أَمَة الله ولِمَ هذا النذر؟ قالت - سيّدتي - إِنّ لي ولداً واحداً وقد أُصيب بمرض عضال فحملتُهُ إلى سيّدي ومولاي أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام , وشكوت إليه أحوالي، فقال لي: خذيه إلى ولدي الحسينعليه‌السلام ، فجئتُ به إلى مولاي الحسين، فدعا له الحسين بالعافية فعافاه الله تعالى ببركة دعاء الحسينعليه‌السلام ، وأنا أصنع هذا الطعام لليتامى والفقراء بثواب سيّدي الحسينعليه‌السلام - فبكت الحوراء - وقالت: أَمَةَ الله إذا رأيت الحسينعليه‌السلام تعرفينه؟ قالت: سيّدتي وكيف لا أعرفه, وهو الذي مَنَّ الله على ولدي بالشفاء ببركته، فقالت الحوراء زينبعليها‌السلام : أَمَةَ الله ارفعي رأسك وانظري إلى باب قصر الإمارة, رفعت المرأة رأسها

٢٦

وإذا برأس الحسينعليه‌السلام منصوب على باب القصر.

إذاً ما حال الرباب وقد رأت تلك المصائب, فمن حقّها أن تموتَ كَمَداً على الحسينعليه‌السلام , فقد عاشت الرباب بعد الإمام الحسينعليه‌السلام في حزن وأسى وبكاء ونياحة، ما هدأت من البكاء ليلاً ولا نهاراً, وفي بعض الروايات أنّها بقيت تبكي سنة كاملة إلى أن ماتت, يقولون لـمّا رجعت الى المدينة مع السبايا أزالت سقف بيتها, وما استظلّت بعد الحسينعليه‌السلام بسقف أبداً، كانت تجلس في حرارة الشمس وبين يديها ابنتها سُكينة تخاطبها: أين مضى عنّي وعنك الحسينعليه‌السلام ويلي.

لگعد على درب الظعون

وناشد اليرحون ويجون

كلمن لها غياب يلفون

وانا غايبي باللحد مدفون

يحسين منته نور العيون

دخل رجل على الإمام زين العابدينعليه‌السلام فوجد امرأة جالسة في حرارة الشمس فظنَّ أنّها جارية, التفت إليه وقال: سيّدي لو

٢٧

أذنت لهذه الجارية أن تقوم عن حرارة الشمس إنهّا محرِقة, فلو عفوت عنها يا بن رسول الله, فلـمّا سمع الإمام زين العابدينعليه‌السلام كلام هذا الرجل تحادرت دموعه على خدّيه, وقال له: يا هذا ليست هذه جارية, هذه الرباب زوجة والدي الحسينعليه‌السلام , آلَت ألّا تستظلَّ بعد الحسينعليه‌السلام تحت سقفٍ أبداً.

ويلي.كأنّي بها.

لنوحن وگضّي العمر بالنوح

واعمي اعيوني واتلف الروح

اشلون الصبر وحسين مذبوح

ودمه على التربان مسفوح

كانت تأتي إليها العقيلة زينبعليها‌السلام تقف على رأسها تقول لها: رباب قومي عن حرارة الشمس، فإنّها محرقة, فتقول لها الرباب: سيّدتي لا تلوميني إنّي نظرت إلى جسد العزيز أبي عبد الله تصهره الشمس على رمضاء كربلاء.

يصير النوب دهري بيكم ايعود

وارد اشيل راسي بيكم اردود

وترد اكفوف ابو فاضل للزنود

وتتلايم اردود اجروح الأكبر

يا مفگود هم بيك الزمان ايعود

اوهم يلفي الفرح وانزع اهدومي السود

٢٨

وهم طيبه الليالي وترد لينه اردود

بالأمسِ كانوا مَعي واليومَ قَد رَحَلوا

وخَلَّفُوا في سُوَيدَا القَلبِ نِيرَانَا

نَذْرٌ عَليَّ لَئِن عَادوا وَإنْ رَجَعُوا

لَأزرَعَنَّ طَريقَ الطَفِّ رَيحَانَا

٢٩

مجلس مرور الموكب الحسينيّ على مصارع الشهداء

رُبوعُ المجدِ مُقفِرةٌ خَوَالِي

يَرُنُّ بِها صَدَى الحُجَجِ الخَوالي

غَداةَ السِبطِ وَهوَ نَبيلُ فِهرٍ

غَدَا غَرَضاً لِغاشِيةِ النِبالِ

فَصارَ إذا أصابتهُ سِهامٌ

تكسَّرت النِصَالُ على النِصَالِ

فَتىً يلقَى الوُفودَ بِطَلْقِ وَجهٍ

شمائلُهُ أَرَقُّ من الشِّمالِ

عَجِبْتُ يموتُ مِن ظمأٍ ويجرِي ال

فُراتُ العذبُ يَطفَحُ بالزُلالِ

وَيَهويِ لِلرمِالِ لِحَرِّ وَجْهٍ

ولم تَهوِ النُجومُ عَلى الرِمالِ

ويبقى مثلَ قرنِ الشَمسِ جِسمٌ

له بهَجيرِ حَرِّ الشَمسِ صَالِي

٣٠

وَرُبَّ مَصونَةٍ للطُّهْرِ طَهَ

تَبَدَّتْ تَستَشيِطُ منَ الحِجَالِ

وَتُجهِشُ بالبُكاءِ عُقَيْبَ دِلٍّ

فيا لِبُكاً تعقَّبَ من دَلالِ

وَنَاعٍ صَكَّ سَمعَ الدهرِ نَعياً

وَفَجَّرَ مَسْمَعَ الرِّمَمِ البَوالي

يطوّحُ مُعْلِناً بِمَحاقِ بَدرٍ

عَرَاهُ خَسفُهُ عند الكمالِ

لَشُقَّ له ضِراحٌ لا ضَريحٌ

وَهِيلَ التُربُ منهُ على الهِلالِ(١)

أشاهد كربله دايم واراها

وأحن عالظلّت اخوتها وراها

علي السجاد رد ليها وراها

او ثلث تيّام اعله الوطيه

التمهيد للمصيبة (گوريز):

لـمّا سَيَّر ابن سعد الرؤوس إلى الكوفة, أقام مع الجيش إلى الزوال من اليوم الحادي عشر, فجمع قتلاه وصلّى عليهم ودفنهم, وترك سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم , ومن معه من أهل بيته وصحبه بلا غسل ولا كفن ولا دفن, تسفي عليهم الصبا ويزورهم وحوش الفلا.

____________________

١- القصيدة للسيّد إبراهيم الطباطبائيّرحمه‌الله .

٣١

وأمّا علي بن الحسينعليه‌السلام فإنّه لـمّا نظر إلى أهله مجزّرين, وبينهم مهجة الزهراء, بحالة تنفطر لها السماوات, وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً, عظم ذلك عليه واشتدّ قلقه, فلـمّا تبيّنت ذلك منه زينب الكبرى بنت عليّعليهما‌السلام أخذت تسلّيه وتصبّره, وهو الذي لا توازن الجبال بصبره وفيما قالت له:

"ما لي أراك تجودُ بنفسك يا بقيّةَ جدّي وأبي وإخوتي, فوالله إنّ هذا لعهدٌ من الله إلى جدّك وأبيكَ ولقد أخذَ الله ميثاقَ أناسٍ لا تعرفهم فراعنةُ هذه الأرض, وهم معروفون في أهلِ السماواتِ أنّهم يجمعون هذه الأعضاءِ المقطّعةِ والجسوم المضرّجة فيوارونها, وينصبون بهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرسُ أثرُه, ولا يُمحى رسمُه على كرورِ الليالي والأيّام, وليجتهدنّ أئمّةُ الكفرِ وأشياع الضلالِ في محوِهِ وتطميسِهِ فلا يزدادُ أثرُهُ إلّا علوّاً".

للهِ صَبرُ زينبِ العقلية

كمْ صابرتْ مصائباً مهُولة

٣٢

المصيبة:

نعم سارت زينبعليها‌السلام ومعها عيالات الأصحاب- وكنُّ عشرين امرأة- وسيّروهن على أقتاب الجمال, بغير وطاء كما يساق سبي الترك والروم, وهن ودائع خير الأنبياء ومعهن السجّاد علي ابن الحسينعليه‌السلام - وعمره ثلاث وعشرون سنة- وهو على بعير ضالع بغير وطاء وقد أنهكته العلّة, ومعه ولده الباقرعليه‌السلام وله سنتان وشهور.

ويا لهول ما رأت النساء لـمّا مرّت على جثث القتلى، أُمٌّ تنظر إلى ولدها ملقىً على وجه الأرض والدماء تجري من جسده، وأُخت ترى أخاها على وجه الثرى, هذا ملقىً على يمينه وهذا ملقىً على شماله وذلك ملقىً على ظهره, إلّا الحسينعليه‌السلام فإنّه مكبوبٌ على وجهه قد قطع الشمرُ رأسه والجمّالُ يديه, فلـمّا رأته أُخته زينبعليها‌السلام على تلك الحالة صاحت: يا جدّاه يا رسول الله هذا حسينك بالعراء, مذبوح من القفا, مسلوب العمامةِ والرّدا، بأبي المهموم حتى قضى, بأبي العطشان حتى مضى, بأبي مَنْ لا هو غائبٌ فيُرتجى, ولا جريحٌ فيداوى بأبي مَن شيبته تقطر بالدّماء.

٣٣

يجدّي گوم شوف احسين مذبوح

على الشاطي وعلى التربان مطروح

يجدّي ما بگت له امن الطعن روح

يجدّي گلب اخوي احسين فطّر

يجدّي مات محّد وگف دونه

ولا نغّار غمّضله اعيونه

يعالج بالشمس منخطف لونه

ولا واحد ابحلگه ماي گطر

قالوا ثمّ همّت زينبعليها‌السلام بأن ترمي بنفسها على جسد الحسينعليه‌السلام ، فناداها زين العابدينعليه‌السلام : عمّة زينب ارحمي حالي، ارحمي ضعف بدني، إذا رميتِ بنفسك فَمَن يُركِّبُك وأنا مقيّد على ناقتي؟ عمّة زينب ودّعي أخاكِ وأنت على ظهر النّاقة، فجعلت زينب تطيل النظر إلى جسد أخيها الحسينعليه‌السلام وهي تقول: أخي حسين أودعتُكَ اللهَ السميعَ العليم، يا ابن أُمِّ لقد جاؤونا بالنّياق مهزولة لا موطّأة ولا مرحولة.

لمن تشتكي زينب حالها وهي التي لم تعرف السبي قبل هذا اليوم, يعزّ عليك يا أمير المؤمنين أن ترى ابنتك زينبعليها‌السلام في ذلّ السبي, كأنّي بها توجّهت إلى أبيها عليّعليه‌السلام

بويه يحيدر ما تجينه

وتشوفنه اشلون انسبينه

واشوف الزمان شعمل بينه

أخونه انذبح واحنا انولينه

٣٤

زينبعليها‌السلام امتنعت من أن ترمي بنفسها بطلب من الإمام السجّادعليه‌السلام ولكن باقي النساء ما تمالكن أنفسهن، كلُّ امرأة رمت بنفسها على جسد عزيزها, واعتنقت سكينة جسد أبيها الحسينعليه‌السلام يقول الشيخ الكفعميّ: كانت تحدّث أنّها سمِعَتهُ يقول:

شِيعَتِي ما إنْ شَرِبتُم

عَذبَ ماءٍ فاذكُروني

أو سَمِعتُم بِغَريبٍ

أو شَهيدٍ فاندِبوني

يعني:

بني سكينة قولي لشيعتي أنّ أبي مات عطشاناً فاذكروه, وقضى غريباً فاندبوه.

ولم يستطع أحد أن ينّحيها عنه حتى اجتمع عليها عدّة منهم وجرّوها بالقهر.

يبويه برضالك يو غصباً عليك

يجرني العدو من بين ايديك

وأنا اصرخ وادير العين ليك

وادري بحميتك ما تخليك

لكن معذور يلحزوا وريديك

٣٥

مَن لي حِمىً بَعدَ الحسينِ وَمعتَصَمْ

إنْ جَلَّ خَطبٌ فَادِحٌ وبِنَا أَلَمْ

ناديتُ لـمّا غَابَ بَدْرُ سَمَا الكَرَمْ

يَا غَائِبَاً عن أَهلِهِ أتَعودُ أَمْ

تَبقَى إلى يَومِ المَعادِ مُغَيّباً

٣٦

٣٧

مجلس الموكب الحسينيّ في الكوفة

أ أنسى حُسَيناً بِالطفوفِ مجدَّلاً

على ظَمَأٍ والماءُ يَلمَعُ طَامِيَا

وَ وَاللهِ لا أنسَى بناتِ محمَّدٍ

بقيْن حَيارَى قَدْ فَقَدْنَ الـمُحَامِيَا

إذا نَظَرَتْ فوقَ الصعيدِ حُماتَها

وأَرْؤُسُها فوقَ الرِماحِ دَواميَا

هُناكَ انثَنت تَدعُو ومِن حُرقِ الجَوى

ضرامٌ غَدَا بينَ الجوانحِ وارِيَا

أُنادي ولا مِنكم أرَى من مُجاوبٍ

فَمَا بالُكم لا تَرحَمونَ صُراخِيَا

ولم أنسَ حولَ السِبطِ زينبَ إذ غَدَتْ

تُنادي بِصوتٍ صَدَّعَ الكونَ عَالِيَا

أَخِي لم تَذُقْ مِن بَارِدِ الماءِ شُربَةً

وأَشْرَبُ ماءَ الـمُزْنِ بَعْدَكَ صَافِيَا

أخي يا هِلالاً غَابَ بَعدَ كَمَالِهِ

فأَضحَت بِهِ أيَّامُ سَعدِي لَيَالِيَا

أخي صِرْتُ مَرمَىً لِلحَوادِثِ والأَسَى

فَليتَكَ حَيَّاً تَنظُرُ اليومَ حَالِيَا

٣٨

أخي لو تَرى السَجَّادَ أضحى مُقَيَّداً

أسيراً يُقَاسِي مُوجِعَ الضَربِ عَانِيَا

عَليَّ عَزيزٌ أن أرَاكَ مُعَفَّراً

عليكَ عَزيزٌ أن تَرَى اليومَ مَا بِيَا

أَحَاشيكَ أن ترضى نَروحُ حَواسِراً

سبايا بِنَا الأعداءُ تَطوِي الفَيَافِيَا(١)

(ويلي).ان صحت بويه يشتموني

وان صحت خويه يضربوني

ومن الضرب ورمن امتوني

ومن البچه عمين اعيوني

أنادي هلي اولا يسمعوني

التمهيد للمصيبة (گوريز):

ورد أنّه لـمّا وضعت السيّدة الزهراءعليها‌السلام ابنتها زينبعليها‌السلام أخذها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال يا فاطمة، اعلمي أنّ هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصبّ عليها المصائب والرزايا.

وكانت السيّدة زينبعليها‌السلام على علم بخروجها مع الإمام الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء, ولم تفاجئ به, وقد علمت من جدّها وأمّها وأبيها بهذه المصيبة, وبهذه المهمّة التي اختارها الله لها, حتَّى يقال أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لـمّا عقد قرانها على زوجها عبد الله

____________________

١ - لسيّدة زينب للقرشيّ ص ٣٨ نقلاً عن الطراز المذهّب.

٣٩

بن جعفر, شرط عليه أن يأذن لزينبعليها‌السلام بالخروج مع أخيها فقبل, ولم تنفع محاولات الآخرين ثنيَ زينبعليها‌السلام من الخروج مع أخيها, ولهذا وقبل أن تغادر العقيلة الحجاز استأذنت من زوجها عبد الله بن جعفر, أن يسمح لها بالسفر مع شقيقها سيّد الشهداء, فأذِنَ لها في ذلك، ولما عزم الإمام أن يسافر دخل عليه عبد الله بن عبّاس ليعدله عن السفر إلى العراق، فقال له الإمامعليه‌السلام : "يا بن عبّاس ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت نبيّهم من وطنه وداره وقراره، وحرم جدّه، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرار، ولا يأوي إلى جوار، يريدون بذلك قتله وسفك دمه، ولم يشرك بالله شيئاً، ولم يرتكب منكراً، ولا إثماً".

فأجابه ابن عبّاس بصوت حزين النبرات قائلاً:

"جعلت فداك يا حسين, إن كان لا بدّ لك من المسير إلى الكوفة، فلا تسر بأهلك ونسائك..".

فقال له الإمام الحسينعليه‌السلام :

"يا ابن العم إنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامي، وقد أمرني بأمر لا أقدر على خلافه. إنّه أمرني بأخذهنّ معي، يا ابن العم إنّهن ودائع رسول الله، ولا آمن عليهنّ أحداً.".

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96