دروس في بناء المجلس الحسيني

دروس في بناء المجلس الحسيني 25%

دروس في بناء المجلس الحسيني مؤلف:
المحقق: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 158

  • البداية
  • السابق
  • 158 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23930 / تحميل: 5305
الحجم الحجم الحجم
دروس في بناء المجلس الحسيني

دروس في بناء المجلس الحسيني

مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

السبايا إلى المدينة، في الشام وما جرى في الشام وفي الكوفة أيضاً فيها نعي بل أضاف إليها وفيات النبي والزهراء وبقية الأئمةعليهم‌السلام .

بعد ذلك ظهر شاعر آخر وهو السيد عبد الحسين الشرع وديوانه باسم (منهل الشرع) وهو بجزأين.

وهناك أرضية للشعر الفائزي (البحراني) الموجود في المنطقة الشرقية بالحجاز والبحرين والكويت إلى عمان.لما كان الخطباء يسافرون من العراق إلى الخليج رأوا أن هناك مطلباً جديداً حيث أن الناس تريد هذا النوع الخاص من الشعر والنعي، بالإضافة أنه شجي، وأشهر ما كتب فيه ابن فائز التي تنسب إليه هذه الأشعار وكتابه باسم (فوز الفائز) كما ويوجد كتاب اسمه (الفائزيات الكبرى)، وكتاب للملا عطيه الجمري بعنوان (الجمرات الودية) وهو جزئين، وقد أشرنا إلى هذه الكتب مسبقاً.

وأفضل موضع يمكن أن يستخدم فيه النعي الطور البحراني هو بعد القصيدة في مقدمة المجلس.وبالعودة إلى أساس دروسنا فإن على الخطيب أن يسعى لتهيئة محاضرات ومواضيع في العشر الأولى من محرم خاصة وبقية المناسبات عامة.

التحضير يحتاج إلى تعب وجهد، يجب أن يحضر المجالس قبل عاشوراء أو بقية المناسبات مثل شهر رمضان بفترة معتد بها وقد يُحرِّم الخطيب من فرصة وهو بأمس الحاجة إليها، إذ قد يطلب منه فجأة مجلس ما فإذا كان قد هيأه مسبقاً فإنه سينقذه من الإحراج.والخطيب لا يعلم في أي مجلس يأتي فيه التوفيق له، ولهذا عليه أن

١٠١

يحسن علاقته بالله تعالى ويتقن عمله في إعداد المجالس وتهيأتها.

ولا بد من الاستماع إلى الخطباء البارزين، ويمكن أن يأخذ مجموعات من محاضرات الخطباء البارزين ويقارن ويستفيد ويستنتج.نعم نحتاج إلى التذكير بذلك باستمرار.

إن الاستماع والمتابعة والتسجيل ومحاولة الترديد والتقليد والمتابعة مع جهاز التسجيل، حيث يتم تسجيل الملاحظات، والمقارنة بين الشيخ الوائلي مثلاً والشيخ المقدسي أو السيد الشوكي والشيخ الصيمري، وغيرهم من شيوغ الخطباء وكيف يتكلمون، ويمكن أن تأخذ من هذه المحاضرة تخميساً ومن تلك يستفيد مصيبة أو الاستفادة من فكرة معينة وهكذا .حتى يصل الخطيب إلى مستوى الاستقلال بنفسه.

ومن الأمور التي تفجر مجالات الخطابة الحسينية هو أن على خطيب المنبر الحسيني أن يكون مبادراً للقراءة، فإذا طلب منه مجلس يجب أن يقرأ بما عنده، ويتجنب الاعتذار، من أجل أن يكتسب خبرة وجرأة، وإن الله سوف يفتح له أبواباً من العلم ولذلك يجب أن يبذل الخطيب ما عنده من طاقات، وقد تحتاج إلى حركة وتفاعل، نعم عليه أن لا يعتذر من أي مجلس، عليه دائماً أن يكون مقتحماً وحاضراً ومبادراً، وسوف يفتح الله تعالى عليه أبواباً لم يكن يفكر بها الخطيب، ولكن على الخطيب أولاً قبل المجلس أن يكون مهيئاً باستعداد ومداومة القراءة والمطالعة والتتبّع وينبغي التنبيه، أن مجالس شهر محرم تختلف عن مجالس شهر رمضان والمجالس في مناسبات الأئمةعليهم‌السلام تختلف عن بقية الأيام وفي العشرة الأولى من المحرم يكون التركيز

١٠٢

على السيرة أكثر من بقية المجالس وهكذا.

التركيز على السيرة هذا يدعوا إلى قراءة مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام بدقة وحفظ.

وعلى الخطيب أن يكون مبدعاً يجب عليه أن يأتي بشيء جديد، هناك الكثير من أبحاث السيرة الحسينية وفيها أمور غير مسموعة مجهولة جديرة بالبحث والطرح يجب على الخطيب أن يقرأ الكتب جيداً.ولابد أن يتنبّه على أهمية مجالس السبايا، التي تأتي بعد عاشوراء حتى نهاية صفر وضروة حفظ القصائد والنصوص والنعي المناسب لها.

يجب على الخطيب القراءة المستمرة نعم لا يطلب من خطيب المنبر الحسيني أن يكون مفكّراً كما قلنا، ولكن المطلوب أن يكون محاضراً هادفاً ونافعاً.وهذا لا يمنع من كونه مفكّراً ومبدعاً.

والمحاضر النافع يأخذ مما قاله العلماء المفكرون والمفسرون وأهل الرأي، ويمكن أن يقرأ كتاباً واحداً و لا يستفيد منه إلا معلومة واحدة.ولكن هذه المعلومة الواحدة وغيرها هي التي تجعل من منبره نافعاً وناجحاً.

وكما قلنا سابقاً: يجب عليه أن يكون في مكتبة الخطيب كل كتاب تناول مواضيع ثورة الحسينعليه‌السلام ، على الخطيب أن يكون منتجاً وجدياً ولا يكون مجرد صدى عن الآخرين.

وبهذا الدرس نكون قد أنهينا الفقرة الثالثة والأهم من فقرات المنبر الحسيني وهي فقرة المحاضرة والموضوع، ولكي نكمل دروسنا لا بد أن نتوقف في دروسنا القادمة عند فقرتي (التخلّص) و(المصيبة) إن شاء الله.

١٠٣

الدرس الرابع عشر:

فقرة التخلص

كنا في الدروس السابقة قد توقفنا عند شرح وإيضاح الفقرات الثلاث الأولى من فقرات المنبر الحسيني، وهي: المقدمة، القصيدة، المحاضرة(الموضوع).

وبقي علينا أن نواصل شرحنا ودراستنا للفقرات الثلاث الأخرى المتبقية، وهي التخلّص، المصيبة والدعاء.

٤- فقرة التخلص

مرّ بنا، أن المنبر الحسيني كان في بدايته لا يتجاوز قصيدة رثاء يتلوها الشاعر عند أحد أئمة أهل البيتعليهم‌السلام فتتفاعل معها النفوس والقلوب حرقة وألماً وبكاءً.

ثم أخذ المنبر الحسيني يخطو خطوات نوعية ويمرّ بمراحل متعدّدة، حتى وصل المنبر الحسيني حالياً إلى مستوى كبيرٍ من التخصّص، فصار فنّاً خاصاً من فنون الخطابة، لا يقوى على النهوض بمهماته إلّا من توافرت فيه شرائط خاصة بعضها ثقافية وأخرى فنيّة، يتواصل كل هذا مع متابعة ميدانية لأعراق المنبر وأساليب أساتذته وتراكم خبرات الخطباء وإبداعاتهم.

إن من خصائص خطيب المنبر الحسيني الناجح في يومنا هذا، إن

١٠٤

يمتلك حسّاً فنيّاً، وأسلوباً إنسيابياً، وذوقاً أدبياً، يقوى بها على نقل روّاد مجالسه من المحاضرة والبحث اللذين كان بصددهما إلى أيواء عاشوراء، وساحة كربلاء.أي أن هناك جسراً يعبر عليه المستمع من عالم البحث والمحاضرة إلى عالم المصيبة والبكاء والحزن.إن هذا الجسر الذي يحتاج إلى الحس الفني والأسلوب الإنسيابي والذوق الأدبي هو الذي يُعرف بـ (التخلّص).أو (النُقلة).

إن من غير المستساغ أن يتجاوز خطيب المنبر الحسيني فقرة التخلّص هذه لينتقل من فقرة المحاضرة إلى فقرة المصيبة رأساً (من الفقرة ٣ إلى الفقرة ٥).بل لا بد عليه أن يمهّد لهذا الانتقال عبر فقرة التخلّص.

والتخلّص أسلوب أدبي كان معروفاً عند العرب، حيث يذكر الشاعر معنىً ليمهّد الانتقال إلى معنى آخر.

أما في المنبر الحسيني، فإن التخلّص يعني: إن الخطيب حينما يشعر أنه قد أكمل بحثه، وأن المحاضرة التي قد تناولها أدت مهمّتها وكادت أن تصل إلى نهايتها، فإنه يبدأ بالتفكير والتخطيط والبحث عن فكرة ما أو مسألة ما لها ارتباط بمحاضرته من جهة، ويمكن من خلالها - كذلك- التعريج على أحداث واقعة كربلاء.أي يقوم بعملية تمهيد لذهنية المستمع وتهيئة لنفسيته وإعداد لمشاعره حتى تتفاعل في نهاية المجلس مع الأجواء العاطفية والحزينة لأحزان الطف.أن يتخلّص من المحاضرة إلى المصيبة.

إن (التخلّص) الناجح منوط بتوافر عدة شرائط أهمها:

١٠٥

أ- الذوق الخطابي والذهنية المنبرية التي تمكّن خطيب المنبر الحسيني من أخذ (فقرة التخلّص) بالاعتبار منذ أن يشرع بصياغة محاضرته وكتابة بحثه.أي أن الخطيب الناجح هو الذي يفكّر وهو في بداية مجلسه كيف سيختم مجلسه هذا!!.لأنه يعلم أن نجاحه وتوفيقه كخطيب لا يعود فقط إلى قوة المحاضرة، إذ قد يشترك في هذا مع بقية المحاضرين، ولكنه يعلم أن الأمر يتعلّق وإلى حدّ كبير - كذلك- إلى رهافة أسلوبه، وانسيابية طريقته في نهاية المحاضرة لربطها بكربلاء.

فحينما يطرح الخطيب محاضرة حول الصديق والصداقة، فإنه يفكر منذ بداية محاضرته بأفضل ربط بين محاضرته وحدث من أحداث كربلاء.حيث يخطط -مثلاً- لأن يُنهي المجلس باستشهاد مسلم بن عوسجه الأسدي ومجيء حبيب بن مظاهر الأسدي رضوان الله عليه إلى مصرعه باعتباره كان صديقاً له ضمن تاريخ جهادي طويل.

فإذن عندنا بداية وهي محاضرة الصداقة، وعندنا نهاية وهي مصيبة استشهاد مسلم بن عوسجة ولكن كيف يربط بينهما؟ هنا يأخذ الخطيب بالتفكير والبحث عن فكرة ما تكون ضمن سياق المحاضرة فلا يشعر المستمع أنه قد دخل في موضوع جديد، بل قد لا يتصوّر أن هذه الفكرة ستنقله إلى كربلاء.فيجد الخطيب الحديث الشريف: «لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث؛ في غيبته، ونكبته، وعند وفاته).ويكتشف أهلية مؤدى الحديث الشريف مع المهمة التي يسعى إليها.فيجعل هذا الحديث في آخر محاضرته

١٠٦

لأنه يعتبر جسراً جيداً يربط به بين المحاضرة وكربلاء.فيذكر الحديث مع شرح يتناسب والوقت حتى يصل إلى حضور الصديق في وفاة صديقه.ثم يقول: نعم كم يتألم الصديق حينما يسمع باحتضار صديقه خاصة من كان له معه تاريخ من الوفاء والصدق.فكيف بمن كان يسعى لمصرع أحد أصدقائه وإخوانه وفيه بقية من روح نعم كيف لنا أن نتصور شعور صديق سبقه صديقه إلى الشهادة يذهب إليه ليؤبنه ويبشره بالجنة، كما صنع حبيب بن مظاهر الأسدي حينما سار خلف الإمام الحسينعليه‌السلام إلى مصرع صديقه وابن عمه مسلم بن عوسجة الأسدي.

وهكذا رأينا كيف انتقل الخطيب من المحاضرة إلى المصيبة.

وهذا مجرد مثل لما ينبغي أن تكون عليه ذهنية خطيب المنبر الحسيني، حيث عليه أن يفكر حينما يشرع بكتابة محاضرته بكيفية إنهائها إلى كربلاء.

هذه هي الطريقة الأفضل، نعم يمكن للخطيب أن يبدأ محاضرته ثم يقف في نهايتها متأملاً وباحثاً عن (تخلّص) يعينه في مهمته، وهي مرحلة قد تأتي بعد طول خبرة ومزيد ممارسة.

ب- الاطلاع الواسع والدقيق على كل مفردات السيرة الحسينية.لقد أكّدنا مراراً أثناء دروسنا السابقة، أن من الأمور الأساسية التي تميّز خطيب المنبر الحسيني عن بقية المحاضرين والخطباء، أنه يمتلك اطّلاعاً واسعاً واهتماماً بالغاً بواقعة كربلاء وأحداثها، بل ويزيد على ذلك تميّزه بحفظ النصوص من خطب ومحاورات وأشعار

١٠٧

ذكرتها كتب السير.

إن واقعة كربلاء واقعة شمولية إذا صحّ التعبير، حيث جمعت بين بدايتها ونهايتها أحداثاً متنوعة ومواقف مختلفة، وسلوكيات متباينة، وظروفاً متعددة.جعلت منها منجماً ثميناً ومجالاً غنياً لإمكانية أن يربط بين أي موضوع يُتحدث عنه أو فكرة تناقش أو مسألة تطرح، أن يُربط بين كل ذلك وحدث من أحداث كربلاء، إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.ولهذا نجد أن خطباء المنبر الحسيني وهم يعالجون على منابرهم مختلف القضايا ويطرحون أنماط الأبحاث في جوانب الحياة المختلفة للإنسان والمجتمع ثم يربطون كل ذلك بكربلاء وعالمها.

إن من أهم ما يمكّن خطيب المنبر الحسيني من أن يكون ناجحاً في تهيئة التخلّص المناسب والمؤثّر في الوقت ذاته، أن يكون مطّلعاً وبشكلٍ دقيق وتفصيلي على كل ما يتعلق بحركة الإمام الحسينعليه‌السلام منذ أن رفض البيعة ليزيد بل وقبلها، إلى خروجه من المدينة إلى مكة وما جرى له في مكة، حتى خروجه منها إلى العراق، والمنازل التي مرّ بها وأحداثها وأشخاصها، ثم ظروف وصوله إلى كربلاء وكل المحاورات والتطورات حتى ليلة عاشوراء ثم الإهتمام الأكثر تفصيلاً بأحداث ليلة عاشوراء ثم متابعة دقيقة وتفصيلية لكل ما جرى في يوم عاشوراء من مواقف وأحداث وأشعار ونصوص حتى الشهادة، ثم ما جرى بعد ذلك وطول رحلة السبا من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ثم العودة عبر كربلاء إلى المدينة.

١٠٨

الدرس الخامس عشر:

مادة الخطيب في فقرة التخلص

أكدنا في درسنا السابق على أهمية الاطلاع على السيرة الحسينية بحيث نستطيع أن نصوغ معادلة مفادها: كلما كان الخطيب مطَّلعاً على تفاصيل أدق كان أقدر في اختيار أسلوب التخلّص المؤثّر والنافع.

وكمثال: فإن أحد أساتذة المنبر الحسيني وهو المرحوم الشيخ هادي النويني، كان قد طرح عنواناً لمحاضرته وهو الآية الكريمة﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ (١) .وكان رُبطهُ وتخلّصهُ موفقاً حينما أنهى محاضرته بمقطع من الحوار الذي جرى بين زهير بن القين رضوان الله عليه والشمر يوم عاشوراء، حينما قال الشمر لزهير: إني أراك تعبد الله على حرف.فأجابه زهير: إني والله أراك تعبد الله على سبعين حرفاً.

فلولا أن الخطيب كان متابعاً لهذه الجزئية في هذا الحوار لما اهتدى إلى هذا التخلّص.

وطرح الشيخ أحمد الوائلي في مجلس قام به المختار الثقفي في قضية أخذ ثأر شهداء كربلاء، والأجواء لا مجال فيها للبكاء لأنه فيها انتصار لأهل البيتعليهم‌السلام من قاتليهم وظالميهم.ولكنه وجد في قصة

____________________

١- الحج: ١١.

١٠٩

أخذ الثأر هذا مقطعاً سجّل حالة تأمل وحزن بدت على وجه المختار لما جيء إليه برأس عمر بن سعد ورأس ابنه حفص فقال: أهذا برأس الحسين وهذا برأس علي الأكبر؛ وهكذا وجد هذا الجسر الذي انتقل منه إلى كربلاء، وعاد من خلاله بالمجلس إلى أجواء الحزن.

وهكذا فإن الاطلاع الدقيق والتفصيلي على أحداث كربلاء، يمكّن الخطيب من اختيار التخلّص الناجح والمؤثر في عين الوقت.

إن هذا الاطلاع هو مادة الخطيب في فقرة التخلّص.

- الاطلاع على تجارب شيوخ المنبر الحسيني وإبداعاتهم في هذه الفقرة.لأن هناك أناس مميزون في كل حقل من حقول العلم والمعرفة والأدب وأنواع التخصّصات، فكذلك نجد في عالم المنبر الحسيني، خطباء مميزون.وبعض هؤلاء الخطباء برز تميّزهم وبشكل رائع في فقرة التخلّص.فقد يكون بعض الخطباء غير متميزين في محاضراتهم ولكنهم متميّزون في حسن نقل المستمع من أجواء المحاضرة إلى أجواء المصيبة.

والاطلاع إما مباشرة، من خلال حضور مجالس الخطباء المشهورين أو الاستماع إلى تسجيلات مجالسهم.حيث على الخطيب المبتدئ أن يسائل نفسه كيف سينتهي هذا الخطيب من محاضرته وإلى أي جانب من جوانب كربلاء سيعرّج!

فليحاول التوقّع، ثم ليقارن بين توقعه وبين ما يسمعه من الخطيب.

وأما أن يكون الاطلاع بصورة غير مباشرة، من خلال الكتب والمصنّفات التي اهتمّت بتسجيل بعض اللقطات التي يمكن أن توظّف

١١٠

توظيفاً رائعاً في التخلّص.

ولعلّ أشهر كتاب يمكن أن يعين في هذه المرحلة هو كتاب (الخصائص الحسينية) للعلامة الخطيب الشيخ جعفر التستريرحمه‌الله .وهو كتاب يحظى بأهمية خاصة عند خطباء المنبر الحسيني.كما يمكن الرجوع إلى بعض الكتب الأخرى التي صيغت على شكل مجالس يتم في آخر كل مجلس ربطه بحدث من أحداث كربلاء، مثل كتاب (شجرة طوبى) للمرحوم الشيخ محمد مهدي الحائري ففيه أمثلة كثيرة على التخلّص.

هذه هي أهم النقاط التي يمكن من خلالها أن يوفّق الخطيب للوصول إلى (تخلّص) مناسب ودقيق ومؤثّر.

ومن الجدير بالذكر، أن (التخلّص) كان من الفقرات الفنية التي رافقت تطوّر المنبر في مرحلته الأخيرة (راجع مراحل تطور المنبر الحسيني).ويُذكر أن أول خطيب حسيني أخترع أسلوب التخلّص في المنبر الحسيني، كان الخطيب المشهور الشيخ كاظم سبتيرحمه‌الله (راجع كتاب: ما في النجف وحاضرها للشيخ جعفر محبوبة).

ويُطلق على التخلّص في المجالس الحسينية في العراق والخليج والمنطقة العربية في إيران، مصطلح (الكَريز) بالكاف الأعجمية، وهي كلمة فارسية الأصل معناها: النُقلة.

وفي نهاية فقرة التخلّص لا بد من التأكيد على ما يلي:

النقطة الأولى: على خطيب المنبر الحسيني النابه، أن يختار (التخلّص) المناسب مع ظروف مجلسه ومستوى الحاضرين الثقافي

١١١

والاجتماعي، لأنه قد يكون (تخلّص) رائع في ظرف ما غير موفقٍ في ظرفٍ آخر.فالمسألة راجعة إلى اختيار الخطيب وحسن انتقائه.وكأمثلة:

أ- حضر أحد الطلبة الجدد، مجلساً في مخيّم الإمام الحسينعليه‌السلام بكربلاء ليلة الحادي عشر من المحرّم.وهذا المجلس وبهذه الظروف المكانية والزمانية، يكون الدمع فيه منساباً والقلوب فيه منفعلة مع مصائب الطف.ولما ارتقى الخطيب المنبر بقي ساكناً مدةً حتى الفت أذهان الحضور، فسكتوا واصغوا إليه ينتظرون ما هو سبب سكوته، هل نسي الشعر أو المصيبة أم ماذا؟ وإذا بهذا الخطيب يقرّب أنفه من الميكرفون وهو يصد أصوات الشمّ وكأنه يشمّ رائحة ما.فقال: إني أشم رائحة حريق وأشياءً محترقة.وحينما أراد بعض الحاضرين أن يعرف مصدر رائحة الحريق هذه بادرهم الخطيب: لعلّ هذه من بقايا خيام الحسين المحترقة هذا اليوم هنا في المخيّم فالتهب المجلس بكاءً وصراخاً وحنيناً.

ثم صادف أن التزم هذا الخطيب المبتدئ قراءة مجالس لليالي عاشوراء، في السنة القادمة وعند قرية من القرى حيث تُبنى بيوتهم من القصب وجذوع النخل والحصر، ويعتبر الحريق عندهم كارثة حقيقية، رغم ذلك فقد قرّر هذا الطالب أن يسرد نفس ما جرى من ذلك الخطيب في مخيم الحسينعليه‌السلام بكربلاء.ولما أخذ يشمّ ثم يقول إني أشمّ رائحة حريق وإذا بالناس ينهضون خائفين مذعورين، حذر الحريق المزعوم هذا حتى تركوا المجلس وذهب كل رجل ليطمئن على بيته السريع الاشتعال!!

إذن ليس كل (تخلّص) يكون مناسباً مع اختلاف الظروف الزمانية والمكانية.

١١٢

ب- كان الخطيب الحسيني الشهير الشيخ جواد القسّامرحمه‌الله مدعوّاً لقراءة مجلس في وفاة والدة أحد رؤساء العشائر المشهورين أيضاً واسمه مبدر آل فرعون.واحتشد المجلس وكان الخطيب على منبره في صدر المجلس بينما ابن المتوفاة في آخره فأخذ الخطيب يسأله كيف توفيت الوالدة؟ وظروف الوفاة.ثم تابع أسئلته متى توفيت الوالدة؟ فأجابه: لقد توفيت والدتي عصراً، فبادره الخطيب سائلاً: ولماذا لم تدفن والدتك ليلاً؟.فقال ابنها: كيف يمكن أن تدفن أميّ ليلاً، وأنا ولدها رئيس العشيرة المعروف، والشخصية الاجتماعية البارزة، نعم لا يمكن دفنها حتى تجتمع العشائر وتسمع بذلك القبائل وتأتي الوفود ويجتمع الأرحام، حتى شيّعناها نهاراً مع الاهازيج العشائرية تشييعاً يليق بها وبي وبعشيرتي!!

هذا والناس يستمعون هذا الحوار، وهم لا يدرون هدف الخطيب من هذا الحوار، وإذا بالخطيب يرفع صوته صارخاً وناعياً:

ولأي الأمور تُدفن ليلاً بضعة المصطفى ويُعفى ثراها

أم من بنت من حليلة من ويلٌ لمن سنّ ظلمها وآذاها

فانفجر المجلس بالبكاء بهذا التخلّص الفني الرائع في ربط ظروف دفن هذه المرأة مع ظروف دفن سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

ولكن صادف أن أحد الخطباء البسطاء كان حاضراً هذا المجلس فأعجب بهذا التخلّص.وذات يوم توفيت والدة أحد الفلاحين الفقراء، فدعي للقراءة في مجلس قليل الحضور محدود التواجد.

١١٣

وإذا بهذا الخطيب يحاول محاكاة الشيخ جواد القسّام وتقليده في مجلسه المشهور آنفاً.فبدأ يخاطب ذلك الفلاح الفقير .كيف توفيت الوالدة؟ وما هي ظروف وفاتها؟.إلخ.

ولكن صادف أيضاً، أن هذا الفلاّح المسكين كان حاضراً ذلك المجلس المشهور، وإذا به يقاطع الخطيب بلغة لا تخلو من استهجان وتهكّم! مولانا إقرأ مجلسك ولا تضخّم الموضوع، فلا أنت كالشيخ ابن قسّام، ولا أنا كرئيس العشيرة مبدر ولا والدتي كوالدته!! فضحك الناس وأسقط ما في يدي الخطيب وفشل مجلسه وولّى هارباًپ.

النقطة الثانية: إن هناك مجتمعات عريقة في إقامة المجالس الحسينية، تكوّنت عندها على تراكم الخبرات والاستماع لشيوغ الخطباء واستمرارية المجالس لعدة مناسبات وبمختلف الظروف، تكونت خبرة ونشأ ذوق ونمى حسٌ مرهف، يتجاوب مع الخطيب ويتفاعل معه.فتسهل بذلك مهمة الخطيب وتكون فرص النجاح لديه أكثر.ومن جملة تلك التسهيلات أن المستمع يفهم مراد الخطيب وقصده والنقطة التي يريدها.ولكن الأمر لا يكون كذلك في مجتمع أو بيئة قليلة المجالس محدودة الخطباء جديدة العهد بها، فما يكون تخلصاً نافعاً في مجلس قد يكون نافع في مجلس آخر لا يمتلك عراقة الأول وقدمه وخبرته.

وكمثل على ذلك.فقد ارتقى أحد كبار الخطباء وهو الشيخ عباس قوزي المنبر في يوم عاشوراء، وهو بحذائه مما أثار استغراب الحاضرين واستهجانهم، وارتفعت همهماتهم فيما بينهم، كيف يرتقي الخطيبُ منبر سيد الشهداء بحذائه وفي يوم عاشوراء؟

١١٤

وإذا بذلك الخطيب يلتفت إليهم ليقول: استغربتم ارتقائي المنبر بحذائي؟ والمنبر ما هو إلّا خشب وقماش أسود، فما تقولون لو رأيتم الشمر يطأ صدر الحسين؟.وارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب.

إن هذا التخلّص، الرائع قد لا يكون مناسباً في بيئة أخرى، بل قد لا يبكي الناس في أكثر المجتمعات الحديثة حالياً.

النقطة الثالثة: إن مجالس ليالي عاشوراء، وكما سبق بيانه، تنتهي بمصائب معروفه لكل ليلة من الليالي، وبالتالي فإن نفسية روّاد المجالس مهيأة للاستماع إلى مصيبة خاصة، وبالتالي فهم يتوقعون أن يكون التخلّص لكل مصيبة محدّداً مسبقاً، وهذه الحالة لا تلغي إبداع الخطيب في اختراع طرق تخلص متنوعة وجديدة.

وما يقال عن ليالي عاشوراء، يقال عن المجالس التي تعقد في مناسبات وفيات المعصومينعليهم‌السلام فبالرغم من كون هذه المجالس محدّدة المصيبة، إلا أنها لا تلغي دور فقرة التخلّص في مزيد من الإبداع والتفنن.

أما ما عدا ذلك من المجالس، وطوال السنة، مثل مجالس بقية شهر المحرم، ومجالس شهر صفر ومجالس شهر رمضان الفضيل، فإن الخطيب فيها مخيّر باختيار نوعية الموضوع (المحاضرة) كما له الحرية باختيار فقرة المصيبة وما يناسبها من تمهيد عبر فقرة التخلّص.

ونؤكد أخيراً، أن نجاح الخطيب الحسيني في فقرة (التخلّص) يعود إلى عوامل عدة منها: متابعته لشيوخ الخطباء، وأساتذة المنبر، الاطلاع الكامل على كل تفاصيل السيرة الحسينية، حسّه المرهف وحسن أسلوبه وقدرته على الإبداع المتواصل.

١١٥

الدرس السادس عشر:

فقرة المصيبة ١

أكملنا في درسنا السابق الفقرة الرابعة من فقرات المنبر الحسيني المعاصر، وهي فقرة (التخلّص).وفي هذا الدرس نواصل دراستنا لبقية الفقرات وهما (المصيبة) وَ (الدعاء).

٥- فقرة المصيبة

ونعني بها التوقّف عند مفردة من مفردات أحداث واقعة كربلاء ذات الجانب العاطفي الحزين، حيث يتم إشباع هذا الجانب بالشعر الرثائي المناسب لها، وبنوعية الشعر العربي الفصيح (القريض)، والشعر الشعبي المتداول.

وفي هذه الفقرة يتغير أداء خطيب المنبر الحسيني، شكلاً ومضموناً أما شكلاً؛ فمن خلال تغيّر نبرات صوته وارتفاعها، واستخدام أطوار وأساليب الإنشاد العاطفي الحزين.فالخطيب نفسه الذي كان هادئاً في حديثهِ، طبيعياً في طرح محاضراته، نجده في هذه الفقرة رافعاً صوته، مغيّراً نبراته لمزيد من الإبكاء وإيقاد العواطف الحزينة وإذكاء الإشجان.

وللدّقة العلمية، فإن نبرات صوت الخطيب تبدأ في نهاية فقرة (التخلّص) السابقة، ولكن التغيّر هناك تغيراً بسيطاً يتمثّل بترقيق

١١٦

الصوت دون رفعه، وبأسلوب رقيق هادئ في عملية تهيئة للوصول بروّاد المجالس الحسينية إلى حالة الإبكاء واستدرار الدموع.

إن فقرة (المصيبة) كانت من التطورات الفنية التي طرأت على المنبر الحسيني عبر مراحله التاريخية.فقد كانت المصيبة ضمن قصيدة الرثاء التي لم يكن غيرها في بداية نشوء المنبر كما مرّ بنا.فحينما كان الشاعر يقرأ قصيدته الرثائية، فإنما كان يعرض جوانباً من كربلاء وأحزانها ومصائبها، دون أن يكون للمصيبة فقرة خاصة.ثم أن الشعر الرثائي في بدايته لم تكن تصاحبه تغيرات في الصوت وتجويد في الإنشاد الحزين.نعم بدأ ذلك بوقت مبكر، حينما طلب الإمام الصادقعليه‌السلام من أبي هارون المكفوف الـمُنشد، أن يعيد قراءته لقصيدة السيد الحميري بأسلوب شجي وطريقة مُحزنة وإنشاد عاطفي.(كما ذكرناه في دروسنا الأولى).

ومع تطوّر المنبر، ودخول عنصر الوعظ بعد إنشاد القصيدة في مقدمة المجلس، كان لا بد من ختم المجلس بالعودة إلى كربلاء وآلامها مرة أخرى، فنشأت فقرة (المصيبة).

إن فقرة (القصيدة) التي سبق لنا دراستها، كانت تتضمن التعريج على كربلاء ومصائبها، وقد قلنا أن الأفضل من الناحية الفنية أن يتم انتقال الخطيب من طور (الدرج) إلى طور (المثكل) حينما ينتقل الشاعر إلى كربلاء وأحزانها.كما قلنا هناك - أن العادة قد جرت أن لا يكتفي بإنشاد القصيدة الفصحى في أول المجلس، بل تُلحق بها أبيات من الشعر الشعبي العراقي أوالخليجي.

١١٧

لكننا هنا ونحن في نهاية المجلس، فإن فقرة (المصيبة) تختلف عن سابقتها التي جاءت ضمن القصيدة في جملة نقاط منها:

أ- ضرورة التمهيد لفقرة (المصيبة) بفقرة (التخلّص) كما درسنا، بينما لا تحتاج المصيبة التي تأتي ضمن القصيدة إلى تمهيد من قبل خطيب المنبر الحسيني.

ب- إن المصيبة الواردة في القصيدة لا تحتاج إلى إشباع، كما ينبغي أن يكون عليه الحالة في فقرة (المصيبة) آخر المجلس.فإذا لم يتم التفاعل العاطفي مع القصيدة ومصيبتها ولم يحدث إبكاء ولم تنزل الدموع، فهو أمر لا يقدح بقدرة الخطيب ومقدرته الفنية في الوصول بالمستمع إلى مستوى ذلك، وإلى حدّ واضح.أما أن لا يوفّق الخطيب في أن يصل بروّاد مجلسه في فقرة (المصيبة) إلى مستوى الإبكاء، فهي مسألة بحاجة إلى مراجعة ودراسة، وهي ظاهرة تمس صميم مهمة الخطيب الحسيني.

صحيح أن المسألة نسبيّة، تختلف من مجتمع منبري لآخر، ومن مستوىً لثانٍ، ولكن لفقرة المصيبة خصوصية واضحة في إيصال خطيب المنبر الحسيني بروّاد مجلسه إلى نقطة الانفجار العاطفي والبكاء أو التباكي.

ج- في فقرة (المصيبة) وللوصول إلى ما ذكر أعلاه، فإن الخطيب لا يكتفي عادة بطور خاص، ولا بإسلوب واحد في إذكاء العواطف الحزينة المتعلقة بالمفردة التي اختارها لإنهاء مجلسه بها.فنجده يستخدم عدة أطوار من الشعر الفصيح والشعبي الدارج، ينتقل فيه من الفصيح إلى

١١٨

الشعبي وبالعكس، حتى يجد أن المجلس قد أخذ كفايته من الإذكاء العاطفي والإبكاء الحزين.بينما جرت العادة في إنشاد القصيدة على اتباع أطوار محدّدة، وقد لا ينتقل إلى الشعر الشعبي بعدها، وإذا فعل ذلك فمن غير المألوف والمستساغ عودته مرة أخرى إلى الشعر الفصيح.

د- إن المصيبة التي تأتي ضمن فقرة (القصيدة) لا تحتاج إلى بيان وعرض من قبل الخطيب، فلا تبرز فيها قدرته الإبداعية أو الأدبية في صياغة الكلمات وسبك الألفاظ، بينما نجد أن فقرة (المصيبة) في نهاية المجلس تأتي أولاً بعد فقرة (التخلّص) التي تمهّد لها، وثانياً لا بد للخطيب أن يصوّر المفردة الحزينة، ويقرّب جوانبها العاطفية، وهو يسعى لإذكاء الأحزان واستدرار الدموع، مستخدماً رصيده الأدبي، ومقدرته التصويرية، بل قد ينزل الخطيب الحسيني من منبره، ولاقطة الصوت بيده - لمزيد من الإبكاء - ويتجوّل بين الناس، كما هو الحال في بعض مجالس الخليج، وهذا لا يكون عند إنشاد القصيدة.فالنقطة الرابعة هنا، إن مستوى الخطيب وقدرته وكفاءته ورهانة أسلوبه تبرز في فقرة (المصيبة) هذه، وبشكل واضح.

ه- في أثناء إنشاد القصيدة لا يحتاج الخطيب إلى إيراد نصّ يتعلّق بالمصيبة التي تتناولها هذه القصيدة، بينما يحتاج الخطيب في فقرة (المصيبة) إلى إيراد النصّ المأخوذ من كتب المقاتل والسير، حتى يهيأ الأجواء ويوضّح الصورة ويبرز المفردة الحزينة، التي يريد توظيفها في هذه الفقرة.وهنا تبرز ضرورة حفظ النصوص المتعلقة بجوانب كربلاء وما فيها من حوارات وأشعار وتوصيف المواقف.

١١٩

ونورد مثالاً يتضمن النقاط التي ذكرناها آنفاً.

لو فرضنا أن خطيب المنبر الحسيني، كان يطرح محاضرة في الأخلاق وأهميتها أو في خصوص أخلاق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم أخذ الخطيب يفكّر في مفردة المصيبة التي ينبغي اختيارها لإنهاء مجلسه، فاختار - فرضاً- مفردة مصيبة عبد الله الرضيع بن الإمام الحسينعليه‌السلام .فالخطيب لا بد عليه أولاً أن يهيء ذهن المستمع ونفسيته للانتقال من المحاضرة إلى كربلاء، أي لا بد أن يمرّ بفقرة (التخلّص) قبل وصوله إلى فقرة (المصيبة).

فتبدأ نبرات صوته بالتغيّر، حيث يتحدث بطريقة هادئة حزينة وكأنه يخاطب قلوب الحاضرين وضمائرهم، فيقول - على سبيل المثال -: هذه أخلاق الإسلام وهذه أخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يحبّ الأطفال ويرعاهم، ويقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن لم يقبّل طفله الصغير "من لا يرحم لا يُرحم".حتى كان يؤتى بالأطفال إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليؤذن ويقيم في آذانهم وليدعو لهم ويباركهم ويمسح بيديه الحانيتين عليهم.

(وهنا تبدأ نفسية المستمع بالاستعداد لما يريد الخطيب إيصاله إليه، وهي مصيبة الطفل الرضيع).أقول سيدي يا رسول الله، إذا كنت تعامل أطفال المسلمين بهذه الرقّة وهذه العاطفة وهذا الحنّو.فأين أنت يا من بعثت رحمة للعالمين عن أبنائك يوم عاشوراء.أين أنت عن أطفال الحسن وأطفال الحسين.

(لاحظ هنا أن الخطيب أخذ يوظّف قدراته الفنية والتصويرية والأدبية للانتقال إلى فقرة المصيبة).

نعم أين أنت يا نبي الله عن كربلاء، لا أعلم حالك إذا نظرت إلى

١٢٠

عزيزك الحسين وهو يودّع طفله الصغير عبد الله الذي كان له من العمر ستة أشهر يودّعه وبناتك المفجوعات في الخيام ينظرن إليه باكيات نادبات (فإذا أدرك الخطيب أن الجو تهيأ للبكاء، وأن العواطف الحزينة قد أُذكيت وأن الدمع على وشك النزول من العيون، وصل إلى الصاعق الذي يفجّر ذلك، بإيراده مفردة المصيبة، لاحظ هنا اختلاط التخلّص بالمصيبة واندماجهما بشكل فني رقيق وانسيابي).

نعم خرج الحسين بطفله إلى القوم، وينقل بعض أرباب المقاتل عن حميد بن مسلم قوله: إن الحسين عوّدنا أنه إذا أراد أن يخرج للوعظ والخطابة برز على ناقة له، وإذا أراد أن يبرز للقتال برز على فرس له.ولكن هذه المرة خرج الحسين ماشياً على قدميه وتحت ردائه شيء يظلله من حرارة الشمس.

يقول حميد بن مسلم: فحققنا النظر إليه وإذا به طفله الرضيع

(إلى الآن كان الخطيب يعرض هذه المفردة المؤلمة بنبرات صوت هادئة وحزينة وتصويرية، ثم لا بد أن يفجّر البكاء والحزن بالشعر الرثائي بكل ألوانه التي يراها مناسبة لهذه المهمة).

ودعا الأقوام يا لله من خطب فظيع

نبئوني أنا المذنب أم هذا الرضيع

لاحظوه فعليه شبه الهادي الشفيع

لا يكن شافعكم خصماً لكم في النشأتين

فناداهم الحسين: "يا قوم قتلتم أخوتي فصبرت، قتلتم أبناء عمومتي فصبرت، قتلتم أصحابي فصبرت، ولم يبق عندي إلا طفلي الرضيع

١٢١

هذا، والله قد جفّ ثدي أمّه من اللبن، خذوه واسقوه بأيديكم ماءً".

فاختلف القوم، وبكى بعضهم فقال عمر بن سعد لحرملة بن كاهل: أقطع نزاع القوم، أرمه بسهم من كنانتك.يقول حرمله: كان الطفل مغطىً ببرقع فجاءت ريح وأزاحت البرقع وإذا برقبة الطفل على عضد أبيه الحسين كأنها إبريق فضة فرميته بسهم ذبحته من الوريد إلى الوريد.

يقول الإمام الباقرعليه‌السلام : "لما أحس طفل جدي الحسين بحرارة السهم، أخرج يديه من القماط وجعل يرفرف على صدر أبيه الحسين كالطير المذبوح.وضع الحسين يده تحت منحر الطفل حتى امتلئت دماً ثم رمى بها إلى السماء":

تلكه الحسين دم الطفل بيده

أشحاله اليقتل بحضنه أوليده

شاله وترس كفه من وريده

ذبّه للسما وللكاع ما خرّ

ثم أن الحسين لم يرجع به إلى أمه الرباب فالأم لا تقوى أن ترى طفلها مذبوحاً ولكن رجع به إلى خيمة عمته زينب، فصرخت: واولداه وا ابن أخيّاه.

ما حال عمته وحال شجونها

من نار أحشاها وماء جفونها

لما رأت خطفته كف منونها

همّت تغسّله بماء عيونها

فتكفلت عنه الدماء بغسله

١٢٢

(وبعد هذا التخميس قد يجد الخطيب أن المجالس ما زال بحاجة إلى إشباع فيأتي ببيت أبو ذية من الشعر الشعبي):

عيوني تسحب العبرة بالمهاد

على الناموا على الغبرة بلا أمهاد

طفلهم مالحك يمهد بالإمهاد

وحزّت ركبته سهام المنية

(فإذا أراد الخطيب إنهاء المجلس فلا بد أن يأتي ببيت يُعرف ببيت التخلّص أي يتخلّص به من المجلس، أي ينهيه، أو ربما بيتين أو أكثر بل ربما تخميس، ولكن المهم أن يقرأ الشطر الأول من البيت الأخير بإحدى طرق النعي، بينما يترك الشطر الثاني وبذا يتم المجلس).

ومنعطف أهوى لتقبيل طفله

فقبّل منه قبله السهم منحرا

(لا يقرأ هذا الشطر)

وبذا وصلنا إلى نهاية درسنا هذا.

١٢٣

الدرس السابع عشر:

فقرة المصيبة ٢

في الدرس السابق سلّطنا الضوء على فقرة (المصيبة) وعقدنا مقارنة بين ما يذكر أثناء القصيدة في مقدمة المجلس وبين هذه الفقرة في نهاية المجلس الحسيني.

إن فقرة المصيبة، فقرة أساسية في هيكلية المنبر الحسيني، لا بل تعتبر الفقرة الأهم في بعض مساحات المنبر الحسيني، لا سيما المجالس البيتية ومجالس القرى والمجالس الشعبية العامة، وهي المجالس التي لها حضور واسع في العديد من الساحات.

كما أنها الفقرة التي تميّز خطيباً عن آخر من خطباء المنبر الحسيني.وتميز خطباء المنبر الحسيني عن بقية المحاضرين والخطباء والمتحدثين، حيث تخلو محاضراتهم منها.

إن نجاح الخطيب الحسيني بهذه الفقرة منوط بعدة أسباب، منها:

أ- الاطلاع الكامل والتفصيلي على مفردات واقعة كربلاء في جوانبها الحزينة والمؤلمة حيث يتم إنهاء المجلس بإحداها.وهذا يوفر لدى خطيب المنبر الحسيني خيارات عديدة كما أنها تكسب مجلسه

١٢٤

جاذبية خاصة، من خلال تنوع المصائب التي ينهي بها مجالسه.

إذ أن من المؤاخذات الفنية على بعض الخطباء أنه ينهي مجالسهُ بمفردات معينة لا يتجاوزها إلى غيرها، فيصاب مجلسه بالرتابة ويغيب جانب الإثارة والتنوع فيه.

إن كتب المقاتل هي المادة الأساسية لهذه المفردات التي تعتمد في نهايات المجالس.

ب- حفظ الأبيات الشعرية القويّة والمؤثرة من نوعية الفصيح والشعبي، والتي تعتبر المادة الأساسية لفقرة المصيبة، فبعد أن يوضح الخطيب مفردة من مفردات المصائب فعليه أن يؤيد ذلك ويعمّقه بأبيات النعي المنتقاة.ولهذا ينبغي على الخطيب اقتناء دواوين الشعر التي عالجت هذا الجانب من الشعر الفصيح والشعر الشعبي.وقد سبق الإشارة إلى ذلك سابقاً.

ج- التمكّن من إنشاد أبيات الشعر الرثائي بنوعيه، والسيطرة على طرقه وأطواره وتدريب الحنجرة على حسن إخراجها.لأن حفظ الأبيات الشعرية بحد ذاتها لا يعتبر ذا أثر إذا لم تُقرأ بصوت شجي، وتُنشد بطور حزين، يأخذ مأخذه من مشاعر الناس وتأجيج عواطفهم واستدرار دموعهم.ولهذا فالخطيب بحاجة إلى الاستماع المرهف لطرق النعي والانسجام معها كي نصل إلى مستوى التمكّن والسيطرة، ثم الإبداع في هذا المجال المهم في عالم الخطابة الحسينية.

د- كما سبق أن ذكرنا في فقرة (التخلّص) أن على الطالب متابعة شيوغ الخطباء وأساتذة المنبر الحسيني ودراسة أساليبهم الفنيّة،

١٢٥

فكذلك الأمر هنا بالنسبة لفقرة (المصيبة) من حيث إختيارهم للقطع الشعرية المناسبة مع كل مصيبة، أو الأطوار المستخدمة في إنشادها وقراءتها، أو من حيث وصف المصيبة وتقريبها إلى النفوس كي يتم التفاعل معها.

إن الناحية الفنية في الخطابة الحسينية بحاجة إلى متابعة أساتذة هذا الفن الخاص من الخطابة.

ويمكن للخطيب المبتدئ متابعة مشاهير الخطباء في فقرة المصيبة عبر أشرطة التسجيل المرئية والمسموعة.

ه- إن تراكم الخبرات والإستمرار في قراءة المجالس ومتابعة القراءة في مختلف المناسبات ومع مختلف المستويات والظروف، من شأنها تنامي قدرة الخطيب في إجادته لفقرة المصيبة.إذن علينا التجربة ثم التجربة والقراءة بعد القراءة.

إن فقرة المصيبة تبرز بشكل مهم في مجالس عاشوراء ووفيات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام .وإذا تعددت المجالس في كل مناسبة، فعلى الخطيب تهيأة عدة مصائب وتوزيعها على هذه المجالس.

فعلى سبيل المثال، لو كان عند الخطيب ثلاثة مجالس في ليلة العباسعليه‌السلام ، وهي الليلة السابعة من المحرم، فيمكن للخطيب أن يجعل المصيبة الأولى تنتهي بضرب رأسهعليه‌السلام بالعمود، والمصيبة الثانية تنتهي بوصول الحسينعليه‌السلام إلى مصرعهعليه‌السلام ، بينما تنتهي المصيبة الثالثة برجوع الحسينعليه‌السلام إلى المخيم وبكاء النساء لمصرع العباسعليه‌السلام .وهذا يتطلب من الخطيب مزيداً من حفظ الأشعار

١٢٦

المناسبة لكل مصيبة وما يناسبها من وصف وشرح وإذكاء العواطف الحزينة.ويزداد هذا التقسيم في المجالس المتقاربة حيث يكون الحضور متكرراً في هذه المجالس.

إن فقرة (المصيبة) في أكثر المجالس تكون من اختيار الخطيب وبما يراه مناسباً.

إلا في مجالس عاشوراء والوفيات كما ذكرنا.يضاف إلى ذلك المجالس التي تعقد في تأبين الموتى في ما يعرف بالفواتح أو الأسابيع أو الأربعين والسنوية.حيث على الخطيب إذا دعي إلى مجلس تأبين أن يعرف من هو المتوفى هل هو رجل فلا بد أن يختم المجلس بمصائب الحسينعليه‌السلام أو هو امرأة فيختم المجلس بمصيبة السيدة الزهراءعليها‌السلام أو هو شاب فيختم المجلس بمصيبة علي الأكبر أو القاسم بن الحسنعليهما‌السلام , وإن كان طفلاً فيختم المجلس بعبد الله الرضيع وهكذا.

إن حسن اختيار المصيبة المناسبة مع نوعية المجلس من أسباب نجاح الخطيب وانسجام المجلس وتكامله محتوىً وشكلاً.

إن الحديث عن فقرة المصيبة حديث طويل ومتنوع ومتعددة الأبعاد، مع اختلاف المجالس وتنوعها وتنوع مناسباتها ومستويات حضّارها وأمور كثيرة تأتي تباعاً إلى خبرة الخطيب بل يزداد خبرة مع تقادم عمره الخطابي.

٦- فقرة الدعاء

وهي آخر فقرة من فقرات المنبر الحسيني، وهي فقرة خفيفة لا

١٢٧

لا تحتاج إلى جهد لا من حيث المعلومة ولا من حيث الأسلوب، حيث يختم الخطيب مجلسه بالدعاء إلى الله تعالى بالمغفرة والرحمة وشفاء المرضى والفرج للمؤمنين ثم يدعى للمؤسسين والحاضرين ويختم الدعاء بطلب قراءة الفاتحة لأرواح المؤمنين والمؤمنات.وتسمح ظروف بعض البلدان بذكر الشهداء أو المجاهدين، في حين لا تسمح ظروف بلدان أخرى لهذا الدعاء، فعلى الخطيب مراعاة ذلك.

ومع استمرار المجالس يختار الخطيب دعاءً معيناً يدأب عليه، بل ربّما عرف به، والآن نجد أن لكل خطيب مقطوعات من الدعاء اختارها يختم بها مجلسه.

وبانتهاء فقرة (الدعاء)، يكون المنبر الحسيني قد استوفى كل فقراته، وبهذا نأمل أن نكون قد وفقنا لبيان الخطوات المتتابعة التي تشكل القواعد العامة لهذا النحو الخاص من أنحاء الخطابة الدينية وهي الخطابة الحسينية.

واستكمالاً لموضوعنا حول الخطابة الحسينية، وبعد أن بيّنا مواصفات المنبر الحسيني وخصائصه، سنتوقف عند مواصفات خطيب المنبر الحسيني التي ينبغي توافرها فيه، وعلى أساسها يمكن أن يُحكم على استيفائه بالشرائط التي تشكل القاعدة الصحيحة لتكامل خطيب المنبر الحسيني.

١٢٨

الدرس الثامن عشر:

أوصاف خطيب المنبر الحسيني(١)

استكمالاً لدروسنا الماضية، نطرح اليوم درساً حول المواصفات التي يفترض توافرها في الخطيب الحسيني حيث يعتبر خطيب المنبر الحسيني، هو قطب الرحى، في تلك التجمعات الضخمة، والمحافل الكبيرة، فهو العامل الأول، الذي يؤدي إلى نجاح المآتم الحسينيّة.فبقدر إجادة خطيب المنبر الحسيني لمهمّته، وتمكّنه من إشباع بحثه، ومحاضرته، علميّاً وعاطفياً.يتقرر مقدار حضور الناس إليه أو انكفاؤهم عنه.

ولهذا، فإنه لابُدَّ من توافر شروط، ومؤهّلات، في مَن يريد اعتلاء أعواد المنبر الحسيني، وهي قد تكون من الكثرة والتنوع، مما يجعل مصادقيها في الخطباء قليلة.

وقديماً قال المناطقة: إن الشيء كلما كثرت شروطُه عزّ وجودُه.

إن هذه الأوصاف، والمؤهلات، قد تتغير من بيئة لأخرى، ومن مستوى ثقافي وعلمي لثانٍ، حسب نوعية الحاضرين، وما ينتظره روّاد المجالس من أبحاث ومحاضرات، أو بما يستطيعه خطب المنبر الحسيني، من إشباع الجانب العاطفي، وإثارة كوامن الحزن لواقعة

____________________

١- الدرس مأخوذ من كتاب (المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وأفاق المستقبل) للمصنّف.

١٢٩

كربلاء.ويمكن لنا أن نصنّف المواصفات والمؤهلات هذه إلى ثلاثة أصناف؛ يشترك فيها الخطيب الحسيني مع العلماء والمثقّفين والمحاضرين في بعضها، ويختصّ في بعضها الآخر، والمؤهّلات هي:

١- المؤهلات العلميّة والثقافية

على كل خطيب، في أي شأن من الشوؤن، أن يكون ذا اطلاع ودراية بالموضوع، أو البحث الذي يريد طرحه.وبقدر ما كان هذا الخطيب، أو المحاضر، ملمّاً بأطراف الموضوع، وامتداداته، وشواهده، تكون محاضرته أدق، وأنجح، وبالتالي أكثر فائدة.وهذا الأمر يشترك فيه خطيب المنبر الحسيني، مع كل خطيب أو متحدّث.إلا أن الاختلاف هو في طبيعة المحاضرات وموضوع البحث لكل خطيب.ولهذا فإن خطيب المنبر الحسيني، يشترك عموماً، مع كل خطيب أو محاضر، من علماء المسلمين وخطبائهم ومحاضريهم، وبشكل واضح، إلّا في بعض هذه الموارد التي تمليها طبيعة المنبر الحسيني.وأهم هذه المؤهلات هي:

أ- دراسة تخصصية في العلوم الإسلامية: بما يصطلح عليه بـ "الدراسات الحوزويّة".من مقدمات، كعلوم العربية المتنوعة والمنطق، والتفسير، والحديث، ثم الفقه وعلم الأصول.وكلما تقدّم خطيب المنبر الحسيني، في الدراسات الإسلامية، كلما كان أقدرَ على الطرح الإسلامي الأصيل، وأكثر إحاطة بالمسائل ذات الأبعاد الفقهية، أو التفسيريّة التي يتعرض لها في محاضراته.

وهذه النقطة، في غاية الأهمية، لا من حيث التعمّق، في فهم المسألة الفقهيّة، وأسلوب طرحها منبرياً فقط، بل أنها تسهمُ في عملية اندماج

١٣٠

خطيب المنبر الحسيني، في أجواء طلاّب الحوزة العلّمية.فقد كان مألوفاً - سابقاً - أن يعتلي المنبر، من لا حظ له في الدراسات الدينيّة، خاصة في المآتم التي تهتم بحسن صوت الخطيب، مما أنتج وجوداً غير مرتبط بالحوزة العلمية، وطبيعتها، وانعكس بالتالي على نظرتها إلى خطيب المنبر الحسيني.

نعم، قد لا يصل خطيب المنبر الحسيني، في متابعته للدروس الحوزويّة، إلى مستوى التخصّص الذي يصل إليهِ طلاّبُ العلوم الدينية المتفرغون لهذه الدروس، ولكن لا بد من دراسة حوزوية على قدر مهم من التتبّع.إن هذه النقطة تميّز خطيب المنبر الحسيني، عن المحاضر المسلم والمثقف المسلم، اللذين قد يكتفيان بمعلومات فقهيّة وأصوليّة عامّة، بينما ينبغي على خطيب المنبر الحسيني، أن ينال حظاً كبيراً من الدراسات الإسلاميّة التخصصيّة.

ب- ثقافة تاريخيّة مركّزة: لما كان خطيب المنبر الحسيني، يولي المسائل التاريخيّة، فيما يتعلّق بتاريخ الإسلام والمسلمين، بل ودراسة التاريخ قبل الإسلام، وفي الحضارات الأخرى، كل هذا من جهة، وبما يخص سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسير أهل بيتهعليهم‌السلام ، والصحابة، والتابعين من جهة أخرى.إضافة إلى مزيد عناية بأدق التفاصيل، لكل ما يتعلّق بسيرة الإمام الحسينعليه‌السلام ، منذ ولادته وحتى استشهاده، وبما جرى على أهل بيته بعد ذلك من جهة ثالثة.كل ذلك يحتم على خطيب المنبر الحسيني، أن يولي المسائل والأبحاث، والدراسات

١٣١

التاريخيّة، اهتماماً بالغاً ودقيقاً.

ونظرة ولو سريعة، على مكتبات خطباء المنبر الحسيني الخاصّة، تكشف ضخامة الجانب التاريخي في ثقافتهم، وخاصة فيما يتعلق بواقعة كربلاء.

وقد انعكس اهتمام خطباء المنبر الحسيني بالتاريخ، وأحداثه على ثقافة الإنسان الشيعي، بحيث غدا مطّلعاً على أدق التفاصيل التاريخية، التي قد لا تتأتى إلا لأهل الاختصاص والتتبّع.مما كان يدهش الكثيرين.يقول أحد الكتّاب الإسلاميين "ولم استطع أن أخفي دهشتي من أولئك الذين يحملون التاريخ على أكتافهم أبداً".

ج- ثقافة إسلاميّة عامّة: بعد أن اتسعت المساحة التي راح المنبر الحسيني يعالجها، ولم يعد مقتصراً على إنشاد الشعر الرثائي، أو الوقوف عند بعض الأحداث التاريخية المحدّدة.وأخذ الجمهور يتطلّع إلى خطيب المنبر الحسيني، كمحاضر ذي ثقافة واسعة وعميقة، هذا الأمر الذي حتّم على خطباء المنبر الحسيني، أن يولوا اهتماماً كبيراً، بكل ما يتعلّق بجوانب الثقافة الإسلامية، والفكر الإسلامي.

ولذا أخذ خطيب المنبر الحسيني الناجح، بتناول كل نتاجات المثقفين، والكتّاب والمفكرين الإسلاميين.

مع متابعة الدوريّات والإصدارات الإسلاميّة العامّة.فتجد خطباء المنبر الحسيني، ذوي علاقات أكيدة مع المكتبات ودور النشر ونتاجات المؤلّفين.

وهناك اهتمام خاص، بكل المؤلفات التي تناولت ثورة الإمام

١٣٢

الحسين وأبعادها وآثارها بالدراسة والتحليل والمتابعة.

د- إلمام جيّد بالثقافة التربويّة، والاجتماعية، والنفسية، والسياسية، وعموم الثقافة الموسوعيّة: إن تنوع الأبحاث، والمحاضرات التي يوليها المنبر الحسيني اهتمامه، حتّمت على خطيبه، أن يكون ذا إلمام، في جملة تخصصات، وثقافات تعينه على أداء مهمته، وقوة محاضرته، وكبير انشداد الجمهور إليه.

فالخطيب الحسيني، لا يكتفي بالثقافة الإسلاميّة، والدراسات الدينيّة فقط، بل يحاول أن يكون له حظّاً من كل ألوان الثقافة، خاصة بما يتعلّق بمنبره، كالثقافة التربوية والنفسيّة وأن يكون ذا وعي وثقافة سياسيّة، تعينه على الطرح المناسب وطبيعة الظروف.

إن الثقافة الموسوعيّة أمر مطلوب في ثقافة خطب المنبر الحسيني، وكلما كانت ثقافته متعدّدة، وواسعة، كلما كان أكثر نجاحاً وأعلى شأناً في ميدان الخطابة.

وهناك اهتمام خاص، بالتقاط الشواهد الأدبية، والعقائديّة، والعلميّة، وغيرها، مما يطعّم بها الخطيب محاضرته، كي يغنيها من جهة، ويرفع حالة السأم والملل من جهة ثانية.

ولهذا يحتفظ، كل خطيب منبر حسيني، بدفتر أو دفاتر خاصّة به يجمع فيها كل شاردة وواردة، من كل ما تقع عليه عينه، أو تسمعه أذنه، من المعلومات، التي يتوقع أن يستفيد منها، ذات يوم، ويوظفها في محاضراته ومجالسه.

إن جمهور المنبر الحسيني، ينظر إلى الخطيب ذي الثقافة

١٣٣

الموسوعيّة المتنوّعة، بأنه خطيب يولي محاضرته وجمهوره اهتمامه، وأن حديثه ليس مجرّد كلمات يلوكها اللسان، بل هي أرقام ومعلومات، جاءت بعد تتبّع، وبحث وتدقيق، ومزيد عناية.

وتعتبر المكتبات الخاصة، بخطباء المنبر الحسيني، من أغنى المكتبات، في تنوعها وتوسعها وإحاطتها بفنون المعرفة، لذلك فإن "من أهم مكتبات النجف الخاصة، مكتبات خطباء المنابر الحسينيّة، الذين تلزمهم مهمتهم، كخطباء، الإحاطة بالتاريخ، والشعر، والأدب، واللغة، إحاطة لا يمكن أن تتيسّر بدون مكتبة زاخرة بالمصادرة المهمّة من أمهات الكتب"(١) .

وهنا ننهي درسنا هذا على أن نواصل هذا البحث في الدرس القادم.

____________________

١- الخليلي، جعفر: موسوعة العتبات المقدسة، قسم النجف ٣٠٩/٧.

١٣٤

الدرس التاسع عشر:

المؤهلات الفنية في خطيب المنبر الحسيني١(١)

حيث نكمل في درسنا هذا بقية المواصفات والمؤهلات التي ينبغي للخطيب التحلّي بها.إن ما ذكرناه في الصنف الأول من المؤهلات، كانت تتعلق بما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (المعلومة).ومجرد حصول الخطيب -أي خطيب- على المعلومة، لا يصيّر منهُ خطيباً.إذ أن الخطابة تحتاج إلى مؤهلات فنيّة تمكّن الخطيب من صياغة، وطرح المعلومات التي عنده بما يفعّل تأثيرها، من خلالها على الجماهير.

وبهذه المؤهلات الفنّية، يتميز الخطيب عن المحاضر؛ الذي يكتفي بطرح المعلومات، التي عنده بأسلوب هادئ وبنمط واحد تقريباً.بينما على الخطيب، أن يكون طرحه وأسلوبه، مراعياً فيه الجماهير بمستوياتها المختلفة، وشدّها إليه، وإيصال معلوماته إليه.في حين أن المحاضر عادة يخاطب مستوىً معيناً وشريحة خاصة من الناس.

وبعض هذه المؤهلات الفنّية ضروريّة لكل خطيب.

مثل: إبراز المقاطع المهمة في الخطبة، عدم جعل الصوت على وتيرة واحدة، تغيّر سرعة الحديث، التوقف قبيل وبعيد كل فكرة

____________________

١- كارنيغي، دايل: التأثير في الجماهير عن طريق الخطابة، مقاطع مختلفة من الكتب.

١٣٥

مهمة، استعمال إشارات اليدين والرأس أثناء إلقاء الخطبة وإلى غير ذلك من المواصفات الفنية.

ومع ذلك فلا بد من أن نؤكد على بعض المؤهلات الفنيّة، التي تكون وثيقة الصلة، بخطيب المنبر الحسيني، وأهمها:

أ- امتلاك مستوىً جيد من القدرة على الحفظ

ينبغي على خطيب المنبر الحسيني، أن يحفظ العديد من النصوص، التي تشكّل عنصراً مهمّاً وأساسيّاً في نجاحه خطابيّاً.

فبالإضافة إلى استظهار آيات قرآنية كريمة، وبعضاً من الأحاديث الشريفة وما ينقل عن توجيهات الأئمة والصالحين، فإن هناك عناية خاصة، تبذل لحفظ خطب، أو مقاطع من نهج البلاغة وكذلك تحفظ خطبة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ذات المضامين اللغوية العالية، وكذلك النصوص المتعلقة بواقعة كربلاء، مثل الكتب التي راسل بها الإمام الحسينعليه‌السلام الآخرين، وخطبه، وكذلك خطب بعض أصحابه يوم عاشوراء.وهناك اهتمام خاص بخطبتي الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام ، والسيدة زينب بنت علي بن أبي طالبعليهما‌السلام ، في الشام حينما وصلتها السبايا.

لقد كان خطيب المنبر الحسيني سابقاً يتلو خطبته، من كتاب أو دفتر يقرأ على الناس.ولكن ومنذ عهد الشيخ كاظم سبتي(المارّة ترجمته) أخذ خطباء المنبر الحسينيون، يتبارون بكثرة محفوظاتهم.فهم بالإضافة إلى حفظ المحاضرة بأكملها بما يحتوي من أفكار، وآراء ومطارحات، ونقاط وشواهد، تحفظ بعض النصوص الخاصة،

١٣٦

وكذلك لا بدّ من حفظ القصائد الشعريّة، التي تتلى في مقدمة المحاضرة، لا سيما في مجالس، العشرة الأولى من المحرّم، ووفيات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبقية أهل البيتعليه‌السلام .إن ملكة الحفظ تبلغ ببعض الخطباء، أن يستظهروا كل حوادث يوم عاشوراء بأسماء أشخاصها، وأشعارهم، وحواراتهم مرتّبة تاريخيّاً، مع ما يناسب كل مقطع من شعر رثائي، باللغة الفصحى، أو العاميّة العراقية الدارجة.ويستمر الخطيب يوم عاشوراء في قراءة المقتل، لما يزيد على ساعتين متصلتين، بصوت مرتفع، وإنشاد للشعر، وأسلوب عاطفي حزين.إن زيادة رصيد الخطيب الحسيني، من المحفوظات الشعريّة والتاريخية والنصوصيّة يعني زيادة فرص نجاحه، وتميّز منبره وشدّة إقبال الناس على محاضراته.

ب- التمتّع بقَدْر جيد من رقة الصوت

لما كانت خطابة المنبر الحسيني، قد ارتبطت بشكل أساسي، بالتعريج على واقعة كربلاء، والتوقف عند مقطع منها، وإشباعه بالشعر والإنشاد الحزين، بل إن بداية المنبر الحسيني، كانت عبارة عن إنشاد الشعر الرثائي، الذي قيل في الإمام الحسينعليه‌السلام .حيث كان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، يعقدون تلك المجالس في بيوتهم، كما مرّ علينا في الفصل الثاني من هذا البحث.

ولقد وجدنا، أن اهتمام الأئمة بعنصر الصوت ورقّته كان مبكّراً، ففيما نقلنا من رواية دخول أبي هارون المكفوف على الإمام الصادقعليه‌السلام ، وإنشاده قصيدة للشاعر السيد الحِمْيَري، فعلّق

١٣٧

الإمام على ذلك الإنشاد، وطلب من هذا المنشد، قراءة المراثي بصوت رقيق.

ولا يزال الصوت ورقته، من المؤهّلات الفنية المهمّة، في خطب المنبر الحسيني، بل يعتبر هو العنصر الأهم إطلاقاً، في المجالس التي تعقد في القرى والأرياف، وبعض مجالس البيوت في العراق، وبلدان الخليج.أما في لبنان، فإن الصوت ورقّته، هو العنصر الأهم في خطيب المنبر الحسيني، في كل المجالس كبيرها وصغيرها، المهم منها ومتواضع الأهمية.

ولهذا، إذا اكتشف طلاّب العلوم الدينية المبتدؤون، أحد زملائهم، ممن يمتلك حسن الصوت، انهالوا عليه، ناصحين ومشجعين، أن ينخرط في صفوف خطباء المنبر الحسيني!.

كما تنهال نصائح مغايرة أخرى،على من يعتلي أعواد المنبر الحسيني، وصوته ليس بتلك الرّقة والعذوبة المتوقّعة، بأن يترك الخطابة الحسينية لأن صوته لا يساعد عليها.

وقد كان عنصر رقّة الصوت، من الأمور التي حالت، دون توجّه الكثيرين، نحو حقل خطابة المنبر الحسيني.وفيهم من لا يُستهان بعلمه ومعلوماته وتقواه.

والواقع أن "حسن الصوت وحسن الإلقاء، والتّمكن من التصرّف بنبرات الصوت، وتغييره، حسب الحاجة، من أهم ما يميّز الخطيب الناجح.وذلك في أصله موهبة ربّانية، يختص بها البشر من غير كسب، غير أنها تقوّى وتنمو بالتمرين، والتعلّم، كجميع المواهب

١٣٨

الشخصيّة(١) .ولكن لا بد من وجود طبقات صوت مهيّأة للتمرين والتطوّر.

إن الصوت الجميل الرقيق، له أبلغ الأثر، في إثارة الشحنة العاطفيّة، التي تنتهي بالبكاء، في نهاية فقرات المنبر الحسيني، والبكاء كان ولا يزال أمراً أساسيّاً، يتميّز به خطاب المنبر الحسيني، عن بقية المنابر، إسلامية وغيرها.

ويعلّق الخطيب السيد صالح الحلّي (المارة ترجمته في نهاية الفصل الثالث) على هذه النقطة بقوله: "إن خطيب المنبر الحسيني، يحتاج إلى حاءات ثلاثة هي: الحظ والحفظ والحسّ"(٢) أي الصوت(٣) ، ومنه قوله تعالى:﴿ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (٤) .

وإذا كان عنصر الصوت، من العناصر المهمّة، في خطابة كل خطيب؛ فإنه في الخطابة الحسينية في غاية الأهمية، لأن خطيب المنبر الحسيني لا يكتفي بالخطبة العادية ككل خطيب، بل لا بد له من إنشاد الشعر الرثائي، باللغتين الفصحى والعاميّة، واستخدام أطوار وطرق متنوعة، وبما يستلزم بذلك من ترجيع للصوت وتغيير نبراته.

____________________

١- المظفر، محمد رضا: المنطق، ٣٧٣/٣.

٢- السيد حسن، داخل: معجم الخطباء، ٥٩/١.

٣- ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، ٤٩/١.

٤- الأنبياء: ١٠٢.

١٣٩

الدرس العشرون:

المؤهلات الفنية في خطيب المنبر الحسيني ٢

المؤهلات الفنية

إكمالاً للمؤهلات الفنية في خطيب المنبر الحسيني نبدأ درسنا بالتوافر على خبرة بفن الخطابة الحسينية.إن خطيب المنبر الحسيني، لا يكتفي بإبراز الجوانب العلميّة والثقافية والمعلوماتية العامّة التي يرعاها كل خطيب.أو بمشاركة كلّ الخطباء في ضرورة توافره على المؤهلات والأوصاف الفنية، المرتبطة بالخطابة بشكل عام.ويزيد عليهم في نمط خاص، من الأساليب الفنية يتميّز بها.فمثلاً في بعض بلدان الخليج، لا يكتفي خطيب المنبر الحسيني، بإلقاء محاضرته وإنشاد الشعر الرثائي، بعد ذلك على المنبر، بل ينزل من على منبره، ولاقطة الصوت بيده، يختلط بالجمهور المحتشد، بين يديه، ليزيد من بكائهم وانفعالهم، وإذا كان أحد العلماء الكبار، أو أحد السادة الأشراف المبرزين، حاضراً في المجلس، فإن الخطيب ينزل ليوجّه له أبيات العزاء، مما يزيد في بكاء الناس وتأثرهم.

وقد نجد، بعض خطباء المنبر الحسيني، يرمي بعمامته إلى الأرض، في بعض مقاطع ذكر المصيبة، مثل لحظة ضرب رأس أمير المؤمنينعليه‌السلام ، في محراب جامع الكوفة، ليلة ١٩ شهر رمضان، أو

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158