بوارق القهر في تفسير سورة الدهر

بوارق القهر في تفسير سورة الدهر11%

بوارق القهر في تفسير سورة الدهر مؤلف:
المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: 355

  • البداية
  • السابق
  • 355 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 24166 / تحميل: 4326
الحجم الحجم الحجم
بوارق القهر في تفسير سورة الدهر

بوارق القهر في تفسير سورة الدهر

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
ISBN: ٩٦٤-٩٥٢٤٥-٤-١
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

يعطيهم إذا سألوه بحقّه، ويدفع عنهم البلايا برحمته، فلو علم الخلق ما محلّه عند الله ومنزلته لديه ما تقرّبوا إلى الله إلّا بتراب قدميه(١) إلى آخره.

فإن قيل: ذلك لا يستقيم مع ما حكى الله عنهم بقوله:( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) حيث وصفهم بالخوف من عذاب يوم القيامة الشديد، وجعله علّة لإطعامهم، أو لعدم إرادتهم الجزاء والشكور، فإنّ المخلص كما لا يرجو الثواب على عمله، كذلك لا يخاف من العذاب، فإنّه يعمل حبّا لله، وطلبا لرضائه، كما قال السجّاد عليه السلام: إلهي ما عبدتك خوفا من عذابك، ولا رجاء لثوابك، بل وجدتك مستحقّا للعبادة فعبدتك(٢) إلى آخره.

وقال الصادق عليه السّلام: العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا الله خوفا فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله حبّا له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة(٣) . انتهى.

منعنا التعليل أوّلا لعدم دليل عليه من اللفظ، ثمّ نقول: ليس المراد الخوف من العذاب المعروف، بل المراد بذلك اليوم هو يوم الفراق والحرمان عن لقاء الحبيب، وهذا اليوم يخافه الواصلون أشدّ من خوف الناس من العذاب المعروف، ولقد فصّلنا ذلك فيما سبق فإليه فليرجع الطالبون.

__________________

(١) مصباح الشريعة: ١٩٢.

(٢) بحار الأنوار ٤١: ١٤.

(٣) الكافي ٢: ٨٤.

١٦١

فيصحّ التعليل أيضا، فإنّ الواصل كما كان عاملا للوصال كذلك يكون عاملا لئلّا يحرم عن اللقاء بالانفصال، فإنّ الإطعام من أسباب الوصال، وعدم إرادة الجزاء والشكور يوجب دوام الاتّصال. وذلك واضح على أرباب المواجيد والأحوال، وفي المقام لكثير من المقال، ولكن لا يتمكّن كلّ أحد من الاحتمال.

تنبيهات :

الأوّل: قيل قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ ) إلى آخره، مقول لمحذوف، أي يقولون ذلك بلسان القال.

وقيل: ذلك تعبير عن حالهم، فإنّهم لا يطعمون إلّا لوجه الله، فالناطق بذلك لسان الحال لا القال، وذلك هو الأنسب، فإنّ في التكلّم بذلك المقال ربّما يكون آفات ليست في الحال وهو أقرب بالأمن، وأخلص من الآفة، كما قال عليه السلام: خير العبادات أقربها بالأمن، وأخلصها من الآفات وأدومها وإن قلّ(١) إلى آخره.

الثاني: في التعبير بإنّما الدالّة على الحصر صريحا مبالغة في وصفهم بالإخلاص، وإشعار بأنّهم كانوا واقعين في أعلى مراتب ذلك المقام، فإنّ للإخلاص مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، والعباد أيضا بالنسبة إليه متفاوتون، ولكلّ درجات ممّا عملوا، وفي المقام تفاصيل تطول بها الرسالة.

الثالث: قيل: العبوس الشديد والقمطرير أشدّ ما يكون من الأيّام.

__________________

(١) مصباح الشريعة: ١١١.

١٦٢

وقيل: وصف اليوم بالعبوس مجاز بطريقين.

أحدهما: أنّه شبّه في شدّته بالأشدّ العبوس أو بالشجاع الباسل يقال :

يوم صائم وليل قائم.

والثاني: أنّه وصف بصفة أهل من الأشقياء، فإنّ الكافر يعبس فيه حتّى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران.

أقول: لا ريب في أرجحيّة التفسير الأوّل، لأنّ المجاز وإن كان بابه واسعا في المحاورات، لكنّه خلاف الأصل، فلا يرتكب في نحو المقام.

اختتام: ذكر جماعة من مفسّري الفريقين أنّ قوله تعالى:( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ) إلى قوله( وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) في عليٍّ عليه السّلام والحسن والحسين وفاطمة عليهم السّلام، وفضّة.

وتفصيل ذلك أنّه مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما صلّى الله عليه وآله ووجوه العرب، وقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولديك نذرا، فنذر صوم ثلاثة أيّام إن شفاهما الله، ونذرت فاطمة كذلك، وكذلك فضّة، فبرءا وليس عندهم شيء، فاستقرض عليٌّ عليه السلام ثلاثة أصوع من شعير من شمعون الخيبريّ.

وروي أنّه أخذها ليغزل له صوفا وجاء به إلى فاطمة عليها السلام فطحنت صاعا منها فاختبزته وصلّى عليٌّ المغرب وقرّبته إليهم، فأتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم، فقال: السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة! فآثروه على أنفسهم وأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء.

١٦٣

فلمّا كان اليوم الثاني أخذت صاعا فطحنته واختبزته وقدّمته إلى عليٍّ عليه السلام فإذا يتيم بالباب يستطعم، فأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء.

فلمّا كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته واختبزته وقدّمته إلى عليّ عليه السلام فإذا أسير بالباب استطعم، فأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء.

فلمّا كان اليوم الرابع وقد قضوا نذورهم أتى عليٌّ عليه السّلام ومعه الحسن والحسين إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وبهم ضعف، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون من شدّة الجوع بكى وقال: ما أشدّ ما أرى بكم! فقام وانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فعند ذلك نزل جبرئيل عليه السلام فقال: خذها يا محمّد في أهل بيتك.

وروي أنّ السائل في الليالي الثلاثة كان جبرئيل، أراد بذلك ابتلاءهم بإذن الله تعالى.

تنبيهان :

الأوّل: هذه الرواية معتبرة عند الإماميّة وأكثر العامّة، حيث ذكروها في كتبهم المشهورة بطرق مختلفة مؤدّاها واحد، وهي دالّة على أنّ السورة نزلت في المدينة.

ويدلّ على ذلك أخبار مستفيضة تكشف عن محلّ نزول السور القرآنيّة، ومن جملتها ما روي عن عليّ عليه السلام أنّه قال: سألت النبيّ صلّى الله عليه وآله عن ثواب القرآن فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء، فأوّل ما نزل عليه بمكّة فاتحة الكتاب، ثمّ اقرأ باسم ربّك، ثمّ نون إلى أن قال :

١٦٤

وأوّل ما نزل إليه بالمدينة سورة البقرة، ثمّ الأنفال، ثمّ آل عمران، ثمّ الأحزاب، ثمّ الممتحنة، ثمّ النساء، ثمّ إذا زلزلت، ثمّ الحديد، ثمّ سورة محمّد صلّى الله عليه وآله، ثمّ الرعد، ثمّ سورة الرحمن، ثمّ هل أتى إلى قوله :

فهذا ما نزل بالمدينة، ثمّ قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: جميع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وجميع آيات القرآن ستّة آلاف آية ومائتا آية وستّ وثلاثون آية.

وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف وأحد وعشرون ألف حرف ومائتا وخمسون حرفا، لا يرغب في تعلّم القرآن إلّا السعداء، ولا يتعهّد قراءته إلّا أولياء الرحمن. انتهى.

وقد أنكر بعض العامّة تلك الرواية واستبعد نزول تلك الآيات في حقّ من ذكر، وقال: إنّ السورة مكّيّة، فكيف يتعلّق بها ما كان بالمدينة.

وجوابه: الأحقّ عدم التعرّض له في إنكاره الحقّ.

الثاني: قال بعض العارفين: لا يستبعد عن النفوس الفاضلة الكاملة المقبلة على الله المعرضة عن سوى الله المنوّرة بأنواره المحيطة أن لا يغيّرهم من ترك المشتهيات الطبيعيّة ألم، بل ربّما فازوا بهذا بلذّات لا تعدّ ولا تحصى، وأيّ استبعاد في أن يكون استغراق النفوس في محبّة الله وانصرافها عن العلائق الجسمانيّة مانعا عن تحليل الأجزاء الأصليّة بحيث لا يؤلمهم الجوع.

كيف ويشاهد الإنسان يبقى في المرض مدّة مديدة من غير تناول

١٦٥

الغذاء، وأيضا النفس الناطقة إذا راضت القوى البدنيّة صارت تلك القوى موافقة لها سواء احتاجت إلى تلك الموافقة أو لم تحتج، ثمّ كلّما اشتدّ الانجذاب انجذبت تلك القوى إلى متابعة النفس، فلم تتفرّغ لأحوالها، فلا جرم تقف الأفعال الطبيعيّة في حقّ السالكين الواصلين، وإليه أشار بقوله عليه السّلام: إنّي أتيت إلى ربّي يطعمني ويسقيني(١) إلى آخره.

أقول: ويؤيّد ما ذكره من أنّ الشوق إلى الله والتوجّه إليه يمسك البدن عن تحليل أجزائه الأصليّة ما مرّ من أنّ موسى عليه السلام ما أكل وما شرب أربعين يوما لميعاد ربّه، وما نراه ونشاهده ونسمعه من حال العشّاق المجازيّين والحقيقيّين.

وقد حكي عن نجم الدين الكبريّ أنّه قال: عشقت جارية بقرية على ساحل نيل مصر، فبقيت أيّاما لا آكل ولا أشرب إلّا ما شاء الله حتّى كثرت نار العشق فكنت أتنفّس نيرانا فكلّما تنفّست نارا ينشئ من السماء بحذاء نفسي نار فيلتقي ناران ما بيني وبين السماء، فما كنت أدري من أين يلتقيان، فعلمت أنّ ذلك شاهدي في السماء.

وقال أيضا: عشقت واحدا ببلاد العرب فما اشتهت نفسي إلى الطعام والشراب أيّاما، فأخذته وربطته ومنعته عن سوائي إلّا أنّه كان عليه رقباء، فسكت عن صريح المقال، وجعل يكلّمني بلسان الحال فأفهمه وأكلّمه كذلك فيفهمه، وانتهى الأمر إلى أن صرت أنا هو وهو أنا، ووقع العشق إلى محض صفاء الروح فجاءتني روحه سحرا تمرّغ وجهها في التراب، وتقول :

__________________

(١) المناقب ١: ٢١٤.

١٦٦

أيّها الشيخ، الأمان الأمان، قتلتني أدركني! فقلت: ماذا تريد؟ قالت: أن تدعني حتّى أقبّل قدمك! فأذنت لها ففعلت ذلك ورفعت وجهها فقبّلتها حتّى استراحت واطمأنّت إلى صدري.

وحكى لي بعض أصدقائي أنّه قد عشق جارية من جيرانه واشتدّ ذلك حتّى منعه عن الطعام والشراب أيّاما كثيرة، فاطّلعت على ذلك أمّه فزجره على الطعام فما اشتهاه وأكرهه أشدّ الإكراه، فكأنّه قد أكل طعاما كثيرا قبل ذلك، وكان يقول لكثرة خيلولة لقاء المحبوبة ما كنت متألّما من الجوع، بل ما كنت أشعره.

قال الله ظهرت طلعته:( فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً * وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا * قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً * وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً * إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) .

أقول: لـمـّا أشار تعالى إلى أوصاف هؤلاء الأبرار وما به يتميّزون عن الأشرار والفجّار بيّن ما يترتّب على هذه الأوصاف والأخلاق من لذّات القرب، وبارقات الجذب، وما يعدّه لهم في أعراش البهاء، ويهيّأه لهم في كراسي الصفاء، وما يجزيهم به من جنّات الوصال، ولذّات الاتّصال، بتعبير

١٦٧

فيه مواعيد يشتاق به الناقصون إلى الدخول في سلسلة الأبرار، بحسب إمكانهم من إدراك معاني الكلام في مقام الاستبصار، وإشارات إلى مراتب الوصول بحضرة السرمد، ولطائف كنايات عن معارج القرب إلى جناب الحقّ الصمد، يلتذّ منها الكاملون بصفاء القلوب، إذ فيها محاضرة الحبيب مع المحبوب.

كيف وقد أودع الحقّ تعالى في تلك الآيات جواهر حقائق لا يعثر عليها سوى العاشقين، ودرر دقائق لا يطّلع عليها إلّا من عدّ من المشتاقين.

كيف وبين العاشق والمعشوق إشارات لا يدركها سواهما، وكنايات لا يفهمها من عداهما :

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه

قول ولا قلم للخلق يحكيه

وقلت للعاشقين رموز ليس يعرفها

إلّا الحبيب فإنّ العشق مرموز

سرّ معشوق عاشقان دانند

پس نه بيگانگان چه مى پرسى

ولا يخفى أنّ ما يدركه العارفون من إشارات القرآن، ويفهمه من عباراته لا يتحمّله الناقصون الّذين لا يدركون من القرآن إلّا ظواهره العرفيّة، ولا يلتذّون به، بل لو كشف عليهم نبذ من الحقائق لضلّوا عن الطريق، ويكفّرون من هو الواقع في المقام الأعلى لعدم اطّلاعهم عن حاله ومقامه، كما قال صلّى الله عليه وآله: لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله أو كفّره.

فإنّ سلمان كان عارفا بحقائق ما كان بينها وبين أبي ذرّ مناسبة حتّى يلتذّ بها، فلو اطّلع على نبذ ممّا علمه سلمان لما كان تحمّله، بل كان ينسبه إلى الكفر ويقتله هذا لو قلنا برجوع ضمير الفعل إلى أبي ذرّ.

١٦٨

وقيل: راجع إلى ما، أي لكان علم سلمان قاتلا له لعدم استعداده لتحمّله. والأوّل أظهر. وقد قال السجّاد :

إنّي لاكثر من علمي جواهره

كي لا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدّم في هذا أبو حسن

إلى الحسين ووصّى قبله الحسنا

وربّ جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا

ولاستحلّ رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

وقال عليٌّ عليه السّلام: هاه هاه! إنّ هنا لعلما جمّا لو أصبت له حملة.

وقال: اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة(١) إلى آخره.

أما رأيت موسى عليه السّلام كيف أنكر على الخضر عليه السَّلام فيما لم يحط به خبرا، كما حكى الله عنهما:( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) أي سرّا وحقيقة ( قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ) أي من ربّك ( رُشْداً ) أي مقاما من مقامات الحقيقة ( قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) لعدم المناسبة بيننا، فإنّك من أهل الظاهر، وإنّي من أرباب الباطن ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ ) وتتحمّل وترضى ( عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) من الحقائق الإلهيّة، والحكم المكنونة، إلى قوله: ( فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي

__________________

(١) انظر: نهج البلاغة: ٥٢.

١٦٩

عُسْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) (١) إلى آخره.

وهذا ـ أي عدم تحمّل من هو الواقع في المقام الأدنى لأسرار الواقعين في المقام الأعلى ـ هو الباعث على كتمان هؤلاء لأسرارهم عن الناقصين، وإصرارهم على عدم إفشائها، كما قيل: إفشاء سرّ الربوبيّة كفر.

وقيل: ملعون من أفشى بسرّ الله :

با مدّعى مگوئيد أسرار عشق ومستى

تا بخيبر بميرد در درد خودپرستى

حلّاج بر سر دار اين نكته خوش سرايد

از شافعى پرسند أمثال اين مسائل

ولذلك بيّنوا الحقائق الإلهيّة في قوالب العبارات، وحقّقوا الدقائق الربّانيّة في أكسية الإشارات، وكشفوا عن أسرار الحقيقة الساذجة في مطاوي الكنايات، وصرّحوا برموز الربوبيّة في مجالي الأمارات، ليأخذ كلّ فرقة نصيبه من المطالب بحسب الإمكان، ويلتذّ كلّ طائفة بحظّه في المذاهب بحسب مراتب العرفان، ويفوز كلّ نفس بهداه إلى معارج الإيمان :

مطرب عشق عجب ساز ونوائى دارد

نقش هر پرده كه زد راه بجائى دارد

ثمّ لا يتوهّمنّ أحد أنّ مرادنا بتلك التقريرات حصر ما أريد من الآيات في حقائق اللذّات، كما به قالت جماعة من السالكين في طرق الجهالات.

__________________

(١) الكهف: ٦٥ ـ ٧٤.

١٧٠

كيف ويجب على كلّ أحد من المكلّفين أن يكون معتقدا بظاهر ما جاء به سيّد المرسلين من اللذّات النفسانيّة، والجنّات الجسمانيّة، فكفر والله من اعتقد بخلاف ذلك، فإنّه من الشريعة المحمّديّة الّتي يجب على الكلّ متابعتها والإذعان بما تقرّر فيها، فمخالفتها كفر واضح :

أحكام شريعت است چون شارع عام

بيرون مرو از راه شريعت يك گام

هركس كه سر از أهل شريعت پيچيد

در مذهب أهل معرفت نيست تمام

بوارق :

الأولى: اللام في ذلك اليوم للعهد الذكريّ، وقد مرّ مرارا أنّ المراد بيوم يخافونه هو يوم البعد عن بساط المحبوب، فوقاية الله إيّاهم عن شرّ ذلك اليوم هو حفظهم عن المعاصي والأخلاق الّتي تحجب بين العبد وبين الحقّ، وتحرمه عن لذّة اللقاء، وتمنعه عن درجة الصفاء، ورتبة البهاء.

وفيه إشارة إلى إثبات العصمة للأبرار، بمعنى أنّ هؤلاء من صفاتهم الخاصّة أن لا يعصون الله فيما أمرهم، بل يفعلون ما يؤمرون. وذلك لما فيهم من القوّة القدسيّة الملكوتيّة الّتي تمنعهم عن الميل إلى المعصية، فإنّها من قضايا النفس الأمّارة الواقعة في ظلمة البعد عن الحقّ، وهؤلاء لقد قمعوها وزجروها بالطاعات، وجاهدوا معها بالرياضات، فلاح نور العقل، وغلب عليها بجنوده من العلم والحكمة والسخاء والنقاء والوفاء والحياء إلى غير ذلك من الصفات الحسنة المحمودة، والأخلاق المرضية.

١٧١

فصارت قوّتهم قوّة ملكوتيّة، وهي الجهة العليا للإنسان الّتي بها يعرف الربّ ويقرب إلى ساحته، ويلتذّ بمحاضرته في محلّ التجلّيات البرقانيّة، ومورد البارقات الشرقانيّة، فإنّ فوز العارف بذلك المقام إنّما هو بعد نجاته عن حضيض الطبيعة، وجحيم الماهيّة الّتي هي الجهة السفلى، إذ بها يحصل له البعد عن مراتب العرفان، والحرمان عن لذّات الإيقان.

وبالجملة: هؤلاء معصومون عن التوجّه إلى تلك الجهة لكمال توجّههم إلى الجهة العليا، أي إلى الحقّ تعالى، فإنّ الفائز بلذّة القرب لا يختار البعد أصلا وأبدا، فجهل من أجاز الذنوب والمعاصي مطلقا على الأنبياء والأئمّة الطاهرين مستدلّا بوجوه واهية غير وجيهة أشرنا إليها وإلى أجوبتها في بعض رسائلنا القديمة.

كيف وقد دلّت على مدّعانا أخبار كثيرة، ووجوه وجيهة، مضافا إلى قوله تعالى:( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) .

أي لا يفوز بمقام المحبّة الصافية الّذين يظلمون أنفسهم بمتابعة الهوى والسلوك فيما يوجب الردى.

وقال تعالى:( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) .

أي لقد عصمكم عن عبادة الأوثان الّتي هي قضايا النفس وهواها، فإنّ عبادة ما سوى الحقّ عبادة الوثن الّذي هو الرجس الحقيقيّ، كما قال :

__________________

(١) البقرة: ١٢٤.

(٢) الأحزاب: ٣٣.

١٧٢

( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ) (١) .

أي لا تشركوا بي شيئا ممّا سواي يا أهل بيت الولاية والمحبّة، وطهّركم عن دنس العيوب ورجس التوجّه إلى غير الحقّ، وصرف قلوبكم عن الاشتغال بالشؤونات العرضيّة، والشائبات الغيريّة، بماء المحبّة الّذي به حياة كلّ شيء، كما قال:( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) (٢) إلى آخره.

وقال:( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (٣) .

أي من سماء الفؤاد ماء المحبّة الصافي عن جميع الكدورات.

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: مثل المؤمن الخالص كمثل الماء(٤) . أي: مثل المؤمن الخالص عن جميع التوجّهات الغيريّة كمثل الماء الصافي عن كلّ كدرة، هذا إذا فسّرنا اليوم بما عرفت.

وأمّا على تفسيره بحين الموت، فالمراد على ما ذكره بعض العارفين أنّهم لـمـّا فازوا بالمقاصد العليّة الكلّيّة، ووصلوا إلى كمالاتهم الأوفى هانت على نفوسهم مفارقة أبدانها، ولم يحسّوا بالآلام المحسوسة لاشتغالم واستغراقهم في محبّة الله، والتفاتهم إلى مطالعة أنوار وجه الله، وغفلتهم عن ذواتهم بالذكر لمقام رحمة الله، ولقد ذكرنا شرح ذلك وتفصيله فيما سبق، فلا حاجة إلى التفصيل بعد وضوح السبيل.

الثانية: في قوله «ولقّاهم نضرة وسرورا» أي: أعطاهم واستقبلهم بذلك ؛

__________________

(١) الحجّ: ٣٠.

(٢) الأنبياء: ٣٠.

(٣) الفرقان: ٤٨.

(٤) مصباح الشريعة: ١٢٨.

١٧٣

إشارة إلى ما يحصل لهم في مقام الوصول من المراتب والمعارف الّتي يلتذّون بها، فإنّ كمال نضرة العاشق وسروره إنّما هو في مصاحبته المعشوق ومحاضرته في مجلس الوصال.

كيف ولا شيء يسرّ العاشق سوى وصال المعشوق، ولا لذّة ألذّ عنده من جماله ولقائه.

كيف ولذّة العاشق منحصرة في لذّة الوصال، أتتعجّب من ذلك وقد تحقّق عند كلّ أحد أنّ العاشق يلتذّ بذكر المعشوق والكلام عنه، كما قال :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبّا لذكرك فليلمني اللُّوم

فكيف لا يلتذّ ولا يزيد سروره بالفوز بملاقاته الّذي هو منتهى منيته، فهؤلاء الأبرار مستبشرون في يوم الوصال، بكشف سبحات أنوار الجمال، كما قال( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ * أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) (١) .

ولا يخفى أنّ أرباب الوجوه المسفرة هم الأبرار الّذين صفت قلوبهم عن التعلّقات الغيريّة، فإنّهم في ذلك اليوم مسرورين فرحين بما آتاهم الله من مقامات القرب، ومراتب الجذب، مستبشرين ببشرى داعي الحقّ إلى جنّات الأنس، وبستان القدس.

وأمّا أصحاب الوجوه المغبرة فهم الكفرة الفجرة الّذين كدرت قلوبهم بصدى الجهل والقساوة وغبار العمى والضلالة، حتّى نسوا الله في مقام الذكر، وذكروا أعداءه في مقام النسيان، فاختاروا البعد على القرب،

__________________

(١) عبس: ٣٨ ـ ٤٢.

١٧٤

والشقاوة على السعادة، فعذّبوا في جحيم البعد عن الحقّ، وحوسبوا بما عملوا من خلاف الصدق، كما قال:( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى * فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى * وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) (١) .

أي يدرك الإنسان في ذلك اليوم حقائق ما كان ساعيا له في دار الدنيا إن خيرا فخيرا، وإن شرّا فشرّا، فأمّا من كان طاغيا مختارا للعصيان على الطاعة، وآثرا للنعيم العاجل على النعيم الباقي الآجل، فإنّ حقيقة فعله ذلك هي جحيم البعد عن الحقّ.

وأمّا من كان خائفا من ربّه ومن الحرمان من لقائه، فإنّ حقيقة أمره هذا هي الجنّة.

الثالثة: المراد بالجزاء ما يترتّب على العمل، فإن كان صالحا فما يترتّب عليه لا يكون إلّا لذّة باقية، وجنّة صافية، كما قال:( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) (٢) أي المترتّب على الإحسان هو حقيقة الإحسان وجوهره.

وقال:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ

__________________

(١) النازعات: ٣٥ ـ ٤١.

(٢) الرحمن: ٦٠.

١٧٥

الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ) (١) أي تلك الدرجات والمقامات إنّما هي حقيقة إيمانهم وعملهم الصالح، كما أنّ الدركات والتنزّلات حقيقة لكفر الفجّار وعملهم القبيح، كما قال:( إِنَّا، أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً ) (٢) .

الرابعة: المراد بالصبر هو المجاهدة مع النفس ومنعها عن قضيّاتها وحبسها على طاعة الحقّ، كما قال:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ) (٣) إلى آخره، والصبر بهذا المعنى أرفع مقامات الإنسان، وأعلا مراتب ترقّيه، ولذلك جعل سببا للجزاء، وعلّة للفوز بمقام الصفاء.

كيف والإنسان بدون ذلك المقام ـ أي الصبر عن العمل بقضيّة النفس ـ خاسر غاية الخسران، كما قال:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) (٤) .

فالمجاهدة مع النفس بصبرها على الطاعات المقرّبة ومنعها عن المعاصي المبعّدة أفضل أعمال الإنسان، فإنّها توصله إلى نهاية نهاية العرفان، وتهديه إلى حقائق حقائق الإيمان، كما قال:( فَالَّذِينَ هاجَرُوا ) أي عن بلاد الطبيعة ( وَجاهَدُوا ) (٥) أي خالفوا نفوسهم ( وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ) أي تحمّلوا المشاقّ في الطريق إلى معرفتي ( وَقاتَلُوا ) أي جادلوا أرباب القشور

__________________

(١) الكهف: ٣٠ ـ ٣١.

(٢) الكهف: ٢٩.

(٣) الكهف: ٢٨.

(٤) العصر: ٢ ـ ٣.

(٥) البقرة: ٢١٨.

١٧٦

( وَقُتِلُوا ) أي غلبوا بظاهر القول لأغراض مهمّة( لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) (١) أي لأرفع عنهم الاحتجابات الّتي كانت بيني وبينهم مانعة عن الوصول إلى مرضاتي، والفوز بجنّاتي.

وقال:( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (٢) أي ما أعددنا له من المقامات في بساط الحقائق.

وقال:( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا ) (٣) أي جاهدوا مع نفوسهم لترتفع فيتحقّق الاتّصال والوصال، وأذعنوا بمقام عليٍّ عليه السّلام وأولاده، وصفّوا قلوبهم عن حبّ أعدائهم( فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي يفوزون بقرب الحقّ عند الحقّ( وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) من البعد حينئذ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٤) ممّا فات منهم من المقام الأدنى.

وقال الصادق عليه السّلام: طوبى لعبد جاهد لله نفسه وهواه، ومن هزم جند هواه ظفر برضاء الله، ومن جاوز عقله نفسه الأمّارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة الله فقد فاز فوزا عظيما، ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الله من النفس والهوى، وليس لقتلهما وقطعهما سلاح وآلة مثل الافتقار إلى الله، والخشوع والجوع والظمأ بالنهار، والسهر بالليل، فإن مات صاحبه مات شهيدا، وإن عاش واستقام أدّاه عاقبته

__________________

(١) آل عمران: ١٩٥.

(٢) العنكبوت: ٦٩.

(٣) الرعد: ٢٢.

(٤) البقرة: ٦٢.

١٧٧

إلى الرضوان الأكبر(١) إلى آخره.

الخامسة: يحتمل أن يكون المراد بالجنّة هي جنّة وصال الحقّ، فإنّ ذلك هو جزاء الأبرار.

كيف وهم أجلّ من أن يكون جزاؤهم الالتذاذ بما تشتهي أنفسهم.

كيف وهم لقد تياسروا عن ذلك الاشتهاء، وتيامنوا عن ذلك المقام، فإنّهم لقد عرفوا أنّ نفوسهم وما تقتضيه حاجبة عن الفوز بالحقّ، فكيف يجزون بالاحتجابات المانعة! كلّا إنّ هؤلاء لغامضون عن جميع اللذّات في جميع الجهات، وذاهلون عن كلّ ما في الإمكان في مقام ذكر الملك المنّان، فجزاؤهم على حالاتهم وأخلاقهم وأطوارهم هو الالتذاذ بقرب الله، إذ لا لذّة ألذّ من ذلك المقام وهو الجنّة العالية الّتي يفوز بها الواصلون، كما قال: إنّ لله جنّة ليس فيها حور ولا قصور بل يتجلّى فيها ضاحكا مستبشرا.

وقال الله: وإذا عشقني عشقته، وإذا عشقته قتلته، وإذا قتلته فعليّ ديته، فإذا كان عليّ ديته فأنا ديته.

وقال: الصوم لي وأنا أجزي به. أي أنا جزاء من حصر توجّهه إلى حضرتي، وقطع عن سواي إلى خدمتي.

وقال:( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) أي بمقام المحبّة الصافية ( ارْجِعِي إلى رَبِّكِ ) أي توجّهي إلى حضرته ( راضِيَةً ) من ربّك ( مَرْضِيَّةً ) بطاعاتك ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) الأبرار المنقطعين عن كلّ شيء الفائزين بحقيقة

__________________

(١) مصباح الشريعة: ١٦٩.

١٧٨

العبوديّة( وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (١) أي فوزي بجنّة قربي ومقام الاتّصال بحضرتي.

وإلى هؤلاء إشارة بقوله ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ * لِسَعْيِها راضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ) (٢) أي القرب التامّ بحضرة الحقّ ( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) (٣) أي لا تتوجّه إلى غير الحقّ، فإنّ ذكر الغير لغو في مقام الحقّ.

السادسة: قال المفيد رحمه الله في اعتقاداته: وثواب أهل الجنّة الالتذاذ بالمآكل والمشارب، والمناظر والمناكح، وما تدركه حواسّهم ممّا يطبعون على الميل إليه، ويدركون مرادهم بالظفر به، وليس في الجنّة من البشر من يلتذّ بغير مأكل ومشرب، وما تدركه الحواسّ من الملذوذات. وقول من زعم أنّ في الجنّة بشرا يلتذّ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل والشرب قول شاذّ عن دين الإسلام، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الّذين زعموا أنّ المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنّة ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينكحون، وقد أكذب الله هذا القول في كتابه بما رغّب العالمين فيه من الأكل والشرب والنكاح فقال:( أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ) (٤) .

وقال:( فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) (٥) .

وقال:( حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ) (٦) .

__________________

(١) الفجر: ٢٧ ـ ٣٠.

(٢) الغاشية: ٨ ـ ١٠.

(٣) الغاشية: ١١.

(٤) الرعد: ٣٥.

(٥) محمّد: ١٥.

(٦) الرحمن: ٧٢.

١٧٩

وقال:( وَحُورٌ عِينٌ ) (١) .

وقال:( وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) (٢) .

وقال:( وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ ) (٣) .

وقال:( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ) (٤) .

فكيف استجاز من أثبت في الجنّة طائفة من البشر لا يأكلون ولا يشربون ويتنعّمون، وكتاب الله شاهد يفيد ذلك، والإجماع على خلافه لولا أن قلّد في ذلك من لا يجوز تقليده، أو عمل على حديث موضوع إلى آخره.

أقول عائذا بالله من الجهل بحقائق الأمور: ما ذكره من أنّ ثواب أهل الجنّة محصور في الالتذاد بالمآكل والمشارب والمناكح تعريض للشيخ الصدوق رحمه الله حيث قال في اعتقاداته: وهم أي أهل الجنّة أنواع على مراتب منهم المتنعّمون بتقديس الله وتسبيحه وتكبيره في جملة ملائكته، ومنهم المتنعّمون بأنواع المآكل والمشارب والفواكه والأرائك وحور العين، واستخدام الولدان المخلّدين، والجلوس على النمارق والزرابيّ ولباس السندس والحرير، كلّ منهم إنّما يتلذّذ بما يشتهي ويريد على حسب ما تعلّقت عليه همّته إلى آخره.

ولا يخفى أنّ ما ذكره الصدوق من اختلاف مراتب أهل الجنّة فمنهم لا

__________________

(١) الواقعة: ٢٢.

(٢) الدخان: ٥٤، الطور: ٢٠.

(٣) ص: ٥٢.

(٤) يس: ٥٥.

١٨٠

يلتذّون إلّا بقرب الحقّ وذكره والثناء عليه على التفصيل الّذي قرّرناه.

ومنهم من لهم دون ذلك المقام وهم الأكثرون كما قال: أكثر أهل الجنّة البلهاء، فيتنعّمون بالمآكل والمشارب هو الصحيح الّذي نحن نقول به.

وأمّا ما ذكره المفيد رحمه الله من الحصر الّذي عرفته فناش عن الجهل بحقيقة الحال. كيف ويأباه العقل اللّامع اللاهوتي كمال الإباء، إذ هذه الأشياء ممّا لا يليق إلّا بالقوّة البهيميّة، ولا يليق بالرتبة الإنسانيّة، لأنّها من أعلى المراتب الإمكانيّة، وقد أعدّ الله لها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

فلا ينبغي للعاقل أن يحصر اللذّات في الجنّة فيما يخصّ بالبهائم. كيف وهو نقص للرتبة الإنسانيّة.

وأمّا ذكره من الآيات القرآنيّة شاهدة على دعواه فممّا الجواب عنه سهل على كلّ من تدبّر هنيئة، إذ لتلك الآيات ظواهر يعرفها كلّ من له اطّلاع بلغة العرب، وحقائق قد علمها أهل التوحيد، وعرفها أرباب التجريد.

كيف لا وقد كشف عن بعضها الأئمّة الأطهار عليهم السّلام في بعض أخبارهم المرويّة عنهم في الكتب المعتبرة كما لا يخفى على من تتبّعها، ولا يبقى شكّ للمتتبّع في أنّ تلك الألفاظ الّتي تضمّنها القرآن، بل الأخبار الواردة في أمر الجنّة والنيران كما تكون عبارات عن اللذّات الجسمانيّة المحسوسة، والآلام الظاهرة العنصريّة كذلك تكون كنايات عن الدرجات الرفيعة القربيّة، والدركات البعديّة، وإنّي في مقامي هذا بين يدي الله لأشهدنّ بأنّ ما اشتمله القرآن والأخبار في أمر الجنّة والنار لحقّ صدق من

١٨١

الله إلى رسول الله، ثمّ إلى خلق الله، ولا ريب فيه أصلا ولكن أقسم بعزّة الله صادقا بأنّ الأمر في كيفيّات ذلك ليس كما ذكره الظاهريّون القشريّون من العلماء، واعتقده الأدنون من أنّ أهل الجنّة كلّهم يلتذّون بالمطاعم الجسميّة كما يلتذّ البهائم، بل لذلك كيفيّة لم يعرفها إلّا من فاز بها.

فكذب من ادّعى عرفان تلك الكيفيّات قبل أن يدركها حقّ الدرك، فإنّه خاصّ بالأنبياء والأولياء والأصفياء المنقطعين عن تلك الحواسّ الظاهرة الحيوانيّة انقطاعا كلّيّا، فهيهات هيهات كيف يدركها المشتغل باللذّات الحسّيّة، والمتوجّه إلى الشؤونات الغيريّة.

ومن ذلك يكشف معنى ما روي من أنّ الحسين عليه السّلام قد أرى أصحابه مقاماتهم ودرجاتهم في الجنّة في أرض كربلا، فإنّ ذلك لقد كان عند انقطاعهم عن هذه الحياة الدنيا وشوقهم إلى الحياة الدائمة السرمديّة.

وبالجملة: لا يمكن الفوز بحقيقة تلك الكيفيّات لمن لم يذق من رحيق العرفان، والانقطاع عن كلّ ما في الإمكان، فإنّي إلى هذه الغاية في رتبة التوحيد، والانقطاع بمقام التجريد، لم يظهر لي حقيقة تلك الكيفيّات حقّ الظهور، فكيف لمن لم يكن له حظّ من مقام العرفان أصلا.

فيا أيّها المتعرّف الجاهل صه عن البحث في هذه الكيفيّات، فإنّه لا ينبغي إلّا لمن خلص دينه، وأتقن يقينه، فالحمد لله حقّ حمده، والصلاة على مظهر مجده.

السابعة: لقد ظهر ممّا سطرناه أنّ الله تعالى لقد عبّر عن الدرجات الروحانيّة، والمقامات العرفانيّة الّتي يفوز بها العارفون والواصلون كلّ

١٨٢

بحسب سعيهم وإمكانهم بالجنّة والحرير واتّكائهم على الأرائك إلى غير ذلك ممّا أشير إليه في الآيات، ولكن لا يدرك ذلك إلّا العارفون بأسرار القرآن وحقائقه، فإنّ لباطن القرآن أهل يفهمون الكنايات، ويدركون الإشارات، وهم المعصومون من آل محمّد عليهم السّلام والّذين علّمهم هؤلاء وهم الراسخون في العلم الّذين يعلمون تأويل القرآن، كما قال:( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١) إلى آخره.

لا الّذين ما استعدّوا إلّا للقشور، فإنّهم لا يعرفون إلّا ظواهر الأمور، لما في استعدادهم من القصور، عن درك حقائق النور، فما عثروا على الكنوز، وما اطّلعوا على الرموز، واقتصروا على الصورة وما تحسّسوا عن يوسف الحقيقة، كلّا إنّهم عن حقائق الحقّ لمحجوبون.

ثمّ لا يخفى أنّ في اختلاف تعبيره سبحانه إشارة إلى أنّ معارفهم ليست من صنف واحد، بل مختلفة باختلاف متعلّقها، وكذلك مقاماتهم ليست متّحدة حتّى يكون مقام واحد، بل متفاوتة بعضها فوق بعض، ولكن نحن لاشتغالنا بالحياة العنصريّة لا ندرك حقيقة مقام هؤلاء المنقطعين، بل كيفيّته، فضلا عن اختلافه وتفاوته.

كيف ولسنا في ذلك المقام حتّى ندركه، إذ قد عرفت أنّ الخارج عن مقام لا يمكن له اكتناه ذلك المقام كيفوفيّة وحيثوثيّة إلّا على طريق الإجمال، وهو غير مفيد للحال إلّا إثبات بعض الأحوال.

هذا فإنّه غاية ما يمكن تقريره في نحو المقال، فالحمد لله على كلّ حال.

__________________

(١) آل عمران: ٧.

١٨٣

تنبيهات :

الأوّل: قال بعض العارفين: الجنّة في الآية إشارة إلى المقاصد الكلّيّة، والمطالع الجليلة.

وأمّا الحرير فلمّا كان من اللباس الكامل المكمّل حسّا عبّر به عمّا يطابقه من الكمالات العقليّة من التسربل بسرابيل الإفاضات الروحانيّة، والتسرول بسراويل الكرامات الرحمانيّة، والتعمّم بعموم عمائم العناية الربّانيّة، المحيطة بالكلّ حياط الحاوي للمحوي، وإن كان تفاوت ما بين الحريرين.

والأرائك جمع الأريكة وهي السرير.

وقيل: هي الفرش فوق الأسرّة.

ومتّكئين منصوب على المدح أو حال من الضمير.

وفي الآية إشارة إلى حسن المنزل، وطيب هوائه، وتلويح إلى دوام هذا الطيب وعدم تغيّره.

وعدم الشمس والزمهرير كناية عن الخلوّ عن الحرّ والبرد، والزمهرير في لغة طيّ: القمر.

وعلى الوجهين تلميح إلى أنّ هذا الطيب والاعتدال ليس من أمور خارجة كاعتدال هواء الدنيا. ثمّ في الآية دلالة على إثبات اللذّة ونفي الألم، فإنّ الاتّكاء على السرير في هواء طيّب جامع في البدن وفي النفس حالات مناسبة مشابهة، والشمس يتبعها حرّ وكرب يلزم الشوق، والزمهرير برودة وجمود يلزم البلادة والغفلة.

أقول: وفي الآية إشعار أيضا بكمال البينونة والتفاوت بين اللذّات

١٨٤

الدنيويّة الفانية، واللذّات الأخرويّة الباقية، كما لا يخفى على المتأمّل.

الثاني: القراءة المشهورة في «ودانية عليهم» النصب، وله وجوه ذكروها في كتب التفسير، منها: أن يكون عطفا على «متّكئين» فيكون حالا بعد الحال بواسطة الحرف، أي في حال اتّكائهم على الأسرّة وقرب أفياء الجنّة منهم.

ومنها: أن يكون صفة الجنّة المذكورة، أي: وجزاهم جنّة دانية. ذكره بعض، ولكنّه أخطأ لعدم جواز الفصل بين الصفة والموصوف بالواو، ولا محلّ لزيادتها هنا، كما لا يخفى فليتأمّل.

ومنها: أن يكون صفة لموصوف محذوف، فالنصب على المفعوليّة، أي: وجزاهم بما صبروا جنّة وحريرا وجنّة أخرى دانية عليهم، وذلك إنّهم وعدوا جنّتين لخوفهم من مقام ربّهم على ما سبق كما قال:( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) (١) ومن قرأ بالرفع فقد جعله خبرا مقدّما والمبتدأ قوله ظلالها، والجملة في محلّ النصب على الحالية.

ثمّ المراد بدنوّ الظلال هو قرب أفياء أشجار الجنّة.

وقيل: المراد إنّ ظلال الجنّة لا تنسخها الشمس كما تنسخ ظلال الدنيا، والاستشكال بأنّ الظلّ لا يكون إلّا حيث يكون الشمس مجاب عنه تارة بأنّ المراد لو كان هناك شمس لوقع ظلّ فتأمّل.

وتارة بأنّ الظلّ لا يلزم أن يكون بالشمس، بل الضوء كاف في إيقاع الظلّ كما لا يخفى.

__________________

(١) الرحمن: ٤٦.

١٨٥

وقوله: «وذلّلت قطوفها» معناه: وسهل أخذ ثمارها إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد نزلت عليه حتّى ينالها، وكذلك إن اضطجع.

وقيل: أي لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شرك والمال واحد كما لا يخفى.

وفي ذلك إشارة إلى أنّ هؤلاء الأبرار المستكملين لقد فازوا باللذّات الدائمة بحيث هيّأت لهم جميع المعارف بحسب استعدادهم في بساط القرب، فلا يريدون لذّة إلّا وهم واجدوها، ولا يتمنّون علما وحكمة إلّا وهم عالموها، فلا يحتاجون في مقام العلم والعرفان إلى غيرهم.

كيف وهم الكاملون الّذين أمر الناس بأن يرجعوا إليهم في أمورهم جميعا، ورغّبوا في أن يسألوهم ممّا لا يعلمون، كما قال:( فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١) أي الذاكرين للحقّ خاصّة، الذاهلين عن جميع ما في الإمكان، فمن أمر الناس بسؤاله لا يجهل شيئا ممّا يحتاجون إليه لا محالة، فعلم الكاملين بمحاوج السائلين حضوريّ لا فكريّ كما زعمه جماعة.

وقد دلّ على دعوانا بعض الأخبار الواردة في باب علم الإمام عليه السلام، والمتتبّع لاحظه لا محالة، فلا حاجة إلى تطويل الرسالة في تلك المقالة. هذا ما ألهمنا به في الحال.

وقال بعض أهل الحال: لا يبعد أن يكون دنوّ الظلال إشارة إلى قرب الظلّ دون المظلّ، وتذلّل القطوف إلى تقارب المظلّ. وفي هذا إشارة إلى شمول العناية الإلهيّة وتقاربها وإحاطتها مانعة عن الآلام العقليّة والحسّيّة.

__________________

(١) النحل: ٤٣، الأنبياء: ٧.

١٨٦

والقطوف إشارة إلى اللذّات وتعقّل المعقولات، وتذليلها إلى تقاربها بمفيضها.

ويمكن أن يقال: إنّ دنوّ الظلال لـمـّا كان من اللذّات البدنيّة الّتي توجد للمتّكئين بمثل تلك الجنان من الجنان الدنيويّة المحسوسة عبّر به عمّا يحصل لهؤلاء في الجنّة من إحاطة العناية الإلهيّة عليهم، ودنوّ النعمة الربّانيّة بهم أن لا يصيبهم ألم أو يجري عليهم شيء من عذاب الناقصين.

وأمّا تذليل قطوفها فعبارة عن تعقّلاتهم لتلك المعقولات المجرّدة، وافتياضهم من تلك الجواهر العقليّة بحسب إمكاناتهم، وتذليل قطوفها تناولها بسرعة.

وفيه إشارة لطيفة إلى أنّ المبدأ الأوّل جلّ ذكره لا تتوقّف إفاضة وجوده على شيء من ذاته، وإنّما هو بحسب استعدادات القوابل، فهؤلاء لـمـّا كانوا على غاية من كمال استعداداتهم وقبولهم لكمالاتهم، لا جرم كانت قطوفها على غاية سرعة الإفاضة، وذلك معنى تذلّلها.

الثالث: الطواف والآنية معلوم، والأكواب جمع الكوب وهو القدح الّذي لا عروة له، والقوارير: الزجاجات، وانصرافه بالتنوين في بعض القراءات، إنّما هو لرعاية السجع.

وقوارير الثانية بدل من الأولى، والفائدة معلومة أي يطاف على هؤلاء الكمّل بآنية أصلها فضّة وأقداح أصلها القوارير الّتي مثل الفضّة في الصفاء والبياض بحيث يقال إنّها منها لشدّة ملابستها لها.

وبذلك يجاب عمّا استشكل بأنّه كيف تكون القوارير من فضّة وأمّا

١٨٧

القوارير من الرمل دونها. وقد يجاب أيضا بأنّ المضاف محذوف أي من صفاء الفضّة، قال الصادق عليه السلام: ينفذ البصر في فضّة الجنّة كما ينفذ في الزجاج(١) .

أقول: وفي الآية إشعار بكمال لطافة ما يحصل لهم من المقامات والمعارج بحيث لا يلتذّ بها سواهم، فإنّه لا مناسبة بين غير هؤلاء من المشتغلين بالشؤون الغيريّة وبين تلك المدركات العقليّة حتّى يدركوها، إذ الالتذاذ من الشيء وإدراكه فرع المناسبة والرابطة ولو في الجملة.

قال بعض العارفين: المراد أنّ الفضّة لـمـّا كانت من الجواهر العزيزة بما يتّخذ منه الملوك الأواني من آلات الشرب وغيرها وكان مع ذلك لها البياض الّذي هو أشرف الألوان المشرقة عبّر بها عمّا ناسبها من الجواهر المعقولة.

واعلم أنّه عبّر بالطواف عمّا يحصل للنفوس الكاملة من تلك المشاهدة والمقابلة الّتي تجري مجرى مقابلة المرايا العالية للمرايا السافلة، وعبّر بالآنية والأكواب عن المبادي العالية الّتي هي مقرّ العلوم والمعارف تنبيها على ذلك. انتهى.

وقال: نبّه بقوله قوارير على وصفين :

أحدهما: أنّ تلك الجواهر العقليّة وإن كان لها لون الفضّة فإنّها مع ذلك في صفاء القوارير وشفّافها، وهو إشارة إلى براءتها عن كدورات العلائق الجسمانيّة.

__________________

(١) بحار الأنوار ٨: ١١١.

١٨٨

والثاني: إنّها مقرّ العلوم الحقيقيّة قرارا لا يتبدّل ولا يتغيّر بحسب تغيّر المعلومات.

وقال: المبادئ العالية أنوار متعدّدة متكثّرة مترتّبة لها أظلال، فإشراقها على النفوس إظلالها، واستفاضة النفوس منها اقتطافها.

الرابع: في قوله «قدّروها» قراءتان :

الأولى: الفتح وهي المشهورة، أي قدّروها في أنفسهم فجاءت مقاديرها وأشكالها كما تمنّوه، أو قدّروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها، فالضمير عائد إلى الأبرار الموصوفين قبل.

وقيل: أي قدّروا الكأس على قدر ريّهم لا يزيد ولا ينقص من الريّ.

وقيل: قدّروها على قدر ملاء الكفّ، أي كانت الأكواب على قدر ما اشتهوا، فالضمير على القولين عائد إلى الطائفين الّذين يسقون، فإنّهم يقدّرونها ثمّ يسقون.

وفيه إشارة إلى أنّ كلّا منهم ينال من الفضل والمقام بحسب استعداده وعمله في الدنيا، بمعنى أنّهم ليسوا سواء في جميع المقامات، بل مقاماتهم مختلفة، ومراتبهم متفاوتة باختلاف إمكاناتهم، وتفاوت استعدادتهم، فلكلّ درجات ممّا عملوا والله عليم بما يعملون.

هذا معنى ما قيل من أنّ المراد أنّه حصل لكلّ منهم من المعارف والمشاهدات لتلك الصور البهيّة، والمطالع العليّة حصّته بحسب ما انتهى إليه طرق إمكانه، أي قدّر لهم الطائفون ذلك التقدير المختلف بحسب اختلاف إمكاناتهم.

١٨٩

الثانية: ضمّ القاف، فالضمير للأبرار، والتقدير: قدّروا عليها، فحذف الجار ووصل الفعل بالمجرور، وهو الشائع.

الخامس: قال بعض العارفين: لا يخفى على أولي النّهى أنّ في الآية أمورا ينبغي الاستكشاف عنها :

منها: كيفيّة كون هذه الأكواب من الفضّة والقارورة وهما جوهران متباينان.

ومنها: من فاعل التقدير.

ومنها: وجه التأكيد.

ومنها: وجه إعادة المصدر.

أمّا الأوّل، فيمكن أن يبيّن بوجوه :

أوّلها: إنّ قوارير الدنيا مأخوذة من الرمل والحجر، وقارورة الجنّة من الفضّة، فكما أنّ الله قادر على تقليب الرمل الكثيف زجاجة لطيفة صافية كذلك قادر على تقليب الفضّة قارورة لطيفة، ففي الآية إشارة إلى أنّ نسبة قارورة الجنّة إلى قارورة الدنيا كنسبة فضّة الجنّة إلى حجارة الدنيا، وبهذا يتفطّن بصفاء قارورة الجنّة ولطافتها.

وثانيها: إنّ كمال الفضّة في بقائها ونقائها وصفائها وشرفها إلّا أنّها كثيفة الجوهر، وكمال القارورة في شفّافها وصفائها إلّا أنّها سريعة الانكسار، ففي الآية إشارة إلى أنّ آنية الجنّة جامعة بين صفاء الفضّة وبقائها ونقائها وصفاء الزجاجة وشفّافها.

وثالثها: أن يكون إشارة إلى أنّ تلك الآنية من الفضّة، ولكن يكون لها صفاء الزجاجة.

١٩٠

ورابعها: أنّ القارورة في الآية ليست بمعنى الزجاجة، بل العرب تسمّي كلّما صفى من الأواني قارورة.

وأمّا الثاني وهو بيان المقدّر ففيه وجهان :

الأوّل: أنّه هو الطائف.

والثاني: أنّه هو الشارب، ولكلّ وجه، بل وجوه وجيهة.

وأمّا الثالث فلا يخفى على من تفطّن بالأوّل، كما أنّ الرابع ظاهر لمن تأمّل في الثاني إلى آخره.

السادس: في بناء الفعل للمفعول في قوله «ويطاف عليهم» إشعار بتعظيم الطائف، فإنّه هو المبدأ الأوّل جلّ جلاله.

وكذلك القول في قوله «ويسقون فيها كاسا ...» إلى آخره، إذ الساقي للأولياء من شراب المحبّة والصفاء في مجلس الشهود هو الله تعالى، كما قال: «وسقاهم ربّهم شرابا طهورا».

والزنجبيل معروف، وهو ممّا كانت العرب تستطيبه وتستلذّه وتضرب به المثل في أشعارها للملذوذات، فوعدهم أنّهم يسقون في الجنّة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنّة، فإنّهم كانوا يمزجون شرابهم بالزنجبيل في الدنيا لزيادة اللذّة.

وفيه إشارة إلى أنّ اللذّة الروحانيّة ألذّ اللذّات الّتي يتصوّرونها ويتوهّمونها.

ولا يخفى أنّ الزنجبيل الممزوج بشراب الأبرار ليس مناسبة بينه وبين زنجبيل الدنيا أصلا في الأثر واللذّة إلّا فيما ذكر من أنّهم يستلذّون به في

١٩١

الدنيا، فجرى كلام الحقّ على قدر إفهامهم ليعرفوا أنّ ما يمزجه الحقّ بشرابهم ألذّ ممّا يمزجونه، فذكر الزنجبيل إنّما هو من باب التمثيل لا التحقيق، فإنّ حقيقة اللذّات الأخرويّة لا يدركها المشتغلون بالنشأة الدنيويّة حقّ الدرك.

نعم ربّما يعرفونها إجمالا، ألا ترى إلى الصبيّ كيف لا يدرك لذّة الجماع الّتي يدركها البالغ، إلّا أنّه قد يقطع بأنّ الجماع فيه لذّة، ولكن لا يعرف حقيقته.

نعم يتمثّل تلك اللذّة له بلذّة القند والسكّر، فكما أنّ بين لذّة الجماع ولذّة السكّر فرقان فاحش، كذلك يكون بين لذّة الدنيا ولذّة الآخرة فرقان كثير غاية الفرقان، بل لا مناسبة بينهما إلّا في الاسم.

كيف واللذّة الروحانيّة الّتي أعدّها للأبرار ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إلى آخره، وهي دائمة باقية لا تتصرّم أبدا فهي أحقّ بذلك الاسم من اللذّة الفانية المتصرّمة.

وهكذا الأمر في جميع الألفاظ الّتي عبّر الله بها في القرآن عن اللذّات، فإنّ حقيقتها ما يلتذّ به العارفون ويستطيبه الصافّون.

وأمّا ما يسمّيه الناقصون باللذّة ويستطيبونه فليس في نفس الأمر لذّة وطيبا، وإنّما زعموا ذلك لعدم فوزهم بما هو الألذّ والأطيب.

كيف فلو كانوا فائزين به لما كانوا راضين بتلك التسمية أبدا، بل كانوا لا يتوجّهون إلى ذلك المقام أصلا، فحرمانهم عن المقام الأعلى حملهم على أن سمّوا تلك الأمور الفانية الزائلة لذّة وطيبا، وأنسوا بها حتّى لم يتبادر إلى

١٩٢

أذهانهم من الألفاظ المألوفة الرسميّة المشيرة إلى المعاني الروحانيّة الملكوتيّة سوى تلك اللذّات المألوفة الّتي لا تستحقّ اسم اللذّة، وذلك لعدم إدراكهم الملذّات الروحانيّة، وعدم فوزهم بها.

ويدلّك على ذلك أنّ الكاملين لا يتبادر إلى أذهانهم من تلك الألفاظ إلّا المقامات الملكوتيّة واللذّات الروحانيّة وإن ذلك إلّا لتوجّههم إلى جهة الملكوت وانقطاعهم عن سلسلة الناسوت.

وقد أجاد محمّد بن محمّد الغزاليّ قدّس سرّه في بيان ما أشرنا إليه من أنّ لتلك الألفاظ حقائق أحقّ في كتابه المسمّى بجواهر القرآن حيث قال :

إعلم أنّ الكبريت الأحمر عند الخلق في عالم الشهادة عبارة عن الكيمياء الّذي يتوصّل به إلى قلب الأعيان من الصفات الخسيسة إلى الصفات النفيسة حتّى ينقلب به الحجر ياقوتا، والنحاس ذهبا إبريزا، ليتوصّل به إلى لذّات في الدنيا مكدّرة منغّصة في الحال، متصرّمة على قرب في الاستقبال، أفترى أنّ ما يقلب جوهر القلب من رذالة البهيميّة، وضلالة الجهل إلى صفاء الملكيّة وروحانيّتها ليترقّى من أسفل السافلين إلى أعلى علّيّين، وينال به لذّة القرب من ربّ العالمين، والنظر إلى وجهه الكريم أبدا دائما سرمدا هل هو أولى باسم الكبريت الأحمر أم لا، فلهذا سمّيناه بالكبريت الأحمر، فتأمّل وراجع نفسك، وأنصف لتعلم أنّ هذا الاسم بهذا المعنى أحقّ، وعليه أصدق.

ثمّ أنفس النفائس الّتي يستفاد من الكيمياء اليواقيت، وأعلاها الياقوت الأحمر، فلذلك سمّينا به معرفة الذات.

وأمّا الترياق الأكبر فهو عند الخلق عبارة عمّا يشفي من السموم المهلكة

١٩٣

الواقعة في المعدة مع أنّ الهلاك الحاصل بها ليس إلّا هلاكا في حقّ الدنيا الهالكة الفانية، فانظر إن كان سموم البدع والأهواء والضلالات الواقعة في القلب مهلكة هلاكا يحول بين المسموم بها وبين عالم القدس ومعدن الروح والراحة حيلولة دائمة أبديّة سرمديّة وكانت المحاجّات البرهانية تشفي عن تلك السموم وتدفع ضررها هل هي أولى بأن يسمّى بالترياق الأكبر أم لا.

وأمّا المسك الأذفر فهو عبارة في عالم الشهادة عن شيء يستصحبه الإنسان، يثور منه رائحة طيّبة حتّى لو أراد إخفاءه لم يختف، لكن يستظهر وينتشر.

فانظر إن كان في المطالب العلميّة ما ينشر منه الاسم الطيّب في العالم ويشتهر به صاحبه اشتهارا لو أراد الاختفاء وإيثار الخمول لم يقدر عليه، بل يشهره ويظهره فاسم المسك الأذفر عليه أحقّ وأصدق أم لا. انتهى.

وأنا أقول: الجنّة عند الخلق في عالم الشهادة عبارة عن البستان المحفوف بالأشجار والأنهار بحيث يفرح بدخوله المغتمّ المهموم، ويزول عن قلبه الهموم والغموم، أفترى أنّ مقام قرب الحقّ الّذي من دخله كان مسرورا فرحا بالوصال، مجتنيا من أطايب ثمرات الجلال، زائلا عن قلبه شؤونات الجهل والضلال ليس أولى باسم الجنّة.

كيف وهو أولى بذلك الاسم، وهو عليه أحقّ وأصدق.

وكذا الشراب عند الخلق في ذلك العالم عبارة عمّا يشربونه فيطفئون به حرارات القلب، ويتوجّدون ويتطرّبون كمال التوجّد والتطرّب.

أفترى أنّ ما يطفأ به حرارة الجهل والغفلة ويتوجّد به العارفون

١٩٤

فيتطرّبون في عرش الحقّ واصلين متّصلين ليس أحقّ بذلك الاسم.

وكذا الزنجبيل عندهم عبارة عن ضرب من القرفة طيّب الطعم يمزجونه بالشراب فيلتذّون به على ما عرفت.

أفترى أنّ ما يلتذّ به الأبرار من الحقائق الروحانيّة الملكوتيّة، واللذّات الدائمة الحقيقيّة ليس أولى بذلك الاسم.

وكذا الحرير عندهم عبارة عمّا يلبسه الملوك ويتزيّنون به ويزيدون به الجمال والجلال عند الناس، فإنّه أبهى الألبسة، أفترى أنّ ما يستكمل به الواصلون ويستحملون به من لباس التوحيد وثياب التجريد بحيث يتميّزون بذلك عن سائر أصناف الخلق، ويتزيّنون به في سرير الملكوت ليس أحقّ بذلك الاسم؟

وكذلك الكافور الحسّيّ من صفاته البياض المشرق، ومن خواصّه إزالة الحرارة الراسخة المهلكة المتمكّنة في جوهر ذات الشخص. أفترى أنّ ما يفوز به الأبرار من الإفاضات العالية الّتي هي في غاية الإشراق والصفاء ومزيلة للجهالات وسائر المهلكات ليس أحقّ وأولى بذلك الاسم؟

وكذلك سائر الألفاظ الّتي اشتمل عليها القرآن لها حقائق تتبادر إلى أذهان العارفين كما تتبادر ظواهرها إلى أذهان الناقصين، فكما أنّ التبادر عندهم علامة للحقيقة كذلك هواية للحقيقة عند هؤلاء فكم من حقيقة عند أهل الظاهر هو أحقّ باسم المجاز عند أهل الباطن، فلكلّ اصطلاح يحاورون به في محلّ التخاطب لا يتكلّم به الآخرون، ولا يتبادر إلى أذهانهم كيف، فكما أنّ الناقصين القاصرين عن درك المقامات الروحانيّة لا ينتقش

١٩٥

في أذهانهم عند استماع تلك الألفاظ إلّا الصور الجسمانيّة المحسوسة الّتي كانوا ألفوها وأنسوا بها في عالم الشهادة، كذلك الكاملون العارفون بحقائق الحكمة والعرفان إذا استمعوا تلك الألفاظ لا يتوجّهون إلّا إلى المقامات الروحانيّة، واللذّات الملكوتيّة، ولا ينتقش في ألواح أذهانهم إلّا هذه المعاني العلويّة اللاهوتيّة، والحقائق العالية الهاهوتيّة. كيف ولا يتمنّون لرفعة همّتهم إلّا تلك المقامات القربيّة، ولا يرجون إلّا الفوز بهذه المعاني الملكوتيّة، والالتذاذ بالإفاضات الإلهيّة والعنايات الرحمانيّة الأزليّة، وذلك لما ركز في هويّتهم من الشوق إلى الحقّ الّذي هو المبدأ الأوّل لكلّ ما في الإمكان.

وأمّا الناقصون فليس فيهم ذلك الشوق، ولذا كانت منيتهم الالتذاذ بالمشارب والمآكل والمناكح الّتي هي لائقة بمقام البهيمة، وهؤلاء لقد استبدلوا الّذي هو أدنى بالّذي هو خير، وضلّوا عن مقام الوجد والحال.

ولقد أجاد الغزاليّ رحمه الله في ذلك المقام، حيث قال :

إعلم أنّه لو خلق فيك شهوة شوق إلى الله، وشهوة لمعرفة جلاله أصدق وأقوى من شوقك للأكل والنكاح لكنت تؤثر جنّة المعارف ورياضها وبساتينها على الجنّة الّتي فيها قضاء الشهوات المحسوسة.

واعلم أنّ هذه الشهوة خلقت للعارفين ولم يخلق لك كما خلقت لك شهوة الجاه ولم يخلق للصبيان، وإنّما للصبيان شهوة اللعب، فأنت معجب من الصبيان في عكوفهم على لذّة اللعب وخلوّهم عن لذّة الرياسة، والعارف يتعجّب منك في عكوفك على لذّة الجاه والرياسة، فإنّ الدنيا بحذافيرها عند العارف لهو ولعب.

١٩٦

ولـمّا خلقت هذه الشهوة للعارفين كان التذاذهم بالمعرفة بقدر شهوتهم، ولا نسبة لتلك اللّذة إلى لذّة الشهوات الحسّيّة، فإنّها لذّة لا يعتريها الزوال، ولا يغيّرها الملال، بل لا يزال يتضاعف ويترادف ويزداد بزيادة المعرفة والإعراق فيها بخلاف سائر الشهوات، إلّا أنّ هذه الشهوة لا تخلق في الإنسان إلّا بعد البلوغ إلى حدّ الرجال، ومن لا تخلق فيه فهو إمّا صبيّ بعد لم تكمل فطرته لقبول هذه الشهوات، أو عنّين أفسد كدورة الدنيا وشهواتها فطرته الأصليّة.

فالعارفون لـمـّا رزقوا شهوة المعرفة ولذّة النظر إلى جلال الله فهم من مطالعتهم جمال الحضرة الربوبيّة في جنّة عرضها السماوات والأرض، بل أكثر ، وهي جنّة عالية قطوفها دانية، فإنّ فواكهها صفة ذاتهم وليست مقطوعة ولا ممنوعة، إذ لا مضايقة في المعارف.

والعارفون ينظرون إلى العاكفين في حضيض الشهوات نظر العقلاء إلى الصبيان عند عكوفهم على لذّات اللعب، ولذلك تراهم يستوحشون من أكثر الخلق، ويؤثرون العزلة والخلوة، فهي أحبّ الأشياء إليهم، ويهربون من المال والجاه، فإنّه يشغلهم عن لذّة المناجاة، ويعرضون عن الأهل والولد ترفّعا عن الاشتغال بهم عن الله تعالى.

فترى الناس يضحكون منهم، فيقولون موسوس ظهر عليه مبادئ الجنون، وهم يضحكون على الناس لقناعتهم بمتاع الدنيا، ويقولون إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون إلى آخره.

السابع: قال بعض العارفين: الكأس هاهنا هي الأولى بعينها، وإنّما أورد

١٩٧

هاهنا بصفة المزج بالزنجبيل، وكذا المراد من العين في قوله:( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) هي العين السابقة، إلّا أنّه أورده هاهنا بصفة السلاسة، وسرعة الفيض الإلهيّ في حقّهم، وسهولة افتياض المعقولات عليهم، إذ كانوا على غاية من الإمكان.

ثمّ لـمـّا وصف الكأس بطعم الزنجبيل وكانت الكأس من تلك العين نبّه في وصف العين بسلاسة الجريان في الخلق على أنّها مع استلزامها لطعم الزنجبيل ليس فيها قوّة اللذاعة الّتي فيه، فسبحان الملهم لتلك الاستعارة، والهادي إلى تلك العبارة. انتهى.

أقول: ما ذكره من أنّ المراد بالكأس هاهنا هي الكأس فيما قبل، وكذا العين، يتوجّه عليه أنّ ذلك مستلزم للتكرار والتأكيد، وهو في المقام غير مفيد، فالأحقّ أن يقال: إنّ في ذلك إشارة إلى ما مرّ من أنّ لكلّ من الأبرار مقامات مختلفة بحسب الحقيقة عن اختلافات الإفاضات العالية، إذ ليس للعارف مقام واحد واقف هو فيه في جميع الأوقات والحالات، بل يفوز في كلّ وقت وحالة بمقام وإفاضة ليس له في الوقت السابق والحالة السابقة.

كيف ولا نهاية لترقّي الإنسان يقف فيها، بل يترقّى آنا فآنا بحسب سعيه وجهده، كما قال:( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (١) .

وهذا هو السرّ في كونه أفضل من الملك، فإنّ له مقاما معلوما لا يجاوزه ولو أكثر في سعيه واجتهاده، كما يدلّ عليه بعض الأخبار المرويّة.

ويؤيّده ما حكي عن أبي الحسين الخرقانيّ أنّه قال: صعدت ظهيرة

__________________

(١) النجم: ٣٩.

١٩٨

على العرش لأطوف به فطفت عليه ألف طوفة، كما قال: ورأيت حواليه قوما ساكنين مطمئنّين، فتعجّبوا من سرعة طوافي، وما أعجبني طوافهم، فقلت: من أنتم؟ وما هذه البرودة في الطواف؟ فقالوا: نحن ملائكة، ونحن أنوار، وهذا طبعنا لا نقدر أن نجاوزه، فقالوا: ومن أنت؟ وما هذة السرعة في الطواف؟ فقلت: آدميّ وفيّ نور ونار، وهذه السرعة من نتائج نور الشوق. انتهى.

فما اختاره المعتزلة من أنّ الملك أفضل من الإنسان لوجوه غير وجيه، والوجوه الّتي استدلّوا بها غير وجيهة، وما قاله محيي الدين من أنّه سألت عن ذلك رسول الله في الواقعة، فقال لي: إنّ الملائكة أفضل، فقلت له: يا رسول الله، فإن سئلت ما الدليل على ذلك فما أقول؟ فأشار إليّ أن علمتم أنّي أفضل الناس، وقد صحّ وثبت عندكم وهو صحيح أنّي قلت عن الله أنّه قال: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وكم ذاكر لله ذكره في ملأ أنا فيهم، فذكر الله في ملأ خير من ذلك الملأ الّذي أنا فيهم إلى آخره. يشمّ منه رائحة الكذب، ولو صحّ وصدق لا يعارض الصحاح من الأخبار الدالّة على أفضليّة الإنسان مطلقا، فضلا عن الأنبياء سيّما نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله الّذي كان أفضل من كلّ شيء في الإمكان.

كيف والكلّ مخلوق به، وهو العلّة لوجود كلّ شيء، وهذا في الظهور كالنور على شاهق الطور، فلا حاجة إلى إسطار السطور، في تحقيق ما هو المشهور، بين الجمهور:

١٩٩

ملك در سجده آدم زمين بوس تو نيّت كرد

كه در حسن تو چيزى يافت بيش از حدّانسانى

وبالجملة: فلا يخفى أنّ المراد بالكأس هاهنا إفاضة خاصّة غير الإفاضة السابقة الّتي عبّر عنها بالكأس فيما سبق.

وفي التعبير بالشرب ونسبته إليهم فيما سبق حيث قال:( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ) إلى آخره.

وبالسقي ونسبته إلى المجهول وهو الحقّ تعالى هنا إشارة إلى أنّ للسالك العارف لذّتين:

لذّة يتسبّب لها ذاتيّته بحسب الإمكان والاستعداد، فيلتذّ بها لجهده وعمله.

ولذّة يتسبّب لها جذبة الحقّ من غير أن تكون ناشئة عن عمل العبد وسعيه، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من أوليائه وأحبّائه، ونعم ما قيل: جذبة من جذبات الحقّ توازي عمل الثقلين.

وفي المقام مطالب يمنعني ضيق الوقت عن تفاصيلها، ولكنّ القول المجمل منها: أنّ السالك في سبيل المحبّة: إمّا سالك محض، وهو مجزيّ بعمله، ملتذّ بعاقبة سعيه.

أو مجذوب محض من غير أن يكون له سعي، وإنّما يجذبه الحقّ بلطفه وفضله إلى عرش الصفاء، ومقام البهاء، وهو غافل عن ذلك قبل ذلك، كما قال:( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (١) إلى آخره، ولكن لا بدّ له من استعداد

__________________

(١) الطلاق: ٣.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355