الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام17%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 98614 / تحميل: 13093
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام

تأليف:

المستشار عبدالحليم الجندي

١

تقديم

بسم اللّه الرحمن الرحيم

كان من المنطق أن يظهر هذا الكتاب قبل - أو مع - كتابنا (أبي حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام (سنة ١٩٤٥) م أو كتاب (مالك بن أنس). فلقد تتلمذ أبوحنيفة ومالك للإمام الصادق، وتأثرا كثيرا به، سواء في الفقه أو في الطريقة. ومالك شيخ الشافعي. والشافعي يدلي إلى أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسباب من العلم والدم. وقد تتلمذ له أحمد بن حنبل سنوات عشرة. فهؤلاء أئمة أهل السنة الأربعة، تلاميذ مباشرون أو غير مباشرين للإمام الصادق.

غير أن تعاقب الأئمة الأربعة لأهل السنة. وتقارب مذاهبهم في تعبيرها عن فقه «أهل السنة»، دفعا إلى وجه آخر. فظهرت كتبنا عنهم بين سنتي ١٩٤٥ ، ١٩٧٠ للميلاد.

وإلى ذلك فقد تأكد في كتابنا «توحيد الأمة العربية» (سنة ١٩٦٥) أن «وحدة القاعدة القانونية» هي الطريقة المثلى لربط المسلمين، في شتى أقطارهم، بتشريع إسلامي شامل. تضؤل دونه التشريعات المعاصرة في الغرب أو في الشرق. والفقه « الشيعي » واحد من النهرين اللذين تسقى منهما حضارة أهل الإسلام. وإليه لجأ الشارع المصري في هذا القرن لإجراء إصلاحات ذات بال في نظم الأسرة المصرية.

والإمام جعفر الصادق يقف شامخا في قمة فقه أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. هو في الفقه إمام. وحياته للمسلمين إمام. والمسلمون اليوم يلتمسون في كنوزهم الذاتية مصادر أصيلة للنهضة؛ مسلمة غير مخلطة ولا مستوردة.

هو الإمام الوحيد من «أهل البيت» الذي أتيحت له إمامة دامت أكثر من ثلث قرن، تمحض فيها مجلسه للعلم، دون أن يمد عينيه إلى السلطة في أيدي الملوك. وبهذا التخصص سلم الأمة مفاتح العلم النبوي. ومنه يبدأ التأصيل الواضح لمنهج علمي عام للفكر الإسلامي، نقلته أمم الغرب فبلغت به مبالغها الحالية. وعمل به بين يديه، ثم أعلنه، تلميذه جابر بن حيان أول كيمائي كما تبايع له «أوروبة الحديثة»، وهو «منهج التجربة والاستخلاص»، أي الاعتبار بالواقع وتحكيم العقل، مع النزاهة العلمية.

٢

فالإمام الصادق هو فاتح العالم الفكري الجديد، بالمنهج العقلاني والتجريبي، كأصحاب الكشوف الذين فتحوا أرض اللّه لعباده فدخلوها آمنين.

والإمام الصادق هو الإمام الوحيد في التاريخ الإسلامي، والعالم الوحيد في التاريخ العالمي، الذي قامت على أسس مبادئه «الدينية والفقهية» والاجتماعية والاقتصادية » دول عظمى.

ومصر تذكر منها أكبر دولة عرفها التاريخ فيها من عهد الفراعنة - الدولة الفاطمية - التي امتد سلطانها من المحيط الأطلسي إلى برزخ السويس. ولولا هزيمة جيوشها أمام الأتراك لخفقت أعلامها على جبال الهملايا في وسط آسيا.

والعالم كله مدين لها بمدينة القاهرة.

والمسلمون يدينون لها بالجامع الأزهر، الذي حفظ القرآن والسنة واللغة العربية، وعلومها كافة. ويدينون لتعاليم الإمام بقيام دولة كبيرة في إيران. ومجتمع عظيم بالعراق. ومعاهد علمية يتصدرها النجف الأشرف، وشعوب قوية في الهند وباكستان واليمن وأفغانستان ووسط آسيا ولبنان وسورية وكثير سواها.

وهو الإمام الذي علم بالمواقف التي وقفها، قدر ما علم بالمبادئ التي أرساها. فالمواقف أعمال. وهي أعلى صوتا من الأقوال. ولقد يعدل الموقف الواحد جهاد عمر كامل، أو مهمة حياة رجل.

وهو، بمكانه من «أهل البيت»، وحقه في الخلافة، وإمامته للفقهاء بلا استثناء، كان غرضا يطلبه أعظم خلفاء بني العباس ليضيفه إلى قوائم القتلى من صناديد القواد، أو الشهداء من «أهل البيت». وكان درسا من السماء أن يسيطر الإمام على الميزان إذ يلتقيان، فيضعف الطالب عن المطلوب، ويرتفع الإمام الصادق بالخليفة القاتل إلى مستوى الحاكم العادل.

والمستقبليون الذين يتكلمون اليوم عن الأخذ بأسباب النهضة العلمية، كمثل السياسين الذين لا يرون النهضة بالغة شأوها إلا أن تكون شاملة لأمور الدين والدنيا - هؤلاء وأولاء، بحاجة إلى أن يظهروا على حياة الإمام الصادق، ليروا مقدار ما تفلح الدعوة الصادقة بالمبادئ الصحيحة، والخطط المنجحة، في إقامة دول، ومجتمعات، قوامها الدين والعلم والعدل والاقتصاد العصري.

٣

وكمثلهم دعاة الإصلاح الذين يمثلهم الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر في النصف الأول من هذا القرن عندما قال: « إن الأمم ليست بكثرة أفرادها وعديدها ولكن بروحها وإيمانها وخلقها. ولعمري إن سبيل ذلك لهو العلم » - وقال « إن كل إصلاح لا يقوم على أساس تقوية الروح الديني في الأمة لا بقاء له. ولا خير فيه. وإذا قلت الروح الديني فإنما أريد الأخذ العملي بالشريعة عن إيمان وثقة. لا أن نكتفي بما ينص عليه الدستور من أن دين الدولة هو الإسلام. ثم نكون في أكثر أحوالنا وتشريعاتنا وأخلاقنا على خلاف ما يأمر به الإسلام وينهى عنه الإسلام».

واللّه نحمد: لقد غيرت مصر في سنة ١٩٧١ دستورها الذي أشار الشيخ إليه. ونصت على أن «الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع» وهي دعوة صادقة لتقوم القوانين المطبقة جميعا على أساس الشريعة.

وبعد: فالكتاب الحالي يبلغ غرضه إذا كان صوتا يدعو إلى الوحدة. والمسلمون تجمعهم أصول فكرية واحدة، وإن اختلفت الفروع أو تعددت الآراء. وفي تعدد الآراء ثراء. ولما عرض تلميذ لأحمد بن حنبل تسمية كتاب له «كتاب الاختلاف» قال له «سمه كتاب السعة».

ألا: وإنه لا صلاح للمسلمين والعرب اليوم في مواجهة التحدي العالمي إلا بالوحدة.

والعالم الغربي الذي تهز الأفكار المادية والإلحادية عقائده، ويزعزع الرعب النووي اطمئنانه، بحاجة إلى مبادئ الإسلام، وعرض شريعته علميا، كهيئة ما عرضها الإمام الصادق على الملاحدة في عصره فكانوا يسلمون. وكمثل ما علم تلاميذه ومعاصريه قواعد العلم والفقه والاقتصاد التي تكفل للمسلمين النماء الفكري والاجتماعي والاقتصادي.

٤

والعالم الغربي، الذي يحسب للعالم الإسلامي حساب الطاقة التي خزنتها السماء في الأرض الإسلامية، التي جعلها اللّه مقرا لبيته العتيق، وحساب المعادن التي تعكس الأقمار الصناعية لمعانها وإشراقها كلما صورت أرض العرب، هذا العالم الغربي الذي جمعته الحروب الصليبية في مقابلة العالم الإسلامي، والذي خططت حدوده الحالية حروب ومعاهدات دينية، وازدهرت قاراته الجديدة بعد هجرات تجري في جذورها النوازع الدينية، هذا العالم الغربي جدير بأن يواجهه المسلمون كالبنيان المرصوص، لا كهيئة الحجارة المتناثرة، قد بعثرتها في مهاب الرياح الأربعة أمم غلبت عليها بالقوة، من الخارج، وبالتخلف الاجتماعي والعسكري والاختلاف الديني في الداخل.

والمسلمون اليوم لا يتنازعون سلطة كما كان الأقدمون منهم يتنازعون من أجل السلطة. وإنما يتنازع غيرهم السلطة عليهم.

وهم اليوم لا يتقاسمون القوة وإنما يتقاسمون الضعف المادي، في حين يختزنون القيم العليا للتقدم، والقوى التي تحصى وتعد. فحيثما ابتغوا الوسيلة وجدوا نصر اللّه.

ويوم توجد فينا إرادة الانتصار سننتصر.

واللّه متم نوره.

حياة الإمام تنقسم في ترجمتها قسمين: الأول عن الرجل، والثاني عن علمه. وعلى ذلك وردت الصورة التي صورنا فيها هذه الحياة في قسمين. كل منهما في ثلاثة أبواب.

القسم الأول: يدور حول ظهور الإسلام وتألق «علي» وأولاده من «فاطمة الزهراء» في الصدارة من الأشخاص والأحداث، والبيئة التي نتج فيها الإمام الصادق. فتعاونت على إعداده ظروف الوفاء، أو العداء، لأهل البيت، لتهيئ منه إماما خصيصته تعليم العلم الذي تلقاه عن جديه، وطريقته الأسوة الحسنة في أعمال حياته، وتحمل التبعات حيث تزوغ الأبصار.

٥

والقسم الثاني: من الكتاب يعرض تصور المؤلف للعلم الذي علمه الإمام، والمدرسة التي أنتجته، والمنهج العلمي، العالمي، الذي أخذ به العلماء الدينيون والفقهيون، والرياضيون، والفلكيون والكيمائيون وعلماء الطبيعة الإسلاميون، ونقله عنهم رياضيو العصور الوسيطة في أوربة، ليصير «منهج التجربة والاستخلاص» الذي يعمل به الفكر المعاصر، بعد إذ ترجم من العربية في جنوب فرنسا واسبانيا وصقلية وسواها من جامعات أوروبة، وسبق إلى التنويه به «روجير بيكون» ثم نسب إلى «فرنسيس بيكون» بعد ثلاثة قرون - وكذلك المنهج السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي أقام الدول العظمى والمجتمعات الإسلامية التي يباهي بها المسلمون في العصر الوسيط وفي العصور الحديثة.

وفي هذا القسم باب أخير تبدو فيه عدالة التاريخ مصححة لانحراف الأعداء وافتياتهم على أبناء علي. كما يظهر فيه نصر اللّه للمسلمين إذ يتحدون.

واللّه نسأل أن يقينا الزلل.

٦

القسم الأول

الباب الأول: ظهور الاسلام

الباب الثاني: بين السلطان والامام

الباب الثالث : امام المسلمين

الباب الأول : ظهور الإسلام

«لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله. ليس بفرار. يفتح اللّه عز وجل على يديه»

«حديث شريف»

ظهور الإسلام

الإمام جعفر الصادق نتاج قرن كامل من العظائم. يحني لها الوجود البشري هاماته. ويدين بحضاراته. على رأسها نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام. وفيها بطولات الإمام علي إلى جوار النبي، وأثرها في ظهور الإسلام، ومشاركته في إبان خلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين سبقوه. وآيات نبوغه وتبريزه في السياسة والإدارة والقضاء والفقه والتشريع والبيان العربي والعلم بوجه عام. وإجلال جميع المسلمين لمكانته والتفاف شيعته حوله وتفضيلهم له على سائر الخلفاء الراشدين. ثم قيام الفتنة في أخريات خلافة عثمان واغتياله وبيعة المسلمين لعلي، وخروج معاوية عليهم بأهل الشام، وقيام الحرب بين أمير المؤمنين وبين جيش معاوية، وخروج الخوارج واغتيال علي، والبيعة لابنه الحسن. ثم تصالح الحسن ومعاوية حقناء للدماء. واستقرار الأمور للأخير نحو عشرين عاما.

ولما آلت الأمور إلى ابنه يزيد استفتح حكمه بمذبحة كربلاء، حيث استشهد الحسين بن علي أبو الشهداء. وأعقبتها وقعة الحرة، حيث سفك دم الصحابة والتابعين، ثم ضربت جيوشه الكعبة بالمنجنيق ومات وجيوشه تضرب الكعبة. فتولى بعده ابنه معاوية، فتنازل عن الخلافة. وولى بنو أمية مروان بن الحكم وتتابع بعده بنوه.

٧

أما أبناء الحسين فتتابعوا على حمل هموم المسلمين وإعلاء كلمة الدين والقيام في الأمة مقام جدهم الإمام «علي بن أبي طالب» والنهوض بتبعات الإمامة بتوفيق اللّه سبحانه: من علي بن الحسين (زين العابدين) إلى ابنه الإمام (الباقر) إلى حفيده الإمام (الصادق)

والإشارات السريعة، إلى كل أولئك، مع الوجازة المفروضة، موضوع الفصلين الأول والثاني في هذا الباب. وفيهما مدخل الكتاب.

الفصل الأول : أخو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

«أنت أخي وصاحبي»

«حديث شريف»

أخو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أول من آمن باللّه ورسوله أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب. واختلف في الأول منهما. والأكثرون يقولون عليا. واختلفوا في سن علي يومئذ. قال ابن إسحق إن عليا أول من آمن باللّه وصدق رسول اللّه، وهو ابن عشر سنين يومئذ.

لكن حسان بن ثابت، وطائفة، قالوا إن أبا بكر هو الأول.

وروى ابن إسحق كيف أسلم علي بن أبي طالب بعد إسلام خديجة وصلاتها مع النبي بيوم واحد. إذ جاء فوجدهما يصليان. فقال علي: يا محمد ما هذا ؟

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دين اللّه الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله. فأدعوك إلى عبادة اللّه وكفر باللات والعزى».

فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم. فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب. فكره رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفشى عليه سره قبل أن يستعلن أمره.

فقال له «يا علي إن لم تسلم فاكتم». فمكث على تلك الليلة. ثم إن اللّه أوقع في قلبه الإسلام. فأصبح غاديا إلى رسول اللّه حتى جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد ؟

فقال «تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له. وتكفر باللات والعزى. وتبرأ من الأنداد». ففعل علي وأسلم. ومكث علي يأتيه سرا خوفا من أبي طالب. وكان مما أنعم اللّه به على علي أنه ربي في حجر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الإسلام.

٨

ومن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة - أول مسلمين - ولدت فاطمة الزهراء. ومن أبنائها ومن أبناء علي وأبي بكر الصديق، أي من أبناء نبي الإسلام، والمسلمين الثلاثة الأولين، ولد جعفر بن محمد: الإمام الصادق.

وبدعوة أبي بكر أسلم خمسة من العشرة الذين بشرهم رسول اللّه بالجنة ومات وهو عنهم راض: عثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة ابن عبيد اللّه وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. وهؤلاء الخمسة هم أهل الشورى، الذين جعل عمر الخلافة فيهم وفي «علي بن أبي طالب»، ليختاروا واحدا منهم فيبايعه المسلمون.

فعلي بن أبي طالب يجيء دائما في صدارة أهل الإسلام.

وأبوه وأمه في الصدارة كذلك:

لقد كفل أبوه محمدا ابن أخيه عبد اللّه وهو ابن ثماني سنين. وخرج به إلى الشام وهو ابن اثنتى عشرة. وهو الذي مثله في الزواج من أم المؤمنين خديجة. ولما ماتت فاطمة بنت أسد، أم علي، نزل النبي في لحدها وألبسها قميصه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وقال (لم يكن أحد أبربي بعد أبي طالب منها).

وجزى النبي صنيعهما في علي. إذ كفله وهو ابن ست سنين، ثم جعله سابقا في الإسلام. فلما كان النبي يعبد اللّه في غار حراء كان علي يعبد اللّه وهو صبي مميز. ثم بسق الفرع وسمق في جوار أخيه(١) ومربيه وعلى عين أبيه.

وفي سنة سبع من المبعث تآمرت قريش على قتل الرسول. وأبى قومه بنو هاشم وظاهرهم بنو عمهم «المطلب بن عبد مناف». فأجمع المشركون من قريش على إخراجهم من مكة إلى الشعب. فخرجوا مؤمنهم وكافرهم. فلما عرفت قريش أن رسول اللّه قد منعه قومه أجمعت ألا تدخل إليهم شيئا، وقطعت عنهم الأسواق ثلاث سنين.

___________________

(١) العرب تسمى ابن العم الشقيق أخا.

٩

وكان «أبو طالب» يأمر رسول اللّه أن يأتي فراشه كل ليلة، حتى يراه من أراد به شراً. فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه، فاضطجع على فراش الرسول. وأمره أن يرقد على بعض فرشهم فيرقد عليها. حتى إذا أكملوا ثلاث سنين أخبر اللّه رسوله أن العهد الذي تعاهدته قريش في صحيفة علقوها بالكعبة قد أكلته الأرضة. ولحست باقي الصحيفة. فخرجوا من الشعب إلى قريش. وأنبأ أبوطالب قريشا أن الصحيفة قد أكلت، وأسماءهم قد لحست، كما أخبره ابن أخيه، وأنبأهم أنه وأهله سيحمونه عن آخرهم.

وذات يوم سأل النبي أهله: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة ؟ - وعلي جالس - فسكتوا. وقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة. فكانت هذه أول موالاة من النبي لعلي.

ولما حضرت الوفاة أبا طالب في السنة العاشرة من المبعث عن بضع وثمانين، جمع إليه وجوه قريش فقال بين ما قال (. وإني أوصيكم بمحمد فإنه الأمين في قريش والصديق للعرب وهو الجامع لكل ما وصيتكم به وقد جاءنا بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن . يا معشر قريش كونوا له ولاة ...).

والنبي يقول (ما زالت قريش كاعة حتى مات عمي أبو طالب).

وماتت خديجة بعد أبي طالب بأيام أو أشهر أو أكثر. وأذن اللّه للرسول في الهجرة إلى المدينة. وكان قد أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة. ولم يبق فيها إلى جواره إلا أبا بكر وعليا. والأول هو الصديق والثاني هو «الفدائي الأول».

فلقد رأت قريش ذلك فأجمعت على قتل النبي فبيتوه ورصدوه طول ليلهم ليقتلوه إذا خرج. فأمر عليا أن ينام على فراشه. ودعا ربه أن يعمى على قريش أثره، وخرج وقد غشى أبناءها النوم. فلما أصبحوا خرج علي عليهم وقال: ليس في الدار ديار. فعلموا أن رسول اللّه نجا.

وكان «الفدائي الأول» قد شارف العشرين من العمر. استبقاه الرسول لأمر يتعلق بحياة الرسول. ليضحي من أجله بحياته. وسلمت الحياتان لأن الأولى حياة الإسلام، ولأنّ الثانية سوف تفديها وتحرسها مرة إثر أخرى.

١٠

اخو النبي:

أقام علي بمكة أياما ليرد فيها ودائع كانت عند الرسول. ثم لحق به في المدينة. فنزل معه بقباء، حيث أقام رسول اللّه مسجدها ثم خرج إلى دور أخواله بني عدي بن النجار فأقام بها أشهرا بنى فيها مسجده. وآخى بين تسعين من المهاجرين والأنصار على الحق والمساواة والتوارث. حتى نزل قوله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض).

أما «أبو بكر» فآخى بينه وبين خارجة بن زيد. وأما « عمر » فآخى بينه وبين عتبان بن مالك وأما «عثمان» فآخى بينه وبين أوس بن ثابت (أخي حسان).

أما «علي». فآخى بينه وبين نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . بل هو قال له: «أنت أخي وصاحبي». وفي ذلك رواية ابن عباس أن عليا كان يقول (واللّه إني لأخو رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووليه). وهذه هي المؤاخاة الثانية. فالأولى كانت بمكة.

ثم خرج المسلمون ليوم « بدر »، فدفع رسول اللّه الراية إلى علي. وراية أخرى لرجل من الأنصار. فهذه أولى معارك الإسلام وكبراها. وفعل علي الأفاعيل بالعدو: قتل من المشركين بيده أربعة. وقيل خمسة. وقيل ستة: أكثرهم من أهل معاوية بن أبي سفيان. وهو ما يزال بين المشركين. ثم قدم الرسول فلذة كبده «لبطل بدر». فبنى بفاطمة الزهراء وهي في الثامنة عشرة(١) .

___________________

(١) روى جميع بن عمير التيمي قال (دخلت مع عمي على عائشة فسألت: أي الناس كان أحب إلى رسول اللّه ؟ قالت فاطمة. قيل من الرجال؟ قالت زوجها. أن كان ما علمت صواما قواما) وفي مسند الإمام أحمد عن علي أنّه قال: دخل علي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا نائم، فاستسقى الحسن أو الحسين فقام النبي إلى شاة لنا بكئ (قليلة اللبن) فحلبها فدرت فجاء الحسن فنحاه النبي فقالت فاطمة: يا رسول اللّه. كأنه أحبهما قال لا ولكنه استسقى قبله. ثم قال (أنا واياك وهذين، وهذا الراقد، في مكان واحد يوم القيامة).

توفيت بعد رسول اللّه بستة أشهر وقيل ثلاثة. وقيل بسبعين يوما عن تسع وعشرين سنة أو ثلاثين.

١١

روى ابن الأثير في أسد الغابة (أخبرنا . عن الحارث عن علي فقال: خطب أبو بكر وعمر - يعني فاطمة - إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فأبى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهما. فقال عمر: أنت لها يا علي. فقلت: ما لي من شيء إلا درعي أرهنها. فزوجه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة. فلما بلغ ذلك فاطمة بكت. قال: فدخل عليها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: مالك تبكين يا فاطمة فو اللّه لقد أنكحتك أكثرهم علما وأفضلهم خلقا وأولهم سلما).

أما العلم والحلم والسلم فهي التي احتاج فيها علي - وهو في فتاء السن - إلى الشهادة بها من النبي لدى زهراء النبي.

وأما ميادين الوغى فقد شهدت له فيها رايات « بدر ». وستشهد له فيها الرايات الأخر:

في يوم أحد - أخطر معارك الإسلام - كان علي في الحرس، إلى جوار النبي، حين أصيب النبي في المعركة. وكان طبيعيا أن يصاب علي بستة عشر ضربة، كل ضربة تلزمه الأرض. وكما يقول سعيد بن المسيب سيد التابعين (فما كان يرفعه إلا جبريلعليه‌السلام ) فلما اشتد الخطب، وقتل حامل الراية - مصعب بن عمير - دفع الرسول الراية لعلي . فقتل علي يومذاك واحدا وقيل ثلاثة مشركين.

وفي يوم الخندق أزفت الآزفة حيث تيمم المشركون مكانا ضيقا فاقتحموه بخيلهم. فخرج لهم علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها. وكان عمرو بن عبدود - فارس العرب - يريد أن يعرف مكانه يوم الخندق. فنادى من فوق الخيل: هل من مبارز ؟ فبرز له علي. قال له عمرو: ما أحب أن أقتلك لما بيني وبين أبيك . وأصر علي ونزل عمرو عن فرسه. وتجاولا. فما انجلى النقع حتى قتله علي. وفر أصحاب الثغرة بخيولهم منهزمين.

١٢

وفي غزوة بني قريظة كانت له راية المسلمين:

وفي صلح الحديبية كان «كاتب» صحيفة الصلح علي بن أبي طالب يملي عليه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذلك كان أيمن صلح عرفه التاريخ البشري. فلقد أصبح الذين أسلموا بعده وقبل فتح مكة، أكثر ممن أسلموا قبله. وبه حفظت دماء الذين بايعوا تحت الشجرة، ليظهر الإسلام على أعدائه وييسر فتح مكة.

وفي غزوة خيبر فتح اللّه على المسلمين حصنا واستعصى اثنان على أبي بكر وعمر. فقال عليه الصلاة والسلام: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله. ليس بفرار. يفتح اللّه عز وجل على يديه». ولما أصبح دعا عليا وقال: «خذ الراية وامض حتى يفتح اللّه عليك».

وحمى الوطيس. وسقط ترس علي. فتناول بابا وترس به نفسه. ولم يزل يقاتل حتى فتح اللّه عليه.

وصدق أبو بكر بعد سنين في وصف علي عندما حدث المسلمين عن علي وعمر: إن عليا إذا اعترضته عقبة حاول اقتحامها. فإما كسرته أو كسرها. أما عمر فإنه إذا صادفته عقبة دار لها.

وحمى اللّه فضائل الإسلام على يد علي. فلم يره أحد في موقف المنكسر. ولما استشهد في دفاعه عن هذه الفضائل، كان الإسلام ينتصر.

وفي يوم حنين أعجبت المسلمين كثرتهم. فكادوا ينهزمون. وثبت الرسول. وقتل علي صاحب راية المشركين وأخذها منه، وكر المسلمون عليهم فهزموهم بإذن اللّه.

ولما قتل خالد بني خزيمة خطأ وسباهم - وهم مسلمون - بعث الرسول عليا فوداهم ورد إليهم أموالهم وقال لهم: انظروا إن فقدتم عقالا لأدينه. فبهذا أمرني رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٣

وفي السنة التاسعة خرج رسول اللّه إلى تبوك واستعمل عليا على المدينة فسأل علي النبي في ذلك فأجابه (إنما خلفتك لما تركت ورائي. فارجع فاخلفني في أهلي، وأهلك. فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ..) فكان تخليفه عن هذه الغزوة تقديما له. إذ وضعه موضع هرون من «موسى»عليه‌السلام . أي في منزلة أخ الرسول من الرسول.

وتتابع التقديم. إذ نزلت عشر آيات من صدر سورة «براءة» من عهد كل مشرك لم يسلم أن يدخل مسجد الحرام بعد هذا العام. فقالوا للرسول: ابعث بها إلى أبي بكر - وكان على الناس في حج البيت الحرام - فقال عليه الصلاة والسلام «لا يؤديها عني إلا رجل من أهل بيتي» وبعث عليا على ناقتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأدرك أبابكر في الطريق. فسأله أبو بكر هل جاء أميرا أو مأمورا ؟ قال علي: بل مأمورا. فهو قد جاء بغرض خاص بتبليغ القرآن. أما إمارة الحاج فكانت لأبي بكر.

وفي كتب السنن أن النبي بعد عودته من حجة الوداع نزل بغدير خم وأعلن أنه يترك القرآن و«عترته» للمسلمين ثم أخذ بيد علي ودعا ربه «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»

وكان للرسول «كتابه» «والمنفذون» لأمره و «المفتون» في حياته - ثقة من اللّه والرسول في شجاعتهم وحكمتهم وسداد رأيهم - وفي كل صفة، وكل طائفة، كان علي. فامتاز بهذه الخصيصة التي تحوي جماع خصائص أصحاب النبي.

- فكتاب النبي. أبي بن كعب وأبو بكر وعمر وعثمان و «علي» وزيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان وحنظلة بن الربيع.

- والمنفذون لأحكامه (ومنها ضرب الأعناق بين يدي النبي). «علي» والزبير ومحمد بن مسلمة

- والمفتون في عهده: أبو بكر وعمر وعثمان و «علي» وأبي بن كعب وابن مسعود ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر وزيد بن ثابت وسلمان و أبو الدرداء وأبو موسى الأشعري.

١٤

ولما بعث النبي عليه الصلاة والسلام عليا إلى اليمن قال علي (يا رسول اللّه تبعثني إلى اليمن ويسألونني عن القضاء ولا علم لي به). فضرب النبي بيده على صدره ثم قال «اللهم ثبت لسانه واهد قلبه» قال علي (فوالذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين بعد). وهي خصيصة يدرك جلال اليقين فيها من ولي القضاء.

بين الخلفاء الراشدين:

صعدت روح رسول اللّه إلى الرفيق الأعلى وعلي بطل جيوشه غير منازع. وكان قد دربه على القضاء والإفتاء. فهاتان الوظيفتان هما أسمى عمل في الدول. وبخاصة في الدولة المسلمة، حيث الحفاظ على الشريعة وإدارة الدول وسياسة الأمم واستقرار النظم واطمئنان الجماعة واجبات دينية. والإفتاء يعدل التشريع في أيامنا هذه. والقضاء هو توزيع العدالة. والعدل صفة اللّه سبحانه.

لقد بعثه إلى اليمن. فقضى. وله قضاء مشهور عرض على النبي فاستحسنه. وله السؤال المشهور يومذاك إذ سأل: أكون كالسكة المحماة أو الشاهد يرى ما لا يراه الغائب ؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام «بل الشاهد يرى ما لا يراه الغائب». فدل بذلك على تفويضه في أن يجتهد، وأن يعمل بمقاصد الشريعة . وكان أيامئذ في عنفوان شبابه. فلم يفارقه الاجتهاد العظيم للأمة في كل مناسبة تقتضي الاجتهاد.

وبالتربية النبوية في القضاء والإفتاء. نفذ علي إلى صميم الفكر التشريعي في الأمة. أي صميم شريعة الإسلام. فاحتاج أبو بكر وعمر إليه في جوارهما ليشير عليهما ويقضي ويفتى.

أما فتاواه التشريعية فستبقى مثلا أعلى للفكر الإسلامي في سياسة الدولة وسياسة الناس.

إذا اشتهر عمر بأنه المجتهد الأكبر من كثرة ما واجه من ظروف طارئة على الدولة المنتصرة في الشرق والغرب، ومن طول ما حكم وهو خليفة، واتساع ما فتح من الفتوح، واختلاف من أسلم من أهل البلاد المفتوحة، فعلي كان يصحح الكثير للمجتهد الأكبر. وفي ذلك الحجة القاطعة على أنه في أسمى وظائف الفكر، وهما التشريع والقضاء، كان بدوره مجتهداً أكبر.

١٥

إليك قليلا من الأمثال، تخيرناها، من أمور معلمة في الدين والفقه والسياسة:

- منع عمر تدوين الحديث - مخافة أن يخلط القرآن بشيء - وبهذا أبطأ التدوين عند أهل السنة قرنا بتمامه. وانفتحت أبواب للجرح والتعديل وللوضع، وللضياع. أما علي فدون من أول يوم مات فيه الرسول. ولعله إذ دون صار مرجع الصحابة بما فيهم عمر.

وهذا الاتجاه العلمي للتدوين، يؤازره اتجاه ديني، وفقهي، وسياسي، واقتصادي، لتوزيع الحقوق.

- قال عمر للناس يوما: ما ترون في فضل فضل عندنا من هذا المال (مال الصدقة) قالوا يا أمير المؤمنين. قد شغلناك عن أهلك وضيعتك فهو لك. فالتفت إلى علي وقال ما تقول؟ قال قد أشاور عليك. قال عمر: قل.

قال علي: لم تجعل يقينك ظنا ؟. أتذكر حين بعثك رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ساعيا فأتيت العباس بن المطلب، فمنعك صدقته. فقلت لي: انطلق إلى رسول اللّه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فوجدناه خاثرا. فرجعنا ثم غدونا عليه. فوجدناه طيب النفس فأخبرناه بالذي صنع .

فقال لك: أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه ؟ وذكرنا الذي كان من طيب نفسه في اليوم التالي فقال: اما انكما أتيتماني اليوم وكان عندي من الصدقة ديناران. فكان الذي رأيتماه من خثوري له. وأتيتماني اليوم وقد وجهتهما غداً (صباح اليوم) فذاك الذي رأيتما من طيب نفسي.

- ودعا عمر امرأة فأجهضت ما في بطنها بفزعها فاستشار في الدية.

فقال له عثمان وعبد الرحمن: لا عليك. إنما أنت مؤدب.

وقال علي: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطآ. وإن لم يجتهدا فقد غشاك. أرى عليك الدية.

فقال عمر: عزمت عليك ألا تبرح حتى تفرضها على بني عدي . وهذه الفتوى تعتبر تقدما تحاول أن تبلغه الحضارة المعاصرة، ولا تكاد.

١٦

- ورأى عمر ذات يوم رجلا مع امرأة على معصية. فاستشار في أن يقضى بعلمه أم لابد من شهادة غيره؟

قال علي (يأتي بأربعة شهداء أو يجلد حد القذف شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين).

- ولما فتح المسلمون الأمصار طلب الفاتحون لأنفسهم أربعة أخماس الأراضي المفتوحة أخذا بظاهر الآية. فاستشار عمر الصحابة. فاختلفوا. لكن عليا كان من الرأي الذي أخذ به عمر، وهو إبقاء الأرض في أيدي أصحابها وتكليفهم الخراج تسد من حصيلته حاجات الدفاع عن الأمة والإنفاق على المحتاجين.

وفي بقاء الأرض في أيدي أصحابها بقاء لهم أو لمن يجيئون بعدهم وأثر هذه الفتوى في نشر الإسلام يذكر ويشكر.

- وعلى صاحب الرأي الشهير بتضمين الصناع ما يتلفونه إلا أن يثبتوا أنه من عمل غيرهم بعد إذ كانوا لا يضمنون لأن يدهم يد الأمين. لكن الزمان تغير فاقتضى تغير الناس التضمين. وفي ذلك قول علي: لا يصلح الناس إلا ذاك. وهذا مضرب المثل على العمل بقصد الشارع من حفظ مصالح المسلمين وتوخي المصلحة الإسلامية حيث تكون.

- ورفعت إلى عمر قضية رجل قتلته امرأة وخليلها. فتردد هل يقتل الكثيرين بالواحد ؟ قال علي أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور هذا عضوا وهذا عضوا. أكنت قاطعهم ؟ قال نعم. قال علي: فكذلك.

فكتب عمر إلى عامله أن: اقتلهما فو اللّه لو اشترك أهل صنعاء كلهم لقتلتهم.

- وجيء عمر يوما بأمرة زنت وأقرت فأمر برجمها. لكن عليا قال: لعل بها عذرا. ثم سألها: ما حملك على ما فعلت ؟ قالت: كان لي خليط وفي إبله ماء ولبن. ولم يك في إبلي ماء ولا لبن. وظمئت واستسقيته فأبى ان يسقيني حتى أعطيه نفسي. فأبيت عليه ثلاثا. فلما ظمئت وظننت نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد فسقاني. قال علي: اللّه أكبر (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه. إن اللّه غفور رحيم).

- لقد كان عمر على الحق إذ أمر ألا يفتى أحد بالمسجد وعلي حاضر. فجعل القضاء وقفا عليه في ساحة القضاء.

١٧

- وكان يقول اللهم لا تنزل بي شديدة إلا وأبو الحسن إلى جنبي.(١)

بل يحيل سائليه على علي. ويجيب أذينة العبدي إذ يسأله: من أين أعتمر؟ إيت علي بن أبي طالب فاسأله.

بل يقول: لولا علي لهلك عمر.

- ولعلي عهده المشهور إلى الأشتر النخعي(٢) إذ ولاه مصر. فهو دستور سياسي وديني وعالمي يضؤل دونه كل العهود، بما فيه من شمول وتفصيل لقواعد الحكم الصالح. وإليه يرجع كل من أراد نجاحا للحكم بصلاح الدنيا والدين.

والمصريون - مسلمين ومسيحيين - يحفظون قوله فيه لواليه (واشعر قلبك الرحمة بهم والمحبة لهم. واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم. فإنهم: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل).

___________________

(١) لا يتسع المقام في هذا الباب إلا لبعض أمثال:

- قاضاه خصم إلى عمر وناداه عمر: قم يا أبا الحسن. ولاحظ عمر أنه تألم فسأله. فقال (تألمت إذ كنيتني ولم تكن خصمي فلم تسو بيننا).

- وقاضاه يهودي - وهو خليفة - في درع - ولم تكن للخليفة بينة. فقضى القاضي ضده، فأسلم اليهودي لما رأى من العدل.

- وأودع قرشيان مائة دينار - لدى قرشية على ألا تدفعها لأحدهما دون الآخر. ولبثا حولا ثم جاء أحدهما وادعى أن الآخر مات. فدفعت إليه المال. ثم جاءها الآخر فأخبرته. فترافعا إلى علي. وعرف علي أن الرجلين مكرا بها. فقال للرجل: أليس قلتما لها لا تدفعي لواحد دون صاحبه؟ قال بلى. قال اذهب فجئ بصاحبك. فذهب ولم يرجع.

وهذه اللفتات المرتجلة تصدر عن وحدة فكرية في أمور الإثبات والإجراءات وإدارة الجلسات وهي دلائل متضافرة على اقتدار مقطوع القرين « لعقل قضائي » أجمع الصحابة العظماء على أنه أقضاهم.

(٢) الأشتر أول من عبر التعبير الشهير في شأن معاوية حين سئل: أشهد معاوية بدرا ؟ فأجاب: نعم من الجانب الآخر (أي جانب المشركين).

١٨

- وعلي هو الذي يضبط فحوى الشرع ويرفعه إلى مقامه الحق في تعريفه للفقيه فيقول للمسلمين (الا أنبئكم بالفقيه، حق الفقيه ؟ من لم يقنط الناس من رحمة اللّه ولم يرخص لهم في معاصي اللّه. ولم يؤمنهم من مكر اللّه).

كان منذ شبابه الذي أنضجته أحداث النزال والطعان في الميدان - أعبد الناس وأكثرهم في عبادته جمعا مع اللّه. لا يقطع صلاته والسهام تقع بين يديه يمينا وشمالا. يربط على بطنه من الجوع في حين يتصدق بأربعة آلاف درهم، وعليه إزار غليظ اشتراه بخمسة دراهم. أما قوته فمن دقيق الشعير. يأخذ قبضة فيضعها في الماء فيصب عليها قدحا فيشربه . وفي يده كل مال المسلمين

ولما أصهر عمر إليه في «أم كلثوم» كان يتوسل إلى الآخرة بلحمة النسب. فلقد كان يقول: (لقد أعطى علي بن أبي طالب ثلاث خصال كل خصلة منها أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة بنت رسول اللّه،صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وسكناه المسجد مع رسول اللّه. يحل فيه ما يحل له).

ولم يبرح عمر المدينة في خلافته الا استخلف عليا عليها. فلقد كان ذلك سنة عنده. أليس صاحبهما -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - كان يستخلفه، إذا برح المدينة ؟.

وعلي «باب مدينة العلم». يقول الرسول عليه الصلاة والسلام «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت بابه».

وهو «إمام البلاغة». يجيء معاوية رجل من الكذبة فيقول له: جئتك من عند أعيا الناس - يقصد عليا - فيجيب معاوية، وهو أعدى الناس لعلي، (ويحك فو اللّه ما سن الفصاحة للناس غيره). كيف لا ؟ وبلاغته من بلاغة النبي . مذ كان فكره من فكره، وكان قد رباه فأحسن تأديبه، حتى ليعيا بلغاء العرب عن فهم المعنى النبوي ويراه على بادي الرأي.

شكا العباس من مرداس للنبي قسمه من الفيء بقوله:

أتجعل نهبي ونهب العبيـ

د كنهب عيينة والأقرع

١٩

(والعبيد فرس الشاعر. وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس من المؤلفة قلوبهم).

(قال عليه الصلاة والسلام: «يا علي اقطع لسانه»

فأخذه علي ومضى.

قال العباس: أقاطع أنت لساني يا أبا الحسن؟

قال علي: إني لممض فيك ما أمر .

ثم مضى به إلى إبل الصدقة وقال له: خذ ما أحببت.

ومن «نهج بلاغته» يسقي بلغاء العربية وحكماء الإسلام. ومن تعليمه وضع النحو العربي(١) . ووضع النحو بتعليم علي يذكر بالمكانة الخاصة لعلي

___________________

(١) روى الأنباري في تاريخ الأدباء أن سبب وضع علي كرم اللّه وجهه لهذا العلم ما روى أبو الأسود الدؤلي (٦٧) حيث قال: دخلت على أمير المؤمنين علي فوجدت في يده رقعة فقلت ما هذه يا أمير المؤمنين فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الأعاجم) فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ثم ألقى إلي الرقعة ومكتوب فيها (الكلام كله اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبئ به والحرف ما أفاد معنى) وقال لي انح هذا النحو وأضف إليه ما وقع عليك وأعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة.. ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر. وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر (أراد بذلك الاسم المبهم) قال ثم وضعت بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام إلى أن وصلت إلى باب إن وأخواتها فكتبتها ما خلا «لكن» فلما عرضتها على أمير المؤمنينعليه‌السلام أمرني بضم لكن اليها. وكلما وضعت بابا من أبواب النحو عرضته عليه إلى أن حصلت ما فيه الكفاية. فقال ما أحسن هذا النحو الذي نحوت فلذا سمى النحو). وان المرء ليلاحظ أن هذا الفتح العظيم في العلم كان من اهتماماته وهو أمير المؤمنين، ليس لديه يوم واحد خلا من معركة أو استعداد لمعركة. وأن أبا الأسود هو واضع علامات الإعراب في المصحف في أواخر الكلمات بصبغ يخالف لون المداد الذي كتب به المصحف. فجعل علامة الفتح نقطة فوق الحرف. والضم نقطة إلى جانبه والكسر نقطة في أسفله والتنوين مع الحركة نقطتين ثم وضع نصر بن عاصم (٨٩) تلميذ أبي الأسود النقط والشكل لأوائل لكلمات وأواسطها ثم جاء الخليل بن أحمد(١٧٥) فشارك في إتمام بقية الإعجام . والخليل شيعي كأبى الأسود. وهو واضع علم العروض وصاحب المعجم الأول وواضح النحو على أساس القياس.

فاللغة العربية مدينة لعلي وتلاميذ علي. وكمثلها البلاغة العربية.

وعلى معدود من خطباء التاريخ العالمي بخطبه والمناسبات التي دعت اليها.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وألحق عبد الله بن جعفر الحسينعليه‌السلام بابنيه عون ومحمد ، وكتب على ايديهما اليه كتابا يقول فيه :

اما بعد فاني اسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فاني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له ان يكون فيه هلاكك واستئصال اهل بيتك ، وان هلكت اليوم طفىء نور الأرض فانك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالمسير فاني في أثر كتابي والسلام.

وصار عبد الله الى عمرو بن سعيد فسأله ان يكتب للحسينعليه‌السلام أمانا ويمنيه البر والصلة ، فكتب له وانفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه وجهدا به في الرجوع ، فقال : اني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام وأمرني بما أنا ماض له ، فقالا له : فما تلك الرؤيا ، قال : ما حدثت بها أحدا وما انا محدث بها احدا حتى القى ربيعزوجل ، فلما أيس منه عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عونا ومحمدا بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ورجع هو الى مكة.

وسار الحسينعليه‌السلام نحو العراق مسرعا لا يلوي على شيء حتى بلغ وادي العقيق ، فنزل ذات عرق فلقيه رجل من بني أسد يسمى بشر بن غالب واردا من العراق فسأله عن أهله فقال : خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية ، فقال : صدق اخو بني اسد ان الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

ولما بلغ الحسينعليه‌السلام الى الحاجز من بطن الرمة(١) كتب كتابا الى جماعة من أهل الكوفة منهم سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وغيرهم وأرسله مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وذلك قبل ان يعلم بقتل مسلم يقول فيه :

__________________

(١) بتخفيف الميم (منه عفي عنه).

٦١

بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي الى اخوانه من المؤمنين والمسلمين سلام عليكم ، فاني احمد اليكم الله الذي لا إله الا هو ، أما بعد فان كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقنا ، فسألت الله ان يحسن لنا الصنيع وان يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت اليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية ، فاذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدوا فاني قادم عليكم في ايامي هذه ان شاء الله تعالى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكان مسلم بن عقيل قد كتب اليه قبل ان يقتل بسبع وعشرين ليلة ، فأقبل قيس بكتاب الحسينعليه‌السلام الى الكوفة وكان ابن زياد لما بلغه مسير الحسينعليه‌السلام من مكة الى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطته حتى نزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية الى خفان وما بين القادسية الى القطقطانة (القطقطانية خ ل) والى جبل لعلع ، قال الناس : هذا الحسين يريد العراق ، (فلما) انتهى قيس الى القادسية اعترضه الحصين بن نمير ليفتشه ، فأخرج قيس الكتاب وخرقه ، فحمله الحصين الى ابن زياد فلما مثل بين يديه قال له : من أنت؟ قال انا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه ، قال : فلماذا خرقت الكتاب؟ قال : لئلا تعلم ما فيه ، قال :وممن الكتاب والى من ، قال : من الحسينعليه‌السلام الى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف اسماءهم ، فغضب ابن زياد وقال : والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم او تصعد المنبر فتسب الحسين بن علي وأباه وأخاه والا قطعتك اربا اربا ، فقال قيس : اما القوم فلا أخبرك بأسمائهم واما سب الحسين وأبيه وأخيه فافعل. وفي رواية انه قال له : اصعد المنبر فسب الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي ، فصعد قيس فحمد الله واثنى عليه

٦٢

وصلى على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكثر من الترحم على علي والحسن والحسين ولعن عبيد الله بن زياد وأباه ولعن عتاة بني أمية ، ثم قال : أيها الناس ان هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانا رسوله اليكم وقد خلفته بالحاجز فأجيبوه ، فأمر به ابن زياد فرمي من أعلى القصر فتطع فمات ، فبلغ الحسينعليه‌السلام قتله فاسترجع واستعبر بالبكاء ولم يملك دمعته ، ثم قرأ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (١) ثم قال : جعل الله له الجنة ثوابا اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريما واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ورغائب (خ ل) مذخور ثوابك انك على كل شيء قدير.

ثم اقبل الحسينعليه‌السلام من الحاجز يسير نحو العراق حتى انتهى الى ماء من مياه العرب ، فاذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي وهو نازل به ، فلما رأى الحسينعليه‌السلام قام اليه فقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أقدمك واحتمله فأنزله ، فقال له الحسينعليه‌السلام : كان من موت معاوية ما قد بلغك فكتب اليّ أهل العراق يدعونني الى أنفسهم ، فقال له عبد الله : أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الاسلام ان تنتهك ، انشدك الله في حرمة قريش ، انشدك الله في حرمة العرب ، فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحدا أبدا ، والله انها لحرمة الاسلام تنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب فلا تفعل ولا تأتي الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية ، فأبى الحسينعليه‌السلام الا ان يمضي :

وكان عبيد الله بن زياد امر فأخذ ما بين واقصة الى طريق الشام الى طريق البصرة فلا يدعون احدا يلج ولا أحدا يخرج ، وأقبل الحسينعليه‌السلام لا يشعر بشيء حتى لقي الأعراب فسألهم فقالوا : لا والله ما ندري غير انا لا

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٢٣.

٦٣

نستطيع ان نلج ولا نخرج فسار تلقاء وجهه.

وكان زهير بن القين البجلي قد حج في تلك السنة وكان عثمانيا ، فلما رجع من الحج جمعه الطريق مع الحسينعليه‌السلام ، فحدث جماعة من فزارة وبجيلة قالوا : كنا مع زهير بن القين حين أقبلنا من مكة ، فكنا نساير الحسينعليه‌السلام فلم يكن شيء أبغض الينا من أن نسير معه في مكان واحد أو ننزل معه في منزل واحد ، فاذا سار الحسين تخلف زهير بن القين واذا نزل الحسين تقدم زهير ، فنزلنا يوما في منزل لم نجد بدا من أن ننزل معه فيه فنزل هو في جانب ونزلنا في جانب آخر ، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا اذ أقبل رسول الحسينعليه‌السلام حتى سلم ثم دخل ، فقال : يا زهير ان أبا عبد الله بعثني اليك لتأتيه ، فطرح كل انسان منا ما في يده كأن على رؤوسنا الطير كراهة ان يذهب زهير الى الحسينعليه‌السلام ، فقالت له امرأته وهي ديلم بنت عمرو : سبحان الله ايبعث اليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه فلو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت ، فأتاه زهير على كره ، فما لبث ان جاء مستبشرا قد أشرق وجهه فأمر بفسطاطه وثقله ورحله فحول الى الحسينعليه‌السلام ، ثم قال لامرأته : أنت طالق الحقي بأهلك فاني لا احب ان يصيبك بسببي الا خيرا وقد عزمت على صحبة الحسينعليه‌السلام لأفديه بروحي واقيه بنفسي ، ثم اعطاها مالها وسلمها الى بعض بني عمها ليوصلها الى أهلها ، فقامت اليه وبكت وودعته وقالت : خار الله لك أسألك ان تذكرني في القيامة عند جد الحسينعليه‌السلام ، وقال لأصحابه : من أحب منكم ان يتبعني والا فهو آخر العهد مني ، اني سأحدثكم حديثا ، انا غزونا بلنجر(١) وهي بلدة ببلاد الخزر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، فقال لنا سلمان الفارسي : اذا أدركتم قتال شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم مما أصبتم من الغنائم ،

__________________

(١) في القاموس : بلنجر كغضنفر بلدة بالخزر خلف باب الأبواب ا ه ، وفي بعض النسخ غزونا البحر وهو تصحيف من النساخ (منه).

٦٤

فأما انا فاستودعكم الله ولزم الحسينعليه‌السلام حتى قتل معه.

ولما نزل الحسينعليه‌السلام الخزيمية أقام بها يوما وليلة ، فلما أصبح أقبلت اليه أخته زينب فقالت : يا أخي الا أخبرك بشيء سمعته البارحة ، فقال الحسينعليه‌السلام : وما ذاك؟ فقالت خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفا يهتف ويقول :

الا يا عين فاحتفلي بجهد

ومن يبكي على الشهداء بعدي

على قوم تسوقهم المنايا

بمقدار الى انجاز وعد

فقال لها الحسينعليه‌السلام : يا أختاه كل الذي قضي فهو كائن.

ثم سارعليه‌السلام حتى نزل الثعلبية(١) وقت الظهيرة ، وقيل ممسيا فوضع رأسه فرقد ، ثم استيقظ فقال : رأيت هاتفا يقول : أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم الى الجنة ، فقال له ابنه علي : يا أبه أفلسنا على الحق ، فقال : بلى يا بني والذي اليه مرجع العباد ، فقال : يا أبه اذا لا نبالي بالموت ، فقال الحسينعليه‌السلام : جزاك الله يا بني خير ما جزى ولدا عن والده ثم بات في الموضع ، فلما أصبح اذا برجل من أهل الكوفة يكنى أباهرة الأزدي قد أتاه فسلم عليه ثم قال : يا ابن رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال الحسينعليه‌السلام : ويحك يا أبا هرة ان بني أمية أخذوا مالي فصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت ، وايم الله لتقتلني الفئة الباغية وليلبسنهم الله ذلا شاملا وسيفا قاطعا ، وليسلطن الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ اذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم.

وروى عبد الله بن سليمان والمنذر ابن المشمعل الأسديان قالا : لما

__________________

(١) بالثاء المثلثة والعين المهملة (منه).

٦٥

قضينا حجنا لم تكن لنا همة الا اللحاق بالحسينعليه‌السلام لننظر ما يكون من أمره ، فأقبلنا ترقل بنا ناقاتنا مسرعين حتى لحقناه بزرود ، فلما دنونا منه اذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسينعليه‌السلام ، فوقف الحسين كأنه يريده ثم تركه ومضى ومضينا نحوه ، فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا الى هذا لنسأله فان عنده خبر الكوفة ، فمضينا اليه فقلنا:السلام عليك ، فقال : وعليكما السلام ، قلنا : ممن الرجل؟ قال : أسدي ، قلنا له: ونحن أسديان فمن أنت؟ قال : أنا بكر بن فلان وانتسبنا له ، ثم قلنا له : أخبرنا عن الناس من ورائك؟ قال : لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق ، فأقبلنا حتى لحقنا الحسينعليه‌السلام فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيا ، فجئنا حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا السلام ، فقلنا له : رحمك الله ان عندنا خبرا ان شئت حدثناك علانية وان شئت سرا ، فنظر الينا والى أصحابه ثم قال : ما دون هؤلاء سر ، فقلنا له : رأيت الراكب الذي استقبلته عشية أمس ، قال : نعم وقد أردت مسألته ، فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل ، وانه حدثنا انه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهاني ورآهما يجران في السوق بأرجلهما ، فقال : انا لله وانا اليه راجعون رحمة الله عليهما يردد ذلك مرارا ، فقلنا له : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك الا انصرفت من مكانك هذا فانه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف ان يكونوا عليك ، فنظر الى بني عقيل فقال : ما ترون فقد قتل مسلم؟ فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق ، فأقبل علينا الحسينعليه‌السلام وقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء فعلمنا انه قد عزم رأيه على المسير ، فقلنا له : خار الله لك ، فقال : رحمكما الله ، فقال له أصحابه :انك والله ما أنت مثل مسلم ولو قدمت الكوفة لكان الناس اليك أسرع فسكت ، وارتج الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل وسالت الدموع عليه

٦٦

كل مسيل ، ثم انتظر حتى اذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه اكثروا من الماء فاستقوا واكثروا ، وكان لا يمر بماء الا أتبعه من عليه ، ثم ارتحلوا فسار حتى انتهى الى زبالة ، فأتاه بها خبر عبد الله بن يقطر وهو أخو الحسينعليه‌السلام من الرضاعة وكان سرحه الى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله ، فأخذته خيل الحصين فسيره من القادسية الى ابن زياد ، فقال له : اصعد فوق القصر والعن الكذاب ابن الكذاب ثم أنزل حتى أرى فيك رأيي ، فصعد فاعلم الناس بقدوم الحسينعليه‌السلام ولعن ابن زياد وأباه ، فألقاه من القصر فتكسرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه فعيب عليه ، فقال : أردت ان أريحه ، فلما بلغ الحسينعليه‌السلام خبره اخرج الى الناس كتابا فقرأ عليهم وفيه:

بسم الله الرحمن الرحيم ، اما بعد فانه قد أتاني خبر فظيع قتل مسلم ابن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس عليه ذمام ، فتفرق الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا اليه ، وكان قد اجتمع اليه مدة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة ، وانما فعل ذلك لعلمه بأن أكثر من اتبعوه انما اتبعوه ظنا منهم انه يقدم بلدا قد استقامت له طاعة أهله ، فكره ان يسيروا معه الا وهم يعلمون ما يقدمون عليه وقد علم انه اذا بين لهم لم يصحبه الا من يريد مواساته والموت معه وقيل ان خبر مسلم وهاني اتاه في زبالة أيضا.

وقال السيد(١) ان الفرزدق لقي الحسينعليه‌السلام فسلم عليه وقال :يا ابن رسول الله كيف تركن الى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك

__________________

(١) ظاهر كلام السيد ان لقاء الفرزدق للحسينعليه‌السلام كان بعد خروجه من زبالة ، وقد تقدم انه لقيه في الحرم وهي رواية المفيد ، ويمكن ان يكون لقاء الفرزدق له ثانيا بعد رجوعه من الحج (منه).

٦٧

مسلم بن عقيل وشيعته ، فاستعبر الحسينعليه‌السلام باكيا ثم قال : رحم الله مسلما فلقد صار الى روح الله وريحانه وتحياته ورضوانه ، اما انه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ، ثم أنشأ يقول:

فان تكن الدنيا تعد نفيسة

فان ثواب الله أعلى وأنبل

وان تكن الأبدان للموت انشأت

فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل

وان تكن الأرزاق قسما مقدرا

فقلة حرص المرء في السعي أجمل

وان تكن الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخل

فلما كان وقت السحر أمر الحسينعليه‌السلام أصحابه فاستقوا ماء وأكثروا ، ثم سار من زبالة حتى مر ببطن العقبة فنزل عليها ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن يوذان فسأله اين تريد؟ فقال له الحسينعليه‌السلام :الكوفة ، فقال الشيخ : أنشدك الله لما انصرفت فو الله ما تقدم الا على الأسنة وحد السيوف ، وان هؤلاء الذين بعثوا اليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطأوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ، فأما على هذا الحال التي تذكر فاني لا أرى لك أن تفعل ، فقال له الحسينعليه‌السلام : يا عبد الله ليس يخفى علي الرأي ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره ، ثم قالعليه‌السلام :والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم ثم سارعليه‌السلام من بطن العقبة حتى نزل شراف ، فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ، ثم سار منها حتى انتصف النهار فبينا هو يسير اذ كبر رجل من أصحابه ، فقال الحسينعليه‌السلام : الله أكبر لم كبرت؟ قال : رأيت النخل ، فقال له جماعة من أصحابه : والله ان هذا المكان ما رأينا به نخلة قط ، فقال لهم الحسينعليه‌السلام : فما ترونه؟ قالوا : نراه والله اسنة الرماح وآذان الخيل ، قال :وأنا والله أرى ذلك ، ثم قالعليه‌السلام : ما لنا ملجأ نلجأ اليه فنجعله في ظهورنا

٦٨

ونستقبل القوم بوجه واحد؟ فقالوا له : بلى هذا ذو جشم وهو جبل الى جنبك فمل اليه عن يسارك فان سبقت اليه فهو كما تريد ، فأخذ اليه ذات اليسار وملنا معه ، فما كان بأسرع من ان طلعت علينا هوادي(١) الخيل فتبيناها وعدلنا ، فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا الينا كأن اسنتهم اليعاسيب(٢) وكأن راياتهم أجنحة الطير ، فاستبقنا الى ذي جشم (خشب خ ل) فسبقناهم اليه ، وأمر الحسينعليه‌السلام بابنيته فضربت ، وجاء القوم زهاء(٣) ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسينعليه‌السلام في حر الظهيرة والحسينعليه‌السلام وأصحابه معتمون متقلدوا أسيافهم ، فقال الحسينعليه‌السلام لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء. ورشفوا الخيل ترشيفا أي أسقوها قليلا ، فأقبلوا يملأون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس فاذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه وسقوا آخر حتى سقوها عن آخرها ، فقال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلما رأى الحسينعليه‌السلام ما بي وبفرسي من العطش قال : انخ الرواية والرواية عندي السقاء ، ثم قال : يا ابن الأخ انخ الجمل فانخته(٤) ، فقال : اشرب ، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال الحسينعليه‌السلام : اخنث السقاء أي أعطفه ، فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه بيده فشربت وسقيت فرسي ، وكانت ملاقاة الحر للحسينعليه‌السلام على مرحلتين من الكوفة.

ولما التقى الحر مع الحسينعليه‌السلام قال له الحسينعليه‌السلام : النا ام

__________________

(١) جمع هادي وهو العنق (منه).

(٢) جمع يعسوب وهو أمير النحل وذكرها وضرب من الحجلان وطائر صغير (منه).

(٣) أي قدر (منه).

(٤) الرواية في لسان أهل الحجاز اسم للجمل الذي يستقي عليه. وفي لسان أهل العراق اسم للسقاء الذي فيه الماء ، فلذلك لم يفهم مراد الحسينعليه‌السلام حتى قال له : انخ الجمل (منه).

٦٩

علينا؟ فقال : بل عليك يا أبا عبد الله ، فقال الحسينعليه‌السلام : لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ، وكان مجيء الحر من القادسية ، وكان عبيد الله بن زياد بعث الحصين بن نمير وأمره ان ينزل القادسية ، وتقدم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسينعليه‌السلام ، فلم يزل الحر موافقا للحسينعليه‌السلام حتى حضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسينعليه‌السلام الحجاج بن مسروق ان يؤذن فلما حضرت الاقامة خرج الحسينعليه‌السلام في ازار ورداء ونعلين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس انها معذرة الى الله واليكم اني لم آتكم حتى اتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم ان أقدم علينا فانه ليس لنا امام لعل الله ان يجمعنا بك على الهدى والحق ، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم فاعطوني ما اطمئن اليه من عهودكم ومواثيقكم ، وان لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي جئت منه اليكم فسكتوا ، فقال للمؤذن : أقم فأقام الصلاة ، فقال للحر أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال : لا بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك ، فصلى بهم الحسينعليه‌السلام ، ثم دخل فاجتمع اليه أصحابه ، وانصرف الحر الى مكانه الذي كان فيه فدخل خيمة قد ضربت له واجتمع اليه جماعة من أصحابه وعاد الباقون الى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلها.

فلما كان وقت العصر أمر الحسينعليه‌السلام ان يتهيأوا وللرحيل ففعلوا ، ثم أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام فاستقدم الحسينعليه‌السلام ، وقام فصلى ثم سلم وانصرف اليهم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فانكم ان تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور ، والعدوان ، وان أبيتم الا الكراهية لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الآن غير ما اتتني به كتبكم وقدمت به علي رسلكم انصرفت

٧٠

عنكم ، فقال له الحر : انا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر ، فقال الحسينعليه‌السلام لبعض أصحابه : يا عقبة بن سمعان(١) اخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم الي ، فأخرج خرجين مملوءين صحفا فنثرت بين يديه ، فقال له الحر : انا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا اليك وقد أمرنا اذا نحن لقيناك ان لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله ، فقال له الحسينعليه‌السلام :الموت أدنى اليك من ذلك ، ثم قال لأصحابه قوموا فاركبوا فركبوا وانتظر حتى ركبت نساؤه ، فقال لأصحابه : انصرفوا فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسينعليه‌السلام للحر : ثكلتك امك ما تريد؟فقال له الحر : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائنا من كان ولكن مالي الى ذكر امك من سبيل الا بأحسن ما نقدر عليه ، فقال له الحسينعليه‌السلام : فما تريد؟ قال :أريد ان انطلق بك الى الأمير عبيد الله بن زياد ، فقال : اذا والله لا أتعبك ، فقال : اذا والله لا أدعك فترادا القول ثلاث مرات ، فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر اني لم أؤمر بقتالك انما أمرت ان لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة فاذا أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة ولا يردك الى المدينة يكون بيني وبينك نصفا حتى أكتب الى الأمير عبيد الله بن زياد فلعل الله ان يرزقني العافية من ان ابتلي بشيء من أمرك ، فخذ ههنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية ، فتياسر الحسينعليه‌السلام وسار والحر يسايره.

ثم ان الحسينعليه‌السلام خطبهم(٢) فحمد الله وأنثى عليه ثم قال : أيها

__________________

(١) هو مولى الرباب ابنة امرىء القيس الكلبية زوجة الحسينعليه‌السلام ، ولما قتل الحسينعليه‌السلام أخذه عمر بن سعد فقال : ما أنت؟ فقال : انا عبد مملوك فخلى سبيله ، ولم ينج من أصحاب الحسينعليه‌السلام غيره وغير رجل آخر ، ولذلك كان كثير من روايات الطف منقولا عنه (منه).

(٢) هكذا روى الطبري في تاريخه وابن الأثير في الكامل. وفي المناقب ان الحسينعليه‌السلام كتب من كربلا أول نزوله بها الى اشراف الكوفة ممن كان يظن انه على ـ

٧١

الناس ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير بقول ولا فعل كان حقا على الله ان يدخله مدخله ، الا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله ، واني أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (خ ل) ، وقد أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم ببيعتكم انكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فان وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم ، وانا الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفسي مع أنفسكم وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم ولكم بي أسوة ، وان لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي فلعمري ما هي منكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي ، مسلم بن عقيل ، والمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم ، ومن نكث فانما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام ، فقال له الحراني : أذكرك الله في نفسك فاني أشهد لئن قاتلت لتقتلن ، فقال له الحسينعليه‌السلام : أفبالموت تخوفني وهل يعدو بكم الخطب ان تقتلوني ، وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله فخوفه ابن عمه وقال : أين تذهب فانك مقتول ، فقال :

__________________

ـ رأيه : بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي الى سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وعبد الله بن وال وجماعة المؤمنين ، اما بعد علمتم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال في حياته ، من رأى سلطانا جائرا الخ. وانه أرسل الكتاب مع قيس بن مسهر الصيداوي ثم ذكر قصة قيس المتقدمة. وذكر لفظة والسلام في آخر الكلام على رواية الطبري ، وابن الأثير يؤيد أنه كتاب لا خطبة لأن ذلك متعارف في الكتب لا في الخطب ، ولكن كثيرا من الروايات دل على أن ارسال قيس كان من الطريق لا من كربلاء مع ان التمكين من ارساله من كربلاء بعيد ، والله أعلم أي ذلك كان (منه)

٧٢

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

اذا ما نوى حقا وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبورا وودع مجرما

أقدم نفسي لا أريد بقاءها

لتلقى خميسا في الوغى وعرمرما

فان عشت لم أندم وان مت لم ألم

كفى بك ذلا ان تعيش وترغما

فلما سمع الحر ذلك تنحى عنه وجعل يسير ناحية عن الحسينعليه‌السلام .

ولم يزل الحسينعليه‌السلام سائرا حتى انتهوا الى عذيب الهجانات(١) فاذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة لنصرة الحسينعليه‌السلام على رواحلهم وفيهم نافع بن هلال البجلي وهو يجنب فرسا له يقال له الكامل ومعهم دليل يقال له الطرماح بن عدي الطائي وكان قد امتار لأهله من الكوفة ميرة ، فأراد الحر حبسهم أو ردهم الى الكوفة فمنعه الحسينعليه‌السلام من ذلك وقال:لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي انما هؤلاء أنصاري وهم بمنزلة من جاء معي فان بقيت على ما كان بيني وبينك والا ناجزتك ، فكف الحر عنهم.

ثم سألهم الحسينعليه‌السلام عن خبر الناس فقالوا : أما الاشراف فقد استمالهم ابن زياد بالأموال فهم إلب واحد عليك ، وأما سائر الناس فأفئدتهم لك وسيوفهم مشهورة عليك ، قال : فهل لكم علم برسولي قيس بن مسهر؟قالوا : نعم قتله ابن زياد ، فترقرقت عينا الحسينعليه‌السلام ولم يملك دمعته ثم قال :( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (٢) اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلا واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك وقال له الطرماح بن عدي : أذكرك الله في نفسك لا يغرنك أهل الكوفة فو الله ان دخلتها لتقتلن واني لأخاف ان لا تصل اليها وما رأى

__________________

(١) العذيب : موضع كان النعمان بن المنذر يضع فيه هجانه لترعى ، فسمي عذيب الهجانات (منه).

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٢٣.

٧٣

معك كثير أحد ولو لم يقاتلك الا هؤلاء لكفى ، ولقد رأيت قبل خروجي من الكوفة جمعا عظيما يريدون المسير اليك فأنشدك الله ان قدرت ان لا تقدم اليهم شبرا فافعل ، وطلب منه ان يذهب معه الى بلاد قومه(١) حتى يرى رأيه وان ينزل جبلهم أجاء ويبعث الى من بأجاء وسلمى وهما جبلان لطيء ، وتكفل له بعشرين ألف طائي يضربون بين يديه بأسيافهم ، فجزاه الحسينعليه‌السلام وقومه خيرا وقال له : ان بيننا وبين القوم قولا لا نقدر معه على الانصراف ، فان يدفع الله عنا فقديما ما أنعم علينا وكفى ، وان يكن ما لا بد منه ففوز وشهادة ان شاء الله. وسار الطرماح مع الحسينعليه‌السلام ثم ودعه ووعده ان يوصل الميرة لأهله ويعود لنصره ، فلما عاد بلغه خبر قتله في عذيب الهجانات فرجع.

وقال الحسينعليه‌السلام لأصحابه : هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة؟ فقال الطرماح بن عدي : نعم يا ابن رسول الله انا أخبر الطريق ، قال :سر بين أيدينا فسار الطرماح أمامهم وجعل يرتجز ويقول :

يا ناقتي لا تذعري من زجر

وامضي بنا قبل طلوع الفجر

نجيز فتيان وخير سفر

آل رسول الله آل الفخر

السادة البيض الوجوه الزهر

الطاعنين بالرماح السمر

الضاربين بالسيوف البتر

حتى تجلي بكريم النجر

الماجد الجد الرحيب الصدر

أصابه الله بخير أمر

عمره الله بقاء الدهر

يا مالك النفع معا والضر

اين حسينا سيدي بالنصر

على الطغاة من بقايا الكفر

على اللعينين سليلي صخر

يزيد لا زال حليف الخمر

__________________

(١) وهي المعروفة الآن بجبل شمر ، وحيث انها على طريق الذاهب الى العراق فلا يمنعهم الحر من التوجه نحوها بعد ان رضي بأخذهم طريقا لا يدخلهم الكوفة ولا يرجعهم الى المدينة (منه).

٧٤

وابن زياد العهر بن العهر

ولم يزل الحسينعليه‌السلام سائرا حتى انتهى الى قصر بني مقاتل(١) فنزل به وقيل الى القطقطانة(٢) ، فرأى فسطاطا مضروبا فسأل عنه فقيل انه لعبيد الله بن الحر الجعفي ، وكان من شجعان أهل الكوفة ، فأرسل اليه الحسينعليه‌السلام يدعوه ، فاسترجع وقال : والله ما خرجت من الكوفة الا كراهية أن يدخلها الحسين وانا بها وأبى أن يأتي ، فجاء اليه الحسينعليه‌السلام ودعاه الى نصرته فاستعفاه ، فقال له الحسينعليه‌السلام : فان لم تكن ممن ينصرنا فاتق ان تكون ممن يقاتلنا ، فو الله لا يسمع واعيتنا احد ثم لا ينصرنا الا هلك ، فقال : اما هذا فلا يكون أبدا ان شاء الله تعالى.

وفي رواية انه قال للحسينعليه‌السلام : ولكن هذا فرسي خذه اليك فو الله ما ركبته قط وانا أروم شيئا الا بلغته ولا أرادني أحد الا نجوت عليه ، فاعرض عنه الحسينعليه‌السلام بوجهه وقال : لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك ، ثم تلا :( وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) (٣) .

فلما كان آخر الليل أمر الحسينعليه‌السلام فتيانه فاستقوا من الماء ثم أمر بالرحيل فارتحل من قصر بنى مقاتل ليلا ، قال عقبة بن سمعان : فسرنا معه ساعة فخفق وهو على ظهر فرسه خفقة ثم انتبه وهو يقول : انا لله وانا اليه

__________________

(١) في معجم البلدان قصر مقاتل بين عين التمر والشام ، وقال السكوني : هو قرب القطقطانة وهو منسوب الى مقاتل بن حسان ، انتهى المعجم ، ولم يذكر قصر بني مقاتل ، فأما ان لفظة بني من زيادة النساخ او انه صار أخيرا ينسب الى بني مقاتل.وعين التمر هي المعروفة الآن بشفاثا (منه).

(٢) بقافين مضمومين بينهما طاء ساكنة فطاء فألف فنون فهاء ، قال ياقوت ورواه الأزهري بالفتح موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف كان به سجن النعمان بن المنذر.

وقال أبو عبيد الله السكوني القطقطانة بالطف بينها وبين الرهيمة مغربا نيف وعشرون ميلا اذا خرجت من القادسية تريد الشام ومنه الى قصر مقاتل (منه).

(٣) سورة الكهف ، الآية : ٥١.

٧٥

راجعون والحمد لله رب العالمين ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا ، فأقبل اليه ابنه علي بن الحسين ، فقال : يا أبه جعلت فداك مم حمدت واسترجعت؟ قال : يا بني اني خفقت خفقة فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير اليهم فعلمت انها أنفسنا نعيت الينا ، فقال له : يا أبه لا أراك الله سوءا ألسنا على الحق؟ قال : بلى والذي اليه مرجع العباد ، قال : اذا لا نبالي ان نموت محقين ، فقال له الحسينعليه‌السلام : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده.

فلما أصبح نزل فصلى الغداة ثم عجل الركوب ، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد ان يفرقهم فيأتيه الحر فيرده وأصحابه ، فجعل اذا ردهم نحو الكوفة ردا شديدا امتنعوا عليه وارتفعوا ، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتى انتهوا الى نينوى ، فاذا راكب على نجيب له عليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة وهو مالك بن بشير(١) الكندي فوقفوا جميعا ينتظرونه ، فلما انتهى اليهم سلم على الحر وأصحابه ولم يسلم على الحسينعليه‌السلام وأصحابه ودفع الى الحر كتابا من ابن زياد ، فاذا فيه اما بعد فجعجع(٢) بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي فلا تنزله الا بالعراء(٣) في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي ان يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك أمري والسلام ، فعرض لهم الحر وأصحابه ومنعوهم من السير وأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا قرية ، فقال له الحسينعليه‌السلام ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق؟ قال : بلى ولكن كتاب الأمير عبيد الله قد وصل يأمرني

__________________

(١) لعل صوابه مالك بن النسر ، فيكون هو الذي ضرب الحسينعليه‌السلام على رأسه وسلبه البرنس ، فالظاهر انه صحف احدهما بالآخر (منه).

(٢) في الصحاح : الجعجعة : الحبس ، وكتب عبيد الله بن زياد عليه ما يستحق الى عمر بن سعد عليه اللعنة جعجع بحسين ، قال الأصمعي : يعني أحبسه ، وقال ابن الاعرابي يعني ضيق عليه انتهى (منه).

(٣) في الصحاح : العراء : الفضاء لا ستر به (منه).

٧٦

فيه بالتضييق عليك وقد جعل علي عينا يطالبني بذلك ، فقال له الحسينعليه‌السلام : دعنا ويحك ننزل في هذه القرية أو هذه يعني نينوى والغاضرية او هذه يعني شفية ، فقال : لا أستطيع هذا رجل قد بعث علي عينا.فقال زهير بن القين للحسينعليه‌السلام ، اني والله لا أرى ان يكون بعد الذي ترون الا أشد مما ترون ، يا ابن رسول الله ان قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به ، فقال الحسينعليه‌السلام : ما كنت لأبدأهم بالقتال ، فقال له زهير : سر بنا الى هذه القرية حتى ننزلها فانها حصينة وهي على شاطىء الفرات فان منعونا قاتلناهم فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم ، فقال الحسينعليه‌السلام : ما هي؟ قال : العقر ، قال : اللهم أعوذ بك من العقر. وفي رواية ان زهيرا قال له : فسر بنا يا ابن رسول الله حتى ننزل كربلاء فانها على شاطىء الفرات فنكون هناك فان قاتلونا قاتلناهم واستعنا الله عليهم ، قال : فدمعت عينا الحسينعليه‌السلام ثم قال : اللهم اني أعوذك من الكرب والبلاء.

ثم قام الحسينعليه‌السلام خطيبا في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :انه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون وان الدنيا تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت حذاء(١) ولم يبق منها الا صبابة(٢) كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(٣) ، الا ترون الى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا فاني لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما(٤) . وقيل انه خطب بهذه الخطبة بذي جشم حين التقى مع الحر ، وقيل بكربلا والله أعلم ، فقام زهير بن القين فقال : قد سمعنا هداك

__________________

(١) لعله من قولهم رحم حذاء وجذاء بالحاء والجيم ، اي لم توصل (منه).

(٢) الصبابة بالضم بقية من الماء في الاناء (منه).

(٣) الوخيم (منه).

(٤) البرم بالتحريك ما يوجب السآمة والضجر (منه).

٧٧

الله يا ابن رسول الله مقالتك ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك الى الاقامة فيها ، ووثب هلال بن نافع (نافع بن هلال خ ل) البجلي فقال : والله ما كرهنا لقاء ربنا وانا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك. وقام برير بن خضير(١) فقال : والله يا ابن رسول الله لقد منّ الله بك علينا ان نقاتل بين يديك وتقطع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.

ثم ان الحسينعليه‌السلام قام وركب وكلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء يوم الخميس الثاني من المحرم سنة احدى وستين ، فلما وصلها قال : ما اسم هذه الأرض فقيل كربلاء فقال : اللهم اني أعوذ بك من الكرب والبلاء. ثم أقبل على أصحابه فقال : الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فاذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون ثم قال : أهذه كربلا؟ قالوا : نعم يا ابن رسول الله ، فقال : هذا موضع كرب وبلاء انزلوا ههنا مناخ ركابنا ومحط رحالنا ومقتل رجالنا ومسفك دمائنا ، فتزلوا جميعا ونزل الحر وأصحابه ناحية ثم ان الحسينعليه‌السلام جمع ولده واخوته وأهل بيته ثم نظر اليهم فبكى ساعة ، ثم قال : اللهم انا عترة نبيك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ازعجنا وطردنا وأخرجنا عن حرم جدنا وتعدت بنو أمية علينا ، اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين ، وجلس الحسينعليه‌السلام يصلح سيفه ويقول :

يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

من طالب وصاحب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وكل حي سالك سبيلي

ما أقرب الوعد من الرحيل

__________________

(١) برير بضم الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وسكون الياء المثناة من تحت وآخره راء مهملة ، وخضير بالخاء والضاد المعجمتين (منه).

٧٨

وانما الأمر الى الجليل

فسمعت أخته زينب بنت فاطمة ذلك فقالت : يا أخي هذا كلام من أيقن بالقتل ، فقال : نعم يا أختاه ، فقالت زينب : وا ثكلاه يعنى الحسين إلي نفسه وبكى النسوة ولطمن الخدود وشققن الجيوب ، وجعلت أم كلثوم تنادي وا محمداه وا علياه وا أماه وا أخاه وا حسيناه وا ضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله ، فقال لها الحسينعليه‌السلام : يا أختاه تعزي بعزاء الله فان سكان السماوات يفنون وأهل الأرض كلهم يموتون وجميع البرية يهلكون ، ثم قال : يا أختاه يا ام كلثوم وأنت يا زينب وانت يا فاطمة وانت يا رباب انظرن اذا انا قتلت فلا تشققن علي جيبا ولا تخمشن علي وجها ولا تقلن هجرا.

وفي رواية عن زين العابدينعليه‌السلام ان الحسينعليه‌السلام قال هذه الأبيات عشية اليوم التاسع من المحرم. قال علي بن الحسينعليه‌السلام : اني لجالس في تلك الليلة التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني ، اذ اعتزل ابي في خباء له وعنده جون مولى ابي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وابي يقول : (يا دهر اف لك من خليل) الى آخر الأبيات المتقدمة ، فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعرفت ما أراد فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت ان البلاء قد نزل ، واما عمتي فانها لما سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع لم تملك نفسها ان وثبت تجرّ ثوبها حتى انتهت اليه ونادت وا ثكلاه ليت الموت اعدمني الحياة ، اليوم ماتت امي فاطمة وابي علي واخي الحسن يا خليفة الماضي وثمال الباقي ، فنظر اليها الحسينعليه‌السلام فقال لها : يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان ، فقالت ، بأبي وأمي تستقل نفسي لك الفداء فردت عليه غصته وترقرقت عيناه بالدموع ثم قال : (لو ترك القطا ليلا لنام) فقالت : يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصابا فذلك اقرح لقلبي وأشد على نفسي ، ثم لطمت

٧٩

وجهها وأهوت الى جيبها فشقته وخرت مغشية عليها ، فقام اليها الحسينعليه‌السلام فصب على وجهها الماء حتى أفاقت ثم عزاها بما مر ، ثم قال : وكل شيء هالك الا وجهه الذي خلق الخلق بقدرته ويبعث الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده ، جدي خير مني وابي خير مني وامي خير مني واخي خير مني ولي ولكل مسلم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة ، فعزاها بهذا ونحوه وقال لها : يا أختاه اني أقسمت عليك فابري قسمي ، لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تدعي علي بالويل والثبور اذا انا هلكت.

وكتب الحر الى عبيد الله بن زياد يعلمه بنزول الحسينعليه‌السلام بكربلاء فكتب ابن زياد الى الحسينعليه‌السلام .

اما بعد فقد بلغني يا حسين نزولك بكربلاء وقد كتب اليّ أمير المؤمنين يزيد ان لا أتوسد الوثير(١) ولا أشبع من الخمير او الحقك باللطيف الخبير او ترجع الى حكمي وحكم يزيد والسلام.

فلما قرأ الحسينعليه‌السلام الكتاب ألقاه من يده وقال : لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فقال له الرسول : الجواب يا أبا عبد الله ، فقال : ما له عندي جواب لأنه قد حقت عليه كلمة العذاب ، فرجع الرسول الى ابن زياد فأخبره ، فاشتد غضبه وجهز اليه العساكر وجمع الناس في مسجد الكوفة وخطبهم ومدح يزيدا وأباه وذكر حسن سيرتهما ووعد الناس بتوفير العطاء وزادهم في عطائهم مائة مائة ، وأمر بالخروج الى حرب الحسينعليه‌السلام .

__________________

(١) في الصحاح : الوثير : الفراش الوطيء (منه).

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333