الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام11%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 98687 / تحميل: 13114
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ومع ذلك يعاد المشهد في بغداد، بعد سنة ١٤٥، فيستحضره المنصور لمواجهة جديدة.

يقول له: يا جعفر. ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلى بن خنيس؟

قال الصادق: معاذ اللّه ما كان من ذلك شيء.

قال المنصور: تحلف على براءتك بالطلاق والعتاق.

قال الصادق: نعم أحلف باللّه ما كان من ذلك شيء.

قال المنصور: بل تحلف بالطلاق والعتاق.

قال الصادق: ألا ترضى بيميني: اللّه الذي لا إله إلا هو

قال أبو جعفر: لا تتفقه علي.

قال الصادق: وأين يذهب الفقه مني ؟

قال المنصور: دع عنك هذا فإني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عنك هذا حتى يواجهك.

فأتوه بالرجل .

قال الصادق: تحلف أيها الرجل أن الذي رفعته صحيح؟ قال: نعم. ثم بدأ باليمين: قال واللّه الذي لا إله إلا هو الغالب الحي القيوم.

قال الصادق: لا تعجل في يمينك فإني استحلفك. قال أبو جعفر: ما أنكرت من هذه اليمين؟

قال الصادق: إن اللّه تعالى حي كريم إذا أثنى عليه عبده لا يعاجله بالعقوبة. ولكن قل أيها الرجل: أبرأ إلى اللّه من حوله وقوته. وألجأ إلى حولي وقوتي. إني لصادق بر فيما أقول.

قال المنصور للرجل: احلف بما استحلفك به أبو عبد اللّه.

قال راوي الخبر: فحلف الرجل. فلم يتم الكلام حتى خر ميتا. فارتعدت فرائص المنصور. وقال للصادق: سر من عندي إلى حرم جدك إن اخترت ذلك. وإن اخترت المقام عندنا لم نأل جهدا في إكرامك. فو اللّه لا قبلت بعدها قول أحد أبداً.

٨١

وأين يذهب الفقه من إمام المسلمين، وهو الذي يوجه اليمين، ومن حقه صياغتها وفي الصيغة ما ذكر المفتري بعظم افترائه، وبالخالق سبحانه (ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا). ومن الإنساني، ومن جلال مقام الإمام عند اللّه والناس، أن يخر صريعا من يفتري على اللّه وعلى الإمام، في مجلس الخليفة.

بهذه الآية هدى جبار السموات جباراً على الأرض لا يطأطئ رأسه. فإذا حركها عندما يناوشه الذباب سأل حضاره كالمستنكر: لم خلق اللّه الذباب. وكان الصادق حاضراً يوما فأجاب: ليذل اللّه به الجبابرة.

ولئن كان في وجود الذباب في المجلس تذكرة للجبابرة، ففي سقوط المفتري على الإمام بين أيديهم آية ما بعدها آية.

وكما يضمن أبو جعفر طاعة الإمام بالبغتات يصطعنها من حين لآخر، لا يتورع عن محاولة إفحام الإمام، بين علماء العصر، أو تسخير أعظم علماء العراق، لينصب منه شركاء يوقع فيه الإمام وليس هوى أبي جعفر مع أي منهما. ولا بأس عنده إذا أعجز كل منهما، أو أحدهما، صاحبه.

وإن المرء ليلمس خساسة الحيل الظاهرة من أبي جعفر، باتخاذ العلم والفقه أداة للشر المدبر، وعظماء العلماء وسائل للإساءة للمسالمين الذين يأمن جانبهم. فلنقس عليها فظاعة تدابيره السرية لمن يخشى العواقب منهم، ولندرك جلالة الحق إذ ينتصر على الحيلة، وجلجلة الحقيقة إذ تظهرها وسيلة أريد بها طمس معالمها، ومكانة الإمام الصادق في العلم إذ يتواضع أمامه العظماء من الفقهاء، في مجلس علمي يسيطر عليه خليفة عالم:

أقدم المنصور الإمام الصادق من المدينة إلى العراق وبعث إلى أبي حنيفة فقال له: إن الناس قد افتتنوا بجعفر. فهيئ له المسائل الشداد.

٨٢

ويقول أبو حنيفة عن لقائه بعد ذلك (بعث إلي أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته. فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه. فلما أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر فسلمت عليه، فأومأ إلى فجلست. ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة. قال جعفر: إنه قد أتانا. ثم التفت إلي المنصور وقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد اللّه (الصادق) مسائلك. فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا. وأهل المدينة يقولون كذا. ونحن نقول كذا. فربما تابعهم. وربما خالفنا جميعا. حتى أتيت على أربعين مسألة). .

ولقد قال أبو حنيفة في مقام آخر (ألسنا روينا أن أعلم للناس أعلمهم باختلاف الناس).

وإنما يقصد أبو حنيفة باختلاف الناس الاجتهاد الفقهي للمقارنة بين مذاهب المجتهدين . فأبو حنيفة - وهو الإمام الأعظم عند أهل السنة - يقرر أن الإمام الصادق أعلم الناس باختلاف الناس في المدينة حيث علم المحدثين، وفي الكوفة حيث علم أهل الرأي. وكانتا قد بلغتا أوجهما، على أيدي أبي حنيفة ومالك. وهما التلميذان في مجالس الإمام الصادق. وكمثلهما كان إمام العراق الآخر سفيان الثوري.

وأبو حنيفة أكبر سنا من جعفر الصادق. ولد قبله بأعوام وسيموت بعده. وكان أبو حنيفة كما قال مالك لو حدثك أن السارية من ذهب لقام بحجته.

والجاحظ كبير النقدة يقول بعد مائة عام (جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه ويقال إن أبا حنيفة من تلاميذه وكذلك سفيان الثوري. وحسبك بهما في هذا الباب).

والجاحظ يذكر تلاميذ العراق. ولو ذكر تلاميذ المدينة لما نسي مالك بن أنس.

٨٣

بلغ الإمام الصادق بمسالمته للمنصور بعض آماله لأهل بيته، بقية أيام حياته، بل طوال خلافة أبي جعفر المنصور. فكان ميمون النقيبة بالسلام الذي نشده، والأمان الذي دعا له، وأطال زمانه. ومنع كثيراً من الطغيان الذي طالما شكاه أبوه، على ما سيروي ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة - (ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل. ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا. ووجد الكاذبون والجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا . فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس. وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن. فقتلت شيعتنا بكل بلدة. وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة. ومن يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره. ثم لم يزل البلاء يزداد إلى زمان عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين. ثم جاء الحجاج(١) فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة. حتى أن الرجل يقال له زنديق أحب إليه من أن يقال شيعة علي).

وفي عصر الباقر كان الحسن البصري(١١٠) الجسور (قاضي عمر بن عبد العزيز وشيخه الذي لا يهاب الخلفاء) إذا روى عن أمير المؤمنين علي قال (قال أبو زينب) ليخفى الاسم الذي لا خفاء له

بل كان الشعبي(١٠٤) شيخ المحدثين بالعراق يقول (ماذا لقينا من آل علي إذا أحببناهم قتلنا وإذا أبغضناهم دخلنا النار).

وكان طبيعيا في دولة « هرقلية » أن يكون همها الملك لا الدين، تعاقب من تتوهم خطره عليها وتترك من تزندق، أن تزداد الاستهانة بالدين في مقابل السلام الذي تنشده الدولة، والبلهنية التي يؤثرها دعاة الدعة. بدأ ذلك من عهد معاوية وسيستمر استمرار فساد الدولة. وستستبقيه لتصرف الناس عن الاهتمام بأهل بيت النبي، أو توقع بهم لفرطات تفرط من أحدهم، أو تعزي كذبا إليهم، منتهزة للفرص حينا، أو مفتعلة لها في أغلب الأحيان.

___________________

(١) أطلق الخليفة سليمان بن عبد الملك من سجون الحجاج في يوم واحد ثمانين ألفا. منهم ثلاثون ألفا بغير ذنب. ومنهم ثلاثون ألف امرأة.

٨٤

كانت الأوامر تصدر من بغداد إلى أرجاء الامبراطورية التي تدين لبني العباس، ومنها مصر، أن (لا يقبل علوي ضيعة. ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها. وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد (والرقيق يومذاك قوة العمل) وإن كانت بين العلوي وبين أحد خصومة فلا يقبل قول العلوي. ويقبل قول خصمه بدون بينة)

وكانوا يسفرون من الأطراف إلى العاصمة ليكونوا تحت الرقابة. بل أمر الرشيد أن يضمن العلويون بعضهم بعضا. وكانوا يعرضون على السلطان كل يوم، فمن غاب عوقب . وكأن « أهل بيت النبي » جالية من العدو أو شرذمة من المشبوهين.

ولقد كان يكفي للحيطة أقل القليل من حاكم يريد أن يطمئن. وإنما كان ذلك الكيد سياسة إبادة مستمرة، يشترك في تنفيذها الخلفاء، والأشياع الظلمة، تدفع الثائرين إلى أن يثوروا، فيؤخذوا بثوراتهم، أو يؤخذ غيرهم بجرائر تنسب إليهم، أما سياسة أهل البيت فواضحة من شعار أبناء علي في كلمة مسلم بن عقيل (إنا أهل بيت نكره الغدر) قالهاعندما عرض عليه البعض قتل عبيد اللّه بن زياد في إحدى زياراته. فنجا ابن زياد بهذا الشعار ليقتل مسلما فيما بعد. أما شعار حاشية معاوية فكان (إن للّه جنودا من عسل) يقصدون دس السم إلى أعدائهم فيه.

ولقد طالما استعمل الطغاة السم في أهل البيت في القرون التالية. فإن لم يكن سم في خفاء فالقتل جهرة. ومن الروايات أن أئمة أهل البيت - الاثني عشر - ماتوا مسمومين ما عدا أمير المؤمنين عليا وأبا الشهداء الحسين - ماتا شهيدين.

في أيام الخليفة الهادي (سنة ١٦٩) كان أهل بيت النبي في المدينة يستعرضون كل يوم لكل واحد منهم كفيل من نسيب أو قريب. بل ولى عليهم واحد من ذرية عمر بن الخطاب هو عبد العزيز بن عبد اللّه. فولى بدوره على أهل البيت رجلا يقال له عيسى الحائك. فحبسهم الحائك في المقصورة. فثارت لأجلهم المدينة إذ ثاروا، وكسرت السجون وأخرج المسجونون، وبويع للحسين بن علي بن الحسن. فبقي واحداً وعشرين يوما بالمدينة ثم ارتحل إلى مكة فأقام بها إلى زمن الحج.

٨٥

وكرر التاريخ نفسه في خروج الحسين ومن معه من أهل المدينة إذ جاءه الإمام موسى الكاظم يستقيله من الخروج معه، كما صنع أبوه مع النفس الزكية (محمد بن عبد اللّه). قال الكاظم للحسين (أحب أن تجعلني في حل من تخلفي عنك) قال أنت في سعة قال الكاظم (أنت مقتول . وعند اللّه عز وجل أحتسبكم من عصبة..).

وجهز الهادي جيشاً لاقاه حيث استشهد في موقع يقال له (فخ) ومعه كثير من العلويين. وحملت رأس (الحسين شهيد فخ) إلى القائد العباسي بالبشرى مع رءوس مائة آخرين.

واستعرض القائد الرءوس بالمدينة فقال الإمام الكاظم عندما عرضوا رأس الحسين (إنا للّه وإنا إليه راجعون. مضى واللّه مسلما. صالحا. صواما قواما آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. ما كان في أهل بيته مثله).

وكان مع الحسين يحيى بن عبد اللّه بن الحسن (أخي محمد وإبراهيم، وإدريس أبناء عبد اللّه بن الحسن) فلما انتهت المعركة استتر، ثم ظهر، فخرج على الرشيد في بلاد الديلم، ووجه إليه الرشيد جيشاً بقيادة الفضل بن برمك حتى استسلم بعهد مكتوب. ومع ذلك استفتى الرشيد العلماء لقتله، فأبى ذلك محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وصاح: ماذا تصنع لو كان محاربا وولى كان آمنا.

لكن الرشيد وجد من علماء السوء من أفتاه بقتله، وكان هو أقدر على النفاق السياسي من مفتيه. أخذ من المفتي ما يملكه، ليصنع هو ما يقدر عليه . فسجن يحيى وضيق عليه الخناق حتى مات في سجنه، كمثل ما سيموت في سجن الرشيد الإمام موسى الكاظم ويشهد الرشيد الناس عليه، ليبرئ نفسه من تهمة اغتياله.

أما الأخ الرابع إدريس فأفلت هارباً إلى مصر، ثم إلى المغرب، وقيل دس إليه الرشيد هناك من سمه. فأسس ابنه دولة الأدارسة.

٨٦

وسيموت في حبس الرشيد كذلك عبد اللّه بن الحسن (الأفطس). قتله جعفر بن برمك وزير الرشيد. وسيموت في حبسه محمد بن يحيى بن محمد بن عبد اللّه بن الحسن، والعباس بن محمد بن عبد اللّه، وكذلك الحسين ابن . عبد اللّه بن جعفر(١) .

وفي عهد المأمون وجه إلى جماعة من آل أبي طالب. فحملوا إليه في مرو عاصمة خراسان وفيهم الإمام علي الرضا (بن الكاظم بن الصادق) فخاطبه في أن يكون ولي عهده. فأبى. فتهدده بقوله. (إن عمر جعل الشورى في ستة آخرهم جدك. وقال من خالف فاضربوا عنقه. ولابد من قبول ذلك) فقبل. وبايع له المأمون والعباس بن المأمون.

ثم دعاه المأمون للخطبة فأوجز، وكأنه يتوقع وجازة أيامه. فاكتفى بعد أن حمد اللّه بقوله (إن لنا عليكم حقا برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله. ولكم علينا حق فإذا أديتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم). لكنه مات بعد قليل في ظروف مبهمة لا يستبعد منها دس السم كما تؤكد الشيعة، فموت علي الرضا كان حلا لإشكالات بني العباس سواء من يحبون المأمون، أو الكارهين للرضا، أو للمأمون ذاته(٢) .

ولا نستطرد للسرد. فليس في تاريخ البشرية، كلها، أسرة شردت وجردت، وذاقت العذاب والاسترهاب، مثل أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

___________________

(١) وتستمر عجلات الطغيان في الدوران. وتتوالى مقاتل الطالبين توالي الخلفاء العباسيين - ففي بدء عهد المأمون يقتل بالعراق: الحسن بن الحسين بن زيد عند قنطرة الكوفة مع أبي السرايا. والحسن بن اسحق بن علي في وقعة السوس مع أبي السرايا. ومحمد بن الحسن بن الحسين يقتل باليمن في أيام أبي السرايا وعلي بن عبد اللّه بن محمد يقتل باليمن في أيام أبي السرايا ومحمد بن إبراهيم بن إسماعيل (وهو ابن طباطبا) الخارج مع أبي السرايا سنة ١٩٩ مطالبين بالبيعة (للرضا من آل محمد). وقد انهزموا بجيش هرثمة بن أعين قائد المأمون سنة ٢٠٠. وقتلى العلويين على يد هذا الجيش كثيرون.

(٢) وفي عهد المعتصم خرج محمد بن القاسم . بن علي بالطالقان فقبض عليه عبد اللّه بن طاهر وبعث به إلى الخليفة. وحبس المعتصم عبد اللّه بن الحسن . بن جعفر حتى مات في مخبئه. فلما جاء الواثق أمن العلويون بضع سنين. إذ جمعوا ثم حبسوا، عن الانطلاق خارج العاصمة سامرا، فتطامنوا وأطمأنت السلطة. ثم هبت عليهم في أيام المتوكل ريح عاتية من جنون الفزع. =

٨٧

= فلقد أزال قبر الحسين وحرثه حتى لا يزار. وشتت شمل شيعته وفرقهم في النواحي. فمنهم من حبسوا ومنهم من تواروا حتى ماتوا في مهربهم - وتناقل الناس أشعاراً منسوبة إلى ابن السكيت عالم النحو الكبير، وكان يعلم ولدي المتوكل. وفي هذه الأشعار:

تاللّه إن كانت أمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على ألا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما

وربما أراد المتوكل أن يتيقن من صدور هذا الشعر أو من ولاء العالم حين سأله:

أيهما أحسن: ولداي (المؤيد والمعتز) أم الحسن والحسين ؟ . ولم يرضه جوابه. فأمر بقتله فقتلوه. ولم يلبث المتوكل إلا قليلا حتى قتله ابنه « المنتصر » في مؤامرة

وإنما كانت فظاعة الجريمة الأخيرة قصاصاً عجلت به السماء لمقتل عالم آثر الصدق.

ولم يصلح للعلويين بال إلا أشهرا بعد مصرع المتوكل. ليعود البطش بهم إلى عنفوانه في أيام المستعين. فمنهم من خرج وخرج الناس معه، كيحى بن عمر خرج فقتل. ومنهم من خرج ولم يخرج الناس معه، فحبس ليموت سنة ٢٧١. وهو الحسن بن محمد المعروف بالحرون. ومنهم محمد بن جعفر خرج وحبس حتى مات في سامراء ليتتابع سجل الشهداء.

٨٨

بدأ بهم تاريخ الإسلام مجده. واستمر فيهم بعبرته وعظمتها. قدم أبوهم للبشرية أسباب خلاصها بكتاب اللّه وسنة الرسول. وقدم أهل بيته أرواحهم في سبيل القيم التي نزل بها القرآن وجاءت بها السنة. كانت مصابيحهم تتحطم لكن شعلتهم لا تنطفئ، لتخلد الجهاد والاستشهاد والإرشاد، بالمثل العالي الذي كانوه، والضوء الذي لم تمنع الموانع من انتشاره ، وعلم فيه أبناء النبي أمته بعض علومه : أن الاستشهاد حياة ، للمستشهدين وللأحياء جميعا(١) .

___________________

(١) نقف عن السرد، عند أبيات لابن الرومي(٣٢١ - ٣٨٤) من جيميته في رثاء يحيى بن عمر بعد مقتله إذ خرج على بني العباس في القرن الرابع من جراء ظلمهم:

أمامك فانظر أي نهجيك تنهج

طريقان شتى. مستقيم وأعوج

أكل أوان للنبي محمد

قتيل زكى بالدماء مضرج ؟

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم

لبلواكمو عما قليل مفرج

أبعد المسمى بالحسين شهيدكم

تضاء مصابيح السماء فتسرج؟

أيحى العلاء لهفي لذكراك لهفة

يباشر مكواها الفؤاد فينفج

لمن تستجد الأرض بعدك زينة

فتصبح في أثوابها تتبرج ؟

سلام وريحان وروح ورحمة

عليك ومحدود من الظل سجسج

الا أيها المستبشرون بيومه

أظلت عليكم غمة لا تفرج

نظار لكم أن يرجع الحق راجع

إلى أهله يوما فتشجوا كما شجوا

غررتم إذا صدقتمو أن حالة

تدوم لكم. والدهر لونان. أخرج

أبى اللّه إلا أن يطيبوا وتخبثوا

وأن يسبقوا بالصالحات ويفلجوا

لعل قلوبا قد أطلتم غليلها

ستظفر منكم بالشفاء فتثلج

٨٩

الباب الثالث : إمام المسلمين

أنت يا جعفر فوق الـ

مدح والمدح عناء

جاز حد المدح من

قد ولدته الأنبياء

 (عبد اللّه بن المبارك)

امام المسلمين

قامت الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث طبق الدين أكمل تطبيق. فلم تكن العاصمة المناسبة لدول ثلاثة أقامها أصحابها من أجل خلافة الدنيا لا خلافة الدين.

والمدينة هي المقر الأمثل لأهل بيت الرسول حيث يرتبطون بكل أثر فيها وترتبط بهم المعاني التي خلد بها الإسلام، وانتصر المسلمون.

والسنة هي الشجرة المباركة وفروعها. في ثمرها اليانع رحمة ويسر ومعرفة. وفي ظلالها الوارفة مودة وإيلاف وتواصل. ومن هذه العناصر نتج الفكر الرفيع للمجتمع العظيم، يسقى من القرآن ويحيا به.

وبالقرآن والسنة، والفكر الرفيع والفقه المحيط، اعتصم أهل البيت في المدينة. فاختصم وإياهم خلفاء الدول الثلاثة الأموية والمروانية والعباسية، وولاتهم على المدينة. لكنها ظلت مدرسة السنة والفقه. وتتابع فيها أئمة أهل البيت: زين العابدين، والباقر، والصادق.

والفصل الثاني من الباب الحالي مداره مجلس إمام المسلمين جعفر الصادق، وأمثال لما يجري فيه من أقوال، ومن يشرف بالانتهاء إليه من رجال، ليسوا كسائر الرجال. فهم أئمة الفكر الإسلامي جميعه. من سنن وفقه، وزهد وكلام، وعلوم تطبيقية. منذ القرن الثاني للهجرة حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها.

٩٠

الفصل الأول : في المدينة المنورة

«اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك. وإنه دعاك لمكة. وإني أدعوك «للمدينة» بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه».

(حديث شريف)

في المدينة المنورة

ولي مروان بن الحكم إمرة المدينة لمعاوية سنة ٤٢. وكان مروان طلبة الثوار على عثمان. لو تسلموه لما قتلوا الخليفة - كما قيل - وكان مروان يبحث لنفسه في الفتنة عن مكان. ومن أجل ذلك رمى معاوية المدينة به، أو رماه بها، من فور ولايته للسلطة. وهو ابن عمه وابن عم عثمان. كان معاوية يصرفه عن الإمرة ثم يعيده. وآثر مروان وأهله الإقامة بالمدينة، في الحالين، على الذهاب إلى دمشق عاصمة بني أمية، حيث الصدارة لغيره. وحسن صلاته بأهل المدينة. فلما وقعت مجزرة كربلاء كانت عواطفه مع أهل بلدته. ثم أجاءته الرياح إلى حيث نصبه أهله خليفة سنة ٦٤ بعد اعتزال معاوية ابن يزيد. ثم خلف مروان ابنه عبد الملك لتبقى خلافته عشرين عاما من سنة ٦٦ إلى سنة ٨٦. وفي عبد الملك يقول عبد اللّه بن عمر: إن لمروان ابنا فقيها فاسألوه. لكنه بعد الخلافة صار ظلوما غشوما: أدخل عليه الأسرى ذات يوم فأمر بضرب أعناقهم - دون استجواب فقال له رجل من أهل الشام كان يعرفه أيام تنسكه - لقد أقست الخلافة قلبك. وكنت رءوفاً فأجاب: كلا. ولكن أقساه الضغن بعد الضغن.

كان يستنكر ضرب جيوش يزيد بن معاوية للكعبة سنة ٦٣ في حصار مكة، حتى إذا ولى الخلافة ضربها الحجاج له في سنة ٧٣ ولما سئل الحسن البصري أن يقول قوله في عبد الملك بن مروان أجاب: ماذا أقول في رجل، الحجاج إحدى سيئاته ولم يتمهد الملك لابنه الوليد إلا بعد عشرين عاما من حكم عبد الملك. فلقد بويع لابن الزبير بمكة سنة ٦٤ من أهل الحجاز والعراق ومصر، فدارت رحى الحرب، واستمرت بيعة العراق لابن الزبير حتى سنة ٧١ عندما قتل جند عبد الملك مصعب بن الزبير، وهدموا قصر الخلافة الزبيرية بالكوفة. وفي العام التالي استرجع « المدينة » لعبد الملك طارق ابن عمر، وفي سنة ٧٣ قتل عبد اللّه بن الزبير، واستسلم للحجاج أهل « مكة ».

٩١

وفي حياة الإمام جعفر كان على إمرة المدينة أبان بن عثمان حتى سنة ٨٢ حين عزله عبد الملك بهشام بن إسماعيل، الذي ضرب سعيد بن المسيب سنة ٨٥ من جراء رفضه بيعة الوليد وسليمان ابني عبد الملك، وطاف به في المدينة.

ثم عزل الوليد هشاما بعمر بن عبد العزيز سنة ٨٧. وعمر زوج أخته وهو زوج أخت عمر. والأربعة حفدة مروان.

وأمر الوليد عمر أن يوقف هشاما للناس أمام دار مروان ، و لكل عنده مظلمة فمر الناس به يلمزونه ويغمزونه. فصاحب المعروف لا يقع و إن وقع وجد متكأ و كان هشام من كثرة ما أساء إلى علي بن الحسين (زين العابدين) يقول: ما أخاف إلا من علي زين العابدين - فلو أزري به زين العابدين لحق عليه الدمار من العابدين ومن العامة - لكن زين العابدين ومواليه وخاصته مروا به لا يتعرضون له بكلمة. فلما مروا وسلم هشام، صاح: اللّه يعلم حيث يجعل رسالته.

ورد عمر بن عبد العزيز لأهل البيت فدكا. وكان النبي قد أعطاها لفاطمة الزهراء ولم يورثها أبو بكر وعمر لها. فكان اجتهاد عمر بن عبد العزيز خلافا في الفقه مع أبي بكر ومع جده عمر بن الخطاب.

ومنع عمر الشعار الأموي الآثم. وهو سب علي. وزاد إنصافا فاستعاض عنه شعاراً تبدو فيه معاني التوبة النصوح والاستغفار من الذنوب، وهو الآية الكريمة (ربنا اغفر لنا. ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان). وكان معاوية قد استحدث نظام القصص ليثني القصاص على الخلفاء من بني أمية و يزينوا للناس حالهم فأمرهم عمر أن يقصروا الثناء (على المؤمنين).

وفي عمر يقول أحمد بن حنبل «ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر ابن عبد العزيز» ويخاطبه كثير، وهو من شعراء الشيعة، بقوله:

وليت ولم تسبب عليا ولم تخف

مريبا ولم تقبل مقالة مجرم

وصدقت بالقول الفعال مع الذي

أتيت فأمسى راضيا كل مسلم

٩٢

وفي العام التالي لولاية عمر على المدينة حج الوليد، وبدا له أن يأمر بتوسعة المسجد، لتدخل فيه حجرات أمهات المؤمنين وبيت علي، الذي أذن له به النبي، في حين ردم أبواب سائر الصحابة. فنصح الناس الخليفة أن يعود إلى مقر الملك في دمشق ويصدر أوامره منها بتوسيع المساجد عامة في مكة والمدينة وبيت المقدس، وأن يبني مسجداً بدمشق، وبهذا يتحقق غرضه دون أن يلومه الناس. فرجع إلى دمشق وأصدر منها أوامره.

وشق الأمر على أهل المدينة وتظاهروا عليه طالبين ترك (الحجرات) كما تركها صاحب الشريعة. فأصر الوليد وأنفذ، لتنفيذ أمره، بعثة من العمال من بلاد الروم.

قال خبيب بن عبد اللّه بن الزبير لعمر (نشدتك اللّه يا عمر أن تذهب بآية من آيات اللّه تقول (إن الذين ينادونك من وراء « الحجرات » أكثرهم لا يعقلون) . وطعن في بني أمية، وبلغ خبره الوليد بدمشق فأمر بجلده. فجلد. ومضى زمن ومات خبيب. فكان عمر يقول كلما بشره بالجنة أحد: (كيف. وخبيب على الطريق).

وفي سنة ٩١ حج الوليد فزار المسجد، وخطب على منبر الرسول قاعدا في كبرياء. فنفر الفقهاء. وترضى السادات. فاستفز الفقراء.

وكان عمر يؤوى، بالمدينة، من يتهددهم بطش الحجاج في العراق. لكن الوليد ولى الحجاج على الحج سنة ٩٢، فاستعفاه عمر من مرور الطاغية بمدينة الرسول، فقبل.

ولم يكن عدل عمر مانعا، بل ربما صار مقتضيا، أن يعزله الوليد بعثمان ابن حيان المري سنة ٩٣، فأنزل الوالي الجديد النكال بالعلماء، ومنهم ناسك المدينة محمد بن المنكدر فقيه بني تميم قبيلة أبي بكر وأخوال جعفر الصادق، وقذف أهل المدينة من فوق المنبر بقوله (أيها الناس إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه).

وامتدت يد البطش إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (وجده عمرو عامل الرسول)، فأمر بحلق لحيته لولا أن عزل الخليفة الجديد (سليمان بن عبد الملك) عثمان بأبي بكر ذاته سنة ٩٦. وبقي أبو بكر أميراً على المدينة حتى سنة ١٠١. واجتمع له القضاء والإمرة عليها في خلافة عمر بن عبد العزيز.

ولما عزله يزيد بن عبد الملك بعد وفاة عمر، بعبد الرحمن بن الضحاك بن قيس عذب الوالي الجديد أبا بكر. فلما عزل عبد الرحمن سنة ١٠٤، حاقت البأساء والضراء بعبد الرحمن، حتى صار يلتمس الصدقة من سوء حاله.

٩٣

وفي سنة ١٠٦ تولى إبراهيم بن هشام بن إسماعيل - وهو خال الخليفة هشام بن عبد الملك - فبقي إبراهيم واليا إلى سنة ١١٤. ثم عزل بخالد ابن عبد الملك بن الحارث بن أبي العاص، فبقيت له الإمرة حتى سنة ١١٨.

وخطب خالد على منبر الرسول، فانتقص أولاد الرسول وأباهم عليا. فقام إليه داود بن قيس فبرك على ركبتيه وقال: كذبت كذبت. حتى حيل بينهما. ثم عزل بمحمد بن هشام بن اسماعيل أخي إبراهيم فبقى حتى سنة ١٢٥.

وكما ولى محمد وإبراهيم ابنا هشام، لخؤلتهما لهشام بن عبد الملك، ولي الوليد ابن يزيد إمرة المدينة « خاله » محمد بن يوسف الثقفي. وأمره أن يعذبهما، وأن يقيمهما للناس، وأن يبعث بهما إلى والي العراق ليذيقهما الهوان حتى يموتا من العذاب. ففعل. وبقي حتى سنة ١٢٦ فعزل بعبد العزيز بن عمر ابن عبد العزيز ليبقي ثلاث سنوات حتى سنة ١٢٩، فيحل محله عبد الواحد ابن سليمان بن عبد الملك.

وفي ولاية عبد الواحد كانت شمس بني أمية في الغروب: لقد طرد الحارث بن سريج عاملهم نصر بن سيار من أقصى الشرق في مرو - وأقبل أبو حمزة « الخارجي » يخرجهم من قلب الإسلام في المدينة سنة ١٣٠ بعد وقعة قديد. وفيها قتل من أهل المدينة خلق كثير. وهرب عبد الواحد.

وسفر إلى أبي حمزة، وهو على أبواب المدينة، السفراء: شيخ بني هاشم عبد اللّه بن الحسن، ومحمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، وكان محسوبا مع بني هاشم لما يجمعه بهم من رحم، وعبد الرحمن بن القاسم ابن محمد بن أبي بكر خال الإمام جعفر، وعبد اللّه بن عمر بن . عمر، ومعهم ربيعة الرأي شيخ مالك بن أنس، في رجال آخرين. فعامل أبو حمزة الوفد معاملة الخوارج للصحابة: عبس وبسر في وجه الأولين حفيدي علي وعثمان. وبشر في وجه الثالث والرابع - حفيدي الشيخين: أبي بكر وعمر. وقال لهما: واللّه ما جئنا إلا لنسير بسيرة أبويكما.

قال شيخ بني هاشم واللّه ما جئناك لتفضل بين آبائنا. ولكن بعثنا إليك الأمير برسالة. وهذا ربيعة يخبرك بها..

أقام أبو حمزة بالمدينة ثلاثة أشهر ثم خرج لقتال جند الشام فانهزم .

٩٤

ثم جاءت دولة بني العباس. وتولى إمرة المدينة للسفاح عمه داود بن علي فقام فخطب فقال: أيها الناس أغركم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال ؟ .

والسيف مشهر:

حتى يبيد قبيلة فقبيلة

ويعض كل مثقف بالهام

ويقمن ربات الخدور حواسرا

يمسحن عرض ذوائب الأيتام

لكن اللّه عاجله بعد ثلاثة أشهر فلقى حتفه - وولى بعده زياد بن عبد اللّه بن المدان خال السفاح.

وأحاط السفاح ببني أمية: دعاهم، ومنحهم الأمان، حتى إذا اجتمعوا به أعمل رجاله السيوف فيهم. وكانوا نيفا وثمانين رجلا. وفي سنة ١٣٣ قتل عماله من أشياعهم ثلاثين ألفا بالشام. واستدعى عبد اللّه بن علي، أخو داود، وقائد جيش الشام، الإمام الأوزاعي إمام الشام إلى عسكره فسأله: ما تقول في بني أمية؟

قال: لقد كانت بينك وبينهم عهود. وكان ينبغي أن تفوا بها.

قال: ويحك. اجعلني وإياهم لا عهد بيننا.

يقول الأوزاعي (فأجهشت نفسي وكرهت القتل. فذكرت مقامي بين يدي اللّه فقلت (دماؤهم عليك حرام) فانتفخت عيناه وأوداجه وقال: ويحك لم؟ قلت (قال رسول اللّه: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث: ثيب زان ونفس بنفس وتارك دينه. قال: ويحك أو ليس الأمر لنا ديانة؟ أليس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أوصى لعلي؟ فسكت . وجعلت أتوقع رأسي يسقط . وقال أخرجوه فخرجت).

وروى عبد اللّه بن علي رماحه من الدم بما لم يسمع التاريخ بمثله. حتى إذا ولي أبو جعفر المنصور(١٣٦ - ١٥٨) - عزل زياد بن عبد اللّه بن المدان عن المدينة بمحمد بن خالد القسري. وأمر بحمل زياد بن عبد اللّه إلى العراق مكبلا بالحديد.

ثم عزل محمد بن خالد وولى مكانه رباح بن عثمان بن حيان سنة ١٤١. وهو ابن عم مسلم بن عقبة (الذي يسميه البعض مجرم بن عقبة - فهو قائد الجيش الذي دمر المدينة وارتكب الفظائع في معركة الحرة سنة ٦٣) ففاخر الناس بنقائصه قال: أنا الأفعي بن الأفعي أنا ابن عثمان بن حيان وابن عم مسلم بن عقبة المبيد خضراءكم المفني رجالكم. فوثب عليه الناس فحصبوه بالحصى ورموه بالحجارة.

٩٥

وفي إمرته اقتحم الجند منازل أهل البيت فأخرجوا منها رجالهم إلى السجون. ومرت مواكب أهل البيت في شوارع المدينة وهم في الأصفاد، هزلهم العذاب والأيام الشداد، ثم سيقوا إلى الكوفة، ليودعوا السجن حيث حبسوا - كما يقول المسعودي في مروج الذهب - في سرداب تحت الأرض لا يعرفون الليل من النهار حتى مات أكثرهم، ثم خر عليهم، ليموت تحت أنقاضه الأحياء منهم، ويدفن الذين سبقوهم إلى الموت دون أن يعني بهم أحد.

وبقي رباح حتى خرج محمد بن عبد اللّه (النفس الزكية) على المنصور وقبض الخارجون على رباح وأدخلوه سجن المدينة هو وأخاه.

ولما انتهت الحرب عين المنصور على المدينة عبد اللّه بن الربيع الحارثي فبقي حتى سنة ١٤٧ ثم عزل. فولى مكانه جعفر بن سليمان بن سليمان ابن علي بن عبد اللّه بن عباس، فبقي واليا حتى سنة ١٤٩. وهو الذي أمر بضرب مالك بن أنس حتى انخلعت كتفه وطافوا به في المدينة.

وفي ولاية جعفر بن سليمان مات الإمام الصادق.

بهذه الوجازة العجلى لأمر الولاة في نحو قرن من الحكم الأموي والمرواني والعباسي للمدينة، عاش فيه الإمام الصادق، تتكشف أمور حسبنا أن ننبه على بعضها الآن:

١ - ففي حكم بني مروان، لم يكن لأهل البيت، بخاصة، مشكلة مع الدولة. وإنما كانت المشكلة لأهل المدينة عامة مع العاصمة. أما خروج زيد بن علي زين العابدين سنة ١٢١ وابنه يحيى سنة ١٢٥.(١)

___________________

(١) ادعى خالد بن عبد اللّه القسري مالا قبل زيد وأبناء الصحابة. فدعاهم الخليفة هشام ابن عبد الملك إلى العاصمة وسألهم فأنكروا مزاعمه. فأعادهم إلى واليه على العراق يوسف بن عمر ليستحلفهم. وقيل إن هشاما لم يرد السلام على زيد فأغلظ له زيد في الكلام. وكان زيد في الذروة من فقهاء العصر - ولما رجعوا إلى الكوفة استحلفهم يوسف فحلفوا. لكنه أبقاهم محبوسين في انتظار رأي هشام. فأمره بإخلاء سبيلهم فخرج زيد من الحبس قاصداً القادسية. واجتمع إليه شيعة الكوفة وطلبوا إليه الخروج على الخليفة وتعهدوا بنصره. فخرج إليهم، فجمعوا له أربعة آلاف رجل ثم انفضوا من حوله. فحارب حرب الأبطال حتى استشهد سنة ١٢١. فكان منهم معه ما كان من آبائهم مع جده أي (فعلوها حسينية) كما قال.

ثم خرج ابنه يحيى فقتل سنة ١٢٥.

٩٦

فكان في أواخر بني مروان. وكذلك كان خروج عبد اللّه بن معاوية ابن عبد اللّه بن جعفر سنة ١٢٧، بعد عامين من استشهاد يحيى بن زيد. ولقد سلم عبد اللّه نفسه لأبي مسلم الخراساني بعد أن انهزم نصر بن سيار والي خراسان لبني مروان. فقضى أبو مسلم عليه بعد أن استسلم.

بهذا يمكن القول إن زين العابدين وابنه محمدا الباقر عاشا أكثر من نصف قرن في سلام مع السلطة. وبهذا السلام تبوءآ الذروة من الاحترام والطمأنينة اللذين يمهدان للعلم أن ينتشر، وللقدوة الصالحة أن يشيع هداها، كالشعاع ينشر النور في المدينة ويحمل الدفء إلى الأفئدة الوافدة من شتى الأقطار.

٢ - كان الأمراء على المدينة إما أقرباء للخلفاء في دمشق والأنبار والكوفة، وإما صنائع لهم. لكنهم كانوا - عدا عمر بن عبد العزيز - مستضعفين من الجميع، يعزلون، ويقامون للناس، ليتخذوهم سخريا أو ينكلوا بهم.

وفي أواخر أيام بني مروان سخر الناس منهم علانية، واشتجروا معهم، إذا مسوا أمير المؤمنين عليا بسوء.

وكان عبد الملك قد أوصى عامله على المدينة بقوله (جنبني دماء بني هاشم فإني رأيت آل حرب لما تهجموا عليهم لم ينصروا) - وهو الباطش، الذي تولى له بالعراق الحجاج، وبخراسان المهلب بن أبي صفرة، وبمصر هشام بن إسماعيل وابنه عبد اللّه، وباليمن محمد أخو الحجاج، وبالجزيرة محمد بن مروان (أخو عبد الملك). وكل من هؤلاء ظالم فاتك.

ولما سئل عبد اللّه بن المبارك: أبو مسلم خير أم الحجاج؟ أجاب (لا أقول أبو مسلم خير من أحد، لكن الحجاج شر منه)

٣ - أما في عهد العباسيين - أبناء العمومة - فقد هبت على بني علي ريح صرصر، من الطغيان المدمر، لتنزل بهم وبأحفاد الصحابة والتابعين الفزع الأكبر، كهيئة ما صنع بنو أمية في كربلاء والحرة. وطبائع الطغيان واحدة.

٩٧

اهل المدينة

غاضبت دمشق العراق والحجاز أيام صيرها معاوية حاضرة بني أمية. وتابعته على ذلك دولة بني مروان. لكن المدينة بلدة طيبة وشعب كريم. وثب أهلها بالأمويين بعد كربلاء ثم تركوهم يجلون عنها، على موثق من أهلها، ألا يدلوا جند يزيد على عوراتها. وجلا الأمويون إلى الشام إلا زوج مروان بن الحكم، عائشة بنت عثمان بن عفان، توجهت إلى الطائف في حماية «علي زين العابدين».

والمدينة واحة في قفر، والرزق نزر في الصحاري الساخنة، إلا ما يرد إلى الناس من تجارة أو عطاء، متقطع كسحائب الصحراء، يجري، ويجف، حسب الشهوات، في دمشق. وأهل البيت تجيئهم حقوقهم في بيت المال أو لا تجيء، لكنهم ينفقون المال خفية وعلانية - ولو كان بهم خصاصة - فعلي زين العابدين مصدر من مصادر الرزق المجهولة للناس، لا يعرف إلا بعد أن يموت، فيتفقد الناس المصدر فيعرفونه. وكذلك أبناؤه، يتزعمهم الباقر. وهو القائل: إن استطعت ألا تقابل أحدا إلا ولك الفضل عليه فافعل.

أما ابن عمهم عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب فكان وثيق العرى بالخلفاء. سأله يزيد بن معاوية يوما كم عطاؤك؟ قال ألف ألف درهم. قال يزيد: قد أضعفناها لك. قال ابن جعفر. فداك أبي وأمي. وما قلتها لأحد قبلك. فضاعف يزيد عطاءه مرة ثانية.

ولما خرج عبد اللّه من المجلس، قال جلساء يزيد: تعطي رجلا واحدا اربعة آلاف ألف درهم قال: ويحكم إني أعطيتها أهل المدينة أجمعين. فما يده فيها إلا عارية.

والحق أن الفقراء كان لهم في أمواله حق معلوم، فكانوا يستدينون في انتظار ورود عطاء عبد اللّه بن جعفر من العاصمة.

وكان الخلفاء يحجرون على شباب قريش أن يبرحوا الحجاز إلا بإذن فأمسى سجنا واسعا لمن فيه منهم. وازداد أهله انعزالا وارتباطا فتراحموا، وتصاهروا، لتصير المدينة مجتمعا مقطوع القرين، نرى فيه: « سكينة بنت الحسين » يبني بها « مصعب بن الزبير » ثم يبني بضرة لها « عائشة بنت طلحة ». أي أطراف يوم الجمل تجتمع في بيت واحد.

٩٨

وإليك أطرافا أخرى في أختها فاطمة: ولدتها أم إسحق بنت طلحة. وتزوجها عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان. ويرزقان محمدا. وله بنت من خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير تدعى حفصة. وأم عروة أسماء بنت أبي بكر. فهؤلاء: رسول اللّه وخمسة من العشرة المبشرين بالجنة علي وأبو بكر وعثمان وطلحة والزبير يجتمعون في حفصة

أما الإمام جعفر الصادق فآية من الآيات.

جده لأبيه زين العابدين. وزين العابدين وسالم بن عبد اللّه بن عمر والقاسم بن محمد بن أبي بكر أولاد خالات ثلاثة. هن بنات كسرى يزدجرد.

وأبوه الباقر ولدته لزين العابدين بنت عمه فاطمة بنت الحسن.

وأمه أم فروة بنت «القاسم» بن محمد بن أبي بكر. وقد تزوج أمير المؤمنين علي أم محمد، أسماء بنت عميس، بعد موت أبي بكر. فصار ربيبة، وترعرع في كنفه حتى شهد معه الجمل. وكان على الرجالة. وشهد معه صفين. وولاه مصر حتى قتلته جيوش معاوية في مصر.

وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عم القاسم وشقيق عائشة. شهد اليمامة مع خالد. وقتل محكم اليمامة في الحصن فاقتحمه المسلمون. وبعث إليه معاوية بمائة ألف درهم فردها وقال لا أبيع ديني بدنياي.

وعبد الرحمن هو القائل وهو يرفض البيعة ليزيد (جعلتموها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل).

فجعفر قد ولده النبي عليه الصلاة والسلام مرتين. وعلي مرتين، والصديق مرتين، ليدل بهذا المجد الذي ينفرد به في الدنيا على أنه نسيج وحده.

ومن الناحية الأخرى ولده كسرى مرتين. ليدل الدنيا - من أعلى مواقعها - على أن الإسلام للموالي والعرب. فذلك هو الدين الذي جاء به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والذي دافع من أجله عن المساواة بين المسلمين، كافة، أمير المؤمنين علي.

هكذا وحدت المدينة مجتمعها. ورفعت أبناء الصحابة إلى أعلى مقام. وأهل البيت إلى صدارة المجتمع، يمدون أنسابهم إلى هاماته وأسبابهم إلى طبقاته.

٩٩

وذات يوم أصهر الحجاج إلى عبد اللّه بن جعفر في بنته أم كلثوم. فأبرد إليه الخليفة عبد الملك ليسوغ أباها المهر ويعجل طلاقها، لأنه تجاوز قدره. وهي حجة ظاهرة، قد تخفى حجة حقيقية، إذا كان يخشى أن يمد الحجاج بسبب إلى أسرة قد يشمله هداها، أو يأسره الإخلاص لها، أو يبعده عن أن يكون - بجمعه - لعبد الملك، وبقسوته على من عداه.

لكن العلم ظل الخصيصة الكبرى «للمدينة». ففيها وضعت القواعد العامة لتطبيق المبادئ الإلهية التي بعثت بها السماء آخر رسلها لإصلاح البشر. ووضعت أسس الدولة ومبادئ الجماعة وانتشر الدين، في القارات الثلاثة المعروفة. لتقدم الحضارة الإسلامية، سياسة وإدارة، وتشريعا، دوليا ومدنيا وجنائيا، واقتصاديا، وقواعد علمية، وعلوما تطبيقية ورياضية، لم تشهدها القرون قبل. وستبني عليها الحضارات جميعا. فتكون مجازا للبشرية من جهالات القرون الأولى، إلى حضارات العصور الحديثة العلمية والاقتصادية والتشريعية والاجتماعية.

ولما انقضى عهد الرسالة والراشدين الأربعة، تابعت عاصمة الإسلام، وإن لم تعد عاصمة الدولة، رسالتها بالفقه. وهو في الحضارة الإسلامية كحجارة الأساس في البنيان: أن كانت منه قواعد الفكر الإسلامي كافة، وكانت الحرية الفكرية لحمته وسداه، والفضيلة الإنسانية مبدأه ومنتهاه. وفيه صلاح الناس، والتخفيف عليهم، وفتح أبواب الرجاء لهم، وتمكينهم من التطور لملاحقة حاجات الأعصر، بأداته « الديناميكية » - المحركة - نحو التقدم، وهي اجتهاد الرأي.

وفي أهل البيت كان النبي مدينة العلم وعلي بابها، وريحانتا الرسول من الدنيا الإمام « الحسن » والإمام «الحسين» يمثلون الجيل الأول. وفي الجيل الثاني كان السجاد - من كثرة السجود - أو زين العابدين - من كمال عبادته - وابناه الإمام الباقر وزيد. وكان لزيد مذهبه.

أما الجيل الثالث من القرون المفضلة فقد تراءى فيه للمسلمين جعفر ابن محمد، الصادق، بدر تمام، لجيل كان ختام أجيال.

١٠٠

وأما من عدا أهل البيت فقد نهض عنهم الصحابة وأبناؤهم وأحفادهم بعبء العلم نهضة جديرة بدين يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. فاشتهرت بينهم أما المؤمنين عائشة وأم سلمة، وزينب بنت أبي سلمة. والعبادلة الأربعة أبناء العباس، وعمر، والزبير وعمرو، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وبنته حفصة وعروة بن الزبير ابن أخت عائشة، وابن أخيها القاسم بن محمد بن أبي بكر، وراويتها عمرة بنت عبد الرحمن، وهؤلاء الثلاثة أعلم الناس بحديث عائشة، وسالم بن عبد اللّه بن عمر وسعيد بن المسيب وخارجة بن زيد وعبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود، وأبو بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار، وتعلم عليهم جيل جديد: فيه محمد بن شهاب الزهري وأبوبكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ومحمد بن المنكدر، ومحمد وعبد اللّه ابنا أبي بكر بن حزم، وربيعة الرأي، وهؤلاء مشيخة مالك بن أنس.

ومالك يعاصر في النصف الثاني من القرن الثاني نهاية الأجيال المفضلة.

ثم هو شيخ المدرسة التي نجب فيها محمد بن إدريس الشافعي وتلميذه أحمد بن حنبل.

ولقد طالما زاحم التلاميذ أشياخهم في العلم وإن لم يزاحموهم في مكانتهم عند اللّه والناس.

ومن المدينة انطلق الفقه الإسلامي إلى العراق، حيث أقام عبد اللّه بن مسعود زمانا معلما ووزيرا كما سماه عمر، وتعلم عليه تلاميذه وتلاميذ علي، كعبيدة، وعلقمة، والحارث. وعن طريق علقمة تعلمت مدرسة النخعيين يتقدمها الأسود وعبد الرحمن، ويتوسط عقدها إبراهيم ابن يزيد شيخ حماد بن أبي سليمان.

وفي حلقة حماد بالكوفة قضى أبو حنيفة عشرين عاما يتعلم، ليصبح علما على مدرسة الرأي والقياس الذي قعد قواعده الشافعي فانتشر في كل فروع العلم الإسلامي.

وهوى أبي حنيفة مع أبناء علي معروف، وصلة فكره بزعماء أهل البيت واضحة، وإن مذهبه ليقارب المذهب الزيدي أكثر مما يقارب المذهب الحنفي غيره من مذاهب أهل السنة كما قيل.

١٠١

ولقد استشهد زيد - بن زين العابدين - سنة ١٢١. وفي ذلك العهد جلس أبو حنيفة مجلس حماد بن أبي سليمان بعد وفاته. وشرع يدون بعض مذهبه وكثيرا من الفروع. ثم مكن أبو يوسف للمذهب بتولية زملائه القضاء، ليلزموا الناس به، ثم نشره محمد بن الحسن بتدوينه في كتبه الشهيرة.

وتدوين الفقه في كتاب «المجموع» قد سبق به زيد مدرسة أبي حنيفة. ولعل أبا حنيفة تعلم تدوين الفقه عليه - بل إن الجميع قد قلدوا فيه صنيع أهل البيت أنفسهم. ولديهم الكتب فيها العلم، أحاديث وفقها، يتعلمونه كابرا عن كابر.

فالحجاز والعراق قد تضامنا في إنتاج الفقه. لتتابعهما بعد ذلك شتى الحواضر، في الفسطاط ودمشق وقرطبة والقيروان، وفي المغرب وفي المشرق، وفي الإندلس، ووسط آسيا.

وظاهر من هذا التأريخ أمور:

١ - أن المذاهب الفقهية جميعا بما فيها المذاهب الباقية إلى اليوم لأهل السنة، يتصدرها في الظهور مذهب أهل البيت على يد زيد بن علي زين العابدين. وكذلك يسبق « المذهب الزيدي » مذهب الإمام جعفر الصادق، الذي تبعه الأئمة من نسله، وصار يسمى مذهب (الإمامية). فالصادق صار إماما بموت أبيه الباقر في العقد الثاني من المائة الثانية، ثم كانت وفاته بعد استشهاد عمه زيد سنة ١٢١ بسبعة وعشرين عاما سنة ١٤٨.

أما أبو حنيفة فمات في سجن أبي جعفر المنصور سنة ١٥٠. وأما مالك فمات بعد أبي حنيفة بتسعة وعشرين عاما سنة ١٧٩. والشافعي مات بعد أبي حنيفة بأربعة وخمسين عاما سنة ٢٠٤. ولحق بهم ابن حنبل سنة ٢٤١. وأصحاب المذاهب الأخرى بين معاصرين لهم أو لاحقين.

٢ - أن الإمام « جعفر » كما سنرى، ينهى عن استعمال القياس كمثل ما يرفضه فقهاء المدينة عموما والمحدثون خصوصا. وهم زعماء الفقه في المائة الأولى.

وسنرى بعد أن نهى « الصادق » عن القياس لا يعارض الاجتهاد، بل إنه ليأمر به، ويبلغ بمنهاجه في الاجتهاد ما يبلغه سواه.

وسنرى أن منهاجه في الاعتبار والاستخلاص هو منهج الفكر الإسلامي، نقله عنه الفكر العالمي.

١٠٢

٣ - أن البيئة التي عاش فيها أهل البيت ستين عاما بعد مجزرة كربلاء، كانت منجبة، بظهور العلم والعلماء من الرجال والنساء. فشاركت المرأة في العلم من عهد أمهات المؤمنين. ووجدت الفقيهات في جيل التابعين وتابعي التابعين من أهل السنة، فتصدرت نساء أهل البيت سكينة بنت الحسين(١١٧) رضي اللّه عنهما. وكانت برزة، تساجل فحول الشعراء، بل الفقهاء.

وهي بهذه المساجلات إمام في استعمال الحرية الشخصية والفكرية(١) تعلم المسلمين والمسلمات، أن المرأة نصف الناس، وأن إظهار مواهبها، وصقلها وتنميتها، خير للنصف الذي هو المرأة، وخير للنصف الآخر. ومن المساواة بينهما تقررت للمرأة حقوقها كاملة، وسلم لها بالحرية الفكرية التي قد تفهم من كلمات الإمام علي بن أبي طالب يوم لقي عائشة، في إثر انتصاره يوم الجمل، فقال لها: غفر اللّه لك. قالت: ولك وما استغفر لها إلا لخطأ منها في الاجتهاد رآه.

___________________

(١) زارها الفرزدق بالمدينة. فقالت له: من أشعر الناس؟ قال أنا. قالت: بل جرير حيث يقول . فعاد لها في الغداة بشعر جديد يسوغ له قصب السبق. قالت بل جرير حيث يقول . وكذلك صنعت في اليوم الثالث إذ عاد بجديد.

ووقفت يوما على عروة بن أذينة شيخ مالك بن أنس فقالت له: أنت الذي يقال له الرجل الصالح وأنت تقول:

إذا وجدت أوار الحب في كبدي

عمدت نحو سقاء القوم أبترد

هبني بردت ببرد الماء ظاهره

فمن لنا على الأحشاء تتقد

قال نعم.

قالت: وأنت القائل:

قالت وابثثتها وجدي وبحت به

قد كنت عندي تحب الستر فاستتر

ألست تبصر من حولي ؟ فقلت لها

غطى هواك وما ألقي على بصري

قال نعم:

فالتفتت إلى جوار، كن حولها، وقالت: هن حرائر إذا كان خرج هذا من قلب سليم قط.

١٠٣

وإذا كان النصفان يجتهدان ويجاهدان، فالأمة كلها في حالة تقدم، أو محاولة تقدم - والاجتهاد في ذاته تقدم - بالعلم أو السعي إليه. وهو بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبهما وبالتقوى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه).

٤ - وفي الهدأة الوقور في هذه البيئة ازدهر العلم. على النحو الذي كان حريا بالمدينة، وبأهل البيت، من حفظ لحديث الرسول وتريث في النظر والمناظرة، وتلبث في إبداء الآراء، لما فيها من شبهة المخاطرة، وصدق في خدمة حديث النبي بالعمل به وتعليم الناس إياه.

وإنما اشتعلت الثورات، وشققت الفلسفات، في العراق. ففيها تعاقبت ثورات التوابين، والخوارج، والخارجين - كابن الزبير وابن الأشعث والآخرين - ومن غليان المراجل هنالك أحدثت المبادئ الهدامة أو الغلواء أو الخصومات آثارها، كمثل ما نسب إلى عبد اللّه بن سبأ أو غيره من عقائد الغلاة الذين تبرأ منهم الشيعة، كما تبرأ الإمام علي ممن ألهوه، فحرقهم بالنار.

لكن آراء الغلاة وأعداء الإسلام لم تكن تكاد تفد على المدينة حتى تخرج منها واهنة أو محطمة.

ففي جوها النقي، تفتحت أبواب بيت النبي، وتخرج في علومها الأئمة.

(زين العابدين) ٣٨ - ٩٤

تعاظم بيت زين العابدين في عدد أفراده يوما بعد يوم، وقدم « السجاد » لنا ابنه « الباقر »، ثم قدم الباقر ابنه «الصادق». فكانوا مثلا عليا في العزوف عن السلطة والانصراف إلى تعليم الناس العلم الصحيح والعمل الصالح والأسوة الحسنة.

روى عن جابر بن عبد اللّه وابن عمر إلى جوار روايته علم أهل البيت وحديثهم عن أبيه الحسين وأم المؤمنين أم سلمة. وسمع ابن عباس. ليروي عنه فيما بعد ابناه عبد اللّه والباقر وخلق كثير. ورأى بعيني المريض العاجز عن الاستشهاد، مصاير أبيه العظيم، وإخوته وأعمامه وأولادهم يوم كربلاء.

١٠٤

وتجلت فيه الفضائل المنبثقة من الورع والرحمة: يصلي للّه في اليوم والليلة ألف ركعة. ولهذا سمي «السجاد». إذا توضأ اصفر لونه وإذا قام أرعد من الفرق. ولما سألوه قال: أتدرون من أريد أن أقف بين يديه ومن أناجي ؟

ومع تألق عبد اللّه بن جعفر بالمدينة، وهو الصحابي الذي يحرص الخلفاء في دمشق على مرضاته، وتفريق عبد اللّه عطاءه الجزل في فقراء المدينة، واستشهاد ابنين له يوم الحرة، وثالث في كربلاء، ومع أنه زوج بنت علي، عمة زين العابدين، مع هذا كله كان زين العابدين يحتل مكانه في الصدارة، ويحمل وصفه بجدارة.

وفي ذلك نص يروى عن مالك بن أنس قال: (سمي زين العابدين لعبادته).

علمته المحنة والورع الحكمة وحسن الخطاب، فكان في باكورة حياته على علم عظم. قال له يزيد يوم أدخل عليه - مريضا - مع نساء أهل البيت الناجيات من كربلاء - أبوك الذي قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع اللّه به ما قد رأيت. قال زين العابدين (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها)

قال يزيد: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم).

قال زين العابدين: (هذا في حق من ظلم لا من ظلم(١) ).

تتابع على الكذب ولاة الشام والأمصار من عهد معاوية يشتمون عليا بأمر بني أمية، فكان يبقي من كذبهم شيء في عقول العامة، أو الصبية الذين لا يعلمون.

___________________

(١) ولما جيء بزين العابدين في أسرى كربلاء أقيم على درج دمشق. فقال له رجل من أهل الشام: الحمد للّه الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة. قال زين العابدين: قرأت القرآن؟ قال الرجل: نعم. قال: قرأت الـ . حم؟ قال الرجل نعم. قال: أما قرأت (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) قال الرجل: فإنكم إياهم؟ قال نعم. ويقصد الإمام الآية ٢٣ من سورة الشورى (ذلك الذي يبشر اللّه عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن اللّه غفور شكور) وأول آيات سورة الشورى (حم).

١٠٥

كان عبيد اللّه بن مسعود من فقهاء المدينة السبعة. وكان معلم عمر ابن عبد العزيز وهو صبي أودعه أبوه أخواله - بني عدي قوم عمر ابن الخطاب - بالمدينة. فسمع يوما شتم علي. فقال لعمر: يا بني. متى علمت أن اللّه غضب على أهل بدر؟ قال الصبي: وهل كان علي في بدر؟ قال عبيد اللّه: وهل كانت بدر كلها إلا لعلي

فلما ولي عمر الخلافة أبطل شتم أهل البيت. ورد إليهم حقوقهم. وقال رجل من أنصار الأمويين بالشام: دخلت المدينة فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا ثوبا ولا سمتا ولا دابة منه. فسألت فقيل هذا علي بن الحسين بن علي. فأتيته - وقد امتلأ قلبي له بغضا - فقلت له: أنت ابن علي بن أبي طالب؟ قال: أنا ابن ابنه. فقلت: بك وبأبيك أسب عليا. فلما انقضى كلامي قال: أحسبك غريبا ؟. مل بنا إلى الدار فان احتجت منزلا أنزلناك. أو إلى مال واسيناك. أو إلى حاجة عاوناك على قضائها. فانصرفت من عنده، وما على الأرض أحد أحب إلي منه.

ويروى أنه احترق البيت الذي هو فيه وهو قائم يصلي. فلما انصرف (من الصلاة) قيل له ما بالك لم تنصرف حين اشتعلت النار؟ قال: اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى.

وأنه لما حج وأراد أن يلبي أرعد. واصفر وخر مغشيا عليه. فلما أفاق سئل فقال: إني لأخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك. فيقول: لا لبيك ولا سعديك - فشجعوه حتى لبي. فغشي عليه حتى خر عن راحلته . وكان يرحل من المدينة إلى مكة فلا يقرع راحلته مرة واحدة

يقول الأصمعي (لم يكن للحسين رضي اللّه عنه عقب إلا من ابنه زين العابدين. ولم يكن لزين العابدين نسل إلا من ابنة عمه الحسن، فجميع الحسينيين من نسله).

أما أكبر صدقته فبالليل. يقول: (صدقة الليل تطفئ غضب الرب). ومع عظم مكانه كان إذا دخل المسجد تخطى الرقاب حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم، إذا كان هنالك. فيقول له نافع بن جبير بن مطعم: أنت سيد الناس. تأتي تتخطى خلق اللّه وأهل العلم من قريش حتى تجلس مع هذا العبد الأسود؟ فيجيب (إنما يجلس الرجل حيث ينتفع. وإن العلم يطلب حيث كان).

١٠٦

ولقد كان يريد أن يجلس إلى سعيد بن جبير وقيل له ماذا تصنع بلقاء سعيد؟ فأجاب (أريد أن أسأله عن أشياء ينفعنا اللّه بها)(١)

وزين العابدين لا ينسى أن النبي أمر زيد بن حارثة - وكان مولى النبي - على جعفر بن أبي طالب وجعل له القيادة، فإن قتل كانت لجعفر، فإن قتل كانت للصحابي عبد اللّه بن رواحة.

وزين العابدين بهذا يضع السوابق لأهل البيت ليتعلموا العلم المقارن من فقه المسلمين كافة. ولذلك سيجلس ابنه الباقر إلى نافع مولى ابن عمر. وسيجلس حفيده الصادق إلى عكرمة(١٠٣) مولى ابن عباس وإلى عطاء بن أبي رباح(١١٤) مولى قريش، يجلس في المسجد الحرام مجلس ابن عباس. كما يجلس الصادق إلى عبد اللّه بن أبي رافع مولى أمير المؤمنين علي.

فإذا جلس زين العابدين في المسجد جلس بين القبر والمنبر، وانعقدت حلقة كحلقة أبيه في روضة كرياض الجنة، يقول عنها القائل (إذا دخلت مسجد رسول اللّه فرأيت حلقة كأن على رءوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد اللّه مؤتزرا إلى أنصاف ساقيه).

ولقد يتحدث مع سليمان بن يسار(١٠٧) مولى أم المؤمنين ميمونة إلى ارتفاع الضحى. فإذا أرادا أن يقوما قرأ عليهما عبد اللّه بن أبي سلمة سورة، فإذا فرغ عبد اللّه من التلاوة دعوا اللّه سبحانه.

___________________

(١) وهو بهذا يعلم الجميع أن العلم شرف يسعي إليه الشرفاء. ولو كانوا قمة الشرف. والنبي رسالته التعليم. ومن ذلك كان تنافس أبناء الصحابة على أن يتعلموا العلم وأن يعلموه وكانت المشقة واقتحام المخاطر والفلوات لتحصيله وإنفاقه في الناس. يستوي في ذلك من لا مال عنده كابن حنبل ومن عنده الأموال كيحيى بن معين، كان عنده مليون درهم أنفقها في تحصيل الحديث. أو كابن حزم، قال له أبو الوليد الباجي - عالم المالكية: أنا أعظم منك همة في طلب العلم. أنت طلبته وأنت تعان عليه. تسهر بمشكاة الذهب. وأنا طلبته وأنا أسهر بقنديل السوق. وأجابه ابن حزم: أنت طلبته في حال فاقة تريد تبديلها لمثل حالي. وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته. لا أرجو إلا علو القدر في الدنيا والآخرة .

١٠٧

ولقد يدخل ابن شهاب الزهري(١٢٤) وصحبه فيسأله فيم كنتم ؟ فيجيبه أنهم كانوا يتذاكرون الصوم وأنهم لم يروه واجبا إلا في رمضان فيقول السجاد: الصوم على أربعين وجها. ثم يشرحها له وجها وجها. فمنها ما يجب. ومنها ما هو بالخيار أو الإباحة. إلخ.

وفي علمه يقول محمد بن سعد. صاحب الطبقات (كان زين العابدين ثقة مأمونا كثير الحديث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . عالما. ولم يكن من أهل البيت مثله) ويقول الزهري (ما رأيت أفقه من زين العابدين لولا أنه قليل الحديث)

وهذه الشهادة بالفقه من شيخ مالك بن أنس تعلن رأى جيل التابعين.

بل إن الزهري يعلن مكانة زين العابدين بين كل الأحياء بقوله (ما رأيت قرشيا أفضل منه). قصد إليه يوما، ونفسه تكاد تبسل من ذنب ألم به. فرده الإمام إلى صميم الإسلام قال (قنوطك من رحمة اللّه التي وسعت كل شيء أعظم من ذنبك).

والشافعي الذي يقول في ابن شهاب الزهري (لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة) يضع زين العابدين في أعلى مكان. فيعده أعلم أهل المدينة.

كان كثير البكاء من يوم كربلاء. فقيل له في ذلك فقال (إن يعقوبعليه‌السلام بكى حتى ابيضت عيناه من الحزن على يوسف - ولم يتحقق موت يوسف - وقد رأيت بضعة عشر رجلا من أهلي يذبحون في غداة واحدة).

١٠٨

وربما فسر لنا هذا المقال بعض أسباب انصرافه إلى تعليم المسلمين دينهم، لصلاح دنياهم، وإجماع المسلمين على إجلاله(١) .

وفي سنة ٩٤، سنة الفقهاء، مات جمع من فقهاء المدينة، عروة ابن الزبير، والسعيدان: ابن جبير وابن المسيب. وأبو بكر بن عبد الرحمن. وارتفعت فيها أو في سنة ٩٥ روح زين العابدين إلى الرفيق الأعلى. مخلفا أربعة عشر ولدا منهم عشرة رجال كبيرهم محمد، أبو جعفر، المكنى بالباقر، وفيهم زيد بن علي.

___________________

(١) حج هشام بن عبد الملك في خلافة أبيه - فرأى رجلا ينجفل الناس إليه، ويفسحون في الطواف له، في حين لا يحفل الناس بابن الخليفة، فسأل من هذا؟ وسمع الفرزدق السؤال. فأنشد ميميمته الطويلة المشهورة في الأدب العربي ومما جاء فيها:

هذا ابن خير عباد اللّه كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت

عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يغضي حياء ويغضى من مهابته

فلا يكلم إلا حين يبتسم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجده أنبياء اللّه قد ختموا

اللّه شرفه قدراً وعظمه

جرى بذاك له في لوحه القلم

وليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

ما قال « لا » قط إلا في تشهده

لولا التشهد كانت لاؤه نعم

من معشر حبهم دين. وبغضهم

كفر. وقربهم منجى ومعتصم

من يعرف اللّه يعرف أولية ذا

فالدين من بيت هذا ناله الأمم

وغضب هشام وأرسل زين العابدين للفرزدق أربعة آلاف درهم، ردها الفرزدق قائلا: إنما مدحتك بما أنت أهله وردها الإمام قائلا: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده.

١٠٩

(الباقر) ٥٧ - ١١٤

انصرف الإمام محمد الباقر للعلم بكله. فهذا أول دروس أبيه له. بقر العلم أي تبحر فيه. فسمي الباقر.

روى علم أبيه وجديه الحسين والحسن وجد أبيه - علي - وجادل عبد اللّه بن عباس.

وعنه روى بقايا الصحابة والتابعين. وكان يقصد الحسن البصري ونافعا مولى ابن عمر.

سأل سائل عبد اللّه بن عمر في مسجد الرسول فأشار إلى حيث يجلس الباقر وقال (اذهب إلى هذا الغلام وسله وأعلمني عما يجيبك) فلما عاد إليه بالجواب قال (إنهم أهل بيت مفهمون)

وروى عنه الفطاحل: أخوه زيد وابنه جعفر الصادق. ثم الأوزاعي إمام الشام. وابن جريج إمام مكة. وأبو حنيفة. وعبد اللّه بن أبي بكر ابن حزم شيخ مالك إمام المدينة. وحجاج بن أرطاة(١٤٥) ومكحول ابن راشد. وعمرو بن دينار(١١٥). ويحيى بن كثير(١٢٩). والزهري(١٢٤)، وربيعة الرأي(١٣٦). شيخا مالك. والأعمش(١٤٨) والقاسم بن محمد بن أبي بكر(١٠٦) وابان بن تغلب(١٤١) وجابر الجعفي(١٢٨) وزرارة بن أعين(١٥٠) والثلاثة الأخيرون من كبار علماء الشيعة ورواة ابنه جعفر الصادق.

يقول محمد بن المنكدر - شيخ مالك بن أنس - في الباقر (ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفا يقاربه في الفضل حتى رأيت ابنه محمداً الباقر).

وما هو في سجاياه إلا خليفة « السجاد ». يطوف بالبيت فيركع، ويسجد، فإذا مكان سجوده قد بلله الدمع .

يقول عنه الحسن البصري: (ذلك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء).

١١٠

عايش الباقر أباه زماناً طويلا، ولم يمتحن محنة أبيه في كربلاء، أو محنة أخيه زيد إذ أخرجه أهل الكوفة وخذلوه، ولم تعتور حياته الامتحانات المتعاقبة التي اعتورت حياة ابنه - الإمام الصادق - أو خلافات بني عمومته - أبناء الحسن - أو الإرهاب الفكري أو الفعلي من الخليفة المنصور - فأتيح للباقر أن يبلور اتجاه أهل البيت - من نسل الحسين - إلى العلم والتعليم، ويبرز فيه العناية بفقه العبادات والمعاملات. وكثر ترديد اسمه مصاحبا لاسم ابنه الإمام الصادق في كتب الفقه الشيعي. وإليه يرجع أصحاب الكلام في العقائد الشيعية، وكثير من الفقه المستنبط من القرآن والسنة.

روى عنه جابر الجعفي أكثر من خمسين ألف حديث وروى عنه محمد بن مسلم ثلاثين ألفا. وكان عبد الملك بن مروان يعرف له حقه، وهو في صدر شبابه، في حياة أبيه.

إليك أمثالا لفكره في السياسة والفقه والتفسير:

- روى الكسائي: دخلت على الرشيد فقال: هل علمت أول من سن الكتابة على الذهب والفضة؟ قلت عبد الملك بن مروان. قال ما السبب؟

قلت لا أعرف:

قال: كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر على دينهم. وكانت تطرز (أبا وابنا وروحا) وتخرج من مصر تدور في الآفاق. فأمر عبد العزيز - وكان عامله على مصر - بإبطال ذلك. وأن تطرز بصورة التوحيد. مشهداً اللّه ألا إله إلا هو . فلما وصلت القراطيس إلى ملك الروم كتب إلى عبد الملك إن لم يرد هذا الطراز على ما كان عليه فسينقش على القراطيس شتم النبي. فاستشار عبد الملك، فلم يجد عند أحد رأيا، فاستشار الباقر.

فقال له: لا يعظم عليك هذا الأمر من جهتين. الأولى: أن اللّه عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم. والثانية أن تتهدد من يتعامل بغير دنانيرك. فلما علم ملك الروم أن دنانيره سيبطل التعامل بها إن حوت شتما، كف عما تهدد به.

- وفي الاحتكار ورفع الأسعار. يقول في مسجد الرسول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « أيما رجل اشترى طعاما فكبسه أربعين صباحا، يريد غلاء المسلمين، ثم باعه فتصدق بثمنه، لم يكن كفارة لما صنع ».

١١١

- واليمين عند الشيعة لا تنعقد إلا قسما باللّه وأسمائه الحسنى وصفاته الدالة عليه صراحة)، فمن حلف بغيرها لا يحنث إذا لم يفعل. سئل الباقر عن قوله تعالى (والليل إذا يغشى) (والنجم إذا هوى) وما إلى ذلك فأجاب: إن اللّه عز وجل أن يقسم بما شاء من خلقه وليس لخلقه أن يقسموا إلا به.

- وسئل: أبا الناس حاجة إلى الإمام؟ فأجاب: أجل. ليرفع العذاب عن أهل الأرض. وذكر قوله تعالى (وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم).

تعاقب على الخلافة في حياة الباقر أربعة من أبناء عبد الملك وزوج ابنته عمر بن عبد العزيز - خامس الراشدين في مدة خلافته - وكان عمر يتردد على الامام الباقر يستنصحه. والباقر يوصيه بالمسلمين أجمعين - فيقول له بين ما يقول (أوصيك أن تتخذ صغير المسلمين ولدا. وأوسطهم أخا. وأكبرهم أبا. فارحم ولدك. وصل أخاك. وبر والدك. فإذا صنعت معروفا فربه) أي تعهده.

وكان نشر التشيع لأهل البيت همه. قال سعد الإسكافي: قلت لأبي جعفر الباقر (اني أجلس فأقص وأذكر حقكم وفضائلكم) قال: (وددت لو أن على كل ثلاثين ذراعا قاصا مثلك).

وحج هشام بن عبد الملك في أيام ملكه(١٠٥ - ١٢٥) فرأى الباقر بالمسجد يعلم الناس في مهابة وجلال، تعاليم الإسلام وآدابه وفرائضه وأحكامه والناس خشع في مجلسه. وغلبت هشاما غريزة المعاجزة لأهل البيت. فبعث إليه من يسأله: ما طعام الناس وشرابهم يوم المحشر؟ وأجابه الباقر بآيات الكتاب الكريم. واستطرد في تعليمه وتعليم من أرسله.

وسمعه الحجيج - عامئذ - يقول للناس (الحمد للّه الذي بعث محمدا بالحق نبياً وأكرمنا به. فنحن صفوة الناس من خلقه وخيرته من عباده وخلفائه. فالسعيد من تبعنا. والشقي من عادانا).

ورجع هشام إلى عاصمته . فأرسل في دعوة الباقر، وابنه الصادق، إلى قصبة الملك في دمشق.

١١٢

يقول الصادق: (فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثا. ثم أدخلنا في اليوم الرابع) . وكأنما أراد هشام أن يظهرهما على أنه إذا لم تكن له مكانة في جوار البيت العتيق ومسجد الرسول أو كانت الكرامة كلها، في الحج الأكبر، لأهل البيت، فإن له بيتا في دمشق وحجابا ومواعيد.

والباقر، كالأئمة من أبنائه، يفضلون عليا على سائر الصحابة. لكنهم لا يبرءون من الشيخين:

يقول لجابر الجعفي (يا جابر بلغني أن قوما بالعراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما. ويزعمون أني أمرتهم بذلك. فأبلغهم أني إلى اللّه منهم بريء. والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى اللّه بدمائهم. لا نالتني شفاعة محمد أبداً إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليهما).

وهو لا يترحم عليهما فحسب. ولكنه يأمر تلميذه بأن يتولاهما. وأن يبرأ من أعدائهما. يقول لتلميذه سالم (يا سالم. تولهما. وابرأ من عدوهما. فإنهما كانا إمامي هدى رضي اللّه عنهما). بل إنه يتخذ عمل أبي بكر حجة في الفقه: سئل عن حلية السيف فجوزها، قال (لا بأس به قد حلى أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه سيفه).

قال السائل: وتقول الصديق؟ فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال (نعم الصديق. فمن لم يقل الصديق فلا صدق اللّه له قولا في الدنيا والآخرة).

وفي سنة ١١٤ اختاره اللّه إلى جواره لتبدأ إمامة ابنه جعفر الصادق.

١١٣

الفصل الثاني : إمام المسلمين

(إن اللّه أراد منا شيئاً وأراد بنا شيئاً. فما أراده بنا طواه عنا. وما أراده منا أظهره لنا. فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا).

(الإمام الصادق)

إمام المسلمين

ولد الإمام الصادق في السابع عشر من ربيع الأول سنة ٨٢ على قول، أو غرة رجب. وفي أقوال أخرى أنه ولد سنة ٨٠ أو سنة ٨٣. وتتابع بعده أبناء الباقر، ولهذا يكنى الباقر أبا جعفر. أما أخوه الشقيق فعبد اللّه.

وأما أولاد الصادق فإسماعيل وعبد اللّه - وبه يكنى أبا عبد اللّه - وأم فروة من زوجته فاطمة بنت الحسين.. بن الحسين بن علي، وموسى (الكاظم) واسحق ومحمد. وأمهم أم ولد، تدعى حميدة. والعباس وعلي وأسماء من أمهات متفرقات.

واسم جعفر في بيت زين العابدين مذكر بأول الشهداء من بيت أبي طالب. فعلي هو الثاني فيه. والحسين هو الثالث.

أما الأول فجعفر بن أبي طالب قائد جيش مؤته وشهيدها، الطيار في الجنة، وذو الجناحين. كما وصفه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وكما روى البخاري ومسلم: قال له رسول اللّه (أنت أشبهت خلقي وخلقي).

وهو أول زوج لأسماء بنت عميس(١) جدة أم فروة أم: جعفر الصادق.

ولقد مر بنا كيف ولده رسول اللّه مرتين، وعلي مرتين، والصديق مرتين، ليدل التاريخ على أنه نسيج وحده. وأن كسرى يزجرد ملك الفرس قد ولده مرتين. ليدل على أن الإسلام للموالي والعرب.

___________________

(١) يقال عن أمها « هند » أكرم الناس أحماء: أما أسماء فزوج جعفر ولها منه عبد اللّه. وزوج أبي بكر ولها منه محمد. وزوج علي ولها منه يحيى. أما أخواتها فميمونة أم المؤمنين ولبابة زوج العباس عم النبي وجدة خلفاء الدولة العباسية. وسلمى زوج حمزة بطل أحد وشهيدها وعم النبي. وأم الفضل الكبرى (أخت أسماء لأمها) أم خالد بن الوليد. وهكذا تتصل بأسماء بنت عميس أسماء هي أحرف الهجاء في تاريخ الإسلام: النبي وعميه وابني عمه والصديق وسيف الإسلام خالد.

١١٤

فالباقر - وهو من هو - أكفأ الناس لأم فروة(١) المنحدرة من صلب أبي بكر أول الخلفاء الراشدين، والقاسم بن محمد(٢) الذي يرشحه للخلافة عمر بن عبد العزيز - خامس الخلفاء الراشدين.

وكأنما سلم الباقر ابنه شعار حياته في مقولتين صيرتاه ربانيا من كل وجه. الأولى (شيعتنا من أطاع اللّه) والثانية (إن اللّه خبأ رضاه في طاعته. فلا تحقرن من الطاعات شيئاً فلعل رضاه فيه. وخبأ سخطه في معصيته. فلا تحقرن من معصية شيئاً فلعل سخطه فيه وخبأ أولياءه في خلقه فلا تحقرن أحداً فلعله ذلك الولي).

تلقى الصادق من أبيه كل ما وعاه قلبه وقرأ كل ما حوته كتبه. واستمع إلى علماء العصر. وانتفع بعلوم جده لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر(١٠٦) وكان مثلا عاليا للأمة وواحداً من الأعمدة السبعة المسلمين «علماء المدينة السبعة»(٣) . يعلن عمر بن عبد العزيز أنه «لو لا خوف الفتنة من بني أمية لاستخلفه على الأمة» ويوصي عمر عماله أن يكتبوا السنن من عنده. فهذا رجل له ورع عمر بن عبد العزيز، وعنده كل علم المدينة، وإنه ليستطيع أن يقول - من صلة على الوثقى بأبيه محمد بن أبي بكر - إنه أوثق أهل بيته صلة برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبأول من تبعه، عليا كان أو أبا بكر بل بهما معا.

___________________

(١) حجت أم فروة متنكرة فاستلمت الحجر بيدها اليسرى فقال لها رجل لا يعرفها: يا أمة اللّه أخطأت السنة فأجابت يا هذا إنا عن علمك لأغنياء.

(٢) وللقاسم وأبيه أكبر الصلات بأم المؤمنين عائشة. إذ ضمته إليها بعد مقتل أبيه محمد، على أيدي جند معاوية. ومحمد ربيب علي. سيره معها بعد وقعة الجمل إلى المدينة في كوكبة من النساء في ملابس الرجال. وكان تسيير أخيها معها كرامة يحفظ بها أخو الرسول أم المؤمنين.

وفي بيت عائشة سقي القاسم علمها الذي أراد عمر بن عبد العزيز تدوينه عن طريقه، وعمر خليفة، حتى لا يضيع علم المدينة. فكتب بذلك إلى قاضيه وواليه على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم.

وسنرى الإمام جعفر الصادق يروي عن خاله عبد الرحمن بن القاسم وعن عروة بن الزبير (ابن أسماء أخت عائشة). وعروة من كبار رواتها ورواة الصحابة.

(٣) يقول فيه يحيى بن سعيد(١٤٣) تلميذ فقهاء المدينة السبعة (ما أدركنا بالمدينة أحدا نفضله على القاسم) وابن حنبل يقول في يحيى (أثبت الناس).

١١٥

وعندما نذكر أن القاسم بن محمد ظل مصدراً للعلم حتى شارف الصادق ربع القرن من حياته، وأن الصادق شهد حلقات عكرمة مولى ابن عباس،(١٠٤) وعطاء بن أبي رباح، بمكة حيث كان يجلس ابن عباس، وأن أوامر الولاة في الموسم كانت (لا يفتي الناس إلا عطاء)، كما شهد بالمدينة حلقة عبد اللّه بن أبي رافع - مولى أمير المؤمنين علي - الذي أملى علي عليه كتابه إلى معاوية ، وحلق خاله عبد الرحمن بن القاسم، وعروة بن الزبير (٩٤) الراوية عن خالته عائشة، ومحمد بن المنكدر(١٣٠) شيخ مالك، فليس علينا أن نحاول البحث عما تلقاه جعفر بن محمد الصادق في صباه.

ولقد كان علم أهل البيت حسبه - فكيف إذا اجتمع إليه علوم هؤلاء، ليملأ بالفقه الشيعي وبالفقه المقارن مدينة الرسول، من يوم مات أبوه وهو بعد في ثلاثيناته.

والصبي من « أهل البيت » لا ينفق صباه في «عمل لا شيء» فذلك هو اللهو. أو في «عدم عمل شيء». فهذا هو الفراغ . وعلى الأجيال المتعاقبة منهم تبعات في تعاقب الإمامة. لا تدع لهم محيصا عن الإحاطة الكاملة بما لدى غيرهم من علم، فوق علمهم وما هو إلا القرآن والسنة والسيرة. والقرآن كما يقول ابن عباس «في بيتهم نزل». والسنة من بيتهم صدرت. والسيرة سيرتهم.

واللغة طريق ذلك كله، وهي بعد حصيلته. وإنك لتدرك منزلة جعفر بن محمد في البيان العربي من تداوله للتفسير في اقتدار على تخريج المعاني لا قرين له. وسنراه غداً عمدته النصوص في الفقه والدين، يستخرج منها أعمق المعاني بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، شأن أمراء البيان. ومن تكن النصوص عمدته الأولى، فالبلاغة عدته الكبرى.

ولئن لم يتميز الأطفال أو الصبية في بيت زين العابدين والباقر بخصوصيات تكبر وتنمو فتبرز إذ هم شيوخ وأئمة، إن بيت زين العابدين ذاته كان «خصوصية» في مجتمع الإسلام. فيه المثل الأعلى من العلم المحيط والورع الكامل والتفرغ للخدمة العامة، وتعلق القلوب به، واتجاه الأبصار تلقاءه. على هذا درج بيت زين العابدين، مع الاستمرار والاستقرار. فلم يعكر الصفوفيه غير مصرع زيد في سنة ١٢١، بعد إذ خذله أهل الكوفة في مخرجه، فمصرع ابنه يحيى. وحمل الصادق الأمانة في ذوي رحمه - منذ صار إماما بوفاة الباقر سنة ١١٤ - فكان يحنو على الأحياء من أبناء عمه زيد، ويأسو جراحات من سقط أباؤهم في الحرب من رجال زيد، فبعث ألف دينار فرقت في ورثتهم.

١١٦

وليس أحد بحاجة في ترجمة أئمة أهل البيت ليسترسل في وصف خصال من يرث أخلاق الأنبياء ويعلمها.

فلنستحضر، ونحن في بيت النبي، ما كان يصنعه النبي، ولنتيقن أن الإمام الصادق كان يحاول أن يصنع نظيره. ولنستحضر فعال علي وزهراء النبي، والحسن والحسين، وزين العابدين، والباقر. فهي أصول يتلقاها الخلف عن السلف، ليعملوا بها، ثم يعلموا بها.

وربما أجزأ في هذا المقام ذكر أمثال عادية من الحوادث اليومية تصور صميم «الشخصية». وفيما نذكره دلايل على كثير لم نذكره.

فحياة الإمام مدرسة وتطبيقاتها. والعمر أيام تتكرر. والحياة جماع أعمال يدل بعضها على البعض الآخر. ومنها الجزئي الذي يستنبط منه الكلي. وكثيراً ما كان العمل الواحد (رد فعل) عفوي أو فوري، صادراً عن عدة قواعد يجري عليها العقل أو الشعور أو السليقة أو الطريقة - فردود الأفعال شهادات عيان بدخائل الإنسان.

١ - مات بين يدي الإمام ولد صغير فبكى وقال « سبحانك ربي لئن أخذت لقد أبقيت. ولئن ابتليت لقد عافيت».

وحمله إلى النساء. وعزم عليهن ألا يصرخن. وقال « سبحان من يقبض أولادنا ولا نزداد له إلا حبا. إنا قوم نسأل اللّه ما نحب فيعطينا. فإذا نزل ما نكره فيمن نحب رضينا».

فأي قلب، في اطمئنانه واتزانه، كمثل ذلك الذي يفيض بالشكر، حيث يغيض الصبر عند الغير.

٢ - ونهى أهل بيته عن الصعود - فدخل يوما فإذا جارية من جواريه تربي بعض ولده، قد صعدت السلم، والصبي معها. فلما نظرت الإمام ارتعدت لعصيانها وسقط الصبي من يدها. فمات. فخرج الصادق متغير اللون. فسئل عن ذلك فقال (ما تغير لوني لموت الصبي. وإنما تغير لوني لما أدخلت على الجارية من الرعب) ثم قال لها بعد ذلك (أنت حرة لوجه اللّه. لا بأس عليك).

١١٧

فهذا أمر واحد عادي، تبعته وقائع ثلاثة غير عادية، أعقبها من الإمام تصرفات لا تصدر إلا عن الإمام. في كل واحدة منها أنواع فضائل. تبدأ باحترام إنسانية الإنسان. وتنتهي بعطاء، دونه كل عطاء، يختمه بالكلمة الطيبة - لا بأس - ويبدؤه بأعلى القيم الإنسانية. إذ يمنحها حريتها.

٣ - وذهب مرة يعزى أحد المصابين بفقد ولده. وانقطع في الطريق شسع نعله، فتناوله من رجله ومشى حافيا. فخلع ابن يعفور شسع نعله وقدمه له. فأعرض عنه كهيئة المغضب وقال لا. فصاحب المصيبة أولى بالصبر عليها .

فالإمام لا يلقي متاعبه على من دونه. بل يتحمل الأذى ليتعلم الناس وجوب العمل، ولزوم التحمل. وليعلم الكبراء أنهم كبراء بما يضربونه من المثل. وليدرك الجميع أن الصبر على المصيبة شطر الإيمان. وأحق الناس به من أتيحت الفرصة له.

٤ - وذات يوم دعا للطعام عابر سبيل لم يقرئه السلام. فراجعه حضاره متسائلين بين يديه: أليست السنة أن يسلم الرجل أولا، ثم يدعى للطعام؟ فأجاب الإمام «هذا فقه عراقي فيه بخل».

ففقه الإمام «علوي» يبدأ بالعطاء. وعملي فيه مبادرة. واجتماعي يسعى به المعطي إلى الآخذ. وإسلامي، إنساني، كله كرامة.

لقد ولد في دار شعارها البدار، بالعطاء مع الإخفاء. حتى الصدقة يقول فيها الباقر «أعط ولا تسم. ولا تذل المؤمن».

وفي ذلك السنة . وسنرى تطبيقات شتى من الإمام لهذا الفقه في المنهج الاقتصادي .

٥ - وصحا رجل من الحاج فلم يجد هميانه (الكمر الذي يلفه المحرم حول بطنه وفيه نفقته من النقود) فخرج فوجد الإمام الصادق يصلي فتعلق به وهو يقول: أنت أخذت همياني.

قال الصادق كم كان فيه؟ قال: ألف دينار. فأعطاه ألف دينار.

ومضى الرجل فوجد هميانه فرجع يعتذر ويرد ألف دينار. فأبى الصادق أن يأخذها وقال: شيء خرج من يدي فلا يعود.

١١٨

قال الرجل لمن حوله: من هذا ؟.

قالوا: جعفر الصادق. قال: لا جرم هذا فعال مثله.

فإمام المسلمين لا ينعزل عنهم، فلا ينماز منهم، حتى ليخطئ الجاهلون منهم في شخصه. فيعرض عن الجاهلين. ويخف ليخفف كرب المكروب، لا يحزنه وهمه أو اتهامه، وإنما تحزنه همومه. فيشركه فيها بالصنيع النابه مرة إثر أخرى.

والناس أسمع للصوت الذي لا صرير له. وأبصر بالإخلاص الذي لا يتصايح صاحبه به. والأفضال أفعال تدرك آثارها الحواس الخمسة.

ولا نستطرد في السرد. ففي كل واقعة سلفت « عدسة » صغيرة تريك العالم الكبير الذي وراءها، من مناقب كالنجوم وإن كان أصحابها من البشر. هذه سماء تسعى على الأرض. وهؤلاء بقية النبي عليه الصلاة والسلام، يعيشون في الدنيا.

مجالس العلم

شهد الإمام الصادق انحدار الناس بعد عصر الخلفاء الراشدين، ورأى بعين الصبى المأمول من أهل بيت الرسول ما صنعه عمر بن عبد العزيز في خلافته بين سنتي ٩٨، ١٠١ إذ أعاد الدين غضا في نحو من ثلاثين شهرا، وأثبت للدنيا، أن (المدة) كما سمي الناس خلافته، كانت كافية لتعيد الناس إلى الإسلام الصحيح عندما يوجد خليفة صادق العزم، يتخذ الخلافة - كما قال - سبيلا إلى الجنة.

وكان بعض الصالحين يستعجلون عمر ليصنع كل ما صنع في أول يوم ولي الخلافة. قال له ابنه عبد الملك، (يا أبت ما بالك لا تنفذ الأمور، فو اللّه لا أبالي في الحق لو غلت بي القدور) لكن عمر كان يتأتى للأمور في رفق وأناة وإصرار. قال (لا تعجل يا بني إن اللّه تعالى ذم الخمر مرتين، وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة، فتكون فتنة). وبهذا قدر على أن يرد المظالم وأغنى اللّه الناس على يديه. فأصبح عمر لا يجد فقراء يوزع المال عليهم. في المدينة أو في القرية.

١١٩

لكن الإمام «الصادق» تعلم من حياة الخليفة الصادق العزم: أن إصلاحاته لم تؤت ثمارها بعد مماته، إذ دمرها الخلفاء الذين جاءوا بعده، وتتابع الباقون يدمرون.

وشهد الإمام الصادق مقدم بني العباس وكيف ناقضوا شعارات دولتهم وحكموا حكم جاهلية.

هكذا رأى رأي العيان أن صلاح الأمر لا يكون بتولي السلطة، أو بمجرد إصلاحها مدة قصيرة أو طويلة وكل عمر قصيرة. وإنما الصلاح في إصلاح الأمة. فكيفما تكونوا يولى عليكم. ولكل أمة الحكومة التي تستحقها واستيقنت نفسه الصواب فيما صنعه أبوه وجده، وهو أن يعلموا الأمة. فإذا تعلمت صلحت فلم يستضعفها حكامها. وهي عندئذ تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر وتشركهم تبعاتهم. فالأمة القوية لا تظلم حكامها ولا يظلمونها.

وبشعار الثقة باللّه سبحانه (اللّه وليي وعصمتي من خلقه) وبنقش الخاتم الذي يعلن مصدر قوته (ما شاء اللّه. لا قوة إلا باللّه. استغفر اللّه) قصد إلى مجلس العلم، في مسجد النبي أو في داره، يستعمل البعد المكاني، حيث يجلس للتعليم في مدينة الرسول، والبعد الزماني، فهو تابعي يعيش في جيل التابعين وتابعي التابعين، والبعد الثالث وهو ارتفاع نسبه إلى النبي وعلي.

أما البعد الرابع فعمق علمه وعلم أبيه وجده.

في هذا المجلس المهيب بالمدينة أو بالكوفة، يجلس رجل ربعة. ليس بالطويل ولا بالقصير. أزهر له لمعان كالسراج. يسعى نوره بين يديه. رقيق البشرة، أسود الشعر جعده، أشم الأنف. أنزع قد انحسر الشعر عن جبينه فبدا مزهرا، له إشراق. وعلى خده خال أسود - المسلمون أيامئذ أحوج إليه ليعلمهم، منهم إليه ليحكمهم . كل ما يحيط به يوحى بالرجاء في فضل اللّه. فلما طعن في السن زاد جلالا وسناء وإحياء للأمل.

يلبس الملابس التي عناها جده عليه الصلاة والسلام حينما قال (كلوا واشربوا والبسوا في غير سرف ولا مخيلة.).

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333