زبدة التفاسير الجزء ٤

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609
المشاهدات: 15240
تحميل: 3772


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 609 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15240 / تحميل: 3772
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-06-X
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زويت(١) لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها».

وقال أبو جعفرعليه‌السلام : «هم أصحاب المهديّعليه‌السلام في آخر الزمان».

ويدلّ على ذلك ما رواه الخاصّ والعامّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوّل الله تعالى ذلك اليوم، حتّى يبعث رجلا صالحا من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا».

وقد أورد أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب البعث والنشور أخبارا كثيرة في هذا المعنى. وكذا ورد من طرقنا أحاديث كثيرة في ذلك، ومن أراد الاطّلاع عليها فليرجع إلى كتب أصحابنا، مثل كتاب الغيبة، وكشف الغمّة، وغيرهما من الكتب المطوّلة في هذا الباب.

( إِنَّ فِي هذا ) فيما ذكر من الأخبار، والمواعيد الزاجرة، والمواعظ البالغة( لَبَلاغاً ) لكفاية موصلة إلى البغية( لِقَوْمٍ عابِدِينَ ) لله مخلصين له. قال كعب: هم أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين يصلّون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان.

( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢) )

__________________

(١) زوى الشيء: جمعه وقبضه.

٣٦١

( وَما أَرْسَلْناكَ ) يا محمّد( إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) لأنّ ما بعثت به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم. فمن تبعك فإنّه فائز سعيد في الدارين، ومن لم يتّبع فإنّه شقيّ محروم حيث ضيّع نصيبه. ومثاله: أن يفجّر الله عينا غزيرة وسيعة، فيسقى ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا، ويبقى ناس مفرّطون عن السقي فيضيعوا. فالعين المفجّرة في نفسها نعمة من الله ورحمة للفريقين، ولكنّ الكسلان أوقع المحنة العظيمة على نفسه، حيث حرّمها من الرحمة الجليلة.

عن ابن عبّاس: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة للبرّ والفاجر، والمؤمن والكافر. فهو رحمة للمؤمن في الدنيا والآخرة، ورحمة للكافر بأن عوفي ممّا أصاب الأمم من الخسف والمسخ.

وروي: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجبرئيل لـمّا نزلت هذه الآية: «هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لـمّا أثنى الله عليّ بقوله:( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) (١) . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما أنا رحمة مهداة».

( قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) أي: ما يوحى إليّ إلّا أنّه لا إله لكم إلّا إله واحد.

واعلم أنّ «إنّما» لقصر الحكم على شيء، أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: إنّما زيد قائم، أي: لا يفعل سوى القيام، وإنّما يقوم زيد، أي: يقوم زيد لا غير. وقد اجتمع المثالان في هذه الآية، لأنّ( إِنَّما يُوحى إِلَيَّ ) مع فاعله بمنزلة: إنّما يقوم زيد، و( أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) بمنزلة: إنّما زيد قائم. وفائدة اجتماعهما: الدلالة على أنّ المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد، وأنّ الوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانيّة.

ويجوز أن يكون المعنى: أن الّذي يوحى إليّ. فتكون «ما» موصولة. وفي الآية

__________________

(١) التكوير: ٢٠.

٣٦٢

دلالة على أنّ صفة الوحدانيّة يصحّ أن تكون طريقها السمع.

( فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) مخلصون العبادة لله على مقتضى الوحي المصدّق بالحجّة.

( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) عن التوحيد( فَقُلْ آذَنْتُكُمْ ) أعلمتكم ما أمرت به، أو حربي لكم.

منقول من: أذن إذا علم، ولكنّه كثر استعماله فيما يجري مجرى الإنذار. ومنه قوله تعالى:( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) (١) .

( عَلى سَواءٍ ) مستوين في الإعلام به، لم أطوه عن أحد منكم، بل أكشفه لكم كلّكم. أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به، أو في المعاداة. أو إيذانا على سواء، لم ابيّن الحقّ لقوم دون قوم. وقيل: أعلمتكم أنّي على سواء، أي: عدل واستقامة رأي بالبرهان النيّر.

( وَإِنْ أَدْرِي ) ما أدري( أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ ) من غلبة المسلمين، أو الحشر، ولكنّه كائن لا محالة.

( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ) ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام( وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ ) من الإحن والأحقاد للمسلمين، فيجازيكم عليه.

( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ ) وما أدري لعلّ تأخير هذا الموعد استدراج لكم، وزيادة في افتتانكم، لينظر كيف تعملون( وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ) وتمتيع إلى أجل مقدّر تقتضيه مشيئته، ليكون ذلك حجّة عليكم، وليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة.

قل قرأ حفص: قال، على حكاية قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ ) اقض بيننا وبين أهل مكّة بالعدل، المقتضي لاستعجال العذاب، والتشديد عليهم. وهذا كدعائه عليهم بقوله: «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، واجعل سنيّهم كسنيّ يوسف». فماتوا بجدب حتّى أكلوا العلهز(٢) .

__________________

(١) البقرة: ٢٧٩.

(٢) العلهز: طعام من الدم والوبر كان يتّخذ في المجاعة. القاموس ٢: ١٨٤.

٣٦٣

( وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ ) كثير الرّحمة على خلقه( الْمُسْتَعانُ ) المطلوب منه المعونة( عَلى ما تَصِفُونَ ) من أنّ الشوكة لكم، وأنّ راية الإسلام تخفق أيّاما ثمّ تسكن، وأنّ الموعد به لو كان حقّا لنزل بالمسلمين. فأجاب الله دعوة رسوله، وخيّب أمانيّهم، ونصر رسوله عليهم وخذلهم، فعذّبوا ببدر.

٣٦٤

(٢٢)

سورة الحجّ

مدنيّة، وهي ثمان وسبعون آية.

في حديث أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ سورة الحجّ أعطي من الأجر كحجّة حجّها، وعمرة اعتمرها، بعدد من حجّ واعتمر فيما مضى وفيما بقي».

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «من قرأها في كلّ ثلاثة أيّام، لم يخرج من سنته حتّى يخرج إلى بيت الله الحرام، وإن مات في سفره أدخل الجنّة».

ولـمّا ختم سبحانه سورة الأنبياء بالتوحيد، والإعلام بأنّ نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة للعالمين، افتتح هذه السورة بخطاب المكلّفين، ليتّقوا الشرك ومخالفة دين الإسلام، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) )

٣٦٥

( يا أَيُّهَا النَّاسُ ) المراد المكلّفون، لأنّ غيرهم خارجون عن دائرة الخطاب.

فكأنّه قال: يا أيّها العقلاء البالغون.( اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) عذاب ربّكم باجتنابكم المعصية، كما يقال: احذر الأسد، والمراد: احذر افتراسه لا عينه.

ثمّ علّل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة، ليتصوّروها بعقولهم، ويعلموا أنّه لا يؤمنهم سوى التدرّع بلباس التقوى، فقال:( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ ) أي: شدّة تحريكها للأشياء، بحيث انزعج جميع الأشياء عن مقارّها ومراكزها. والإسناد مجازيّ. أو تحريك الأشياء فيها. فأضيفت إليها إضافة معنويّة، بتقدير «في». أو إضافة المصدر إلى الظرف على طريقة الاتّساع في الظرف، وإجرائه مجرى المفعول به، كقوله تعالى:( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) (١) أي: مكرهم فيهما. وقيل: هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها. وأضافها إلى الساعة لأنّها من أشراطها وآيات مجيئها.( شَيْءٌ عَظِيمٌ ) هائل لا يطاق.

( يَوْمَ تَرَوْنَها ) ترون الزلزلة أو الساعة. والظرف متعلّق بقوله:( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) . والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة. وفيه دلالة على أنّ الزلزلة تكون في الدنيا، فإنّ الإرضاع إنّما يتصوّر في الدنيا. وعن الأكثر أنّ ذلك يوم القيامة. فيكون تصويرا لهولها، وتفخيما لـما يكون من الشدائد، أي: لو كانت ثمّ مرضعة لذهلت.

و «ما» موصولة، أي: عن الّذي أرضعته. وهو الطفل. أو مصدريّة، أي: إرضاعها الولد.

وذكر مرضعة دون مرضع، لأنّ المرضعة هي الّتي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبيّ، والمرضع الّتي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به.

فقيل: مرضعة، ليدلّ على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه، لـما يلحقها من الدهشة.

__________________

(١) سبأ: ٣٣.

٣٦٦

( وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ) جنينها لشدّة هولها.( وَتَرَى النَّاسَ سُكارى ) على التشبيه، أي: كأنّهم سكارى من شدّة الخوف وفرط الفزع( وَما هُمْ بِسُكارى ) على الحقيقة، بل يضطربون اضطراب السكران( وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) فأرهقهم هوله بحيث طيّر عقولهم، وأذهب تمييزهم.

وقرأ حمزة والكسائي: سكرى، كعطشى وجوعى في عطشان وجوعان، إجراء للسكرى مجرى العلل.

وذكر الرؤية أوّلا على صيغة الجمع وثانيا على الإفراد، لأنّها أوّلا علّقت بالزلزلة، فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلّقة أخيرا بكون الناس على حال السكر، فلا بدّ أن يرى أثره كلّ أحد غيره.

روي عن عمران بن الحصين وأبي سعيد الخدري: نزلت هاتان الآيتان ليلا في غزوة بني المصطلق، وهم حيّ من خزاعة، والناس يسيرون، فنادى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحثّوا المطيّ حتّى كانوا حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرأهما عليهم، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة.

فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدوابّ، ولم يضربوا الخيام، والناس من بين باك وجالس حزين متفكّر. فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتدرون أيّ يوم ذاك؟

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم: ابعث إلى النار من ولدك. فيقول آدم: من كم وكم؟ فيقولعزوجل : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد إلى الجنّة.

فكبر ذلك على المسلمين وبكوا، وقالوا: فمن ينجو يا رسول الله؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبشروا فإنّ معكم خليقتين يأجوج ومأجوج، ما كانتا في شيء إلّا كثّرتاه. ما أنتم في الناس إلّا كشعرة بيضاء في الثور الأسود، أو كرقم في ذراع البكر(١) ، أو كشامة(٢) في جنب البعير.

__________________

(١) البكر: الفتيّ من الإبل.

(٢) الشامة: الخال، وهو أثر السواد في البدن.

٣٦٧

ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا أربع أهل الجنّة. فكبّروا. ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة. فكبّروا. ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة، وإنّ أهل الجنّة مائة وعشرون صفّا، ثمانون منها أمّتي. ثمّ قال: ويدخل من أمّتي سبعون ألفا الجنّة بغير حساب.

وفي بعض الروايات أنّ عمر بن الخطّاب قال: يا رسول الله سبعون ألفا؟

قال: نعم، ومع كلّ واحد سبعون ألفا.

فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم.

فقال: أللّهمّ اجعله منهم.

فقام رجل من الأنصار فقال: ادع الله أن يجعلني منهم.

فقال: سبقك بها عكاشة.

قال ابن عبّاس: كان الأنصاري منافقا، فلذلك لم يدع له.

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) )

روي أنّ النضر بن الحرث كان جدلا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأوّلين، والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا. فنزلت فيه وأضرابه:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ ) فيما يجوز عليه وما لا يجوز من الصفات والأفعال( بِغَيْرِ عِلْمٍ ) بلا دليل يرجع إليه، بل محض جهل وتقليد. فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحقّ والباطل.

( وَيَتَّبِعُ ) في المجادلة، أو في عامّة أحواله( كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) خطوات كلّ شيطان عات(١) متجرّد عن جميع الخير، متمحّض للشرّ والفساد. وأصله: العري.

__________________

(١) أي: مستكبر قاسي القلب غير ليّن.

٣٦٨

( كُتِبَ عَلَيْهِ ) على الشيطان في اللوح المحفوظ. وقيل: الضمير للمجادل.

فالمعنى: كتب على هذا المجادل الجاهل.( أَنَّهُ ) الضمير للشأن( مَنْ تَوَلَّاهُ ) جعله وليّا وتبعه( فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) خبر لـ «من» إن كانت موصولة، أو جواب لها إن كانت شرطيّة، على تقدير: فشأنه إضلاله.

وقيل: الكتبة عليه تمثيل، أي: كأنّما كتب إضلال من يتولّاه عليه ورقم به، لظهور ذلك في حاله، فإنّ ثمرة ولايته إنّما هي أن يضلّ من تبعه عن طريق الجنّة.( وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ) بالحمل على ما يؤدّي إليه.

( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) )

ثمّ بيّن صحّة البعث بالبرهان الباهر، فقال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ

٣٦٩

الْبَعْثِ ) من إمكانه، وكونه مقدورا لله تعالى. والريب أقبح الشكّ.( فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ ) أي: فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم، فإنّا خلقناكم( مِنْ تُرابٍ ) بخلق آدم منه، أو الأغذية الّتي يتكوّن منها المنّي( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) من منيّ. من النطف، وهو الصبّ.( ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ) قطعة من الدم جامدة( ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ) قطعة صغيرة من اللحم. وهي في الأصل قدر ما يمضغ.( مُخَلَّقَةٍ ) مسوّاة ملساء لا نقص فيها ولا عيب، أو تامّة، أو مصوّرة( وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) وغير مسوّاة، أو ساقطة، أو غير مصوّرة. يقال: خلق العود إذا سوّاه وملّسه. وصخرة خلقاء: إذا كانت ملساء.

وقيل: إنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم، وطولهم وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم.

وإنّما نقلناكم من خلقة إلى خلقة ومن حال إلى حال( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا، وأنّ ما قبل التغيّر والفساد والتكوّن مرّة قبلها اخرى. وأنّ من قدر على خلق البشر من تراب أوّلا، ثمّ من نطفة ثانيا، ولا تناسب بين الماء والتراب، وقدر على أن يجعل النطفة علقة، وبينهما تباين ظاهر، ثمّ يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاما، مع عدم التناسب بين كلّ منهما، قدر على إعادة ما أبدأه، بل هذا ادخل في القدرة من تلك، وأهون في القياس.

وحذف المفعول إيماء إلى أنّ أفعاله هذه يتبيّن بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر والبيان، ولا يكتنهه الوصف.

( وَنُقِرُّ ) ونبقي( فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ ) أن نقرّه ونبقيه( إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) هو وقت الوضع( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) نصبه على الحال. ووحّده لأنّه في الأصل مصدر، كقولهم: رجل عدل ورجال عدل. أو لدلالته على الجنس. أو على تأويل كلّ واحد.

( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) أي: حال اجتماع كمال العقل والقوّة والتمييز، وتمام

٣٧٠

الخلق. جمع شدّة، كالأنعم جمع نعمة، كأنّها شدّة في الأمور. وقيل: هو من ألفاظ الجموع الّتي لم يستعمل لها واحد، كالأسدّة بمعنى العيوب، والقتود بمعنى خشب الرجل، وغير ذلك.

( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ) أي: يتوفّاه الله عند بلوغ الأشدّ أو قبله( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) أسوأ العمر وأحقره وأهونه. وهي حال الهرم والخرف.( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ) ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفوليّة، من ضعف البنية وسخافة العقل وقلّة الفهم، أي: يصير نسّاء بحيث إذا كسب علما في شيء زلّ عنه من ساعته، ونسي ما علمه، وأنكر ما عرفه، فلا يستفيد علما. قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة.

بيّن سبحانه أنّه كما قدر على أن يرقّيه في درجات الزيادة حتّى يبلغه حدّ التمام، فهو قادر على أن يجعله حتّى ينتهي به إلى الحالة السفلى. وفيه استدلال ثان على إمكان البعث، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادّة، فإنّ من قدر على ذلك قدر على نظائره.

ثمّ ذكر سبحانه دلالة ثالثة على صحّة البعث، فقال:( وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ) ميّتة يابسة. من: همدت النار إذا صارت رمادا.( فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ ) هو المطر( اهْتَزَّتْ ) تحرّكت بالنبات. والاهتزاز شدّة الحركة في الجهات.( وَرَبَتْ ) وانتفخت( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ ) صنف( بَهِيجٍ ) حسن رائق سارّ للناظر إليه. ولظهور هذه الدلالة على البعث، وكونها مشاهدة معاينة، كرّرها الله تعالى في كتابه.

( ذلِكَ ) إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة، وتحويله على أحوال متضادّة، وإحياء الأرض بعد موتها، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم البديعة، وأنواع اللطائف العجيبة. وهو مبتدأ خبره( بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ ) أي: بسبب أنّه الثابت الوجود في نفسه، الّذي به تتحقّق الأشياء( وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) وإلّا لـما أحيا النطفة والأرض الميّتة( وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) إيجادا وإفناء، لأنّ قدرته لذاته الّذي

٣٧١

نسبته إلى الكلّ على سواء، فلمّا دلّت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات، لزم اقتداره على إحياء كلّها.

( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ) فإن التغيّر من مقدّمات الانصرام وطلائعه( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) بمقتضى وعده الّذي لا يقبل الخلف، فلا بدّ من أن يفي به.

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) )

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) كرّره للتأكيد، كسائر الأقاصيص، ولما نيط به من الدلالة بقوله:( وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ) على أنّه لا سند له من استدلال أو وحي، فإنّ المراد بالعلم هو العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر الّذي يهدي إلى المعرفة، وبالكتاب المنير الوحي، أي: يجادل بظنّ وتخمين، لا بأحد هذه الثلاثة.

وقيل: الآية الأولى(١) في المقلّدين، والثانية في المقلّدين. وعن ابن عبّاس: أنّه أبو جهل بن هشام.

وفي الآية دلالة على أنّ الجدال بالعلم صواب، وبغير العلم خطأ، لأنّ الجدال بالعلم يدعو إلى اعتقاد الحقّ، وبغير العلم يدعو إلى اعتقاد الباطل.

__________________

(١) أي: قوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) . الحجّ: ٣.

٣٧٢

( ثانِيَ عِطْفِهِ ) أي: متكبّرا، فإنّ ثني العطف(١) كناية عن الكبر والخيلاء، كليّ الجيد وتصعير الخدّ. يقال: ثنى فلان عطفه، إذا أمال جانبيه إلى اليمين والشمال. أو كناية عن الإعراض عن الحقّ. فالمعنى: معرضا عن الحقّ استخفافا به.( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) علّة للجدال.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء، على أنّ إعراضه عن الهدى المتمكّن منه ـ بالإقبال على الجدال الباطل ـ خروج من الهدى إلى الضلال، ولـمّا كان جداله مؤدّيا إلى الضلال، جعل كأنّه غرضه. ولـمّا كان الهدى معرضا له، فتركه وأعرض عنه، وأقبل على الجدال بالباطل، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال.

فعلى هذا التأويل ؛ لا يرد: ما كان غرضه من جداله الضلال عن سبيل الله، فكيف علّل به؟ وما كان أيضا مهتديا حتّى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال.

( لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ) وهو ما أصابه يوم بدر من الصغار والقتل( وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ) المحرق. وهو النار.

( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ) على الالتفات. أو إرادة القول، أي: يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي.( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) في تعذيبهم، لأنّ الله لا يعاقب ابتداء، ولا يزيد على الجزاء، بل على طريق العدالة. أو لأنّ عدله في معاقبته الفجّار، وإثابته الأبرار. والمبالغة لكثرة العبيد.

روي عن ابن عبّاس: أنّ من الأعاريب قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة، فكان أحدهم إذا صحّ جسمه، ونتجت فرسه مهرا(٢) سريّا، وولدت امرأته غلاما سويّا، وكثر ماله وماشيته، قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلّا خيرا، واطمأنّ به. وإن كان

__________________

(١) العطف: جانب كلّ شيء. والجيد: العنق. وصعّر خدّه: أماله عن النظر إلى الناس. يقال: مرّ ثاني عطفه، أي: لاويا عنقه، ومائلا بخدّه عن النظر إلى الناس، متكبّرا معرضا.

(٢) المهر: ولد الفرس. والسريّ: الجيّد من كلّ شيء.

٣٧٣

الأمر بخلافه قال: ما أصبت في هذا الدين إلّا شرّا. فنزلت :

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) )

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ) على طرف من الدين، لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة وثبات فيه، كالّذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسّ بظفر اطمأنّ وقرّ، وإلّا انهزم وفرّ.

( فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ ) عافية وخصب وكثرة مال( اطْمَأَنَ ) على عبادته( بِهِ ) بذلك الخير( وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ ) اختبار بسقم وقلّة مال وجدب( انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ) انصرف إلى وجهه الّذي توجّه منه. يعني: رجع عن دينه إلى الكفر.

وعن أبي سعيد الخدري: أنّ يهوديّا أسلم فأصابته مصائب، فتشاءم بالإسلام، فأتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أقلني. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الإسلام لا يقال». فنزلت هذه الآية.

( خَسِرَ الدُّنْيا ) بذهاب عصمته، وإباحة قتله وأخذ أمواله بارتداده( وَالْآخِرَةَ ) بحبوط عمله ودخوله في النار أبدا. وقيل: خسر في الدنيا العزّ والغنيمة، وفي الآخرة الثواب والجنّة.( ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) إذ لا خسران مثله.

( يَدْعُوا ) هذا المرتدّ( مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ) أي: يعبد جمادا

٣٧٤

لا يضرّ بنفسه ولا ينفع( ذلِكَ ) الّذي فعل( هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) عن المقصد. مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالّا.

( يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ ) بكونه معبودا يوجب القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة( أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ) الّذي يتوقّع من عبادته. وهو الشفاعة والتوسّل بها إلى الله. واللام معلّقة لـ «يدعو» من حيث إنّه بمعنى يزعم، والزعم قول مع اعتقاد. أو اللام داخلة على الجملة الواقعة مقولا، إجراء له مجرى: يقول، أي: يقول الكافر ذلك بدعاء وصراخ حين يرى استضراره به، وذلك بعد دخوله النار بعبادة الأصنام، واليأس من شفاعتهنّ. أو مستأنفة على أن «يدعو» تكرير للأول. كأنّه قال: يدعو من دون الله ويدعو. ثم قال: لمن ضرّه إلخ. وحينئذ «من» مبتدأ خبره( لَبِئْسَ الْمَوْلى ) الناصر( وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) الصاحب المعاشر المخالط. يعني: الصنم، كقوله:( فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) (١) .

( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) )

ولـمّا ذكر الشاكّ في الدّين بالخسران، ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان، فقال:( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) من إثابة الموحّد الصّالح، وعقاب المشرك الطالح، لا يدفعه دافع، ولا

__________________

(١) الزخرف: ٣٨.

٣٧٥

يمنعه مانع.

ثم قال:( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ) أي: لن ينصر رسوله( فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) وهذا كلام فيه اختصار. والمعنى: إن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظنّ من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك، ويتوقّع ذلك، ويغيظه أنّه يظفر بمطلوبه( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ) أي: فليستقص وسعه، وليستفرغ مجهوده في إزالة غيظه أو جزعه، بأن يفعل كلّ ما يفعله الممتلئ غيضا أو المبالغ جزعا، حتّى يمدّ حبلا إلى سماء بيته، أي: سقفه( ثُمَّ لْيَقْطَعْ ) ليختنق. من: قطع إذا اختنق، فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. ومنه قيل للبهر: القطع. وهو العلّة الّتي تمنع التنفّس. أو فليمدد حبلا إلى السماء الدنيا، ثمّ ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها، فيجتهد في دفع نصره. أو ليصعد إلى السماء، فليقطع الوحي أن ينزل على الرسول. وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر: ليقطع بكسر اللام على أصله.

( فَلْيَنْظُرْ ) فليتصوّر في نفسه أنّه إن فعل ذلك( هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ) فعله ذلك.

وسمّاه كيدا لأنّه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره، فهو منتهى ما يقدر عليه.

أو على سبيل الاستهزاء، لأنّه لم يكد به محسوده، بل إنّما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلّا ما ليس بمذهب.( ما يَغِيظُ ) غيظه، أو الّذي يغيظه. والمعنى: لا يتهيّأ له إزالة ما يغيظ من أمر الرسول ونصره على أعدائه، وإن سعى به غاية سعيه ونهاية جهده.

قيل: نزلت في قوم من المسلمين استبطئوا نصر الله، لاستعجالهم وشدّة غيظهم على المشركين.

وقيل: المراد بالنصر الرزق، والضمير لـ «من». والمعنى: أنّ الأرزاق بيد الله، لا تنال إلّا بمشيئته، ولا بدّ للعبد من الرضا بقسمته. فمن ظنّ أنّ اللهعزوجل غير رازقه، وليس به صبر واستسلام، فليبلغ غاية الجزع، وهو الاختناق، فإنّ ذلك لا يقلب القسمة، ولا يردّه مرزوقا.

٣٧٦

( وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) )

ثمّ بيّن سبحانه أنّه نزّل الآيات حجّة على الخلق، فقال:( وَكَذلِكَ ) ومثل ذلك الإنزال( أَنْزَلْناهُ ) أنزلنا القرآن كلّه( آياتٍ بَيِّناتٍ ) واضحات الدلالة على التوحيد وسائر أحكام الشرائع( وَأَنَّ اللهَ ) ولأنّ الله( يَهْدِي ) بالقرآن( مَنْ يُرِيدُ ) من الّذين يعلم أنّهم يؤمنون. أو يثبت الّذين آمنوا ويزيدهم هدى.

وقيل: عطف على مفعول «أنزلنا». ومعناه: أنزلنا إليك أنّ الله يهدي إلى الدين من يريد. أو إلى النبوّة. أو إلى الثواب.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ) يقضي بين المؤمنين والكافرين بأنواعهم( يَوْمَ الْقِيامَةِ ) بإظهار المحقّ منهم على المبطل. أو بالجزاء، فيجازي كلّا ما يليق به، ويدخله المحلّ المعدّ له. فعلى هذا، الفصل بينهم في الأحوال والأماكن. وإنّما أدخلت «إنّ» على كلّ واحد من جزئي الجملة لمزيد التأكيد.( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) عليم به، مراقب لأحواله.

٣٧٧

( أَلَمْ تَرَ ) ألم تعلم؟ الخطاب للرسول، والمراد أمّته. أو الخطاب إلى كلّ واحد من المكلّفين.( أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ ) يتسخّر لقدرته، لا يتأنّى عن تدبيره( مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) أو يدلّ بذلّته على عظمة مدبّره. و «من» يجوز أن يعمّ أولي العقل وغيرهم على التغليب. فيكون قوله:( وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ ) إفرادا لها بالذكر، لشهرتها، واستبعاد ذلك منها. سمّيت مطاوعتها وذلّتها له فيما يحدث فيها من أفعاله، ويجريها عليه من تدبيره، وتسخيره لها: سجودا له، تشبيها لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلّف في باب الطاعة والانقياد، وهو السجود الّذي كلّ خضوع دونه.

( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) عطف على «يسجد» بتقدير فعل مضمر يدلّ عليه المعطوف عليه، أي: ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة. ولا يجوز أن يكون «يسجد» الأوّل عامله، لأنّه قد أسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس والجنّ أوّلا، فإسناده إلى كثير منهم آخرا مناقضة. وأيضا تخصيص الكثير يدلّ على خصوص المعنى المسند إليهم، وما هو إلّا سجود الطاعة والعبادة. ولا يفسّر بمعنى الطاعة والعبادة في حقّ هؤلاء، وفي حقّ غيرهم بمعنى الانقياد والمطاوعة، لأنّ اللفظ الواحد لا يصحّ استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين.

ويجوز أن يكون رفعه على الابتداء، وخبره محذوف دلّ عليه خبر قسيمه، نحو: حقّ له الثواب.

( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ) بكفره وإبائه عن الطاعة. ويجوز أن يجعل «وكثير» تكريرا للأوّل، مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب، فيعطف «كثير» على «كثير» ثمّ يخبر عنهم بقوله:( حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ) . كأنّه قيل: وكثير وكثير من الناس حقّ عليهم العذاب.

( وَمَنْ يُهِنِ اللهُ ) بأن يحكم بشقاوته، ويدخله النار لأجل عناده وعتوّه( فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ) يكرمه بالسعادة وبإدخال الجنّة، لأنّه لا يملك العقوبة والمثوبة سواه( إِنَّ اللهَ

٣٧٨

يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) من الإكرام والإنعام، والإهانة والانتقام، بالفريقين من المؤمنين والكافرين.

( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) )

روي: أنّ اليهود والمؤمنين تخاصموا، فقال اليهود: نحن أحقّ بالله، وأقدم منكم كتابا ونبيّا. وقال المؤمنون: نحن أحقّ بالله، آمنّا بمحمد ونبيّكم، وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبيّنا، ثمّ كفرتم به حسدا. فنزلت بعد الآيات السابقة بيانا لـما أعدّه لكلّ من الفريقين:( هذانِ ) إشارة إلى فرقة المؤمنين وفرقة الكافرين( خَصْمانِ ) أي: فوجان، أو فريقان مختصمان. والخصم مصدر وصف به.( اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) في دينه، أو في ذاته وصفاته. والتثنية باعتبار اللفظ، والجمع باعتبار المعنى، كقوله تعالى:( وَمِنْهُمْ

٣٧٩

مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ) (١) . ولو عكس وقيل: هؤلاء خصمان، لكان جائزا أيضا.

قيل: نزلت في ستّة نفر من المؤمنين والكافرين، تبارزوا يوم بدر، وهم: حمزة بن عبد المطلّب قتل عتبة بن ربيعة، وعليّعليه‌السلام قتل الوليد بن عتبة، وعبيدة بن الحرث بن عبد المطّلب قتل شيبة بن ربيعة. رواه أبو ذرّ الغفاري وعطاء. وكان أبو ذرّ يقسم بالله تعالى إنّها نزلت فيهم. ورواه أيضا البخاري في الصحيح(٢) .

( فَالَّذِينَ كَفَرُوا ) فصل لخصومتهم. وهو المعنيّ بقوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) (٣) .( قُطِّعَتْ لَهُمْ ) قدّرت لهم على مقادير جثثهم( ثِيابٌ مِنْ نارٍ ) نيران تحيط بهم وتشتمل عليهم، كما تقطع الثياب الملبوسة. ويجوز أن تظاهر على كلّ واحد منهم تلك النيران، كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض.

ونحوه:( سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ ) (٤) . ويؤيّده ما روي عن ابن عبّاس: أنّهم حين صاروا إلى جهنّم البسوا مقطّعات النيران. وهي: الثياب القصار. وعن سعيد بن جبير: يجعل لهم ثياب نحاس من نار. وهي أشدّ ما يكون حرّا.

( يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ) حال من الضمير في «لهم». أو خبر ثان. والحميم: الماء الحارّ.

( يُصْهَرُ بِهِ ) يذاب به. من الصهر، وهو إذابة الشيء.( ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) أي: يؤثّر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم، فتذاب به أحشاؤهم كما تذاب به جلودهم. عن ابن عبّاس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا

__________________

(١) محمّد: ١٦.

(٢) صحيح البخاري ٦: ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٣) الحجّ: ١٧.

(٤) إبراهيم: ٥٠.

٣٨٠